عمدة القاري شرح صحيح البخاري

30 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب فضل صَلَاة الْجَمَاعَة، لَا يُقَال: إِن بَين هَذِه التَّرْجَمَة وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله مُنَافَاة، لِأَن هَذِه فِي بَيَان الْفَضِيلَة وَتلك فِي بَيَان الْوُجُوب، لأَنا نقُول: كَون الشَّيْء متصفا بِالْوُجُوب لَا يُنَافِي اتصافه بالفضيلة.
وكانَ الأَسْوَدُ إذَا فاتَتْهُ الجَمَاعَةُ ذَهَبَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الْأسود بن يزِيد، التَّابِعِيّ الْكَبِير، كَانَ إِذا تفوته الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي مَسْجِد يذهب إِلَى مَسْجِد آخر ليُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَة، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَبُو بكر بن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه: (إِذا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَة فِي مَسْجِد قومه ذهب إِلَى مَسْجِد آخر) . وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن حُذَيْفَة وَسَعِيد بن جُبَير، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن الْكُوفِيّين وَمَالك إِن شَاءَ صلى فِي مَسْجده وَحده، وَإِن شَاءَ أَتَى مَسْجِدا آخر تطلب فِيهِ الْجَمَاعَة، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: إلاَّ أَن يكون فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَو فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يخرج مِنْهُ وَيُصلي فِيهِ وَحده، لِأَن الصَّلَاة فِي هذَيْن المسجدين أعظم أجرا مِمَّن صلى فِي جمَاعَة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا رَأينَا الْمُهَاجِرين يَبْتَغُونَ الْمَسَاجِد. وَفِي (مُخْتَصر ابْن شعْبَان) عَن مَالك: من صلى فِي جمَاعَة فَلَا يُعِيد فِي جمَاعَة إلاَّ فِي مَسْجِد مَكَّة وَالْمَدينَة.
وجاءَ أنَسٌ إلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وأقَامَ وصَلَّى جَمَاعةً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة كَالَّتِي قبلهَا، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن الْجَعْد أبي عُثْمَان عَنهُ وَعَن هشيم أخبرنَا يُونُس بن عبيد حَدثنِي أَبُو عُثْمَان فَذكره، وَوَصله أَيْضا أَبُو يعلى فِي مُسْنده من طَرِيق الْجَعْد، قَالَ: مر بِنَا أنس بن مَالك ... فَذكر نَحوه، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي عبد الصَّمد الْعمي نَحوه، وَقَالَ: مَسْجِد بني رِفَاعَة. وَقَالَ: فجَاء أنس فِي نَحْو عشْرين من فتيانه. انْتهى. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْجَمَاعَة بعد الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد، فَروِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه صلى بعلقمة وَالْأسود فِي مَسْجِد قد جمع فِيهِ، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن فِي رِوَايَة، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَشْهَب عملا بِظَاهِر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة الْجَمَاعَة تفضل على صَلَاة الْفَذ) الحَدِيث. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يجمع فِي مَسْجِد جمع فِيهِ مرَّتَيْنِ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سَالم وَالقَاسِم وَأبي قلَابَة، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَابْن الْمُبَارك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا كره ذَلِك خشيَة افْتِرَاق الْكَلِمَة وَأَن أهل الْبدع يتطرقون إِلَى مُخَالفَة الْجَمَاعَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا كَانَ الْمَسْجِد على طَرِيق الإِمَام لَهُ أَن يجمع فِيهِ قوم بعد قوم، وَحَاصِل مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه: لَا يكره فِي الْمَسْجِد المطروق، وَكَذَا غَيره إِن بعد مَكَان الإِمَام وَلم يخف فِيهِ.

645 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً. (الحَدِيث 645 طرفه فِي: 649) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَفِيه: بَين مَالك وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان.
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة، وَلَفظ مُسلم: (صَلَاة الرجل فِي الْجَمَاعَة تزيد على صلَاته وَحده) ، رَوَاهُ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع.
قَوْله: (صَلَاة الْفَرد) وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، (صَلَاة الْفَذ) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: الْمُنْفَرد. يُقَال: فذ الرجل من أَصْحَابه إِذا بَقِي وَحده، وَقد استقصينا الْكَلَام فِي لفظ: سبع وَعشْرين دَرَجَة، فِي: بَاب الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق فِيمَا مضى.

(5/165)


646 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ الهادِ عنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيِّ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَاللَّيْث بن سعد، وَيزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، وَعبد الله بن خباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ، وَلَيْسَ هُوَ بِابْن الْخَبَّاب بن الْأَرَت صَاحب رَسُول الله، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني، وَهَذَا الحَدِيث سَاقِط فِي بعض النّسخ ثَابت فِي الْأَطْرَاف لأبي مَسْعُود وَخلف. قلت: هُوَ سَاقِط فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وثابت فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَذكره أَبُو نعيم هُنَا بعد حَدِيث ابْن عمر، وَذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي أول الْبَاب الَّذِي قبله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تفضل صَلَاة الْفَذ) كَذَا هُوَ فِي عَامَّة نسخ البُخَارِيّ، وَعَزاهُ ابْن الْأَثِير إِلَيْهِ فِي (شرح الْمسند) بِلَفْظ: (على صَلَاة الْفَذ) ، ثمَّ أَولهَا: بِأَن تفضل لما كَانَت بِمَعْنى: تزيد، وَهِي تتعدى: بعلى، أَعْطَاهَا مَعْنَاهَا فعداها بهَا، وإلاَّ فَهِيَ متعدية بِنَفسِهَا. قَالَ: وَأما الَّذِي فِي مُسلم: أفضل من صَلَاة الْفَذ، فجَاء بهَا بِلَفْظ: أفعل، الَّتِي هِيَ للتفضيل، والتكثير فِي الْمَعْنى الْمُشْتَرك، وَهِي أبلغ من: تفضل، على مَا لَا يخفى. وَقد ذكرنَا أَن: الْفَذ، هُوَ: الْمُنْفَرد، ولغة عبد الْقَيْس: الفنذ، بالنُّون وَهِي: غنة، لَا نون حَقِيقَة. قَوْله: (بِخمْس وَعشْرين) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (خمْسا وَعشْرين) ، زَاد ابْن حبَان وَأَبُو دَاوُد من وَجه آخر عَن أبي سعيد: (فَإِذا صلاهَا فِي فلاة فَأَتمَّ ركوعها وسجودها بلغت خمسين صَلَاة) . أَي: بلغت صلَاته خمسين صَلَاة. وَالْمعْنَى: يحصل لَهُ أجر خمسين صَلَاة، وَذَلِكَ يحصل لَهُ فِي الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة، لِأَن الْجَمَاعَة لَا تتأكد فِي حق الْمُسَافِر لوُجُود الْمَشَقَّة، فَإِذا صلاهَا مُنْفَردا لَا يحصل لَهُ هَذَا التَّضْعِيف، وَإِنَّمَا يحصل لَهُ إِذا صلاهَا مَعَ الْجَمَاعَة خَمْسَة وَعِشْرُونَ لأجل أَنه صلاهَا مَعَ الْجَمَاعَة، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ أُخْرَى للَّتِي هِيَ ضعف تِلْكَ لأجل أَنه أتم رُكُوع صلَاته وسجودها، وَهُوَ فِي السّفر الَّذِي هُوَ مَظَنَّة التَّخْفِيف، فَمن أمعن نظره فِيهِ علم أَن الْإِشْكَال الَّذِي أوردهُ بَعضهم فِيهِ من لُزُوم زِيَادَة ثَوَاب الْمَنْدُوب على الْوَاجِب غير وَارِد.

647 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الواحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يقولُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَماعَةِ تُضَعِّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسا وعِشْرِينَ ضَعْفا وذَلِكَ أنَّهُ إذَا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى المَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةَ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فإذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ.

هَذَا الحَدِيث عَن أبي مَسْعُود، مضى فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق، غير أَن هُنَاكَ أخرجه: عَن مُسَدّد عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَهَهُنَا: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان، وَاللَّفْظ: هُنَاكَ: (صَلَاة الْجمع تزيد على صلَاته فِي بَيته وَصلَاته فِي سوقه خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، فَإِن أحدكُم إِذا تَوَضَّأ فَأحْسن وأتى الْمَسْجِد لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة لم يخط خطْوَة إلاَّ رَفعه الله بهَا دَرَجَة، أَو حط عَنهُ بهَا

(5/166)


خَطِيئَة حَتَّى دخل الْمَسْجِد، وَإِذا دخل الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة مَا كَانَت الصَّلَاة تحبسه، وَتصلي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ؛ اللَّهُمَّ ارحمه مَا لم يؤذ يحدث فِيهِ) . وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه غَيره، وَمَعْنَاهُ وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ مستقصىً، وَذكرنَا أَيْضا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ، والتوفيق بَينهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِعَادَة إلاَّ فِي بعض الْمَوَاضِع، كَمَا نذكرهُ الأن.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَقَوله: يَقُول: فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحل النصب على الْحَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي الْجَمَاعَة) وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني: (فِي جمَاعَة) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام. قَوْله: (تضعف) أَي: تزداد، والتضعيف أَن يُزَاد على أصل الشَّيْء فَيجْعَل بمثلين أَو أَكثر، والضعف بِالْكَسْرِ الْمثل قَوْله: (خَمْسَة وَعشْرين ضعفا) ، كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، ويروى (خمْسا وَعشْرين) ، ووجهها أَن يؤول الضعْف بالدرجة أَو بِالصَّلَاةِ، تَوْضِيحه أَن: ضعفا، مُمَيّز مُذَكّر فَتجب التَّاء فَقيل بالتأويل الْمَذْكُور، وَالْأَحْسَن أَن يَقُول: إِن وجوب التَّاء فِيمَا إِذا كَانَ الْمُمَيز مَذْكُورا، وَإِذا لم يكن مَذْكُورا يَسْتَوِي فِيهِ التَّاء وَعدمهَا، وَهَهُنَا مُمَيّز الْخمس غير مَذْكُور فَجَاز الْأَمْرَانِ فَإِن قلت: يَقْتَضِي قَوْله: (فِي بَيته وَفِي سوقه) أَن الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد جمَاعَة تزيد على الصَّلَاة فِي الْبَيْت، وَفِي السُّوق، سَوَاء كَانَت جمَاعَة أَو فُرَادَى، وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: هَذَا خَارج مخرج الْغَالِب، لِأَن من لم يحضر الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد يُصَلِّي مُنْفَردا فِي بَيته أَو سوقه، وَأما الَّذِي يُصَلِّي فِي بَيته جمَاعَة فَلهُ الْفضل فِيهَا على صلَاته مُنْفَردا بِلَا نزاع. قَوْله: (وَذَلِكَ) ، إِشَارَة إِلَى التَّضْعِيف الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (تضعف) : يَعْنِي: التَّضْعِيف الْمَذْكُور سَببه أَنه إِذا تَوَضَّأ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا يُخرجهُ) من الْإِخْرَاج. قَوْله: (إلاَّ الصَّلَاة) أَي: قصد الصَّلَاة فِي جمَاعَة. قَوْله: (لم يخط) ، بِفَتْح الْيَاء وَضم الطَّاء. قَوْله: (خطْوَة) ، يجوز فِيهِ ضم الْخَاء وَفتحهَا، وَجزم الْيَعْمرِي بِأَنَّهَا هَهُنَا بِالْفَتْح. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّهَا فِي رِوَايَات مُسلم بِالضَّمِّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخطوة، بِالضَّمِّ: مَا بَين الْقَدَمَيْنِ. وبالفتح: الْمرة الْوَاحِدَة. قَوْله: (فَإِذا صلى) المُرَاد بِهِ: فَإِذا صلى الصَّلَاة التَّامَّة ليستحق هَذِه الْفَضَائِل. قَوْله: (مُصَلَّاهُ) ، بِضَم الْمِيم: الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ. وَهَذَا خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فَلَو قَامَ فِي بقْعَة أُخْرَى من الْمَسْجِد مستمرا على نِيَّة انْتِظَار الصَّلَاة كَانَ كَذَلِك. قَوْله: (اللَّهُمَّ ارحمه) ، أَي: لم تزل الْمَلَائِكَة يصلونَ عَلَيْهِ حَال كَونهم قائلين: يَا الله إرحمه. وَزَاد ابْن مَاجَه: (اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من ذَلِك: الدّلَالَة على أَفضَلِيَّة الصَّلَاة على غَيرهَا من الْأَعْمَال، لِأَن فِيهَا صَلَاة الْمَلَائِكَة على فاعلها ودعاءهم لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة وَالتَّوْبَة. وَمِنْه: الدّلَالَة على تَفْضِيل صالحي النَّاس على الْمَلَائِكَة لأَنهم يكونُونَ فِي تَحْصِيل الدَّرَجَات بعبادتهم، وَالْمَلَائِكَة يشتغلون بالاستغفار وَالدُّعَاء لَهُم. كَذَا قيل قلت: هَذَا لَيْسَ على إِطْلَاقه، فَإِن خَواص بني آدم، وهم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، أفضل من الْمَلَائِكَة، وعوامهم أفضل من عوام الْمَلَائِكَة، وخواص الْمَلَائِكَة أفضل من عوام بني آدم. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الْجَمَاعَة لَيست شرطا لصِحَّة الصَّلَاة، لِأَن قَوْله على صلَاته وَحده، يدل على صِحَة صلَاته مُنْفَردا لاقْتِضَاء صِيغَة: أفعل التَّفْضِيل، الِاشْتِرَاك فِي أصل التَّفَاضُل، فَذَلِك يَقْتَضِي وجود الْفَضِيلَة فِي صَلَاة الْمُنْفَرد، لِأَن مَا لَا يَصح من الصَّلَاة لَا فَضِيلَة فِيهِ. وَفِيه: رد على دَاوُد وَمن تبعه فِي اشتراطهم الْجَمَاعَة فِي صِحَة الصَّلَاة.

31 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعةٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، إِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة مُقَيّدَة وَذكر التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا مُطلقَة إِشَارَة إِلَى زِيَادَة خُصُوصِيَّة الْفجْر بالفضيلة.

648 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وَأَبُو سَلمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَفْضُلُ صَلاَةُ الجَمِيعِ صَلاَةَ أحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءا وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ الليْلِ

(5/167)


وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ فاقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا. .
قَالَ شُعَيْبٌ وحدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا تَكْمِلَة الحَدِيث بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً (انْظُر الحَدِيث 645) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار) ، فَإِنَّهُ يدل على مزية لصَلَاة الْفجْر على غَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف أسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تفضل) أَي: تزيد صَلَاة الْجَمِيع الْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى فِي: لَا، بِمَعْنى اللَّام. فَافْهَم. قَوْله: (بِخَمْسَة وَعشْرين جزأ) ، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة نسخ البُخَارِيّ. وَقيل: وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ: (خمس وَعشْرين) ، بِدُونِ الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِدُون الْهَاء فِي آخِره، وَأول بِأَن لفظ: خمس، مجرور بِنَزْع الْخَافِض وَهُوَ: الْبَاء، كَمَا وَقع فِي نَظِيره فِي قَول الشَّاعِر:
(أشارت كُلَيْب بالأكف الْأَصَابِع)

وَتَقْدِيره: إِلَى كُلَيْب. وَأما حذف الْهَاء فعلى تَأْوِيل الْجُزْء بالدرجة. قلت: وَأما لِأَن الْمُمَيز غير مَذْكُور، وَهَهُنَا مُمَيّز: خمس، غير مَذْكُور. قَوْله: (وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل) إِلَى آخِره، وَهُوَ الْمُوجب لتفضيل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، وَكَذَا فِي صَلَاة الْعَصْر أَيْضا،، فَلذَلِك حث الشَّارِع على الْمُحَافظَة عَلَيْهِمَا ليَكُون من حضرهما ترفع الْمَلَائِكَة عمله وَتشفع لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: وَيُمكن أَن يكون اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة فيهمَا هما الدرجتان الزائدتان على الْخَمْسَة وَالْعِشْرين جزأ فِي سَائِر الصَّلَوَات الَّتِي لَا تَجْتَمِع الْمَلَائِكَة فِيهَا. قَوْله: (قُرْآن الْفجْر) ، كِنَايَة عَن صَلَاة الْفجْر، لِأَن الصَّلَاة مستلزمة لِلْقُرْآنِ. قَوْله: (مشهودا) أَي: محضورا فِيهِ. قَوْله: (قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، وَقَالَ: يحْتَمل أَن يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد الأول فتقديره: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب، وَأَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ. وَقَالَ بَعضهم: وحَدثني نَافِع، أَي: بِالْحَدِيثِ مَرْفُوعا نَحوه إلاَّ أَنه قَالَ: (بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) ، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة مَالك وَغَيره من نَافِع، وَطَرِيق شُعَيْب هَذِه مَوْصُولَة، وَجوز الْكرْمَانِي أَن تكون معلقَة وَهُوَ بعيد، بل هِيَ معطوفة على الاسناد الاول وَالتَّقْدِير حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب انْتهى (قلت) استبعاده قَول الْكرْمَانِي بعيد لِأَنَّهُ مَا حكم بِالْجَزْمِ بل بِالِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ بِحَسب الظَّاهِر، بل الْقَرِيب مَا ذكره ويقويه أَن طَرِيق شُعَيْب هَذِه لم تَرَ إلاَّ عِنْد البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل: لم يستخرجها الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَا أَبُو نعيم وَلَا أوردهَا الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين فِي تَرْجَمَة شُعَيْب.

650 - حدَّثنا حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأَعْمشُ قَالَ سَمِعْتُ سالِما قَالَ سَمِعْتُ أم الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقلْتُ مَا أغْضَبَكَ فَقَالَ وَالله مَا أعْرِفُ مِنْ أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا إلاَّ أنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعا.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَعمال الَّذين يصلونَ بِالْجَمَاعَة قد وَقع فِيهَا النَّقْص والتغيير مَا خلا صلَاتهم بِالْجَمَاعَة، وَلم يَقع فِيهَا شَيْء من ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن فضل الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي الْفجْر، وَالَّذِي يفهم من هَذَا الحَدِيث أَعم من ذَلِك، فَكيف يكون التطابق؟ قلت: إِذا طابق جُزْء من الحَدِيث التَّرْجَمَة يَكْفِي، وَمثل هَذَا وَقع لَهُ كثيرا فِي هَذَا الْكتاب.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص النَّخعِيّ الْكُوفِي. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: سَالم بن أبي الْجَعْد. الْخَامِس: أم الدَّرْدَاء، الَّتِي اسْمهَا: هجيمة، وَهِي أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى التابعية، لَا الْكُبْرَى الَّتِي اسْمهَا: خيرة، وَهِي الصحابية. وَإِنَّمَا قُلْنَا كَذَلِك لِأَن الْكُبْرَى مَاتَت فِي حَيَاة أبي الدَّرْدَاء، وَعَاشَتْ الصُّغْرَى بعده بِزَمَان طَوِيل، وَقد جزم أَبُو حَاتِم بِأَن سَالم بن أبي الْجَعْد لم يدْرك أَبَا الدَّرْدَاء، فعلى هَذَا لم يدْرك أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أم الدَّرْدَاء هِيَ: خيرة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت أبي حَدْرَد الأسْلَمِيَّة، من فاضلات الصحابيات وعاقلاتهن وعابداتهن، مَاتَت بِالشَّام فِي خلَافَة عُثْمَان.

(5/168)


قلت: هَذَا سَهْو مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ. السَّادِس: أَبُو الدَّرْدَاء، واسْمه: عُوَيْمِر بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: التَّابِعِيّ عَن التابعية. وَفِيه: أَن رُوَاته الْأَرْبَعَة كوفيون.
وَهَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مغضب) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة. قَوْله: (مَا أعرف من أمة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (من مُحَمَّد) بِدُونِ لَفْظَة: أمة، وَعَلِيهِ شرح ابْن بطال وَمن تبعه، فَقَالَ: يُرِيد من شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يتَغَيَّر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلاَّ الصَّلَاة فِي جمَاعَة، فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (من أَمر مُحَمَّد) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره رَاء، وَكَذَا سَاقه الْحميدِي فِي (جمعه) ، وَكَذَا هُوَ فِي (مُسْند أَحْمد) و (مستخرجي الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم) : من طرق عَن الْأَعْمَش، وَعِنْدهم بِلَفْظ: (مَا أعرف فيهم) ، أَي: فِي أهل الْبَلَد الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبُو الدَّرْدَاء قيل: كَانَ لفظ: فيهم، لما حذف من رِوَايَة البُخَارِيّ صحف بعض النقلَة لفظ: أَمر، بِلَفْظَة: أمة، ليعود الضَّمِير فِي: أَنهم، على الْأمة. قلت: لَا مَحْذُور فِي كَون لَفْظَة: امة، بل الظَّاهِر هَذَا على مَا لَا يخفى. قَوْله: (يصلونَ جَمِيعًا) ، أَي: مُجْتَمعين، وانتصابه على الْحَال، ومفعول: يصلونَ، مَحْذُوف تَقْدِيره، يصلونَ الصَّلَاة أَو الصَّلَوَات.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز الْغَضَب عِنْد تغير شَيْء من أُمُور الدّين، وَجَوَاز إِنْكَار الْمُنكر بِالْغَضَبِ إِذا لم يسْتَطع أَكثر من ذَلِك.

651 - حدَّثنا مُحَمَّد بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بنِ عبْدِ الله عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْظَمُ النَّاسِ أجْرا فِي الصَّلاةِ أبْعَدُهُمْ فأبْعَدُهُمْ مَمْشًى والَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإِمَام أعْظَمُ أجْرا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (أعظم النَّاس أجرا فِي الصَّلَاة أبعدهم، فأبعدهم ممشى) ، بَيَان ذَلِك أَنه بَين فِيهِ أَن سَبَب أعظمية الْأجر فِي الصَّلَاة هُوَ: بعد الممشى، وَهُوَ الْمسَافَة، وَذَلِكَ لوُجُود الْمَشَقَّة فِيهِ. وَقد علم أَن أفضل الْأَعْمَال أحمزها، فَكل صَلَاة تُوجد فِيهَا الْمَشَقَّة من حَيْثُ بعد الممشى فَهِيَ أعظم أجرا وَأفضل من الصَّلَاة الَّتِي لَا يُوجد فِيهَا ذَلِك، فينتج من ذَلِك أَن صَلَاة الْفجْر إِذا كَانَ فِيهَا بُعْد الممشى مَعَ كَونه عقيب النّوم الَّذِي فِيهِ رَاحَة للبدن، مَعَ مصادفة الظلمَة أَحْيَانًا تكون أعظم أجرا وَأفضل من غَيرهَا، فبهذه الْحَيْثِيَّة طابق هَذَا الحَدِيث التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: تشاركها الْعشَاء فِي ذَلِك مَعَ دلَالَة آخر الحَدِيث على ذَلِك؟ قلت: نعم تشاركها فِي وجود تِلْكَ الْمَشَقَّة، وَلَا تشاركها فِي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا تشاركها مُطلقًا فَلَا يضر ذَلِك، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ مُطَابقَة مَا بَين الحَدِيث والترجمة، وَهِي مَوْجُودَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَهَذَا الْقدر فِيهِ الْكِفَايَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى مَا أَكْثَره بعض الشُّرَّاح من كَلَام فِيهِ مَا فِيهِ من حرارة فِي الْقلب من الْحَسَد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فيي: بَاب من علم، لَكِن ذكر أَبُو أُسَامَة ثمَّة باسمه حَمَّاد، وَهَهُنَا بكنيته، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو بردة اسْمه: عَامر، وَقيل: الْحَارِث، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى واسْمه: عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجرا) نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (أبعدهم) بِالرَّفْع خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي. قَوْله: (أعظم النَّاس) . قَوْله: (فأبعدهم) ، الْفَاء فِيهِ للاستمرار، كَمَا فِي قَوْلهم الأمثل فالأمثل، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت: لم يذكر أحد من النُّحَاة أَن الْفَاء تَجِيء بِمَعْنى الِاسْتِمْرَار، وَلَكِن يُمكن أَن تكون الْفَاء هَهُنَا للتَّرْتِيب مَعَ تفَاوت من بعض الْوُجُوه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: للفاء مَعَ الصِّفَات ثَلَاثَة أَحْوَال: أَحدهَا: أَن تدل على تَرْتِيب مَعَانِيهَا فِي الْوُجُود كَقَوْلِه:
(يَا لهف زيابة لِلْحَارِثِ الصابح ... فالغانم فالآيب)

أَي: الَّذِي صبح فغنم فآب. وَالثَّانِي: تدل على ترتيبها فِي التَّفَاوُت من بعض الْوُجُوه، نَحْو قَوْلك: خُذ الْأَكْمَل فَالْأَفْضَل، واعمل الْأَحْسَن فالأجمل. وَالثَّالِث: أَن تدل على تَرْتِيب موصوفاتها فِي ذَلِك، نَحْو: رحم الله المحلقين

(5/169)


فالمقصرين. وَقيل: تقع الْفَاء تَارَة بِمَعْنى: ثمَّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 140) . فالفا آتٍ فِيهَا بِمَعْنى: ثمَّ، لتراخي معطوفاتها، فعلى هَذَا يجوز أَن تكون الْفَاء هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، بِمَعْنى أبعدهم ثمَّ أبعدهم. قَوْله: (ممشى) ، بِفَتْح الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة اسْم مَكَان، وَهُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَالْمعْنَى: أبعدهم مَسَافَة إِلَى الْمَسْجِد. قَوْله: (من الَّذِي يُصَلِّي) أَعم من أَن يكون مَعَ جمَاعَة أَو وَحده. قَوْله: (ثمَّ ينَام) قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: هَذَا التَّفْضِيل أَمر ظَاهر ضَرُورِيّ، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: مَعْنَاهُ أَن الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام آخر الْوَقْت أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا فِي وَقت الِاخْتِيَار وَحده، أَو: الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا أَيْضا مَعَ الإِمَام بِدُونِ انْتِظَار، أَي: كَمَا أَن بعد الْمَكَان مُؤثر فِي زِيَادَة الْأجر كَذَلِك طول الزَّمَان، لِأَنَّهُمَا يتضمنان لزِيَادَة الْمَشَقَّة الْوَاقِعَة مُقَدّمَة للْجَمَاعَة قلت: قد علم أَن السَّبَب فِي تَحْصِيل هَذَا الْأجر الْعَظِيم انْتِظَار الصَّلَاة وإقامتها مَعَ الإِمَام، فَإِن وجد أَحدهمَا دون الْأُخَر فَلَا يحصل لَهُ ذَلِك، وَيعلم من هَذَا أَيْضا أَن تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقت الِاخْتِيَار لَا يَخْلُو عَن أجر كَمَا فِي تَأْخِير الظّهْر إِلَى أَن) يبرد الْوَقْت عِنْد اشتداد الْحر، وَتَأْخِير الْعَصْر إِلَى مَا قبل تغير قرص الشَّمْس، وَتَأْخِير الْعشَاء إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل، وَتَأْخِير الصُّبْح إِلَى وَقت الْإِسْفَار. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: فَمَا فَائِدَة: ثمَّ ينَام؟ قلت: أَشَارَ إِلَى الاسْتِرَاحَة الْمُقَابلَة للْمَشَقَّة الَّتِي فِي ضمن الِانْتِظَار.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الدّلَالَة على فضل الْمَسْجِد الْبعيد لأجل كَثْرَة الخطا، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله.

32 - (بابُ فَضْلِ التَّهْجِيرِ إلَى الظُّهْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل التهجير إِلَى صَلَاة الظّهْر. التهجير: التبكير إِلَى كل شَيْء والمبادرة إِلَيْهِ، يُقَال: هجر يهجر تهجيرا فَهُوَ مهجر، وَهِي لُغَة قَليلَة حجازية، أَرَادَ الْمُبَادرَة إِلَى أول وَقت الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى الظّهْر مَعَ أَن لفظ التهجير يُغني عَنهُ لزِيَادَة التَّأْكِيد، وَعَامة نسخ البُخَارِيّ: بَاب فضل التهجير إِلَى الظّهْر. وَعَلِيهِ شرح ابْن التِّين وَغَيره، وَفِي بَعْضهَا: بَاب فضل التهجير إِلَى الصَّلَاة، وَعَلِيهِ شرح ابْن بطال، وَهَذِه النُّسْخَة أَعم وأشمل.

652 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالكٍ عنْ سُمَيّ مَوْلَى أبي بَكْرٍ عنْ أبي صالْحٍ السَّمَّانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسْولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. ثمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسٌ المَطْعُونُ والمَبْطُونُ والغَرِيقُ وصَاحِبُ الهدْمِ والشَّهِيدُ فِي سبِيلِ الله. وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ االنَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ. وَلَوْ يَعْلَمُون مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إلَيْهِ. ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا حَبْوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو يعلمُونَ مَا فِي التهجير لاستبقوا إِلَيْهِ) وَهَذَا الْمَتْن، الَّذِي ذكره مُشْتَمل على خَمْسَة أَحَادِيث: الأول: الَّذِي أَخذ الْغُصْن. الثَّانِي: الشُّهَدَاء، الثَّالِث: الاستهام. الرَّابِع: التهجير. الْخَامِس: الحبو، وَلم يفرق البُخَارِيّ بَينهَا كعادته لأجل التراجم، لِأَن قُتَيْبَة حدث بِهِ عَن مَالك هَكَذَا مجموعا.
ذكر رجال: وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَسُمَيّ، بِضَم السِّين مُهْملَة وَفتح الْمِيم: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة القريشي المَخْزُومِي الْمدنِي، وَأَبُو صَالح اسْمه: ذكْوَان، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَكَانَ يجلب السّمن وَالزَّيْت إِلَى الْكُوفَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا قُتَيْبَة بن سعيد، فَإِنَّهُ بغلاني، بغلان بَلخ من خُرَاسَان.

(5/170)


ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ قَوْله: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء) إِلَى آخِره فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عتبَة بن عبد الله وقتيبة فرقهما، وَعَن الْحَارِث ابْن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، سبعتهم عَن مَالك بِهِ، وَأخرج قَوْله: (بَيْنَمَا رجل يمشي فِي طَرِيق) الحَدِيث فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب وَفِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا رجل) ، قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين، فاشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وزيدت فِيهِ الْمِيم، فَصَارَت: بَيْنَمَا. وَيُقَال: بَينا، بِدُونِ الْمِيم، أَيْضا، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والمبتدأ هُنَا قَوْله: (رجل) خصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (يمشي) وَخَبره قَوْله (وجد) قَوْله (فَأَخذه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (فَأَخَّرَهُ) عَن طَرِيق قَوْله (فَشكر الله لَهُ) ، مَعْنَاهُ: تقبل الله مِنْهُ وَأثْنى عَلَيْهِ، يُقَال: شكرته وشكرت لَهُ بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (الشُّهَدَاء) جمع: شَهِيد، سمي بِهِ لِأَن الْمَلَائِكَة يشْهدُونَ مَوته، فَكَانَ مشهودا. وَقيل: مشهود لَهُ بِالْجنَّةِ، فعلى هَذَا يكون الشَّهِيد على وزن: فعيل، بِمَعْنى: مفعول، وَقيل: لِأَنَّهُ حَيّ عِنْد الله حَاضر يشْهد حَضْرَة الْقُدس ويحضرها، وَقيل: لِأَنَّهُ شهد مَا أعد الله لَهُ من الكرامات. وَقيل: لِأَنَّهُ مِمَّن يستشهد مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْقِيَامَة على سَائِر الْأُمَم المكذبين، فعلى هَذِه الْمعَانِي يكون: الشَّهِيد، بِمَعْنى: شَاهد. قَوْله: (خمس) ، بِدُونِ التَّاء، هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: خَمْسَة، بِالتَّاءِ، وَهَذَا هُوَ الأَصْل. وَلَكِن إِذا كَانَ الْمُمَيز غير مَذْكُور جَازَ الْأَمْرَانِ، وَفِي رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : (الشُّهَدَاء سَبْعَة) ، وَنقص: الشَّهِيد فِي سَبِيل الله، وَزَاد: صَاحب ذَات الْجنب والحريق، وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع، أَي: الَّتِي تَمُوت وَوَلدهَا فِي بَطنهَا. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، من حَدِيث جَابر بن عتِيك مَرْفُوعا: (الشَّهَادَة سَبْعَة سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله: المطعون والغريق وَصَاحب الْجنب والمبطون وَصَاحب الْحَرِيق وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع) . وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه، من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (موت الْغَرِيب شَهَادَة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وروى سُوَيْد بن سعيد الحدثاني عَن عَليّ بن مسْهر عَن أبي يحيى القَتَّات، عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عشق فعف وكتمه ثمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدا) . وَقد أنكرهُ على سُوَيْد الْأَئِمَّة، قَالَه ابْن عدي فِي كَامِله، وَكَذَا أنكرهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن طَاهِر، وَقَالَ ابْن حبَان: من روى مثل هَذَا عَن عَليّ بن مسْهر تجب مجانبة رِوَايَته، وسُويد بن سعيد هَذَا وَإِن كَانَ مُسلم أخرج لَهُ فِي صَحِيحه فقد اعتذر مُسلم عَن ذَلِك، وَقَالَ: إِنَّه لم يَأْخُذ عَنهُ إلاَّ مَا كَانَ عَالِيا وتوبع عَلَيْهِ، وَلأَجل هَذَا أعرض عَن مثل هَذَا الحَدِيث، وَذكر ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس فِي تعداد الشُّهَدَاء: الشريق وَمَا أكله السَّبع. فَإِن قلت: الشُّهَدَاء فِي الصَّحِيح: خَمْسَة، وَفِي رِوَايَة مَالك: سَبْعَة، وَمَعَ رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن ابْن عَبَّاس تكون: ثَمَانِيَة، وَمَعَ رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة عَن بن عَبَّاس: تِسْعَة، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَنهُ يكون أحد عشر؟ قلت: لَا تنَاقض بَينهَا لِأَن الِاخْتِلَاف فِي الْعدَد بِحَسب اخْتِلَاف الْوَحْي على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (المطعون) : هُوَ، الَّذِي يَمُوت فِي الطَّاعُون، أَي: الوباء، وَلم يرد المطعون بِالسِّنَانِ، لِأَنَّهُ الشَّهِيد فِي سَبِيل الله، والطاعون مرض عَام فَيفْسد لَهُ الْهَوَاء فتفسد الأمزجة والأبدان. قَوْله: (والمبطون) ، هُوَ صَاحب الإسهال، وَقيل: هُوَ الَّذِي بِهِ الاسْتِسْقَاء، وَقيل: هُوَ الَّذِي يشتكي بَطْنه. وَقيل: من مَاتَ بداء بَطْنه مُطلقًا. قَوْله: (وَصَاحب الْهدم) ، هُوَ الَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ اسْم مَا يَقع، وَأما بتسكين الدَّال فَهُوَ الْفِعْل، وَالَّذِي يَقع هُوَ الَّذِي يقتل، وَيجوز أَن ينْسب الْقَتْل إِلَى الْفِعْل. قَوْله: (والشهيد فِي سَبِيل الله) هَذَا هُوَ الْخَامِس من الشُّهَدَاء. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فَإِن قلت: خَمْسَة، خبر الْمُبْتَدَأ والمعدود هَذَا بَيَان لَهُ، فَكيف يَصح لَهُ فِي الْخَامِس، فَإِنَّهُ حمل الشَّيْء على نَفسه فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشَّهِيد هُوَ الشَّهِيد؟ قلت: هُوَ من بَاب.
(أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري)

وَقَالَ الْكرْمَانِي: الأولى أَن يُقَال: المُرَاد بالشهيد: الْقَتِيل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشُّهَدَاء كَذَا وَكَذَا والقتيل فِي سَبِيل الله. قَوْله: (إلاَّ أَن يستهموا) أَي: إلاَّ أَن يقترعوا، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الاستهام فِي الْأَذَان. قَوْله: (وَلَو حبوا) ، الحبو: حبو الصَّغِير على يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْحَيَوَان يمشي على يَدَيْهِ وركبتيه أَو استه، وحبا الْبَعِير، إِذا برك ثمَّ زحف من الإعياء، وحبا الصَّغِير إِذا زحف على أسته

(5/171)


فَإِن قلت: بِمَا انتصب حبوا؟ قلت: على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: لأتوهما وَلَو كَانَ إتيانا حبوا. وَيجوز أَن يكون خبر: كَانَ، الْمُقدر وَالتَّقْدِير، وَلَو كَانَ إتيانكم حبوا.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ: فَضِيلَة إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَهِي أدنى شعب الْإِيمَان، فَإِذا كَانَ الله عز وَجل يشْكر عَبده وَيغْفر لَهُ على إِزَالَة غُصْن شوك من الطَّرِيق، فَلَا يدْرِي مَا لَهُ من الْفضل وَالثَّوَاب إِذا فعل مَا فَوق ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ: بَيَان الشُّهَدَاء، والشهيد عندنَا من قَتله الْمُشْركُونَ أَو وجد فِي المعركة وَبِه أثر لجراحه، أَو قَتله الْمُسلمُونَ ظلما وَلم يجب بقتْله دِيَة، وَعند [قعمالك [/ قع و [قعالشافعي [/ قع و [قعأحمد [/ قع: الشَّهِيد هُوَ الَّذِي قَتله الْعَدو غازيا فِي المعركة، ثمَّ الشَّهِيد يُكفن بِلَا خلاف وَلَا يغسل، وَفِي (الْمُغنِي) : إِذا مَاتَ فِي المعترك: فَإِنَّهُ لَا يغسل، رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ عَن [قعالحسن [/ قع و [قعابن الْمسيب [/ قع فَإِنَّهُمَا قَالَا: يغسل الشَّهِيد وَلَا يعْمل بِهِ، وَيصلى عَلَيْهِ عندنَا، وَهُوَ قَول بن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعتبَة ابْن عَامر وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ والمزني وَأحمد فِي رِوَايَة، واختارها الْخلال، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يصلى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : الْجَزْم بِتَحْرِيم الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حزم: إِن شاؤا صلوا عَلَيْهِ وَإِن شاؤا تركوها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الشَّهِيد حكمه أَن لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم غير ثَابت فِي الْأَرْبَعَة الأول بالِاتِّفَاقِ؟ قلت: مَعْنَاهُ أَنه يكون لَهُم فِي الْآخِرَة مثل ثَوَاب الشُّهَدَاء، قَالُوا: الشُّهَدَاء على ثَلَاثَة أَقسَام: شَهِيد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ من مَاتَ فِي قتال الْكفَّار بِسَبَبِهِ. وشهيد الْآخِرَة دون أَحْكَام الدُّنْيَا، وهم هَؤُلَاءِ المذكورون. وشهيد الدُّنْيَا دون الْآخِرَة، وَهُوَ من قتل مُدبرا أَو غل فِي الْغَنِيمَة أَو قَاتل لغَرَض دنياوي لَا لإعلاء كلمة الله تَعَالَى. فَإِن قلت: فإطلاق الشَّهِيد على الْأَرْبَعَة الأول مجَاز، وعَلى الْخَامِس حَقِيقَة، وَلَا يجوز إِرَادَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِاسْتِعْمَال وَاحِد قلت: جوزه الشَّافِعِي، وَأما غَيره فَمنهمْ من جوزه فِي لفظ الْجمع، وَمن مَنعه مُطلقًا حمل مثله على عُمُوم الْمجَاز، يَعْنِي: حمل على معنى مجازي أَعم من ذَلِك الْمجَاز والحقيقة قلت: الْعَمَل بِعُمُوم الْمجَاز هُوَ قَول أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. الثَّالِث فِيهِ: فَضِيلَة السَّبق إِلَى الصَّفّ الأول والاستهام عَلَيْهِ. الرَّابِع فِيهِ: فَضِيلَة التهجير إِلَى الظّهْر، وَعَلِيهِ ترْجم البُخَارِيّ، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين حَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ عِنْد اشتداد الْحر والتهجير هُوَ الأَصْل، وَهُوَ عَزِيمَة وَذَاكَ رخصَة. الْخَامِس: فِيهِ: فَضِيلَة الْعشَاء وَالصُّبْح لِأَنَّهُمَا ثقيلان على الْمُنَافِقين.

33 - (بابُ احْتِسَابِ الآثَارِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان احتساب الْآثَار، أَي: فِي عد الخطوات إِلَى الْمَسْجِد، والْآثَار جمع أثر، وَأَصله من أثر الْمَشْي فِي الأَرْض، وَالْمرَاد بهَا هَهُنَا: الخطوات، كَمَا فسره مُجَاهِد على مَا يَجِيء.
48 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب قَالَ حَدثنَا عبد الْوَهَّاب قَالَ حَدثنَا حميد عَن أنس قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا بني سَلمَة أَلا تحتسبون آثَاركُم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا وحوشب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ وَحميد ابْن أبي حميد الطَّوِيل. (وَمن لطائف إِسْنَاده) أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع والعنعنة فِي مَوضِع وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين طائفي وبصري وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع قَوْله " يَا بني سَلمَة " بِفَتْح السِّين وَكسر اللَّام وهم بطن كَبِير من الْأَنْصَار ثمَّ من الْخَزْرَج وَقَالَ الْقَزاز والجوهري وَلَيْسَ فِي الْعَرَب سَلمَة غَيرهم (قلت) لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن ابْن مَاكُولَا والرشاطي وَابْن حبيب ذكرُوا جماعات غَيرهم قَوْله " أَلا تحتسبون " كلمة أَلا للتّنْبِيه والتحضيض وَمَعْنَاهُ أَلا تَعدونَ خطاكم عِنْد مشيكم إِلَى الْمَسْجِد إِنَّمَا خاطبهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك حِين أَرَادوا النقلَة إِلَى قرب مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعند مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " خلت الْبِقَاع حول الْمَسْجِد فَأَرَادَ بَنو سَلمَة أَن يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب الْمَسْجِد فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ

(5/172)


لَهُم أَنه بَلغنِي أَنكُمْ تُرِيدُونَ أَن تنتقلوا إِلَى قرب الْمَسْجِد قَالُوا نعم يَا رَسُول الله قد أردنَا ذَلِك فَقَالَ يَا بني سَلمَة دِيَاركُمْ تكْتب آثَاركُم دِيَاركُمْ تكْتب آثَاركُم " وَفِي لفظ " كَانَت دِيَارنَا نائية من الْمَسْجِد فأردنا أَن نبيع بُيُوتنَا فنقرب من الْمَسْجِد فنهانا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِن لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة " وَعند ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس " كَانَت الْأَنْصَار بعيدَة مَنَازِلهمْ من الْمَسْجِد فأرادوا أَن يتقربوا فَنزلت ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم قَالَ فثبتوا " زَاد عبد بن حميد فِي تَفْسِيره " فَقَالُوا بل نثبت مَكَاننَا " وَقَوله " تحتسبون " بنُون الْجمع على الأَصْل فِي عَامَّة النّسخ وَشَرحه الْكرْمَانِي بِحَذْف النُّون فَقَالَ (فَإِن قلت) مَا وَجه سُقُوط النُّون (قلت) جوز النُّحَاة إِسْقَاط النُّون بِدُونِ ناصب وجازم (وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} قَالَ خطاهم) فسر مُجَاهِد الْآثَار بالخطا وَعَن مُجَاهِد خطاهم آثَارهم أَي مَشوا فِي الأَرْض بأرجلهم وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد عَن أبي سعيد مَوْقُوفا " نكتب مَا قدمُوا وآثارهم " قَالَ الخطا وَعند الْبَزَّار " فَقَالَ لَهُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَازِلكُمْ مِنْهَا تكْتب آثَاركُم " وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " شكت بَنو سَلمَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَنَازِلهمْ من الْمَسْجِد فَأنْزل الله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَازِلكُمْ فَإِنَّهَا تكْتب آثَاركُم " وَقَالَ حسن غَرِيب
(وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا يحيى بن أَيُّوب قَالَ حَدثنِي حميد قَالَ حَدثنِي أنس أَن بني سَلمَة أَرَادوا أَن يَتَحَوَّلُوا عَن مَنَازِلهمْ فينزلوا قَرِيبا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فكره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يعروا الْمَدِينَة فَقَالَ أَلا تحتسبون آثَاركُم. قَالَ مُجَاهِد خطاهم آثَارهم أَن يمشى فِي الأَرْض بأرجلهم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله تقدمُوا وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ وَيحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ قَوْله " وَحدثنَا ابْن أبي مَرْيَم " هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم ثمَّ قَالَ هَكَذَا ذكر هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا وَكَذَا ذكره أَيْضا صَاحب الْأَطْرَاف قَالَ وَالَّذِي رَأَيْت فِي كثير من نسخ البُخَارِيّ وَحدثنَا ابْن أبي مَرْيَم وَقَالَ أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج كَذَا ذكره البُخَارِيّ بِلَا رِوَايَة يَعْنِي مُعَلّقا وَقَالَ بَعضهم هَذَا هُوَ الصَّوَاب (قلت) هَذِه دَعْوَى بِلَا دَلِيل قَوْله " عَن أنس " هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ حَدثنَا أنس وَكَذَا ذكره أَبُو نعيم أَيْضا قَوْله " فينزلوا قَرِيبا " أَي منزلا قَرِيبا من مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن دِيَارهمْ كَانَت بعيدَة عَن الْمَسْجِد وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله يَقُول " كَانَت دِيَارنَا بعيدَة من الْمَسْجِد فأردنا أَن نبتاع بُيُوتنَا فنتقرب من الْمَسْجِد فنهانا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِن لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة " وَفِي مُسْند السراج من طَرِيق أبي نَضرة عَن جَابر " أَرَادوا أَن يتقربوا من أجل الصَّلَاة " وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي نَضرة عَنهُ قَالَ " كَانَت مَنَازلنَا بسلع " (فَإِن قلت) فِي الاسْتِسْقَاء من حَدِيث أنس " وَمَا بَيْننَا وَبَين سلع من دَار " فَهَذَا يُعَارضهُ (قلت) لَا تعَارض لاحْتِمَال أَن تكون دِيَارهمْ كَانَت من وَرَاء سلع وَبَين سلع وَالْمَسْجِد قدر ميل قَوْله " أَن يعروا الْمَدِينَة " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " أَن يعروا مَنَازِلهمْ " وَهُوَ بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة أَي يتركوها عراء أَي فضاء خَالِيَة قَالَ عز وَجل {فنبذناه بالعراء} أَي بِموضع خَال قَالَ ابْن سَيّده هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا يسْتَتر فِيهِ شَيْء وَقيل الأَرْض الواسعة وَجمعه أعراء وَفِي الغريبين الْمَمْدُود المتسع من الأَرْض قيل لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا شجر فِيهِ وَلَا شَيْء يغطيه والعرا مَقْصُورا النَّاحِيَة وَوجه كَرَاهَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنعهم من الْقرب من الْمَسْجِد هُوَ أَنه أَرَادَ أَن تبقى جِهَات الْمَدِينَة عامرة بساكنيها قَوْله " وَقَالَ مُجَاهِد خطاهم آثَار الْمَشْي فِي الأَرْض بأرجلهم " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ وَقَالَ مُجَاهِد {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} قَالَ خطاهم وَهَكَذَا وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ قَالَ فِي قَوْله {ونكتب مَا قدمُوا} قَالَ أَعْمَالهم وَفِي قَوْله {وآثارهم} قَالَ خطاهم وَأَشَارَ البُخَارِيّ

(5/173)


بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن قصَّة بني سَلمَة كَانَت سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة وَقد ورد مُصَرحًا بِهِ من طَرِيق سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ الدّلَالَة على كَثْرَة الْأجر لِكَثْرَة الخطا فِي الْمَشْي إِلَى الْمَسْجِد وَسُئِلَ أَبُو عبد الله بن لبَابَة عَن الَّذِي يدع مَسْجده وَيُصلي فِي الْمَسْجِد الْجَامِع للفضل فِي كَثْرَة النَّاس قَالَ لَا يدع مَسْجده وَإِنَّمَا فضل الْمَسْجِد الْجَامِع للْجُمُعَة فَقَط وَعَن أنس بن مَالك أَنه كَانَ يُجَاوز الْمَسَاجِد المحدثة إِلَى الْمَسَاجِد الْقَدِيمَة وَفعله مُجَاهِد وَأَبُو وَائِل وَأما الْحسن فَسئلَ أيدع الرجل مَسْجِد قومه وَيَأْتِي غَيره فَقَالَ كَانُوا يحبونَ أَن يكثر الرجل قومه بِنَفسِهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَهَذِه الْأَحَادِيث تدل على أَن الْبعد من الْمَسْجِد أفضل فَلَو كَانَ بجوار الْمَسْجِد فَهَل لَهُ أَن يُجَاوِزهُ للأبعد فكرهه الْحسن قَالَ وَهُوَ مَذْهَبنَا وَفِي تخطي مَسْجده إِلَى الْمَسْجِد الْأَعْظَم قَولَانِ وَاخْتلف فِيمَن كَانَت دَاره قريبَة من الْمَسْجِد وقارب الخطا بِحَيْثُ يُسَاوِي خطاه من دَاره بعيدَة هَل يُسَاوِيه فِي الْفضل أَو لَا وَإِلَى الْمُسَاوَاة مَال الطَّبَرِيّ (فَإِن قلت) روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أنس قَالَ " مشيت مَعَ زيد بن ثَابت إِلَى الْمَسْجِد فقارب بَين الخطا وَقَالَ أردْت أَن تكْثر خطانا إِلَى الْمَسْجِد " (قلت) لَا يلْزم مِنْهُ الْمُسَاوَاة فِي الْفضل وَإِن دلّ على أَن فِي كَثْرَة الخطا فَضِيلَة لِأَن ثَوَاب الخطى الشاقة لَيست كثواب الخطى السهلة واستنبط بَعضهم من الحَدِيث اسْتِحْبَاب قصد الْمَسْجِد الْبعيد وَلَو كَانَ بجنبه مَسْجِد قريب فَقيل هَذَا إِذا لم يلْزم من ذَهَابه إِلَى الْبعيد هجر الْقَرِيب وَإِلَّا فإحياؤه بِذكر الله أولى ثمَّ إِذا كَانَ إِمَام الْقَرِيب مبتدعا أَو لحانا فِي الْقِرَاءَة أَو قومه يكرهونه فَلهُ أَن يتْركهُ وَيذْهب إِلَى الْبعيد وَكَذَا إِذا كَانَ إِمَام الْبعيد بِهَذِهِ الصّفة وَفِي رَوَاحه إِلَيْهِ لَيْسَ هجر الْقَرِيب لَهُ أَن يتْرك الْبعيد وَيُصلي فِي الْقَرِيب. وَفِيه أَن أَعمال الْبر إِذا كَانَت خَالِصَة تكْتب آثارها حَسَنَات. وَفِيه اسْتِحْبَاب السُّكْنَى بِقرب الْمَسْجِد إِلَّا لمن حصلت مِنْهُ مَنْفَعَة أُخْرَى أَو أَرَادَ تَكْثِير الْأجر بِكَثْرَة الْمَشْي مَا لم يُكَلف نَفسه وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم طلبُوا السُّكْنَى بِقرب الْمَسْجِد للفضل الَّذِي علموه مِنْهُ فَمَا أنكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم ذَلِك وَإِنَّمَا كره ذَلِك لدرء الْمفْسدَة لإخلائهم جَوَانِب الْمَدِينَة كَمَا ذَكرْنَاهُ -
34 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة حَال كَونهَا فِي الْجَمَاعَة.
49 - (حَدثنَا عمر بن حَفْص قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش قَالَ حَدثنِي أَبُو صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْفجْر وَالْعشَاء وَلَو يعلمُونَ مَا فيهمَا لأتوهما وَلَو حبوا لقد هَمَمْت أَن آمُر الْمُؤَذّن فيقيم ثمَّ آمُر رجلا يؤم النَّاس ثمَّ آخذ شعلا من نَار فَأحرق على من لَا يخرج إِلَى الصَّلَاة بعد) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الثَّانِي لِأَنَّهُ يدل على زِيَادَة فَضِيلَة الْعشَاء وَالْفَجْر على غَيرهمَا من الصَّلَوَات فَوضع التَّرْجَمَة لبَيَان فَضِيلَة صَلَاة الْعشَاء. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. فالثلاثة الأول مَضَت متناسقة فِي سَنَد حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فِي بَاب فضل صَلَاة الْفجْر فِي الْجَمَاعَة وهم عمر بن حَفْص بن غياث النَّخعِيّ الْكُوفِي وَهُوَ يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث وَهُوَ يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَسليمَان يروي هُنَاكَ عَن سَالم بن أبي الْجَعْد وَهَهُنَا يروي عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان وَقد مضى هَذَا مفرقا قَوْله " لَيْسَ صَلَاة أثقل " هَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْكشميهني فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة عَنهُ وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين " لَيْسَ أثقل على الْمُنَافِقين " بِحَذْف اسْم لَيْسَ وَأما وَجه تذكير لَيْسَ فلَان الْفِعْل إِذا أسْند إِلَى الْمُؤَنَّث غير الْحَقِيقِيّ يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث وَقَوله أثقل أفعل التَّفْضِيل فَيدل على أَن الصَّلَوَات كلهَا ثَقيلَة على الْمُنَافِقين وَالْفَجْر وَالْعشَاء أثقل من غَيرهمَا أما الْفجْر فَلِأَنَّهُ وَقت لَذَّة النّوم وَأما الْعشَاء فَلِأَنَّهُ وَقت السّكُون والراحة.

(5/174)


وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْمُنَافِقين {وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى} وَقيل وَجه ذَلِك هُوَ كَون الْمُؤمنِينَ يفوزون بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا من الْفضل لقيامهم بحقهما دون الْمُنَافِقين قَوْله " مَا فيهمَا " أَي فِي الْفجْر وَالْعشَاء من الثَّوَاب وَالْفضل قَوْله " لأتوهما " أَي لأتوا الْفجْر وَالْعشَاء وَلَو كَانَ إتيانهم حبوا لأتوهما حابين من حبا الصَّبِي إِذا زحف على إسته وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَقَالَ الْكرْمَانِي لَو يعلمُونَ مَا فيهمَا من الْفضل وَالْخَيْر ثمَّ لم يستطيعوا الْإِتْيَان إِلَيْهِمَا إِلَّا حبوا لحبوا إِلَيْهِمَا وَلم يفوتوا جماعتهما وَقَالَ بَعضهم لأتوهما أَي لأتوا إِلَى الْمحل الَّذِي تصليان فِيهِ جمَاعَة وَهُوَ الْمَسْجِد (قلت) هَذَا تَفْسِير لَا يُطَابق التَّرْكِيب أصلا وَالصَّحِيح الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَوْله " يؤم النَّاس " بِالرَّفْع فِي يؤم وَالنّصب فِي النَّاس وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله " رجلا " وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله " ثمَّ آمُر " وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ عطف على آمُر الأول الْمَنْصُوب بِأَن قَوْله " فيقيم " أَيْضا مَنْصُوب عطفا على مَا قبله قَوْله " ثمَّ آخذ " بِالنّصب لِأَنَّهُ عطف على قَوْله " ثمَّ آمُر " قَوْله " شعلا " بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْعين الْمُهْملَة جمع شعيلة وَهُوَ الفتيلة فِيهَا نَار نَحْو صحيفَة وصحف وبفتح الْعين جمع الشعلة من النَّار قَوْله " فَأحرق " بِالنّصب عطفا على " ثمَّ آخذ " قَوْله " بعد " نقيض قبل مَبْنِيّ على الضَّم فَلَمَّا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ بني على الضَّم وَسمي غَايَة لانْتِهَاء الْكَلَام إِلَيْهَا وَالْمعْنَى بعد أَن يسمع النداء إِلَى الصَّلَاة وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني لَفْظَة يقدر بدل بعد وَمَعْنَاهُ لَا يخرج إِلَى الصَّلَاة حَال كَونه يقدر وَقد علم أَن الْجُمْلَة الفعلية المضارعية إِذا وَقعت حَالا يجوز فِيهَا ترك الْوَاو وَوَقع عِنْد الدَّاودِيّ لَا لعذر عوض اللَّفْظَيْنِ الْمَذْكُورين أَي يقدر وَبعد وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لقد هَمَمْت أَن آمُر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثمَّ آتِي قوما يصلونَ فِي بُيُوتهم لَيست بهم عِلّة فأحرقها عَلَيْهِم " الحَدِيث وَلَكِن مَا روى هَذَا غير الدَّاودِيّ وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أطلق على الْمُؤمنِينَ الَّذين لَا يحْضرُون الْجَمَاعَة وَيصلونَ فِي بُيُوتهم من غير عذر وَلَا عِلّة تمنع عَن الْإِتْيَان اسْم الْمُنَافِقين على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي التهديد فَافْهَم -
35 - (بابٌ اثْنان فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ)

أَي: هَذَا بَاب مترجم بِلَفْظ: إثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة. وَهُوَ لفظ حَدِيث ورد من طرق ضَعِيفَة، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن أَبِيه عَن جده عَن عَمْرو بن جَراد عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة) ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (كتاب الْأَحْكَام) : هَذَا خبر سَاقِط. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي زَرْبِي، وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس ... فَذكره بِمثلِهِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده ... مثله، قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي (الْكَامِل) للجرجاني من حَدِيث الحكم بن عُمَيْر مَرْفُوعا مثله ... ، وَفِي سَنَده: عِيسَى بن طهْمَان، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث.

658 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ مالِكٍ بنِ الحُوَيْرِثِ عنِ النَّبِيِّ قَالَ إذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذِّنا وَأَقِيما ثُمَّ لِيَؤُمُّكُمَا أكْبَرُكُمَا. .

تَوْجِيه مطابقته حَدِيث االباب للتَّرْجَمَة مُشكل، فَقَالَ بَعضهم: ذَلِك مَأْخُوذ بالاستنباط من لَازم الْأَمر بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَو اسْتَوَت صلاتهما مَعًا مَعَ صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بِالصَّلَاةِ، كَأَن يَقُول: أذنا وأقيما وصليا قلت: هَذَا اللَّازِم لَا يسْتَلْزم كَون الِاثْنَيْنِ جمَاعَة، على مَا لَا يخفى، فَكيف يستنبط مِنْهُ مطابقته للتَّرْجَمَة؟ وَيُمكن أَن يذكر لَهُ وَجه، وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن تكلّف، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَمرهمَا بإمامة أَحدهمَا الَّذِي هُوَ أكبرهما ليحصل لَهما فَضِيلَة الْجَمَاعَة، فكأنهما لما صليا واحدهما إِمَام صَارا كَأَنَّهُمَا صليا مَعَ جمَاعَة، إِذْ حصل لَهما مَا يحصل لمن يُصَلِّي بِالْجَمَاعَة، فَصَارَ الِاثْنَان هَهُنَا كَأَنَّهُمَا جمَاعَة بِهَذَا الِاعْتِبَار

(5/175)


لَا بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة فَافْهَم. وَتقدم حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث، فِي: بَاب الْأَذَان للمسافرين: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، قَالَ: (أَتَى رجلَانِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ ليؤمكما أكبركما) . وَهَهُنَا خَالِد هُوَ الْحذاء أَيْضا، وَأَبُو قلَابَة: بِكَسْر الْقَاف، عبد الله بن زيد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

36 - (بابُ مَنْ جَلَسَ فِي المَسْجِد يَنْتَظَرُ الصَّلاةَ وفَضْلِ المسَاجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من جلس فِي الْمَسْجِد حَال كَونه ينْتَظر الصَّلَاة ليصليها بِالْجَمَاعَة وَفِي بَيَان فضل الْمَسَاجِد.

659 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَلاَئِكَةُ تُصعلِّي على أحَدِكُمْ مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلَى أهْلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
هَذَا الحَدِيث إِلَى قَوْله. .: (لَا يزَال أحدكُم) ، ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب الْحَدث فِي الْمَسْجِد، أخرجه عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، نَحوه، غير أَن هُنَاكَ: (إِن الْمَلَائِكَة تصلي) وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَقَوله: (لَا يزَال أحدكُم) إِلَى آخِره، أفرده مَالك فِي (موطئِهِ) عَمَّا قبله، وَأكْثر الروَاة ضموه إِلَى الأول وجعلوه حَدِيثا وَاحِدًا. وَذكر البُخَارِيّ: فِي: بَاب فضل الْجَمَاعَة، حَدِيث أبي هُرَيْرَة مطولا، وَفِيه: (لَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة مَا انْتظر الصَّلَاة) .
قَوْله: (تصلي على أحدكُم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن الصَّلَاة من الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار. فَإِن قلت: مَا النُّكْتَة فِي لفظ الصَّلَاة دون لفظ الاسْتِغْفَار؟ قلت: لتقع الْمُنَاسبَة بَين الْعَمَل وَالْجَزَاء. قَوْله: (مَا دَامَ) كلمة: مَا، للمدة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مَا دَامَ فِي مَوْضِعه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ منتظرا للصَّلَاة، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة من وَجه آخر. قَوْله: (اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) ، بَيَان لقَوْله: (تصلي) ، وَفِيه مُقَدّر، وَهُوَ إِمَّا لفظ: تَقول الْمَلَائِكَة: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وَإِمَّا: قائلين: اللَّهُمَّ ... ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ كِلَاهُمَا بِالنّصب على الْحَال. قَوْله: (فِي صَلَاة) أَي: فِي ثَوَاب صَلَاة، لَا فِي حكم الصَّلَاة، أَلاَ ترى أَنه يحل لَهُ الْكَلَام وَغَيره مِمَّا يمْنَع الصَّلَاة؟ قَوْله: (مَا دَامَت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا كَانَت) ، قَوْله: (لَا يمنعهُ) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. قَوْله: (أَن يَنْقَلِب) ، فَإِن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية تَقْدِيره: لَا يمنعهُ الانقلاب، أَي: الرواح إِلَى أَهله إِلَّا الصَّلَاة، وَكلمَة: إلاَّ، بِمَعْنى: غير، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه صرف نِيَّته عَن ذَلِك صَارف آخر انْقَطع عَنهُ الثَّوَاب الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ إِذا شَارك نِيَّة الِانْتِظَار أَمر آخر، وَيدخل فِي ذَلِك من أشبههم فِي الْمَعْنى مِمَّن حبس نَفسه على أَفعَال الْبر كلهَا.

660 - حدَّثنا مْحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني خبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ عنْ حفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ الإمامُ العادِلُ وشابُّ نَشأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ورَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أخَافُ الله ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خالِيا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد) ، أَي: مُتَعَلق، وَلَو لم يكن للمساجد فضل لم يكن لمن قلبه مُعَلّق فِيهَا هَذَا الْفضل الْعَظِيم، وَهَذَا للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (وَفضل الْمَسَاجِد) ، وَيدل على هَذَا الْجُزْء أَيْضا قَوْله:

(5/176)


(وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه) ، لِأَن من هَذِه صفته يكون لَهُ مُلَازمَة للمساجد بقالبه، وَأما عَن قلبه فَلَا يَخْلُو، وَإِن عرض لقالبه عَارض، وَهَذَا أَيْضا يدل على فضل الْمَسَاجِد.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن عمر الْعمريّ. الرَّابِع: خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن عبد الرَّحْمَن بن خبيب بن يسَاف، أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَهُوَ خَال عبيد الله بن عمر الْمَذْكُور، الْخَامِس: حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَهُوَ جد عبيد الله الْمَذْكُور لِأَبِيهِ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله وجده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وهما: مُحَمَّد بن بشار وَيحيى، والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَشْهُورا ببندار، وَيحيى مَشْهُور بالقطان. وَفِيه: عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة من حَدِيث يحيى بن يحيى وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث معن، قَالَا: حَدثنَا مَالك عَن خبيب عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة أَو أبي سعيد قَالَ التِّرْمِذِيّ كَذَا روى غير وَاحِد عَن مَالك وَشك فِيهِ وَقَالَ ابْن عبد الْبر كل من رَوَاهُ عَن مَالك قَالَ فِيهِ أَو أبي سعيد، إلاَّ أَبَا قُرَّة ومصعبا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَن مَالك عَن خبيب عَن حَفْص بن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد جَمِيعًا، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو معَاذ الْبَلْخِي عَن مَالك وَرَوَاهُ الْوَقار زَكَرِيَّا بن يحيى عَن ثَلَاثَة من أَصْحَاب مَالك عَن أبي سعيد وَحده وَلم يُتَابع. قلت: الثَّلَاثَة هم: عبد الله بن وهب، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، ويوسف بن عَمْرو بن يزِيد. وَفِي (غرائب) مَالك) للدارقطني: رَوَاهُ أَبُو معَاذ عَن أبي سعيد أَو عَن أبي هُرَيْرَة أَو عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَالَا ... فَذكره. قلت: وَفِيه رد لما ذكره ابْن عبد الْبر.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن مُسَدّد، وَفِي الرقَاق عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سوار بن عبد الله الْعَنْبَري وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الرقَاق عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَبْعَة) أَي: سَبْعَة أشخاص، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا ليدْخل فِيهِ النِّسَاء، فالأصوليون ذكرُوا أَن إحكام الشَّرْع عَامَّة لجَمِيع الْمُكَلّفين، وَحكمه على الْوَاحِد حكم على الْجَمَاعَة إلاَّ مَا دلّ الدَّلِيل على خُصُوص الْبَعْض فَإِن قلت: مَا وَجه التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة؟ قلت: التَّنْصِيص بِالْعدَدِ فِي شَيْء لَا يَنْفِي الحكم عَمَّا عداهُ، وَقد روى مُسلم من حَدِيث أبي الْيُسْر مَرْفُوعا: (من أنظر مُعسرا أَو وضع لَهُ، أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله) . وَهَاتَانِ الخصلتان غير الْخِصَال السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، فَدلَّ على مَا قُلْنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة فَيحْتَمل أَن يُقَال فِيهِ: ذَلِك لِأَن الطَّاعَة إِمَّا تكون بَين العَبْد وَبَين الله أَو بَينه وَبَين الْخلق، وَالْأول: إِمَّا أَن يكون بِاللِّسَانِ أَو بِالْقَلْبِ أَو بِجَمِيعِ الْبدن، وَالثَّانِي: إِمَّا أَن يكون عَاما وَهُوَ الْعدْل، أَو خَاصّا وَهُوَ إِمَّا من جِهَة النَّفس وَهُوَ التحاب أَو من جِهَة الْبدن، أَو من جِهَة المَال. انْتهى. قلت: أَرَادَ كَونه بِاللِّسَانِ هُوَ الذّكر، وَأَرَادَ كَونه بِالْقَلْبِ هُوَ الْمُعَلق بِالْمَسْجِدِ، وَأَرَادَ بِجِهَة جَمِيع الْبدن الناشيء بِالْعبَادَة، وبجهة المَال: الصَّدَقَة، وَمن جِهَة الْبدن فِي الصُّورَة الْخَاصَّة هِيَ: الْعِفَّة. قَوْله: (يظلهم الله) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر للمبتدأ أَعنِي قَوْله: (سَبْعَة) . وَقَالَ عِيَاض: إِضَافَة الظل إِلَى الله إِضَافَة ملك، وكل ظله فَهُوَ ملكه قلت: إِضَافَة الظل إِلَيْهِ إِضَافَة تشريف ليحصل امتياز هَذَا عَن غَيره، كَمَا يُقَال للكعبة: بَيت الله، مَعَ أَن الْمَسَاجِد كلهَا ملكه. وَأما الظل الْحَقِيقِيّ فَالله تَعَالَى منزه عَنهُ، لِأَنَّهُ من خَواص الْأَجْسَام، وَيُقَال: المُرَاد ظلّ الْعَرْش، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظلّ عَرْشه) فَذكر الحَدِيث، ثمَّ كَونهم فِي ظلّ عَرْشه يسْتَلْزم مَا ذكره بَعضهم من أَن معنى: (يظلهم الله) ، يسترهم فِي ستره وَرَحمته. تَقول الْعَرَب: أَنا فِي ظلّ فلَان، أَي: فِي ستره وكنفه، وتسمي الْعَرَب اللَّيْل: ظلاً، لبرده، وَيُقَال المُرَاد من الظل: ظلّ طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة، وَيرد هَذَا قَوْله: (يَوْم لَا ظلّ إلاَّ ظله) ، لِأَن المُرَاد

(5/177)


من الْيَوْم الْمَذْكُور يَوْم الْقِيَامَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الْمُبَارك صرح بِهِ فِي رِوَايَته عَن عبد الله بن عمر على مَا يَجِيء فِي كتاب الْحُدُود، وظل طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة إِنَّمَا يكون بعد استقرارهم فِي الْجنَّة، وَهَذَا عَام فِي حق كل من يدخلهَا، والْحَدِيث يدل على امتياز هَؤُلَاءِ السَّبْعَة من بَين الْخلق، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين، وَدنت مِنْهُم الشَّمْس، ويشتد عَلَيْهِم حرهَا ويأخذهم الْغَرق وَلَا ظلّ هُنَاكَ لشَيْء إِلَّا ظلّ الْعَرْش.
قَوْله: (الْأَمَام الْعَادِل) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أحد السَّبْعَة: الْأَمَام الْعَادِل. وَالْكَلَام فِيهِ من وُجُوه: الأول: إِن قَوْله: (الْعَادِل) اسْم فَاعل من الْعدْل، وَقَالَ أَبُو عمر: أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) رَوَوْهُ ... عَادل، وَقد رَوَاهُ بَعضهم؛ عدل، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد أهل اللُّغَة. يُقَال: رجل عدل. وَرِجَال عدل، وَامْرَأَة عدل. وَيجوز أَمَام عَادل على اسْم الْفَاعِل، يُقَال: عدل فَهُوَ عَادل، كَمَا يُقَال: ضرب فَهُوَ ضَارب. وَقَالَ ابْن الاثير: الْعدْل فِي الأَصْل مصدر سمي بِهِ فَوضع مَوضِع الْعَادِل، وَهُوَ أبلغ مِنْهُ لِأَنَّهُ جعل الْمُسَمّى نَفسه عدلا. الثَّانِي: مَعْنَاهُ: الْوَاضِع كل شَيْء فِي مَوْضِعه. وَقيل: الْمُتَوَسّط بَين طرفِي الإفراط والتفريط، سَوَاء كَانَ فِي العقائد أَو فِي الْأَعْمَال أَو فِي الْأَخْلَاق. وَقيل: الْجَامِع بَين أُمَّهَات كمالات الْإِنْسَان الثَّلَاث، وَهِي: الْحِكْمَة والشجاعة والعفة الَّتِي هِيَ أوساط القوى الثَّلَاث، أَعنِي: الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوانية. وَقيل: الْمُطِيع لأحكام الله تَعَالَى. وَقيل المراعي لحقوق الرّعية وَهُوَ عَام فِي كل من أليه نظر فِي شَيْء من أُمُور الْمُسلمين من الْوُلَاة والحكام. الثَّالِث: قدم الإِمَام الْعَادِل فِي ذكر السَّبْعَة لِكَثْرَة مَصَالِحه وَعُمُوم نَفعه، فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ أمورا عَظِيمَة، وَيُقَال: لَيْسَ أحد أقرب منزلَة من الله تَعَالَى بعد الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِمَام عَادل. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. مَا حَكَمَ قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم إِمَامًا جائرا.
قَوْله: (وشاب) أَي: وَالثَّانِي: من السَّبْعَة شَاب نَشأ فِي عبَادَة ربه، يُقَال: نَشأ الصَّبِي ينشأ نَشأ فَهُوَ ناشيء إِذا كبر وشب. يُقَال: نَشأ وَأَنْشَأَ إِذا خرج وابتدا، وَأَنْشَأَ يفعل كَذَا أَي: ابتدا يفعل، وَفِي رِوَايَة الإِمَام أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (شَاب نَشأ بِعبَادة الله) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَزَاد حَمَّاد بن زيد من عبيد الله بن عمر: (حَتَّى توفّي على ذَلِك) ، أخرجه الجوزقي. وَفِي حَدِيث سلمَان: (أفنى شبابه ونشاطه فِي عبَادَة الله) . فَإِن قلت: لِمَ خص الثَّانِي من السَّبْعَة بالشباب، وَلم يقل: رجل نَشأ؟ قلت: لِأَن الْعِبَادَة فِي الشَّبَاب أَشد وأشق لِكَثْرَة الدَّوَاعِي وَغَلَبَة الشَّهَوَات، وَقُوَّة البواعث على اتِّبَاع الْهوى.
قَوْله: (وَرجل قلبه) أَي: الثَّالِث: رجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد، بِفَتْح اللَّام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي: بالمساجد، وحروف الْجَرّ بَعْضهَا يقوم مقَام بعض، وَمَعْنَاهُ: شَدِيد الْحبّ لَهَا والملازمة للْجَمَاعَة فِيهَا. قلت: رِوَايَة أَحْمد: (مُعَلّق بالمساجد) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (مُتَعَلق) ، بِزِيَادَة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الْمِيم، وَمَعْنَاهُ: شدَّة تعلق قلبه بالمساجد، وَإِن كَانَ خَارِجا عَنهُ، وَتعلق قلبه بالمساجد كِنَايَة عَن انْتِظَاره أَوْقَات الصَّلَوَات فَلَا يُصَلِّي صَلَاة وَيخرج مِنْهُ إلاَّ وَهُوَ منتظر وَقت صَلَاة أُخْرَى حَتَّى يُصَلِّي فِيهِ، وَهَذَا يسْتَلْزم صلَاته أَيْضا بِالْجَمَاعَة.
قَوْله: (ورجلان تحابا) أَي: الرَّابِع: رجلَانِ تحابا، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَصله تحاببا، فَلَمَّا اجْتمع الحرفان المتماثلان أسكن الأول مِنْهُمَا وأدرج فِي الثَّانِي وَهُوَ حد الْإِدْغَام، وَهُوَ من بَاب: التفاعل، وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: التفاعل هُوَ الْإِظْهَار إِذْ أصل الْفِعْل حَاصِل لَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ وَلَا يُرِيد حُصُوله نَحْو تجاهلت؟ قلت: قد يَجِيء لغير ذَلِك نَحْو: باعدته فتباعد. انْتهى. قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا أَن: تفَاعل، لمشاركة أَمريْن أَو أَكثر فِي أَصله يَعْنِي فِي مصدر فعله الثلاثي صَرِيحًا، نَحْو: تضارب زيد وَعَمْرو، فَلذَلِك نقص مَفْعُولا عَن فَاعل، وَحَاصِله أَن وضع فَاعل لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل مُتَعَلقا بِغَيْرِهِ، مَعَ أَن الْغَيْر فعل مثل ذَلِك وَوضع: تفَاعل، لنسبته إِلَى المشتركين فِي شَيْء من غير قصد إِلَى تعلق لَهُ، فَلذَلِك جَاءَ الأول زَائِدا على الثَّانِي بمفعول أبدا، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ الْمقَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: ورجلان تحاببا، من بَاب: المفاعلة، لَا من بَاب: التفاعل، ليدل على أَن الْغَيْر فعل مثل مَا فعل هُوَ، وَالْجَوَاب: عَنهُ أَن تفَاعل، قد يَجِيء للمطاوعة وَهِي كَونهَا دَالَّة على معنى حصل عَن تعلق فعل آخر مُتَعَدٍّ كَقَوْلِك: باعدته فتباعد، فقولك: تبَاعد، عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق فعل مُتَعَدٍّ، وَهَهُنَا كَذَلِك، فَإِن تحابا عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق حابب، وَالْجَوَاب الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي غير مُسْتَقِيم، لِأَن معنى ذَلِك هُوَ الدّلَالَة على أَن الْفَاعِل أظهر أَن الْمَعْنى الَّذِي اشتق مِنْهُ: تفَاعل، حصل لَهُ، مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة كَذَلِك. فَمَعْنَى: تجاهل زيد أَنه أظهر الْجَهْل من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة، وَلَيْسَ الْمَعْنى هَهُنَا أَنه أظهر الْمحبَّة من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة. فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق. فَإِن قلت: قَالَ: رجلَانِ، فَيكون الْمَذْكُور ثَمَانِيَة لَا سَبْعَة؟

(5/178)


قلت: مَعْنَاهُ: وَرجل يحب غَيره فِي الله، والمحبة أَمر نسبي فَلَا بُد لَهَا من المنتسبين، فَلذَلِك قَالَ: رجلَانِ. قَوْله: (فِي الله) أَي: لأجل الله لَا لغَرَض دنياوي، وَكلمَة: فِي، قد تَجِيء للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل) ، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (ورجلان قَالَ كل مِنْهُمَا للْآخر: إِنِّي أحبك فِي الله، فصدرا على ذَلِك) . قَوْله: (اجْتمعَا على ذَلِك) أَي: على الْحبّ فِي الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (اجْتمعَا عَلَيْهِ) أَي: على الْحبّ الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي عَلَيْهِ، يَعْنِي: كَانَ سَبَب اجْتِمَاعهمَا حب الله والاستمرار عَلَيْهِ حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَا يحْتَاج إِلَى قَوْله: حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، بل الْمَعْنى: أَنَّهُمَا داما على الْمحبَّة الدِّينِيَّة وَلم يقطعاها بِعَارِض دُنْيَوِيّ، سَوَاء اجْتمعَا حَقِيقَة أَو لَا، حَتَّى فرق بَينهمَا الْمَوْت.
قَوْله: (وَرجل طلبته) أَي: وَالْخَامِس: رجل طلبته امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (دَعَتْهُ امْرَأَة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلمُسلم وللبخاري أَيْضا فِي الْحُدُود: عَن ابْن الْمُبَارك، وَزَاد ابْن الْمُبَارك: (إِلَى نَفسهَا) ، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) ، من طَرِيق أبي صَالح: عَن أبي هُرَيْرَة: (فعرضت نَفسهَا عَلَيْهِ) ، وَظَاهر الْكَلَام أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَة، وَبِه جزم الْقُرْطُبِيّ. وَقيل: يحْتَمل أَن تكون طلبته إِلَى التَّزْوِيج بهَا فخاف أَن يشْتَغل عَن الْعِبَادَة بالافتتان بهَا، أَو خَافَ أَن لَا يقوم بِحَقِّهَا لشغله بِالْعبَادَة عَن التكسب بِمَا يَلِيق بهَا، وَالْأول أظهر لوُجُود قَرَائِن عَلَيْهِ. قَوْله: (ذَات منصب) المنصب، بِكَسْر الصَّاد: الْحسب وَالنّسب الشريف. قَالَ الْجَوْهَرِي: المنصب الأَصْل، وَكَذَلِكَ النّصاب، وَإِنَّمَا خصصها بِالذكر لِكَثْرَة الرَّغْبَة فِيهَا وعسر حُصُولهَا، وَهِي طالبة لذَلِك وَقد أغنت عَن مراودته. قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف الله) ، زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (رب الْعَالمين) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ زجرا لَهَا عَن الْفَاحِشَة، وَيحْتَمل أَن يَقُول بِقَلْبِه لزجر نَفسه. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا يصدر ذَلِك عَن شدَّة الْخَوْف من الله وَالصَّبْر عَنْهَا لخوف الله من أكمل الْمَرَاتِب وَأعظم الطَّاعَات.
قَوْله: (وَرجل تصدق) أَي: وَالسَّادِس: رجل تصدق أخْفى، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، ومفعول: أخْفى، مَحْذُوف أَي: أخْفى الصَّدَقَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد: (تصدق فأخفى) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: عَن مُسَدّد عَن يحيى (تصدق بِصَدقَة فأخفاها) ، وَمثله لمَالِك فِي (الْمُوَطَّأ) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (تصدق إخفاء) ، بِكَسْر الْهمزَة ممدودا على أَنه مصدر مَنْصُوب، على أَنه حَال بِمَعْنى مخفيا. قَوْله: (حَتَّى لَا تعلم) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا، نَحْو: مرض حَتَّى لَا يرجونه، وسرت حَتَّى تغيب الشَّمْس. قَوْله: (شِمَاله) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (لَا تعلم) . قَوْله: (مَا تنْفق يَمِينه) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين وَالشمَال للْمُبَالَغَة فِي الْإخْفَاء والإسرار بِالصَّدَقَةِ، وَضرب الْمثل بهما لقرب الْيَمين من الشمَال ولملازمتهما، وَمَعْنَاهُ: لَو قدرت الشمَال رجلا متيقظا لما علم صَدَقَة الْيَمين لمبالغته فِي الْإخْفَاء. وَقيل: المُرَاد مَنْ على شِمَاله من النَّاس.
ثمَّ إعلم أَن أَكثر الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره: (حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَهُوَ: حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله. وَقَالَ عِيَاض: هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي وصلت إِلَيْنَا من (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَالصَّوَاب الأول قلت: لِأَن السُّنَّة الْمَعْهُودَة إِعْطَاء الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، وَقد ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم وَلَا مِنْهُ، بل هُوَ من شَيْخه أَو شيخ شَيْخه: يحيى الْقطَّان، وَقد طول الْكَلَام فِيهِ، وَلَا يُنكر الْوَهم من مُسلم وَلَا مِمَّن هُوَ دونه أَو فَوْقه، وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْقلب من الْكَاتِب واستمرت الروَاة عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَرجل) أَي: وَالسَّابِع: رجل ذكر الله خَالِيا، أَي: من الْخلق، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أبعد من الرِّيَاء، وَقيل: خَالِيا من الِالْتِفَات إِلَى غَيره تَعَالَى، وَلَو كَانَ فِي الْمَلأ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ (ذكر الله بَين يَدَيْهِ) ، وَيُؤَيّد الأول رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد: (ذكر الله فِي خلاء) ، أَي: فِي مَوضِع خَال، وَقَالَ بَعضهم: (ذكر الله) أَي: بِقَلْبِه من التَّذَكُّر أَو بِلِسَانِهِ من الذّكر قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الذّكر بِالْقَلْبِ من: الذّكر، بِضَم الذَّال، وباللسان من: الذّكر، بِكَسْر الذَّال، وَأَيْضًا لفظ: ذكر بِلَا قيد، وَلَا يكون مشتقا من التَّذَكُّر، فَمن لَهُ يَد فِي علم التصريف يفهم هَذَا. قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، وَإِنَّمَا أسْند الْفَيْض إِلَى الْعين مَعَ أَن الْعين لَا تفيض، لِأَن الفائض هُوَ الدمع، مُبَالغَة كَأَنَّهَا هِيَ الفائض، وَذَلِكَ كَقَوْلِه: {وَترى أَعينهم تفيض من الدمع} (الْمَائِدَة: 83) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وفيض الْعين بِحَسب حَال الذاكر وبحسب مَا ينْكَشف لَهُ، فَفِي حَال أَوْصَاف الْجلَال يكون الْبكاء من خشيَة الله، وَفِي حَال أَوْصَاف الْجمال يكون الْبكاء من الشوق إِلَيْهِ، وَيشْهد للْأولِ مَا رَوَاهُ الجوزقي من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله) .

(5/179)


ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة الإِمَام الْعَادِل، وَقد روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عمر رَفعه: (إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا) ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أَخْفَر قوم الْعَهْد إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَمَا نقص قوم الميكال إلاَّ منعُوا الْقطر، وَلَا كثر الرب فِي قوم إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الوباء، وَمَا حكم قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط عَلَيْهِم إِمَام جَائِر) . فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ. وَفِيه: فَضِيلَة الشَّاب الَّذِي نَشأ فِي عبَادَة ربه، وَفِي الحَدِيث: (تعجب رَبك من شَاب لَيست لَهُ ضبوة) . وَفِيه: فضل من سلم من الذُّنُوب واشتغل بِطَاعَة ربه طول عمره، وَقد يحْتَج بِهِ من قَالَ: إِن الْملك أفضل من الْبشر لأَنهم: {يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} (الْأَنْبِيَاء: 20) . وَقيل لِابْنِ عَبَّاس: رجل كثير الصَّلَاة كثير الْقيام يقارف بعض الْأَشْيَاء، وَرجل يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ويصوم مَعَ السَّلامَة. قَالَ: لَا أعدل بالسلامة شَيْئا، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إلاَّ اللمم} (النَّجْم: 32) . وَفِيه: فَضِيلَة من يلازم الْمَسْجِد للصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة، لِأَن الْمَسْجِد بَيت الله وَبَيت كل تَقِيّ، وحقيق على المزور إكرام الزائر، فَكيف بأكرام الكرماء؟ وَفِيه: فَضِيلَة التحاب فِي الله تَعَالَى، فَإِن الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله من الْإِيمَان، وَعند مَالك من الْفَرَائِض، وروى ابْن مَسْعُود والبراء بن عَازِب مَرْفُوعا: إِن ذَلِك من أوثق عرى الْإِيمَان، وروى ثَابت عَن أنس رَفعه: (مَا تحاب رجلَانِ فِي الله إلاَّ كَانَ أفضلهما أشدهما حبا لصَاحبه) ، وروى أَبُو رزين، قَالَ: (قَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا رزين إِذا خلوت حرك لسَانك بِذكر الله، وَحب فِي الله وَأبْغض فِي الله، فَإِن الْمُسلم إِذا زار فِي الله شيعه سَبْعُونَ ألف ملك يَقُولُونَ: أللهم وَصله فِيك فَصله وَمن فضل المتحابين فِي الله أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا دَعَا لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب أَمن الْملك على دُعَائِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا. وَفِيه: فَضِيلَة من يخَاف الله قَالَ الله تَعَالَى: {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} (النازعات: 40، 41) . وَقَالَ: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 46) . وروى أَبُو معمر عَن سَلمَة بن نبيط عَن عبيد بن أبي الْجَعْد عَن كَعْب الْأَحْبَار، قَالَ: إِن فِي الْجنَّة، لدارا، درة فَوق درة، ولؤلؤة فَوق لؤلؤة، فِيهَا سَبْعُونَ ألف قصر، فِي كل قصر سَبْعُونَ ألف دَار، فِي كل دَار سَبْعُونَ ألف بَيت، لَا ينزلها إلاَّ نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد أَو مُحكم فِي نَفسه أَو إِمَام عَادل. قَالَ سَلمَة: فَسَأَلت عبيدا عَن: الْمُحكم فِي نَفسه: قَالَ: هُوَ الرجل يطْلب الْحَرَام من النِّسَاء أَو من المَال فيتعرض لَهُ، فَإِذا ظفر بِهِ تَركه مَخَافَة الله تَعَالَى، فَذَلِك الْمُحكم فِي نَفسه. وَفِيه: فَضِيلَة المخفي صدقته ومصداق هَذَا الحَدِيث فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} (الْبَقَرَة: 271) . وَقَالَت الْعلمَاء: هَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع، فالسر فِيهَا أفضل لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْإِخْلَاص، وَأبْعد من الرِّيَاء. وَأما الوجبة فإعلانها أفضل ليقتدي بِهِ فِي ذَلِك. وَيظْهر دعائم الْإِسْلَام، وَهَكَذَا حكم الصَّوْم فإعلان فرائضها أفضل. وَاخْتلف فِي السّنَن: كالوتر وركعتي الْفجْر، هَل إعلانهما أفضل أم كتمانهما؟ حَكَاهُ ابْن التِّين، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقد سمعنَا من بعض الْمَشَايِخ: إِن ذَلِك الْإخْفَاء أَن يتَصَدَّق على الضَّعِيف فِي صُورَة الْمُشْتَرى مِنْهُ، فيدفه لَهُ مثلا درهما فِي شَيْء يُسَاوِي نصف دِرْهَم، فالصورة مبايعة والحقيقة صَدَقَة، وَهُوَ اعْتِبَار حسن قيل: إِن أَرَادَ أَن المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث هَذِه الصُّورَة خَاصَّة، فَفِيهِ نظر. وَإِن أَرَادَ أَن هَذَا أَيْضا من صُورَة الصَّدَقَة المخفية فَمُسلم، وَفِي (مُسْند أَحْمد) رَحمَه الله، من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد حسن مَرْفُوعا: (إِن الْمَلَائِكَة قَالَت: يَا رب! هَل من خلقك شَيْء أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم، الْحَدِيد. قَالَت: فَهَل أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم، النَّار، قَالَت: فَهَل أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم، المَاء. قَالَت: فَهَل أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم، الرّيح. قَالَت: فَهَل أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم، ابْن آدم، يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ فيخفيها عَن شِمَاله) . وَفِيه: فَضِيلَة ذكر الله فِي الخلوات مَعَ فيضان الدمع من عَيْنَيْهِ، وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (لَا يلج النَّار أحد بَكَى من خشيَة الله حَتَّى يعود اللَّبن فِي الضَّرع) . وروى أَبُو عمرَان: (عَن أبي الْخلد، قَالَ: قَرَأت فِي مَسْأَلَة دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ربه تَعَالَى: إلهي مَا جَزَاء من بَكَى من خشيتك حَتَّى تسيل دُمُوعه على وَجهه؟ قَالَ: أسلم وَجهه من لفح النَّار) . وروى الْحَاكِم من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (من ذكر الله فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله حَتَّى يُصِيب الأَرْض من دُمُوعه لم يعذب يَوْم الْقِيَامَة) .

661 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أنَسٌ هِلِ اتَّخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاتَما فَقَالَ نَعَمْ أخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ

(5/180)


بَعْدَ مَا صَلَّى فقالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خاتَمِهِ.

مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة) ، وَفِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: (وَلم تزالوا فِي صَلَاة مُنْذُ انتظرتموها) .
وَرِجَاله: قُتَيْبَة بن سعيد، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَحميد هُوَ الطَّوِيل. وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، عَن عبد الرَّحِيم الْمحَاربي عَن زَائِدَة عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس قَالَ: (أخر النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ صلى، ثمَّ قَالَ: قد صلوا النَّاس وناموا، أما إِنَّكُم فِي صَلَاة مَا انتظرتموها) . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِلَى شطر اللَّيْل) أَي: نصفه، على مَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (وبيص خَاتمه) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالصاد الْمُهْملَة، وَهُوَ: بريق الْخَاتم ولمعانه.

37 - (بابُ فَضْل منْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ ومنْ راحَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من يخرج إِلَى الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (من خرج) ، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب فضل من غَدا إِلَى الْمَسْجِد، مُوَافقا للفظ الحَدِيث. وَقَالَ ابْن سَيّده: الغدوة: البكرة علم للْوَقْت، والغداة كالغدوة وَجَمعهَا غدوات. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: غدية لُغَة فِي غدْوَة، كضحية لُغَة فِي ضحوة. والغد وَجمع غَدَاة نادرة، وَغدا عَلَيْهِ غدوا وغدوا، واغتدى: بكر، وغاداه: باكره. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الغدوة إسم سمي بِهِ الْوَقْت فَجعل معرفَة لذَلِك وَصَارَ إسما لشَيْء بِعَيْنِه. وَقَالَ الْخَلِيل: الغدو الْجمع مثل الغدوات، وَجمع غدْوَة غداو، وَفِي (الصِّحَاح) : الغدوة مَا بَين صَلَاة الْغَدَاة وَبَين طُلُوع الشَّمْس، والغدو نقيض الرواح، وَزعم ابْن قرقول أَنه قد اسْتعْمل الغدوة والرواح فِي جَمِيع النَّهَار. وَفِي (الْمُحكم) : الرواح: الْعشي. وَقيل: من لدن زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل، ورحنا رواحا وتروَّحنا: سرنا فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو: عَملنَا. وَفِي (الصِّحَاح) : الرواح نقيض الصَّباح، وَهُوَ اسْم للْوَقْت. وَيُقَال: الغدو: السّير فِي أول النَّهَار إِلَى زَوَال الشَّمْس، والرواح من الزَّوَال إِلَى آخر النَّهَار، وَيُقَال: غَدا: خرج مبكرا، وَرَاح: رَجَعَ. وَقد يستعملان فِي الْخُرُوج وَالرُّجُوع مُطلقًا توسعا.

662 - حدَّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ هارُونَ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ عنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ ورَاحَ أعَدَّ الله لَهُ نُزُلاً منَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أَو راحَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: يزِيد بن هَارُون بن زَاذَان الوَاسِطِيّ، تقدم. الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء وَكسر الرَّاء وبالفاء: أَبُو غَسَّان اللَّيْثِيّ الْمدنِي. الرَّابِع: زيد بن أسلم، بِلَفْظ الْمَاضِي، مولى عمر بن الْخطاب الْمدنِي. الْخَامِس: عَطاء ابْن يسَار، ضد الْيَمين. أَبُو مُحَمَّد الْهِلَالِي، مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أعد) من الإعداد وَهُوَ التهيئة. قَوْله: (نزلا) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الزَّاي وَضمّهَا وَهِي: مَا يهيأ من الْأَشْيَاء للقادم، وَنزلا بالتنكير رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: نزله، بِالْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَابْن خُزَيْمَة وَأحمد مثل رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (كلما غَدا أَو رَاح) أَي: بِكُل غدْوَة وروحة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض الرِّوَايَات: وَرَاح، بواو الْعَطف، وَالْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه على: الْوَاو، لَا بُد لَهُ من الْأَمريْنِ حَتَّى يعد لَهُ

(5/181)


النزل، وعَلى كلمة: أَو، يَكْفِي أَحدهمَا فِي الإعداد. وَقَالَ بَعضهم: الغدو والرواح فِي الحَدِيث كالبكرة والعشي. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} (مَرْيَم: 62) . يُرَاد بهَا: الديمومة، لَا الوقتان المعينان. وَالله تَعَالَى أعلم.