عمدة القاري شرح صحيح البخاري

49 - (بابٌ إذَا اسْتَوَوْا فِي القِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أكْبَرُهُمْ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا اسْتَووا ... إِلَى آخِره، يَعْنِي إِذا اسْتَوَى الْحَاضِرُونَ للصَّلَاة فِي الْقِرَاءَة فليؤمهم من كَانَ أكبر السن مِنْهُم.

685 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِث قَالَ قدِمْنا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونَحْنُ شَبَبَة فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةٍ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحِيما فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذا وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة وَإِن لم تذكر فِي الحَدِيث صَرِيحًا استواؤهم فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ اقْتِضَاء الْقِصَّة هَذَا الْقَيْد، لأَنهم أَسْلمُوا وَهَاجرُوا مَعًا، وصحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين لَيْلَة واستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ، فَلم يبْق مِمَّا يقدم بِهِ إلاّ السن. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التَّرْجَمَة منتزعة من حَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى، فَإِن كَانَت قراءتهم سَوَاء فليؤمهم أقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء فليؤمهم أكبرهم سنا) . انْتهى. قلت: مَا أبعد هَذَا الْوَجْه لبَيَان التطابق بَين الحَدِيث والترجمة، فَكيف يضع تَرْجَمَة لحَدِيث أخرجه غَيره، وَالْمَطْلُوب من التطابق أَن يكون بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب؟
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، مضى ذكرهم غير مرّة، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة هُوَ عبد الله بن زيد الْجرْمِي، وَقد مضى حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث هَذَا فِي: بَاب من قَالَ ليؤذن فِي السّفر مُؤذن وَاحِد، أخرجه عَن مُعلى بن أَسد عَن وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر من قومِي) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع متعلقات الحَدِيث مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَنحن شببة) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، و: الشببة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة والباءين الموحدتين: جمع شَاب وَفِي رِوَايَة فِي الْأَدَب: (شببة متقاربون) ، أَي: فِي السن. قَوْله: (نَحوا من عشْرين) ، وَفِي رِوَايَة هُنَاكَ: (عشْرين لَيْلَة) ، بِتَعْيِين الْعشْرين جزما، وَالْمرَاد بأيامها، كَمَا وَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي خبر الْوَاحِد من طَرِيق عبد الْوَهَّاب: عَن أَيُّوب. قَوْله: (رحِيما) ، وَفِي رِوَايَة ابْن علية وَعبد الْوَهَّاب: (رحِيما رَقِيقا) . قَوْله: (لَو رجعتم) ، جَوَاب: لَو. قَوْله: (مُرُوهُمْ) ، وَقَوله: (فعلمتوهم) ، عطف على قَوْله: (رجعتم) ، وَيجوز أَن يكون جَوَاب: لَو، محذوفا تَقْدِيره: لَو رجعتم لَكَانَ خيرا لكا إِن 4 اقال، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك لِأَنَّهُ على مِنْهُم أَنهم اشتأقوا إِلَى أَهْليهمْ وأؤلادهم، وَالدَّلِيل على هَذَا رِوَايَة عبد الْوَهَّاب: (فَظن أَنا اشتقنا إِلَى أَهْلينَا) الحَدِيث. فَقَالَ ذَلِك على طَرِيق الإيناس، لِأَن فِي الْأَمر بِالرُّجُوعِ بِغَيْر هَذَا الْوَجْه تنفيرا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتحاشى عَن ذَلِك، ثمَّ على تَقْدِير أَن يكون جَوَاب: لَو، محذوفا يكون قَوْله: (مُرُوهُمْ) استئنافا، كَأَن سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا نعلمهُمْ؟ فَقَالَ: مُرُوهُمْ بالطاعات كَذَا وَكَذَا، وَالْأَمر بهَا مُسْتَلْزم للتعليم. قَوْله: (وليؤمكم أكبركم) ، يَعْنِي: بِالسِّنِّ عِنْد التَّسَاوِي فِي شُرُوط الْإِمَامَة، وإلاّ فالأسن إِذا وجد وَكَانَ مِنْهُم من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ وَلكنه أَقرَأ قدم الأقرأ، كَمَا فِي حَدِيث عَمْرو بن سَلمَة، وَكَانَ قد أم قومه فِي مَسْجِد عشيرته وَهُوَ صَغِير وَفِيهِمْ الشُّيُوخ والكهول، وَلَكِن قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ تَقْدِيم الأقرأ فِي ذَلِك الزَّمَان لِأَن كَانَ فِي أول الْإِسْلَام حِين كَانَ الْحفاظ قَلِيلا، وَتَقْدِيم عَمْرو كَانَ لذَلِك، أَو نقُول: لَا يكَاد يُوجد قارىء، إِذْ ذَاك إلاّ وَهُوَ فَقِيه، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ.

(5/212)


50 - (بابٌ إِذا زَارَ الإمامُ قَوْما فَأمَّهُمْ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا زار الإِمَام أَي: الإِمَام الْأَعْظَم، أَو من يجْرِي مجْرَاه، إِذا زار قوما فَأمهمْ فِي الصَّلَاة، وَلم يبين حكمه فِي التَّرْجَمَة: هَل للْإِمَام ذَلِك أم يحْتَاج إِلَى إِذن الْقَوْم؟ فَاكْتفى بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب فَإِنَّهُ يشْعر بالاستئذان كَمَا سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

686 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ أسَدٍ قَالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله قَالَ أخْبرنا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي محْمُودُ بنُ الرَّبِيعَ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ الأنْصَارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فأشَرْتُ لَهُ إلَى المَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فقامَ وَصَفَفْنا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلمْنا.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالَ: أَيْن تحب أَن أُصَلِّي) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن أَمريْن: أَحدهمَا: قصدا، وَهُوَ تعْيين الْمَكَان من صَاحب الْمنزل. وَالْآخر: ضمنا، وَهُوَ الاسْتِئْذَان بِالْإِمَامَةِ فَإِن قلت: الإِمَام الْأَعْظَم سُلْطَان على الْمَالِك فَلَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان؟ قلت: فِي الاسْتِئْذَان رِعَايَة الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث أبي مَسْعُود: (لَا يؤم الرجل الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا يجلس على تكرمته إلاّ بِإِذْنِهِ) ، فَإِن مَالك الشَّيْء سُلْطَان عَلَيْهِ، وَقد نقل بَعضهم هُنَا وَجْهَيْن فِي ذكر التَّرْجَمَة، وَفِيهِمَا عسف وَبعد، وَالْوَجْه مَا ذكرته.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: معَاذ بن أَسد أَبُو عبد الله الْمروزِي نزيل الْبَصْرَة، وَلَيْسَ هُوَ أَخا لمعلى بن أَسد أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أَيْضا، وَكَانَ معَاذ الْمَذْكُور كَاتبا لعبد الله بن الْمُبَارك وَهُوَ شَيْخه فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَحكى عَنهُ البُخَارِيّ أَنه قَالَ فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. أَنا ابْن إِحْدَى وَسبعين سنة، كَأَنَّهُ ولد سنة خمسين وَمِائَة. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: معمر بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: مَحْمُود بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء: أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ أَبُو نعيم، عقل مجة مجها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجهه من دلو فِي دَارهم، ذكره الذَّهَبِيّ فِي كتاب (تَجْرِيد الصَّحَابَة) مِنْهُم، وَقد تقدم فِي بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت. السَّادِس: عتْبَان بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ والصحابي عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزيين والبصري وَالْمَدَنِي.
وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه، وَمن أخرجه غَيره فِي: بَاب إِذا دخل بَيْتا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَبَقِيَّة مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت.
قَوْله: (وصففنا خَلفه) ، بِفَتْح الْفَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة: جمع الْمُتَكَلّم، ويروى: (وَصفنَا) ، بتَشْديد الْفَاء أَي: صففنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَلفه.

51 - (بابٌ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم أَي: ليقتدي بِهِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة قِطْعَة من حَدِيث مَالك من أَحَادِيث الْبَاب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وصَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرَضِه الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهْوَ جَالِس
هَذَا التَّعْلِيق تقدم مُسْندًا من حَدِيث عَائِشَة فَإِن قلت: هَذَا لَا دخل لَهُ فِي التَّرْجَمَة، فَمَا فَائِدَة ذكره؟ قلت: إِنَّه يُشِير بِهِ إِلَى أَن التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قِطْعَة من الحَدِيث عَام يَقْتَضِي مُتَابعَة الْمَأْمُوم الإِمَام مُطلقًا، وَقد لحقه دَلِيل الْخُصُوص، وَهُوَ حَدِيث

(5/213)


عَائِشَة: (فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ وَهُوَ جَالس وَالنَّاس خَلفه قيام، وَلم يَأْمُرهُم بِالْجُلُوسِ) ، فَدلَّ على دُخُول التَّخْصِيص فِي عُمُوم قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) .
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ إذَا رَفَعَ قَبْلَ الإمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإمَام
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن هشيم أخبرنَا حُصَيْن عَن هِلَال بن يسَار عَن أبي حَيَّان الْأَشْجَعِيّ، وَكَانَ من أَصْحَاب عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا تبَادرُوا أئمتكم بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود، وَإِذا رفع أحدكُم رَأسه وَالْإِمَام ساجد فليسجد ثمَّ ليمكث قدر مَا سبقه بِهِ الإِمَام) . وروى عبد الرَّزَّاق عَن عمر نَحْو قَول ابْن مَسْعُود بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه: (إيما رجل رفع رَأسه قبل الإِمَام فِي رُكُوع أَو سُجُود فليضع رَأسه بِقدر رَفعه إِيَّاه) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن لَهِيعَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روينَاهُ عَن إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ أَنه يعود فَيسْجد، وَحكى ابْن سَحْنُون عَن أَبِيه نَحوه، وَمذهب مَالك أَن من خفض أَو رفع قبل إِمَامه أَنه يرجع فيفعل مَا دَامَ إِمَامه لم يرفع من ذَلِك، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ نَحوه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْنه: من ركع أَو سجد قبل إِمَامه لَا صَلَاة لَهُ، وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: إِذا ركع أَو سجد قبله فَإِن إدركه الإِمَام فيهمَا أَسَاءَ، ويجزيه حَكَاهُ ابْن بطال، وَلَو أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فَكبر مقتديا بِهِ ووقف حَتَّى رفع الإِمَام رَأسه فَرَكَعَ، لَا يجْزِيه عندنَا، خلافًا لزفَر.
وقالَ الحَسنُ فيمَنْ يَرْكَعُ معَ الإمَامِ ركْعَتَيْنِ ولاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا وفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةٍ حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَالَّذِي قَالَه مَسْأَلَتَانِ: الأولى: قَوْله: (فِيمَن يرْكَع) إِلَى قَوْله: (بسجودها) ، وَوَصلهَا سعيد ب) مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس عَن الْحسن، وَلَفظه: (فِي الرجل يرْكَع يَوْم الْجُمُعَة فيزحمه النَّاس فَلَا يقدر على السُّجُود، قَالَ: إِذا فرغوا من صلَاتهم سجد سَجْدَتَيْنِ لركعته الأولى، ثمَّ يقوم فَيصَلي رَكْعَة وسجدتين) . قَوْله: (وَلَا يقدر على السُّجُود) أَي: لزحام وَنَحْوه على السُّجُود بَين الرَّكْعَتَيْنِ، وَقد فسره فِيمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بقوله: (فِي الرجل يرْكَع يَوْم الْجُمُعَة فيزاحمه النَّاس فَلَا يقدر على السُّجُود) ، وَإِنَّمَا ذكر يَوْم الْجُمُعَة فِي هَذَا، وَإِن كَانَ الحكم عَاما، لِأَن الْغَالِب فِي يَوْم الْجُمُعَة ازدحام النَّاس. قَوْله: (الْآخِرَة) ، ويروى: (الْأَخِيرَة) ، وَإِنَّمَا قَالَ: الرَّكْعَة الأولى دون الثَّانِيَة لاتصال الرُّكُوع الثَّانِي بِهِ. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قَوْله: (وفيمن نسي سَجْدَة) أَي: قَالَ الْحسن فِيمَن نسي سَجْدَة من أول صلَاته. قَوْله: (يسْجد) يَعْنِي: يطْرَح الْقيام الَّذِي فعله على غير نظم الصَّلَاة وَيجْعَل وجوده كَالْعدمِ، وَوَصلهَا ابْن أبي شيبَة بأتم مِنْهُ، وَلَفظه: (فِي رجل نسي سَجْدَة من أول صلَاته فَلم يذكرهَا حَتَّى كَانَ آخر رَكْعَة من صلَاته، قَالَ: يسْجد ثَلَاث سَجدَات، فَإِن ذكرهَا قبل السَّلَام يسْجد سَجْدَة وَاحِدَة، وَإِن ذكرهَا بعد انْقِضَاء الصَّلَاة يسْتَأْنف الصَّلَاة) فَإِن قلت: مَا مُطَابقَة الْمَرْوِيّ عَن الْحسن للتَّرْجَمَة؟ قلت: مطابقته لَهَا من حَيْثُ إِن فِيهِ مُتَابعَة الإِمَام بِوُجُود بعض الْمُخَالفَة فِيهِ، وَقَالَ مَالك فِي مَسْأَلَة الزحام: لَا يسْجد على ظهر أحد، فَإِن خَالف يُعِيد، وَقَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يسْجد وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ.
78 - (حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس قَالَ حَدثنَا زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة قَالَ دخلت على عَائِشَة فَقلت أَلا تحدثيني عَن مرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت بلَى ثقل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أصلى النَّاس قُلْنَا لَا هم ينتظرونك قَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب قَالَت فَفَعَلْنَا فاغتسل فَذهب لينوء فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصلى النَّاس قُلْنَا لَا هم ينتظرونك يَا رَسُول الله قَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب قَالَت فَقعدَ فاغتسل ثمَّ ذهب لينوء

(5/214)


فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ أصلى النَّاس فَقُلْنَا لَا وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله فَقَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب فَقعدَ فاغتسل ثمَّ ذهب لينوء فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ أصلى النَّاس فَقُلْنَا لَا هم ينتظرونك يَا رَسُول الله وَالنَّاس عكوف فِي الْمَسْجِد ينتظرون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة فَأرْسل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أبي بكر بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُول فَقَالَ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرك أَن تصلي بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بكر وَكَانَ رجلا رَقِيقا يَا عمر صل بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ عمر أَنْت أَحَق بذلك فصلى أَبُو بكر تِلْكَ الْأَيَّام ثمَّ إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجد من نَفسه خفَّة فَخرج بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا الْعَبَّاس لصَلَاة الظّهْر وَأَبُو بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر ذهب ليتأخر فَأَوْمأ إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن لَا يتَأَخَّر قَالَ أجلساني إِلَى جنبه فأجلساه إِلَى جنب أبي بكر قَالَ فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّاس بِصَلَاة أبي بكر وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاعد قَالَ عبيد الله فَدخلت على عبد الله بن عَبَّاس فَقلت لَهُ أَلا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثتنِي عَائِشَة عَن مرض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ هَات فعرضت عَلَيْهِ حَدِيثهَا فَمَا أنكر مِنْهُ شَيْئا غير أَنه قَالَ أسمعت لَك الرجل الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاس قلت لَا قَالَ هُوَ عَليّ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَكَون الإِمَام جعل ليؤتم بِهِ ظَاهر هَهُنَا. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي. الثَّانِي زَائِدَة بن قدامَة الْبكْرِيّ الْكُوفِي. الثَّالِث مُوسَى بن أبي عَائِشَة الْهَمدَانِي أَبُو بكر الْكُوفِي. الرَّابِع عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْهُذلِيّ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين. الْخَامِس أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة كوفيون وَفِيه شيخ البُخَارِيّ مَذْكُور باسم جده. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أخرجه هَذَا الحَدِيث مقطعا وَمُطَولًا ومختصرا فِي مَوَاضِع عديدة قد ذكرنَا أَكْثَرهَا وَأخرجه هُنَا عَن أَحْمد بن يُونُس وَوَافَقَهُ فِي ذَلِك مُسلم وَأخرجه عَن زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن ابْن عَبَّاس الْعَنْبَري عَن ابْن مهْدي عَن زَائِدَة بِهِ وَفِي الْوَفَاة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَائِدَة (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَلا " للعرض والاستفتاح قَوْله " بلَى " بِمَعْنى نعم أحَدثك قَوْله " لما ثقل " بِضَم الْقَاف يَعْنِي لما اشْتَدَّ مَرضه وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب وَفِي حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة وَغَيرهمَا وَنَذْكُر هَهُنَا بعض شَيْء مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ لسرعة الْوُقُوف عَلَيْهِ قَوْله " أصلى النَّاس " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام والاستخبار قَوْله " فَقُلْنَا لَا " ويروى " قُلْنَا " بِدُونِ الْفَاء قَوْله " وهم ينتظرونك " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " ضَعُوا لي مَاء " بِاللَّامِ وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي " ضعوني " بالنُّون والكرماني ذهل عَن رِوَايَة الْجُمْهُور الَّتِي هِيَ بِاللَّامِ وَسَأَلَ على رِوَايَة النُّون فَقَالَ الْقيَاس بِاللَّامِ لَا بالنُّون لِأَن المَاء مفعول وَهُوَ لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعولين ثمَّ أجَاب بِأَن الْوَضع ضمن معنى الإيتاء أَو لفظ المَاء تَمْيِيز عَن المخضب مقدم عَلَيْهِ أَن جَوَّزنَا التَّقْدِيم أَو هُوَ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض (قلت) كل هَذَا تعسف إِلَّا معنى التَّضْمِين فَلهُ وَجه قَوْله " فِي المخضب " بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ المركن أَي الاجانة قَوْله " فَفَعَلْنَا فاغتسل " ويروى " فَفَعَلْنَا فَقعدَ فاغتسل " قَوْله " فَذهب " بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " ثمَّ ذهب " قَوْله " لينوء " بِضَم النُّون بعْدهَا همزَة أَي لينهض بِجهْد وَقَالَ الْكرْمَانِي وينوء كيقوم

(5/215)


لفظا وَمعنى قَوْله " فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ " فِيهِ أَن الْإِغْمَاء جَائِز على الْأَنْبِيَاء لِأَنَّهُ شَبيه بِالنَّوْمِ وَقَالَ النَّوَوِيّ لِأَنَّهُ مرض من الْأَمْرَاض بِخِلَاف الْجُنُون فَإِنَّهُ لم يجز عَلَيْهِم لِأَنَّهُ نقص (قلت) الْعقل فِي الْإِغْمَاء يكون مَغْلُوبًا وَفِي الْمَجْنُون يكون مسلوبا قَوْله " قُلْنَا لَا " يَعْنِي لم يصلوا قَوْله " هم ينتظرونك " جملَة اسمية وَقعت حَالا بِلَا وَاو وَهُوَ جَائِز وَقد وَقع فِي الْقُرْآن نَحْو قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} وَكَذَلِكَ هم ينتظرونك الثَّانِي قَوْله " لصَلَاة الْعشَاء " كَذَا بِاللَّامِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني " الصَّلَاة الْعشَاء الْآخِرَة " قَوْله " عكوف " بِضَم الْعين جمع العاكف أَي مجتمعون وأصل العكف اللّّبْث وَمِنْه الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ لبث فِي الْمَسْجِد قَوْله " تِلْكَ الْأَيَّام " أَي الَّتِي كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مَرِيضا غير قَادر على الْخُرُوج قَوْله " لصَلَاة الظّهْر " هُوَ صَرِيح فِي أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة كَانَت صَلَاة الظّهْر وَزعم بَعضهم أَنَّهَا الصُّبْح قَوْله " أجلساني " من الإجلاس قَوْله " وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي وَرِوَايَة الْأَكْثَرين " فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ قَائِم " من الْقيام قَوْله " بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ويروى " بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَقد قَالَ الشَّافِعِي بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل بِالنَّاسِ فِي مرض مَوته فِي الْمَسْجِد إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَهِي هَذِه الَّتِي صلى فِيهَا قَاعِدا وَكَانَ أَبُو بكر فِيهَا إِمَامًا ثمَّ صَار مَأْمُوما يسمع النَّاس التَّكْبِير قَوْله " أَلا أعرض " الْهمزَة للاستفهام وَلَا للنَّفْي وَلَيْسَ حرف التَّنْبِيه وَلَا حرف التحضيض بل هُوَ اسْتِفْهَام للعرض (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَقد ذكرنَا أَكثر فَوَائِد هَذَا الحَدِيث فِي بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة وَنَذْكُر أَيْضا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ فِيهِ دَلِيل على أَن اسْتِخْلَاف الإِمَام الرَّاتِب إِذا اشْتَكَى أولى من صلَاته بالقوم قَاعِدا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتخْلف أَبَا بكر وَلم يصل بهم قَاعِدا غير مرّة وَاحِدَة وَفِيه صِحَة إِمَامَة الْمَعْذُور لمثله وَفِيه دَلِيل على صِحَة إِمَامَة الْقَاعِد للقائم أَيْضا خلافًا لما رُوِيَ عَن مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ ولمحمد بن الْحسن وَقَالا فِي ذَلِك أَن الَّذِي نقل عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ خَاصّا بِهِ وَاحْتج مُحَمَّد أَيْضا بِحَدِيث جَابر عَن الشّعبِيّ مَرْفُوعا " لَا يُؤمن أحد بعدِي جَالِسا " أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لم يروه عَن الشّعبِيّ غير جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَتْرُوك والْحَدِيث مُرْسل لَا تقوم بِهِ حجَّة وَقَالَ بن بزيزة لَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد مِنْهُ الصَّلَاة بالجالس (قلت) يَعْنِي يَجْعَل جَالِسا مَفْعُولا لَا حَال وَهَذَا خلاف ظَاهر التَّرْكِيب فِي زعم المحتج بِهِ وَزعم عِيَاض نَاقِلا عَن بعض الْمَالِكِيَّة أَن الحَدِيث الْمَذْكُور يدل على نسخ الْأَمر الْمُتَقَدّم لَهُم بِالْجُلُوسِ لما صلوا خَلفه قيَاما ورد بِأَن ذَلِك على تَقْدِير صِحَّته يحْتَاج إِلَى تَارِيخ ثمَّ اعْلَم أَن جَوَاز صَلَاة الْقَائِم خلف الْقَاعِد هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور (فَإِن قلت) روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالْأَرْبَعَة عَن أنس قَالَ " سقط رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن فرس " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا " وروى البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم عَن عَائِشَة قَالَت " اشْتَكَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدخل عَلَيْهِ نَاس من أَصْحَابه " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا " (قلت) هَؤُلَاءِ يجْعَلُونَ هذَيْن الْحَدِيثين منسوخين بِحَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم أَنه صلى آخر صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس خَلفه قيام وَأَيْضًا أَن تِلْكَ الصَّلَاة كَانَت تَطَوّعا والتطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض وَقد صرح بذلك فِي بعض طرقه كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ " ركب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرسا لَهُ فِي الْمَدِينَة فصرعه على جذع نَخْلَة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه فِي مشربَة لعَائِشَة يسبح جَالِسا قَالَ فقمنا خَلفه فَسكت عَنَّا ثمَّ أتيناه مرّة أُخْرَى نعوده فصلى الْمَكْتُوبَة جَالِسا فقمنا خَلفه فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا قَالَ فَلَمَّا قضى الصَّلَاة قَالَ إِذا صلى الإِمَام جَالِسا فصلوا جُلُوسًا فَإِذا صلى قَائِما فصلوا قيَاما وَلَا تَفعلُوا كَمَا يفعل أهل الْفَارِس بعظمائها " وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه كَذَلِك ثمَّ قَالَ وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن مَا فِي حَدِيث حميد عَن أنس أَنه صلى بهم قَاعِدا وهم قيام أَنه إِنَّمَا كَانَت الصَّلَاة سبْحَة فَلَمَّا حضرت الْفَرِيضَة أَمرهم بِالْجُلُوسِ فجلسوا فَكَانَ أَمر فَرِيضَة لَا فَضِيلَة (قلت) وَمِمَّا يدل على أَن التطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أنس قَالَ " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إياك والالتفات فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ هلكة فَإِن كَانَ لَا بُد فَفِي التَّطَوُّع لَا فِي الْفَرِيضَة " وَقَالَ حَدِيث حسن -

(5/216)


688 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أمّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ صلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسا وصَلَّى وَرَاءهُ قَوْمٌ قِياما فَأشَارَ إلَيْهِمْ أنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذَا رفَعَ فارْفَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ وإذَا صَلَّى جَالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة هِيَ بِعَينهَا. قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة، وَفِي السَّهْو عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي بَيته) أَي: فِي الْمشْربَة الَّتِي فِي حجرَة عَائِشَة، كَمَا بَينه أَبُو سُفْيَان عَن جَابر، وَهَذَا يدل على أَن تِلْكَ الصَّلَاة لم تكن فِي الْمَسْجِد، وَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجز عَن الصَّلَاة بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ يُصَلِّي فِي بَيته بِمن حضر، لكنه لم ينْقل أَنه اسْتخْلف، وَمن ثمَّة قَالَ عِيَاض: إِنَّه الظَّاهِر أَنه صلى فِي حجرَة عَائِشَة وَأتم بِهِ من حضر عِنْده، وَمن كَانَ فِي الْمَسْجِد. وَهَذَا الَّذِي قَالَه يحْتَمل، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون اسْتخْلف، وَإِن لم ينْقل. لَكِن يلْزم على الأول أَن تكون صَلَاة الإِمَام أَعلَى من صَلَاة الْمَأْمُومين، وَمذهب عِيَاض خِلَافه. قلت: لَهُ أَن يَقُول: إِنَّمَا يمْنَع كَون الإِمَام أَعلَى من الْمَأْمُوم، إِذا لم يكن مَعَه أحد، وَكَانَ مَعَه هُنَا بعض الصَّحَابَة. قَوْله: (وَهُوَ شَاك) ، بتَخْفِيف الْكَاف وَأَصله: شاكي. نَحْو: قاضٍ، وَأَصله قَاضِي، استثقلت الضمة على الْيَاء فحذفت فَصَارَت: شَاك، وَهُوَ: من الشكاية وَهِي: الْمَرَض، وَالْمعْنَى هُنَا: شَاك عَن مزاجه لانحرافه عَن الصِّحَّة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الشكو والشكوى والشكاة والشكاية: الْمَرَض. قَوْله: (فصلى جَالِسا) أَي: حَال كَونه جَالِسا. وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَن يكون أَصَابَهُ من السقطة رض فِي الْأَعْضَاء مَنعه من الْقيام، ورد هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَت قدمه منفكة، كَمَا فِي رِوَايَة بشر بن الْمفضل: عَن حميد عَن أنس عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا لأبي دَاوُد وَابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ: (ركب رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرسا بِالْمَدِينَةِ فصرعه على جذع نَخْلَة فانفكت قدمه، فأتيناه نعوده فوجدناه فِي مشربَة لعَائِشَة. .) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَفِي رِوَايَة يزِيد بن حميد: (جحش سَاقه أَو كتفه) ، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أنس: (جحش شقَّه الْأَيْمن) ، وَالْحَاصِل هُنَا أَن عَائِشَة أبهمت الشكوى، وَبَين جَابر وَأنس السَّبَب وَهُوَ: السُّقُوط عَن الْفرس، وَعين جَابر الْعلَّة فِي الصَّلَاة قَاعِدا وَهِي انفكاك الْقدَم فَإِن قلت: وَقعت الْمُخَالفَة بَين هَذِه الرِّوَايَات فَمَا التَّوْفِيق بَينهَا؟ قلت: يحْتَمل وُقُوع هَذَا كُله قَوْله: (فَأَشَارَ عَلَيْهِم) ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ بِلَفْظ: عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فَأَشَارَ إِلَيْهِم) ، وروى أَيُّوب عَن هِشَام بِلَفْظ: (فَأَوْمأ إِلَيْهِم) ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن هِشَام بِلَفْظ: (فأخلف بِيَدِهِ يومي بهَا إِلَيْهِم) . قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة. قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) أَي: ليقتدى بِهِ وَيتبع، وَمن شَأْن التَّابِع أَن لَا يسْبق متبوعه وَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ فِي موقفه ويراقب أَحْوَاله. قَوْله: (فَإِذا ركع) أَي: الإِمَام (فاركعوا) ، الْفَاء فِيهِ وَفِي قَوْله: (فاسجدوا) ، للتعقيب، وَيدل على أَن الْمُقْتَدِي لَا يسْبق الإِمَام بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود حَتَّى إِذا سبق الإِمَام فيهمَا وَلم يلْحق الإِمَام فَسدتْ صلَاته، وَالدَّلِيل على أَن الْفَاء للتعقيب مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا تبَادرُوا الإِمَام إِذا كبر فكبروا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، من رِوَايَة مُصعب بن مُحَمَّد عَن أبي صَالح: (لَا تركعوا حَتَّى يرْكَع وَلَا تسجدوا حَتَّى يسْجد) . قَوْله: (وَإِذا رفع) أَي: الإِمَام راسه (فارفعوا) رؤسكم. فَإِن قلت: الْفَاء الَّتِي للتعقيب هِيَ الْفَاء العاطفة، وَالْفَاء الَّتِي هُنَا للربط فَقَط لِأَنَّهَا وَقعت جَوَابا للشّرط، فعلى هَذَا لَا تَقْتَضِي تَأَخّر أَفعَال الْمَأْمُوم عَن الإِمَام؟ قلت: وَظِيفَة الشَّرْط التَّقَدُّم على الْجَزَاء، مَعَ أَن رِوَايَة أبي دَاوُد تصرح بِانْتِفَاء التَّقَدُّم والمقارنة، وَلَا اعْتِبَار لقَوْل من يَقُول: إِن الْجَزَاء يكون مَعَ الشَّرْط. قَوْله: (فَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده) . قَوْله: سمع الله، مجَاز عَن الْإِجَابَة، والإجابة مجَاز عَن الْقبُول، فَصَارَ هَذَا مجَاز الْمجَاز، وَالْهَاء فِي: حَمده، هَاء السكتة والاستراحة لَا للكناية. قَوْله: (رَبنَا وَلَك الْحَمد) ، جَمِيع الرِّوَايَات فِي حَدِيث عَائِشَة

(5/217)


بِإِثْبَات الْوَاو، وَكَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأنس إلاّ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ فِي بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، والكشميهني بِحَذْف الْوَاو، وَمِنْهُم من رجح إِثْبَات الْوَاو لِأَن فِيهَا معنى زَائِدا لكَونهَا عاطفة على مَحْذُوف تَقْدِيره: يَا رَبنَا استجب، أَو: يَا رَبنَا أطعناك وَلَك الْحَمد، فيشتمل على الدُّعَاء وَالثنَاء مَعًا. وَمِنْهُم من رجح حذفهَا لِأَن الأَصْل عدم التَّقْدِير فَتَصِير عاطفة على كَلَام غير تَامّ. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَالْأول أوجه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثبتَتْ الراوية بِإِثْبَات الْوَاو وحذفها، والوجهان جائزان بِغَيْر تَرْجِيح. قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا) أَي: حَال كَونه جَالِسا. قَوْله: (فصلوا جُلُوسًا) أَي: جالسين، وَهُوَ أَيْضا حَال. قَوْله: (أَجْمَعُونَ) ، تَأْكِيد للضمير الَّذِي فِي: صلوا، كَذَا وَقع بِالْوَاو فِي جَمِيع الطّرق فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاّ أَن الروَاة اخْتلفُوا فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة فَقَالَ بَعضهم: أَجْمَعِينَ، بِالْيَاءِ فوجهه أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال، أَي: جُلُوسًا مُجْتَمعين، أَو يكون تَأْكِيدًا لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: يكون نصبا على التَّأْكِيد لضمير مُقَدّر مَنْصُوب، كَأَنَّهُ قَالَ: أعنيكم أَجْمَعِينَ. قلت: هَذَا تعسف جدا، لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يصحح هَذَا التَّقْدِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ جَوَاز صَلَاة القائمين وَرَاء الْجَالِس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب. الثَّانِي: فِيهِ وجوب مُتَابعَة الْمَأْمُوم الإِمَام حَتَّى فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَقَالَ الشَّافِعِي: يتبع فِي الْمُوَافقَة لَا فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مُتَابعَة الإِمَام وَاجِبَة فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة بِخِلَاف النِّيَّة؛ وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يسْتَدلّ من هَذَا الحَدِيث على عدم دُخُولهَا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحصْر فِي الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَفعاله لَا فِي جَمِيع أَحْوَاله، كَمَا لَو كَانَ مُحدثا أَو حَامِل نَجَاسَة، فَإِن الصَّلَاة خَلفه تصح لمن لم يعلم حَاله على الصَّحِيح. قلت: لَا دلَالَة فِيهِ على الْحصْر، بل يدل الحَدِيث على وجوب الْمُتَابَعَة مُطلقًا، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ مَعَ وجود الْمُتَابَعَة لَيْسَ شَيْء مِنْهَا شرطا فِي صِحَة الْقدْوَة إلاَّ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَاخْتلف فِي السَّلَام، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة اشْتِرَاطه مَعَ الْإِحْرَام وَالْقِيَام من التَّشَهُّد الأول. انْتهى. (قُلْنَا) : تَكْفِي الْمُقَارنَة، لِأَن معنى الائتمام: الِامْتِثَال، وَمن فعل مثل مَا فعل إِمَامه صَار ممتثلاً. الثَّالِث: اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بقوله: (وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد) على أَن وَظِيفَة الإِمَام: التسميع ووظيفة الْمَأْمُوم: التَّحْمِيد، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم، وَالْقِسْمَة تنَافِي الشّركَة، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة يَأْتِي الإِمَام بهما، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم وَأما الْمُؤْتَم فَلَا يَقُول إلاّ: رَبنَا وَلَك الْحَمد، لَيْسَ إلاّ عندنَا، وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجمع بَينهمَا.

689 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَن انس ابْن مَالك أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركِبَ فَرَسا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ قاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فإذَا صَلى قائِما فَصَلُّوا قِيَاما فإذَا رَكَعَ فارْكَعْوا وإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فقُولُوا رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ وإذَا صَلَّى قائِما فَصَلُّوا قِياما وإذَا صَلى جالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهُوَ أَنه مثل الحَدِيث الأول غير أَن ذَاك عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَهَذَا عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَاعْتبر الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان. قَوْله: (عَن أنس) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي أنس قَوْله: (فصلى صَلَاة من الصَّلَوَات) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ: (فَحَضَرت الصَّلَاة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة حميد عَن أنس عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اللَّام للْعهد ظَاهرا، وَالْمرَاد الْفَرْض لِأَن الْمَعْهُود من عَادَتهم اجْتِمَاعهم للْفَرض بِخِلَاف النَّافِلَة، وَحكى عِيَاض عَن ابْن الْقَاسِم: أَن هَذِه الصَّلَاة كَانَت نفلا. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب: بِأَن فِي رِوَايَة جَابر عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَأبي دَاوُد الْجَزْم بِأَنَّهَا فرض، لكني لم أَقف على تَعْيِينهَا إلاّ فِي حَدِيث أنس: (فصلى بِنَا يَوْمئِذٍ) ، وَالظَّاهِر أَنَّهَا الظّهْر أَو الْعَصْر انْتهى. قلت: لَا ظَاهر هُنَا يدل على مَا دَعَاهُ وَلما لَا يجوز أَن تكون الَّتِي صلى بهم يَوْمئِذٍ نفلا. قَوْله: (فجحش) ، بجيم مَضْمُومَة ثمَّ حاء مُهْملَة مَكْسُورَة أَي: خدش،

(5/218)


وَهُوَ أَن يتقشر جلد الْعُضْو. قَوْله: (فصلينا وَرَاءه قعُودا) أَي: حَال كوننا قَاعِدين. فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف حَدِيث عَائِشَة لِأَن فِيهِ: (فصلى جَالِسا وَصلى وَرَاءه قوم قيَاما) . قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِوُجُوه: الأول: أَن فِي رِوَايَة أنس اختصارا وَكَأَنَّهُ اقْتصر على مَا آل إِلَيْهِ الْحَال بعد أمره لَهُم بِالْجُلُوسِ. الثَّانِي: مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَهُوَ أَنه: يحْتَمل أَن يكون بَعضهم قعد من أول الْحَال، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أنس، وَبَعْضهمْ قَامَ حَتَّى أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْجُلُوسِ، وَهُوَ الَّذِي حكته عَائِشَة. الثَّالِث: مَا قَالَه قوم وَهُوَ احْتِمَال تعدد الْوَاقِعَة، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه بعد قلت: الْبعد فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين، وَالْوَجْه الثَّالِث هُوَ الْقَرِيب، وَيدل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنهم دخلُوا يعودونه مرَّتَيْنِ، فصلى بهما فيهمَا، وَبَين أَن الأولى كَانَت نَافِلَة وأقرهم على الْقيام وَهُوَ جَالس، وَالثَّانيَِة كَانَت فَرِيضَة وابتدأوا قيَاما فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالْجُلُوسِ. وَفِي رِوَايَة بشر عَن حميد عَن أنس نَحوه عِنْد الإسماعيل. قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا) قيل: إِن المُرَاد بِالْأَمر أَن يَقْتَدِي بِهِ فِي جُلُوسه فِي التَّشَهُّد وَبَين السَّجْدَتَيْنِ لِأَنَّهُ ذكر ذَلِك عقيب ذكر الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ، وَالسُّجُود فَيحمل على أَنه لما جلس بَين السَّجْدَتَيْنِ قَامُوا تَعْظِيمًا لَهُ فَأَمرهمْ بِالْجُلُوسِ تواضعا، وَقد نبه على ذَلِك بقوله فِي حَدِيث جَابر: (إِن كدتم آنِفا تَفْعَلُونَ فعل فَارس وَالروم، يقومُونَ على مُلُوكهمْ وهم قعُود فَلَا تَفعلُوا) . وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذَا بعيد لِأَن سِيَاق طرق الحَدِيث يأباه وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد بِالْجُلُوسِ فِي الرُّكْن لقَالَ: وَإِذا جلس فاجلسوا ليناسب قَوْله: (فَإِذا سجدوا) فَلَمَّا عدل عَن ذَلِك إِلَى قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا) كَانَ كَقَوْلِه: (وَإِذا صلى قَائِما) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: غير مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، مَشْرُوعِيَّة ركُوب الْخَيل والتدرب على أخلاقها، واستحباب التأسي إِذا حصل مِنْهَا سُقُوط أَو عَثْرَة أَو غير ذَلِك بِمَا اتّفق للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْوَاقِعَة، وَبِه الأسوة الْحَسَنَة، وَمن ذَلِك أَنه يجوز على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجوز على الْبشر من الأسقام وَنَحْوهَا من غير نقص فِي مِقْدَاره بذلك، بل لِيَزْدَادَ قدره رفْعَة ومنصبه جلالة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ الحُمَيْدِيُّ قَوْلهُ إذَا صَلَّى جالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا هُوَ فِي مَرَضِهِ القَدِيمِ ثمَّ صلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسا والنَّاسُ خَلْفَهُ قِياما لَمْ يَأمُرْهُمْ بَالقُعودِ وإنَّمَا يُؤخَذُ بِالآخِرِ فالآخِرِ مِنْ فَعْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو عبد الله هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه، والْحميدِي هُوَ شيخ البُخَارِيّ وتلميذ الشَّافِعِي، واسْمه: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ابْن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، ويكنى أَبَا بكر، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَيفهم من هَذَا الْكَلَام أَن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَا قَالَه الْحميدِي، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور السّلف أَن الْقَادِر على الْقيام لَا يُصَلِّي وَرَاء الْقَاعِد إلاَّ قَائِما. وَقَالَ المرغيناني: الْفَرْض وَالنَّفْل سَوَاء. وَقَوله: إِنَّمَا يُؤْخَذ) إِلَى آخِره، إِشَارَة إِلَى أَن الَّذِي يجب بِهِ الْعَمَل هُوَ مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر الْأَمر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما كَانَ آخر الْأَمريْنِ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس وَرَاءه قيام، دلّ على أَن مَا كَانَ قبله من ذَلِك مَرْفُوع الحكم. فَإِن قلت: ابْن حبَان لم ير النّسخ، فَإِنَّهُ قَالَ، بعد أَن روى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضح أَن الإِمَام إِذا صلى قَاعِدا كَانَ على الْمَأْمُومين أَن يصلوا قعُودا، وَأفْتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر بن عبد الله وَأَبُو هُرَيْرَة وَأسيد بن حضير وَقيس ابْن فَهد، وَلم يرو عَن غَيرهم من الصَّحَابَة خلاف هَذَا بِإِسْنَاد مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطع، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقد أفتى بِهِ أَيْضا من التَّابِعين. وَأول من أبطل ذَلِك من الْأمة الْمُغيرَة بن مقسم، وَأخذ عَنهُ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ثمَّ أَخذه عَنهُ أَبُو حنيفَة ثمَّ عَنهُ أَصْحَابه وَأَعْلَى حَدِيث احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) ، وَهَذَا لَو صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسلا، والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان، لأَنا لَو قبلنَا إرْسَال تَابِعِيّ وَأَن كَانَ ثِقَة للزمنا قبُول مثله عَن اتِّبَاع التَّابِعين، وَإِذ قبلنَا لزمنا قبُوله من أَتبَاع التَّابِعين، وَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن نقبل من كل أحد إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا نقض الشَّرِيعَة، وَالْعجب أَن أَبَا حنيفَة يخرج عَن جَابر الْجعْفِيّ ويكذبه، ثمَّ لما اضطره الْأَمر جعل أحتج بحَديثه، وَذَلِكَ

(5/219)


كَمَا أخبرنَا بِهِ الْحُسَيْن بن عبد الله بن يزِيد الْقطَّان بالرقة: حَدثنَا أَحْمد بن أبي الْحَوْرَاء سَمِعت أَبَا يحيى الجمان سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول: مَا رَأَيْت فِيمَن لقِيت أفضل من عَطاء، وَلَا لقِيت فِيمَن لقِيت أكذب من جَابر الْجعْفِيّ، مَا أثْبته بِشَيْء من رَأْيِي إلاّ جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيث. قلت: أما إِنْكَاره النّسخ فَلَيْسَ لَهُ وَجه على مَا بَيناهُ، وَأما قَوْله: أفتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر وَغَيره، فقد قَالَ الشَّافِعِي: إِنَّهُم لم يبلغهم النّسخ، وَعلم الْخَاصَّة يُوجد عِنْد بعض ويعزب عَن بعض. انْتهى. وَكَذَا من أفتى بِهِ من التَّابِعين لم يبلغهم خبر النّسخ، وَأفْتى بِظَاهِر الْخَبَر الْمَنْسُوخ، وَأما قَوْله: وَالْإِجْمَاع إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَغير مُسلم، فَإِن الْأَدِلَّة غير فارقة بَين أهل عصر بل تتَنَاوَل لأهل كل عصر كتناولها لأهل عصر الصَّحَابَة إِذْ لَو كَانَ خطابا للموجودين وَقت النُّزُول فَقَط يلْزم أَن لَا ينْعَقد إِجْمَاع الصَّحَابَة بعد موت من كَانَ مَوْجُودا وَقت النُّزُول، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يكون إِجْمَاعهم أجماع جَمِيع المخاطبين وَقت النُّزُول، وَيلْزم أَن لَا يعْتد بِخِلَاف من أسلم أَو ولد من الصَّحَابَة بعد النُّزُول لكَوْنهم خَارِجين عَن الْخطاب، وَقد اتفقتم مَعنا على إِجْمَاع هَؤُلَاءِ فَلَا يخْتَص بالمخاطبين، وَالْخطاب لَا يخْتَص بالموجودين كالخطاب بِسَائِر التكاليف، وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حبَان هُوَ من مَذْهَب دَاوُد وَأَتْبَاعه، وَأما قَوْله: والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان ... إِلَى آخِره، فَغير مُسلم أَيْضا لِأَن إرْسَال الْعدْل من الْأَئِمَّة تَعْدِيل لَهُ إِذْ لَو كَانَ غير عدل لوَجَبَ عَلَيْهِ التَّنْبِيه على جرحه والإخبار عَن حَاله، فالسكوت بعد الرِّوَايَة عَنهُ يكون تلبيسا أَو تحميلاً للنَّاس على الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِحجَّة، وَالْعدْل لَا يتهم بِمثل ذَلِك، فَيكون إرْسَاله توثيقا لَهُ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه كَانَ مَشْهُورا عِنْده فروى عَنهُ بِنَاء على ظَاهر حَاله، وفوض تَعْرِيف حَاله إِلَى السَّامع حَيْثُ ذكر اسْمه. وَقد اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا لقبُول الْمُرْسل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على قبُول رِوَايَات ابْن عَبَّاس مَعَ أَنه لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاّ أَربع أَحَادِيث لصِغَر سنه كَمَا ذكره الْغَزالِيّ، أَو بضع عشر حَدِيثا كَمَا ذكره شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ. وَقَالَ ابْن سِيرِين: مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة، وَقَالَ بَعضهم: رد الْمَرَاسِيل بِدعَة حَادِثَة بعد الْمِائَتَيْنِ، وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ من أهل الْكُوفَة، وَأَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن من أهل الْبَصْرَة، وَمَكْحُول من أهل الشَّام كَانُوا يرسلون، وَلَا يظنّ بهم إلاّ الصدْق، فَدلَّ على كَون الْمُرْسل حجَّة نعم، وَقع الِاخْتِلَاف فِي مَرَاسِيل من دون الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث، فَعِنْدَ أبي الْحسن الْكُوفِي: يقبل إرْسَال كل عدل فِي كل عصر، فَإِن الْعلَّة الْمُوجبَة لقبُول الْمَرَاسِيل فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَهِي: الْعَدَالَة والضبط، تَشْمَل سَائِر الْقُرُون، فَبِهَذَا التَّقْدِير انْتقض قَوْله، وَفِي هَذَا نقض للشريعة. وَأما قَوْله: وَالْعجب من أبي حنيفَة ... إِلَى آخِره، كَلَام فِيهِ إساءة أدب وتشنيع بِدُونِ دَلِيل جلي: فَإِن أَبَا حنيفَة من أَيْن أحتج بِحَدِيث جَابر الْجعْفِيّ فِي كَونه نَاسِخا؟ وَمن نقل هَذَا من الثِّقَات عَن أبي حنيفَة حَتَّى يكون متناقضا فِي قَوْله وَفعله؟ بل احْتج أَبُو حنيفَة فِي نسخ هَذَا الْبَاب مثل مَا احْتج بِهِ غَيره كالثوري وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَجُمْهُور السّلف، كَمَا مر مُسْتَوفى.

52 - (بابُ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: مَتى يسْجد من خلف الإِمَام، يَعْنِي إِذا اعتدل أَو جلس بَين السَّجْدَتَيْنِ. قَوْله: (من) فَاعل قَوْله: (يسْجد) .
قَالَ أنَسٌ فإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين معنى مَتى يسْجد من خلف الإِمَام، وَهُوَ أَنه يسْجد إِذا سجد الإِمَام، بِنَاء على تقدم الشَّرْط على االجزاء، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه مَوْصُولا فِي: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، فَإِن فِيهِ: وَإِذا سجد فاسجدوا. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ طرف من حَدِيثه الْمَاضِي فِي الْبَاب الَّذِي قبله قلت: لَيست هَذِه اللَّفْظَة فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَإِنَّمَا هِيَ فِي: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض النّسخ، قَالَ أنس: إِذا سجد فاسجدوا، يَعْنِي: من غير ذكره: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

690 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَن سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني أَبُو إسْحَاقَ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثني البَرَاءُ وَهْوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودا بَعْدَهُ

(5/220)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ نقع سجودا بعده) ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون سُجُود من خلف الإِمَام إِذا شرع الإِمَام فِي السَّجْدَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله السبيعِي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى سبيع بطن من هَمدَان. الْخَامِس: عبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة الخطمي كَذَا وَقع مَنْسُوبا عِنْد الإسماععيلي فِي رِوَايَة شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى خطمي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الطَّاء: بطن من الْأَوْس. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن يزِيد بن زيد ابْن حُصَيْن بن عَمْرو الأوسي الخطمي أَبُو مُوسَى، شهد الْحُدَيْبِيَة وَمَات قبل ابْن الزبير. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: عبد الله بن يزِيد الصَّحَابِيّ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ. وَذكر الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) وَالِد عبد الله ووالد الْبَراء كليهمَا من الصَّحَابَة، فَقَالَ: يزِيد بن زيد بن حُصَيْن الْأنْصَارِيّ الخطمي، وَالِد عبد الله وجد عدي بن ثَابت لأمه. وَقَالَ أَيْضا: عَازِب بن الْحَارِث وَالِد الْبَراء، قَالَ البراءوفيه: اشْترى أَبُو بكر من عَازِب رجلا. وَفِيه: أَن أَبَا إِسْحَاق كَانَ مَعْرُوفا بالرواية عَن الْبَراء بن عَازِب لكنه روى الحَدِيث الْمَذْكُور هَهُنَا بِوَاسِطَة. وَهُوَ: عبد الله بن يزِيد. وَفِيه: أَن أحد الروَاة كَانَ أَمِيرا وَهُوَ: عبد الله بن يزِيد، وَكَانَ أَمِيرا على الْكُوفَة فِي زمن عبد الله بن الزبير، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي: بَاب رفع الْبَصَر فِي الصَّلَاة: أَن أَبَا إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت عبد الله ابْن يزِيد يخْطب. وَفِيه: قَوْله: (غير كذوب) وَهُوَ على وزن: فعول، وَهُوَ صِيغَة مُبَالغَة: كصبور وشكور، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا قيل: فِي حق من؟ فَقَالَ يحيى بن معِين والْحميدِي وَابْن الْجَوْزِيّ: إِن الْإِشَارَة فِي قَول أبي إِسْحَاق: غير كذوب، إِلَى عبد الله بن يزِيد، لَا إِلَى الْبَراء، لِأَن الصَّحَابَة عدُول فَلَا يحْتَاج أحد مِنْهُم إِلَى تَزْكِيَة وتعديل. وَقَالَ الْخَطِيب: إِن كَانَ هَذَا القَوْل من أبي إِسْحَاق فَهُوَ فِي عبد الله بن يزِيد، وَإِن كَانَ من عبد الله فَهُوَ فِي الْبَراء. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا القَوْل لَا يُوجب تُهْمَة فِي الرَّاوِي؛ وَإِنَّمَا يُوجب حَقِيقَة الصدْق لَهُ لِأَن هَذِه عَادَتهم إِذا أَرَادوا تَأْكِيد الْعلم بالراوي وَالْعَمَل بِمَا روى، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: سَمِعت خليلي الصَّادِق المصدوق، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: حَدثنِي الصَّادِق المصدوق، وسلك عِيَاض أَيْضا هَذَا المسلك وَقَالَ: لم يرد بِهِ التَّعْدِيل وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَقْوِيَة الحَدِيث إِذْ حدث بِهِ الْبَراء، وَهُوَ غير مُتَّهم: وَمثل هَذَا قَول أبي مُسلم الْخَولَانِيّ: حَدثنِي الحبيب الْأمين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الْكَلَام: حَدثنِي الْبَراء وَهُوَ غير مُتَّهم، كَمَا علمْتُم فثقوا بِمَا أخْبركُم بِهِ عَنهُ.
قلت: قد ظهر من كَلَام الْخطابِيّ وعياض وَالنَّوَوِيّ أَن هَذَا القَوْل فِي الْبَراء، ويترجح هَذَا بِوَجْهَيْنِ: الأول: أَنه رُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق فِي بعض طرقه: سَمِعت عبد الله بن يزِيد وَهُوَ يخْطب يَقُول: حَدثنَا الْبَراء، وَكَانَ غير كذوب. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه كَلَام عبد الله بن يزِيد. قلت: إِذا كَانَ هَذَا كَلَام عبد الله فَيكون ذَاك فِي الْبَراء، وأوضح من هَذَا وَأبين مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق محَارب بن دثار، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن يزِيد على الْمِنْبَر يَقُول: حَدثنِي الْبَراء وَكَانَ غير كذوب. الثَّانِي: أَن الضَّمِير أَعنِي قَوْله: وَهُوَ يرجع إِلَى أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ الْبَراء، فَإِن قلت: كَيفَ نزه يحيى بن معِين الْبَراء عَن التَّعْدِيل لأجل صحبته وَلم ينزه عبد الله بن يزِيد وَهُوَ أَيْضا صَحَابِيّ؟ قلت: يحيى بن معِين لَا تثبت صحبته فَلذَلِك تنْسب هَذِه اللَّفْظَة إِلَيْهِ، وَوَافَقَهُ على ذَلِك مُصعب الزبيرِي، وَتوقف فِي صحبته أَحْمد وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو دَاوُد، وأثبتها ابْن البرقي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَآخَرُونَ. فَإِن قلت: نفي الكذوبية لَا يسْتَلْزم نفي الكاذبية، مَعَ أَنه يجب نفي مُطلق الْكَذِب عَنْهُمَا قلت: مَعْنَاهُ غير ذِي كذب، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} (فصلت: 46) . أَي: وَمَا رَبك بِذِي ظلم. فَإِن قلت: مَا سَبَب رِوَايَة عبد الله ابْن يزِيد هَذَا الحَدِيث؟ قلت: روى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيقه أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ النَّاس يضعون رؤوسهم قبل أَن يضع رَأسه، ويرفعون قبل أَن يرفع رَأسه، فَذكر الحَدِيث فِي إِنْكَاره عَلَيْهِم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن حجاج عَن شُعْبَة وَعَن آدم عَن إِسْرَائِيل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس وَيحيى بن يحيى كِلَاهُمَا عَن زُهَيْر وَعَن أبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه

(5/221)


التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن عَليّ بن الْحُسَيْن الدرهمي عَن أُميَّة بن خَالِد، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع فَقَالَ: سمع الله لمن حَمده لم نزل قيَاما) . قَوْله: (لم يحن) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة، من: حنيت الْعود عطفته وحنوت لُغَة، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يحنو أحد، وَلَا يحني) ، رِوَايَتَانِ أَي: لَا يقوس ظَهره. قَوْله: (حَتَّى يَقع سَاجِدا) أَي: حَال كَونه سَاجِدا، وَفِي رِوَايَة الإسرائيلي عَن أبي إِسْحَاق: (حَتَّى يضع جَبهته على الأَرْض) ، وَنَحْوه وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (حَتَّى يسْجد ثمَّ يَسْجُدُونَ) . قَوْله: (ثمَّ نقع) بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر. قَوْله: (سجودا) حَال، وَهُوَ جمع: ساجد، ونقع، مَرْفُوع لَا غير، و: يَقع، الأول الَّذِي هُوَ مَنْصُوب فَاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ: الرّفْع وَالنّصب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: وجوب مُتَابعَة الإِمَام فِي أَفعاله، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ على أَن الْمَأْمُوم لَا يشرع فِي الرُّكْن حَتَّى يتمه الإِمَام، وَفِيه نظر، لِأَن الإِمَام إِذا أتم الرُّكْن ثمَّ شرع الْمَأْمُوم فِيهِ لَا يكون مُتَابعًا للْإِمَام وَلَا يعْتد بِمَا فعله، وَمعنى الحَدِيث أَن الْمَأْمُوم يشرع بعد شُرُوع الإِمَام فِي الرُّكْن وَقبل فَرَاغه مِنْهُ حَتَّى تُوجد الْمُتَابَعَة، وَوَقع فِي حَدِيث عَمْرو بن سليم أخرجه مُسلم: (فَكَانَ لَا يحني أحد منا ظَهره حَتَّى يَسْتَقِيم سَاجِدا) . وروى أَبُو يعلى من حَدِيث أنس: (حَتَّى يتَمَكَّن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من السُّجُود) ، وَمعنى هَذَا كُله ظَاهر فِي أَن الْمَأْمُوم يشرع فِي الرُّكْن بعد شُرُوع الإِمَام فِيهِ، وَقبل فَرَاغه مِنْهُ. وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على طول الطُّمَأْنِينَة، وَفِيه نظر، لِأَن الحَدِيث لَا يدل على هَذَا. وَفِيه: جَوَاز النّظر إِلَى الْأَمَام لأجل اتِّبَاعه فِي انتقالاته فِي الْأَركان.
حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ عنْ سُفْيَانَ عنْ أبي أسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا
أَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ السبيعِي الْمَذْكُور، وَهَذَا السَّنَد وَقع فِي البُخَارِيّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَلَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة البَاقِينَ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا السَّنَد مَذْكُور فِي نُسْخَة سَمَاعنَا، وَفِي بعض النّسخ عَلَيْهِ ضرب، وَلم يذكرهُ أَصْحَاب الْأَطْرَاف: أَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَخلف وَأَبُو مَسْعُود فَمن بعدهمْ، وَلم يذكرهُ أَيْضا أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) قلت: أخرجه أَبُو عوَانَة عَن الصَّاغَانِي وَغَيره عَن أبي نعيم، وَلَفظه: (كُنَّا إِذا صلينَا خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحن أحد منا ظَهره حَتَّى يضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَبهته) .

53 - (بابُ إثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من رفع رَأسه فِي الصَّلَاة قبل رفع الإِمَام رَأسه. قَالَ بَعضهم: أَي: من السُّجُود. قلت: وَمن الرُّكُوع أَيْضا، فَلَا وَجه لتخصيص السُّجُود لِأَن الحَدِيث أَيْضا يَشْمَل الْإِثْنَيْنِ بِحَسب الظَّاهِر كَمَا يَجِيء. فَإِن قلت: لهَذَا الْقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا قلت: أَي من السُّجُود، لِأَنَّهُ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عَمْرو عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما يخْشَى أَو ألاَ يخْشَى أحدكُم إِذا رفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد) الحَدِيث فَتبين أَن المُرَاد الرّفْع من السُّجُود. قلت: رِوَايَة البُخَارِيّ تتَنَاوَل الْمَنْع من تقدم الْمَأْمُوم على الإِمَام فِي الرّفْع من الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعًا، وَلَا يجوز أَن تخصص رِوَايَة البُخَارِيّ بِرِوَايَة أبي دَاوُد، لِأَن الحكم فيهمَا سَوَاء، وَلَو كَانَ الحكم مَقْصُورا على الرّفْع من السُّجُود لَكَانَ لدعوى التَّخْصِيص وَجه، وَمَعَ هَذَا فالقائل الْمَذْكُور ذكر الحَدِيث عَن الْبَراء من رِوَايَة مليح ابْن عبد الله السَّعْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الَّذِي يخْفض وَيرْفَع قبل الإِمَام إِنَّمَا ناصيته بيد الشَّيْطَان) . وَهَذَا ينْقض عَلَيْهِ مَا قَالَه، وَيَردهُ عَلَيْهِ. وأعجب من هَذَا أَنه رد على ابْن دَقِيق الْعِيد حَيْثُ قَالَ: إِن الحَدِيث نَص فِي الْمَنْع من تقدم الْمَأْمُوم على الإِمَام فِي الرّفْع من الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعًا، فَهَذَا دَقِيق الْكَلَام الَّذِي قَالَه ابْن الدَّقِيق، ومستنده فِي الرَّد عَلَيْهِ هُوَ قَوْله: وَإِنَّمَا هُوَ نَص فِي السُّجُود، ويلتحق بِهِ الرُّكُوع لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا كَلَام سَاقِط جدا، لِأَن الْكَلَام هَهُنَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهَا نَص فِي السُّجُود، بل هُوَ نَص عَام فِي السُّجُود وَالرُّكُوع. وَدَعوى

(5/222)


التَّخْصِيص لَا تصح كَمَا ذكرنَا، نعم لَو ذكر النُّكْتَة فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي تَخْصِيص السَّجْدَة بِالذكر لَكَانَ لَهُ وَجه، وَهِي أَن رِوَايَة أبي دَاوُد من بَاب الِاكْتِفَاء، فَاكْتفى بِذكر حكم السَّجْدَة عَن ذكر حكم الرُّكُوع لكَون الْعلَّة وَاحِدَة وَهِي السَّبق على الإِمَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 81) . أَي: وَالْبرد أَيْضا، وَإِنَّمَا لم يعكس الْأَمر لِأَن السَّجْدَة أعظم من الرُّكُوع فِي إِظْهَار التَّوَاضُع والتذلل، وَالْعَبْد أقرب مَا يكون إِلَى الرب وَهُوَ ساجد.

691 - ح دَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أمَا يَخْشَى أحَدُكُمْ أوْ ألاَ يَخْشَى أحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ الله رَأسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أوْ يَجْعَلَ الله صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ان فِيهِ وعيدا شَدِيدا وتهديدا، ومرتكب الشَّيْء الَّذِي فِيهِ الْوَعيد آثم بِلَا نزاع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: حجاج بن منهال السّلمِيّ الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ أَبُو مُحَمَّد، وَقد مر ذكره فِي: بَاب مَا جَاءَ إِن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، فِي آخر كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: الجُمَحِي الْمدنِي سكن الْبَصْرَة. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة وَلَكِن بِهَذَا الْإِسْنَاد أخرجه مُسلم عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن حَفْص بن عَمْرو عَن شُعْبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد زِيَاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن حميد بن مسْعدَة وسُويد بن سعيد عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) من حَدِيث مُوسَى بن عبد الله بن يزِيد عَن أَبِيه: (أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ هَهُنَا وَكَانَ النَّاس يضعون رؤوسهم قبل أَن يضع رَأسه ويرفعون رؤوسهم قبل أَن يرفع راسه، فَلَمَّا انْصَرف الْتفت إِلَيْهِم فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس لِمَ تأثمون وتؤثمون، صليت بكم صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أخرم عَنْهَا) . وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (مَا يَأْمَن الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يعود رَأسه رَأس كلب، ولينتهين أَقوام يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء، أَو لتخطفن أَبْصَارهم) . وروى أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ: (صلى رجل خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجعل يرْكَع قبل أَن يرْكَع، وَيرْفَع قبل أَن يرفع، فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلَاته قَالَ: من الْفَاعِل هَذَا؟ قَالَ: أَنا يَا رَسُول الله. قَالَ: اتَّقوا خداج الصَّلَاة، إِذا ركع الإِمَام فاركعوا وَإِذا رفع فارفعوا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أما يخْشَى أحدكُم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أوَ لاَ يخْشَى) . قلت: اخْتلفت أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث، فرواية مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه: (أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (ألاَ يخْشَى) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَأبي دَاوُد من رِوَايَة شُعْبَة: (أمَا يخْشَى أَو أَلا يخْشَى) بِالشَّكِّ، قَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من أبي هُرَيْرَة، وَكلمَة: أما، بتَخْفِيف الْمِيم: حرف استفتاح مثل أَلاَ. وَأَصلهَا: مَا، النافية دخلت عَلَيْهَا همزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ هَهُنَا اسْتِفْهَام توبيخ وإنكار. قَوْله: (إِذا رفع رَأسه قبل الإِمَام) ، زَاد ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: (فِي صلَاته) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عمر: (الَّذِي يرفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد) . قَوْله: (أَن يَجْعَل الله رَأسه رَأس حمَار؟) وَهَهُنَا أَيْضا اخْتلفت أَلْفَاظ الحَدِيث، فَفِي رِوَايَة يُونُس بن عبيد عِنْد مُسلم: (مَا يَأْمَن الَّذِي يرفع رَأسه فِي صلَاته أَن يحول الله صورته فِي صُورَة حمَار؟) . وَفِي رِوَايَة الرّبيع بن مُسلم عِنْد مُسلم: (أَن يَجْعَل الله وَجهه وَجه حمَار؟) وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان، من رِوَايَة مُحَمَّد بن ميسرَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: (أَن يحول الله رَأسه رَأس كلب) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة

(5/223)


عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (مَا يُؤمن من يرفع رَأسه قبل الإِمَام ويضعه) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مليح السَّعْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام وَيخْفِضهُ قبل الإِمَام فَإِنَّمَا ناصيته بيد شَيْطَان) . وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا، كَمَا ذكرنَا وَذكرنَا الْآن أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود: (أَن يعود رَأسه رَأس كلب؟) وَهُوَ مَوْقُوف، وَلكنه لَا يدْرك بِالرَّأْيِ، فَحكمه حكم الْمَرْفُوع. قَوْله: (أَو يَجْعَل صورته صُورَة حمَار؟) قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: الشَّك فِيهِ من أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ بَعضهم: الشَّك من شُعْبَة ثمَّ أكد هَذَا بقوله، فقد رَوَاهُ الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد وَمُسلم من رِوَايَة يُونُس بن عبيد وَالربيع بن مُسلم، كلهم عَن مُحَمَّد بن زِيَاد بِغَيْر تردد. قلت: لَا يلْزم من إخراجهم بِغَيْر تردد أَن لَا يخرج غَيرهم بِغَيْر تردد، وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يحْتَمل أَن يكون التَّرَدُّد من شُعْبَة أَو من مُحَمَّد بن زِيَاد أَو من أبي هُرَيْرَة، فَمن ادّعى تعْيين وَاحِد مِنْهُم فَعَلَيهِ الْبَيَان، وَأما اخْتلَافهمْ فِي الرَّأْس أَو الصُّورَة فَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة: رَأس، وَفِي رِوَايَة يُونُس: صُورَة وَفِي رِوَايَة الرّبيع، وَجه. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه من تصرف الروَاة. قلت: كَيفَ يكون من تصرفهم وَلكُل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ معنى فِي اللُّغَة يغاير معنى الآخر؟ أما الرَّأْس فَإِنَّهُ اسْم لعضو يشْتَمل على الناصية والقفاء والفودين. وَالصُّورَة: الْهَيْئَة، وَيُقَال: صورته حَسَنَة أَي: هَيئته وشكله، وَيُطلق على الصّفة أَيْضا يُقَال: صُورَة الْأَمر كَذَا وَكَذَا أَي: صفته، وَيُطلق على الْوَجْه أَيْضا يُقَال: صورته حَسَنَة أَي: وَجهه، وَيُطلق على شكل الشَّيْء وعَلى الْخلقَة. وَالْوَجْه اسْم لما يواجهه الْإِنْسَان، وَهُوَ من منبت الناصية إِلَى أَسْفَل الذقن طولا وَمن شحمة الْأذن إِلَى شحمة الْأذن عرضا. وَالظَّاهِر أَن هَذَا الِاخْتِلَاف من اخْتِلَاف تعدد الْقَضِيَّة، ورواة الرَّأْس أَكثر، وَعَلِيهِ الْعُمْدَة. وَقَالَ عِيَاض: هَذِه الرِّوَايَات متفقة لِأَن الْوَجْه فِي الرَّأْس، ومعظم الصُّورَة فِيهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الْوَجْه خلاف الرَّأْس لُغَة وَشرعا.
ثمَّ الْعلمَاء تكلمُوا فِي معنى: (أَن يَجْعَل رَأسه رَأس حمَار أَو صورته صُورَة حمَار؟) قَالَ الْكرْمَانِي: قيل هَذَا مجَاز عَن البلادة، لِأَن المسخ لَا يجوز فِي هَذِه الْأمة. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: لَيْسَ قَوْله: (أَن يحول الله رَأسه راس حمَار) فِي هَذِه الْأمة بموجود، فَإِن المسخ فِيهَا مَأْمُون، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ معنى الْحمار من قلَّة البصيرة وَكَثْرَة العناد، فَإِن من شَأْنه إِذا قيد حزن وَإِذا حبس طفر لَا يُطِيع قائدا وَلَا يعين حابسا. قلت: فِي كَلَامهمَا: إِن المسخ لَا يجوز فِي هَذِه الْأمة، وَإِن المسخ فِيهَا مَأْمُون، نظر، وَقد رُوِيَ وُقُوع ذَلِك فِي آخر الزَّمَان عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يكون فِي آخر هَذِه الْأمة خسف ومسخ وَقذف. .) الحَدِيث، وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَعمْرَان بن حُصَيْن، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَسَهل بن سعد وروى أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي امامة وروى عبد الله بن أَحْمد فِي (زَوَائِد الْمسند) من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت وَابْن عَبَّاس وروى أَبُو يعلى وَالْبَزَّار من حَدِيث أنس وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن بشر وَسَعِيد بن أبي رَاشد وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الصَّغِير) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس أَيْضا، وَلَكِن أسانيدها لَا تَخْلُو من مقَال. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن الحَدِيث يَقْتَضِي تَغْيِير الصُّورَة الظَّاهِرَة، وَيحْتَمل أَن يرجع إِلَى أَمر معنوي مجَازًا، فَإِن الْحمار مَوْصُوف بالبلادة. قَالَ: ويستعار هَذَا الْمَعْنى للجاهل بِمَا يجب عَلَيْهِ من فروض الصَّلَاة ومتابعة الإِمَام، وَرُبمَا يرجح هَذَا الْمجَاز بِأَن التَّحْوِيل فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة لم يَقع من كَثْرَة رفع الْمَأْمُومين قبل الإِمَام، وَقد بَينا أَن الحَدِيث لَا يدل على وُقُوع ذَلِك، وَإِنَّمَا يدل على كَون فَاعله متعرضا لذَلِك بِكَوْن فعله صَالحا لِأَن يَقع ذَلِك الْوَعيد، وَلَا يلْزم من التَّعَرُّض للشَّيْء وُقُوع ذَلِك الشَّيْء. قلت: وَإِن سلمنَا ذَلِك فلِمَ لَا يجوز أَن يُؤَخر الْعقَاب إِلَى وَقت يُريدهُ الله تَعَالَى؟ كَمَا وقفنا فِي بعض الْكتب وَسَمعنَا من الثِّقَات أَن جمَاعَة من الشِّيعَة الَّذين يسبون الصَّحَابَة قد تحولت صورتهم إِلَى صُورَة حمَار وخنزير عِنْد مَوْتهمْ، وَكَذَلِكَ جرى على من عق وَالِديهِ، وخاطبهما باسم الْحمار أَو الْخِنْزِير أَو الْكَلْب؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: كَمَال شفقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمته وَبَيَانه لَهُم الْأَحْكَام وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَفِيه: الْوَعيد الْمَذْكُور لمن رفع رَأسه قبل الإِمَام، وَنظر ابْن مَسْعُود إِلَى من سبق إِمَامه فَقَالَ: لَا وَحدك صليت وَلَا بإمامك اقتديت. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَأمره بِالْإِعَادَةِ. وَالْجُمْهُور على عدم الْإِعَادَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: من خَالف الإِمَام فقد خَالف

(5/224)


سنة الْمَأْمُوم وأجزأته صلَاته عِنْد جَمِيع الْعلمَاء. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَإِن سبق إِمَامه فَعَلَيهِ أَن يرفع ليَأْتِي بذلك مؤتما بِالْإِمَامِ فَإِن لم يفعل حَتَّى لحقه الإِمَام سَهوا أَو جهلا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، فَإِن سبقه عَالما بِتَحْرِيمِهِ. فَقَالَ أَحْمد فِي رسَالَته: لَيْسَ لمن سبق الإِمَام صَلَاة، لقَوْله: (أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام ... ؟) الحَدِيث، وَلَو كَانَ لَهُ صَلَاة لرجى لَهُ الثَّوَاب، وَلم يخْش عَلَيْهِ الْعقَاب، وَقَالَ ابْن بزيزة: اسْتدلَّ بِظَاهِرِهِ قوم لَا يعْقلُونَ على جَوَاز التناسخ. قلت: هَذَا مَذْهَب مَرْدُود، وَقد بنوه على دعاوى بَاطِلَة بِغَيْر دَلِيل وبرهان.

54 - (بابُ إمامَةِ العَبْدِ والمَوْلَى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم إِمَامَة العَبْد وَالْمولى، وَأَرَادَ بِهِ الْمولى الْأَسْفَل، وَهُوَ المعتوق، وللفظ الْمولى معانٍ مُتعَدِّدَة، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: المعتوق، قيل: لم يفصح بِالْجَوَازِ،، لَكِن لوح بِهِ لإيراده أدلته.
وكانَتْ عَائِشَةُ يِؤُمُّهِا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ المُصْحَفِ
إِيرَاد هَذَا الْأَثر يدل على أَن مُرَاده من التَّرْجَمَة الْجَوَاز، وَإِن كَانَت التَّرْجَمَة مُطلقَة، وَوصل هَذَا ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أبي بكر بن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أعتقت غُلَاما عَن دبر، فَكَانَ يؤمها فِي رَمَضَان فِي الْمُصحف. وروى أَيْضا عَن ابْن علية: عَن أَيُّوب سَمِعت الْقَاسِم يَقُول: كَانَ يؤم عَائِشَة عبد يقْرَأ فِي الْمُصحف، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة أَنهم كَانُوا يأْتونَ عَائِشَة بِأَعْلَى الْوَادي هُوَ وَعبيد بن عُمَيْر والمسور بن مخرمَة وناس كثير، فيؤمهم أَبُو عمر وَمولى عَائِشَة، وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَام لم يعْتق. وَكَانَ إِمَام بني مُحَمَّد بن أبي بكر وَعُرْوَة. وَعند الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي عتبَة أَحْمد بن الْفرج الْحِمصِي: حَدثنَا مُحَمَّد بن حمير حَدثنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن هِشَام عَن أَبِيه أَن أَبَا عَمْرو ذكْوَان كَانَ عبدا لعَائِشَة، فأعتقته وَكَانَ يقوم بهَا شهر رَمَضَان يؤمها، وَهُوَ عبد. وروى ابْن أبي دَاوُد فِي (كتاب الْمَصَاحِف) من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة كَانَ يؤمها غلامها ذكْوَان فِي الْمُصحف. وذكوان: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وكنيته أَبُو عَمْرو، مَاتَ فِي أَيَّام الْحرَّة أَو قتل بهَا. قَوْله: (وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَام) ، الْغُلَام هُوَ الَّذِي لم يَحْتَلِم، وَلَكِن الظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُرَاهق، وَهُوَ كَالْبَالِغِ. قَوْله: (من الْمُصحف) ، ظَاهره يدل على جَوَاز الْقِرَاءَة من الْمُصحف فِي الصَّلَاة، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين وَالْحسن وَالْحكم وَعَطَاء، وَكَانَ أنس يُصَلِّي وَغُلَام خَلفه يمسك لَهُ الْمُصحف، وَإِذا تعايا فِي آيَة فتح لَهُ الْمُصحف. وَأَجَازَهُ مَالك فِي قيام رَمَضَان، وَكَرِهَهُ النَّخعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن الْحسن. وَقَالَ: هَكَذَا يفعل النَّصَارَى، وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة وَسليمَان بن حَنْظَلَة وَمُجاهد بن جُبَير وَحَمَّاد وَقَتَادَة، وَقَالَ ابْن حزم: لَا تجوز الْقِرَاءَة من الْمُصحف وَلَا من غَيره لمصل إِمَامًا كَانَ أَو غَيره، فَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته، وَبِه قَالَ ابْن الْمسيب وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهُوَ غَرِيب لم أره عَنهُ. قلت: الْقِرَاءَة من مصحف فِي الصَّلَاة مفْسدَة عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ عمل كثير، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز، لِأَن النّظر فِي الْمُصحف عبَادَة، وَلكنه يكره لما فِيهِ من التَّشَبُّه بِأَهْل الْكتاب فِي هَذِه الْحَالة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَعند مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. لَا تفْسد فِي النَّفْل فَقَط.
وَأما إِمَامَة العَبْد، فقد قَالَ أَصْحَابنَا: تكره إِمَامَة العَبْد لاشتغاله بِخِدْمَة مَوْلَاهُ، وأجازها أَبُو ذَر وَحُذَيْفَة وَابْن مَسْعُود، ذكره ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَعَن أبي سُفْيَان أَنه كَانَ يؤم بني عبد الْأَشْهَل وَهُوَ مكَاتب وَخَلفه صحابة مُحَمَّد بن مسلمة وَسَلَمَة بن سَلام، وَصلى سَالم خلف زِيَاد مولى ابْن الْحسن وَهُوَ عبد، وَمن التَّابِعين ابْن سِيرِين وَالْحسن وَشُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحكم، وَمن الْفُقَهَاء الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَقَالَ مَالك: تصح إِمَامَته فِي غير االجمعة، وَفِي رِوَايَة: لَا يؤم إلاّ إِذا كَانَ قَارِئًا وَمن خَلفه الْأَحْرَار لَا يقرأون، وَلَا يؤم فِي جُمُعَة وَلَا عيد. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤم إلاْ أَهله. وَمِمَّنْ كره الصَّلَاة خَلفه: أَبُو مجلز، فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة، وَالضَّحَّاك بِزِيَادَة: وَلَا يؤم من لم يحجّ قوما فيهم من قد حج. وَفِي (الْمَبْسُوط) : إِن إِمَامَته جَائِزَة وَغَيره أحب. قلت: وَلَا شكّ أَن الْحر أولى مِنْهُ لِأَنَّهُ منصب جليل، فالحر أليق بهَا، وَقَالَ ابْن خيران من أَصْحَاب الشَّافِعِيَّة: تكره إِمَامَته للْحرّ، وَخَالف سليم الرَّازِيّ، وَلَو اجْتمع عبد فَقِيه وحر غير فَقِيه فَثَلَاثَة أوجه: أَصَحهَا أَنَّهُمَا

(5/225)


سَوَاء، ويترجح قَول من قَالَ: العَبْد الْفَقِيه أولى لما أَن سالما مولى أبي حُذَيْفَة كَانَ يؤم الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فِي مَسْجِد قبَاء فيهم عمر وَغَيره، لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا.
وَلَدِ البَغِيِّ
عطف على قَوْله: وَالْمولى، وَلَكِن فصل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ بأثر عَائِشَة، و: الْبَغي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وتشديدها: وَهِي الزَّانِيَة، وَنقل ابْن التِّين أَنه رَوَاهُ بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون الْغَيْن، وَقَالَ بَعضهم: وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَالتَّخْفِيف. قلت: قَوْله: وَالتَّخْفِيف، غلط لِأَن السّكُون يُغني عَن ذكره، وَأما إِمَامَة ولد الزِّنَا فجائزة عِنْد الْجُمْهُور، وَأَجَازَ النَّخعِيّ إِمَامَته، وَقَالَ: رب عبدٍ خير من مَوْلَاهُ، وَالشعْبِيّ وَعَطَاء وَالْحسن، وَقَالَت عَائِشَة: لَيْسَ عَلَيْهِ من وزر أَبَوَيْهِ شَيْء، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَمُحَمّد بن عبد الحكم، وكرهها عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَمَالك إِذا كَانَ راتبا. وَقَالَ صَاحب؛ التَّوْضِيح) : وَلَا تكره إِمَامَته عندنَا خلافًا للشَّيْخ أبي حَامِد والعبدري، وَقَالَ الشَّافِعِي: وأكره أَن أنصب من لَا يعرف أَبوهُ إِمَامًا، وَتَابعه الْبَنْدَنِيجِيّ، وَغَيره صرح بعدمها، وَقَالَ ابْن حزم: الْأَعْمَى والخصي وَالْعَبْد وَولد الزِّنَا وأضدادهم، والقرشي سَوَاء، لَا تفاضل بَينهم إلاّ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: تكره إِمَامَة العَبْد وَولد الزِّنَا لِأَنَّهُ يستخف بِهِ، فَإِن تقدما جَازَت الصَّلَاة.
والأَعْرَابِيِّ
بِالْجَرِّ عطف على: ولد الْبَغي، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة، وَقد نصب إِلَى الْجمع لِأَنَّهُ صَار علما لَهُم، فَهُوَ فِي حكم الْمُفْرد، والأعراب: سكان الْبَادِيَة من الْعَرَب. وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) خَاصَّة: وَالْجمع أعاريب، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب، كَمَا أَن الأنباط جمع للنبط، وَذكر النَّضر وَغَيره أَن الْأَعْرَاب جمع عرب، مثل: غنم وأغنام، وَإِنَّمَا سموا أعرابا لأَنهم عرب تجمعت من هَهُنَا وَهَهُنَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة إِمَامَته مَعَ الْكَرَاهَة لغَلَبَة الْجَهْل عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَصلى ابْن مَسْعُود خلف أَعْرَابِي، وَلم ير بهَا بَأْسا إِبْرَاهِيم وَالْحسن وَسَالم. وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (لَا يتَقَدَّم الصَّفّ الأول أَعْرَابِي وَلَا عجمي وَلَا غُلَام لم يَحْتَلِم) .
والغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَحْتلِمْ
بِالْجَرِّ أَيْضا عطف على مَا قبله، وَظَاهره مُطلق يتَنَاوَل الْمُرَاهق وَغَيره، وَلَكِن يخرج مِنْهُ من كَانَ دون سنّ التَّمْيِيز بِدَلِيل آخر، وَيفهم أَن البُخَارِيّ يجوز إِمَامَته، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا، وَمذهب أبي حنيفَة: أَن الْمَكْتُوبَة لَا تصح خَلفه، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ دَاوُد: فِي النَّفْل رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة، وبالجواز فِي النَّفْل قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ دَاوُد: لَا تصح فِيمَا حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن الشّعبِيّ وَمُجاهد وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء، وَأما نَقله: ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة وصاحبيه أَنَّهَا مَكْرُوهَة فَلَا يَصح هَذَا النَّقْل، وَعند الشَّافِعِي فِي الْجُمُعَة قَولَانِ، وَفِي غَيرهَا يجوز لحَدِيث عَمْرو بن سَلمَة الَّذِي فِيهِ: أؤمهم وَأَنا ابْن سبع أَو ثَمَان سِنِين، وَعَن الْخطابِيّ أَن أَحْمد كَانَ يضعف هَذَا الحَدِيث، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا يؤم الْغُلَام حَتَّى يَحْتَلِم، وَذكر الْأَثْرَم بِسَنَد لَهُ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يؤم الْغُلَام حَتَّى تجب عَلَيْهِ الْحُدُود، وَعَن إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس أَن يؤم الْغُلَام قبل أَن يَحْتَلِم فِي رَمَضَان، وَعَن الْحسن مثله وَلم يُقَيِّدهُ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَؤُمُّهُمْ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله
هَذَا تَعْلِيل لجمع مَا ذكر قبله من: العَبْد وَولد الْبَغي والأعرابي والغلام الَّذِي لم يَحْتَلِم، معنى الحَدِيث: لم يفرق بَين الْمَذْكُورين وَغَيرهم، وَلَكِن الَّذِي يظْهر من هَذَا أَن إِمَامَة أحد من هَؤُلَاءِ إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَ أَقرَأ الْقَوْم. ألاَ ترى أَن الْأَشْعَث بن قيس قدم غُلَاما، فعابوا ذَلِك عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا قَدمته. وَلَكِن قدمه الْقُرْآن الْعَظِيم، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله) ، تَعْلِيق، وَهُوَ طرف من حَدِيث أبي مَسْعُود، أخرجه مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن بِلَفْظ: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى) ، وروى أَبُو سعيد عِنْده أَيْضا مَرْفُوعا: (أَحَق بِالْإِمَامَةِ أقرؤهم) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (وليؤمهم أقرؤهم) .
وَلاَ يُمْنَعُ العَبْدُ مِنَ الجَمَاعَةِ بَغَيْرِ عِلَّةٍ
هَذِه الْجُمْلَة معطوفة على التَّرْجَمَة، وَهِي من كَلَام البُخَارِيّ وَلَيْسَت من الحَدِيث الْمُعَلق، وَوجه عدم مَنعه من حُضُور الْجَمَاعَة لِأَن حق الله مقدم على حق الْمولى فِي بَاب الْعِبَادَة، وَقد ورد وَعِيد شَدِيد فِي ترك حُضُور الْجَمَاعَة بِغَيْر ضَرُورَة، أَشَارَ إِلَيْهَا

(5/226)


بقوله: بِغَيْر عِلّة، أَي: بِغَيْر ضَرُورَة. وَقَالَ بَعضهم: بِغَيْر ضَرُورَة لسَيِّده. قلت: قيد السَّيِّد لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن عِنْد الضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة لَيْسَ عَلَيْهِ الْحُضُور مُطلقًا، كَمَا فِي حق الْحر.

692 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنسُ بنُ عِياضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنْ ابنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ العُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ قَبْلَ مَقْدَمِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَؤُمُّهُمْ سالِمٌ مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ وكانَ أكْثَرَهُمْ قُرْآنا (الحَدِيث 692 طرفه فِي: 7175) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ دلَالَة على جَوَاز إِمَامَة الْمولى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمدنِي، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: أُنس بن عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير العَبْد الْعمريّ، وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن القعْنبِي عَن أنس بن عِيَاض، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَزَاد: وَفِيهِمْ أَبُو بكر وَعمر وَأَبُو سَلمَة وَزيد بن حَارِثَة وعامر بن ربيعَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وإمامته لأبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يحْتَمل أَن تكون بعد قدومه مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما قدم الْمُهَاجِرُونَ) أَي: من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ. قَوْله: (الْأَولونَ) ، أَي: الَّذين قدمُوا أَولا قبل قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الْعصبَة) ، بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة لِأَنَّهُ اسْم مَوضِع. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كتاب (أَسمَاء الْبلدَانِ) : الْعصبَة مَوضِع بَقَاء، قَالَ الشَّاعِر:

(بنيته بعصبة من ماليا ... أخْشَى ركيبا أَو رجيلاً عاديا)

وَفِي (التَّوْضِيح) ضَبطه شَيخنَا عَلَاء الدّين فِي (شَرحه) : بِفَتْح الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَضَبطه الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي: بِضَم الْعين، وَكَذَا ضَبطه الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: مَوضِع بقباء. روى البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْأَولونَ المعصب كَانَ يؤمهم سَالم مولى أبي حُذَيْفَة وَكَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا، كَذَا ثَبت فِي متن الْكتاب، وَكتب عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْأصيلِيّ عَلَيْهِ الْعصبَة مهملاً غير مضبوط. قَوْله: موضعا) ، يجوز فِيهِ النصب، وَالرَّفْع، أما النصب فعلى أَنه بدل من الْعصبَة، أَو بَيَان لَهُ، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ مَوضِع. قَوْله: (بقباء) فِي مَحل النصب على الوصفية أَي: موضعا كَائِنا بقباء، وقباء يمد وَيقصر، وَيصرف وَيمْنَع، وَيذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (سَالم) ، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْم: كَانَ. (وَكَانَ) أَي: سَالم (أَكْثَرهم) ، أَي: أَكثر الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قُرْآنًا، وَهُوَ نصب على التَّمْيِيز، وَكَانَ سَالم مولى امْرَأَة من الْأَنْصَار فاعتقته، وَإِنَّمَا قيل لَهُ مولى أبي حُذَيْفَة لِأَنَّهُ لَازم أبي حُذَيْفَة بعد أَن أعتق فَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا نهوا عَن ذَلِك قيل لَهُ: مَوْلَاهُ، وَاسْتشْهدَ سَالم بِالْيَمَامَةِ فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَيُقَال: قتل شَهِيدا هُوَ وَأَبُو حُذَيْفَة فَوجدَ رَأس سَالم عِنْد رجل أبي حُذَيْفَة وَرَأس أبي حُذَيْفَة عِنْد رجل سَالم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة من كبار الْبَدْرِيِّينَ، مَشْهُور كَبِير الْقدر، يُقَال لَهُ: سَالم بن معقل، وَكَانَ من أهل فَارس من اصطخر، وَقيل: إِنَّه من الْعَجم من سبي كرمان، وَكَانَ يعد فِي قُرَيْش لتبني أبي حُذَيْفَة لَهُ، ويعد فِي الْعَجم لأصله، ويعد فِي الْمُهَاجِرين لهجرته، ويعد فِي الْأَنْصَار لِأَن معتقته أنصارية، ويعد من الْقُرَّاء، لِأَنَّهُ كَانَ أقرؤهم أَي: أَكْثَرهم قُرْآنًا، وَأَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة ب ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف العبشمي أحد السَّابِقين. قَوْله: (وَكَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا) ، إِشَارَة إِلَى سَبَب تقديمهم لَهُ مَعَ كَونه أشرف مِنْهُ وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا) . وَكَانَت إِمَامَته بهم قبل أَن يعْتق لِأَن المبحث فِيهِ.

693 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيى قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني أبُو التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اسْمَعُوا وأطِيعُوا وإنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِي كأنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ

(5/227)


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة للْعَبد إِذا اسْتعْمل وَلَو كَانَ عبدا حَبَشِيًّا، فأذا أَمر بِطَاعَتِهِ فقد أَمر بِالصَّلَاةِ خَلفه، أَو إِن الْمُسْتَعْمل هُوَ الَّذِي فوض إِلَيْهِ الْعَمَل، يَعْنِي: جعل أَمِيرا أَو واليا، وَالسّنة أَن يتَقَدَّم فِي الصَّلَاة الوالى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد بن حميد الضبعِي، مر فِي: بَاب رفع الْعلم فِيمَا مضى. الْخَامِس: ابْن مَالك.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رواتهما بَين بَصرِي وواسطي، وَهُوَ شُعْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن أبان عَن غنْدر، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن بنْدَار وَأبي بكر بن خلف، كِلَاهُمَا عَن يحيى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اسمعوا وَأَطيعُوا) ، يَعْنِي: فِي الْمَعْرُوف لَا فِي الْمُنكر. قَوْله: (وَإِن اسْتعْمل) أَي: وَإِن جعل عَاملا، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام: عَن مُسَدّد عَن يحيى: (وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي) . قَوْله: (كَأَن راسه زبيبة) ، يُرِيد سوادها، وَقيل يُرِيد قصر شعرهَا واجتماع بعضه وتفرقه حَتَّى يصير كالزبيب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَأَن رَأسه زبيبة أَي: حَبَّة من الْعِنَب يابسة سَوْدَاء، وَهَذَا تَمْثِيل فِي الحقارة وسماجة الصُّورَة وَعدم الِاعْتِدَاد بهَا، وَقيل: مَعْنَاهُ صَغِيرَة، وَذَلِكَ مَعْرُوف فِي الْحَبَشَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الدّلَالَة على صِحَة إِمَامَة العَبْد لِأَنَّهُ إِذا أَمر بِطَاعَتِهِ فقد أَمر بِالصَّلَاةِ خَلفه، كَمَا ذَكرْنَاهُ الأن، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا فِي الْأُمَرَاء والعمال لَا الْأَئِمَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِن الْخلَافَة فِي قُرَيْش لَا مدْخل فِيهَا لغَيرهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يكون العَبْد واليا وَشرط الْولَايَة الْحُرِّيَّة؟ قلت: بِأَن يوليه بعض الْأَئِمَّة أَو يتغلب على الْبِلَاد بِالشَّوْكَةِ. وَفِيه: النَّهْي عَن الْقيام على السلاطين وَإِن جاروا، لِأَن فِيهِ تهييج فتْنَة تذْهب بهَا الْأَنْفس وَالْحرم وَالْأَمْوَال، وَقد مثله بَعضهم بِالَّذِي يَبْنِي قصرا ويهدم مصرا. وَفِيه: دلَالَة على وجوب طَاعَة الْخَارِجِي لِأَنَّهُ قَالَ: حبشِي، والخلافة فِي قُرَيْش، فَدلَّ على أَن الحبشي إِنَّمَا يكون متغلبا، وَالْفُقَهَاء على أَنه يطاع مَا أَقَامَ الْجمع وَالْجَمَاعَات والعيد وَالْجهَاد.

55 - (بابٌ إذَا لَمْ يُتِمَّ الإمَامُ وَأَتَم مَنْ خَلْفَهُ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا لم يتم الإِمَام بِأَن قصر فِي الصَّلَاة وَأتم من خَلفه أَي: الْمُقْتَدِي، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يضر من خَلفه، وَلَكِن هَذَا لَا يمشي إلاَّ عِنْد من زعم أَن صَلَاة الإِمَام إِذا فَسدتْ لَا تفْسد صَلَاة الْمُقْتَدِي، وَإِذا قَدرنَا الْجَواب: يضر، لَا يمشي إلاَّ عِنْد من زعم أَن صَلَاة الإِمَام إِذا فَسدتْ تفْسد صَلَاة الْمُقْتَدِي، وَهَذَا مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، لِأَن صَلَاة الإِمَام متضمنة صَلَاة الْمُقْتَدِي صِحَة وَفَسَادًا وَالْأول مَذْهَب الشَّافِعِيَّة. لِأَن الِاقْتِدَاء عِنْدهم بِالْإِمَامِ فِي مُجَرّد الْمُتَابَعَة فَقَط، وَترك البُخَارِيّ الْجَواب ليشْمل المذهبين إلاَّ أَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن جَوَابه: لَا يضر.

694 - حدَّثنا الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ قَالَ حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى الأشْيَبُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ يُصَلُّونَ لَكُمْ فإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ وإنْ أخْطَؤُا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الإِمَام إِذا لم يتم الصَّلَاة وأتمها الْمُقْتَدِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ معنى قَوْله: (فَإِن أَصَابُوا) يَعْنِي فَإِن أَتموا، وَبِه صرح ابْن حبَان فِي رِوَايَة من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (يكون أَقوام يصلونَ الصَّلَاة فَإِن أَتموا فلكم وَلَهُم) ، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا،
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: الْفضل بن سهل بن إِبْرَاهِيم الْأَعْرَج الْبَغْدَادِيّ، من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ، مَاتَ قبل البُخَارِيّ لَيْلَة عيد الْفطر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَمَات الْفضل بن سهل

(5/228)


بِبَغْدَاد يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثلاث لَيَال بَقينَ من صفر سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: الْحسن بن مُوسَى الأشيب أَبُو عَليّ الْكُوفِي، سكن بَغْدَاد وَأَصله من خُرَاسَان، ولي قَضَاء حمص والموصل ثمَّ قَضَاء طبرستان، وَمَات بِالريِّ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ، والإشيب بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن دِينَار، مولى عبد الله بن عمر الْمدنِي. الرَّابِع: زيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة، مولى عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: أَبُو مُحَمَّد مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني. وَفِيه: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَأخرجه ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (سيليكم بعدِي وُلَاة فَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا فِيمَا وَافق الْحق، وصلوا وَرَاءَهُمْ فَإِن أَحْسنُوا فَلهم، وَإِن أساؤا فَعَلَيْهِم) . وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد حسن، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يكون عَلَيْكُم أُمَرَاء من بعدِي يؤخرون الصَّلَاة، فَهِيَ لكم وَهِي عَلَيْهِم، فصلوا مَعَهم مَا صلوا الْقبْلَة) . وَرَوَاهُ أَبُو ذَر وثوبان أَيْضا مَرْفُوعا، وروى الْحَاكِم مصححا عَن سهل بن سعد: (الإِمَام ضَامِن فَإِن أحسن فَلهُ وَلَهُم، وَإِن أَسَاءَ فَعَلَيهِ لَا عَلَيْهِم) . وَأخرجه على شَرط مُسلم. وَأخرج أَيْضا على شَرط البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر: (من أم النَّاس فَأَتمَّ) ، وَفِي نُسْخَة: (فَأصَاب فَالصَّلَاة لَهُ وَلَهُم، وَمن انْتقصَ من ذَلِك شَيْئا فَعَلَيهِ وَلَا عَلَيْهِم) . وَأعله الطَّحَاوِيّ بِانْقِطَاع مَا بَين عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة وَأبي عَليّ الْهَمدَانِي الرَّاوِي عَن عقبَة، وَفِي مُسْند عبد الله ابْن وهب: عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي: (الإِمَام جنَّة فَإِن أتم فلكم وَله، وَإِن نقص فَعَلَيهِ النُّقْصَان وَلكم التَّمام) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يصلونَ) أَي: الْأَئِمَّة. قَوْله: (لكم) أَي: لأجلكم، فَاللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (فَإِن أَصَابُوا) يَعْنِي: فَإِن أَتموا، يدل عَلَيْهِ حَدِيث عقبَة بن عَامر الْمَذْكُور، آنِفا. وَقَالَ ابْن بطال: (إِن أَصَابُوا) يَعْنِي: الْوَقْت، فَإِن بني أُميَّة كَانُوا يؤخرون الصَّلَاة تَأْخِيرا شَدِيدا. قلت: يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد جيد: عَن قبيصَة بن وَقاص، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يكون عَلَيْكُم أُمَرَاء من بعدِي يؤخرون الصَّلَاة، فَهِيَ لكم وَهِي عَلَيْهِم، فصلوا مَعَهم مَا صلوا الْقبْلَة) ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ستدركون أَقْوَامًا يصلونَ الصَّلَاة لغير وَقتهَا، فَإِن أدركتموهم فصلوا فِي بُيُوتكُمْ للْوَقْت الَّذِي تعرفُون، ثمَّ صلوا مَعَهم واجعلوها سبْحَة) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن أَصَابُوا فِي الْأَركان والشرائط وَالسّنَن فلكم. قَوْله: (وان أخطأوا) أَي: وَإِن لم يُصِيبُوا. قَوْله: (فلكم) أَي: ثَوَابهَا، (وَعَلَيْهِم) أَي: عقابها، لِأَن: على تسْتَعْمل فِي الشَّرّ، و: اللَّام، فِي الْخَيْر. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك قَوْله: (فلكم) يُرِيد ثَوَاب الطَّاعَة والسمع، (وَعَلَيْهِم) إِثْم مَا صَنَعُوا واخطأوا، وَقيل: إِن صليتم أفذاذا فِي الْوَقْت فصلاتكم تَامَّة إِن أخطأوا فِي صلَاتهم وائتممتم بهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْخَطَأ عِقَابه مَرْفُوع عَن الْمُكَلّفين، فَكيف يكون عَلَيْهِم؟ وَأجَاب بِأَن الأخطاء هَهُنَا فِي مُقَابلَة الْإِصَابَة لَا فِي مُقَابلَة الْعمد، وَهَذَا الَّذِي فِي مُقَابلَة الْعمد هُوَ الْمَرْفُوع لَا ذَاك، وَسَأَلَ أَيْضا مَا معنى كَون غير الصَّوَاب لَهُم إِذْ لَا خير فِيهِ حَتَّى يكون لَهُم؟ وَأجَاب بقوله: مَعْنَاهُ صَلَاتكُمْ لكم وَكَذَا ثَوَاب الْجَمَاعَة لكم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة خلف الْبر والفاجر إِذا خيف مِنْهُ، يعنيوفيه: إِذا كَانَ صَاحب شَوْكَة. وَفِي (شرح السّنة) فِيهِ: دَلِيل على أَنه إِذا صلى بِقوم مُحدثا أَنه تصح صَلَاة الْمَأْمُومين خَلفه وَعَلِيهِ الْإِعَادَة قلت: هَذَا على مَذْهَب الشَّافِعِي كَمَا ذكرنَا أَن الْمُؤْتَم عِنْده تبع للْإِمَام فِي مُجَرّد الْمُوَافقَة لَا فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعِنْدنَا يتبع لَهُ مُطلقًا، يَعْنِي: فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي مسَائِل: مِنْهَا: أَن الإِمَام إِذا ظهر مُحدثا أَو جنبا لَا يُعِيد الْمُؤْتَم صلَاته عِنْدهم. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء الْقَائِم بالمومى. وَمِنْهَا: قِرَاءَة الإِمَام لَا تنوب عَن قِرَاءَة الْمُقْتَدِي. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وبمن يُصَلِّي فرضا آخر. وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَدِي يَقُول: سمع الله لمن حَمده. وَعِنْدنَا: الحكم بِالْعَكْسِ فِي كلهَا، وَدَلِيلنَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم مصححا عَن سهل بن سعد: (الإِمَام ضَامِن) ، يَعْنِي: صلَاتهم فِي ضمن صلَاته صِحَة وَفَسَادًا. وَقد اسْتدلَّ بِهِ قوم: أَن الائتمام بِمن يحل بِشَيْء من الصَّلَاة ركنا كَانَ أَو غَيره صَحِيح إِذا أتم الْمَأْمُوم، قيل: هَذَا وَجه عِنْد الشَّافِعِيَّة بِشَرْط

(5/229)


أَن يكون الإِمَام هُوَ الْخَلِيفَة أَو نَائِبه. وَقَالَ قوم المُرَاد: بقوله: (فَإِن اخطأوا فلكم) يَعْنِي: صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ فِي الْوَقْت، وَكَذَلِكَ كَانَ جمَاعَة من السّلف يَفْعَلُونَ، رُوِيَ عَن ابْن عمر أَن الْحجَّاج لما أخر الصَّلَاة بِعَرَفَة صلى ابْن عمر فِي رَحْله ووقف فَأمر بِهِ الْحجَّاج فحبس، وَكَانَ الْحجَّاج يُؤَخر الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ أَبُو وَائِل يَأْمُرنَا أَن نصلي فِي بُيُوتنَا ثمَّ نأتي الْحجَّاج فنصلي مَعَه، وَفعله مَسْرُوق مَعَ زِيَاد، وَكَانَ عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير فِي زمن الْوَلِيد إِذا أخر الصَّلَاة صليا فِي مَحلهمَا ثمَّ صليا مَعَه، وَفعله مَكْحُول مَعَ الْوَلِيد أَيْضا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَكَانَ جمَاعَة من السّلف يصلونَ فِي بُيُوتهم فِي الْوَقْت ثمَّ يعيدون مَعَهم، وَهُوَ مَذْهَب مَالك، وَعَن بعض السّلف: لَا يعيدون. وَقَالَ النَّخعِيّ: كَانَ عبد الله يُصَلِّي مَعَهم إِذا أخروا عَن الْوَقْت قَلِيلا، وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا قسام قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ عَن الصَّلَاة خلف الْأُمَرَاء قَالَ: صلِّ مَعَهم وَقيل لجَعْفَر ابْن مُحَمَّد: كَانَ أَبوك يُصَلِّي إِذا رَجَعَ إِلَى الْبَيْت؟ فَقَالَ: لَا وَالله مَا كَانَ يزِيد على صَلَاة الْأَئِمَّة، وَالله أعلم.

56 - (بابُ إمَامَةِ المَفْتُونِ والمُبْتَدِعِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم إِمَامَة الْمفْتُون، وَهُوَ من فتن الرجل فَهُوَ مفتون إِذا ذهب مَاله وعقله، والفاتن: المضل عَن الْحق، والمفتون المضل، بِفَتْح الضَّاد، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم: أَي الَّذِي دخل فِي الْفِتْنَة فَخرج على الإِمَام. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَا ينطبق إلاّ على الفاتن، لِأَن الَّذِي يدْخل فِي الْفِتْنَة وَيخرج على الإِمَام هُوَ الْفَاعِل، وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ أَيْضا أَن يَقُول: بَاب إِمَامَة الفاتن. قَوْله: (والمبتدع) وَهُوَ الَّذِي يرتكب الْبِدْعَة، والبدعة لُغَة: كل شَيْء عمل عَليّ غير مِثَال سَابق، وَشرعا إِحْدَاث مَا لم يكن لَهُ أصل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي عل قسمَيْنِ: بِدعَة ضَلَالَة، وَهِي الَّتِي ذكرنَا، وبدعة حَسَنَة: وَهِي مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا وَلَا يكون مُخَالفا للْكتاب أَو السّنة أَو الْأَثر أَو الْإِجْمَاع، وَالْمرَاد هُنَا الْبِدْعَة: الضَّلَالَة.
وَقَالَ الحسَنُ صَلِّ وعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ
كَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف المبتدع، فَقَالَ: صل وَعَلِيهِ إِثْم بدعته، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن هِشَام بن حسان: أَن الْحسن سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف صَاحب بِدعَة فَقَالَ: صل خَلفه وَعَلِيهِ بدعته.
(قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ لنا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنَا الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبيد الله بن عدي بن خِيَار أَنه دخل على عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَحْصُور فَقَالَ إِنَّك إِمَام عَامَّة وَنزل بك مَا ترى وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة ونتحرج فَقَالَ الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس فَإِذا أحسن النَّاس فَأحْسن مَعَهم وَإِذا أساؤا فاجتنب إساءتهم)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة " إِلَى آخِره. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ. الثَّانِي عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مر فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان. الْخَامِس عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عدي بِفَتْح الْعين وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن خِيَار بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفة الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء النَّوْفَلِي الْمدنِي التَّابِعِيّ أدْرك زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم تثبت رُؤْيَته وَكَانَ من فُقَهَاء قُرَيْش وثقاتهم مَاتَ زمن الْوَلِيد بن عبد الْملك (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ أَولا قَالَ البُخَارِيّ قَالَ لنا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ صَاحب التَّلْوِيح كَأَنَّهُ أَخذ هَذَا الحَدِيث مذاكرة فَلهَذَا لم يقل فِيهِ حَدثنَا وَقيل أَنه مِمَّا تحمله بِالْإِجَازَةِ أَو المناولة أَو الْعرض وَقيل أَنه مُتَّصِل من حَيْثُ اللَّفْظ مُنْقَطع من حَيْثُ الْمَعْنى وَقَالَ بَعضهم هُوَ مُتَّصِل لَكِن لَا يعبر بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَّا إِذا كَانَ الْمَتْن مَوْقُوفا أَو كَانَ فِيهِ راو لَيْسَ على شَرطه وَالَّذِي هُنَا من قبيل الأول (قلت) إِذا كَانَ الرَّاوِي على غير شَرطه كَيفَ يذكرهُ فِي كِتَابه. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض وهم الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن عبيد الله وَفِيه الزُّهْرِيّ عَن حميد وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ أَخْبرنِي حميد وَفِيه حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ وَفِي رِوَايَة ابْن

(5/230)


الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ وَفِيه عَن حميد عَن عبيد الله وَفِي رِوَايَة أبي نعيم والإسماعيلي حَدثنِي عبيد الله بن عدي. (ذكر من وَصله) وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ حَدثنَا عبد الله بن يحيى السَّرخسِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا أَحْمد بن يُوسُف حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنَا الزُّهْرِيّ فَذكره وَقَالَ أَيْضا حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن هَانِيء حَدثنَا الزيَادي حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا عَنْبَسَة حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عبيد الله بن عدي بِهِ وَمن طَرِيق هِقْل بن زِيَاد سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ حَدثنِي حميد وَمن طَرِيق عِيسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد حَدثنِي عبيد الله بن عدي وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من طَرِيق الْحسن بن سُفْيَان عَن حبَان عَن عبد الله بن الْمُبَارك أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ فَذكره (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَهُوَ مَحْصُور " جملَة اسمية وَقعت حَالا على الأَصْل بِالْوَاو أَي مَحْبُوس فِي الدَّار مَمْنُوع عَن الْأُمُور قَوْله " إِمَام عَامَّة " بِالْإِضَافَة أَي إِمَام جمَاعَة وَفِي رِوَايَة يُونُس " وَأَنت الإِمَام " أَي الإِمَام الْأَعْظَم قَوْله " مَا نرى " بنُون الْمُتَكَلّم ويروى " مَا ترى " بتاء الْمُخَاطب أَي مَا ترى من الْحصار وَخُرُوج الْخَوَارِج عَلَيْهِ قَوْله " وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة " أَي رَئِيس فتْنَة وَقَالَ الدَّاودِيّ أَي فِي وَقت فتْنَة وَقَالَ ابْن وضاح إِمَام الْفِتْنَة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ الَّذِي جلب على عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أهل مصر وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد صلى كنَانَة بن بشر أحد رُؤْس الْخَوَارِج بِالنَّاسِ أَيْضا وَكَانَ هَؤُلَاءِ لما هجموا على الْمَدِينَة كَانَ عُثْمَان يخرج فَيصَلي بِالنَّاسِ شهرا ثمَّ خرج يَوْمًا فحصبوه حَتَّى وَقع على الْمِنْبَر وَلم يسْتَطع الصَّلَاة يَوْمئِذٍ فصلى بهم أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف فمنعوه فصلى بهم عبد الرَّحْمَن بن عديس تَارَة وكنانة بن بشر تَارَة فبقيا على ذَلِك عشرَة أَيَّام (فَإِن قلت) صلى بهم أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف وَعلي بن أبي طَالب وَسَهل بن حنيف وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَطَلْحَة بن عبيد الله فَكيف يُقَال فِي حَقهم إِمَام فتْنَة (قلت) وَلَيْسَ وَاحِد من هَؤُلَاءِ مُرَاد بقوله " إِمَام فتْنَة " دلّ على ذَلِك تَفْسِير الدَّاودِيّ بقوله أَي فِي وَقت فتْنَة أَو يَقُول أَنهم استأذنوه فِي الصَّلَاة فَأذن لَهُم لعلمه أَن المصريين لَا يصلونَ إِلَيْهِم بشر (فَإِن قلت) هَل ثَبت صَلَاة هَؤُلَاءِ (قلت) أما صَلَاة أبي أُمَامَة فقد رَوَاهُ عمر بن شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح وَرَوَاهُ المدايني من طَرِيق أبي هُرَيْرَة وَأما صَلَاة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي تَارِيخ بَغْدَاد من رِوَايَة ثَعْلَبَة بن يزِيد الجماني قَالَ فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْعِيد عيد الْأَضْحَى جَاءَ عَليّ فصلى بِالنَّاسِ وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك فِيمَا رَوَاهُ الْحسن الْحلْوانِي لم يصل بهم غير صَلَاة الْعِيد وَفعل ذَلِك عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِئَلَّا تضاع السّنة وَقَالَ غَيره صلى بهم عدَّة صلوَات وَأما صَلَاة سهل بن حنيف فَرَوَاهُ عمر بن شيبَة أَيْضا بِإِسْنَاد قوي قَوْله " ونتحرج " بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالجيم من التحرج أَي نَخَاف الْوُقُوع فِي الاثم وأصل الْحَرج الضّيق ثمَّ اسْتعْمل للاثم لِأَنَّهُ يضيق على صَاحبه وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك " وَإِنَّا لنتحرج من الصَّلَاة مَعَهم " وَهَذَا القَوْل ينْصَرف إِلَى صَلَاة من صلى من رُؤَسَاء الْخَوَارِج فِي وَقت الْفِتْنَة وَلَا يدْخل فِيهِ من ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة قَوْله " فَقَالَ الصَّلَاة أحسن " أَي قَالَ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الصَّلَاة أحسن فَقَوله الصَّلَاة مُبْتَدأ وَقَوله أحسن مُضَاف إِلَى مَا بعده خَبره وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك " أَن الصَّلَاة أحسن " وَفِي رِوَايَة هِقْل بن زِيَاد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الْإِسْمَاعِيلِيّ " الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس " (فَإِن قلت) هَذَا يدل على أَن عُثْمَان لم يذكر الَّذِي أمّهم من رُؤَسَاء الْخَوَارِج بمكروه وَتَفْسِير الدَّاودِيّ على هَذَا لَا اخْتِصَاص لَهُ بالخارجي (قلت) لَا يلْزم من كَون الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس أَو من أحسن مَا عمل النَّاس أَن لَا يسْتَحق فاعلها ذما عِنْد وجود مَا يَقْتَضِيهِ قَوْله " فَإِذا أحسن النَّاس فَأحْسن مَعَهم " ظَاهره أَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رخص لَهُ فِي الصَّلَاة مَعَهم كَأَنَّهُ يَقُول لَا يَضرك كَونه مفتونا إِذا أحسن فوافقه على إحسانه وأترك مَا افْتتن بِهِ وَبِهَذَا تُوجد الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة وَقَالَ ابْن الْمُنِير يحْتَمل أَن يكون رأى أَن الصَّلَاة خَلفه لَا تصح فحاد عَن الْجَواب بقوله " الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس " لِأَن الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أحسن هِيَ الصَّلَاة الصَّحِيحَة وَصَلَاة الْخَارِجِي غير صَحِيحَة لِأَنَّهُ إِمَّا كَافِر أَو فَاسق انْتهى (وَأجِيب) بِأَن هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا هُوَ نصْرَة لمذهبه فِي عدم صِحَة الصَّلَاة خلف الْفَاسِق وَهَذَا مَرْدُود لما روى سيف بن عمر فِي الْفتُوح عَن سهل بن يُوسُف الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه قَالَ كره النَّاس الصَّلَاة خلف الَّذين حصروا عُثْمَان إِلَّا عُثْمَان فَإِنَّهُ قَالَ من دَعَا إِلَى الصَّلَاة فأجيبوه

(5/231)


(ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ تحذير من الْفِتْنَة وَالدُّخُول فِيهَا وَمن جَمِيع مَا يُنكر من قَول أَو فعل أَو اعْتِقَاد يدل عَلَيْهِ قَوْله " وَإِذا أساؤا فاجتنب " وَفِيه أَن الصَّلَاة خلف من تكره الصَّلَاة خَلفه أولى من تَعْطِيل الْجَمَاعَة وَقَالَ بَعضهم وَفِيه رد على من زعم أَن الْجُمُعَة لَا تجزيء أَن تُقَام بِغَيْر إِذن الإِمَام (قلت) لَيْسَ فِيهِ رد بل دَعْوَى الرَّد على ذَلِك مَرْدُودَة لِأَن عليا صلى يَوْم عيد الْأَضْحَى الَّذِي شَرطهَا أَن يُصَلِّي من يُصَلِّي الْجُمُعَة فَمن أَيْن ثَبت أَنه صلى بِغَيْر إِذن عُثْمَان وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنهُ أَنه صلى عدَّة صلوَات وفيهَا الْجُمُعَة فَمن ادّعى أَنه صلى بِغَيْر اسْتِئْذَان فَعَلَيهِ الْبَيَان وَلَئِن سلمنَا أَنه صلى بِغَيْر اسْتِئْذَان وَلَكِن كَانَ ذَلِك بسب تخلف الإِمَام عَن الْحُضُور وَإِذا تعذر حُضُور الإِمَام فعلى الْمُسلمين إِقَامَة رجل مِنْهُم يقوم بِهِ وَهَذَا كَمَا فعل الْمُسلمُونَ بِمَوْتِهِ لما قتل الْأُمَرَاء اجْتَمعُوا على خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَو نقُول أَن عليا لم يتَوَصَّل إِلَيْهِ فَعَن هَذَا قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن لَو غلب على مصر متغلب وَصلى بهم الْجُمُعَة جَازَ وَنقل ذَلِك عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَانَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أولى بذلك لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم رَضوا بِهِ وصلوا وَرَاءه وَسَوَاء كَانَ بِإِذن أَو لَا بِإِذن فَلَا نرى جَوَازهَا بِغَيْر إِذن الإِمَام وَكَيف وَقد روى ابْن ماجة عَن جَابر بن عبد الله قَالَ " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَفِيه " فَمن تَركهَا " أَي الْجُمُعَة " فِي حَياتِي أَو بعدِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا فَلَا جمع الله شَمله وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بر لَهُ حَتَّى يَتُوب " الحَدِيث وَمن هَذَا أَخذ أَصْحَابنَا وَقَالُوا لَا تجوز إِقَامَتهَا إِلَّا للسُّلْطَان وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم أَو لمن أمره كالنائب وَالْقَاضِي والخطيب (فَإِن قلت) هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَفِي سَنَده عبد الله بن مُحَمَّد وَهُوَ تكلم فِيهِ (قلت) هَذَا رُوِيَ من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة فَحصل لَهُ بذلك قُوَّة فَلَا يمْنَع من الِاحْتِجَاج بِهِ وَأما الصَّلَاة خلف الْخَوَارِج وَأهل الْبدع فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فأجازت طَائِفَة مِنْهُم ابْن عمر إِذا صلى خلف الْحجَّاج وَكَذَلِكَ ابْن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير ثمَّ خرجا عَلَيْهِ وَقَالَ النَّخعِيّ كَانُوا يصلونَ وَرَاء الْأُمَرَاء مَا كَانُوا وَكَانَ أَبُو وَائِل يجمع مَعَ المختارين عبيد وَسُئِلَ مَيْمُون بن مهْرَان عَن الصَّلَاة خلف رجل يذكر أَنه من الْخَوَارِج فَقَالَ أَنْت لَا تصلي لَهُ إِنَّمَا تصلي لله عز وَجل وَقد كُنَّا نصلي خلف الْحجَّاج وَكَانَ حروريا أزرقيا وروى أَشهب عَن مَالك لَا أحب الصَّلَاة خلف الأباضية والواصلية وَلَا السُّكْنَى مَعَهم فِي بلد وَقَالَ ابْن الْقَاسِم أرى الْإِعَادَة فِي الْوَقْت على من صلى خلف أهل الْبدع وَقَالَ أصبغ يُعِيد أبدا وَقَالَ الثَّوْريّ فِي القدري لَا تقدموه وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل لَا يصلى خلف أحد من أهل الْأَهْوَاء إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى هَوَاهُ وَمن صلى خلف الْجَهْمِية والرافضية والقدرية يُعِيد وَقَالَ أَصْحَابنَا تكره الصَّلَاة خلف صَاحب هوى وبدعة وَلَا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري لأَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن الله لَا يعلم الشَّيْء قبل حُدُوثه وَهُوَ كفر والمشبهة وَمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَكَانَ أَبُو حنيفَة لَا يرى الصَّلَاة خلف المبتدع وَمثله عَن أبي يُوسُف وَأما الْفَاسِق بجوارحه كالزاني وشارب الْخمر فَزعم ابْن حبيب أَن من صلى خلف من شرب الْخمر يُعِيد أبدا إِلَّا أَن يكون واليا وَقيل فِي رِوَايَة يَصح وَفِي الْمُحِيط لَو صلى خلف فَاسق أَو مُبْتَدع يكون مُحرز لثواب الْجَمَاعَة وَلَا ينَال ثَوَاب من صلى خلف المتقي وَفِي الْمَبْسُوط يكره الِاقْتِدَاء بِصَاحِب الْبِدْعَة
(وَقَالَ الزبيدِيّ قَالَ لزهري لَا نرى أَن يُصَلِّي خلف المخنث إِلَّا من ضَرُورَة لَا بُد مِنْهَا) الزبيدِيّ بِضَم الزَّاي وَفتح الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمَكْسُورَة وَهِي نِسْبَة إِلَى زبيدى وَهُوَ بطن فِي مذْحج وَفِي الأزد وَفِي خولان القضاعية وَهُوَ صَاحب الزُّهْرِيّ واسْمه مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي قَالَ ابْن سعد مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب قَوْله " أَن يُصَلِّي " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " المخنث " بِكَسْر النُّون وَفتحهَا وَالْكَسْر أفْصح وَالْفَتْح أشهر وَهُوَ الَّذِي خلقه خلق النِّسَاء وَهُوَ نَوْعَانِ من يكون ذَلِك خلقَة لَهُ لَا صنع لَهُ فِيهِ وَهَذَا لَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا ذمّ وَمن تكلّف ذَلِك وَلَيْسَ لَهُ خلقيا وَهَذَا هُوَ المذموم وَقيل بِكَسْر النُّون من فِيهِ تكسر وتثن وتشبه بِالنسَاء وبالفتح من يُؤْتى فِي دبره وَقَالَ أَبُو عبد الْملك أَرَادَ الزُّهْرِيّ الَّذِي يُؤْتى فِي دبره وَأما من يتكسر فِي كَلَامه ومشيه فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ خَلفه وَقَالَ الدَّاودِيّ أرادهما لِأَنَّهُمَا بِدعَة وجرحة وَذَلِكَ لِأَن الْإِمَامَة مَوضِع كَمَال وَاخْتِيَار أهل الْفضل وكما أَن إِمَام الْفِتْنَة والمبتدع كل مِنْهُمَا مفتون فِي طَرِيقَته فَلَمَّا شملهم معنى الْفِتْنَة

(5/232)


ذهبت إمامتهم إِلَّا من ضَرُورَة وَلِهَذَا أَدخل البُخَارِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا وَقَالَ ابْن بطال ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا لِأَن المخنث مفتتن فِي طَرِيقَته قَوْله " إِلَّا من ضَرُورَة " أَي إِلَّا أَن يكون ذَا شَوْكَة فَلَا تعطل الْجَمَاعَة بِسَبَبِهِ وَقد رَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ بِغَيْر قيد أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنهُ وَلَفظه " قلت فالمخنث قَالَا وَلَا كَرَامَة لَا تأتم بِهِ " وَهُوَ مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار -
696 - مُ حَمَّدُ بنُ أبانَ قَالَ حدَّثنا غُنَّدَرٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ أبي التَّيَّاحِ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاِبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ ولَوْ لِحَبَشِيٍّ كأنَّ رَأسَهُ زَبِيبَةٌ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الصِّفَات لَا تُوجد غَالِبا إلاّ فِيمَن هُوَ غَايَة الْجَهْل، ومفتون بِنَفسِهِ. وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب إِمَامَة العَبْد، غير أَن هُنَاكَ: مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا: مُحَمَّد بن أبان الْبَلْخِي مستملي وَكِيع، وَقيل: هُوَ واسطي، وَهُوَ يحْتَمل، وَلَكِن لَيْسَ للواسطي رِوَايَة عَن غنْدر، والبلخي يروي عَنهُ، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال: وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن امْرَأَة شُعْبَة عَن أبي التياح يزِيد بن حميد، وَهُنَاكَ الْخطاب للْجَمَاعَة وَهنا الْخطاب لأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَلَو لحبشي) أَي: وَلَو كَانَ الطَّاعَة أَو الْأَمر لحبشي، سَوَاء كَانَ ذَلِك الحبشي مفتونا أَو مبتدعا.