عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 62 - (بابُ أجْرِ المَرْأةِ إذَا
تَصَدَّقَتْ أوْ أطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ
مُفْسِدَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر الْمَرْأَة إِذا تَصَدَّقت
من مَال زَوجهَا أَو أطعمت شَيْئا من بَيت زَوجهَا حَال
كَونهَا غير مفْسدَة، وَلم يُقيد هُنَا بِالْأَمر، وَقيد
بِهِ فِي الخازن فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَن
للْمَرْأَة أَن تتصرف فِي بَيت زَوجهَا للرضى بذلك
غَالِبا، وَلَكِن بِشَرْط عدم الْإِفْسَاد، بِخِلَاف
الخازن لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تصرف إلاَّ بِالْإِذْنِ،
وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث
همام عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا أنفقت الْمَرْأَة
من كسب زَوجهَا من غير أمره فلهَا نصف أجره) ، وَسَيَأْتِي
الحَدِيث فِي الْبيُوع.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَنه لَا بُد فِي الْعَامِل،
وَهُوَ الخازن، وَفِي الزَّوْجَة والمملوك من إِذن
الْمَالِك فِي ذَلِك، فَإِن لم يكن لَهُ إِذن أصلا فَلَا
يجوز لأحد من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، بل عَلَيْهِم وزر
تصرفهم فِي مَال غَيرهم بِغَيْر إِذْنه، وَالْإِذْن
ضَرْبَان. أَحدهمَا: الْإِذْن الصَّرِيح فِي النَّفَقَة
وَالصَّدَََقَة. وَالثَّانِي: الْإِذْن الْمَفْهُوم من
اطراد الْعرف: كإعطاء السَّائِل كسرة وَنَحْوهَا مِمَّا
جرت بِهِ الْعَادة، واطراد الْعرف فِيهِ، وَعلم بِالْعرْفِ
رضى الزَّوْج وَالْمَالِك بِهِ، فإذنه فِي ذَلِك حَاصِل
وَإِن لم يتَكَلَّم، وَهَذَا إِذا علم رِضَاهُ لاطراد
الْعرف، وَعلم أَن نَفسه كنفوس غَالب النَّاس فِي السماحة
بذلك والرضى بِهِ، فَأن اضْطربَ الْعرف وَشك فِي رِضَاهُ
أَو كَانَ شحيح النَّفس يشح بذلك، وَعلم من حَاله ذَلِك
أَو شكّ فِيهِ، لم يجز للْمَرْأَة وَغَيرهَا التَّصَدُّق
من مَاله إلاَّ بِصَرِيح إِذْنه، وَأما قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة آنِفا فَمَعْنَاه: من غير أمره
الصَّرِيح فِي ذَلِك الْقدر المهين، وَيكون مَعهَا إِذن
سَابق يتَنَاوَل لهَذَا القدرلا وَغَيره، وَذَلِكَ هُوَ
الْإِذْن الَّذِي قدمْنَاهُ سَابِقًا إِمَّا بِالصَّرِيحِ
وَإِمَّا بِالْعرْفِ، وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْأجر مُنَاصَفَة
فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، رَحمَه الله، فلهَا نصف أجره
وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذا أنفقت من غير إِذن صَرِيح وَلَا
مَعْرُوف من الْعرف فَلَا أجر لَهَا، بل عَلَيْهَا وزر،
فَتعين تَأْوِيله.
9341 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا مَنْصُورٌ وَالأعْمَشُ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ
مَسْرُوقِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصَدَّقَتِ المَرْأةُ
مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا.
حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ شَقيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إذَا أطْعَمَتِ الْمَرْأةُ مِنْ بَيْتِ
زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ لَهَا أجْرُهَا ولَهُ
مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذالِكَ لَهُ بِمَا
اكْتَسَبَ ولَهَا بِمَا أنْفَقَتْ..
1441 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ يَحْيَى قَالَ أخبرنَا جَرِيرٌ
عنْ مَنْصُورٍ عنْ شَقِيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا أنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ
طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَلَهَا أجْرُهَا
وَلِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَتْ وَلِلْخَازِنَ مِثْلُ
ذالِكَ..
هَذِه ثَلَاثَة طرق فِي حَدِيث عَائِشَة تَدور على أبي
وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق عَنْهَا، ومطابقتها
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن
شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر
وَسليمَان الْأَعْمَش، كِلَاهُمَا (عَن أبي وَائِل شَقِيق
بن سَلمَة عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق الْأَعَمّ عَن
أبي وَائِل عَن مَسْرُوق إِلَى آخِره، وَلم يسق
البُخَارِيّ تَمام هَذَا الطَّرِيق، لكنه ذكره بِتَمَامِهِ
على سَبِيل التَّحْوِيل. قَوْله: (تَعْنِي) أَي عَائِشَة،
حَدِيث: (إِذا تَصَدَّقت الْمَرْأَة من
(8/305)
بَيت زَوجهَا) . الطَّرِيق الثَّانِي عَن
عمر بن حَفْص عَن أَبِيه خفص بن غياث عَن سُلَيْمَان
الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من
حَدِيث الْأَعْمَش. الطَّرِيق الثَّالِث عَن يحيى بن يحيى
أبي زَكَرِيَّا التَّمِيمِي عَن جرير بن عبد الحميد عَن
مَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِر ... إِلَى آخِره. وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب من أَمر خادمه
بِالصَّدَقَةِ، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن
مَنْصُور إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب أجر
الْخَادِم، عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير عَن الْأَعْمَش
عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة ... إِلَى
آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهَا مُسْتَوفى هُنَاكَ.
72 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {فأمَّا مَنْ أعْطَى
وَاتَّقَى وصَدَّقَ بِالحُسْنَى فسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ
بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} )
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا إِشَارَة إِلَى
التَّرْغِيب فِي الأنفاق فِي وُجُوه الْبر، لِأَن الله
تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخلف فِي العاجل، وَالثَّوَاب الجزيل
فِي الآجل، وَإِشَارَة إِلَى التهديد لمن يبخل وَيمْتَنع
من الْإِنْفَاق فِي القربات. وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ)
: عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فأمَّا من اعطى
وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5) . قَالَ أعْطى مِمَّا عِنْده،
وَصدق بالخلف من الله تَعَالَى، وَاتَّقَى ربه، وَقَالَ
قَتَادَة: أعْطى حق الله تَعَالَى، وَاتَّقَى مَحَارمه
الَّتِي نهى عَنْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاك: زكى وَاتَّقَى
الله تَعَالَى. قَوْله: {وصدَّق بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل:
5 01) . يَعْنِي: قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ الله، قَالَه
الضَّحَّاك وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَابْن عَبَّاس، وَعَن
مُجَاهِد: وَصدق بِالْحُسْنَى: بِالْجنَّةِ. وَقَالَ
قَتَادَة: صدق بموعود الله تَعَالَى على نَفسه، فَعمل بذلك
الْمَوْعُود الَّذِي وعده، وَذكر الطَّبَرِيّ أَيْضا: أَن
هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (الْمعَانِي) للفراء: نزلت فِي أبي
بكر وَفِي أبي سُفْيَان. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث
السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره) بأسناده عَن عبد الله بن
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن أَبَا بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اشْترى بِلَالًا من
أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف بِبُرْدَةٍ وَعشر أَوَاقٍ
ذهب، فَأعْتقهُ لله تَعَالَى، فَأنْزل الله هَذِه
السُّورَة: {وَاللَّيْل إِذا يغشى وَالنَّهَار إِذا تجلى
وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى إِن سعيكم لشتى} (اللَّيْل:
1 4) . يَعْنِي: سعي أبي بكر وَأُميَّة بن خلف. {فَأَما من
أعْطى} (اللَّيْل: 1 01) . المَال. {وَاتَّقَى} (اللَّيْل:
1 01) . الشّرك. {وَصدق بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي: بِلَا إِلَه إلاَّ الله. {فسنيسره لليسرى}
(اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي الْجنَّة. {وَأما من بخل}
(اللَّيْل: 1 01) . بِالْمَالِ. {وَاسْتغْنى وَكذب
بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: بِلَا إِلَه
إلاَّ الله. {فسنيسره للعسرى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي:
سنهون عَلَيْهِ أُمُور النَّار، يَعْنِي أُميَّة وأبيا
إِذا مَاتَا. وَقيل: فَأَما من أعْطى يَعْنِي: أَبَا
الدحداح أعْطى من فضل مَاله. وَقيل: الصدْق من قلبه.
وَقيل: حق الله وَاتَّقَى محارم الله الَّتِي نهي عَنْهَا،
وَصدق بالحسني أَي: بِالْجنَّةِ، وَقيل: بوعد الله، وَقيل:
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم. قَوْله:
{وَاسْتغْنى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: عَن ثَوَاب الله
تَعَالَى فَلم يرغب فِيهِ. وَقيل: اسْتغنى بِمَالِه.
قَوْله: {فسنيسره للعسرى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي
الْعَمَل بِمَا لَا يرضى الله بِهِ. وَقيل: سندخله
جَهَنَّم. وَقيل: للعود إِلَى الْبُخْل.
أللَّهُمَ أعْطِ مُنْفِقَ مالٍ خلَفا
قَالَ الْكرْمَانِي: وَجه ربطه بِمَا قبله أَنه مَعْطُوف
على قَول الله تَعَالَى، وَحذف حرف الْعَطف جَائِز، وَهُوَ
بَيَان للحسنى، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن قَول الله
تَعَالَى مُبين بِالْحَدِيثِ، يَعْنِي: تيسير الْيُسْرَى
لَهُ إِعْطَاء الْخلف لَهُ، والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو
هُرَيْرَة كَمَا يجيىء الْآن: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ
مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ
يخلفه} (سبإ: 93) .
2441 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ
سُلَيْمَانَ عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي مُزَرِّدٍ عنْ أبِي
الحُبَابِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ
يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكَانِ
يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ
مُنْفِقا خَلَفا ويَقُولُ الآخَرُ ألَّلهُمَّ أعْطِ
مُمْسِكا تَلَفا.
مطابقته لقَوْله: (أللهم أعْط منفقَ مالٍ خلفا) ظَاهِرَة
لِأَنَّهُ بَينه.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس.
الثَّانِي: أَخُوهُ، وَهُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الحميد.
الثالت: سُلَيْمَان بن بِلَال. الرَّابِع: مُعَاوِيَة بن
أبي مزرد، بِضَم الْمِيم وَفتح
(8/306)
الزَّاي وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره دَال
مُهْملَة: واسْمه عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو
الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء
الْمُوَحدَة الأولى، واسْمه سعيد بن يسَار ضد الْيَمين عَم
مُعَاوِيَة الْمَذْكُور. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن أَخِيه. وَفِيه: رِوَايَة
الرجل عَن عَمه.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن
الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة
النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن نصر، وَفِي الْمَلَائِكَة عَن
عَبَّاس بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من من يَوْم) ، وَفِي حَدِيث أبي
الدَّرْدَاء: (مَا من يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس إلاَّ
وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلاَّ
الثقلَيْن: يَا أَيهَا النَّاس هلموا إِلَى ربكُم إِن مَا
قل وَكفى خير مِمَّا كثر وألهى، وَلَا غربت شمسه إلاَّ
وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأَرْض إلاَّ
الثقلَيْن: أللهم أعْط منفقا خلفا وَأعْطِ ممسكا مَالا
تلفا) . رَوَاهُ أَحْمد. قَوْله: (بجنبتيها) تَثْنِيَة:
جنبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهِي:
النَّاحِيَة. قَوْله: (مَا من يَوْم) يَعْنِي: لَيْسَ من
يَوْم، وَكلمَة: من، زَائِدَة، و: يَوْم، اسْمه. وَقَوله:
(يصبح الْعباد فِيهِ) صفة يَوْم. وَقَوله: (إلاَّ ملكان)
مُسْتَثْنى من مُتَعَلق مَحْذُوف، وَهُوَ خبر: مَا،
الْمَعْنى: لَيْسَ يَوْم مَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف ينزل
فِيهِ أحد إلاَّ ملكان يَقُولَانِ كَيْت وَكَيْت، فَحذف
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَدلّ عَلَيْهِ بِوَصْف: الْملكَانِ
ينزلان، وَنَظِيره فِي مَجِيء الْمَوْصُوف مَعَ الصّفة
بُعد إلاَّ فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ، قَوْلك: مَا أخْبرت
مِنْكُم أحدا إلاَّ رَفِيقًا. قَوْله: (خلفا) بِفَتْح
اللَّام أَي: عوضا. يُقَال أخلف الله عَلَيْك خلفا أَي:
عوضا أَي: أبدلك بِمَا ذهب مِنْك. قَوْله: (أعطِ ممسكا
تلفا) التَّعْبِير بِالْعَطِيَّةِ هُنَا من قبيل المشاكلة،
لِأَن التّلف لَيْسَ بعطية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه مُوَافق لقَوْله
تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} (سبإ: 93)
. وَلقَوْله: (ابْن آدم أنْفق أنْفق عَلَيْك) ، وَهَذَا
يعم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب. وَفِيه: أَن الممسك يسْتَحق
تلف مَاله، وَيُرَاد بِهِ الْإِمْسَاك عَن الْوَاجِبَات
دون المندوبات، فَإِنَّهُ قد لَا يسْتَحق هَذَا الدُّعَاء،
اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يغلب عَلَيْهِ الْبُخْل بهَا، وَإِن
قلت فِي نَفسهَا كالحبة واللقمة وَنَحْوهمَا. وَفِيه: الحض
على الْإِنْفَاق فِي الْوَاجِبَات كَالنَّفَقَةِ على
الْأَهْل وصلَة الرَّحِم، وَيدخل فِيهِ صَدَقَة
التَّطَوُّع وَالْفَرْض. وَفِيه: دُعَاء الْمَلَائِكَة،
وَمَعْلُوم أَنه مجاب بِدَلِيل قَوْله: (من وَافق تأمينه
تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) .
82 - (بابُ مَثَلِ المُتَصَدِّقِ وَالبَخِيلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مثل الْمُتَصَدّق والبخيل،
وَمثل الْمُتَصَدّق كَلَام إضافي مَرْفُوع على
الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف، حذفه البُخَارِيّ فِي
التَّرْجَمَة اكْتِفَاء بِذكرِهِ فِي حَدِيث الْبَاب.
3441 - حدَّثنا مُوسى اقال حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا
ابنُ طَاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ
رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة جُزْء من
الحَدِيث وَهُوَ ظَاهر.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومُوسَى هُوَ ابْن
إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان.
قَوْله: (مثل الْبَخِيل والمنفق) ، وَوَقع عِنْد مُسلم من
طَرِيق سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد: (مثل الْمُنفق
والمتصدق) ، قَالَ عِيَاض: هُوَ وهم، وَيُمكن أَنه حذف
مُقَابِله لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَقع فِي بَاقِي الرِّوَايَات: مثل الْبَخِيل
والمتصدق، وَقد يحْتَمل أَن صِحَة رِوَايَة الْمُنفق
والمتصدق أَن يكون فِيهِ حذف تَقْدِير: مثل الْمُنفق
والمتصدق وقسيمهما هُوَ الْبَخِيل، وَحذف الْبَخِيل
لدلَالَة الْمُنفق والمتصدق عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 18) . أَي: وَالْبرد، حذف
الْبرد لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ. قيل: رَوَاهُ
الْحميدِي وَأحمد وَابْن أبي عَمْرو وَغَيرهم فِي مسانيدهم
عَن ابْن عُيَيْنَة، فَقَالُوا فِي رواياتهم: (مثل
الْمُنفق والبخيل) ، كَمَا فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي
الزِّنَاد، وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله: والمتصدق)
(8/307)
وَقع فِي بعض الْأُصُول: الْمُتَصَدّق،
بِالتَّاءِ وَفِي بَعْضهَا بِحَذْف التَّاء وَتَشْديد
الصَّاد، هما صَحِيحَانِ، قَالَه النَّوَوِيّ قلت: وَجه
هَذَا أَن التَّاء لَا تحذف بل تقلب صادا، ثمَّ تُدْغَم
الصَّاد فِي الصَّاد، وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيه
الْقَاعِدَة. قَوْله: (كَمثل رجلَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة
عَمْرو: رجل، بِالْإِفْرَادِ وَكَأَنَّهُ تَغْيِير من بعض
الروَاة، وَصَوَابه: رجلَيْنِ. قَوْله: (جبتان) ، بِضَم
الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، كَذَا فِي هَذِه
الرِّوَايَة، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (كَمثل رجل
عَلَيْهِ جبتان أَو جنتان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما
جبتان أَو جنتان فَالْأول بِالْبَاء وَالثَّانِي بالنُّون،
وَوَقع فِي بعض الْأُصُول عَكسه، وَقَالَ ابْن قرقول:
وَالنُّون أصوب بِلَا شكّ، وَهِي الدرْع، يدل عَلَيْهِ
قَوْله فِي الحَدِيث نَفسه: (لزقت كل حَلقَة) ، وَفِي لفظ:
(فَأخذت كل حَلقَة موضعهَا) . وَكَذَا قَوْله: (من حَدِيد)
. قلت: وَرَوَاهُ حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي عَن
طَاوُوس، بالنُّون، كَمَا يَجِيء عَن قريب، ورجحت هَذِه
الرِّوَايَة بِمَا قَالَه ابْن قرقول، وَالْجنَّة هِيَ
الْحصن فِي الأَصْل، وَسميت بهَا الدرْع لِأَنَّهَا تجن
صَاحبهَا أَي: تحصنه، والجبة بِالْبَاء الْمُوَحدَة هِيَ
الثَّوْب الْمعِين، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا مَانع من اطلاقه
على الدرْع. قلت: الْمَانِع مَوْجُود، لِأَن الْجُبَّة
بِالْبَاء لَا تحصن مثل الْجنَّة بالنُّون، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : جنتان، بالنُّون. فِي
هَذَا الْموضع بِلَا شكّ، وَلَا اخْتِلَاف. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: هُوَ الْأَنْسَب، لِأَن الدرْع لَا يُسمى
جُبَّة بِالْبَاء بل بالنُّون.
وحدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ
حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ
أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ
مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ
عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا
إلَى تَرَاقِيهِمَا فأمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ
إلاَّ سَبَغَتْ أوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى
تَخْفِي بَنَانَهُ وَتَعْفُو أثَرَهُ وَأمَّا البَخِيلُ
فَلاَ يُرِيدُ أنْ يُنْفِقَ شَيْئا إلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ
حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهْوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ.
هَذَا طَرِيق آخر أتم من الأول، رَوَاهُ عَن أبي الْيَمَان
الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن أبي
الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون، عَن عبد الرَّحْمَن بن
هُرْمُز عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْبَخِيل والمنفق) ، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (مثل الْمُنفق والمتصدق كَمثل رجل
عَلَيْهِ جنتان أَو جبتان) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض:
وَقع فِي هَذَا الحَدِيث أَوْهَام كَثِيرَة من الروَاة
تَصْحِيف وتحريف وَتَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمِنْهُ: مثل
الْمُنفق والمتصدق، وَمِنْه: كَمثل رجل، وَصَوَابه
رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان، وَمِنْه قَوْله: (جبتان أَو
جنتان) ، بالنُّون بِالشَّكِّ وَالصَّوَاب: جنتان،
بالنُّون بِلَا شكّ. قَوْله: (من ثديهما) ، بِضَم الثَّاء
الْمُثَلَّثَة وَكسر الدَّال، كَذَا فِي رِوَايَة أبي
الْحسن جمع ثدي، نَحْو الْفُلُوس والفلس، فعلى هَذَا
أَصله: ثدوي، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا
بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي
الْيَاء فَصَارَ: ثدي، بِضَم الدَّال ثمَّ أبدلت الضمة
كسرة لأجل الْيَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَيصِح نصب
الثَّاء، وَفِي رِوَايَة: ثدييهما، بالتثنية وَفِي
(الْمُجْمل) : الثدي، بِالْفَتْح للْمَرْأَة وَالْجمع
الثدي، يذكر وَيُؤَنث. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَالْجمع أثد،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الثدي للرجل وَالْمَرْأَة، وَالْجمع
أثد وثدي، على فعول، وثدي بِكَسْر الثَّاء. قَوْله: (إِلَى
تراقيهما) جمع ترقوة، وَيُقَال: الترائق أَيْضا على
الْقلب، وَقَالَ ثَابت فِي (خلق الْإِنْسَان) : الترقوتان
هما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر من رَأس
الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى طرف ثغرة النَّحْر، وَهِي اللهزمة
الَّتِي بَينهمَا. وَفِي (الْمُخَصّص) : هِيَ من رقى يرقى.
فَإِن قلت: لِمَ لَا تقلب الْوَاو ألفا؟ قلت: لِئَلَّا
يخْتل الْبناء كَمَا فِي سرو، وَفِي (الصِّحَاح) لَا تقل:
ترقوة بِالضَّمِّ. قَوْله: (إلاَّ سبغت) أَي: امتدت وغطت،
وَقيل: كملت وتمت، وَضَبطه الْأصيلِيّ بِضَم التَّاء
وَهُوَ شَيْء لَا يعرف. قَوْله: (أَو وقرت) ، شكّ من
الرَّاوِي، من الوفور بِمَعْنى: كملت. وَفِي (التَّلْوِيح)
: سبغت أَو مرت على جلد، كَذَا فِي النّسخ: مرت، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَقيل صَوَابه، يَعْنِي فِي مُسلم مدت
بِالدَّال، بِمَعْنى: سبغت كَمَا فِي الحَدِيث الآخر:
(انبسطت) . وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض نسخ
البُخَارِيّ: مادت، بدال مُخَفّفَة من ماد إِذا مَال،
وَرَوَاهُ بَعضهم: مارت، وَمَعْنَاهُ: سَالَتْ عَلَيْهِ
وامتدت. قَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ تردّدت وَذَهَبت
وَجَاءَت بكمالها. قَوْله: (حَتَّى تجن) بِضَم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَتَشْديد النُّون،
هَذَا فِي رِوَايَة الْحميدِي وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تستر،
من أجن إِذا ستر، وَكَذَلِكَ جن بِمَعْنَاهُ: ويروى حق
يخفى
(8/308)
وَقَالَ ابْن التِّين رَوَاهُ أَبُو
سُلَيْمَان حَتَّى تجربانه وَقَالَ النَّوَوِيّ وَرَوَاهُ
بَعضهم يحز بحاء وزاي وَهُوَ وهم وَالصَّوَاب تجن بجيم
وَنون قَوْله (بنانه) أَي أَصَابِعه وَهُوَ رِوَايَة
الْجُمْهُور كَمَا فِي الحَدِيث الآخر أنامله ويروى
ثِيَابه بثاء مُثَلّثَة وَهُوَ وهموقد وَقع فِي رِوَايَة
الْحسن بن مُسلم حَتَّى تغشى بالغين والشين المعجمتين
قَوْله (وتعفوا أَثَره) أَي يمحوا أَثَره وَهُوَ يَجِيء
لَازِما ومتعدياً فَهُنَا مُتَعَدٍّ لِأَنَّهُ نصب أَثَره
وأثره بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبكسر
الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء مَعْنَاهُ تمحو أثر مَشْيه
بسبوغها وكمالها وَقَالَ الدَّاودِيّ بعفى أثر صَاحبه إِذا
مَشى بمرور الذيل عَلَيْهِ لِأَن الْمُنفق إِذا أنْفق طَال
ذَلِك اللبَاس الَّذِي عَلَيْهِ حَتَّى يجره بِالْأَرْضِ
قَوْله (لزقت) أَي التصقت وَفِي رِوَايَة مُسلم (انقبضت)
وَفِي رِوَايَة همام (عضت كل حَلقَة مَكَانهَا) وي
رِوَايَة سُفْيَان عِنْد مُسلم (قلصت) وَكَذَا فِي
رِوَايَة الْحسن بن مُسلم عِنْد البُخَارِيّ وَزعم ابْن
التِّين أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْبَخِيل يكوى
بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة قَوْله (فَهُوَ يوسعها وَلَا
تتسع) وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم قَالَ أَبُو هُرَيْرَة
(فَهُوَ يوسعها وَلَا يَتَّسِع) (فَإِن قلت) هَذَا يَوْم
أَنه مدرج (قلت) لَيْسَ كَذَلِك وَقد وَقع التَّصْرِيح
بِرَفْع هَذِه الْجُمْلَة فِي طَرِيق طَاوُوس عَن أبي
هُرَيْرَة وَفِي رِوَايَة ابْن طَاوُوس عِنْد البُخَارِيّ
فِي الْجِهَاد فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول (فيجتهدان يوسعها وَلَا تتسع) وَفِي رِوَايَة
لمُسلم (فَسمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
فَذكره وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُسلم عِنْدهَا (فَأَنا
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
بإصبعه هَكَذَا فِي جيبه فَلَو رَأَيْته يوسعها وَلَا تتسع
وَعند أَحْمد من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد
فِي هَذَا الحَدِيث وَأما الْبَخِيل فَإِنَّهَا لَا تزداد
عَلَيْهِ إِلَّا استحكاماً وَهَذَا بِالْمَعْنَى وَقَالَ
الْخطابِيّ هَذَا مثل ضربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجواد
الْبَخِيل شبهما برجلَيْن أَرَادَ كل مِنْهُمَا أَن يلبس
درعا يستجن بهَا والدرع أول مَا يلبس إِنَّمَا يَقع على
مَوضِع الصَّدْر والثديين إِلَى أَن يسْلك لَابسهَا
يَدَيْهِ فِي كميه، وَيُرْسل ذيلها على أَسْفَل بدنه
فيستمر سفلاً، فَجعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُنفق
مثل من لبس درعا سابغة فاسترسلت عَلَيْهِ حَتَّى سترت
جَمِيع بدنه وخصته، وَجعل الْبَخِيل كَرجل يَدَاهُ
مغلولتان مَا بَين دون صَدره فَإِذا أَرَادَ لبس الدرْع
حَالَتْ يَدَاهُ بَينهَا وَبَين أَن تمر سفلاً على الْبدن،
وَاجْتمعت فِي عُنُقه فلزمت ترقوته، فَكَانَت ثقلاً
ووبالاً عَلَيْهِ من غير وقاية لَهُ وتحصين لبدنه،
وَحَاصِله أَن الْجواد إِذا هم بِالنَّفَقَةِ اتَّسع
لذَلِك صَدره وطاوعت يَدَاهُ فامتدتا بالعطاء، وَأَن
الْبَخِيل يضيق صَدره وتنقبض يَده عَن الْإِنْفَاق. وَقيل:
ضرب الْمثل بهما لِأَن الْمُنفق يستره الله بِنَفَقَتِهِ
وَيسْتر عوراته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كستر هَذِه
الْجُبَّة لَابسهَا، والبخيل كمن لبس جُبَّة إِلَى ثدييه
فَيبقى مكشوفا ظَاهر الْعَوْرَة مفتضحا فِي الدَّاريْنِ.
وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد أَن الْمُنفق إِذا أنْفق كفرت
الصَّدَقَة ذنُوبه ومحتها، كَمَا أَن الْجُبَّة إِذا أسبغت
عَلَيْهِ سترته وَوَقته، والبخيل لَا تطاوعه نَفسه على
الْبَذْل فَيبقى غير مكفر عَنهُ الآثام، كَمَا أَن
الْجُبَّة تبقي من بدنه مَا لَا تستره، فَيكون معرض
الْآفَات. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شبه السخي إِذا قصد
التَّصَدُّق يسهل عَلَيْهِ بِمن عَلَيْهِ الْجُبَّة وَيَده
تحتهَا، فَإِذا أَرَادَ أَن يُخرجهَا مِنْهَا يسهل
عَلَيْهِ، والبخيل على عَكسه، والأسلوب من التَّشْبِيه
المفرق. قَالَ: وَقيد الْمُشبه بِهِ بالحديد إعلاما بِأَن
الْقَبْض والشدة جبلة الْإِنْسَان، وأوقع الْمُتَصَدّق
مَوضِع السخي مَعَ أَن مُقَابل الْبَخِيل هُوَ السخي لَا
الْمُتَصَدّق إشعارا بِأَن السخاوة هِيَ مَا أَمر بِهِ
الشَّرْع وَندب إِلَيْهِ من الْإِنْفَاق إلاَّ مَا يتعاناه
المبذرون. وَقَالَ الْمُهلب: المُرَاد أَن الله يسر
الْمُنفق فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة، بِخِلَاف
الْبَخِيل فَإِنَّهُ يَفْضَحهُ، وَمعنى: تَعْفُو أَثَره،
تمحو خطاياه، وَاعْترض عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض بِأَن
الْخَبَر جَاءَ على التَّمْثِيل لَا على الْإِخْبَار عَن
كَائِن، وَقيل: هُوَ تَمْثِيل لنماء المَال بِالصَّدَقَةِ،
وَالْبخل بضده، وَقيل: تَمْثِيل لِكَثْرَة الْجُود
وَالْبخل، وَأَن الْمُعْطِي إِذا أعْطى انبسطت يَدَاهُ
بالعطاء، وتعود ذَلِك، فَإِذا أمسك صَار ذَلِك عَادَة.
تَابَعَهُ الحَسَنُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ طَاوُسٍ فِي
الجُبتَيْنِ
أَي: تَابع ابْن طَاوُوس الْحسن بن مُسلم بن يناق فِي
رِوَايَته عَن طَاوُوس فِي الجبتين بِالْبَاء، وَأخرج
البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب اللبَاس فِي:
بَاب جيب الْقَمِيص من عِنْد الصَّدْر. وَغَيره، قَالَ:
حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد أخبرنَا أَبُو عَامر أخبرنَا
إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن الْحسن بن مُسلم عَن طَاوُوس
عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
(ضرب رَسُول الله، صلى الله
(8/309)
عَلَيْهِ وَسلم، مثل الْبَخِيل والمتصدق
كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان من حَدِيد) الحَدِيث،
ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
تَابعه ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه.
وَقَالَ حَنْظَلَة عَن طَاوُوس جنتان
أَي قَالَ حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان فِي رِوَايَته عَن
طَاوُوس جنتان بالنُّون وَهَذَا تَعْلِيق ذكره البُخَارِيّ
رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا فِي كتاب اللبَاس مُعَلّقا
حَيْثُ قَالَ وَقَالَ حَنْظَلَة سَمِعت طَاوُوس سَمِعت
أَبَا هُرَيْرَة وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
إِسْحَاق الْأَزْرَقِيّ عَن حنطلة.
وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرٌ عنِ ابنِ هُرْمُزَ
قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَنَّتَانِ
أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد عَن جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن الْأَعْرَج، ذكر أَبُو مَسْعُود
الدِّمَشْقِي وَخلف: أَن البُخَارِيّ علقه أَيْضا فِي
الصَّلَاة.
92 - (بابُ صَدَقَةِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَدَقَة الْكسْب
وَالتِّجَارَة، وَالْحَاصِل أَنه أَشَارَ بِهَذِهِ
التَّرْجَمَة إِلَى أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا يعْتد بهَا
إِذا كَانَت من كسب حَلَال أَو تِجَارَة من الْحَلَال،
وَلم يذكر فِيهَا حَدِيثا إكتفاء بِمَا ذَكرْنَاهُ من
الْآيَة الْكَرِيمَة، فَإِنَّهَا تَأمر بِالصَّدَقَةِ من
الْجلَال وتنهى عَن الصَّدَقَة من الْحَرَام على مَا
يذكرهُ.
لِقَوْلِهِ تَعالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسِبْتُمْ} إلَى قَولهِ:
{أنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدُ} (الْبَقَرَة: 762) .
بَين مَا أَرَادَهُ من هَذِه التَّرْجَمَة بِهَذِهِ
الْآيَة على طَرِيق التَّعْلِيل بقوله لقَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا
كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض وَلَا تيمموا
الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أَن تغمضوا
فِيهِ وأعلموا أَن الله غَنِي حميد} (الْبَقَرَة: 762) .
إِن الله يَأْمر عباده الْمُؤمنِينَ بِالْإِنْفَاقِ،
وَالْمرَاد بِهِ الصَّدَقَة هَهُنَا، قَالَ ابْن عَبَّاس:
من طَيّبَات من رزقهم من الْأَمْوَال الَّتِي اكتسبوها.
وَقَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي التِّجَارَة بتيسيره إِيَّاهَا
لَهُم. وَقَالَ عَليّ وَالسُّديّ: من طَيّبَات مَا كسبتم
يَعْنِي: الذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن الثِّمَار وَالزَّرْع
الَّتِي أنبتها الله تَعَالَى من الأَرْض. قَالَ ابْن
عَبَّاس: أَمرهم بِالْإِنْفَاقِ من أطيب المَال وأجوده
وأنفسه، ونهاهم عَن التَّصَدُّق برذالة المَال ورديئه
وَهُوَ خبيثه، فَإِن الله طيب لَا يقبل إلاَّ الطّيب.
وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا تيمموا الْخَبيث} (الْبَقَرَة:
762) . أَي: لَا تقصدوا {الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم
بآخذيه} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: لَو أعطيتموه مَا
أخذتموه إلاَّ أَن تتعلموا فِيهِ، وَالله أغْنى عَنهُ
مِنْكُم، فَلَا تجْعَلُوا لله مَا تَكْرَهُونَ. وَقيل:
مَعْنَاهُ: لَا تعدلوا عَن المَال الْحَلَال وتقصدوا إِلَى
الْحَرَام فتجعلوا نفقتكم مِنْهُ، وروى الإِمَام أَحْمد من
حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم
كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا
من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إلاَّ من أحب،
فَمن أعطَاهُ الدّين فقد أحبه، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ
لَا يسلم عبد حَتَّى يسلم قلبه وَلسَانه، وَلَا يُؤمن
حَتَّى يَأْمَن مَا جَاره بوائقه. قَالُوا: وَمَا بوائقه؟
قَالَ: غشمته وظلمته، وَلَا يكْسب عبد مَالا من حرَام
فينفق مِنْهُ فيبارك لَهُ فِيهِ، وَلَا يتَصَدَّق بِهِ
فَيقبل مِنْهُ، وَلَا يتْركهُ خلف ظَهره إلاَّ إِذا كَانَ
راده إِلَى النَّار إِن الله لَا يمحو السيء بالسيء،
وَلَكِن يمحو السيء بالْحسنِ، إِن الْخَبيث لَا يمحو
الْخَبيث) . وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي الْحسن بن عَمْرو
الْعَنْبَري حَدثنِي أبي عَن أَسْبَاط عَن السّديّ عَن عدي
بن ثَابت عَن الْبَراء بن عَازِب فِي قَول الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا
كسبتم ... } (الْبَقَرَة: 762) . الْآيَة، قَالَ: نزلت فِي
الْأَنْصَار، كَانَت الْأَنْصَار إِذا كَانَ أَيَّام جذاذ
النّخل أخرجت من حيطانها أقناء الْبُسْر فعلقوه على حَبل
بَين الأسطوانتين فِي مَسْجِد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فيأكل فُقَرَاء الْمُهَاجِرين مِنْهُ،
فيعمد الرجل إِلَى الحشف فيدخله مَعَ أقناء الْبُسْر، يظنّ
أَن ذَلِك جَائِز، فَأنْزل الله فِيمَن فعل ذَلِك {وَلَا
تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَابْن مرْدَوَيْه
وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط
مُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا
أبي حَدثنَا يحيى بن الْمُغيرَة حَدثنَا جرير عَن عَطاء بن
السَّائِب عَن عبد الله بن مُغفل فِي هَذِه الْآيَة:
{وَلَا تيمموا
(8/310)
الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ: كسب
الْمُسلم لَا يكون خبيثا، وَلَكِن لَا يتَصَدَّق بالحشف
وَالدِّرْهَم الزيف وَمَا لَا خير فِيهِ، وَقَالَ أَحْمد
بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
قَالَت: (أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضب
فَلم يَأْكُلهُ، وَلم ينْه عَنهُ. قلت: يَا رَسُول الله
نطعمه الْمَسَاكِين؟ قَالَ: لَا تطعموهم مِمَّا لَا
تَأْكُلُونَ) . وَقَالَ عُبَيْدَة: سَأَلت عليا عَن
قَوْله: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762)
. قَالَ من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَكَذَا قَالَ السّديّ
قَالَ عُبَيْدَة وَسَأَلَهُ عَن قَوْله (وَمِمَّا أخرجنَا
لكم من الأَرْض) قَالَ من قَالَ: من الْحبّ وَالثَّمَر كل
شَيْء عَلَيْهِ زَكَاة، وَقَالَ مُجَاهِد: من النّخل،
وَلَا تيمموا، قَالَ الطَّبَرِيّ: لَا تقصدوا وتعمدوا،
وَفِي قِرَاءَة عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَلَا تَمُوتُوا من أممت، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَإِن
اخْتلفت الْأَلْفَاظ. وَقَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ: عَن
ابْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أنزلت هَذِه الْآيَة فِي الزَّكَاة
الْمَفْرُوضَة، كَانَ الرجل يعمد إِلَى التَّمْر فيصرمه
فيعزل الْجيد نَاحيَة، فَإِذا جَاءَ صَاحب الصَّدَقَة
أعطَاهُ من الرَّدِيء، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا
تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ
ابْن زيد: الْخَبيث هُنَا هُوَ الْحَرَام. وَقَالَ
الثَّوْريّ: عَن السّديّ عَن أبي مَالك، واسْمه عزوان عَن
الْبَراء: {ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ}
(الْبَقَرَة: 762) . يَقُول: لَو كَانَ لرجل على رجل دين
فَأعْطَاهُ ذَلِك لم يَأْخُذهُ إلاَّ أَن يرى أَنه قد
نَقصه من حَقه، رَوَاهُ ابْن جرير، وَقَالَ عَليّ بن أبي
طَلْحَة: عَن ابْن عَبَّاس: {ولستم بآخذيه إلاَّ أَن
تغمضوا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 762) . يَقُول: لَو كَانَ لكم
على أحد حق فجاءكم بِحَق دون حقكم لم تأخذوه بِحِسَاب
الْجيد حَتَّى تنقصوه، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْله: {إلاَّ أَن
تغمضوا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 762) . فَكيف ترْضونَ لي مَا
لَا ترْضونَ لأنفسكم، وحقي عَلَيْكُم من أطيب أَمْوَالكُم
وأنفسها؟) . رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَابْن جرير، وَزَاد
قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا
تحبون} (آل عمرَان: 29) . قَوْله: {وَاعْلَمُوا أَن الله
غَنِي حميد} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: وَإِن أَمركُم
بالصدقات وبالطيب مِنْهَا فَهُوَ غَنِي عَنْهَا، حميد فِي
جَمِيع أَفعاله وأقواله وشرعه وَقدره لَا إلاه إلاص هُوَ
وَلَا رب سواهُ. |