عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 15 - (بابُ مَنْ أعْطَاهُ الله شَيْئا مِنْ
غَيْرِ مَسْئلَةٍ وَلاَ إشْرَافِ نَفْسٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أعطَاهُ الله. . إِلَى
آخِره، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: فليقبل،
وَهَذَا هُوَ الحكم، وَإِنَّمَا حذفه اكْتِفَاء بِمَا دلّ
عَلَيْهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا
حذفه للْعلم بِهِ وَفِيه نظر، لِأَن مُرَاده إِن كَانَ
علمه من الْخَارِج فَلَا نسلم أَنه يُعلمهُ مِنْهُ، وَإِن
كَانَ من الحَدِيث فَلَا يُقَال إلاَّ بِمَا قُلْنَا
لِأَنَّهُ الْأَوْجه والأسد. قَوْله: (من غير مَسْأَلَة)
أَي: من غير سُؤال، وَالْمَسْأَلَة مصدر ميمي من سَأَلَ.
قَوْله: (وَلَا إشراف) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة، وَهُوَ التَّعَرُّض للشَّيْء والحرص
عَلَيْهِ من قَوْلهم: أشرف على كَذَا إِذا تطاول لَهُ،
وَمِنْه قيل للمكان المتطاول: شرف.
{وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ}
(الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) .
لَيْسَ هَذَا بموجود عِنْد أَكثر الروَاة، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي الْآيَة مُقَدّمَة على قَوْله: من أعطَاهُ
الله شَيْئا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : بَاب فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل
والمحروم} (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) . وَكَذَا فِي
نُسْخَة، وَفِي أُخْرَى: بَاب من أعطَاهُ الله ... إِلَى
آخِره، وَكَأَنَّهُ أليق بِالْحَدِيثِ. قَوْله: {وَفِي
أَمْوَالهم} (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) . أَي:
وَفِي أَمْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَذْكُورين قبل هَذِه
الْآيَة وَهِي قَوْله: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات
وعيون آخذين مَا آتَاهُم رَبهم إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك
محسنين كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون وبالأسحار
هم يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل
والمحروم} (الذاريات: 51 91) . والسائل هُوَ الَّذِي
يسْأَل النَّاس ويستجدي، والمحروم الَّذِي يحْسب غَنِيا
فَيحرم الصَّدَقَة لتعففه. وَقيل: المحروم المحارف الَّذِي
لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام سهم، وَقيل: المحارف الَّذِي
لَا يكَاد يكْسب، وَعَن عِكْرِمَة: المحروم الَّذِي لَا
ينمى لَهُ مَال، وَعَن زيد بن أسلم: هُوَ الْمُصَاب بثمره
وزرعه أَو مَاشِيَته. وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ: هُوَ صَاحب الْحَاجة، والمحارف، بِفَتْح
الرَّاء: المنقوص الْحَظ الَّذِي لَا يُثمر لَهُ مَال،
وَهُوَ خلاف الْمُبَارك، والعوام بِكَسْر الرَّاء،
وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة جمَاعَة من
التَّابِعين، وَمن الصَّحَابَة أَبُو ذَر على أَن فِي
المَال حَقًا غير الزَّكَاة. وَقَالَ الْجُمْهُور:
المُرَاد من الْحق هُوَ الزَّكَاة، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك
بِأَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث الْأَعرَابِي فِي
(الصَّحِيح) (هَل عَليّ غَيرهَا؟ قَالَ: لَا إلاَّ إِن
تطوع) فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث أبي سعيد، قَالَ:
(بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِي سفر إِذْ جَاءَ رجل على رَاحِلَته، فَجعل يصرفهَا
يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: من كَانَ لَهُ فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر
لَهُ، وَمن كَانَ عِنْده فضل زَاد فليعد بِهِ على من لَا
زَاد لَهُ، حَتَّى ظننا أَنه لَا حق لأحد منا فِي الْفضل)
. فَفِيهِ: إِيجَاب إِنْفَاق الْفضل من الْأَمْوَال. قلت:
الْأَمر بإنفاق الْفضل أَمر إرشاد وَندب إِلَى الْفضل،
وَقيل: كَانَ ذَلِك قبل نزُول فرض الزَّكَاة، وَنسخ بهَا
كَمَا نسخ صَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَعَاد
ذَلِك فضلا وفضيلة بَعْدَمَا كَانَ فَرِيضَة.
3741 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سالِمٍ أنَّ
عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كانَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُعْطِيني العَطَاءَ فأقُولُ أعْطِهِ مَنْ
هُوَ أفْقَرُ إليْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إذَا جاءَكَ
مِنْ هاذا المالِ شَيءٌ وأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ
سائِلٍ فَخُذْهُ وَما لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خُذْهُ إِذا جَاءَك من
هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف وَلَا سَائل) ، وَرِجَاله قد
ذكرُوا غير مرّة، وَيُونُس وَالزهْرِيّ قد ذكرا فِي سَنَد
حَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع عَن
شُعَيْب. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن هَارُون بن
مَعْرُوف وحرملة بن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَمْرو بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَأَقُول: أعْطه من هُوَ أفقر
مني) ، زَاد فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ
الْآتِيَة فِي الْأَحْكَام: (حَتَّى أَعْطَانِي مرّة مَالا
فَقلت: أعْطه أفقر إِلَيْهِ مني، فَقَالَ: خُذْهُ فتموله
وَتصدق بِهِ) . وَذكر شُعَيْب فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ
إِسْنَادًا آخر، قَالَ: أَخْبرنِي السَّائِب
(9/54)
بن يزِيد أَن حويطب بن عبد الْعُزَّى
أخبرهُ أَن عبد الله بن السَّعْدِيّ أخبرهُ أَنه قدم على
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي خِلَافَته، فَذكر
قصَّة فِيهَا هَذَا الحَدِيث، والسائب وَمن فَوْقه صحابة
فَفِيهِ أَرْبَعَة من الصَّحَابَة فِي نسق. قَوْله: (إِذا
جَاءَك) شَرط وجزاؤه قَوْله: (فَخذه) ، وَأطلق الْأَخْذ
أَولا بِالْأَمر، وعلق ثَانِيًا بِالشّرطِ، فَحمل الْمُطلق
على الْمُقَيد. قَوْله: (وَأَنت غير مشرف) ، جملَة إسمية
وَقعت حَالا، وَقد مضى تَفْسِير الإشراف. قَوْله: (وَمَا
لَا) أَي: وَمَا لَا يكون كَذَلِك بِأَن لَا يَجِيء
إِلَيْك وتميل نَفسك إِلَيْهِ (فَلَا تتبعه نَفسك) فِي
الطّلب واتركه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّبَرِيّ: اخْتلف
الْعلمَاء فِي قَوْله: (فَخذه) بعد إِجْمَاعهم على أَنه
أَمر ندب وإرشاد. فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ندب لكل من أعطي
عَطِيَّة أَن يقبلهَا سَوَاء كَانَ الْمُعْطِي سُلْطَانا
أَو غَيره، صَالحا كَانَ أَو فَاسِقًا، بعد أَن كَانَ
مِمَّن تجوز عطيته. رُوِيَ (عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ:
مَا أحد يهدي إِلَيّ هَدِيَّة إلاَّ قبلتها، فَأَما أَن
أسأَل، فَلَا) وَعَن أبي الدَّرْدَاء مثله، وَقبلت
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من مُعَاوِيَة.
وَقَالَ حبيب بن أبي ثَابت: رَأَيْت هَدَايَا الْمُخْتَار
تَأتي ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، فيقبلانها، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، جوائز السُّلْطَان لحم ظَبْي زكي،
وَبعث سعيد بن الْعَاصِ إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بِهَدَايَا فقبلها، وَقَالَ: خُذ مَا أعطوك.
وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحُسَيْن بأربعمائة ألف، وَسُئِلَ
أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن
هَدَايَا السُّلْطَان، فَقَالَ: إِن علمت أَنه من غصب وسحت
فَلَا تقبله، وَإِن لم تعرف ذَلِك فاقبله، ثمَّ ذكر قصَّة
بَرِيرَة، وَقَالَ الشَّارِع: هُوَ لنا هَدِيَّة، وَقَالَ:
مَا كَانَ من مأثم فَهُوَ عَلَيْهِم، وَمَا كَانَ من مهنأ
فَهُوَ لَك، وَقبلهَا عَلْقَمَة وَالْأسود وَالنَّخَعِيّ
وَالْحسن وَالشعْبِيّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب
مِنْهُ أمته إِلَى قبُول عَطِيَّة غير ذِي سُلْطَان،
فَأَما السُّلْطَان فَإِن بَعضهم كَانَ يَقُول: حرَام
قبُول عطيته، وَبَعْضهمْ كرهها، وَرُوِيَ أَن خَالِد بن
أسيد أعْطى مسروقا ثَلَاثِينَ ألفا فَأبى أَن يقبلهَا.
فَقيل لَهُ: لَو أَخَذتهَا فوصلت بهَا رَحِمك؟ فَقَالَ:
أَرَأَيْت لَو أَن لصا نقب بَيْتا مَا أُبَالِي أَخَذتهَا
أَو أخذت ذَلِك، وَلم يقبل ابْن سِيرِين وَلَا ابْن محيريز
من السُّلْطَان، وَقَالَ هِشَام بن عُرْوَة: بعث إِلَيّ
عبد الله ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
وَإِلَى أخي بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فَقَالَ أخي: درها
فَمَا أكلهَا أحد وَهُوَ غَنِي عَنْهَا إلاَّ أحوجه الله
إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره جوائز السُّلْطَان
مُحَمَّد بن وَاسع وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَأحمد.
وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب إِلَى قبُول هَدِيَّة
السُّلْطَان دون غَيره، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ:
إِنَّا لَا نقبل إلاَّ من الْأُمَرَاء. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: وَالصَّوَاب عِنْدِي أَنه ندب مِنْهُ إِلَى
قبُول عَطِيَّة كل معط جَائِزَة لسلطان كَانَت أَو غَيرهَا
لحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فندبه إِلَى
قبُول كل مَا آتَاهُ الله من المَال من جَمِيع وجوهه من
غير تَخْصِيص سوى مَا اسْتَثْنَاهُ، وَذَلِكَ مَا جَاءَ
بِهِ من وَجه حرَام عَلَيْهِ، وَعلم بِهِ.
وَوجه من رد أَنه إِنَّمَا كَانَ على من كَانَ الْأَغْلَب
من أمره أَنه لَا يَأْخُذ المَال من وَجهه، فَرَأى أَن
الأسلم لدينِهِ وَالْإِبْرَاء لعرضه تَركه، وَلَا يدْخل
فِي ذَلِك مَا إِذا علم حرمته. وَوجه من قبل مِمَّن لم
يبال من أَيْن أَخذ المَال وَلَا فِيمَا وَضعه أَنه
يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: مَا علم حلّه يَقِينا فَلَا
يسْتَحبّ رده، وَعَكسه فَيحرم قبُوله، وَمَا لَا فَلَا
يُكَلف الْبَحْث عَنهُ، وَهُوَ فِي الظَّاهِر أولى بِهِ من
غَيره مَا لم يسْتَحق.
وَأما مبايعة من يخالط مَاله الْحَرَام وَقبُول هداياه
فكره ذَلِك قوم وَأَجَازَهُ آخَرُونَ. فَمِمَّنْ كرهه: عبد
الله بن يزِيد وَأَبُو وَائِل وَالقَاسِم وَسَالم،
وَرُوِيَ أَنه توفيت مولاة لسالم كَانَت تبيع الْخمر
بِمصْر فَترك مِيرَاثهَا أَيْضا. وَقَالَ مَالك: قَالَ عبد
الله بن يزِيد بن هُرْمُز: إِنِّي لَا أعجب مِمَّن يرْزق
الْحَلَال ويرغب فِي الرِّبْح فِيهِ الشَّيْء الْيَسِير من
الْحَرَام فَيفْسد المَال كُله، وَكره الثَّوْريّ المَال
الَّذِي يخالطه الْحَرَام، وَمِمَّنْ أجَازه ابْن
مَسْعُود، رُوِيَ عَنهُ أَن رجلا سَأَلَهُ فَقَالَ فِي
جَار: لَا يتورع من أكل الرِّبَا وَلَا من أَخذ مَا لَا
يصلح، وَهُوَ يَدْعُونَا إِلَى طَعَامه وَتَكون لنا
الْحَاجة فنستقرضه؟ فَقَالَ: أجبه إِلَى طَعَامه واستقرضه،
فَلَكَ المهنأ وَعَلِيهِ المأثم، وَسُئِلَ ابْن عمر عَن
رجل أكل طَعَام من يَأْكُل الرِّبَا فَأَجَازَهُ، وَسُئِلَ
النَّخعِيّ عَن الرجل يَأْتِي المَال من الْحَلَال
وَالْحرَام، قَالَ: لَا يحرم عَلَيْهِ إلاَّ الْحَرَام
بِعَيْنِه. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، مر بالعشَّارين وَفِي أَيْديهم شماريخ،
فَقَالَ: ناولونيها من سحتكم هَذَا إِنَّه حرَام عَلَيْكُم
وعلينا حَلَال. وَأَجَازَ الْبَصْرِيّ طَعَام العشار
والضراب وَالْعَامِل وَعَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ: إِذا
اخْتَلَط الْحَرَام والحلال فَلَا بَأْس بِهِ فَإِنَّمَا
يكره من ذَلِك شَيْء يعرف بِعَيْنِه، وَأَجَازَهُ ابْن أبي
ذِئْب، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَاحْتج من رخص فِيهِ
بِأَن الله تَعَالَى ذكر الْيَهُود، فَقَالَ: {سماعون
للكذب أكالون للسحت} (الْمَائِدَة: 24) . وقدرهن الشَّارِع
درعه عِنْد يَهُودِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي إِبَاحَة
الله تَعَالَى أَخذ الْجِزْيَة من أهل الْكتاب مَعَ علمه
بِأَن أَكثر
(9/55)
أَمْوَالهم أَثمَان الْخُمُور والخنازير،
وهم يتعاملون بالربا أبين الدّلَالَة على أَن من كَانَ من
أهل الْإِسْلَام بِيَدِهِ مَال لَا يدْرِي أَمن حرَام
كَسبه أَو من حَلَال؟ فَإِنَّهُ لَا يحرم قبُوله لمن
أعطَاهُ، وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يُبَالِي اكْتَسبهُ من
غير حلّه بعد أَن لَا يعلم أَنه حرَام بِعَيْنِه،
وَبِنَحْوِ ذَلِك قَالَت الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَمن كرهه فَإِنَّمَا ركب فِي ذَلِك
طَرِيق الْوَرع وتجنب الشُّبُهَات والاستبراء لدينِهِ.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور أَن للْإِمَام أَن
يُعْطي الرجل وَغَيره أحْوج إِلَيْهِ مِنْهُ إِذا رأى
لذَلِك وَجها، وَأَن مَا جَاءَ من المَال الْحَلَال من غير
سُؤال فَإِن أَخذه خير من تَركه، وَإِن رد عَطاء الإِمَام
لَيْسَ من الْأَدَب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا
فِيمَن جَاءَهُ مَال: هَل يجب قبُوله؟ الصَّحِيح
الْمَشْهُور أَنه يسْتَحبّ فِي غير عَطِيَّة السُّلْطَان،
وَأما عطيته فَالصَّحِيح أَنه إِن غلب الْحَرَام فِيمَا
فِي يَده فَحَرَام، وإلاَّ فمباح وَقَالَت طَائِفَة:
الْأَخْذ وَاجِب من السُّلْطَان لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا
آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . فَإِذا لم
يَأْخُذهُ فَكَأَنَّهُ لم يأتمر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
لَيْسَ معنى هَذَا الحَدِيث فِي الصَّدقَات، وَإِنَّمَا
هُوَ فِي الْأَمْوَال الَّتِي يقسمها الإِمَام على
أَغْنِيَاء النَّاس وفقرائهم، فَكَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال
يعطاها النَّاس لَا من جِهَة الْفقر، وَلَكِن من حُقُوقهم
فِيهَا، فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر
حِين أعطَاهُ قَوْله: (أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني)
لِأَنَّهُ إِنَّمَا أعطَاهُ لِمَعْنى غير الْفقر، ثمَّ
قَالَ لَهُ: خُذْهُ فتموله، كَذَا رَوَاهُ شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ، فَدلَّ أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمْوَال
الصَّدقَات، لِأَن الْفَقِير لَا يَنْبَغِي أَن يَأْخُذهُ
من الصَّدقَات مَا يَتَّخِذهُ مَالا كَانَ عَن مَسْأَلَة
أَو غير مَسْأَلَة.
25 - (بابُ مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّرا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من سَأَلَ النَّاس لأجل
التكثر، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: من سَأَلَ
النَّاس لأجل التكثر فَهُوَ مَذْمُوم، وَوجه الْحَذف قد
ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة الْبَاب السَّابِق. قيل: حَدِيث
الْمُغيرَة فِي النَّهْي عَن كَثْرَة السُّؤَال الَّذِي
أوردهُ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ أصرح فِي مَقْصُود
التَّرْجَمَة من حَدِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا آثره عَلَيْهِ
لِأَن من عَادَته أَن يترجم بالأخفى. قلت: دلَالَة حَدِيث
الْبَاب على السُّؤَال تكثرا غير خُفْيَة، لِأَن قَوْله:
(لَا يزَال الرجل يسْأَل النَّاس) يدل على كَثْرَة
السُّؤَال، وَكَثْرَة السُّؤَال لَا تكون إلاَّ لأجل
التكثر على مَا لَا يخفى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا،
أَو لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بالسؤال فِي حَدِيث
الْمُغيرَة النَّهْي عَن الْمسَائِل المشكلة كالأغلوطات.
أَو السُّؤَال عَمَّا لَا يَعْنِي، أَو عَمَّا لم يَقع
مِمَّا يكره وُقُوعه؟ قلت: هَذَا الْوَجْه بَيَان اعتذار
من جِهَة البُخَارِيّ فِي تَركه حَدِيث الْمُغيرَة فِي
هَذَا الْبَاب، وَلَكِن الْوُجُوه الثَّلَاثَة الَّتِي زعم
أَن حَدِيث الْمُغيرَة فِي قَوْله (وَكَثْرَة السُّؤَال)
تحتملها فِيهِ نظر، لِأَنَّهَا دَاخِلَة تَحت قَوْله:
(قيل، وَقَالَ) وَقَوله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) تمحض لسؤال
النَّاس لأجل التكثر، وَفِيه زِيَادَة فَائِدَة على مَا
لَا يخفى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأَشَارَ مَعَ
ذَلِك إِلَى حَدِيث لَيْسَ على شَرطه، وَهُوَ مَا أخرجه
التِّرْمِذِيّ من طَرِيق حُبَيْش بن جُنَادَة فِي أثْنَاء
حَدِيث مَرْفُوع، وَفِيه: (من سَأَلَ النَّاس ليثري مَاله
كَانَ خموشا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة، فَمن شَاءَ
فليقلَّ وَمن شَاءَ فليكثر) . قلت: لَا نسلم أَولا وَجه
هَذِه الْإِشَارَة، وَلَئِن سلمنَا فَلَا فَائِدَة فِيهَا
إِذْ الْوَاقِف على هَذِه التَّرْجَمَة إِن كَانَ قد وقف
على حَدِيث حُبَيْش قبل ذَلِك فَلَا فَائِدَة فِي
الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وإلاَّ فَيحْتَاج فِيهِ إِلَى
الْعلم من الْخَارِج فَلَا يكون ذَلِك من إِشَارَته
إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم عطيب كَلَام هَذَا الْقَائِل:
وَفِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق أبي زرْعَة عَن أبي
هُرَيْرَة مَا هُوَ مُطَابق للفظ التَّرْجَمَة، فاحتمال
كَونه أَشَارَ إِلَيْهِ أولى، وَلَفظه: (من سَأَلَ النَّاس
تكثرا فَإِنَّمَا يسْأَل جمرا) قلت: هَذَا الَّذِي ذكره
أَنما يتَوَجَّه إِذا كَانَ البُخَارِيّ قد وقف عَلَيْهِ،
وَلَئِن سلمنَا وُقُوفه عَلَيْهِ فَلَا نسلم الْتِزَامه
أَن تكون الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة، والْحَدِيث من
كل وَجه على مَا لَا يخفى.
4741 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي جَعْفرٍ قَالَ
سَمِعْتُ حَمزةَ بنَ عَبدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ
عَبْدَ الله ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَزالُ
الرَّجُلُ يَسألُ حَتى يَأتِي يومُ القِيَامَةِ لَيسَ فِي
وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. وقَالَ إنَّ الشَّمْسَ
(9/56)
تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى
يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فبَيْنَا هُمْ كذالِكَ
اسْتَغاثُوا بآدَمَ ثُمَّ بِمُوسى ثُمَّ بَمُحَمَّدٍ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَزَادَ عَبْدُ الله حدَّثني
اللَّيْثُ حدَّثني ابنُ أبي جَعْفَرٍ فيَشْفَعُ لِيُقْضى
بَينَ الخَلْقِ فيَمْشِي حَتَّى يأخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ
فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ الله مَقَاما مَحْمُودا
يَحْمَدُهُ أهْلِ الجَمْعِ كُلُّهُمْ.
(الحَدِيث 5741 طرفه فِي: 8174) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث قد علم
مِمَّا ذكرنَا آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير
العَبْد ابْن أبي جَعْفَر، واسْمه يسَار، مر فِي: بَاب
الْجنب يتَوَضَّأ، فِي كتاب الْغسْل. الرَّابِع: حَمْزَة،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: ابْن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب، مر فِي: بَاب فضل الْعلم. الْخَامِس: عبد الله بن
عمر بن الْخطاب. السَّادِس: عبد الله بن صَالح، كَاتب
اللَّيْث.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه
مَذْكُور باسم جده وَاسم أَبِيه عبد الله بن بكير، وَهُوَ
وَاللَّيْث وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر وَعبد الله بن
صَالح مصريون وَحَمْزَة بن عبد الله مدنِي أما عبد الله بن
صَالح فَفِيهِ مقَال: قَالَ ابْن عدي: سقيم الحَدِيث،
وَلَكِن البُخَارِيّ روى عَنهُ فِي صَحِيحه على الصَّحِيح،
وَلكنه يُدَلس، فَيَقُول: حَدثنَا عبد الله وَلَا ينْسبهُ،
وَهُوَ هُوَ، نعم قد علق البُخَارِيّ، حَدِيثا فَقَالَ
فِيهِ: قَالَ اللَّيْث ابْن سعد: حَدثنِي جَعْفَر بن
ربيعَة، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث: حَدثنِي عبد الله بن
صَالح، حَدثنَا اللَّيْث فَذكره وَلَكِن هَذَا عِنْد ابْن
حمويه السَّرخسِيّ دون صَاحِبيهِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن أبي
الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَحمَه الله
تَعَالَى، فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم
عَن شُعَيْب ابْن اللَّيْث عَن أَبِيه بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مزعة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة: الْقطعَة. وَقَالَ ابْن
التِّين: ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الْمِيم وَالزَّاي، قَالَ
أَبُو الْحسن: وَالَّذِي أحفظه عَن الْمُحدثين الضَّم.
وَقَالَ ابْن فَارس بِكَسْر الْمِيم، وَاقْتصر عَلَيْهِ
الْقَزاز فِي (جَامعه) وَذكر ابْن سَيّده الضَّم فَقَط،
وَكَذَا الْجَوْهَرِي قَالَ، وبالكسر: من الريش والقطن،
يُقَال: مزعت اللَّحْم قطعته قِطْعَة قِطْعَة، وَيُقَال:
أطْعمهُ مزعة من لحم، أَي: قِطْعَة مِنْهُ. قَالَ
الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَنه يَأْتِي
سَاقِطا لَا قدر لَهُ وَلَا جاه، أَو يعذب فِي وَجهه
حَتَّى يسْقط لَحْمه لمشاكلة الْعقُوبَة فِي مَوَاضِع
الْجِنَايَة من الْأَعْضَاء، لكَونه أذلّ وَجهه بالسؤال
أَو أَنه يبْعَث وَوَجهه عظم كُله فَيكون ذَلِك شعاره
الَّذِي يعرف بِهِ. وَقَالَ ابْن أبي جَمْرَة: مَعْنَاهُ
أَنه لَيْسَ فِي وَجهه من الْحسن شَيْء لِأَن حسن الْوَجْه
هُوَ مِمَّا فِيهِ من اللَّحْم. قَوْله: (وَقَالَ) أَي:
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الشَّمْس تَدْنُو)
أَي: تقرب من الدنو، وَهُوَ الْقرب، وَوجه اتِّصَال هَذَا
بِمَا قبله هُوَ أَن الشَّمْس إِذا دنت يَوْم الْقِيَامَة
يكون أذاها لمن لَا لحم لَهُ فِي وَجهه أَكثر وَأَشد من
غَيره. قَوْله: (حَتَّى يلغ الْعرق) ، أَي: حَتَّى يتسخن
النَّاس من دنو الشَّمْس فيتعرقون فَيبلغ الْعرق نصف
الْأذن. قَوْله: (فبيناهم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل:
بَينا، بَين فزيدت الْألف بإشباع فَتْحة النُّون، يُقَال:
بَينا وبينما، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان
إِلَى جملَة فعلية أَو إسمية ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم
بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه قَوْله: (اسْتَغَاثُوا) ،
والأفصح فِي جَوَابه أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا،
كَمَا وَقع هُنَا بِدُونِ وَاحِد مِنْهُمَا، وَقد يُقَال:
بَينا زيد جَالس إِذْ دخل عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذا دخل
عَلَيْهِ عَمْرو. قَوْله: (ثمَّ بِمُحَمد) أَي: ثمَّ
اسْتَغَاثُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه
اخْتِصَار، إِذْ يستغاث بِغَيْر آدم ومُوسَى أَيْضا،
وَسَيَأْتِي فِي الرقَاق فِي حَدِيث طَوِيل فِي
الشَّفَاعَة ذكر من يقصدونه بَين آدم ومُوسَى وَبَين
مُوسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(وَزَاد عبد الله) يحْتَمل التَّعْلِيق حَيْثُ لم يضفه
إِلَى نَفسه وَلم يقل: زادني. قَالَ الْكرْمَانِي:
وَلَعَلَّ المُرَاد بِمَا حكى الغساني عَن أبي عبد الله
الْحَاكِم أَن البُخَارِيّ لم يخرج عَن عبد ابد الله بن
صَالح كَاتب اللَّيْث فِي (الصَّحِيح) شَيْئا إِنَّه لم
يخرج عَنهُ حَدِيثا تَاما مُسْتقِلّا. قلت: قد ذكرنَا عَن
قريب أَنه روى عَنهُ وَلم ينْسبهُ على وَجه التَّدْلِيس.
قَوْله: (زَاد عبد الله) ، هَكَذَا وَقع عِنْد أبي ذَر،
وَسقط عِنْد الْأَكْثَرين. وَفِي (التَّلْوِيح) : قَول
البُخَارِيّ: وَزَاد عبد الله، يَعْنِي: ابْن صَالح كَاتب
اللَّيْث بن سعد، قَالَه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ
وَخلف فِي (الْأَطْرَاف) وَوَقع أَيْضا
(9/57)
فِي بعض الْأُصُول مَنْسُوبا وَفِي
الْإِيمَان لِابْنِ مَنْدَه من طَرِيق أبي زرْعَة
الرَّاوِي عَن يحيى بن بكير وَعبد الله بن صَالح جَمِيعًا
عَن اللَّيْث، وَسَاقه بِلَفْظ عبد الله بن صَالح، وَقد
رَوَاهُ مَوْصُولا من طَرِيق عبد الله بن صَالح وَحده
الْبَزَّار عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصَّاغَانِي
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن مطلب بن شُعَيْب
وَابْن مَنْدَه فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق يحيى بن
عُثْمَان، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الله بن صَالح فَذكره،
وَزَاد بعد قَوْله: (اسْتَغَاثُوا بِآدَم فَيَقُول لست
بِصَاحِب ذَلِك) ، وتابع عبد الله بن صَالح على هَذِه
الزِّيَادَة عبد الله بن عبد الحكم عَن اللَّيْث أخرجه
ابْن مَنْدَه أَيْضا. قَوْله: (بِحَلقَة الْبَاب) أَي:
بَاب الْجنَّة، أَو هُوَ مجَاز عَن الْقرب إِلَى الله.
قَوْله: (مقَاما مَحْمُودًا) هُوَ مقَام الشَّفَاعَة
الْعُظْمَى الَّتِي اخْتصّت بِهِ لَا شريك لَهُ فِي ذَلِك،
وَهُوَ إراحة أهل الْموقف من أهواله بِالْقضَاءِ بَينهم
والفراغ من حسابهم. قَوْله: (أهل الْجمع) أَي: أهل
الْمَحْشَر، وَهُوَ يَوْم مَجْمُوع فِيهِ جَمِيع النَّاس
من الْأَوَّلين والآخرين.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: مَا نقل ابْن بطال عَن
الْمُهلب، فهم البُخَارِيّ أَن الَّذِي يَأْتِي يَوْم
الْقِيَامَة لَا لحم فِي وَجهه من كَثْرَة السُّؤَال،
إِنَّه للسَّائِل تكثرا لغير ضَرُورَة إِلَى السُّؤَال،
وَمن سَأَلَ تكثرا فَهُوَ غَنِي لَا تحل لَهُ الصَّدَقَة
وَإِذا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة لَا لحم على وَجهه فتؤذيه
الشَّمْس أَكثر من غَيره، أَلا ترى قَوْله فِي الحَدِيث:
(الشَّمْس تَدْنُو حَتَّى يبلغ الْعرق) ، فحذر صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الإلحاف فِي الْمَسْأَلَة لغير حَاجَة
إِلَيْهَا وَأما من سَأَلَ مُضْطَرّا فمباح لَهُ ذَلِك
إِذا لم يجد عَنْهَا بدا وَرَضي بِمَا قسم لَهُ ويرجي أَن
يُؤجر عَلَيْهَا. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يبلغ عرق
الْكَافِر، فإمَّا أَن يكون سكت عَنهُ للتتابع فِي الموعظة
وَلَا يَقُول إِلَّا الْحق، أَو سقط عَن النَّاقِل أَو
أخبر فِي وَقت بذلك مُجملا ثمَّ حدث بِهِ مُفَسرًا.
وَقَالَ مُعَلَّى حدَّثنا وُهَيْبَ عنِ النُّعْمَانِ بنِ
رَاشِدٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُسْلِمٍ أخِي الزُّهْرِيِّ
عنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
المَسْئلَةِ
هَذَا تَعْلِيق ذكره عَن مُعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن
أَسد، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض، عَن وهيب تَصْغِير
وهب بن خَالِد عَن النُّعْمَان بن رَاشد الْجَزرِي الرقي
عَن عبد الله بن مُسلم أخي مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ
عَن حَمْزَة ابْن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، وَوصل
هَذَا التَّعْلِيق الْبَيْهَقِيّ: أخبرنَا أَبُو
الْحُسَيْن الْقطَّان حَدثنَا ابْن درسْتوَيْه حَدثنَا
يَعْقُوب بن سُفْيَان حَدثنَا مُعلى بن أَسد حَدثنَا وهيب
عَن النُّعْمَان بن رَاشد عَن عبد الله بن مُسلم أخي
الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ لنا ابْن
عمر: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: (مَا تزَال الْمَسْأَلَة بِالرجلِ حَتَّى يلقى
الله وَمَا فِي وَجهه مزعة لحم) .
قَوْله: (فِي الْمَسْأَلَة) أَي: فِي الْجُزْء الأول من
الحَدِيث وَلم يرو الزِّيَادَة الَّتِي لعبد الله بن
صَالح، وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن هَذَا الْوَعيد يحتص بِمن
أَكثر السُّؤَال إلاَّ من ندر ذَلِك مِنْهُ، وَيُؤْخَذ
مِنْهُ جَوَاز سُؤال غير الْمُسلم، لِأَن لفظ النَّاس فِي
الحَدِيث يعم، قَالَه ابْن أبي حَمْزَة، ويحكى عَن بعض
الصَّالِحين أَنه كَانَ إِذا احْتَاجَ سَأَلَ ذِمِّيا
لِئَلَّا يُعَاقب الْمُسلم بِسَبَبِهِ لَو رده.
35 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ
إلْحَافا (الْبَقَرَة: 372) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {لَا
يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) . لأجل مدح
من لَا يسْأَل النَّاس إلحافا. أَي: سؤالاً إلحافا أَي:
إلحاحا وإبراما. قَالَ الطَّبَرِيّ: ألحف السَّائِل فِي
مَسْأَلته إِذا ألح فَهُوَ ملحف فِيهَا. وَقَالَ السّديّ:
لَا يلحفون فِي الْمَسْأَلَة إلحافا، وَهَذَا من آيَة
كَرِيمَة فِي سُورَة الْبَقَرَة أَولهَا قَوْله تَعَالَى:
{للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا
يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل
أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون
النَّاس إلحافا وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم}
(الْبَقَرَة: 372) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْله
تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله}
(الْبَقَرَة: 372) . يَعْنِي الْمُهَاجِرين قد انْقَطَعُوا
إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله وَسَكنُوا الْمَدِينَة،
وَلَيْسَ لَهُم سَبَب يردون بِهِ على أنفسهم مَا يغنيهم.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} (الْبَقَرَة:
372) . يَعْنِي: سفرا للتسبب فِي طلب المعاش، وَالضَّرْب
فِي الأَرْض هُوَ السّفر. قَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ
يضْربُونَ فِي الأَرْض} (المزمل: 02) . وَمعنى عدم
استطاعتهم أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الْمسير لِئَلَّا
(9/58)
تفوتهم صُحْبَة رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: {يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء
من التعفف} (الْبَقَرَة: 372) . فِي لباسهم وحالهم
ومقالهم. قَوْله: {تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} (الْبَقَرَة: 372)
. إِنَّمَا يظْهر لِذَوي الْأَلْبَاب من صفاتهم كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم} (الْفَتْح: 92)
. وَقيل: الْخطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقيل: لكل رَاغِب فِي معرفَة حَالهم، يَقُول: تعرف
فَقرهمْ بالعلامة فِي وُجُوههم من أثر الْجُوع وَالْحَاجة،
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : هم أَصْحَاب الصّفة،
وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة إِنْسَان لم يكن لَهُم مسَاكِن
فِي الْمَدِينَة وَلَا عشائر، فَكَانُوا يخرجُون فِي كل
سَرِيَّة بعثها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ
يرجعُونَ إِلَى مَسْجِد الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَوْله: {وَمَا تنفقوا من خير} (الْبَقَرَة: 372) .
من أَبْوَاب القربات {فَإِن الله بِهِ عليم} (الْبَقَرَة:
372) . لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ وَلَا من غَيره،
وسيجزي عَلَيْهِ أوفى الْجَزَاء وأتمه يَوْم الْقِيَامَة
أحْوج مَا يكونُونَ إِلَيْهِ.
وكَمِ الغِنى؟
أَي: مِقْدَار الْغنى الَّذِي يمْنَع السُّؤَال؟ و: كم،
هُنَا استفهامية تَقْتَضِي التَّمْيِيز، وَالتَّقْدِير: كم
الْغنى؟ أهوَ الَّذِي يمْنَع السُّؤَال أم غَيره؟ والغنى،
بِكَسْر الْغَيْن وبالقصر: ضد الْفقر وَإِن صحت
الرِّوَايَة بِالْفَتْح وبالمد فَهُوَ: الْكِفَايَة، وَقد
تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود (يَا رَسُول الله مَا
الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما) . وَقد ذكرنَا فِي: بَاب
الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة، جملَة أَحَادِيث عَن جمَاعَة
من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي هَذَا
الْبَاب.
وقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلاَ يَجِدُ
غِنىً يُغْنِيهِ
بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله من الْمَجْرُور، وَهَذَا
جُزْء من حَدِيث رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة، يَأْتِي فِي
هَذَا الْبَاب، وَفِيه: (وَلَكِن الْمِسْكِين الَّذِي لَا
يجد غنى يُغْنِيه) ، وَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا ذكر هَذَا
كَأَنَّهُ تَفْسِير لقَوْله: (وَكم الْغنى؟) ليَكُون
الْمَعْنى: إِن الْغنى هُوَ الَّذِي يجد الرجل مَا
يُغْنِيه، وَفسّر هَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (من سَأَلَ النَّاس وَله
مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ومسألته فِي وَجهه
خموش. قيل: يَا رَسُول الله {وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ:
خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب) .
وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِنَّمَا لم
يذكرهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه، لِأَن
فِيهِ مقَالا.
لِقَوْلِهِ تَعَالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا
فِي سبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ}
إلَى قَولِهِ {فإنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَة: 372)
.
هَذَا تَعْلِيق لقَوْله: (وَلَا يجد غنى يُغْنِيه) ،
لِأَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيث: الْمِسْكِين الَّذِي لَا
يجد غنى يُغْنِيه وَلَا يفْطن بِهِ، فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ،
وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس. وَوصف الْمِسْكِين
بِثَلَاثَة أَوْصَاف: مِنْهَا عدم قِيَامه للسؤال،
وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ لتعففه وَحصر نَفسه عَن ذَلِك
وَعلل ذَلِك الْمِسْكِين الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف
الَّذِي ذكر مِنْهَا البُخَارِيّ: عدم وجدان الْغنى،
وَاكْتفى بِهِ بقوله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين
أحْصرُوا} (الْبَقَرَة: 372) . الْآيَة، وَكَانَ حصرهم
لأَنْفُسِهِمْ عَن السُّؤَال للتعفف، وَعدم ضَربهمْ فِي
الأَرْض خوفًا من فَوَات صُحْبَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَأما: اللَّام،
الَّتِي فِي قَوْله: {للْفُقَرَاء الَّذِي أحْصرُوا}
(الْبَقَرَة: 372) . فلبيان مصرف الصَّدَقَة وموضعها
لِأَنَّهُ قَالَ قبل هَذَا: {وَمَا تنفقوا من خير
فلأنفسكم} (الْبَقَرَة: 272) . ثمَّ بَين مصرف ذَلِك
وموضعه بقوله: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . إِلَى
آخِره، وَقد تصرف الْكرْمَانِي هُنَا تَصرفا عجيبا لَا
يقبله من لَهُ أدنى معرفَة فِي أَحْوَال تراكيب الْكَلَام،
فَقَالَ: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . عطف على {لَا
يسْأَلُون} (الْبَقَرَة: 372) . وحرف الْعَطف مُقَدّر،
أَو: هُوَ حَال بِتَقْدِير لفظ: قَائِلا، ثمَّ قَالَ:
فَإِن قلت: فِي بَعْضهَا لقَوْل الله تَعَالَى:
{للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . قلت: مَعْنَاهُ شَرط
فِي السُّؤَال عدم وجدان الْغنى لوصف الله الْفُقَرَاء
بِلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض، إِذْ من
اسْتَطَاعَ ضربا فِيهَا فَهُوَ وَاجِد لنَوْع من الْغنى.
انْتهى. قلت: كَانَ فِي نُسْخَة: وَقَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: وَلَا يجد غنى يُغْنِيه للْفُقَرَاء
الَّذين. . فَقَالَ: هَذَا عطف على: لَا يسْأَلُون، فليت
شعري أَي وَجه لهَذَا الْعَطف، وَلَا عطف هُنَا أصلا، وَأي
ضَرُورَة دعت إِلَى ارتكابه تَقْدِير حرف الْعَطف الَّذِي
لَا يجوز حذف حرف الْعَطف إلاَّ فِي مَوضِع الضَّرُورَة
على الشذوذ، أَو فِي الشّعْر كَذَلِك، وَلَا ضَرُورَة
هُنَا أصلا} ثمَّ لما وقف على نُسْخَة فِيهَا لقَوْل الله
عز وَجل: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . سَأَلَ
السُّؤَال الْمَذْكُور وَأجَاب بالجوابين الْمَذْكُورين
اللَّذين تمجهما الأسماع ويتركهما أهل اليراع، وَقَالَ
بَعضهم: اللَّام فِي قَوْله: لقَوْل الله، لَام
التَّعْلِيل لِأَنَّهُ أورد الْآيَة تَفْسِيرا لقَوْله فِي
التَّرْجَمَة، وَكم
(9/59)
الْغنى؟ قلت: وَهَذَا أعجب من ذَلِك، لِأَن
التَّعْلِيل لَا يُقَال لَهُ: التَّفْسِير، وَيفرق
بَينهمَا من لَهُ أدنى مسكة فِي التَّصَرُّف فِي علم من
الْعُلُوم، وَبَاقِي الْكَلَام فِي الْآيَة الْكَرِيمَة
تقدم آنِفا.
6741 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ
الَّذي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتانِ وَلاكِنِ
المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنىٍ ويَسْتَحْيي ولاَ
يَسْألُ النَّاسَ إلْحَافا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يسْأَل النَّاس
إلحافا) . وَرِجَاله أَرْبَعَة وَهُوَ من الرباعيات.
قَوْله: (الْمِسْكِين) ، مُشْتَقّ من السّكُون وَهُوَ عدم
الْحَرَكَة فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمَيِّت ووزنه،
مفعيل، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْمِسْكِين والمسكين
الْأَخِيرَة نادة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام: مفعيل،
يَعْنِي بِفَتْح الْمِيم. وَفِي (الصِّحَاح) : الْمِسْكِين
الْفَقِير، وَقد يكون بِمَعْنى المذلة والضعف، يُقَال:
تمسكن الرجل وتمسكن، وَهُوَ شَاذ، وَالْمَرْأَة مسكينة،
وَقوم مَسَاكِين ومسكينون، وَالْإِنَاث مسكينات،
وَالْفَقِير مُشْتَقّ من قَوْلهم: فقرت لَهُ فقرة من
مَالِي، والفقر والفقر ضد الْغنى، وَقدر ذَلِك أَن يكون
لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، وَقد فقر فَهُوَ فَقير،
وَالْجمع: فُقَرَاء، وَالْأُنْثَى فقيرة من نسْوَة فقائر،
وَقَالَ الْقَزاز: أصل الْفقر فِي اللُّغَة من فقار
الظّهْر كَأَن الْفَقِير كسر فقار ظَهره، فَبَقيَ لَهُ من
جِسْمه بَقِيَّة. قَالَ الْقَزاز: الْفقر والفقر،
وَالْفَتْح أَكثر. قَوْله: (الْأكلَة وَالْأكْلَتَان) ،
بِضَم الْهمزَة فيهمَا، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأكلَة،
ضَبطهَا بَعضهم بِضَم الْهمزَة بِمَعْنى: اللُّقْمَة،
فَإِن فتحتها كَانَت الْمرة الْوَاحِدَة. وَفِي (الفصيح)
لِأَحْمَد بن يحيى: الْأكلَة: اللُّقْمَة، والأكلة،
بِالْفَتْح: الْغذَاء وَالْعشَاء. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ
غنى) ، زَاد فِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (غنى يُغْنِيه) .
قَوْله: (ويستحي) بالياءين وبياء وَاحِدَة زَاد فِي
رِوَايَة الْأَعْرَج: (وَلَا يفْطن بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (لَهُ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ وَلَا يقوم
فَيسْأَل النَّاس) ، وَهُوَ بِنصب: يتَصَدَّق، وَيسْأل.
قَوْله: (وَلَا يسْأَل) ويروى: (وَأَن لَا يسْأَل) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: كلمة: لَا، زَائِدَة فِي: (وَأَن
لَا يسْأَل) . قَوْله: (إلحافا) أَي: إلحاحا، وَقد مر
تَفْسِيره عَن قريب. وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد: لَيْسَ
الْمِسْكِين الْكَامِل لِأَنَّهُ بمسألته يَأْتِيهِ
الكفاف، وَإِنَّمَا الْمِسْكِين الْكَامِل فِي أَسبَاب
المسكنة من لَا يجد غنى وَلَا يتَصَدَّق عَلَيْهِ، أَي:
لَيْسَ فِيهِ نفي المسكنة بل نفي كمالها، أَي: الَّذِي
هُوَ أَحَق بِالصَّدَقَةِ وأحوح إِلَيْهَا.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: حسن الْإِرْشَاد لموْضِع
الصَّدَقَة، وَأَن يتحَرَّى وَضعهَا فِيمَن صفته التعفف
دون الإلحاح. وَفِيه: حسن الْمِسْكِين الَّذِي يستحي وَلَا
يسْأَل النَّاس. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْحيَاء فِي كل
الْأَحْوَال.
7741 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ
الحَذَّاءَ عنِ ابنِ أشْوعَ عنِ الشَّعبِيِّ قَالَ حدَّثني
كاتبُ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ كتبَ مُعاويةُ إلَى
المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أنِ اكْتُبْ إلَيَّ بشَىءٍ
سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فكتَبَ إلَيْهِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ إنَّ الله كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قيلَ وقالَ
وإضَاعَةَ المالِ وكَثْرَةَ السُّؤَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) .
وَرِجَاله ثَمَانِيَة: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير
الدَّوْرَقِي، وَإِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم
الْبَصْرِيّ، وَعليَّة اسْم أمه، وخَالِد هُوَ ابْن
مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَقد مر غير مرّة، وَابْن
أَشوع، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة
وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن
عَمْرو بن الأشوع الْهَمدَانِي الْكُوفِي قَاضِي
الْكُوفَة، نسب لجده. وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل،
وَكَاتب الْمُغيرَة هُوَ: وراد، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد
الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، والمغيرة بن شُعْبَة
مَوْلَاهُ، وَمُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان. وَفِيه:
تابعيان وصحابيان، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الذّكر بعد
الصَّلَاة، تعدد ذكره وَمن أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن قيل وَقَالَ) ، هما إِمَّا
فعلان: الأول، يكون بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي،
وَالثَّانِي يكون بِنَاء الْفَاعِل، وَإِمَّا مصدران،
يُقَال: قلت قولا وقيلاً وَقَالا. وَحِينَئِذٍ يكونَانِ
منونين، وَإِمَّا إسمان. قَالَ ابْن السّكيت: هما إسمان
لَا مصدران،
(9/60)
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن يُرَاد
بهما حِكَايَة أقاويل النَّاس، كَمَا يُقَال: قَالَ فلَان
كَذَا، وَقيل لَهُ: كَذَا، من بَاب مَا لَا يَعْنِي. وَأما
مَا كَانَ من أَمر الدّين يَنْقُلهُ بِلَا حجَّة وَبَيَان
يُقَلّد مَا يسمعهُ وَلَا يحْتَاط فِيهِ. وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: المُرَاد بِهِ حِكَايَة شَيْء لَا تعلم
صِحَّته فَإِن الحاكي يَقُول: قيل وَقَالَ: وَعَن مَالك:
هُوَ الْإِكْثَار من الْكَلَام والإرجاف، نَحْو قَول
الْقَائِل: أعطي فلَان كَذَا وَمنع من كَذَا، أَو الْخَوْض
فِيمَا لَا يَعْنِي. وَقَالَ ابْن التِّين: لَهُ
تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ حِكَايَة
أَقْوَال النَّاس وأحاديثهم والبحث عَنْهَا لينمي
فَيَقُول: قَالَ فلَان كَذَا وَفُلَان كَذَا، مِمَّا لَا
يجر خيرا، إِنَّمَا هُوَ ولوع وشغب، وَهُوَ من التَّجَسُّس
الْمنْهِي عَنهُ. وَالثَّانِي: أَن يكون فِي أَمر الدّين
فَيَقُول: قيل لَهُ فِيهِ كَذَا، وَقَالَ فلَان فيقلد
وَلَا يحْتَاط بمواضع الِاحْتِيَاط بالحجج. قَوْله:
(وإضاعة المَال) ، هُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَفِي
رِوَايَة غَيره: (إِضَاعَة الْأَمْوَال) ، وَهُوَ أَن
يتْركهُ من غير حفظ لَهُ فيضيع، أَو يتْركهُ حَتَّى يفْسد،
أَو يرميه إِذا كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاوله، أَو بِأَن
يرضى بِالْغبنِ، أَو يُنْفِقهُ فِي الْبناء واللباس
والمطعم بإسراف، أَو يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، أَو يُسلمهُ
لخائن أَو مبذر، أَو يموه الْأَوَانِي بِالذَّهَب أَو يطرز
الثِّيَاب بِهِ، أَو يذهِّب سقوف الْبَيْت، فَإِنَّهُ من
التضييع الْفَاحِش لِأَنَّهُ لَا يُمكن تخليصه مِنْهُ
وإعادته إِلَى أَصله، وَمِنْه قسْمَة مَا لَا ينْتَفع
بقسمته كاللؤلؤة، وَمِنْه الصَّدَقَة وإكثارها وَعَلِيهِ
دين لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاء دينه، وَمِنْه سوء الْقيام
على مَا يملكهُ كالرقيق إِذا لم يتعهده ضَاعَ، وَمِنْه أَن
يتخلى الرجل من كل مَاله وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ غير قوي
على الصَّبْر والإطاقة، وَقد يحْتَمل أَن يؤول معنى
الإضاعة على الْعَكْس مِمَّا تقدم بِأَن يُقَال: إضاعته:
حَبسه عَن حَقه وَالْبخل بِهِ على أَهله كَمَا قَالَ
الشَّاعِر:
(وَمَا ضَاعَ مَال أورث الْمجد أَهله ... وَلَكِن أَمْوَال
الْبَخِيل تضيع)
وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِضَاعَة المَال تُؤدِّي إِلَى
الْفقر الَّذِي يخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَة، وَكَأن
الشَّارِع، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَعَوَّذ من الْفقر
وفتنته. وَقَالَ الْمُهلب فِي إِضَاعَة المَال: يُرِيد
السَّرف فِي إِنْفَاقه وَإِن كَانَ فِيمَا يحل، أَلا ترى
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد تَدْبِير المعدم
لِأَنَّهُ أسرف على مَاله فِيمَا يحل ويؤجر فِيهِ، لكنه
أضاع نَفسه، وأجره فِي نَفسه آكِد من أجره فِي غَيره.
قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) ، أما السُّؤَال إِمَّا أَن
يكون من سُؤال النَّاس أَمْوَالهم والاستكثار مِنْهُ، أَو
سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهي عَنهُ من الْمُتَشَابه الَّذِي
تعبدنا بِظَاهِرِهِ، أَو السُّؤَال من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أُمُور لم يكن لَهُم بهَا حَاجَة.
وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمسَائِل فِي كتاب الله تَعَالَى
على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَحْمُود كَقَوْلِه:
{يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 512 و 912)
. وَنَحْوه من الإشياء الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي الدّين،
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فاسألوا أهل الذّكر إِن
كُنْتُم لَا تعلمُونَ} (النَّحْل: 34، الْأَنْبِيَاء: 7) .
وَالْآخر مَذْمُوم كَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَك عَن الرّوح}
(الْإِسْرَاء: 58) . وَنَحْوه مِمَّا لَا ضَرُورَة فِيهِ
لَهُم إِلَى علمه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا
تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تَبْدُ لكُم تَسُؤْكُمْ}
(الْمَائِدَة: 101) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل إِن
يُرَاد بِكَثْرَة السُّؤَال سُؤال الْإِنْسَان عَن حَاله
وتفاصيل أمره، لِأَنَّهُ يتَضَمَّن حُصُول الْحَرج فِي حق
المسؤول عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيد إخْبَاره بأحواله،
فَإِن أخبرهُ شقّ عَلَيْهِ وَإِن أهمل جَوَابه ارْتكب سوء
الْأَدَب. وَيُقَال: فِي كَثْرَة السُّؤَال وَجْهَان ذكرا
عَن مَالك: الأول: سُؤال سيدنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قَالَ: (ذروني مَا تركتكم) .
وَالثَّانِي: سُؤال النَّاس، وَهُوَ الَّذِي فهمه
البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين
فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: التَّعَرُّض لما فِي أَيدي النَّاس
من الحطام بالحرص والشره، وَهُوَ تَأْوِيل البُخَارِيّ.
ثَانِيهَا: أَن يكون فِي سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهى عَنهُ
من متشابه الْأُمُور على مَذْهَب أهل الزيغ وَالشَّكّ
وابتغاء الْفِتْنَة. ثَالِثهَا: مَا كَانُوا يسْأَلُون
الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّيْء من
الْأُمُور من غير حَاجَة بهم إِلَيْهِ فتنزل الْبلوى بهم،
كالسائل عَمَّن يجد مَعَ امْرَأَته رجلا أَشد النَّاس جرما
فِي الْإِسْلَام من سَأَلَ عَن أَمر لم يكن حَرَامًا فَحرم
من أجل مَسْأَلته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على الْحجر،
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْحجر على الْبَالِغ المضيع
لمَاله، فجمهور الْعلمَاء يُوجب الْحجر عَلَيْهِ صَغِيرا
كَانَ أَو كَبِيرا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس
وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف
وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر،
وَقَالَ النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وبعدهما أَبُو حنيفَة
وَزفر: لَا حجر على الْبَالِغ الحَدِيث الَّذِي يخدع فِي
الْبيُوع وَلم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
التَّصَرُّف. وَفِيه: دَلِيل على فضل الكفاف على الْفقر
والغنى، لِأَن ضيَاع المَال يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة
بالفقر وَكَثْرَة السُّؤَال، وَرُبمَا يخْشَى من الْغنى
الْفِتْنَة، قَالَ تَعَالَى: {كلا إِن الْإِنْسَان
(9/61)
ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} (العلق: 6 و 7)
. والفقر والغنى محنتان وبليتان كَانَ الشَّارِع يتورع
مِنْهُمَا، وَمن عَاشَ فيهمَا بالاقتصاد فقد فَازَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَفِيه: الْكتاب بالسؤال عَن
الْعلم وَالْجَوَاب عَنهُ. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد
وَقبُول الْكتاب وَهُوَ حجَّة فِي الْإِجَازَة. وَفِيه:
أَخذ بعض الصَّحَابَة عَن بعض. وَفِيه: دَلِيل على أَن
قلَّة السُّؤَال لَا تدخل تَحت النَّهْي خُصُوصا إِذا
كَانَ مُضْطَرّا يخَاف على نَفسه التّلف بِتَرْكِهِ، بل
السُّؤَال فِي هَذِه الْحَالة وَاجِب لِأَنَّهُ لَا يحل
لَهُ إِتْلَاف نَفسه وَهُوَ يجد السَّبِيل إِلَى
حَيَاتهَا.
8741 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ غُزَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ
حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَن أبيهِ عنْ صَالِحِ
بنِ كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عامِرُ
بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ قَالَ أعْطَى رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رَهطا وَأنا جالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فترَكَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنهُم رجُلاً لَمْ
يُعْطِهِ وَهْوَ أعْجَبُهُمْ إلَيَّ فقُمْتُ إلَى رسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَاوَرْتُهُ فقُلْتُ مالَكَ
عنْ فُلانٍ وَالله إنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ
مُسْلِما قَالَ فسَكَتُّ قلِيلاً ثُمَّ غَلَبنِي مَا
أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ يَا رسولَ الله مَا لَكَ عنْ فُلانٍ
وَالله إنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما قَالَ
فسَكَتُّ قَليلاً ثُمَّ غلبَني مَا أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ
يَا رسولَ الله مالَكَ عَن فُلانٍ وَالله لأُراهُ مُؤْمِنا
قَالَ أوْ مُسْلِما يَعْنِي فَقَالَ إنِّي لأُعْطِي
الرَّجُلَ وغَيْرَهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أنْ
يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 72) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل الَّذِي تَركه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُعْطه شَيْئا،
وَهُوَ أَيْضا ترك السُّؤَال أصلا مَعَ مُرَاجعَة سعد،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَبِهِ ثَلَاث مَرَّات، وَقد مضى
الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب إِذا لم يكن
الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ:
عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عَامر
بن سعد بن أبي وَقاص عَن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن غرير، بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف: الزُّهْرِيّ، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء،
وَقد تقدم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي كتاب
الْعلم. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب
الْإِيمَان.
وعَنْ أبيهِ عَن صالِحٍ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ مُحَمَّدٍ
أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ هاذا فَقَالَ فِي
حدِيثِهِ فضَرَبَ رسولُ الله بيَدِهِ فجَمَعَ بَيْنَ
عُنُقِي وكَتِفي ثُمَّ قَالَ أقْبِلْ أيْ سَعْدُ إنِّي
لأُعطِي الرَّجُلَ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله:
(وَعَن أَبِيه) ، عطف على الْمَذْكُور أَولا فِي
الْإِسْنَاد أَي: قَالَ يَعْقُوب عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم
عَن صَالح بن كيسَان عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد
بن أبي وَقاص الزُّهْرِيّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: أَبوهُ مُحَمَّد فروايته عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلَة إِذْ لَا بُد من توَسط ذكر سعد
حَتَّى يصير مُسْندًا مُتَّصِلا؟ قلت: لفظ، هَذَا، هُوَ
إِشَارَة إِلَى قَول سعد، فَهُوَ مُتَّصِل وَبِهَذَا
السَّنَد رَوَاهُ مُسلم عَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي
عَن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن صَالح عَن إِسْمَاعِيل بن
مُحَمَّد، قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن سعد يحدث بِهَذَا ...
يَعْنِي حَدِيث الزُّهْرِيّ الْمَذْكُور، فَقَالَ فِي
حَدِيثه: فَضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ
بَين عنقِي وكتفي ثمَّ قَالَ: أقتالاً أَي سعد إِنِّي
لأعطي الرجل؟ وَفِي الْجمع للحميدي فِي أَفْرَاد مُسلم:
عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد عَن أَبِيه عَن جده
بِنَحْوِ حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد. قَوْله:
(يحدث) ، هَذَا إِشَارَة إِلَى قَول سعد كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (فِي حَدِيثه) أَي: فِي جملَة حَدِيثه. قَوْله:
(فَجمع) ، بفاء الْعَطف، وَفعل الْمَاضِي، وَقَالَ ابْن
التِّين: رِوَايَة أبي ذَر: فَجمع، وَفِي رِوَايَة غَيره:
جمع، بِدُونِ الْفَاء، ويروى: (فَضرب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ فَجمع بَين عنقِي وكتفي) . قَالَ
ابْن قرقول: أَي: حَيْثُ يَجْتَمِعَانِ، وَكَذَلِكَ مجمع
الْبَحْرين حَيْثُ يجْتَمع بَحر وبحر، وتوجيه هَذِه
الرِّوَايَة إِن يكون لفظ: بَين، إسما لَا ظرفا، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {لقد تقطع بَيْنكُم} (الْأَنْعَام: 49) . على
قراء الرّفْع فَيكون
(9/62)
لفظ: مجمع، مُضَافا إِلَيْهِ، ويروى:
(فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ يجمع
بَين عنقِي وكتفي) ، بِالْبَاء الجارة وَضم الْجِيم
وَسُكُون الْمِيم، وَمحله نصب على الْحَال تَقْدِيره: ضرب
بِيَدِهِ حَال كَونهَا مَجْمُوعَة، وَيجوز فِي الْكَتف
ثَلَاث لُغَات. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقبل) بِفَتْح الْهمزَة، أَمر من
الإقبال أَو بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الْبَاء من الْقبُول،
حسب الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ التَّيْمِيّ: فِي بَعْضهَا
أقبل بِقطع الْألف، كَأَنَّهُ لما قَالَ ذَلِك تولى ليذْهب
فَقَالَ لَهُ: أقبل لأبين لَك وَجه الْإِعْطَاء
وَالْمَنْع، وَفِي بَعْضهَا بوصل الإلف أَي: أقبل مَا أَنا
قَائِل لَك وَلَا تعترض عَلَيْهِ. قلت: وَيدل عَلَيْهِ
بَاقِي رِوَايَة مُسلم: (أقتالاً أَي سعد) أَي: أتقاتل
قتالاً؟ أَي: أتعارضني فِيمَا أَقُول مرّة بعد مرّة
كَأَنَّك تقَاتل؟ وَهَذَا يشْعر أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كره مِنْهُ إلحاحه عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة.
قَوْله: (أَي سعد) يَعْنِي: يَا سعد إِنِّي لأعطي، اللَّام
فِيهِ للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا أعطي الرجل ليتألفه ليستقر
الْإِيمَان فِي قلبه وَعلم أَنه إِن لم يُعْطه قَالَ قولا
أَو فعل فعلا دخل بِهِ النَّار، فَأعْطَاهُ شَفَقَة
عَلَيْهِ، وَمنع الآخر علما مِنْهُ رسوخ الْإِيمَان فِي
صَدره ووثوقا على صبره.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الشَّفَاعَة للرجل من غير أَن
يسْأَلهَا ثَلَاثًا. وَفِيه: النَّهْي عَن الْقطع لأحد من
النَّاس بِحَقِيقَة الْإِيمَان وَأَن الْحِرْص على
هِدَايَة غير الْمُهْتَدي آكِد من الْإِحْسَان إِلَى
الْمُهْتَدي. وَفِيه: الْأَمر بالتعفف والاستغناء وَترك
السُّؤَال.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا مُكِبا
أكَبَّ الرَّجُلِ إذَا كانَ فِعلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى
أحَدٍ فإذَا وقَعَ الفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ الله
لِوَجْهِهِ وكبَبْتُهُ أنَا
قَالَ أَبُو عبد الله، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقد جرت
عَادَته أَنه إِذا كَانَ فِي الْقُرْآن لفظ يُنَاسب لفظ
الحَدِيث يذكرهُ اسْتِطْرَادًا فَقَوله: (فكبكبوا) ،
مَذْكُور فِي سُورَة الشُّعَرَاء مَعْنَاهُ: فكبوا بِلَفْظ
الْمَجْهُول من الكب، وَهُوَ الْإِلْقَاء على الْوَجْه.
وَفِي بَعْضهَا: قلبوا بِالْقَافِ وَاللَّام وَالْبَاء
الْمُوَحدَة. قَوْله: (مكبا) ، بِضَم الْمِيم هُوَ
الْمَذْكُور فِي سُورَة الْملك، وَهُوَ قَوْله: {أَفَمَن
يمشي مكبا على وَجهه} (الْملك: 22) . قَوْله: (أكب الرجل)
يَعْنِي: وَقع على وَجهه، وَهُوَ لَازم أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله: (إِذا كَانَ فعله غير وَاقع على أحد) ، وَذَلِكَ
أَنهم يسمون الْفِعْل الَّذِي لَا يتَعَدَّى: لَازِما
وَغَيره وَاقع. قَوْله: (فَإِذا وَقع الْفِعْل) ، يَعْنِي:
إِذا وَقع على أحد يكون مُتَعَدِّيا: وَيُسمى وَاقعا
أَيْضا، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (قلت كَبه الله لوجهه) ،
وَهَذَا من نَوَادِر الْكَلِمَة حَيْثُ كَانَ ثلاثيه
مُتَعَدِّيا والمزيد فِيهِ لَازِما، عكس الْقَاعِدَة
التصريفية. قَوْله: (وكببته أَنا) متعدٍ أَيْضا، أَي: كببت
أَنا فلَانا على وَجهه، وأتى بالمثالين أَحدهمَا من
الْغَائِب وَالْآخر من الْمُتَكَلّم، وكببته يجوز فِيهِ
أَن تبدل الْيَاء من الْبَاء الثَّانِيَة فَنَقُول: كبيته،
على مَا علم فِي مَوْضِعه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: صالِحُ بنُ كَيْسَانَ أكْبَرُ
مِنَ الزُّهْرِيِّ وَهْوَ قَدْ أدْرَكَ ابنَ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (صَالح بن
كيسَان) هُوَ الْمَذْكُور فِي الإسنادين. قَوْله: (أكبر)
أَي: أكبر سنا، كَانَ عمره مائَة وَسِتِّينَ سنة. قَوْله:
(من الزُّهْرِيّ) يَعْنِي من مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: صَالح ابْن كيسَان (قد
أدْرك عبد الله بن عمر) ، يَعْنِي: أدْرك السماع مِنْهُ.
وَأما الزُّهْرِيّ فمختلف فِي لقِيه لَهُ، وَالصَّحِيح
أَنه لم يلقه وَإِنَّمَا يرْوى عَن أَبِيه سَالم عَنهُ،
وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَان وَقع فِي رِوَايَة معمر عَنهُ
أَنه سمعهما من ابْن عمر ثَبت ذكر سَالم بَينهمَا فِي
رِوَايَة غَيره.
9741 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني
مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي
يَطُوفُ عَلى الناسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ
واللُّقْمَتَانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ ولاكِنَّ
المِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ وَلاَ
يُفْطَنُ بِهِ فيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ
فيَسْألُ النَّاسَ.
(انْظُر الحَدِيث 6741 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يقوم فَيسْأَل
النَّاس) .
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي
وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن
بن هُرْمُز.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة
عَن مَالك بِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِي مَعْنَاهُ
(9/63)
فِي بَاب الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة.
قَوْله: (وَلَا يفْطن بِهِ) أَي: لَا يكون للنَّاس الْعلم
بِحَالَة فيتصدقون عَلَيْهِ، ويروى (وَلَا يفْطن لَهُ)
بِاللَّامِ، قَوْله: (فَيسْأَل) بِالنّصب، وَكَذَا:
(فَيتَصَدَّق) وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول.
0841 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ
حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا أَبُو
صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لأَن يأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ
يَغْدُو أحْسِبُهُ إلَي الجَبَلِ فيَحْتَطِبَ فيَبِيعَ
فيَأْكُلَ ويَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ
النَّاسَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خير لَهُ من أَن يسْأَل
النَّاس) ، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الاستعفاف فِي
الْمَسْأَلَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن
يُوسُف عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن
أبي هُرَيْرَة ... الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن عمر بن
حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش
عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (ثمَّ يَغْدُو) أَي: ثمَّ يذهب والغدو الذّهاب فِي
أول النَّهَار قَوْله: (أَحْسبهُ) أَي قَالَ أَبُو
هُرَيْرَة أطن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
إِلَى الْجَبَل مَوضِع الْحَطب. قَوْله: (فيحتطب فيبيع) ،
بِالْفَاءِ فيهمَا لِأَن الاحتطاب يكون عقيب الغدو إِلَى
الْجَبَل، وَالْبيع يكون عقيب الاحتطاب. قَوْله:
(وَيتَصَدَّق) ، بواو الْعَطف ليدل على أَنه يجمع بَين
البيع وَالصَّدَََقَة، يَعْنِي: إِذا بَاعَ يتَصَدَّق
مِنْهُ.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الاستعفاف عَن الْمَسْأَلَة. واستحباب
التكسب بِالْيَدِ. واستحباب الصَّدَقَة من كسب يَده.
45 - (بابُ خَرْص التمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة خرص التَّمْر، الْخرص،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا
صَاد مُهْملَة: مصدر من خرص الْعدَد ويخرصه من بَاب: نصر
ينصر وَضرب يضْرب، خرصا وخرصا بِالْفَتْح وَالْكَسْر إِذا
حزره، وَيُقَال بِالْفَتْح مصدر وبالكسر اسْم. وَفِي
(الصِّحَاح) : هُوَ حزر على النّخل من الرطب تَمرا.
وَقَالَ ابْن السّكيت: الْخرص والخرص لُغَتَانِ فِي
الشَّيْء المخروص، وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل
الْعلم: أَن تَفْسِيره أَن الثِّمَار إِذا أدْركْت من
الرطب وَالْعِنَب مِمَّا يجب فِيهِ الزَّكَاة بعث
السُّلْطَان خارصا ينظر فَيَقُول: يخرج من هَذَا كَذَا
وَكَذَا زبيبا وَكَذَا ثمرا فيصيه، وَينظر مبلغ العُشر
فيثبته عَلَيْهِم ويخلي بَينهم وَبَين الثِّمَار فَإِذا
جَاءَ وَقت الْجذاذ أَخذ مِنْهُم العُشر.
1841 - حدَّثنا سَهْلُ بنُ بَكَّارٍ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى عَن عَبَّاسٍ
السَّاعِديِّ عنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ غزَوْنَا معَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ فلَمَّا جاءَ وَادِي
القُرى إذَا امْرَأةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَها فَقَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِصْحَابِهِ اخْرُصُوا وخَرَصَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشْرَةَ أوْسُق
فَقَالَ لهَا أحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فلَمَّا
أتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ أمَا إنَّهَا ستَهُبُّ اللَّيْلَةَ
رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلا يَقُومَنَّ أحَدٌ ومَنْ كانَ معَهُ
بَعِيرٌ فلْيَعْقِلْهُ فعَقَلْنَاهَا وهَبَّتْ رِيحٌ
شَدِيدةٌ فقامَ رجلٌ فألقَتْهُ بِجَبَلِ طيِّىءٍ وأَهْدَى
مَلِكُ أيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَغْلَةً بَيْضَاءَ وكسَاهُ بُرْدا وكتَبَ لَهُ
بِبَحْرِهِمْ فلَمَّا أتَى وَادِي القُرَى قَالَ
لِلْمَرأةِ كَمْ جاءَ حَدِيقَتُكِ قالَتْ عَشَرَةَ أوْسُقٍ
خَرْصَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي مُتَعَجِّلٌ إلَى
المَدِينَةِ فَمَنْ أرَادَ مِنْكُمْ أنْ يتَعَجَّلَ مَعِي
فلْيَتَعَجَّلْ فلَمَّا قَالَ ابنُ بَكَّارٍ كلِمَةً
مَعْنَاها أشْرَفَ عَلى المدِينَةِ. قَالَ هاذِهِ طابَةُ
فلَمَّا رَأي أُحُدا قَالَ هاذا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا
ونُحِبُّهُ ألاَ أخبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنصَارِ
قالُوا بَلى قالَ دُورُ بَنِي النَّجَّار ثُمَّ دُورُ
بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ ثُمَّ دُورِ بَنِي ساعِدَةَ أوْ
دُورُ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخزْرَجِ وفِي كُلِّ دُورِ
الأنْصَارِ يَعْنِي خَيْرا. وقالَ سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ
حدَّثني
(9/64)
عَمْرٌ وثُمَّ دَارُ بَنِي الحارِثِ ثُمَّ
بَنِي ساعِدَةَ وَقَالَ سُلَيْمَانُ عنْ سَعْدِ بنِ
سَعِيدٍ عنْ عُمَارَةَ بنِ غَزِيَّةَ عنْ عَبَّاسٍ عنْ
أبِيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أُحُدٌ
جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (اخرصوا وخرص
رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: سهل بن بكار، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْكَاف وبالراء: أَبُو بشر
الدَّارمِيّ. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد أَبُو بكر.
الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة. الرَّابِع:
عَبَّاس، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن سهل بن سعد، مَاتَ زمن الْوَلِيد
بِالْمَدِينَةِ. الْخَامِس: أَبُو حميد، بِضَم الحاءر
الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم: اسْمه الْمُنْذر أَو عبد
الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ، مر فِي: بَاب فضل
اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن عَمْرو بن يحيى،
وَلمُسلم من وَجه آخر عَن وهيب حَدثنَا عَمْرو بن يحيى.
وَفِيه: عَبَّاس وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: عَن
الْعَبَّاس السَّاعِدِيّ، يَعْنِي ابْن سهل بن سعد، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر: عَن وهيب أخبرنَا
عَمْرو بن يحيى حَدثنَا عَبَّاس ابْن سهل السَّاعِدِيّ.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان وَعَمْرو بن يحيى
وعباس بن سهل مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْمَغَازِي بِتَمَامِهِ وَفِي
فضل الْأَنْصَار بِبَعْضِه: (خير دور الْأَنْصَار) ، عَن
خَالِد ابْن مخلد، وَأخرجه مُسلم فِي فضل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِيه وَفِي الْحَج عَن
القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي الْخراج عَن سهل بن بكار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَزْوَة تَبُوك) ، بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة
المخففة وَفِي آخِره كَاف، منصرف بَينهَا وَبَين
الْمَدِينَة أَربع عشرَة مرحلة من طرف الشَّام، وَبَينهَا
وَبَين دمشق إِحْدَى عشرَة مرحلة. وَفِي (الْمُحكم) :
تَبُوك اسْم أَرض وَقد يكون: تَبُوك، تفعل، وَزعم ابْن
قُتَيْبَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ
فِي غَزْوَة تَبُوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فَقَالَ: مَا
زلتم تبوكونها بعد؟ فسميت: بتبوك، وَمعنى: تبوكون تدخلون
فِيهِ السهْم وتحركونه ليخرج مَاؤُهُ. قلت: هَذَا يدل على
أَنه معتل، وَذكرهَا ابْن سَيّده فِي الثلاثي الصَّحِيح.
قَوْله: (حسيها) ، أَي: حشي تَبُوك، بِكَسْر الْحَاء
وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي آخِره يَاء آخر
الْحُرُوف: مَا تنشفه الأَرْض من الرمل، فَإِذا صَار إِلَى
صلابة أمسكته فيحفر عَنهُ الرمل فتستخرجه وَهُوَ الاحتساء،
وَيجمع الْحسي على أحساء، وغزوة تَبُوك تسمى الْعسرَة
والفاضحة، وَكَانَت فِي رَجَب يَوْم الْخَمِيس سنة تسع،
وَقَالَ ابْن التِّين: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي أول يَوْم من رَجَب إِلَيْهَا وَرجع فِي سلخ
شَوَّال. وَقيل: فِي شهر رَمَضَان. وَقَالَ الدَّاودِيّ:
هِيَ آخر غَزَوَاته، لم يقدر أحد أَن يتَخَلَّف عَنْهَا،
وَكَانَت فِي شدَّة الْحر وإقبال الثِّمَار، وَلم يكن
فِيهَا قتال وَلم تكن غَزْوَة إلاَّ ورى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا إلاَّ غَزْوَة تَبُوك، ومكرت
طَائِفَة من الْمُنَافِقين فِي هَذِه الْغَزْوَة برَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادوا أَن يلقوه من
الْعقبَة فَنزل فيهم مَا فِي سُورَة بَرَاءَة. قَوْله:
(وَادي الْقرى) ، ذكر السَّمْعَانِيّ أَنَّهَا مَدِينَة
قديمَة بالحجاز مِمَّا يَلِي الشَّام، وَذكر ابْن قرقول،
أَنَّهَا من أَعمال الْمَدِينَة، وَهَذَا قريب. قَوْله:
(إِذا امْرَأَة فِي حديقة) ، قَالَ ابْن مَالك فِي
(الشواهد) : لَا يمْتَنع الِابْتِدَاء بالنكرة الْمَحْضَة
على الْإِطْلَاق، بل إِذا لم تحصل فَائِدَة نَحْو: رجل
يتَكَلَّم، إِذْ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا من رجل يتَكَلَّم،
فَلَو اقْترن بالنكرة قرينَة تتحصل بهَا الْفَائِدَة جَازَ
الِابْتِدَاء بهَا، وَمن تِلْكَ الْقَرَائِن الِاعْتِمَاد
على: إِذا، المفاجأة نَحْو: انْطَلَقت فَإِذا سبع فِي
الطَّرِيق، والحديقة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ
ابْن سَيّده: هِيَ من الرياض كل أَرض استدارت. وَقيل:
الحديقة كل أَرض ذَات شَجَرَة بثمر ونخل. وَقيل: الحديقة
الْبُسْتَان والحائط وَخص بَعضهم بِهِ الْجنَّة من النّخل
وَالْعِنَب، وَقيل: الحديقة حُفْرَة تكون فِي الْوَادي
تحبس المَاء فِي الْوَادي، وَإِن لم يكن المَاء فِي بَطْنه
فَهُوَ حديقة، والحديقة أعمق من الغدير، والحديقة الْقطعَة
من الزَّرْع من كرَاع، وَكله فِي معنى الاستدارة. وَفِي
(الغريبين) : يُقَال للقطعة من النّخل: حديقة. قَوْله:
(اخرصوا) بِضَم الرَّاء زَاد سُلَيْمَان: (فخرصنا) .
قَوْله: (عشرَة أوسق) على وزن أفعل، بِضَم الْعين: جمع وسق
بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا، وَهُوَ
ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رطلا عِنْد أهل الْحجاز،
وَأَرْبَعمِائَة وَثَمَانُونَ رطلا عِنْد أهل الْعرَاق،
على اخْتلَافهمْ فِي
(9/65)
مِقْدَار الصَّاع وَالْمدّ. قَوْله: (احصى)
، بِفَتْح الْهمزَة من الإحصاء وَهُوَ الْعد، وَمَعْنَاهُ:
احفظي عدد كيلها. وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (إحصيها
حَتَّى نرْجِع إِلَيْك إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وأصل
الإحصاء الْعد بالحصى لأَنهم كَانُوا لَا يحسنون
الْكِتَابَة، فَكَانُوا يضبطون الْعدَد بالحصى. قَوْله:
(أما إِنَّهَا) أما، بِفَتْح الْهمزَة بِالتَّخْفِيفِ،
وَهِي حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلاَ، وَيكون بِمَعْنى:
حَقًا. قَوْله: (ستهب اللَّيْلَة) ، زَاد سُلَيْمَان:
(عَلَيْكُم) ، وستهب، بِضَم الْهَاء وَالسِّين فِيهِ
عَلامَة الِاسْتِقْبَال، وَأَصله من: هَب يهب، ككب يكب،
وَهَذَا الْبَاب إِذا كَانَ مُتَعَدِّيا يكون عين الْفِعْل
فِيهِ مضموما إلاَّ: حبه يُحِبهُ، فَإِنَّهُ مكسور. وأحرف
نادرة جَاءَ فِيهَا الْوَجْهَانِ إِذا كَانَ لَازِما مثل:
ضل يضل. قَوْله: (فليعقله) أَي: يشده بالعقال، وَهُوَ
الْحَبل، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (فليشد عقاله) ،
وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) : عَن
عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن عَبَّاس بن سهل: (وَلَا
يخْرجن أحد مِنْكُم اللَّيْلَة إلاَّ وَمَعَهُ صَاحب لَهُ)
. قَوْله: (بجبل طي) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بجبلي
طي) ، وَفِي رِوَايَة: (فَحملت الرّيح حَتَّى ألقته بجبلي
طَيء) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
عَفَّان عَن وهيب: (فَلم يقم فِيهَا أحد غير رجلَيْنِ
ألقتهما بجبلي طَيء) ، وَفِيه نظر تبينه رِوَايَة ابْن
إِسْحَاق، وَلَفظه: (فَفعل النَّاس مَا أَمرهم إلاَّ
رجلَيْنِ من بني سَاعِدَة خرج أَحدهمَا لِحَاجَتِهِ
فَإِنَّهُ خنق على مذْهبه، وَأما الَّذِي ذهب فِي طلب
بعيره فاحتملته الرّيح حَتَّى طرحته بجبلي طَيء، فَأخْبر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ألم أنهكم
أَن يخرج رجل إلاَّ وَمَعَهُ صَاحب لَهُ؟ ثمَّ دعى الَّذِي
أُصِيب على مذْهبه فشفي، وَأما الآخر فَإِنَّهُ وصل إِلَى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين قدم من
تَبُوك) . وَأما جبلا طَيء فقد ذكر الْكَلْبِيّ فِي
كِتَابه (أَسمَاء الْبلدَانِ) أَن سلمى بنت حام بن حمى بن
برارة من بني عمليق كَانَت لَهَا حاضنة يُقَال لَهَا
العوجاء، وَكَانَت الرَّسُول بَينهَا وَبَين أجأ بن عبد
الْحَيّ من العماليق، فعشقها فهرب بهَا وبحاضنتها إِلَى
مَوضِع جبل طييء، وبالجبلين قوم من عَاد، وَكَانَ لسلمى
أخوة فجاؤوا فِي طلبَهَا فلحقوهم بِموضع الجبلين، فَأخذُوا
سلمى فنزعوا عينهَا ووضعوها على الْجَبَل، وكتف أجأ،
وَكَانَ أول من كتف وَوضع على الْجَبَل الآخر، فَسُمي بهَا
الجبلان، أجأ وسلمى. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أجأ، بِفَتْح
أَوله وثانيه على وزن فعل يهمز وَلَا يهمز وَيذكر
وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور فِي كلا الْوَجْهَيْنِ من همزه
وَترك همزه. وَقَالَ بَعضهم: وَيُقَال: إِن الجبلين سميا
باسم رجل وَامْرَأَة من العماليق، قلت: الْكَلْبِيّ قد
سماهما كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (ملك أَيْلَة) ، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللام: إسم
بَلْدَة على سَاحل الْبَحْر آخر الْحجاز وَأول الشَّام.
قلت: أَيْلَة على وزن: فعلة، مَدِينَة على شاطىء الْبَحْر
فِي منصف مَا بَين مصر وَمَكَّة، شرفها الله تَعَالَى،
سميت بأيلة بنت مَدين بن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقد روى أَن أَيْلَة هِيَ الْقرْيَة الَّتِي
كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَملك
أَيْلَة اسْمه يوحنا بن روبة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان
عِنْد مُسلم: (وَجَاء رَسُول ابْن العلما صَاحب أَيْلَة
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب،
وَأهْدى لَهُ بغلة بَيْضَاء) . قلت: يوحنا، بِضَم الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد النُّون مَقْصُور. وروبة، بِضَم الرَّاء
وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره
هَاء، وَالظَّاهِر أَن علما اسْم يوحنا، وإسم البغلة:
دُلْدُل. قَوْله: (وَكتب لَهُ ببحرهم) ، أَي: ببلدهم،
وَالْمرَاد بِأَهْل بحرهم لأَنهم كَانُوا سكانا بساحل
الْبَحْر، ويروى: (ببحرتهم) ، أَي: ببلدتهم، وَقيل: البحرة
الأَرْض، كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقطع هَذَا
الْملك من بِلَاده قطائع، وفوض إِلَيْهِ حكومتها، وَذكر
ابْن إِسْحَاق الْكتاب، وَهُوَ بعد الْبَسْمَلَة: (هَذِه
أَمَنَة من الله وَمن مُحَمَّد النَّبِي رَسُول الله
ليوحنا بن روبة وَأهل أَيْلَة سفنهم وسيارتهم فِي الْبر
وَالْبَحْر لَهُم ذمَّة الله، وَمُحَمّد النَّبِي) ، وسَاق
بَقِيَّة الْكتاب. قَوْله: (كم جَاءَ حديقتك) أَي: قدر
ثَمَر حديقتك؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَسَأَلَ الْمَرْأَة
عَن حديقتها: كم بلغ ثَمَرهَا؟) . قَوْله: (قَالَت عشرَة
أوسق) ، بِنَزْع الْخَافِض، أَي جَاءَ بِمِقْدَار عشرَة
أوسق، أَو نصب على الْحَال، وَيجوز أَن يعْطى لقَوْله:
جَاءَ، حكم الْأَفْعَال النَّاقِصَة، فَيكون عشرَة خَبرا
لَهُ، وَالتَّقْدِير: جَاءَت عشرَة أوسق. قَوْله: (خرص
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، خرص، مصدر
بِالنّصب على أَنه بدل من قَوْله: (عشرَة أوسق) ،
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد خرصها عشرَة
أوسق لما جَاءَ وَادي الْقرى، أَو عطف بَيَان لعشرة،
وَيجوز الرّفْع فِي عشرَة وَفِي خرص، وَالتَّقْدِير:
الْحَاصِل عشرَة أوسق خرص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَيجوز الرّفْع فِي: خرص، وَحده على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ خرص رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَي: الْعشْرَة خرص رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلَمَّا قَالَ ابْن بكار) كلمة:
فَلَمَّا، مقول ابْن بكار، وَهُوَ سهل
(9/66)
شيخ البُخَارِيّ، وَلَفظ ابْن بكار مقول
البُخَارِيّ. و: كلمة، بِالنّصب مقول ابْن بكار،
مَعْنَاهَا: أَي معنى هَذِه الْكَلِمَة أشرف أَي النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَدِينَة مَعْنَاهُ: قرب
مِنْهَا واطلع إِلَيْهَا، وَكَأن البُخَارِيّ شكّ فِي
هَذِه اللَّفْظَة، فَقَالَ هَذَا. قَوْله: (قَالَ هَذِه
طابة) جَوَاب لما، أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَشَارَ إِلَى الْمَدِينَة بقوله: (هَذِه طابة) ، وَهُوَ
غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَمَعْنَاهَا الطّيبَة،
وسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا
الِاسْم وَكَانَ اسْمهَا يثرب. قَوْله: (فَلَمَّا رأى
أحدا) أَي: الْجَبَل الْمُسَمّى بِأحد. قَوْله: (يحبنا
ونحبه) ، يَعْنِي: أهل الْجَبَل، وهم الْأَنْصَار
لِأَنَّهُ لَهُم، فَيكون مجَازًا كَمَا فِي قَوْله: {واسأل
الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . وَلَا منع من حَقِيقَته فَلَا
حَاجَة إِلَى إِضْمَار فِيهِ، وَقد ثَبت (أَنه ارتج
تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ: إثبت، فَلَيْسَ عَلَيْك إلاَّ
نَبِي وصديق وشهيدان) . وحن الْجذع الْيَابِس إِلَيْهِ
حَتَّى نزل فضمه، وَقَالَ: لَو لم أضمه لحن إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة. وَكَلمه الذِّئْب، وَسجد لَهُ الْبَعِير،
وَسلم عَلَيْهِ الْحجر، وَكَلمه اللَّحْم المسموم أَنه
مَسْمُوم فَلَا يُنكر حب الْجَبَل لَهُ، وَحب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه لِأَن بِهِ قُبُور
الشُّهَدَاء، وَلِأَنَّهُم لجأوا إِلَيْهِ يَوْم أحد
وامتنعوا. قَوْله: (أَلا أخْبركُم بِخَير دور
الْأَنْصَار؟) كلمة: أَلا، للتّنْبِيه، وَالْخطاب لمن
كَانَ مَعَه من الصَّحَابَة، ودور جمع: دَار، نَحْو أَسد
وَأسد، وَيُرِيد بِهِ الْقَبَائِل الَّذين يسكنون الدّور،
يَعْنِي: الْمحَال. قَوْله: (بني النجار) ، بِفَتْح
النُّون وَتَشْديد الْجِيم وبالراء: وَهُوَ تيم الله بن
ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج. قيل: سمي النجار
لِأَنَّهُ اختتن بقدوم، وَقيل: بل نجر وَجه رجل بالقدوم
فَسُمي النجار. قَوْله: (بني عبد الْأَشْهَل) ، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن جشم بن
الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو، وَهُوَ: النبيت بن
مَالك بن الْأَوْس، والأوس أحد جذمي الْأَنْصَار لأَنهم
جذمان: الْأَوْس والخزرج، وهما أَخَوان وأمهما: قَبيلَة
بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة. وَقيل: قَبيلَة بنت
كَاهِل بن عدي بن سعد بن قضاعة. قَوْله: (بني سَاعِدَة) ،
سَاعِدَة بن كَعْب بن الْخَزْرَج. قَوْله: (يَعْنِي خيرا)
، أَي: كَانَ لفظ خيرا محذوفا من كَلَام رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه أَرَادَهُ.
قَوْله: (وَقَالَ سُلَيْمَان بن بِلَال) ، أَبُو أَيُّوب،
وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ مولى عبد
الله بن أبي عَتيق، واسْمه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
أبي بكر الصّديق، وَيُقَال: مولى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن
أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا
تَعْلِيق وَصله أَبُو عَليّ بن خُزَيْمَة فِي (فَوَائده)
قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا
أَيُّوب بن سُلَيْمَان، أَي: ابْن بِلَال، حَدثنِي أَبُو
بكر بن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، فَذكره، وأوله:
(أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَتَّى إِذا دنا من الْمَدِينَة أَخذ طَرِيق غراب
لِأَنَّهَا أقرب طَرِيق إِلَى الْمَدِينَة، وَترك
الْأُخْرَى) فساق الحَدِيث وَلم يذكر أَوله. قَوْله:
(حَدثنِي عَمْرو) ، هُوَ عَمْرو بن يحيى الْمَذْكُور فِي
إِسْنَاد الحَدِيث. قَوْله: (وَقَالَ سُلَيْمَان) ، هُوَ
ابْن بِلَال الْمَذْكُور. قَوْله: (سعيد بن سعيد) ، هُوَ
الْأنْصَارِيّ أَخُو يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. قَوْله:
(عَن عمَارَة) ، بِضَم الْعين ابْن غزيَّة، بِفَتْح
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء
آخر الْحُرُوف: الْمَازِني الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (عَن
عَبَّاس) هُوَ عَبَّاس بن سهل وَأَبوهُ سهل ابْن سعد،
وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْخرص الَّذِي ذكرنَا
تَفْسِيره، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ. فَذهب الزُّهْرِيّ
وَعَطَاء وَالْحسن وَعمر بن دِينَار وَعبد الْكَرِيم بن
أبي الْمخَارِق ومروان وَالقَاسِم بن مُحَمَّد
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد إِلَى
جَوَاز الْخرص فِي النخيل وَالْأَعْنَاب حِين يَبْدُو
إصلاحها. وَقَالَ ابْن رشد: جُمْهُور الْعلمَاء على
إجَازَة الْخرص فِيهَا، ويخلى بَينهَا وَبَين أَهلهَا
يَأْكُلُونَهُ رطبا. وَقَالَ دَاوُد: لَا خرص إلاَّ فِي
النخيل فَقَط، وَقَالَ الشَّافِعِي: إذابدا صَلَاح ثمار
النّخل وَالْكَرم فقد تعلق وجوب الزَّكَاة بهما وَوَجَب
خرصهما للْعلم بِمِقْدَار زكاتهما، فيخرصهما رطبا. وَينظر
الخارض كم يصير تَمرا، ثمَّ يخبر رب المَال فِيهَا، فَإِن
شَاءَ كَانَت مَضْمُونَة فِي يَده وَله التَّصَرُّف
فِيهَا، فَإِذا تصرف فِيهَا ضمنهَا، وَيُسْتَفَاد بالخرص
الْعلم بِقدر الزَّكَاة فِيهَا واستباحة رب المَال
التَّصَرُّف فِي الثَّمَرَة، بِشَرْط الضَّمَان. قَالَ
الْمَاوَرْدِيّ: وَبِه قَالَ أَبُو بكر، وَعمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَهُوَ سنة فِي
الرطب وَالْعِنَب، وَلَا خرص فِي الزَّرْع، وَهُوَ قَول
أَحْمد. وَذكر ابْن بزيزة، قَالَ الْجُمْهُور: يَقع الْخرص
فِي النّخل وَالْكَرم.
وَاخْتلف مَذْهَب مَالك: هَل يخرص الزَّيْتُون أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ: الْجَوَاز قِيَاسا على الْكَرم،
وَالْمَنْع لوَجْهَيْنِ: الأول: لِأَن أوراقه تستره.
وَالثَّانِي: أَن أَهله لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَن يأكلوه
رطبا، فَلَا معنى لخرصه وَقد اخْتلفُوا هَل هُوَ وَاجِب
أَو مُسْتَحبّ، فَحكى الضميري عَن الشَّافِعِيَّة وَجها
بِوُجُوبِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: هُوَ مُسْتَحبّ إلاَّ
أَن تعلق بِهِ حق لمحجور مثلا، أَو كَانَ شركاؤه غير
مؤتمنين، فَيجب لحفظ مَال الْغَيْر. وَاخْتلفُوا أَيْضا:
هَل يخْتَص بِالنَّخْلِ أَو يلْحق بِهِ الْعِنَب أَو يعم
كل مَا ينْتَفع بِهِ رطبا وجافا؟ وبالأول قَالَ
(9/67)
شُرَيْح القَاضِي وَبَعض الظَّاهِرِيَّة.
وَالثَّانِي: قَول الْجُمْهُور، وَإِلَى الثَّالِث نحى
البُخَارِيّ، وَهل يمْضِي قَول الخارص أَو يرجع مَا آل
إِلَيْهِ الْحَال بعد الْجَفَاف؟ الأول: قَول مَالك
وَطَائِفَة. وَالثَّانِي: قَول الشَّافِعِي وَمن تبعه.
وَهل يَكْفِي خارص وَاحِد عَارِف ثِقَة أم لَا بُد من
اثْنَيْنِ؟ وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور على
الأول، وَاخْتلف أَيْضا هَل هُوَ اعْتِبَار أَو تضمين،
وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ أظهرهمَا الثَّانِي،
وَفَائِدَته جَوَاز التَّصَرُّف فِي جَمِيع الثَّمَرَة،
وَلَو أتلف الْمَالِك الثَّمَرَة بعد الْخرص أخذت مِنْهُ
الزَّكَاة بِحِسَاب مَا خرص.
وَاخْتلفُوا فِي الْخرص هَل هُوَ شَهَادَة أَو حكم؟ فَإِن
كَانَ شَهَادَة لم يكتف بخارص وَاحِد، وَإِن كَانَ حكما
اكْتفى بِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْقَائِف والطبيب
يشْهد فِي الْعُيُوب، وحاكم الْجَزَاء فِي الصَّيْد،
وَاخْتلفُوا: هَل يُحَاسب أَصْحَاب الزَّرْع وَالثِّمَار
بِمَا أكلُوا قبل التصفية والجذاذ أم لَا؟ وَكَذَلِكَ
اخْتلفُوا: هَل يُؤْخَذ قدر العواري والضيف وَمَا فِي
مَعْنَاهُ أم لَا؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا إِذا غلط الخارص.
ومحصل الْأَمر فِيهِ أَنه: إِن لم يكن من أهل الْمعرفَة
بالخرص فالرجوع إِلَى الْخَارِج لَا إِلَى قَوْله، وَإِن
كَانَ من أهل الْمعرفَة ثمَّ تبين أَنه أَخطَأ فَهَل
يُؤْخَذ بقوله أَو بِمَا تبين؟ فِيهِ خلاف على اخْتلَافهمْ
فِي الْمُجْتَهد يخطيء هَل ينْقض حكمه أم لَا؟ قَالَ ابْن
قدامَة: وَيلْزم الخارص أَن يتْرك الثُّلُث أَو الرّبع فِي
الْخرص توسعة على أَرْبَاب الْأَمْوَال، وَبِه قَالَ
إِسْحَاق وَاللَّيْث لحَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرصتم
فَخُذُوا ودعوا الثُّلُث فَإِن لم تدعوا الثُّلُث فدعوا
الرّبع، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَاسْتدلَّ من يرى الْخرص
فِي النّخل وَالْكَرم بِمَا رَوَاهُ ابْن الْمسيب عَن عتاب
بن أسيد، قَالَ: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يخرص الْعِنَب كَمَا يخرص النّخل، وَتُؤْخَذ
زَكَاته زبيبا كَمَا تُؤْخَذ صَدَقَة النّخل تَمرا) ،
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيّ: الدَّلِيل على جَوَاز الْخرص وُرُود
السّنة قولا وفعلاً وامتثالاً: أما القَوْل فَحَدِيث عتاب،
وَأما الْفِعْل فَحَدِيث البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب،
وَأما الِامْتِثَال فَمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ خراصون، كَأَنَّهُ يَعْنِي مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْعَث
عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى يهود فيخرص حِين يطيب قبل أَن
يُؤْكَل. وَعَن ابْن عمر فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلب أهل خَيْبَر على
الأَرْض وَالزَّرْع وَالنَّخْل فَصَالَحُوهُ، وَفِيه:
فَكَانَ ابْن رَوَاحَة يَأْتِيهم فيخرصها عَلَيْهِم ثمَّ
يضمنهم الشّطْر. وَفِي (المُصَنّف) بِسَنَد صَحِيح عَن
جَابر قَالَ: خرصها عَلَيْهِم ابْن رَوَاحَة يَعْنِي:
خيبرا أَرْبَعِينَ ألف وسق.
وَاسْتدلَّ من يرى الْخرص مُطلقًا فِي النخيل وَغَيره
بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَعْفَر بن برْقَان
عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افْتتح خَيْبَر
الحَدِيث، وَفِيه: (فَلَمَّا كَانَ حِين يصرم النّخل بعث
إِلَيْهِم ابْن رَوَاحَة فحرز النّخل، وَهُوَ الَّذِي
يُسَمِّيه أهل الْمَدِينَة الْخرص) . الحَدِيث. وَبِمَا
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الصائت بن زبيد عَن
أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اسْتَعْملهُ على الْخرص، فَقَالَ: اثْبتْ لنا النّصْف
وأبقِ لَهُم النّصْف فَإِنَّهُم يسرفون، وَلَا تصل
إِلَيْهِم) الحَدِيث.
وَقَالَ الشّعبِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد: الْخرص مَكْرُوه. وَقَالَ الشّعبِيّ:
الْخرص بِدعَة. وَقَالَ الثَّوْريّ خرص الثِّمَار لَا
يجوز. وَفِي (أَحْكَام ابْن بزيزة) : قَالَ أَبُو حنيفَة
وصاحباه: الْخرص بَاطِل. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: احْتج
أَبُو حنيفَة بِمَا رَوَاهُ جَابر مَرْفُوعا: (نهى عَن
الْخرص) ، وَبِمَا رَوَاهُ جَابر بن سَمُرَة: (أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع كل ثَمَرَة
بخرص) ، وَبِأَنَّهُ تخمين، وَقد يخطىء، وَلَو جَوَّزنَا
لجوزنا خرص الزَّرْع، وخرص الثِّمَار بعد جذاذها أقرب
إِلَى الإبصار من خرص مَا على الأشحار، فَلَمَّا لم يجز
فِي الْقَرِيب لم يجز فِي الْبعيد، وَلِأَنَّهُ تضمين رب
المَال بِقدر الصَّدَقَة، وَذَلِكَ غير جَائِز لِأَنَّهُ
بيع رطب بِتَمْر، وَأَنه بيع حَاضر بغائب، وَأَيْضًا
فَهُوَ من الْمُزَابَنَة الْمنْهِي عَنْهَا وَهُوَ بيع
التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَهُوَ
أَيْضا من: بَاب بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة، فيدخله
الْمَنْع بَين التَّفَاضُل وَبَين النَّسِيئَة. وَقَالُوا:
الْخرص مَنْسُوخ بنسخ الرِّبَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: أنكر
أَصْحَاب الرَّأْي الْخرص، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا كَانَ
يفعل تخويفا للمزارعين لِئَلَّا يخونوا، لَا ليلزم بِهِ
الحكم، لِأَنَّهُ تخمين وغرور، أَو كَانَ يجوز قبل
تَحْرِيم الرِّبَا والقمار ثمَّ تعقبه الْخطابِيّ بِأَن
تَحْرِيم الرِّبَا وَالْميسر مُتَقَدم، والخرص عمل بِهِ
فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى مَاتَ
ثمَّ أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
فَمن بعدهمْ، وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم وَلَا من
التَّابِعين تَركه إلاَّ الشّعبِيّ، قَالَ: وَأما قَوْلهم
إِنَّه تخمين وغرور فَلَيْسَ، كَذَلِك، بل هُوَ اجْتِهَاد
فِي معرفَة مِقْدَار التَّمْر وإدراكه بالخرص الَّذِي هُوَ
نوع من الْمَقَادِير. قلت: قَوْله: تَحْرِيم الرِّبَا
وَالْميسر مُتَقَدم، يحْتَاج إِلَى معرفَة التَّارِيخ،
وَعِنْدنَا مَا يدل على صِحَة النّسخ
(9/68)
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث
جَابر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن
الْخرص، وَقَالَ: أَرَأَيْتُم إِن هلك التَّمْر أَيُحِبُّ
أحدكُم أَن يَأْكُل مَال أَخِيه بِالْبَاطِلِ؟) والحظر بعد
الْإِبَاحَة عَلامَة النّسخ. وَقَوله: والخرص عمل بِهِ ...
إِلَى قَوْله: إلاَّ الشّعبِيّ، مُسلم لكنه لَيْسَ على
الْوَجْه الَّذِي ذَكرُوهُ، وَإِنَّمَا وَجهه أَنهم فعلوا
ذَلِك ليعلم مِقْدَار مَا فِي أَيدي النَّاس من الثِّمَار
فَيُؤْخَذ مثله بِقَدرِهِ فِي أَيَّام الصرام لَا أَنهم
يملكُونَ شَيْئا مَا يجب لله فِيهِ بِبَدَل لَا يَزُول
ذَلِك الْبَدَل. وَأما قَوْلهم: إِنَّه تخمين ... إِلَى
آخِره، لَيْسَ بِكَلَام موجه لِأَنَّهُ لَا شكّ أَنه تخمين
وَلَيْسَ بتحقيق، وعيان، وَكَيف يُقَال لَهُ: هُوَ
اجْتِهَاد، والمجتهد فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة قد
يخطىء؟ فَفِي مثل هَذَا أَجْدَر بالْخَطَأ، ثمَّ الْجَواب
عَن حَدِيث الْبَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ
بذلك معرفَة مِقْدَار مَا فِي نخل تِلْكَ الْمَرْأَة
خَاصَّة، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهَا الزَّكَاة وَقت الصرام على
حسب مَا تجب فِيهَا، وَأَيْضًا فقد خرص حديقتها وأمرها أَن
تحصي، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه جعل زَكَاته فِي ذمَّتهَا
وأمرها أَن تتصرف فِي ثَمَرهَا كَيفَ شَاءَت، وَإِنَّمَا
كَانَ يفعل ذَلِك تخويفا لِئَلَّا يخونوا، وَأَن يعرفوا
مِقْدَار مَا فِي النّخل ليأخذوا الزَّكَاة وَقت الصرام
هَذَا معنى الْخرص، فَأَما أَنه يلْزم بِهِ حكم شَرْعِي،
فَلَا.
وَأما حَدِيث عتاب بن أسيد، فَإِن الَّذِي رَوَاهُ سعيد بن
الْمسيب، فعتاب توفّي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَعِيد ولد فِي
سنة خمس عشرَة، وَقيل: سنة عشْرين، وَقَالَ أبي: عَليّ بن
السكن لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من وَجه غير هَذَا، وَهُوَ من رِوَايَة عبد
الله بن نَافِع عَن مُحَمَّد بن صَالح عَن ابْن شهَاب عَن
سعيد، وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن
الزُّهْرِيّ، وَخَالَفَهُمَا صَالح بن كيسَان فَرَوَاهُ
عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر عتابا، وَلم يقل: عَن عتاب، وَسُئِلَ أَبُو
حَاتِم وَأَبُو زرْعَة الرازيان فِيمَا ذكره أَبُو
مُحَمَّد الرَّازِيّ عَنهُ، فَقَالَا: هُوَ خطأ. وَقَالَ
أَبُو حَاتِم: الصَّحِيح: عَن سعيد أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... مُرْسلا. وَقَالَ أَبُو زرْعَة:
الصَّحِيح عِنْدِي: عَن الزُّهْرِيّ: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ... وَلَا أعلم أحدا تَابع عبد
الرَّحْمَن بن إِسْحَاق فِي هَذِه الرِّوَايَة. فَإِن قلت:
زعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْوَاقِدِيّ رَوَاهُ عَن عبد
الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن
الْمسور بن مخرمَة عَن عتاب، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرص أعناب الثقيف كخرص النّخل،
ثمَّ يُؤدى زبيبا كَمَا تُؤَدّى زَكَاة النّخل تَمرا،
فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ انْقِطَاع؟ قلت: سُبْحَانَ الله،
إِذا كَانَ الْوَاقِدِيّ فِيمَا يحتجون بِهِ يسكتون عَنهُ،
وَإِذا كَانَ فِيمَا يحْتَج بِهِ عَلَيْهِم يشنعون بأنواع
الطعْن، وَمَعَ هَذَا قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: لم
يَصح حَدِيث سعيد، وَلَا حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة،
وَلَا فِي الْخرص حَدِيث صَحِيح إلاَّ حَدِيث البُخَارِيّ.
قَالَ: ويليه حَدِيث ابْن رَوَاحَة.
قلت: قد مر الْجَواب عَن حَدِيث البُخَارِيّ، وَأما حَدِيث
ابْن رَوَاحَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث
عَائِشَة فَفِي إِسْنَاده رجل مَجْهُول، لِأَن أَبَا
دَاوُد قَالَ: حَدثنَا يحيى بن معِين أخبرنَا حجاج عَن
ابْن جريج، قَالَ: أخْبرت عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت، وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْعَث عبد الله
بن رَوَاحَة إِلَى يهود فيخرص النّخل حَتَّى يطيب قبل أَن
يُؤْكَل مِنْهُ. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَحَدِيث الصَّلْت بن زبيد الَّذِي
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا، فداخل تَحت قَول ابْن
الْعَرَبِيّ: وَلَا فِي الْخرص حَدِيث صَحِيح، وَيُقَال:
إِن قصَّة خَيْبَر مَخْصُوصَة لِأَن الأَرْض أرضه
وَالْعَبِيد عبيده، فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
يعلم مَا بِأَيْدِيهِم من الثِّمَار فَيتْرك لَهُم مِنْهَا
قدر نفقاتهم، وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرهم
مَا أقرهم الله، فَلَو كَانَ على وَجه الْمُسَاقَاة
لوَجَبَ ضرب الْأَجَل وَالتَّقْيِيد بِالزَّمَانِ، لِأَن
الْإِجَارَة المجهولة مُحرمَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
قَالَ الَّذين لَا يرَوْنَ بالخرص: أَن لَيْسَ فِي شَيْء
من الْآثَار الَّتِي وَردت فِيهِ أَن الثَّمَرَة كَانَت
رطبا فِي وَقت مَا خرصت، وَكَيف يجوز أَن يكون رطبا
حِينَئِذٍ فَيجْعَل لصَاحِبهَا حق الله فِيهَا بكيله ذَلِك
تَمرا يكون عَلَيْهِ نسيئه؟ وَقد نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل
بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَنهى عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ
نَسِيئَة، وَقد يجوز أَن يُصِيب الثَّمَرَة بعد ذَلِك آفَة
فتتلفها، أَو نَار فتحرقها، فَيكون مَا يُؤْخَذ من
صَاحبهَا بَدَلا من حق الله مأخوذا مِنْهُ بَدَلا مِمَّا
لم يسلم لَهُ، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن الْقَائِلين بِهِ
لَا يضمنُون أَرْبَاب الْأَمْوَال مَا تلف بعد الْخرص.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع من يحفظ عَنهُ الْعلم أَن
المخروص إِذا أَصَابَته جَائِحَة قبل الْجذاذ فَلَا
ضَمَان. قلت: إِذا لم يكن ضَمَان بعد تلف المخروص فَلَا
فَائِدَة فِي الْخرص حِينَئِذٍ، وَالْأَظْهَر عِنْد
الشَّافِعِي: أَن الْخرص تضمين حَتَّى لَو أتلف الْمَالِك
الثَّمَرَة بعد الْخرص أخذت مِنْهُ الزَّكَاة بِحِسَاب مَا
خرص، فَإِذا كَانَ نفس الْخرص تضمينا يَنْبَغِي أَن لَا
يُفَارق الْأَمر بَين التّلف والإتلاف، وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: لم يثبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرص
النّخل إلاَّ على الْيَهُود، لأَنهم كَانُوا شُرَكَاء
وَكَانُوا غير أُمَنَاء، وَأما الْمُسلمُونَ فَلم يخرص
عَلَيْهِم.
(9/69)
وَمن الَّذِي يُسْتَفَاد من حَدِيث
الْبَاب: ظُهُور معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي إخْبَاره عَن الرّيح الَّتِي تهب، وَمَا ذكر فِي
تِلْكَ الْقِصَّة. وَفِيه: تدريب الأتباع وتعليمهم وَأخذ
الحذر مِمَّا يتَوَقَّع الْخَوْف مِنْهُ. وَفِيه: فضل
الْمَدِينَة. وَفِيه: فضل أحد. وَفِيه: فضل الْأَنْصَار،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَفِيه: قبُول هَدِيَّة
الْكفَّار. وَفِيه: جَوَاز الإهداء لملك الْكفَّار
وَجَوَاز إقطاع أَرض لَهُم. وَفِيه: أَن الْمُخَالفَة لما
قَالَه الرَّسُول تورث شدَّة وبلاء.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حائِطٌ
فَهْوَ حدِيقَةٌ وَما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حائِطٌ لَمْ
يُقَلْ حَدِيقَةٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَفِي بعض النّسخ:
قَالَ أَبُو عبيد الله، هُوَ الْقَاسِم بن سَلام الإِمَام
الْمَشْهُور صَاحب (الْغَرِيب) وَقد ذكر هَذَا فِيهِ، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
55 - (بابُ العُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ
وبِالمَاءِ الجَارِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أَخذ العُشر فِي الأَرْض
الَّتِي تسقى من مَاء السَّمَاء وَهُوَ الْمَطَر. قَوْله:
(وَالْمَاء الْجَارِي) أَي: وَمن الَّذِي يسقى بِالْمَاءِ
الْجَارِي، وَإِنَّمَا اخْتَار لفظ: المَاء الْجَارِي،
وَالْحَال أَن الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب هُوَ
الْعُيُون لعمومه وشموله الْعُيُون والأنهار، وَهَذَا
كَمَا وَقع فِي (سنَن أبي دَاوُد) : (فِيمَا سقت السَّمَاء
والأنهار والعيون) الحَدِيث.
ولَمْ يَرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي العَسَلِ
شَيْئا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعَسَل فِيهِ
جَرَيَان، وَمن طبعه الانحدار فيناسب المَاء من هَذِه
الْجِهَة. وَقيل: الْمُنَاسبَة فِيهِ من جِهَة أَن
الحَدِيث يدل على أَن لَا عشر فِيهِ لِأَنَّهُ خص الْعشْر
أَو نصفه بِمَا يسقى، فأفهم أَن مَا لَا يسقى لَا يعشر،
وَفِيه نظر، لِأَن مَا لَا يعسر مِمَّا لَا يسقى كثير،
فَمَا وَجه ذكر الْعَسَل؟ وَقيل: إِدْخَاله الْعَسَل فِيهِ
للتّنْبِيه على الْخلاف فِيهِ، وَأَنه لَا يرى فِيهِ
زَكَاة، وَإِن كَانَت النَّحْل تغتذي مِمَّا يسقى من
السَّمَاء. قلت: هَذَا أبعد من الأول على مَا لَا يخفى على
المتأمل.
وَهَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى بَيَان مَا ورد فِيهِ من
الْأَخْبَار، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْأَئِمَّة، فَنَقُول
بحول الله وقوته وتوفيقه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي زَكَاة الْعَسَل،
حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى النَّيْسَابُورِي حَدثنَا عَمْرو
بن أبي سَلمَة التنيسِي عَن صَدَقَة بن عبد الله عَن
مُوسَى ابْن يسَار عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الْعَسَل فِي
كل عشرَة أزق زق) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي
هُرَيْرَة وَأبي سيارة المنعي، وَعبد الله بن عَمْرو،
قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث ابْن عمر فِي إِسْنَاده مقَال،
وَلَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
هَذَا الْبَاب كثير شَيْء، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد
أَكثر أهل الْعلم، وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق.
وَقَالَ بعض أهل الْعلم: لَيْسَ فِي الْعَسَل شَيْء.
انْتهى. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِحَدِيث ابْن عمر
هَذَا، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ: (كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى أهل الْيمن أَن يُؤْخَذ من الْعَسَل الْعشْر)
، وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن الْمُحَرر، بتَشْديد
الرَّاء الْمَفْتُوحَة وتكرارها، وَهُوَ مَتْرُوك. قَالَ
ابْن معِين: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: ترك النَّاس
حَدِيثه، وَقَالَ الْجوزجَاني: هَالك، وَقَالَ ابْن حبَان:
من خِيَار عباد الله إلاَّ أَنه كَانَ يكذب وَلَا يعلم،
ويقلب الْأَخْبَار وَلَا يفهم. وروى أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ حَدِيث أبي سيار المنعي، قَالَ: (قلت: يَا
رَسُول الله إِن لي نخلا! قَالَ: إِذن تعشر؟ قلت: إحم لي
جبلة، فحماه لي) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ:
وَهَذَا أصح مَا رُوِيَ فِي وجوب الْعشْر فِيهِ، وَهُوَ
مُنْقَطع. قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل عَن هَذَا فَقَالَ: حَدِيث مُرْسل، وَإِنَّمَا
قَالَ: مُرْسل، لِأَن فِيهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى يروي عَن
أبي سيارة، وَسليمَان لم يُدْرِكهُ، وَلَا أحدا من
الصَّحَابَة، وَأَبُو سيارة المتعي اسْمه: عميرَة بن
الأعلم، وَقيل: عُمَيْر بن الأعلم، ذكره أَبُو عمر فِي
(كتاب الْأَنْسَاب) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو
بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: جَاءَ أحد بني
متعان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعشور
بِحل لَهُ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَن يحمي وَاديا يُقَال لَهُ:
سلبة، فحمى لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ذَلِك الْوَادي، فَلَمَّا ولي عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كتب سُفْيَان بن وهب إِلَى عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يسْأَله عَن
ذَلِك؟ فَكتب عمر، رَضِي الله
(9/70)
تَعَالَى عَنهُ: إِن أدّى إِلَيْك مَا
كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، من عشور نحله فَاحم لَهُ سلبة، وإلاَّ فَإِنَّمَا
هُوَ ذُبَاب غيث يَأْكُلهُ من شَاءَ. وسلبة، بِفَتْح
السِّين الْمُهْملَة وَاللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة،
كَذَا قَيده الْبكْرِيّ.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَوَقع فِي سَمَاعنَا من
السّنَن، بِسُكُون اللَّام، وَقَالَ شَيخنَا أَيْضا: حكى
التِّرْمِذِيّ عَن أَكثر أهل الْعلم وجوب الزَّكَاة فِي
الْعَسَل، وسمى مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق، وَفِيه نظر،
فَإِن الَّذين لم يَقُولُوا بِالْوُجُوب: مَالك
وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح بن حَيّ وَأَبُو
بكر بن الْمُنْذر وَدَاوُد، وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة:
عبد الله بن عمر، وَمن التَّابِعين: الْمُغيرَة بن حَكِيم
وَعمر بن عبد الْعَزِيز. وَقَالَ: وَفرق أَبُو حنيفَة بَين
أَن يكون النَّحْل فِي أَرض الْعشْر وَبَين أَن يكون فِي
أَرض الْخراج، فَإِن كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِيهِ
الزَّكَاة، وَإِن كَانَ فِي أَرض الْخراج فَلَا زَكَاة
فِيهِ، قل أَو كثر. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة
أَنه إِذا كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِي قَلِيل الْعَسَل
وَكَثِيره الْعشْر، وَحكى عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه
لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من الْعَسَل عشر، وَحكى
ابْن حزم عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا بلغ الْعَسَل عشرَة
أَرْطَال فَفِيهِ رَطْل وَاحِد، وَكَذَا مَا زَاد فَفِيهِ
الْعشْر، والرطل هُوَ الفلفلي. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد بن
الْحسن: إِذا بلغ الْعَسَل خَمْسَة أفراق فَفِيهِ الْعشْر،
وإلاَّ فَلَا. قَالَ: وَالْفرق سِتَّة وَثَلَاثُونَ رطلا
فلفلية. وَحكى صَاحب (الْهِدَايَة) عَن أبي يُوسُف: أَنه
يعْتَبر فِيهِ الْقيمَة كَمَا هُوَ أَصله، وَعنهُ: أَنه
لَا شَيْء فِيهِ حَتَّى يبلغ عشر قرب، وَعنهُ: خَمْسَة
أُمَنَاء. قلت: تَحْقِيق مَذْهَبنَا فِيهِ أَن عِنْد أبي
حنيفَة: يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره لِأَنَّهُ لَا يشْتَرط
النّصاب فِي الْعشْر، وَعَن أبي يُوسُف: إِذا بلغت قِيمَته
خَمْسَة أوساق، وَعنهُ أَنه قدره بِعشْرَة أَرْطَال، قَالَ
فِي (الْمَبْسُوط) : وَهِي رِوَايَة الأمالي، وَهِي:
خَمْسَة أُمَنَاء. وَعنهُ أَنه اعْتبر فِيهِ عشر قرب،
وَعَن مُحَمَّد ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا: خمس قرب،
والقربة خَمْسُونَ منا، ذكره فِي (الْيَنَابِيع) وَفِي
(الْمُغنِي) : الْقرْبَة مائَة رَطْل. وَالثَّانيَِة:
خَمْسَة أُمَنَاء. وَالثَّالِثَة: خَمْسَة أَوَاقٍ.
وَقَالَ السَّرخسِيّ: وَهِي تسعون منا.
واحتجت أَصْحَابنَا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث
عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عبد الله ابْن
عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَخذ
من الْعَسَل الْعشْر، وبرواية أبي دَاوُد أَيْضا عَن
عَمْرو بن شُعَيْب، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَبِمَا رَوَاهُ
الْقُرْطُبِيّ أَيْضا عَنهُ عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن حَده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يُؤْخَذ فِي زَمَانه من قرب الْعَسَل من كل عشر قرب قربَة
من أوسطها. قَالَ: هُوَ حَدِيث حسن. وَبِمَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن ابْن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ،
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، كتب إِلَى أهل الْيمن أَن يُؤْخَذ
عَن الْعَسَل الْعشْر، ذكره فِي (الإِمَام) . فَإِن قلت:
ذكرُوا عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ
عَن الْعَسَل فِي الْيمن؟ قَالَ: لم أومر فِيهِ بِشَيْء.
قلت: لَا يلْزم من عدم أَمر معَاذ أَن لَا يجب فِيهِ
الْعشْر، وَإِثْبَات أبي هُرَيْرَة مقدم على نفي أَمر
معَاذ. وَبِمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ذئاب عَن
أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أمره فِي
الْعَسَل بالعشر) ، رَوَاهُ الْأَثْرَم، وَرَوَاهُ
الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا أنس بن
عِيَاض عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذئاب عَن
أَبِيه (عَن سعد بن أبي ذئاب، قَالَ: قدمت على رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسْلمت، ثمَّ قلت: يَا رَسُول
الله إجعل لقومي مَا أَسْلمُوا عَلَيْهِ من أَمْوَالهم،
فَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستعملني
عَلَيْهِم، ثمَّ استعملني أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: وَكَانَ سعد من أهل السراة،
قَالَ: تَكَلَّمت قومِي فِي الْعَسَل فَقلت زَكَاة
فَإِنَّهُ لَا خير فِي ثَمَرَة لَا تزكّى، فَقَالُوا: كم؟
قَالَ: قلت: الْعشْر، فَأخذت مِنْهُم الْعشْر وأتيت عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَخْبَرته بِمَا
كَانَ، قَالَ: فَقَبضهُ عمر فَبَاعَهُ ثمَّ جعل ثمنه فِي
صدقَات الْمُسلمين) . وَبِمَا رَوَاهُ عَطاء
الْخُرَاسَانِي عَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ،
قَالَ لعمر: إِن عندنَا وَاديا فِيهِ عسل كثير، فَقَالَ:
عَلَيْهِم فِي كل عشرَة أفراق فرق، ذكره حميد بن
زَنْجوَيْه فِي (كتاب الْأَمْوَال) وَقَالَ الْأَثْرَم:
قلت لِأَحْمَد: أَخذ عمر الْعشْر من الْعَسَل كَانَ على
أَنهم تطوعوا بِهِ، قَالَ: لَا بل أَخذه مِنْهُم حَقًا.
فَإِن قلت: فقد رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن
نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَيل وَلَا فِي
الرَّقِيق وَلَا فِي الْعَسَل صَدَقَة؟ قلت: الْعمريّ
ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. فَإِن قلت: قَالَ البُخَارِيّ:
لَيْسَ فِي زَكَاة الْعَسَل حَدِيث يَصح؟ قلت: هَذَا لَا
يقْدَح مَا لم يبين عِلّة الحَدِيث والقادح فِيهِ، وَقد
رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو دَاوُد، وَلم يتَكَلَّم
عَلَيْهِ، فَأَقل حَاله أَن يكون حسنا وَهُوَ حجَّة، وَلَا
يلْزمنَا قَول البُخَارِيّ لِأَن الصَّحِيح لَيْسَ
مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَكم من حَدِيث صَحِيح
(9/71)
لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ، وَلِأَنَّهُ
لَا يلْزم من كَونه غير صَحِيح أَن لَا يحْتَج بِهِ، فَإِن
الْحسن، وَإِن لم يبلغ دَرَجَة الصَّحِيح، فَهُوَ يحْتَج
بِهِ، وَلِأَن النَّحْل تتَنَاوَل من الْأَنْوَار
وَالثِّمَار وفيهَا الْعشْر.
3841 - حدَّثنا سعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ بنُ
يَزِيدَ عَن الزُّهْرِيِّ عَن سالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ
أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ
أوْ كانَ عَثَرِيا العُشْرُ ومَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ
نِصْفُ العُشْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء)
، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد
بن مُسلم الزُّهْرِيّ يروي عَن سَالم بن عبد الله عَن
أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
والخديث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن
هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي عَن ابْن وهب. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن الْحسن التِّرْمِذِيّ
عَن سعيد بن أبي مَرْيَم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه جَمِيعًا فِيهِ عَن هَارُون بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) أَي:
الْمَطَر لِأَنَّهُ ينزل مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {وأنزلنا
من السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 84) . وَهُوَ من
قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (أَو كَانَ
عثريا) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة
المخففة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف:
وَهُوَ مَا يشرب بعروقه من غير سقِِي، قَالَه الْخطابِيّ،
وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَهُوَ مَا يسيل إِلَيْهِ مَاء
الْمَطَر وتحمله إِلَيْهِ الْأَنْهَار، سمي بذلك لِأَنَّهُ
يكسر حوله الأَرْض ويعثر جريه إِلَى أصُول النّخل بِتُرَاب
هُنَاكَ يرْتَفع، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : قيل لَهُ
ذَلِك لِأَنَّهُ يصنع لَهُ شبه الساقية يجْتَمع فِيهِ
المَاء من الْمَطَر إِلَى أُصُوله، وَيُسمى ذَلِك:
العاثور، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: هُوَ الَّذِي يشرب
بعروقه من مَاء يجْتَمع فِي حفير، وَسمي بِهِ لِأَن
الْمَاشِي يتعثر فِيهِ، وَقَالَ ابْن فَارس: العثري مَا
سقِِي من النّخل سيحا، وَكَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي
وَصَاحب (الْجَامِع) و (الْمُنْتَهى) وَلَفظ الحَدِيث يرد
عَلَيْهِم لِأَنَّهُ عطف العثري على قَوْله: (فِيمَا سقت
السَّمَاء والعيون) والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ،
وَالصَّوَاب مَا قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ الهجري: يجوز
فِيهِ تَشْدِيد الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَحَكَاهُ ابْن
سَيّده فِي (الْمُحكم) عَن ابْن الْأَعرَابِي، ورده
ثَعْلَب. وَفِي (الْمثنى والمثلث) لِابْنِ عديس: فِيهِ ضم
الْعين وَفتحهَا وَإِسْكَان الثَّاء. قلت: هُوَ مَنْسُوب
إِلَى العثر، بِسُكُون الثَّاء، لَكِن الْحَرَكَة من
تغييرات النّسَب. قَوْله: (الْعشْر) مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ
قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) ، تَقْدِيره: الْعشْر
وَاجِب، أَو: يجب فِيمَا سقت السَّمَاء. قَوْله: (أَو
كَانَ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى لفظ: مسقي مُقَدّر
تَقْدِيره: أَو كَانَ المسقي عثريا، وَدلّ على ذَلِك
قَوْله: (فِيمَا سقت) . قَوْله: (وَفِيمَا سقِِي بالنضح)
تَقْدِيره: وَفِيمَا سقِِي بالنضح (نصف الْعشْر) أَي: يجب
أَو وَاجِب، و: النَّضْح، بِفَتْح النُّون وَسُكُون
الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: وَهُوَ
مَا سقِِي بالسواني، وَقَالَ بَعضهم: النَّضْح مَا سقِِي
بالدوالي والرشاء، والنواضح الْإِبِل الَّتِي يستقى
عَلَيْهَا، وأحدها: نَاضِح، وَالْأُنْثَى: ناضحة، وَقَالَ
بَعضهم: بالنضح أَي: بالسانية، وَهِي رِوَايَة مُسلم. قلت:
رِوَايَة مُسلم عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَلَفظه: (أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم الْعشْر، وَفِيمَا
سقِِي بالسانية نصف الْعشْر) . وَأما حَدِيث ابْن عمر
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِيمَا سقت السَّمَاء
والأنهار والعيون أَو كَانَ بعلاً الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي
بالسواني والنضح نصف الْعشْر) . قَوْله: (أَو كَانَ بعلاً)
، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام: وَهُوَ مَا يشرب من النّخل
بعروقه من الأَرْض من غير سقِِي سَمَاء وَلَا غَيرهَا
والسواني: جمع سانية، وَهِي النَّاقة الَّتِي يستقى
عَلَيْهَا. وَقيل: السانية الدَّلْو الْعَظِيمَة، والأنهار
الَّتِي تستقى بهَا، والنضح قد مر تَفْسِيره. فَإِن قلت:
قد علمت أَن النَّضْح هُوَ السانية، فَكيف وَجه رِوَايَة
أبي دَاوُد بالسواني أَو النَّضْح؟ قلت: الظَّاهِر أَن
هَذَا شكّ من الرَّاوِي بَين السواني والنضح، أَرَادَ أَن
لفظ الحَدِيث أما فِيمَا سقِِي بالسواني، وَأما فِيمَا
سقِِي بالنضح، وَأما الْعشْر، فقد قَالَ ابْن بزيزة فِي
(شرح الْأَحْكَام) : وَهُوَ بِضَم الْعين والشين وسكونها،
وَمِنْهُم من يَقُول: العشور، بِفَتْح الْعين وَضمّهَا
أَيْضا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَأكْثر الروَاة بِفَتْح
الْعين، وَهُوَ اسْم للقدر الْمخْرج. وَقَالَ الطَّبَرِيّ:
الْعشْر، بِضَم الْعين وَسُكُون الشين، وَيجمع على: عشور،
قَالَ: وَالْحكمَة فِي فرض الْعشْر أَنه يكْتب بِعشْرَة
أَمْثَاله، فَكَأَن الْمخْرج للعشر تصدق بِكُل مَاله.
فَافْهَم.
(9/72)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: بِظَاهِر
الحَدِيث الْمَذْكُور أَخذ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم
يقدر فِيهِ مِقْدَارًا، فَدلَّ على وجوب الزَّكَاة فِي كل
مَا يخرج من الأَرْض قل أَو كثر. فَإِن قلت: هَذَا
الحَدِيث مُجمل يفسره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) . قلت: لَا نسلم
أَنه مُجمل، فَإِن الْمُجْمل مَا لَا يعرف المُرَاد بصيغته
لَا بِالتَّأَمُّلِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الحَدِيث
عَام فَإِن كلمة: مَا، من أَلْفَاظ الْعُمُوم. فَإِن قلت:
سلمنَا أَنه عَام، وَلَكِن الحَدِيث الْمَذْكُور خصصه؟
قلت: إِجْرَاء الْعَام على عُمُومه أولى من التَّخْصِيص
لِأَن فِيهِ إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله الْعَام أَن يكون
مرَادا، وَلَو صلح هَذَا الحَدِيث أَن يكون مُخَصّصا أَو
مُفَسرًا لحَدِيث الْبَاب لصلح حَدِيث مَا عز أَن يكون
مُخَصّصا أَو مُفَسرًا لحَدِيث أنيس فِي الْإِقْرَار
بِالزِّنَا، فَحِينَئِذٍ يحمل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على أَن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ هِيَ الزَّكَاة،
وَهِي زَكَاة التِّجَارَة بِقَرِينَة عطفها على زَكَاة
الْإِبِل وَالْوَرق، إِذْ الْوَاجِب فِي الْعرُوض والنقود
وَاحِد، وَهُوَ الزَّكَاة. وَكَانُوا يتبايعون بالأوساق،
وَقِيمَة الْخَمْسَة أوساق كَانَت مِائَتي دِرْهَم فِي
ذَلِك الْوَقْت غَالِبا، فأدير الحكم على ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب على
تِسْعَة أَقْوَال:
الأول: قَول أبي حنيفَة، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَاحْتج
بِظَاهِر الحَدِيث كَمَا ذكرنَا، وبعموم قَوْله تَعَالَى:
{وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} (الْبَقَرَة: 762) .
وَقَوله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده}
(الْأَنْعَام: 141) . وَاسْتثنى أَبُو حنيفَة من ذَلِك:
الْحَطب والقصب والحشيش والتبن وَالسَّعَف، وَهَذَا لَا
خلاف فِيهِ لأحد، وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) : الطرفاء عوض
الْحَطب. وَالسَّعَف: ورق جريد النّخل الَّذِي تصنع مِنْهُ
المراوح وَنَحْوهَا، وَالْمرَاد بالقصب الْفَارِسِي،
وَهُوَ يدْخل بالأبنية وتتخذ مِنْهُ الأقلام: قيل: هَذَا
إِذا كَانَ الْقصب نابتا فِي الأَرْض، وَأما إِذا اتخذ
الأَرْض مقبة فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْعشْر، ذكره
الاسبيجابي والمرغيناني وَغَيرهمَا، وَيجب فِي قصب السكر
والذريرة وقوائم الْخلاف، بتَخْفِيف اللَّام، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قَالَه غير نعْمَان. وَقَالَ
السرُوجِي: لقد كذب فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يخفى عَنهُ
من قَالَه غَيره، وَإِنَّمَا عصبيته تحمله على ارْتِكَاب
مثله قلت: قَول أبي حنيفَة مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
وَمُجاهد وَحَمَّاد وَزفر وَعمر بن عبد الْعَزِيز، ذكره
أَبُو عمر، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول
دَاوُد وَأَصْحَابه فِيمَا لَا يوسق، وَحَكَاهُ يحيى بن
آدم بِسَنَد جيد عَن عَطاء: مَا أخرجته الأَرْض فِيهِ
الْعشْر أَو نصف الْعشْر، وَقَالَهُ أَيْضا حَفْص بن غياث
عَن أَشْعَث عَن الحكم، وَعَن أبي بردة: فِي الرّطبَة
صَدَقَة، وَقَالَ بَعضهم: فِي دستجة من بقل، وَعَن
الزُّهْرِيّ: مَا كَانَ سوى الْقَمْح وَالشعِير وَالنَّخْل
وَالْعِنَب والسلت وَالزَّيْتُون فإنى أرى أَن تخرج صدقته
من أثمانه، رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن بطال: وَقَول أبي حنيفَة خلاف
السّنة، وَالْعُلَمَاء، قَالَ: وَقد تنَاقض فِيهَا
لِأَنَّهُ اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرقة ربع الْعشْر) ، مَعَ قَوْله:
(لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) ، وَلم
يَسْتَعْمِلهُ فِي حَدِيث الْبَاب مَعَ مَا بعده، وَكَانَ
يلْزمه القَوْل بِهِ. انْتهى. قلت: قَوْله: خلاف السّنة،
بَاطِل لِأَنَّهُ احْتج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بِحَدِيث
الْبَاب، كَمَا ذكرنَا، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن بطال
خلاف الْقُرْآن، لِأَن عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا
حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . يتَنَاوَل
الْقَلِيل وَالْكثير، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَوله: وَخلاف
الْعلمَاء، أَيْضا بَاطِل، لِأَن قَول أبي حنيفَة هُوَ
قَول من ذَكَرْنَاهُمْ الْآن، فَكيف يَقُول بترك الْأَدَب
خلاف الْعلمَاء؟ وَقَوله: وَقد تنَاقض، غير صَحِيح، لِأَن
من نقل ذَلِك من أَصْحَابه لم يقل أحد مِنْهُم إِنَّه
اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر، وَأَصْحَابه أدرى بِمَا
قَالَه وَبِمَا ذهب إِلَيْهِ، وَلما نقل صَاحب
(التَّوْضِيح) مَا قَالَه ابْن بطال أظهر النشاط بذلك،
وَقَالَ: وَفِي حَدِيث جَابر: لَا زَكَاة فِي شَيْء من
الْحَرْث حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق، فَإِذا بلغَهَا
فَفِيهِ الزَّكَاة، ذكرهَا ابْن التِّين، وَقَالَ: هِيَ
زِيَادَة من ثِقَة فَقبلت، وَفِي مُسلم من حَدِيث جَابر:
(وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من التَّمْر صَدَقَة)
، وَفِي رِوَايَة من حَدِيث أبي سعيد: (لَيْسَ فِيمَا دون
خَمْسَة أوساق من تمر وَلَا حب صَدَقَة) . وَفِي رِوَايَة:
(لَيْسَ فِي حب وَلَا تمر صَدَقَة) ، حَتَّى يبلغ خَمْسَة
أوساق. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا أَن المُرَاد من الصَّدَقَة
فِي هَذِه الْأَحَادِيث زَكَاة التِّجَارَة، وَكَذَلِكَ
المُرَاد من قَوْله: (لَا زَكَاة فِي شَيْء) ، أَي: لَا
زَكَاة فِي التِّجَارَة، وَنحن نقُول بِهِ حِينَئِذٍ،
وَقَالَ ابْن التِّين: روى ابان بن أبي عَيَّاش عَن أنس
مَرْفُوعا: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر فِي قَلِيله
وَكَثِيره) ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي
وَهُوَ مَجْهُول عِنْد أهل النَّقْل، والمروي عَن أبي
حنيفَة عَن أبان عَن رجل عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، ضَعِيف عَن رجل مَجْهُول. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا
خلاف بَين الْمُسلمين أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون خَمْسَة
أوسق إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه
تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الحَبِّ وَكَثِيره، وَهَذَا
مَذْهَب بَاطِل، منابذ لصريح
(9/73)
الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: لَيْت شعري
كَيفَ تلفظ بِهَذَا الْكَلَام مَعَ شهرته بالزهد والورع؟
وعجبي كل الْعجب يَقُول هَذَا مَعَ اطِّلَاعه على مستنداته
من الْكتاب وَالسّنة، وَلَا ينْفَرد حطه على أبي حنيفَة
وَحده، بل على كل من كَانَ مذْهبه مثل مذْهبه.
القَوْل الثَّانِي: يجب فِيمَا لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة إِذا
بلغ خَمْسَة أوسق، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد،
وَلَا يجب فِي الخضراوات وَلَا فِي الْبِطِّيخ وَالْخيَار
والقثاء. وَنَصّ مُحَمَّد على أَنه: لَا عشر فِي السفرجل،
وَلَا فِي التِّين والتفاح والكمثري والخوخ والمشمش
والإجاص، وَفِي الْيَنَابِيع، وَيجب فِي كل ثَمَرَة تبقى
سنة كالجوز واللوز والبندق والفستق. وَفِي (الْمَبْسُوط) :
وأوجبا فِي الْجَوْز واللوز وَفِي الفستق على قَول أبي
يُوسُف، وعَلى قَول مُحَمَّد: لَا يجب، وَفِي المرغيناني
عَن مُحَمَّد: أَنه لَا عشر فِي التِّين والبندق والتوت
والموز والخرنوب، وَعنهُ: يجب فِي التِّين. قَالَ
الْكَرْخِي: هُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَلَا فِي الإهليلجة
وَسَائِر الْأَدْوِيَة والسدر والأشنان، وَيجب فِيمَا
يَجِيء مِنْهُ مَا يبْقى سنة: كالعنب وَالرّطب، وَعَن
مُحَمَّد: إِن كَانَ الْعِنَب لَا يَجِيء مِنْهُ الزَّبِيب
لرقته لَا يجب فِيهِ الْعشْر، وَلَا يجب فِي السعتر
والصنوبر والحلبة، وَعَن أبي يُوسُف أَنه أوجب فِي
الْحِنَّاء، وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يجب فِيهِ كالرياحين،
وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي الثوم والبصل، وَلَا عشر
فِي التفاح والخوخ الَّذِي يشق وييبس، وَلَا شَيْء فِي بذر
الْبِطِّيخ والقثاء وَالْخيَار والرطبة، وكل بذر لَا يصلح
إلاَّ للزِّرَاعَة، ذكره الْقَدُورِيّ. وَيجب فِي بذر
القنب دون عيدانه، وَيجب فِي الكمون والكراويا والخردل
لِأَن ذَلِك من جملَة الْحُبُوب. وَفِي (الْمُحِيط) :
وَلَا عشر فِيمَا هُوَ تَابع للْأَرْض: كالنخل
وَالْأَشْجَار، وَأَصله أَن كل شَيْء يدْخل فِي بيع
الأَرْض تبعا فَهُوَ كالجزء مِنْهَا فَلَا شَيْء فِيهِ،
وَمَا لَا يدْخل إلاَّ بِالشّرطِ يجب فِيهِ: كالثمر
والحبوب.
القَوْل الثَّالِث: يجب فِيمَا يدّخر ويقتات كالحنطة
وَالشعِير والدخن والذرة والأرز والعدس والحمص والباقلاء
والجلبان والماش واللوبيا وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) أطلق القَوْل فِي
وجوب الزَّكَاة فِي كل شَيْء يجْرِي فِيهِ الوساق والصاع،
وَلَا شكّ أَنه أَرَادَ مِمَّا يزرع ويستنبت وإلاَّ فَلَا
يجْرِي فِيهِ الوسق والصاع، وَلَا زَكَاة فِيهِ.
وَإِنَّمَا اخْتلف الْعلمَاء فِي أَشْيَاء مِمَّا يستنبت،
فمذهب الشَّافِعِي، كَمَا اتّفق عَلَيْهِ الْأَصْحَاب: أَن
يكون قوتا فِي حَال الِاخْتِيَار، وَأَن يكون من جنس مَا
ينبته الآدميون، وَشرط الْعِرَاقِيُّونَ أَن يدّخر وييبس.
قَالَ الرَّافِعِيّ: لَا حَاجَة إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا
ملازمان لكل مقتات مستنبت وَهُوَ الْحِنْطَة وَالشعِير
والسلت والذرة والدخن والأرز والجاورش، بِالْجِيم وَفتح
الْوَاو، وَفَسرهُ بِأَنَّهُ: حب صغَار من جنس الذّرة،
وَكَذَلِكَ القطنية، بِكَسْر الْقَاف وَجَمعهَا القطاني،
وَهِي العدس والحمص والماش والباقلاء، وَهُوَ الفول
واللوبيا والهرطمان وَهُوَ الجلبان، وَيُقَال لَهُ الخلر،
بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وَفتحهَا
وَآخره رَاء، لِأَنَّهَا تصلح للاقتيات وتدخر للْأَكْل،
وَاحْترز الْأَصْحَاب بقَوْلهمْ: فِي حَال الِاخْتِيَار
عَن حب الحنظل وَعَن القت، وَبِه مثله الشَّافِعِي،
وَفَسرهُ الْمُزنِيّ وَغَيره: بحب الغاسول، وَهُوَ الأشنان
وَسَائِر بذور البراري، قَالُوا: وَلَا تجب الزَّكَاة فِي
الثفاء، وَهُوَ حب الرشاد، وَلَا فِي الترمس والسمسم
والكمون والكراويا والكزبرة وبذر القطونا وبذر الْكتاب
وبذر الفجل وَمَا أشبه ذَلِك من البذورات، وَلَا شَيْء فِي
هَذِه عندنَا بِلَا خلاف، وَإِن جرى فِيهِ الْكَيْل بالصاع
وَنَحْوه، إلاَّ مَا حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ أَن فِي
الترمس قولا قَدِيما فِي وجوب الزَّكَاة فِيهِ، وإلاَّ مَا
حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج من حِكَايَة قَول قديم
فِي بذر الفجل، وَلَا زَكَاة عِنْد الشَّافِعِي فِي
التِّين والتفاح والسفرجل وَالرُّمَّان والخوخ والجوز
واللوز والموز وَسَائِر الثِّمَار سوى الرطب وَالْعِنَب،
وَلَا فِي الزَّيْتُون فِي الْجَدِيد.
وَفِي الورس فِي الْجَدِيد وواجبها فِي الْقَدِيم من غير
شَرط النّصاب فِي قَلِيله وَكَثِيره وَلَا تجب فِي الترمس
فِي الْجَدِيد.
القَوْل الرَّابِع: قَول مَالك مثل قَول الشَّافِعِي،
وَزَاد عَلَيْهِ: وجوب العُشر فِي الترمس والسمسم
وَالزَّيْتُون، وَأوجب الْمَالِكِيَّة فِي غير رِوَايَة
ابْن الْقَاسِم فِي بذر الْكتاب وبذر السلجم لعُمُوم
نفعهما بِمصْر وَالْعراق، مَعَ أَنه لَا يُؤْكَل بذرهما.
القَوْل الْخَامِس: قَول أَحْمد: يجب فِيمَا لَهُ
الْبَقَاء واليبس والكيل من الْحُبُوب وَالثِّمَار، سَوَاء
كَانَ قوتا كالحنطة وَالشعِير والسلت وَهُوَ نوع من
الشّعير. وَفِي الْمغرب: شعير لَا قشر لَهُ يكون بالغور
والحجاز، والأرز والدهن والعلس وَهُوَ نوع من الْحِنْطَة
يزْعم أَهله أَنه إِذا أخرج من قشره لَا يبْقى بَقَاء
غَيره من الْحِنْطَة، وَيكون مِنْهُ حبتان وَثَلَاث فِي
كمام وَاحِد، وَهُوَ طَعَام أهل صنعاء وَفِي الْمغرب هُوَ
بِفتْحَتَيْنِ حَيَّة سَوْدَاء إِذا أجدب النَّاس خلطوها
وأكلوها. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم الْمَالِكِي: لَيْسَ هُوَ
من نوع الْحِنْطَة، وَتجب فِي الْأرز والذرة وَفِي
القطنيات كالعدس والباقلاء والحمص والماش، وَفِي الإبازير
كالكزبرة والكمون، وَفِي البذور كبذر
(9/74)
الْكَتَّان والقثاء وَالْخيَار وَنَحْوهَا،
وَفِي الْبُقُول كالرشال والفجل، وَفِي القرطم والترمس
والسمسم، وَتجب عِنْده فِي التَّمْر وَالزَّبِيب واللوز
والبندق والفستق، دون الْجَوْز والتين والمشمش والتفاح
والكمثري والخوخ والإجاص، دون القثاء وَالْخيَار
والباذنجان والقت والجزر، وَلَا تجب فِي ورق السدر والخطمي
والأشنان والآس، وَلَا فِي الأزهار كالزعفران والعصفر،
وَلَا فِي الْقطن.
القَوْل السَّادِس: تجب فِي الْحُبُوب والبقول
وَالثِّمَار، وَهُوَ قَول حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان شيخ
أبي حنيفَة.
القَوْل السَّابِع: لَيْسَ فِي شَيْء من الزَّرْع زَكَاة
إلاَّ فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير،
حَكَاهُ الْعَبدَرِي عَن الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى،
وَحَكَاهُ ابْن الْعُزَّى عَن الْأَوْزَاعِيّ وَزَاد:
الزَّيْتُون.
القَوْل الثَّامِن: يُؤْخَذ من الخضراوات إِذا بلغت
مِائَتي دِرْهَم، وَهُوَ قَول الْحسن وَالزهْرِيّ.
القَوْل التَّاسِع: أَن مَا يوسق يجب فِي خَمْسَة أوسق
مِنْهُ، وَمَا لَا يوسق يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره، وَهُوَ
قَول دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَأَصْحَابه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هاذا تَفْسِيرُ الأوَّلِ لأِنَّهُ
لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأوَّلِ يَعْنِي حَديثَ ابنِ عُمَرَ
وفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءِ العُشْرُ وبَيَّنَ فِي هاذا
وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالمُفَسَّرُ
يَقْضِي علَى المُبْهَمِ إذَا رَوَاهُ أهْلُ الثَّبَتِ
كَمَا رَوَي الفَضْلُ ابنُ عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الكَعْبَةِ وَقَالَ
بِلاَلٌ قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلاَلٍ وَتُرِكَ
قَوْلُ الفَضْلِ.
هَذَا كُله وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر هَهُنَا عقيب حَدِيث
ابْن عمر الْمَذْكُور، وَفِي نُسْخَة الْفربرِي وَقع فِي
الْبَاب الَّذِي بعد هَذَا الْبَاب بعد حَدِيث أبي سعيد،
وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَجزم أَبُو عَليّ
الصَّدَفِي بِأَن ذكره عقيب حَدِيث ابْن عمر من قبل بعض
نساخ الْكتاب. قلت: وَكَذَا قَالَ التَّيْمِيّ، وَنسبه
إِلَى غلط من الْكَاتِب، وَلَا احْتِيَاج إِلَى هَذِه
المشاححة، وَلكُل ذَلِك وَجه لَا يخفى، وَلَكِن رجح بَعضهم
كَونه بعد حَدِيث أبي سعيد لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَسّر
لحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا
حَاجَة إِلَى هَذَا التَّرْجِيح أَيْضا لأَنا نمْنَع
الْإِجْمَال وَالتَّفْسِير هَهُنَا، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
قَوْله: (هَذَا تَفْسِير الأول) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى
حَدِيث أبي سعيد الَّذِي يَأْتِي وَأَرَادَ بِالْأولِ
حَدِيث ابْن عمر، فَهَذَا يدل على أَن هَذَا الْكَلَام من
البُخَارِيّ إِنَّمَا كَانَ بعد حَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ
ظَاهر. قَوْله: (لِأَنَّهُ لم يُوَقت فِي الأول) أَي: لم
يعين شَيْئا فِي حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ قَوْله: (فِيمَا
سقت السَّمَاء الْعشْر) . قَوْله: (وَبَين فِي هَذَا) أَي:
فِي حَدِيث أبي سعيد، ووقَّت أَي: عيَّن، وَهُوَ قَوْله:
(لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، وَقد عيَّن
فِيهِ بِأَن النّصاب خَمْسَة أوسق. قَوْله:
(وَالزِّيَادَة) يَعْنِي: تعْيين النّصاب (مَقْبُولَة)
يَعْنِي: من الثِّقَة. قَوْله: (والمفسر) ، بِفَتْح
السِّين يَعْنِي: الْمُبين، وَهُوَ الْخَاص (يقْضِي) أَي:
يحكم (على الْمُبْهم) أَي الْعَام، وسمى البُخَارِيّ
الْخَاص بِحَسب تصرفه مُفَسرًا لوضوح المُرَاد مِنْهُ،
وسمى الْعَام مُبْهما لاحْتِمَال إِرَادَة الْكل
وَالْبَعْض مِنْهُ، وغرضه أَن حَدِيث ابْن عمر عَام
للنصاب، ودونه وَحَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ: (لَيْسَ فِيمَا
دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، خَاص بِقدر النّصاب،
وَالْخَاص وَالْعَام إِذا تَعَارضا يخصص الْخَاص الْعَام،
وَهُوَ معنى الْقَضَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا حَاصِل مَا
قَالَه البُخَارِيّ. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن إِجْرَاء
الْعَام على عُمُومه أولى من التَّخْصِيص، فَارْجِع
إِلَيْهِ.
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَنه: أذا ورد حديثان
أَحدهمَا عَام وَالْآخر خَاص فَإِن علم تَقْدِيم الْعَام
على الْخَاص خص الْعَام بالخاص، كمن يَقُول لعَبْدِهِ: لَا
تعط لأحد شَيْئا، ثمَّ قَالَ لَهُ: أعْط زيدا درهما، وَإِن
علم تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام ينْسَخ الْعَام للخاص،
كمن يَقُول لعَبْدِهِ: أعْط زيدا درهما، ثمَّ قَالَ لَهُ:
لَا تعط أحدا شَيْئا، فَإِن هَذَا نَاسخ للْأولِ، هَذَا
مَذْهَب عِيسَى بن أبان، وَهُوَ الْمَأْخُوذ بِهِ، وَإِذا
لم يعلم فَإِن الْعَام يَجْعَل آخرا لما فِيهِ من
الِاحْتِيَاط، وَهنا لم يعلم التَّارِيخ فَيجْعَل الْعَام
آخرا احْتِيَاطًا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نفى الصَّدَقَة وَلم ينف الْعشْر، وَقد كَانَ فِي المَال
صدقَات نسختها آيَة الزَّكَاة، وَالْعشر لَيْسَ بِصَدقَة
مُطلقَة إِذْ فِيهِ معنى المؤونة، حَتَّى وَجب فِي أَرض
الْوَقْف وَلَا تجب الزَّكَاة فِي الْوَقْف. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: مَذْهَب الْحَنَفِيّ أَن الْخَاص
الْمُتَقَدّم مَنْسُوخ بِالْعَام الْمُتَأَخر، وَلَعَلَّه
ضبط التَّارِيخ وَعلم تَقْدِيم حَدِيث أبي سعيد، فَلهَذَا
لَا يشْتَرط النّصاب فِيهِ. قلت: فَيلْزم عَلَيْهِ أَن
يَقُول بِمثلِهِ فِي الْوَرق، إِذْ مر فِي: بَاب زَكَاة
الْغنم، فِي الرقة ربع الْعشْر، انْتهى. قلت: لَا يلْزمه
ذَلِك لِأَنَّهُ لم يدع ضبط
(9/75)
التَّارِيخ، وَلَا تقدم حَدِيث أبي سعيد،
وَإِنَّمَا الأَصْل عِنْده التَّوَقُّف إِذا جهل
التَّارِيخ وَالرُّجُوع إِلَى غَيرهمَا، أَو يرجح أَحدهمَا
بِدَلِيل، وَمن جملَة تَرْجِيح الْعَام هُنَا هُوَ أَنه
إِذا خص لزم إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله أَن يكون مرَادا،
وَمِنْهَا الِاحْتِيَاط فِي جعله آخرا كَمَا ذكرنَا،
وَقَالَ ابْن بطال: نَاقض أَبُو حنيفَة حَيْثُ اسْتعْمل
الْمُجْمل والمفسر فِي مَسْأَلَة الرقة، وَلم يسْتَعْمل
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، كَمَا أَنه أوجب الزَّكَاة فِي
الْعَسَل وَلَيْسَ فِيهِ خبر وَلَا إِجْمَاع. قلت: كَيفَ
يسْتَعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَهُوَ غير قَائِل بِهِ هُنَا لعدم الْإِجْمَال فِيهِ،
وَمن أَيْن الْإِجْمَال ودلالته ظَاهِرَة، لِأَن دلَالَته
على إِفْرَاده كدلالة الْخَاص على فَرد وَاحِد، فَلَا
يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير، وَلَفظ الصَّدَقَة فِي
الزَّكَاة أظهر من الْعشْر فَصَرفهُ إِلَيْهَا أولى، وَلَا
كَذَلِك صَدَقَة الرقة. وَلم يفهم ابْن بطال الْفرق
بَينهمَا، وَكَيف يَقُول ابْن بطال: كَمَا أَنه أوجب
الزَّكَاة وَلَيْسَ فِيهِ خبر؟ وَقد ذكرنَا عَن
التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فِي
الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق) ، وَذكرنَا فِيمَا مضى عَن
قريب جملَة أَحَادِيث تدل على الْوُجُوب، وَقَوله: وَلَا
إِجْمَاع، كَلَام واهٍ، لِأَن الْمُجْتَهد لَا يرى
بِالْوُجُوب فِي شَيْء إلاَّ إِذا كَانَ فِيهِ إِجْمَاع،
وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد. قَوْله: (أهل الثبت) ، بتحريك
الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: أهل الثَّبَات. قَوْله: (كَمَا
روى الْفضل بن عَبَّاس) أَي: عبد الْمطلب، ابْن عَم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الَّذِي ذكره
صُورَة اجْتِمَاع النَّفْي وَالْإِثْبَات، لِأَن الْفضل
يَنْفِي صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوف
الْكَعْبَة لما حج عَام الْفَتْح، وبلال يثبت ذَلِك، فَأخذ
بقول بِلَال لكَونه يثبت أمرا، وَترك قَول الْفضل
لِأَنَّهُ يَنْفِيه، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن النَّفْي
مَتى عرف بدليله يُعَارض الْمُثبت وإلاَّ فَلَا، وَهَهُنَا
لم يعرف النَّفْي بِدَلِيل، فَقدم عَلَيْهِ الْإِثْبَات،
وَذكر بعض أَصْحَابنَا هَذِه الصُّورَة بِخِلَاف مَا
قَالَه البُخَارِيّ، وَهِي: أَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صلى فِي جَوف الْكَعْبَة، ورجحنا رِوَايَته على
رِوَايَة بِلَال أَنه: لم يصل فِي جَوف الْكَعْبَة عَام
الْفَتْح فِي تِلْكَ الْأَيَّام.
65 - (بابٌ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ
صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة
أوسق صَدَقَة، أَي: زَكَاة.
4841 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى قَالَ
حدَّثنا مالِكٌ قَالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله
ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا
أقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي أقَلَّ
منْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي
أقَلَّ مِنْ خَمْسِ أوَاقٍ منَ الوَرَقِ صَدَقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة الْجُزْء
الأول من الحَدِيث، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب زَكَاة
الْوَرق، رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن
عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت
أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَلَكِن فِي
الْمَتْن اخْتِلَاف فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود
صَدَقَة، رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره، وَهَهُنَا
رَوَاهُ عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن مَالك.
قَوْله: (فِيمَا أقل) ، كلمة: مَا، زَائِدَة و: أقل، فِي
مَحل الْجَرّ، وَقَالَ ابْن بطال: الأوسق الْخَمْسَة هِيَ
الْمِقْدَار الْمَأْخُوذ مِنْهُ، وَأوجب أَبُو حنيفَة فِي
قَلِيل مَا تخرجه الأَرْض وَكَثِيره، فَإِنَّهُ خَالف
الْإِجْمَاع. قلت: لَيْت شعري كَيفَ يتَلَفَّظ بِهَذَا
الْكَلَام؟ وَمن أَيْن الْإِجْمَاع حَتَّى خَالفه أَبُو
حنيفَة؟ وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى مَا
قَالَه أَبُو حنيفَة، قَالَ: وَكَذَلِكَ أوجبهَا فِي
الْبُقُول والرياحين وَمَا لَا يوسق كالرمان،
وَالْجُمْهُور على خِلَافه. قلت: أوجب أَبُو حنيفَة فِي
الْبُقُول، يَعْنِي: الخضروات بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر
الْمَذْكُور عَن قريب، وبعموم حَدِيث جَابر عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِيمَا سقت
السَّمَاء والغيم العُشر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف
العُشر) ، رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَأحمد، فَدلَّ عمومها على وجوب العُشر فِي جَمِيع مَا
أخرجته الأَرْض من غير قيد وَإِخْرَاج لبَعض الْخَارِج عَن
الْوُجُوب وإخلائه عَن حُقُوق الْفُقَرَاء، وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ فِي (عارضة الأحوذي) : وَأقوى الْمذَاهب فِي
الْمَسْأَلَة
(9/76)
مَذْهَب أبي حنيفَة دَلِيلا، وأحفظها للْمَسَاكِين،
وأولاها قيَاما بشكر النِّعْمَة، وَعَلِيهِ يدل عُمُوم
الْآيَة والْحَدِيث، وَقد رام الْجُوَيْنِيّ أَن يخرج
عُمُوم الحَدِيث من يَدي أبي حنيفَة بِأَن قَالَ: إِن
هَذَا الحَدِيث لم يَأْتِ للْعُمُوم، وَإِنَّمَا جَاءَ
لتفصيل الْفرق بَين مَا يقلّ وَيكثر مؤونته وَأبْدى، فِي
ذَلِك وَأعَاد، وَلَيْسَ بممتنع أَن يَقْتَضِي الحَدِيث
الْوَجْهَيْنِ: الْعُمُوم وَالتَّفْصِيل، وَذَلِكَ أكمل
فِي الدَّلِيل وَأَصَح فِي التَّأْوِيل. انْتهى. وَقَالَ
الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة الْمَالِكِيَّة)
وَالظَّاهِر أَنه نَقله من كَلَام الْجُوَيْنِيّ: إِن
الْكَلَام إِذا سيق لِمَعْنى لَا يحْتَج بِهِ فِي غَيره،
وَهَذِه قَاعِدَة أصولية، فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِنَّمَا المَاء من المَاء) ، لَا يسْتَدلّ بِهِ
على جَوَاز المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَنَّهُ لم يرد إلاَّ
لبَيَان حصر الْوُجُوب للْغسْل، فَكَذَا قَوْله: (فِيمَا
سقت السَّمَاء الْعشْر) ورد لبَيَان جُزْء الْوَاجِب لَا
لبَيَان مَحل الْوُجُوب، فَلَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ.
انْتهى. قلت: النَّص اشْتَمَل على جملتين: شَرْطِيَّة
وجزائية، فالجملة الشّرطِيَّة لعُمُوم مَحل الْوَاجِب،
فإلغاء عمومها بَاطِل، وَالْجُمْلَة الجزائية لبَيَان
مِقْدَار الْوَاجِب، مِثَاله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه) ، فالجملة الشّرطِيَّة
وَهِي الأولى وَردت لبَيَان سَبَب اسْتِحْقَاق الْقَاتِل،
وَعُمُوم من فعل ذَلِك. وَالْجُمْلَة الثَّانِيَة:
الجزائية، وَردت لبَيَان مَا يسْتَحقّهُ، وَهُوَ سلب
الْمَقْتُول، واختصاصه بِهِ، فَلَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول
الشَّرْط كَمَا لَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول الْجَزَاء،
وَلَيْسَ هَذَا نَظِير مَا اسْتشْهد بِهِ الْقَرَافِيّ،
وَقد يساق الْكَلَام لأمر وَله تعلق بِغَيْرِهِ وإيماء
بِهِ وَإِشَارَة إِلَيْهِ، ألاَ ترى إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن}
(الْبَقَرَة: 332) . سيقت الْآيَة لبَيَان وجوب نَفَقَة
المطلقات وكسوتهن إِذا أرضعن أَوْلَادهنَّ، وَفِيه
إِشَارَة إِلَى أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد
وَمَاله حَتَّى لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بوطىء جَارِيَته،
وَلَا بِسَبَبِهِ، ذكره السَّرخسِيّ فِي (أُصُوله) ،
وَقَاعِدَة الْقَرَافِيّ هَذِه إِن كَانَت صَحِيحَة أبطلت
عَلَيْهِ قَاعِدَة مذْهبه ومدركه لِأَن قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَدَقَة فِي حب وَلَا ثَمَر حَتَّى
يبلغ خَمْسَة أوسق) سيق لبَيَان تَقْدِير النّصاب، وَنفى
الْوُجُوب عَمَّا دون الْخَمْسَة الأوسق، فَلَا يدل
حِينَئِذٍ على عُمُوم الْحبّ وَالثَّمَر، وَقد قَالَ: هُوَ
عَام فِي الْحُبُوب وَالثِّمَار. فَإِن قلت: روى
التِّرْمِذِيّ عَن معَاذ أَنه كتب إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَله عَن الخضروات وَهِي:
الْبُقُول، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء! قلت: قَالَ
التِّرْمِذِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح،
وَلَيْسَ يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم شَيْء، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا عَن مُوسَى
بن طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا،
وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن عَائِشَة قَالَت: جرت
السّنة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ
فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة، وَفِي سَنَده
صَالح بن مُوسَى، ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن جَابر، قَالَ: لم يكن المقاثي
فِيمَا جَاءَ بِهِ معَاذ، وَلَيْسَ فِي المقاثي شَيْء،
وَقد تكون عندنَا المقثاة تخرج عشرَة الْآن، فَلَا يكون
فِيهَا شَيْء، قلت: فِي سَنَده عدي بن الْفضل، وَهُوَ
مَتْرُوك.
قالَ أبُو عَبْدِ الله هاذا تَفْسِيرُ الأوَّلِ إذَا قالَ
لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ لِكَوْنِهِ
لَمْ يُبَيِّنْ وَيُؤْخَذُ أبَدا فِي العِلْمِ بِمَا زَادَ
أهْلُ الثَّبَتِ أوْ بَيَّنُوا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِالْأولِ
حَدِيث أبي سعيد، وَقد مر هَذَا عَن قريب. قَوْله:
(وَيُؤْخَذ أبدا) إِلَى آخِره، يرد عَلَيْهِ مَا بيَّنه
أَبُو حنيفَة من استدلاله بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر،
وَهُوَ من أهل الْعلم الْكِبَار الْمُجْتَهدين، وَقد بيّن
هَذَا، فَيَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ بِهِ، والمكابرة مطروحة. |