عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 14 - (بابٌ منْ أيْنَ يَخْرُجُ مِنْ
مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ جَوَاب من يسْأَل وَيَقُول: من
أَيْن يخرج الْخَارِج من مَكَّة؟
6751 - حدَّثني مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ البَصْرِيُّ
قَالَ حَدثنَا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ
ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كدَاءٍ مِنَ
الثَنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءِ وخَرَجَ مِنَ
الثَّنْيَةِ السُّفْلَى.
(انْظُر الحَدِيث 5751) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي
الْبَاب السَّابِق، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله
هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم ابْن عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن زُهَيْر بن
حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن عَمْرو بن عَليّ.
قَوْله: (من كداء) ، بِفَتْح الْكَاف وَالْمدّ. قَوْله:
(وَخرج من الثَّنية) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وكل عقبَة
فِي جبل أَو طَرِيق عَال فِيهِ تسمى ثنية.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله كانَ يُقالُ هُوَ مُسَدَّدٌ
كاسْمِهِ قالَ أبُو عَبْدِ الله سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ
مَعِينٍ يقولُ سَمعْتُ يَحْيى بنَ سَعِيدٍ يقُولُ لَوْ
أنَّ مُسَدَّدا أتيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فحَدَّثْتُهُ
لاَسْتَحَقَّ ذالِكَ ومَا أبَالِي كُتُبِي كانَتُ عِنْدِي
أوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ
بِكَلَامِهِ هَذَا إِلَى الْمُبَالغَة فِي تَوْثِيق
مُسَدّد بن مسرهد حَيْثُ قَالَ: هُوَ مُسَدّد أَي: مُحكم
من التسديد، وَهُوَ الإحكام، وَمِنْه السداد وَهُوَ
الْقَصْد فِي الْأَمر وَالْعدْل فِيهِ، والسداد
الاسْتقَامَة أَيْضا، وَمِنْه المسدد، وَهُوَ لَازم
الطَّرِيق المستقيمة، واشتقاق السد أَيْضا مِنْهُ
لِأَنَّهُ الْبناء الْمُحكم الْقوي، وَلم يكتف بتوثيقه
إِيَّاه بِنَفسِهِ حَتَّى نقل عَن يحيى بن معِين
(9/209)
الإِمَام فِي بَاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل
حَيْثُ نقل عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان، إِنَّه قَالَ: لَو
أَن مُسَددًا ... إِلَى آخِره، وَهَذَا مِنْهُ غَايَة فِي
التَّعْدِيل وَنِهَايَة فِي التوثيق.
8751 - حدَّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ المَرْوَزِيُّ
قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قالَ حدَّثنا هِشَامُ بنُ
عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ عامَ
الفَتْحِ مِنْ كَدَاءِ وخَرَجَ منْ كُدا مِنْ أعْلَى
مَكَّةَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة، وَلَكِن أَبَا
أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة قلب فِي رِوَايَته حَيْثُ
ذكر أَن دُخُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ من كداء،
بِالْفَتْح وَالْمدّ، وَأَنه خرج من كدى، بِالضَّمِّ
وَالْقصر، فَجعل كدى الَّذِي هُوَ بِالضَّمِّ وَالْقصر من
أَعلَى مَكَّة، وكذاء الَّذِي بِالْفَتْح وَالْمدّ من
أَسْفَل مَكَّة، وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ غَيره
بِالْعَكْسِ. وَقد روى أَحْمد أَن أَبَا أُسَامَة رَوَاهُ
على الصَّوَاب، فَهَذَا يدل على أَن الْقلب مِمَّن دون أبي
أُسَامَة.
9751 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ
أخْبَرَنَا عَمْرٌ وعنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ
عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ عامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ
أعْلَى مَكَّةَ قالَ هِشَامٌ وكانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلى
كِلْتَيْهِمَا مِنْ كدَاءٍ وَكُدا وأكْثَرُ مَا يَدْخُلُ
مِنْ كدَاءٍ وكانَتْ أقْرَبَهُمَا إلَى مَنْزِلِهِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، عَن أَحْمد. قيل: هُوَ أَحْمد بن عِيسَى
التسترِي. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: كل مَا قَالَ
البُخَارِيّ: أَحْمد عَن ابْن وهب، وَهُوَ أَحْمد بن صَالح
الْمصْرِيّ عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عَمْرو بن
الْحَارِث الْمصْرِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْمَغَازِي عَن أَحْمد.
قَوْله: (قَالَ هِشَام) ، هُوَ ابْن عُرْوَة، قَالَ
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَكَانَ عُرْوَة
يدْخل على كلتيهما) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الثَّنية
الْعليا والثنية السُّفْلى، وَبَين كلتيهما بقوله: (من
كدا، وكدى) وَفِي الْأصيلِيّ: كليهمَا وَالصَّوَاب:
كلتيهما، وَقَالَ ابْن التِّين فِي الْأُمَّهَات: كلتاهما.
قَوْله: (وَأكْثر مَا يدْخل) أَي: عُرْوَة: (من كداء)
بِالْفَتْح وَالْمدّ لِأَنَّهَا كَانَت أقرب إِلَى منزله.
وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ هِشَام: أَكثر مَا كَانَ أبي
يدْخل من كدىً بِالضَّمِّ، كَذَا روينَاهُ، وَرَوَاهُ
غَيْرِي بِالْمدِّ وَالْفَتْح، وَفِي قَول هِشَام:
وَكَانَت أقربهما إِلَى منزله، اعتذار لِأَبِيهِ عُرْوَة،
لِأَنَّهُ روى الحَدِيث وَخَالفهُ، لِأَنَّهُ رأى أَن
ذَلِك لَيْسَ بِلَازِم حتم، وَكَانَ رُبمَا فعله،
وَكَثِيرًا مَا يفعل غَيره لقصد التَّيْسِير.
0851 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ
حدَّثنا حَاتِمٌ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ قالَ دَخَلَ
(9/210)
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَ
الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ منْ أَعلَى مَكَّةَ أكْثَرَ مَا
يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءِ وَكانَ أقْرَبَهُمَا إلَى
مَنْزِلِهِ..
هَذَا مَوْقُوف على عُرْوَة، وَقد اخْتلف على هِشَام بن
عُرْوَة فِي وصل هَذَا الحَدِيث وإرساله، وَذكر
البُخَارِيّ الْوَجْهَيْنِ منبها على أَن رِوَايَة
الْإِرْسَال لَا تقدح فِي رِوَايَة الْوَصْل لِأَن الَّذِي
وَصله حافط، وَهُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تَابعه
ثقتان: عَمْرو وحاتم الْمَذْكُورَان، وَعبد الله بن عبد
الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وحاتم، بِالْحَاء الْمُهْملَة
وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَكْسُورَة: ابْن
إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، سكن
الْمَدِينَة، وَقد مر فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء.
قَوْله: (من كداء) ، بِالْفَتْح وَالْمدّ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأكْثر دُخُول
عُرْوَة من كداء، بِالْفَتْح وَالْمدّ.
1851 - حدَّثنا مُوسَى قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَال
حدَّثنا هِشَامٌ عَنْ أبِيهِ دخَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءِ وكانَ
عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا وَأكْثَرُ مَا
يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أقْرَبِهِمَا إِلَيّ مَنْزِلِهِ..
هَذَا طَرِيق آخر من مَرَاسِيل عُرْوَة يرويهِ البُخَارِيّ
عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري عَن وهيب، بِضَم
الْوَاو: ابْن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة بن
الزبير. قَوْله: (من كداء) ، بِالْفَتْح وَالْمدّ. قَوْله:
(مِنْهُمَا) أَي: كداء بِالْفَتْح، وكدا بِالضَّمِّ.
قَوْله: (كليهمَا) وَفِي بعض النّسخ، كِلَاهُمَا بِالْألف،
وَهُوَ على مَذْهَب من يجعلهما فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث
على صُورَة وَاحِدَة. قَوْله: (أقربهما) بجر الْأَقْرَب
إِمَّا بَيَان أَو بدل.
قالَ أبُو عُبَيْدَ الله كَدَاءٌ وكُدا مَوْضِعَانِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، فسر كدا وكدي بقوله:
موضعان، وَهَذَا تَفْسِير لَا يُفِيد شَيْئا لِأَنَّهُمَا
علما مِمَّا مضى أَنَّهُمَا موضعان، وَهَذَا لم يَقع إلاَّ
فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَتركهَا أَجْدَر على
مَا لَا يخفى، وَالله أعلم.
24 - (بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل مَكَّة، شرفها الله وَفِي
بنيانها. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب ذكر
لبَيَان بُنيان مَكَّة، فَلِمَ لم يقْتَصر على قَوْله:
بَاب فضل مَكَّة؟ قلت: لما كَانَ بُنيان الْكَعْبَة سَببا
لبنيان مَكَّة وعمارتها اكْتفى بِهِ.
وَلَكنهُمْ اخْتلفُوا فِي أول من بنى الْكَعْبَة، فَقيل:
أول من بناها آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، ذكره ابْن
إِسْحَاق: وَقيل: أول من بناها شِيث. عَلَيْهِ السَّلَام،
وَكَانَت قبل أَن يبنيها خيمة من ياقوتة حَمْرَاء يطوف
بهَا آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويأنس بهَا، لِأَنَّهَا
أنزلت إِلَيْهِ من الْجنَّة. وَقيل: أول من بناها
الْمَلَائِكَة، وَذَلِكَ لما قَالُوا: {أَتجْعَلُ فِيهَا
من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 03) . الْآيَة، خَافُوا
وطافوا بالعرش سبعا يسترضون الله ويتضرعون إِلَيْهِ،
فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يبنوا الْبَيْت الْمَعْمُور
فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَأَن يجْعَلُوا طوافهم لَهُ
لكَونه أَهْون من طواف الْعَرْش ثمَّ أَمرهم أَن يبنوا فِي
كل سَمَاء بَيْتا، وَفِي كل أَرض بَيْتا. قَالَ مُجَاهِد:
هِيَ أَرْبَعَة عشر بَيْتا. وَرُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة
حِين أسست الْكَعْبَة انشقت الأَرْض إِلَى مُنْتَهَاهَا،
وقذفت مِنْهَا حِجَارَة أَمْثَال الْإِبِل، فَتلك
الْقَوَاعِد من الْبَيْت الَّتِي وضع عَلَيْهَا
إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة
وَالسَّلَام، الْبَيْت، فَلَمَّا جَاءَ الطوفان رفعت وأودع
الْحجر الْأسود أَبَا قبيس، وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن
جريج عَن عَطاء وَسَعِيد بن الْمسيب: أَن آدم بناه من
خَمْسَة أجبل: من حراء وطور سيناء، وطور زيتا وجبل لبنان
والجودي، وَهَذَا غَرِيب، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي بِنَاء
الْكَعْبَة فِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) من طَرِيق ابْن
لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عبد
الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا: بعث الله جِبْرِيل
إِلَى آدم وحواء، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَأَمرهمَا
بِبِنَاء الْكَعْبَة، فبناه آدم عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ
أَمر بِالطّوافِ بِهِ. وَقيل لَهُ: أَنْت أول النَّاس،
وَهَذَا أول بَيت يوضع للنَّاس. وَقَالَ ابْن كثير: إِنَّه
كَمَا ترى من مُفْرَدَات ابْن لَهِيعَة، وَهِي ضَعِيف
وَالْأَشْبَه أَن يكون هَذَا مَوْقُوفا على عبد الله بن
عَمْرو، وَيكون من الزاملتين اللَّتَيْنِ أصابهما يَوْم
اليرموك من كَلَام أهل الْكتاب.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وأمْنا وَاتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ
مُصَلَّىً وعَهِدْنَا إلَى
(9/211)
إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا
بَيْتِي لِلطَّائفِينَ والعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ. وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هاذا
بَلَدا آمِنا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ قالَ ومَنْ
كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أضطَرُّهُ إلَى
عَذَابِ النَّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ. وَإذْ يَرْفَعُ
إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنَا
مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ} . (الْبَقَرَة: 521 821) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَوْله فضل مَكَّة،
وَالتَّقْدِير وَفِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذ جعلنَا} (الْبَقَرَة: 521 821) . الخ وَهَذِه
أَرْبَعَة آيَات سيقت كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي
رِوَايَة البَاقِينَ بعض الْآيَة الأولى، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر كل الْآيَة الأولى: ثمَّ قَالُوا: إِلَى قَوْله
{التواب الرَّحِيم} (الْبَقَرَة: 521 821) [/ ح.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت} أَي: وَاذْكُر
إِذْ جعلنَا الْبَيْت، وَالْبَيْت اسْم غَالب للكعبة
كالنجم للثريا. قَوْله: (مثابة) أَي: مباءة ومرجعا للحجاج
والعمار، فينصرفون عَنهُ ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ. قَالَ
الزّجاج: أصل مثابة مثوبة نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى
الثَّاء وقلبت الْوَاو ألفا لتحركها فِي الأَصْل، وانفتاح
مَا قبلهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء مثابات.
وَقَالَ ابْن جرير: قَالَ بعض نحاة الْبَصْرَة: ألحقت
الْهَاء فِي المثابة لما كثر من يثوب إِلَيْهِ كَمَا
يُقَال: سيارة ونسابة، وَقَالَ بعض نحاة الْكُوفَة: بل
المثاب والمثابة بِمَعْنى وَاحِد نَظِير الْمقَام
والمقامة، فالمقام ذكر على قَوْله لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ
الْموضع الَّذِي يُقَام فِيهِ، وأنثت المقامة لِأَنَّهُ
أُرِيد بهَا الْبقْعَة، وَأنكر هَؤُلَاءِ أَن تكون المثابة
نظيرة للسيارة والنسابة، وَقَالُوا: إِنَّمَا أدخلت
الْهَاء فِي السيارة والنسابة تَشْبِيها لَهَا بالداهية،
والمثابة مفعلة من ثاب الْقَوْم إِلَى الْموضع إِذا رجعُوا
إِلَيْهِ، فهم يثوبون إِلَيْهِ مثابا ومثابة وثوابا،
بِمَعْنى: جعلنَا الْبَيْت مرجعا للنَّاس ومعادا يأتونه كل
عَام ويرجعون إِلَيْهِ، فَلَا يقضون مِنْهُ وطرا، وَمِنْه
أثاب إِلَيْهِ عقله إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ بعد عزوبه عَنهُ.
فَإِن قلت: الْبَيْت، مُذَكّر، ومثابة مُؤَنّثَة، والتطابق
بَين الصّفة والموصوف شَرط؟ قلت: لَيست التَّاء فِيهِ
للتأنيث، بل هُوَ كَمَا يُقَال: دِرْهَم ضرب الْأَمِير،
والمصدر قد يُوصف بِهِ. يُقَال: رجل عدل رَضِي، أَي: معدل
مرضى، وَقيل: الْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة لِكَثْرَة من
يثوب إِلَيْهِ، مثل: عَلامَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم:
حَدثنَا أبي حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء أخبرنَا
إِسْرَائِيل عَن مُسلم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي
قَوْله: مثابة، قَالَ: يثوبون إِلَيْهِ ثمَّ يرجعُونَ.
قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة وَسَعِيد بن جُبَير
فِي رِوَايَة وَعَطَاء وَالْحسن وعطية وَالربيع بن أنس
وَالضَّحَّاك نَحْو ذَلِك، وَقَالَ سعيد بن جُبَير فِي
رِوَايَة أُخْرَى، وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَعَطَاء
الْخُرَاسَانِي: {مثابة للنَّاس} أَي: مجمعا. قَوْله:
{وَأمنا} أَي: مَوضِع أَمن. كَقَوْلِه تَعَالَى: {حرما
أمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} (العنكبوت: 76) .
وَلِأَن الْجَانِي يأوي إِلَيْهِ فلايتعرض لَهُ حَتَّى
يخرج. وَقَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، أَي: أمنا
للنَّاس. وَقَالَ الرّبيع بن أنس عَن أبي الْعَالِيَة
يَعْنِي: أمنا من الْعَدو، وَأَن يحمل فِيهِ السَّلَام.
قَوْله: {وَاتَّخذُوا} ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
وَاتَّخذُوا على إِرَادَة القَوْل، أَي: وَقُلْنَا
اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهِي على
وَجه الِاخْتِيَار والاستحباب دون الْوُجُوب، وَقَرَأَ
نَافِع وَابْن عَامر: وَاتَّخذُوا، على صِيغَة الْمَاضِي،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ على صِيغَة الْأَمر.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا
هُوَ؟ فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا عمر بن شبه النمري
حَدثنَا أَبُو خلف يَعْنِي: عبد الله بن عِيسَى حَدثنَا
دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} قَالَ:
مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام
إِبْرَاهِيم الْحَج لَهُ، ثمَّ فسره عَطاء فَقَالَ:
التَّعْرِيف وصلاتان بِعَرَفَة والمشعر وَمنى وَرمي
الْجمار وَالطّواف بَين الصَّفَا والمروة. وَقَالَ
سُفْيَان عَن عبد الله بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير،
قَالَ: الْحجر مقَام إِبْرَاهِيم، فَكَانَ يقوم عَلَيْهِ
ويتناول إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة. وَقَالَ السّديّ:
الْمقَام الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل،
عَلَيْهِ السَّلَام، تَحت قدم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه. حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ،
وَضَعفه. وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن
الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس، وَقَالَ ابْن أبي
حَاتِم: حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد الصَّباح، حَدثنَا عبد
الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن
مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
أَفلا تتخذه مصلى؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {وَاتَّخذُوا من
مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَقد كَانَ الْمقَام مُلْصقًا
بجدار الْكَعْبَة قَدِيما، ومكانه مَعْرُوف الْيَوْم إِلَى
جَانب
(9/212)
الْبَاب مِمَّا يَلِي الْحجر، وَإِنَّمَا
أَخّرهُ عَن جِدَار الْكَعْبَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ عبد
الرَّزَّاق: عَن معمر عَن حميد الْأَعْرَج عَن مُجَاهِد،
قَالَ: أول من أخر الْمقَام إِلَى مَوْضِعه الْآن عمر بن
الْخطاب.
قَوْله {وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم} قَالَ أَبُو اللَّيْث
فِي تَفْسِيره: أَي: أمرنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن
طهرا، بِأَن طهرا الْبَيْت، أَي: بالتطهير من الْأَوْثَان،
وَيُقَال: من جَمِيع النَّجَاسَات، للطائفين أَي: لأجل
الطائفين الَّذين يطوفون الغرباء، والعاكفين وهم أهل
الْحرم المقيمون بِمَكَّة من أهل مَكَّة وَغَيرهم. قَوْله:
(والركع) أهل الصَّلَاة، وَهُوَ جمع رَاكِع. وَقَوله:
(السُّجُود) مصدر، وَفِيه حذف أَي: الركع ذَوي السُّجُود.
قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} أَي: وَاذْكُر إِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيم: {رب اجْعَل هَذَا} أَي: الْحرم.
{بَلَدا آمنا} وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: اجْعَل
بَلَدا ذَا أَمن. كَقَوْلِه: عيشة راضية وآمنا من فِيهِ،
كَقَوْلِك: ليل نَائِم، وَفِي (خُلَاصَة الْبَيَان) :
والبلد ينْطَلق على كل مَوضِع من الأَرْض عَامر مسكون أَو
خَال، والبلد فِي هَذِه الْآيَة مَكَّة، وَقد صَارَت
مَكَّة حَرَامًا بسؤال إِبْرَاهِيم، وَقَبله كَانَت
حَلَالا. قلت: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر:
أَنَّهَا كَانَت حَرَامًا قبل ذَلِك بِدَلِيل قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن هَذَا الْبَلَد حرَام يَوْم خلق
السَّمَوَات وَالْأَرْض) قَوْله: {وارزق أَهله من الثمرات}
يَعْنِي: أَنْوَاع الثمرات، فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِن الله
تَعَالَى بعث جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين اقتلع
الطَّائِف من مَوضِع الْأُرْدُن، ثمَّ طَاف بهَا حول
الْكَعْبَة، فسميت الطَّائِف. قَوْله: {من آمن مِنْهُم}
بدل: من أَهله، قَالَ أَبُو اللَّيْث: وَإِنَّمَا اشْترط
هَذَا الشَّرْط لِأَنَّهُ قد سَأَلَ الْإِمَامَة لذريته،
فَلم يستجب لَهُ فِي الظَّالِمين، فخشي إِبْرَاهِيم أَن
يكون أَمر الرزق هَكَذَا فَسَأَلَ الرزق للْمُؤْمِنين
خَاصَّة، فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه يرْزق الْكَافِر
وَالْمُؤمن، وَأَن أَمر الرزق لَيْسَ كأمر الْإِمَامَة.
قَالُوا: لِأَن الْإِمَامَة فضل والرزق عدل، فَالله
تَعَالَى يُعْطي فَضله لمن يَشَاء مِمَّن كَانَ أَهلا
لذَلِك، وعدله لجَمِيع النَّاس لأَنهم عباده، وَإِن
كَانُوا كفَّارًا. قَوْله: {وَمن كفر} قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: وارزق من كفر فأمتعه، وَيجوز أَن يكون
من: كفر، مُبْتَدأ متضمنا معنى الشَّرْط. وَقَوله: فأمتعه،
جَوَاب الشَّرْط أَي: وَمن كفر فَأَنا أمتعه، وقرىء:
فأمتعه فاضطره فالزَّه إِلَى عَذَاب النَّار لز الْمُضْطَر
الَّذِي لَا يملك الإمتناع مِمَّا اضْطر إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ أبي: {فنمتعه قَلِيلا ثمَّ نضطره} وَقَرَأَ يحيى
بن وثاب: {فاضطره} بِكَسْر الْهمزَة، وَقَرَأَ ابْن
عَبَّاس: {فأمتعه قَلِيلا ثمَّ أضطره} على لفظ الْأَمر.
قَوْله: {وَإِذ يرفع} أَي وَاذْكُر إِذْ يرفع {إِبْرَاهِيم
الْقَوَاعِد} ، وَهِي جمع قَاعِدَة، وَهِي السارية
والأساس. قَوْله: (من الْبَيْت) أَي: الْكَعْبَة. وَقَالَ
مقَاتل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، مَعْنَاهُ:
وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل الْقَوَاعِد من
الْبَيْت، وَيُقَال: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام،
كَانَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، يُعينهُ
وَالْمَلَائِكَة يناقلون الْحجر من إِسْمَاعِيل، وَكَانُوا
ينقلون الْحجر من خَمْسَة أجبل: طور سينا، وطور زيتا وجودي
ولبنان وحراء. قَوْله: (رَبنَا) أَي: قَالَا: رَبنَا {تقبل
منا} أَعمالنَا {إِنَّك أَنْت السَّمِيع} لدعائنا،
الْعَلِيم بنياتنا، وَقَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،
لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قد أُجِيب لَك فاسأل
شَيْئا آخر: {قَالَا رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك} د
يَعْنِي: مُخلصين لَك، وَيُقَال: واجعلنا متثبتين على
الْإِسْلَام، وَيُقَال: مُطِيعِينَ لَك، ثمَّ: {قَالَا
وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك} يَعْنِي: اجْعَل بعض ذريتنا من
يخلص لَك وَيثبت على الْإِسْلَام، ثمَّ قَالَ: {وأرنا
مناسكنا} يَعْنِي: علمنَا أُمُور مناسكنا، ذكر الرُّؤْيَة
وَأَرَادَ بِهِ الْعلم، ثمَّ قَالَ: {وَتب علينا} يَعْنِي:
تجَاوز عَنَّا الزلة {إِنَّك أَنْت التواب} المتجاوز
{الرَّحِيم} بعبادك.
2851 - حَدثنَا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
أبُو عاصِمٍ قَالَ أخبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي
عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ
الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بُنِيَتِ
الكَعْبَةُ ذَهَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الحِجَارَةَ فقالَ العَبَّاسُ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْ إزَارَكَ
عَلى رَقَبتِكَ فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ وطَمِحتْ عَيْنَاهُ
إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أرِنِي إزَارِي فَشَدَّهُ
عَلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لما بنيت
الْكَعْبَة) ، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بُنيان مَكَّة،
وَفِي الحَدِيث بُنيان الْكَعْبَة؟ قلت: قد ذكرت فِي أول
الْبَاب أَن بُنيان الْكَعْبَة كَانَ سَببا لبنيان مَكَّة،
وَبَين السَّبَب والمسبب ملائمة، فيستأنس بِهَذَا وَجه
الْمُطَابقَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد
الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: أَبُو عَاصِم
النَّبِيل، واسْمه: الضَّحَّاك
(9/213)
بن مخلد. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين:
ابْن دِينَار. الخاسم: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، ويروى بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي التحديث عَن
شَيْخه. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بخاري،
وَأَبُو عَاصِم بَصرِي، وَابْن جريج وَعَمْرو مكيان.
وَفِيه: أَن أحدهم مَذْكُور بكنيته وَالْآخر بنسبته إِلَى
جده من غير ذكر اسْمه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي بُنيان الْكَعْبَة عَن مَحْمُود عَن عبد
الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن حَاتِم. كِلَاهُمَا عَن
مُحَمَّد بن بكر وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَمُحَمّد بن
رَافع، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق، وَهَذَا الحَدِيث
من مَرَاسِيل جَابر لِأَنَّهُ لم يدْرك هَذِه الْقِصَّة،
وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون سَمعهَا من النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَو مِمَّن حضرها من الصَّحَابَة. وَفِي
(التَّوْضِيح) : ومرسله حجَّة، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي
أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب كَرَاهِيَة التعري فِي
الصَّلَاة، فَإِن البُخَارِيّ أخرجه هُنَاكَ عَن مطر بن
الْفضل عَن روح عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق (عَن عَمْرو بن
دِينَار قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله يحدث: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْقل مَعَهم
الْحِجَارَة للكعبة وَعَلِيهِ إزَاره) الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما بنيت الْكَعْبَة) اشتقاق
الْكَعْبَة من الكعب، وكل شَيْء علا وارتفع فَهُوَ كَعْب،
وَمِنْه سميت الْكَعْبَة للبيت الْحَرَام لارتفاعه وعلوه،
وَقيل: سميت بِهِ لتكعبها أَي: تربيعها. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام، سمي بذلك
لتربيعه. وَعَن مقَاتل: سميت كعبة لانفرادها من الْبناء،
وَسمي الْبَيْت الْحَرَام لِأَن الله تَعَالَى حرمه وعظمه،
وَأما مَكَّة فَهُوَ اسْم بَلْدَة فِي وَاد بَين غير ذِي
زرع، وَقَالَ السُّهيْلي: أما مَكَّة فَمن تمككت الْعظم،
أَي: اجتذبت مَا فِيهِ من المخ، وتمكك الفصيل مَا فِي ضرع
النَّاقة، فَكَأَنَّهَا تحتذب مَا من نَفسهَا فِي
الْبِلَاد والأقوات الَّتِي تأتيها فِي المواسم، وَقيل:
لما كَانَت فِي بطن وادٍ فَهِيَ تمكك المَاء من جبالها
وأخشابها عِنْد نزُول الْمَطَر، وتنجذب إِلَيْهَا
السُّيُول. وَقَالَ الصغاني: مَكَّة الْبَلَد الْحَرَام
واشتقاقها من: مك الصَّبِي ثدي أمه يمكه مكا إِذا استقصى
مصه، وَسميت مَكَّة لقلَّة المَاء بهَا، وَلِأَنَّهُم
يمتكون المَاء أَي: يستخرجونه باستقصاء. وَيُقَال: سميت
مَكَّة، لِأَنَّهَا كَانَت تبك من ظلمَ بهَا، أَي: تهلكه.
وَيُقَال أَيْضا: بكة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: بكة
اسْم مَوضِع الطّواف، وَقيل: بكة مَكَان الْبَيْت،
وَمَكَّة سَائِر الْبَلَد، وَسميت بكة لِأَن النَّاس يبك
بَعضهم بَعْضًا فِي الطّواف، أَي: يدْفع. وَقيل:
لِأَنَّهَا تبك أَعْنَاق الْجَبَابِرَة إِذا ألحدوا فِيهَا
بظُلْم، وَقيل: من المتباك وَهُوَ الإزدحام، قَالَ الراجز:
(إِذا الفصيل أَخَذته أكة ... فحلِّهِ حَتَّى يبك بكة)
الأكة، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْكَاف: الشدَّة،
وَقَالَ الْعُتْبِي: مَكَّة وبكة شَيْء وَاحِد، وَالْبَاء
تبدل من الْمِيم كثيرا، ولمكة أسامي: مِنْهَا: الناسة،
بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: من النس، سميت لقلَّة
مَائِهَا، وَفِي (الْمُنْتَخب) : الكراع النساسة، وَعَن
الْأَعرَابِي: النباسة، وَعند الْخطابِيّ: الباسة،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة، ويروى: الناشة، بالنُّون والشين
الْمُعْجَمَة: تنش من ألحد فِيهَا، أَي: تطرده وتنفيه.
وَمِنْهَا: الراس، وَصَلَاح، وَأم صبح وَأم رحم، بِضَم
الْحَاء وسكونها وَأم رحم وَأم زحم بالزاي من الازدحام
فِيهَا. وطيبة ونادر وَأم الْقرى والحاطمة وَالْعرش.
والقادس، والمقدسة، وسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي حجَّته: الْبَلدة، وَفِي (أمالي ثَعْلَب) : عَن
ابْن الْأَعرَابِي، سَأَلَ رجل عليا، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، من أهلكم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ عَليّ:
نَحن قوم من كوثى، فَقَالَت طَائِفَة: أَرَادَ كوثى، وَهِي
الْمَدِينَة الَّتِي ولد بهَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَت طَائِفَة: أَرَادَ بكوثى
مَكَّة، وَذَلِكَ لِأَن محلّة بني عبد الدَّار يُقَال
لَهَا: كوثى، مَشْهُورَة عِنْد الْعَرَب، فَأَرَادَ بقوله:
كوثى أَنا مكيون من أم الْقرى، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف
فِي أول من بناها.
قَوْله: (إجعل إزارك على رقبتك) ، وَفِي (صَحِيح
الْإِسْمَاعِيلِيّ) من حَدِيث عبد الرَّزَّاق أَنبأَنَا
ابْن جريج، (وَأَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار، سمع جَابِرا
لما بنت قُرَيْش الْكَعْبَة ذهب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وعباس ينقلان الْحِجَارَة، فَقَالَ عَبَّاس
للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجعل إزارك على رقبتي
من الْحِجَارَة، فَفعل، فَخر إِلَى الأَرْض وطمحت. قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: قد جعل عبد الرَّزَّاق وضع الْإِزَار
(9/214)
على رَقَبَة الْعَبَّاس. قَوْله: (فَخر
إِلَى الإرض) ، من الخرور، وَهُوَ الْوُقُوع، وَفِي
رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن دِينَار
الَّذِي مضى فِي: بَاب كَرَاهِيَة التعري فِي أَوَائِل
كتاب الصَّلَاة، (فَحله فَجعله على مَنْكِبَيْه فَسقط
مغشيا عَلَيْهِ) . وَفِي (طَبَقَات ابْن سعد) من حَدِيث
الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، دخل حَدِيث
بَعضهم فِي حَدِيث بعض (قَالُوا: بَينا رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ينْقل مَعَهم الْحِجَارَة يَعْنِي
للبيت، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة،
وَكَانُوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الْحِجَارَة،
فَفعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلبط:
(أَي: سقط) من قيام، وَنُودِيَ: عورتك، فَكَانَ ذَلِك أول
مَا نُودي، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالب: يَا ابْن أخي، إجعل
إزارك على رَأسك، فَقَالَ: مَا أصابني إلاَّ فِي تعري) .
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي وَالِدي عَمَّن حَدثهُ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ، فِيمَا
يذكر من حفظ الله تَعَالَى إِيَّاه إِنِّي لمع غلْمَان وهم
أسناني، قد جعلنَا أزرنا على أعناقنا لحجارة نلقها إِذْ
لكمني لاكم لكمة شَدِيدَة، ثمَّ قَالَ: اشْدُد عَلَيْك
إزارك، وَعند السُّهيْلي فِي خبر آخر: لما سقط ضمه
الْعَبَّاس إِلَى نَفسه وَسَأَلَهُ عَن شَأْنه، فَأخْبرهُ
أَنه نُودي من السَّمَاء: أَن اشْدُد عَلَيْك إزارك يَا
مُحَمَّد، قَالَ: وَإنَّهُ أول مَا نُودي. وروى
الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من حَدِيث سماك بن حَرْب،
(عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: حَدثنِي الْعَبَّاس بن
عبد الْمطلب قَالَ: لما بنت قُرَيْش الْكَعْبَة انفردنا
رجلَيْنِ رجلَيْنِ ينقلون الْحِجَارَة، وَكنت أَنا وَابْن
أخي، فَجعلنَا نَأْخُذ أزرنا فنضعها على مناكبنا، ونجعل
عَلَيْهَا الْحِجَارَة، فَإِذا دنونا من النَّاس لبسنا
أزرنا، فَبَيْنَمَا هُوَ أَمَامِي إِذْ صرع، فسعيت وَهُوَ
شاخص ببصره إِلَى السَّمَاء، قَالَ فَقلت: يَا ابْن أخي
مَا شَأْنك؟ قَالَ: نهيت أَن أَمْشِي عُريَانا، قَالَ:
فكتمته حَتَّى أظهر الله نبوته) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من
طَرِيق النَّضر أبي عمر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس،
وَلَيْسَ فِيهِ الْعَبَّاس، وَقَالَ فِي آخِره: (فَكَانَ
أول شَيْء رأى من النُّبُوَّة) ، وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : وَكَانَ ابْن عَبَّاس أَرَادَ بقوله: أول
شَيْء رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
النُّبُوَّة أَن قيل لَهُ: استتر، وَهُوَ غُلَام، هَذِه
الْقِصَّة، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن لَهِيعَة
عَن أبي الزبير، قَالَ: سَأَلت جَابِرا: هَل يقوم الرجل
عُريَانا؟ فَقَالَ: أَخْبرنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَنه لما انْهَدَمت الْكَعْبَة نقل كل بطن من
قُرَيْش، وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نقل
مَعَ الْعَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَانُوا
يضعون ثِيَابهمْ على الْعَوَاتِق، فيتقوون بهَا أَي: عل
حمل الْحِجَارَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: فاعتقلت رجْلي، فحررت وَسقط ثوبي، فَقلت
للْعَبَّاس: هَلُمَّ ثوبي فلست أتعرى بعْدهَا إلاَّ لغسل.
وَابْن لَهِيعَة فِيهِ مقَال، وَفِي رِوَايَة أَن الْملك
نزل فَشد عَلَيْهِ إزَاره. قَوْله: (فطمحت عَيناهُ) أَي:
شخصتا وارتفعتا، وَقَالَ ابْن سَيّده: طمح ببصره يطمح
طمحا، شخص وَقيل، رمي بِهِ إِلَى الشَّيْء، وَرجل طماح
بعيد الطّرف، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن أبي جريج
فِي أَوَائِل (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) : ثمَّ أَفَاق.
قَوْله: (أَرِنِي إزَارِي) ، قَالَ ابْن التِّين: ضَبطه
بِإِسْكَان الرَّاء وبكسرها، قَالَ وَالْكَسْر أحسن عِنْد
بعض أهل اللُّغَة، لِأَن مَعْنَاهُ: أَعْطِنِي، وَلَيْسَ
مَعْنَاهُ من الرُّؤْيَة، وَوَقع فِي (شرح ابْن بطال) :
إزَارِي إزَارِي، مكررا وَمَعْنَاهُ صَحِيح إِن ساعدته
الرِّوَايَة، قَوْله: (فشده عَلَيْهِ) زَاد زَكَرِيَّا بن
إِسْحَاق: (فَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك عُريَانا) .
3851 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ
عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ عبدِ الله أنَّ عَبْدَ
الله بنَ مُحَمَّدٍ بنِ أبي بَكْرَ أخبر عبدَ الله بنَ
عُمَرَ عَن عائشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَها ألَمْ تَرَيْ أنَّ
قَوْمَكِ لَمَّا بَنُوا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عنْ
قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ فقُلْتُ يَا رَسولَ الله أَلا
تَرُدُّهَا عَلى قَوَاعِدِ إبرَاهِيمَ قَالَ لَوْلا
حِدْثانُ قومِكِ بِالكُفْرِ لفَعلْتُ. فَقَالَ عَبْدُ الله
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَئِنْ كانتْ عائِشةُ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا سَمِعَتْ هاذا مِنْ رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أُرَى رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ترَكَ استِلاَمَ الرُّكْعَتَيْنِ
اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلاَّ أنَّ الْبَيْتَ لَمْ
يُتَمَّمْ عَلَى قَواعِدِ إبْرَاهِيمَ..
حَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ من أَرْبَعَة طرق على مَا
يَأْتِي، فَإِن قلت: مَا وَجه إِيرَاده فِي: بَاب فضل
مَكَّة، والْحَدِيث فِي شَأْن الْكَعْبَة؟ قلت: قد ذكرنَا
فِي أول الْبَاب أَن بُنيان الْكَعْبَة، لما كَانَ سَببا
لبنيان مَكَّة، اكْتفى بِهِ، وَمَا كَانَ من فضل
الْكَعْبَة فمكة دَاخِلَة فِيهِ، وَالله تَعَالَى ذكر فضل
مَكَّة فِي غير مَوضِع من كِتَابه، وَمن أعظم فَضلهَا
أَنه، عز وَجل، فرض على عباده حَجهَا، وألزمهم قَصدهَا،
وَلم
(9/215)
يقبل من أحد صَلَاة إِلَّا باستقبالها،
وَهِي قبْلَة أهل دينه أَحيَاء وأمواتا.
وَرِجَال هَذَا الطَّرِيق قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن
شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن
مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام،
عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي التَّفْسِير عَن
إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى
عَن مَالك بِهِ، وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَأبي
الطَّاهِر ابْن السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الْعلم وَفِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، والْحَارث بن مِسْكين
كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي
بكر) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أبي بكر بن قُحَافَة.
قَوْله: (أخبر عبد الله بن عمر) بِنصب، عبد الله على
المفعولية، وَالْفَاعِل مُضْمر. قَوْله: (عَن عَائِشَة) ،
مُتَعَلق بقوله: (أخبر) ، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام
يَقْتَضِي حُضُور سَالم، لذَلِك فَيكون من رِوَايَته عَن
عبد الله بن مُحَمَّد. قَوْله: (ألم تري) أَي: ألم تعرفي.
قَوْله: (أَن قَوْمك) ، هم قُرَيْش. قَوْله: (اقتصروا عَن
قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام) وَالْقَوَاعِد
جمع قَاعِدَة، وَهِي الأساس أصل ذَلِك، وَمَا روى (عَن عبد
الله بن عمر قَالَ: لما أهبط الله تَعَالَى آدم من
الْجنَّة، قَالَ: إِنِّي مهبط مَعَك أَو منزل مَعَك بَيْتا
يُطَاف حوله، كَمَا يُطَاف حول عَرْشِي وَيصلى عِنْده،
كَمَا يصلى عِنْد عَرْشِي، فَلَمَّا كَانَ زمن الطوفان
رفع، فَكَانَت الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، يحجونه وَلَا يعلمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى بوأه
الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وأعلمه مَكَانَهُ) . فبناه من خَمْسَة أجبل
كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَعَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد وَغَيره من أهل الْعلم
أَن الله تَعَالَى لما بوأ لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَكَان الْبَيْت خرج إِلَيْهِ من
الشَّام وَمَعَهُ إِسْمَاعِيل، وَأمه وَهُوَ طِفْل يرضع،
وحملوا على الْبراق، وَمَعَهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، يدله على مَوَاضِع الْبَيْت، ومعالم الْحرم،
فَكَانَ لَا يمر بِقُرْبِهِ إلاَّ قَالَ: بِهَذِهِ أمرت
يَا جِبْرِيل؟ فَيَقُول: جِبْرِيل أمضه حَتَّى قدم بِهِ
مَكَّة وَهِي إِذْ ذَاك عضاه سلم وَسمر وَبهَا أنَاس،
وَيُقَال لَهُم: العماليق، خَارج مَكَّة وَمَا حولهَا،
وَالْبَيْت يَوْمئِذٍ ربوة حَمْرَاء مَدَرَة، فَقَالَ
إِبْرَاهِيم لجبريل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، أههنا أمرت
أَن أضعهما، قَالَ: نعم فَعمد بهما إِلَى مَوضِع الْحجر،
فأنزلهما فِيهِ وَأمر هَاجر أَن تتَّخذ فِيهِ عَرِيشًا
ثمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
إِلَى أَهله، والقصة طَوِيلَة عرفت فِي موضعهَا. ثمَّ
إِنَّه بدا لإِبْرَاهِيم فَقَالَ لأَهله: أَنِّي مطلع
تركتي، فجَاء فَوَافَقَ إِسْمَاعِيل من وَرَاء زَمْزَم
يصلح نبْلًا لَهُ، فَقَالَ يَا إِسْمَاعِيل: إِن رَبك، عز
وَجل، أَمرنِي أَن أبني لَهُ بَيْتا، فَقَالَ: أطع رَبك،
عز وَجل، قَالَ: إِنَّه أَمرنِي أَن تعينني عَلَيْهِ،
قَالَ: إِذا افْعَل أَو كَمَا قَالَ، قَالَ: فَقَامَ فَجعل
إِبْرَاهِيم يَبْنِي وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة،
وَعَن السّديّ أخذا المعاول لَا يدريان أَيْن الْبَيْت،
فَبعث الله ريحًا يُقَال لَهَا: الحجوج، لَهَا جَنَاحَانِ
وَرَأس فِي صُورَة حَيَّة، فدلت لَهما مَا حول الْبَيْت
على أساس الْبَيْت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حَتَّى
وضعا الأساس، فَلَمَّا بنيا الْقَوَاعِد وبلغا مَكَان
الرُّكْن قَالَ: يَا إِسْمَاعِيل، أطلب لي حجرا حسنا
أَضَعهُ هُنَا، قَالَ: يَا أبه، إِنِّي لغب. قَالَ: عَليّ
ذَلِك، فَانْطَلق يتطلب حجرا، وَجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْحجرِ الْأسود من الْهِنْد،
وَكَانَ ياقوتة بَيْضَاء مثل النعامة، وَكَانَ آدم
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط بِهِ من الْجنَّة،
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل الْحجر، قَالَ: يَا أبه من
جَاءَك بِهَذَا؟ قَالَ: من هُوَ أنشط مِنْك. وَفِي
(الدَّلَائِل) للبيهقي: عَن عبد الله بن عَمْرو: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث الله عز وَجل،
جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى آدم
وحواء عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهما:
ابنيا لي بَيْتا، فحط لَهما جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَجعل آدم يحْفر، وحواء تنقل حَتَّى
أَصَابَهُ المَاء نُودي من تَحت حَسبك يَا آدم، فَلَمَّا
بناه أوحى الله إِلَيْهِ أَن يطوف بِهِ، وَقيل لَهُ: أَنْت
أول النَّاس، وَهَذَا أول بَيت، ثمَّ تناسخت الْقُرُون
حَتَّى حجه نوح. عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ تناسخت
الْقُرُون حَتَّى رفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْهُ.
وَفِي كتاب (التيجان) : لما عَبث قوم نوح، عَلَيْهِ
السَّلَام، وهدموا الْكَعْبَة قَالَ الله تَعَالَى لَهُ:
انْتظر الْآن هلاكهم إِذا فار التَّنور. وَفِي كتاب
الْأَزْرَقِيّ: جعل إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، طول بِنَاء الْكَعْبَة فِي السَّمَاء تِسْعَة
أَذْرع، وطولها فِي الأَرْض ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، وعرضها
فِي الأَرْض اثْنَيْنِ وَعشْرين ذِرَاعا، وَكَانَت بِغَيْر
سقف، وَلما بنتهَا قُرَيْش جعلُوا طولهَا ثَمَانِي عشر
ذِرَاعا فِي السَّمَاء، ونقصوا من طولهَا فِي الأَرْض
سِتَّة أَذْرع وشير، وتركوها فِي الْحجر، وَلما بناها ابْن
الزبير جعل طولهَا فِي السَّمَاء عشْرين ذِرَاعا، وَلم
يُغير الْحجَّاج طولهَا حِين هدمها، وَهُوَ إِلَى الْآن
على ذَلِك، وَقيل: إِنَّه بنى فِي أَيَّام جرهم مرّة أَو
مرَّتَيْنِ، لِأَن السَّيْل كَانَ قد صدع حَائِطه، وَقيل:
لم يكن بنيانا إِنَّمَا كَانَ إصلاحا لما وهى مِنْهُ،
وجدار بني
(9/216)
بَينه وَبَين السَّيْل بناه عَامر الجادر.
وَعَن عَليّ، لما بناه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، مر عَلَيْهِ الدَّهْر فانهدم، فبنته جرهم،
فَمر عَلَيْهِ الدَّهْر فانهدم، فبنته قُرَيْش وَرَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمئِذٍ شَاب. وَصحح
الْحَاكِم أصل هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن شهَاب: لما
بلغ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْحلم أجمرت
امْرَأَة الْكَعْبَة، فطارت شرارة من مجمرتها فِي بَاب
الْكَعْبَة، فاحترقت، فهدموها. فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي وضع
الرُّكْن دخل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَهُوَ غُلَام عَلَيْهِ وشاح نمرة، فحكموه فَأمر بِثَوْب
... الحَدِيث، وَفِيه: فَوَضعه هُوَ فِي مَكَانَهُ ثمَّ
طفق لَا يزْدَاد على ألسن الأَرْض حَتَّى دَعوه الْأمين،
وَعند مُوسَى بن عقبَة: كَانَ بنيانها قبل الْبعْثَة
بِخمْس عشرَة سنة، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعُرْوَة
وَمُحَمّد بن جُبَير بن مطعم وَغَيرهم. وَقَالَ مُحَمَّد
بن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة) : وَلما بلغ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خمْسا وَثَلَاثِينَ أَجمعت قُرَيْش
لبنيان الْكَعْبَة، وَكَانُوا يهمون لذَلِك ليسقفوها
ويهابون هدمها، وَإِنَّمَا كَانَت رضما فَوق الْقَامَة،
فأرادوا رَفعهَا وتسقيفها، وَذَلِكَ أَن نَفرا سرقوا كنز
الْكَعْبَة، وَإِنَّمَا يكون فِي بِئْر فِي جَوف
الْكَعْبَة، وَكَانَ الَّذِي وجد عِنْده الْكَنْز دويك
مولى بني مليح بن عَمْرو من خُزَاعَة، فَقطعت قُرَيْش
يَده، وَيَزْعُم النَّاس أَن الَّذين سَرقُوهُ وضعوه عِنْد
دويك، وَكَانَ الْبَحْر قد رمى بسفينة إِلَى جدة لرجل من
تجار الرّوم فتحطمت فَأخذُوا خشبها فأعدوه لتسقيفها،
وَكَانَ بِمَكَّة رجل قبْطِي نجار فتهيأ لَهُم، فِي أنفسهم
بعض مَا يصلحها، وَكَانَت حَيَّة تخرج من بِئْر الْكَعْبَة
الَّتِي كَانَت تطرح فِيهَا مَا يهدى لَهَا كل يَوْم،
فتشرف على جِدَار الْكَعْبَة، وَكَانَت مِمَّا يهابون
ذَلِك أَنه كَانَ لَا يدنو مِنْهَا أحد إلاَّ أخزلت، وكشطت
وَفتحت فاها، وَكَانُوا يهابونها، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْم
تشرف على جِدَار الْكَعْبَة، كَمَا كَانَت تصنع بعث الله
إِلَيْهَا طائرا، فاختطفها، فَذهب بهَا فَقَالَت قُرَيْش:
إِنَّا لنَرْجُو أَن يكون الله تَعَالَى، رَضِي مَا
أردنَا، عندنَا عَامل رَفِيق، وَعِنْدنَا خشب، وكفانا الله
الْحَيَّة، ثمَّ اجْتمعت الْقَبَائِل من قُرَيْش فَجمعُوا
الْحِجَارَة لبنائها، كل قَبيلَة على حِدة، ثمَّ بنوها
حَتَّى بلغ الْبُنيان مَوضِع الرُّكْن، يَعْنِي: الْحجر
الْأسود، فاختصموا فِيهِ، كل قَبيلَة تُرِيدُ أَن ترفعه
إِلَى مَوْضِعه دون الْأُخْرَى، فآخر الْأَمر إِن أَبَا
أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمرَان بن مَخْزُوم
كَانَ عامئذ أسن قُرَيْش كلهم، فَقَالَ: يَا معشر قُرَيْش
إجعلوا بَيْنكُم فِيمَا تختلفون فِيهِ أول من يدْخل من
بَاب هَذَا الْمَسْجِد يقْضِي بَيْنكُم فِيهِ، فَقَالُوا:
وَكَانَ أول دَاخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأمين رَضِينَا، هَذَا
مُحَمَّد، فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلُمَّ إليَّ ثوبا، فأُتي لَهُ،
فَأخذ الرُّكْن يَعْنِي: الْحجر الْأسود فَوَضعه فِيهِ
بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ: لتأْخذ كل قَبيلَة بِنَاحِيَة من
الثَّوْب، ثمَّ ارفعوه جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذا
بلغُوا بِهِ مَوْضِعه وَضعه هُوَ بِيَدِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (لَوْلَا حدثان قَوْمك) ، الْحدثَان، بِكَسْر
الْحَاء الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، بِمَعْنى:
الْحُدُوث، مَعْنَاهُ: قرب عَهدهم بالْكفْر، وَخبر
الْمُبْتَدَأ مَحْذُوف. قَوْله: (لفَعَلت) ، أَي: لرددتها
على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم. قَوْله: (قَالَ) أَي: عبد الله
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ويروى: فَقَالَ: وَقَالَ،
بِالْفَاءِ وَالْوَاو، ويروى: قَالَ عبد الله. قَوْله:
(لَئِن كَانَت عَائِشَة) ، لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْهُ
على سَبِيل التَّضْعِيف لروايتها والتشكيك فِي صدقهَا،
لِأَنَّهَا كَانَت صديقَة حافظة ضابطة، غَايَة مَا يُمكن
بِحَيْثُ لَا تستراب فِي حَدِيثهَا، وَلَكِن كثيرا يَقع
فِي كَلَام الْعَرَب صُورَة التشكيك، وَالْمرَاد بِهِ
التَّقْرِير وَالْيَقِين. كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن
أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم} (الْأَنْبِيَاء: 111) . و
{قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} (سبأ: 05) .
قَوْله: (مَا أرى) ، بِضَم الْهمزَة أَي: مَا أَظن، وَهِي
رِوَايَة معمر، وَزَاد فِي آخر الحَدِيث: (وَلَا طَاف
النَّاس من وَرَاء الْحجر إلاَّ لذَلِك) قَوْله: (استلام
الرُّكْنَيْنِ) الاستلام افتعال من السَّلَام، يُقَال:
اسْتَلم الْحجر إِذا لمسه، وَالْمرَاد: لمس الرُّكْنَيْنِ
بالقبلة أَو بِالْيَدِ. قَوْله: (يليان الْحجر) ، أَي:
يقربان من الْحجر، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون
الْجِيم، وَهُوَ مَعْرُوف على صفة نصف الدائرة، وقدرها تسع
وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا وَقَالُوا: سِتَّة أَذْرع مِنْهُ
مَحْسُوب من الْبَيْت بِلَا خلاف، وَفِي الزَّائِد خلاف.
قَوْله: (إِلَّا أَن الْبَيْت) ، أَي: الْكَعْبَة (لم يتمم
على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم الَّتِي رَفعهَا) ، يُرِيد: أَن
كَانَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر سلم من السَّهْو
فِي نَقله عَن عَائِشَة، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك ذَلِك
... إِلَى آخِره، فَأخْبر ابْن عمر أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ترك استلامهما، وَمُقْتَضَاهُ أَنه قصد تَركهمَا،
وإلاَّ فَلَا يُسمى تَارِكًا فِي الْعرف من أَرَادَ من
الْكَعْبَة شَيْئا فَمَنعه مِنْهُ مَانع، فَكَانَ ابْن عمر
علم ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاستلام وَلم
يعلم علته، فَلَمَّا أخبرهُ عبد الله بن مُحَمَّد بِخَبَر
عَائِشَة هَذَا عرف عِلّة ذَلِك، وَهُوَ كَونهمَا لَيْسَ
على الْقَوَاعِد، بل أخرج مِنْهُ بعض الْحجر وَلم يبلغ
بِهِ ركن الْبَيْت الَّذِي من تِلْكَ الْجِهَة، والركنان
اللَّذَان الْيَوْم من
(9/217)
جِهَة الْحجر لَا يستلمان كَمَا لَا
يسْتَلم سَائِر الْجدر، لِأَنَّهُ حكم مُخْتَصّ بالأركان،
وَعَن عُرْوَة وَمُعَاوِيَة: استلام الْكل، وَأَنه لَيْسَ
من الْبَيْت شَيْء مهجور، وَذكر عَن ابْن الزبير أَيْضا،
وَكَذَا عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَالْحُسَيْن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا
يسْتَلم إِلَّا الرُّكْن الْأسود خَاصَّة، وَلَا يسْتَلم
الْيَمَانِيّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسنة، فَإِن استلمه فَلَا
بَأْس.
4851 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أَبُو الأحْوَصِ
قَالَ حدَّثنا الأشْعَثُ عنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عنْ
عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ سألْتُ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الجَدْرِ أمِنَ
البيْتِ هُوَ قَالَ نَعَم قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمُ
يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ قَالَ إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ
بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلتُ فمَا شأنُ بابِهِ مُرتَفِعا قالَ
فَعلَ ذالِكَ قَومُكِ لِيُدْخِلوا مَنْ شاؤا ويَمْنَعُوا
منْ شاؤوا ولَوْلاَ أنَّ قَوْمَكِ حَديثٌ عَهدُهُمْ
بِالجَاهِلِيَّةِ فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلوبُهُمْ أنْ
أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ وأنْ أُلْصِقَ بابَهُ
بالأرْضِ..
هَذَا طَرِيق ثَان فِي حَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ عَن
مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص سَلام بن سليم الْحَنَفِيّ عَن
الْأَشْعَث بن أبي الشعْثَاء الْمحَاربي عَن الْأسود بن
يزِيد.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور عَن
أبي الْأَحْوَص وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَكَذَا أخرجه
ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن الْجدر) ، بِفَتْح الْجِيم
وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: الْجِدَار،
وَقَالَ الْخَلِيل: الْجدر لُغَة فِي الْجِدَار، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وبضم الْجِيم أَيْضا، وَالظَّاهِر أَنه وهم،
لِأَن المُرَاد الْحجر، وَفِي (مُسْند الطَّيَالِسِيّ) :
عَن أبي الْأَحْوَص شيخ مُسَدّد فِيهِ الْجدر أَو الْحجر
بِالشَّكِّ، وَعند أبي عوَانَة من طَرِيق شَيبَان عَن
الْأَشْعَث: الْحجر بِلَا شكّ. قَوْله: (أَمن الْبَيْت
هُوَ؟) الْهمزَة فِيهِ للإستفهام. قَوْله: (وَهُوَ) أَي:
الْجدر. قَوْله: (قَالَ نعم) أَي: قَالَ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: نعم الْجدر من الْبَيْت، هَذَا يدل
على أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وَبِذَلِك كَانَ يُفْتِي
عبد الله بن عَبَّاس، كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن
أَبِيه عَن مرْثَد بن شُرَحْبِيل، قَالَ: سَمِعت ابْن
عَبَّاس، يَقُول: لَو وليت من الْبَيْت مَا ولي ابْن
الزبير لأدخلت الْحجر كُله فِي الْبَيْت، فلِمَ يُطاف بِهِ
إِن لم يكن من الْبَيْت؟ وروى التِّرْمِذِيّ: قَالَ:
حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن
عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه (عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: كنت أحب أَن أَدخل
الْبَيْت فأُصلي فِيهِ، فَأخذ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بيَدي فَأَدْخلنِي الْحجر، فَقَالَ: صلي
فِي الْحجر إِن أردْت دُخُول الْبَيْت فَإِنَّمَا هُوَ
قِطْعَة من الْبَيْت، وَلَكِن قَوْمك استقصروه حِين بنوا
الْكَعْبَة فأخرجوه من الْبَيْت) . قَالَ أَبُو عِيسَى:
هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ عَلْقَمَة ابْن أبي
عَلْقَمَة بن بِلَال. قلت: أما أمه فاسمها مرْجَانَة،
ذكرهَا ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد
عَن القعْنبِي، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد
وَهُوَ الدَّرَاورْدِي، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من
رِوَايَة سعيد بن جُبَير (أَن عَائِشَة قَالَت: يَا رَسُول
الله، كل نِسَائِك دخل الْكَعْبَة غَيْرِي؟ قَالَ: فانطلقي
إِلَى قرابتك شيبَة يفتح لَك الْكَعْبَة، فَأَتَتْهُ،
فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَالله
مَا فتحت بلَيْل قطّ فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام،
وَإِن أَمرتنِي أَن أفتحها فتحتها. قَالَ: لَا، ثمَّ
قَالَ: إِن قَوْمك قصرت بهم النَّفَقَة فقصروا فِي
الْبُنيان، وَإِن الْحجر من الْبَيْت فاذهبي فَصلي فِيهِ)
. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي
هَذَا الحَدِيث: أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وَهُوَ
ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي (الْمُخْتَصر) . وَمُقْتَضى
كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابه كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح، وَعَلِيهِ نَص
الشَّافِعِي، وَبِه قطع جَمَاهِير أَصْحَابنَا، قَالَ:
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا رَجحه ابْن الصّلاح قبله،
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الصَّحِيح أَن لَيْسَ كُله من
الْبَيْت، بل الَّذِي هُوَ من الْبَيْت قدر سِتَّة أَذْرع
مُتَّصِل بِالْبَيْتِ، وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو
مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَابْنه إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا
رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث عهد بشركٍ
لهدمت الْكَعْبَة وألزقتها بِالْأَرْضِ، د ولجعلت لَهَا
بَابَيْنِ: بَابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فِيهَا سِتَّة
أَذْرع من الْحجر فَإِن قُريْشًا اقتصرتها حِين بنت
الْكَعْبَة) .
وَقَالَ ابْن الصّلاح اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَات، فِيهِ،
فَفِي رِوَايَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : الْحجر من
الْبَيْت، وَرُوِيَ سِتَّة أَذْرع أَو نَحْوهَا، وَرُوِيَ
خَمْسَة أَذْرع،
(9/218)
وَرُوِيَ قَرِيبا من سبع. قَالَ ابْن
الصّلاح: وَإِذا اضْطَرَبَتْ الروايت تعين الْأَخْذ
بأكثرها ليسقط الْفَرْض بِيَقِين.
وَقَالَ بَعضهم: بعد أَن ذكر حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ، وَبعد أَن قَالَ: وَنَحْوه لأبي دَاوُد من
طَرِيق صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، وَلأبي عوَانَة من طَرِيق قَتَادَة عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة وَلأَحْمَد من طَرِيق سعيد بن جُبَير
عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: هَذِه
الرِّوَايَات كلهَا مُطلقَة، وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح
مِنْهَا مُقَيّدَة. لمُسلم من طَرِيق أبي قزعة عَن
الْحَارِث بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا: فِي حَدِيث الْبَاب: حَتَّى أَزِيد فِيهِ من
الْحجر، وَله من وَجه آخر عَن الْحَارِث عَنْهَا: (فَإِن
بدا لقَوْمك أَن يبنوه بعدِي فهلمي لأريك مَا تَرَكُوهُ
مِنْهُ، فأراها قَرِيبا من سَبْعَة أَذْرع) ، ثمَّ ذكر
الرِّوَايَات المضطربة فِيهِ الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب،
ثمَّ قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا تَجْتَمِع على
أَنَّهَا فَوق السِّتَّة وَدون السَّبْعَة انْتهى. قلت:
قَوْله: وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح مِنْهَا، غير مُسلم،
لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن الْحجر كُله من
الْبَيْت، وأصرح مِنْهُ حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي
لَفظه: (إِن الْحجر من الْبَيْت) ، فَكل ذَلِك صَحِيح،
وترجيح رِوَايَة الْحَارِث عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، على رِوَايَة الْأسود بن يزِيد عَنْهَا
بالأصحية لَا دَلِيل عَلَيْهِ، ثمَّ تكلّف فِي الْجمع بَين
هَذِه الرِّوَايَات بِالْكَسْرِ والجبر. فَالْأَوْجه
والأصوب فِيهِ مَا قَالَه ابْن الصّلاح، وَهُوَ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ آنِفا. ثمَّ إِن ثَبت أَن الْحجر كُله أَو بعضه
من الْبَيْت فَلَا تصح صَلَاة كل مُسْتَقْبل شَيْئا
مِنْهُ، وَهُوَ غير مُسْتَقْبل لشَيْء من الْكَعْبَة،
وَذَلِكَ لِأَن الْأَحَادِيث فِي هَذَا آحَاد، إِنَّمَا
تفِيد الظَّن، وَقد أمرنَا باستقبال الْمَسْجِد الْحَرَام
يَقِينا على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي التَّفْصِيل بَين
الْحَاضِر والبعيد، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب عِنْد
الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ
الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ أَنه لَا يَصح اسْتِقْبَال
شَيْء من الْحجر فِي الصَّلَاة مَعَ عدم اسْتِقْبَال شَيْء
من الْكَعْبَة.
قَوْله: (قصرت بهم النَّفَقَة) ، بِفَتْح الصَّاد
الْمُشَدّدَة أَي النَّفَقَة الطّيبَة الَّتِي أخرجوها،
ويروى، قصرت، بِضَم الصَّاد المخففة، وروى أَبُو إِسْحَاق
فِي (السِّيرَة) : عَن عبد الله بن أبي نجيح أَنه أخبر عَن
عبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة أَن وهب بن عَائِد بن
عمرَان بن مَخْزُوم، وَهُوَ جد جعدة بن هُبَيْرَة بن أبي
وهب المَخْزُومِي، قَالَ لقريش: لَا تدْخلُوا فِيهِ من
كسبكم إلاَّ طيبا، وَلَا تدْخلُوا فِيهِ مهر بغي وَلَا بيع
رَبًّا وَلَا مظْلمَة من أحد من النَّاس. قَوْله:
(ليدخلوا) ، من الإدخال، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي:
يدخلُوا، بِغَيْر لَام، وَفِي لفظ مُسلم: (هَل تدرين لِمَ
كَانَ قَوْمك رفعوا بَابهَا؟ قَالَت: قلت: لَا. قَالَ:
تَحَرُّزًا أَن لَا يدخلهَا إلاَّ من أَرَادوا، وأفَكان
الرجل إِذا هُوَ أَرَادَ أَن يدخلهَا يَدعُونَهُ يرتقي
حَتَّى إِذا كَاد أَن يدْخل دفعوه فَسقط؟) قَوْله: (حَدِيث
عَهدهم) ، بتنوين: حَدِيث، و: الْعَهْد، مَرْفُوع
لِأَنَّهُ فَاعله، ويروى بِإِضَافَة: حَدِيث، إِلَى:
عَهدهم. قَوْله: (بالجاهلية) بِالْألف وَاللَّام فِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بجاهلية،
بِدُونِ الْألف وَاللَّام. فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب:
لَوْلَا؟ قلت: مَحْذُوف تَقْدِيره: لأدخلت الْجدر فِي
الْبَيْت. قَوْله: (فَأَخَاف أَن تنكر قُلُوبهم) ، وَفِي
رِوَايَة شَيبَان عَن أَشْعَث: تنفر، بِالْفَاءِ بدل
الْكَاف، وَنقل ابْن بطال عَن بعض عُلَمَائهمْ أَن النفرة
الَّتِي خشيها، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن ينسبوه إِلَى
الإنفراد بالفخر دونهم. قَوْله: (أَن أَدخل الْجدر) .
كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أَخَاف إِنْكَار
قُلُوبهم بِإِدْخَال الْجدر فِي الْبَيْت. قَوْله: (وَأَن
ألصق) ، عطف على مَا قبله، أَي: وَبِأَن ألصق أَي: وبإلصاق
بَابه بِالْأَرْضِ.
5851 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
أبُو أُسامةَ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قالَ لِي رَسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ حدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ
لنَقَضْتُ البَيْتَ ثُمَّ لَبَنيْتُهُ علَى أساسِ
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلامُ، فإنَّ قُرَيْشا
اسْتَقْصَرَتْ بِناءهُ وجَعَلَتْ لهُ خَلْفا قَالَ أبُو
مُعَاوِيَةَ حَدثنَا هِشامٌ خَلْفا يَعْني بَابا..
هَذَا طَرِيق ثَالِث فِي طَرِيق عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ عَن عبيد، بِضَم الْعين: إِبْنِ
إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى أَبَا
مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن
أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة ابْن
الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (عَن أَبِيه عَن عَائِشَة) ، كَذَا رَوَاهُ مُسلم
أَيْضا من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة، وَالنَّسَائِيّ من
(9/219)
طَرِيق عَبدة بن سُلَيْمَان، وَأَبُو
عوَانَة من طَرِيق عَليّ بن مسْهر، وَأحمد عَن عبد الله بن
نمير، كلهم عَن هِشَام، وَخَالفهُم الْقَاسِم بن معن
فَرَوَاهُ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن أَخِيه عبد الله بن
الزبير عَن عَائِشَة، أخرجه أَبُو عوَانَة، وَرِوَايَة
الْجَمَاعَة أرجح لِأَن رِوَايَة عُرْوَة عَن عَائِشَة
لهَذَا الحَدِيث مَشْهُورَة من غير وَجه كَذَا قَالَه
بَعضهم. قلت: لَا مَانع أَن يكون عُرْوَة قد سمع من
عَائِشَة بِدُونِ وَاسِطَة، وَسمع أَيْضا عَن أَخِيه
عَنْهَا بِوَاسِطَة. قَوْله: (وَجعلت) ، بِضَم التَّاء على
صِيغَة الْمُتَكَلّم عطفا على قَوْله: (لبنيته) ، وضبطها
الْقَابِسِيّ: بِفَتْح اللَّام وَسُكُون التَّاء عطفا على
قَوْله: (استقصرت) . قَوْله: (خلفا) ، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا فَاء، أَي: بَابا،
وَضَبطه الْحَرْبِيّ فِي (الْغَرِيب) بِكَسْر الْخَاء.
قَوْله: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة) ، وَهُوَ مُحَمَّد بن
خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالزاي: الضَّرِير،
حَدثنَا هِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة خلفا يَعْنِي بَابا،
يَعْنِي فسهر بِالْبَابِ، وَهَذَا مُعَلّق وَصله مُسلم،
قَالَ: حَدثنَا يحيى ابْن يحيى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو
مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (لَوْلَا حَدَاثَة عهد قَوْمك
بالْكفْر لنقضت الْكَعْبَة ولجعلتها على أساس إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِن قُريْشًا حِين بنت الْبَيْت
استقصرت، ولجعلت لَهَا خلفا) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ
أَيْضا.
6851 - حدَّثنا بَيانُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حَدثنَا يَزِيدُ
قَالَ حدَّثنا جريرُ بنُ حازِمٍ قَالَ حدَّثنا يَزيدُ ابنُ
رُومَانَ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لَها
يَا عَائِشَةَ لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ
بِجَاهِلِيَّةٍ لأمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فأدْخَلْتُ
فِيهِ مَا أخْرِجَ مِنْهُ وَألْزَقْتُهُ بالأرْضِ
وجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابا شرْقِيا وبَابا غرْبِيا
فبلَغْتُ بِهِ أساسَ إبْرَاهِيمَ فذالِكَ الَّذِي حَمَلَ
ابنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَلى
هَدْمِهِ. قالَ يَزِيدُ وشَهِدْتُ ابنَ الزُّبَيْرِ حِينَ
هَدَمَهُ وبَناهُ وأدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ وقَدْ
رأيْتُ أسَاسَ إبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كأسْنِمَةِ الإبِلِ
قَالَ جَرِيرٌ فقُلْتُ لَهُ أيْنَ مَوْضِعُهُ قَالَ
أُرِيكِهُ الآنَ فدَخَلْتُ معَهُ الحِجْرَ فأشارَ إلَى
مكانٍ فقالَ هاهُنَا قَالَ جَرير فَحزَرْتُ مِنَ الحِجْرِ
سَتَّةَ أذْرُعٍ..
هَذَا طَرِيق رَابِع فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: بَيَان، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد
الْألف نون: ابْن عَمْرو، بِالْوَاو، وَقد مر فِي: بَاب
تعاهد رَكْعَتي الْفجْر، الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة
ابْن هَارُون، وَقد مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت.
الثَّالِث: جرير، بِفَتْح الْجِيم ابْن حزم، بِالْحَاء
الْمُهْملَة وبالزاي. الرَّابِع: يزِيد من الزِّيَادَة
ابْن رُومَان، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَتَخْفِيف
الْمِيم وَبعد الْألف نون: مولى آل الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: عَائِشَة، أم
الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن شَيْخه من أَفْرَاده من أهل بخارء من قصر كج خَارج
الدَّرْب، وَإِن يزِيد بن هَارُون واسطي وَأَن جرير بن
حَازِم بَصرِي وَأَن يزِيد بن رُومَان وَعُرْوَة مدنيان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام عَن يزِيد بن هَارُون عَن
جرير ابْن حَازِم.
قَوْله: (عَن عُرْوَة) ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من
أَصْحَاب يزِيد بن هَارُون عَنهُ، وَكَذَا عِنْد أَحْمد بن
حَنْبَل وَأحمد ابْن سِنَان وَأحمد بن منيع فِي (مسانيدهم)
وَكَذَا عِنْد النَّسَائِيّ والزعفراني والإسماعيلي، كلهم
عَن يزِيد بن هَارُون، وَخَالفهُم الْحَارِث ابْن أبي
أُسَامَة فَرَوَاهُ عَن يزِيد بن هَارُون، فَقَالَ: عَن
عبد الله بن الزبير، بدل: عُرْوَة بن الزبير، وَهَكَذَا
أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي الْأَزْهَر عَن وهب
بن جرير بن حَازِم عَن أَبِيه. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ:
إِن كَانَ أَبُو الْأَزْهَر ضَبطه فَكَأَن يزِيد ابْن
رُومَان سَمعه من الأخوان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَدِيث عهد) ، بِالْإِضَافَة
عِنْد جَمِيع الروَاة، قَالَ المطرزي: لَا يجوز حذف
الْوَاو فِي مثل هَذَا، وَالصَّوَاب: حديثوا الْعَهْد.
قَوْله: (مَا أخرج مِنْهُ) ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ
مفعول. قَوْله: (فأدخلت) ، و (مَا أخرج مِنْهُ) ، هُوَ
(9/220)
الْمُسَمّى بِالْحجرِ. قَوْله (وألزقته) ،
أَي: أَلْصَقته بِحَيْثُ يكون بَابه على وَجه الأَرْض غير
مُرْتَفع. قَوْله: (بَابا شرقيا) ، هُوَ مثل الْمَوْجُود
الْيَوْم، فَفِيهِ ثَلَاث تَصَرُّفَات على خلاف مَا بنى
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (فَذَلِك
الَّذِي حمل ابْن الزبير) أَي عبد الله بن الزبير، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على هَدمه أَي: هدم الْبَيْت،
وَزَاد وهب فِي رِوَايَته: وبنائه. قَوْله: (قَالَ يزِيد)
، هُوَ ابْن رُومَان، أَي: قَالَ بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور. قَوْله: (وَشهِدت ابْن الزبير) إِلَى قَوْله:
(كأسنمة الْإِبِل) ، هَكَذَا ذكره يزِيد ابْن رُومَان
مُخْتَصرا، وَقد رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عَطاء بن أبي
رَبَاح مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا هناد بن السّري، قَالَ:
حَدثنَا ابْن أبي زَائِدَة، قَالَ: أخبرنَا ابْن أبي
سُلَيْمَان (عَن عَطاء قَالَ: لما احْتَرَقَ الْبَيْت، زمن
يزِيد بن مُعَاوِيَة حِين غزاه أهل الشَّام فَكَانَ من
أمره مَا كَانَ، تَركه ابْن الزبير حَتَّى قدم النَّاس
الْمَوْسِم يُرِيد أَن يخزيهم أَو يحزنهم على أهل الشَّام،
فَلَمَّا صدر النَّاس قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس!
أَشِيرُوا عليَّ فِي الْكَعْبَة أنقضها ثمَّ أبني بناءها
وَأصْلح مَا وَهَى مِنْهَا؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس:
فَأَنِّي قد فرق لي رَأْي فِيهَا، أرى أَن تصلح مَا وهَى
مِنْهَا وَتَدَع بَيْتا أسلم النَّاس عَلَيْهِ، وأحجارا
أسلم النَّاس عَلَيْهَا، وَبعث عَلَيْهَا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ ابْن الزبير: لَو كَانَ
أحدكُم احْتَرَقَ بَيته مَا رَضِي حَتَّى يجدده، فَكيف
بَيت ربكُم؟ إِنِّي مستخير رَبِّي ثَلَاثًا، ثمَّ عازم على
أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَت ثَلَاث أجمع رَأْيه على أَن
ينْقضه، فتحاماه النَّاس أَن ينزل بِأول النَّاس يصعد
فِيهِ أَمر من السَّمَاء، حَتَّى صعده رجل فَألْقى مِنْهُ
حِجَارَة، فَلَمَّا لم يره النَّاس أَصَابَهُ تتابعوا
فنقضوه حَتَّى بلغُوا بِهِ الأَرْض، فَجعل ابْن الزبير
أعمدة فَستر عَلَيْهَا الستور تى ارْتَفع بِنَاؤُه،
وَقَالَ ابْن الزبير: سَمِعت عَائِشَة تَقول: إِن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَوْلَا أَن النَّاس
حَدِيث عَهدهم بِكفْر، وَلَيْسَ عِنْدِي من النَّفَقَة مَا
يقوى على بنائِهِ لَكُنْت أدخلت فِيهِ من الْحجر خَمْسَة
أَذْرع، ولجعلت لَهُ بَابا يدْخل مِنْهُ النَّاس، وبابا
يخرجُون مِنْهُ. قَالَ: فَأَنا الْيَوْم أجد مَا أنْفق
وَلست أَخَاف النَّاس. قَالَ: فَزَاد فِيهِ خَمْسَة أَذْرع
من الْحجر حَتَّى أبدى أُسّا نظر النَّاس إِلَيْهِ فَبنى
عَلَيْهِ الْبناء، وَكَانَ ذول الْكَعْبَة ثَمَانِيَة عشر
ذِرَاعا، فَلَمَّا زَاد فِيهِ استقصره، فَزَاد فِي طوله
عشرَة أَذْرع، وَجعل لَهُ مَا بَين أَحدهمَا بَابَيْنِ:
يدْخل مِنْهُ، وَالْآخر يخرج مِنْهُ، فَلَمَّا قتل ابْن
الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتب الْحجَّاج إِلَى
عبد الْملك بن مَرْوَان يُخبرهُ بذلك، ويخبره أَن ابْن
الزبير قد وضع الْبناء على أسٍّ نظر إِلَيْهِ الْعُدُول من
أهل مَكَّة، فَكتب إِلَيْهِ عبد الْملك إِنَّا لسنا من
تلطيخ ابْن الزبير فِي شَيْء، أما مَا زَاد من طوله فأقره،
وَأما مَا زَاد فِيهِ من الْحجر فَرده إِلَى بنائِهِ،
وسُدَّ الْبَاب الَّذِي فَتحه، فنقضه وَأَعَادَهُ إِلَى
بنائِهِ. قَوْله: (وبناه) أَي: بنى الْبَيْت. قَالَ ابْن
سعد: لم يبن ابْن الزبير الْكَعْبَة حَتَّى حج بِالنَّاسِ
سنة أَربع وَسِتِّينَ، ثمَّ بناها حِين اسْتقْبل سنة خمس
وَسِتِّينَ، وَحكي عَن الْوَاقِدِيّ أَنه رد ذَلِك،
وَقَالَ: الأثبت أَنه ابْتَدَأَ بناءها بعد رحيل الْجَيْش
لسَبْعين يَوْمًا. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ ذَلِك فِي
نصف جمادي الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَيُمكن الْجمع
بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن يكون ابْتِدَاء الْبناء فِي
ذَلِك الْوَقْت، وامتد أمده إِلَى الْمَوْسِم ليراه أهل
الْآفَاق، ليشنع بذلك على بني أُميَّة، وَفِي (تَارِيخ
المسجى) : كَانَ الْفَرَاغ من بِنَاء الْبَيْت فِي سنة خمس
وَسِتِّينَ، وَزَاد الْمُحب الطَّبَرِيّ أَنه: كَانَ فِي
شهر رَجَب. قلت: الْجَيْش هُوَ جَيش الشَّام من قبل يزِيد
بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ أَمِيرهمْ الْحصين بن نمير، وَمَا
ارتحلوا من مَكَّة حَتَّى أَتَاهُم موت يزِيد بن
مُعَاوِيَة، وَذَلِكَ بعد أَن أفسدوا فِي حرم الله
تَعَالَى وسفكوا الدِّمَاء وأوهنوا الْكَعْبَة من حِجَارَة
المجانيق. قَوْله: (وَقد رَأَيْت) ، الرَّائِي يزِيد بن
رُومَان. قَوْله: (كأسنمة الْإِبِل) ، الأسنمة: جمع
سَنَام، وَفِي (كتاب مَكَّة) للفاكهي، من طَرِيق أبي أويس
عَن يزِيد بن رُومَان. فكشفوا لَهُ، أَي لِابْنِ الزبير،
عَن قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي
صَخْر أَمْثَال الْخلف من الْإِبِل، ورأوه بنيانا مربوطا
بعضه بِبَعْض، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من طَرِيق
ابْن سابط عَن يزِيد: أَنهم كشفوا عَن الْقَوَاعِد، فأذا
الْحجر مثل الْخلقَة، وَالْحِجَارَة مشبك بَعْضهَا
بِبَعْض، وَفِي رِوَايَة للفاكهي عَن عَطاء، قَالَ: كنت
فِي الْأَبْنَاء الَّذين جمعُوا على حفره، فَحَفَرُوا قامة
وَنصفا، فَهَجَمُوا على حِجَارَة لَهَا عروق تتصل بزرد
عروق الْمَرْوَة، فضربوه فارتجت قَوَاعِد الْبَيْت، فَكبر
النَّاس، فَبنى عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مرْثَد عِنْد عبد
الرَّزَّاق: فكشف عَن ربض فِي الْحجر آخذ بعضه بِبَعْض،
فَتَركه مكشوفا ثَمَانِيَة أَيَّام ليشهدوا عَلَيْهِ،
فَرَأَيْت ذَلِك الربض مثل خلف الْإِبِل، وَجه حجر وَوجه
حجر وَوجه حجران، وَرَأَيْت الرجل يَأْخُذ العثلة فَيضْرب
بهَا من نَاحيَة الرُّكْن فيهتز الرُّكْن الآخر. قلت:
الْخلف، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَفِي
آخِره فَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخلف الْمَخَاض، وَهِي
(9/221)
الْحَوَامِل من النوق، الْوَاحِدَة: خلفة.
قَوْله: (قَالَ جرير) ، هُوَ جرير بن حَازِم الْمَذْكُور
فِي السَّنَد. قَوْله: (فحزرت) ، بِتَقْدِيم الزَّاي على
الرَّاء، أَي: قدَّرت سِتَّة أَذْرع، وَقد ورد ذَلِك
مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا
تقدم فِي الطَّرِيق الثَّانِي، فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالله أعلم.
34 - (بابُ فَضْلِ الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحرم، أَي: حرم مَكَّة،
وَهُوَ مَا أحاطها من جوانبها، جعل الله حكمه فِي
الْحُرْمَة تَشْرِيفًا لَهَا، وحدَّه من الْمَدِينَة على
ثَلَاثَة أَمْيَال، وَمن الْيمن وَالْعراق على سَبْعَة،
وَمن الْجدّة على عشرَة. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: حد الْحرم
من طَرِيق الْمَدِينَة دون التَّنْعِيم عِنْد بيُوت تعار
على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق الْيمن طرف
أضاة على سَبْعَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق
الطَّائِف إِلَى بطن بيرة على أحد عشر ميلًا، وَمن طَرِيق
الْعرَاق، إِلَى ثنية رَحل عشرَة أَمْيَال، وَمن طَرِيق
جعرانة فِي شعب آل عبد الله بن خَالِد بن أسيد على خَمْسَة
أَمْيَال، وَمن طَرِيق جدة مُنْقَطع الأعناس، وَمن
الطَّائِف سَبْعَة أَمْيَال عِنْد طرف عُرَنَة، وَمن بطن
عُرَنَة أحد عشر ميلًا. وَقيل: إِن الْخَلِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما وضع الْحجر الْأسود فِي
الرُّكْن أَضَاء مِنْهُ نور وَصلى إِلَى أَمَاكِن
الْحُدُود، فَجَاءَت الشَّيَاطِين فوقفت عِنْد
الْأَعْلَام، فبناها الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، حاجزا. رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،
وَعنهُ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أرى
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَوضِع
أنصاب الْحرم، فنصبها ثمَّ جددها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ جددها قصي بن كلاب، ثمَّ
جددها سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعث
أَرْبَعَة من قُرَيْش فنصبوا أنصاب الْحرم. وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ فِي (المنتظم) : وَأما حُدُود الْحرم: فَأول
من وَضعهَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَكَانَ جِبْرِيل يرِيه، ثمَّ لم يجدد حَتَّى كَانَ قصي
فجددها، ثمَّ قلعتها قُرَيْش فِي زمَان نَبينَا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَقَالَ: إِنَّهُم سيعيدونها، فَرَأى رجال
مِنْهُم فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول: حرم أكْرمكُم الله
بِهِ نزعتم أنصابه؟ الْآن تختطفكم الْعَرَب، فأعادوها.
فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: قد
أعادوها. فَقَالَ: قد أَصَابُوا. قَالَ: مَا وضعُوا
مِنْهَا نصبا إلاَّ بيد ملك، ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح تَمِيم بن أَسد
فجددها، ثمَّ جددها عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، ثمَّ جددها مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ثمَّ جددها عبد الْملك بن مَرْوَان. فَإِن قلت: مَا
السَّبَب فِي بعد بعض الْحُدُود وَقرب بَعْضهَا مِنْهُ؟
قلت: إِن الله عز وَجل، لما أهبط على آدم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْتا من ياقوتة، أَضَاء لَهُ مَا
بَين الْمشرق وَالْمغْرب، فنفرت الْجِنّ وَالشَّيَاطِين،
وَأَقْبلُوا ينظرُونَ، فَجَاءَت مَلَائِكَة فوقفوا مَكَان
الْحرم إِلَى مَوضِع انْتِهَاء نوره، وَكَانَ آدم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يطوف بِهِ ويأنس بِهِ.
ونفسر الْأَلْفَاظ الَّتِي وَقعت هُنَا، فَنَقُول: تعار،
بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْعين
الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: وَهُوَ جبل من جبال أبلى،
على وزن: فعلى، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة على طَرِيق الْآخِذ من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة على بطن نخل، وتعار جبل لَا ينْبت شَيْئا،
وَقَالَ كثير:
(أجيبك مَا دمت بِنَجْد وَشَيْخه ... وَمَا ثبتَتْ إبليٌّ
بِهِ وتعار)
والتنعيم على لفظ الْمصدر من: نعْمَته تنعيما، وَهُوَ بَين
مر وسرف، بَينه وَبَين مَكَّة فرسخان، وَمن التَّنْعِيم
يحرم من أَرَادَ الْعمرَة. وَسمي التَّنْعِيم لِأَن
الْجَبَل عَن يَمِينه يُقَال لَهُ: نعيم، وَالَّذِي عَن
يسَاره يُقَال لَهُ: ناعم، والوادي نعْمَان. وَمر، بِفَتْح
الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: مُضَاف إِلَى الظهْرَان،
بالظاء الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، بَينه وَبَين الْبَيْت
سِتَّة عشر ميلًا، وسرف، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة
وَكسر الرَّاء، وَفِي آخِره فَاء، وَقَالَ الْبكْرِيّ:
بِسُكُون الرَّاء، وَهُوَ مَاء على سِتَّة أَمْيَال من
مَكَّة، وَهنا أعرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بميمونة مرجعه من مَكَّة حَتَّى قضى نُسكه، وَهُنَاكَ
مَاتَت مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
لِأَنَّهَا اعتلت بِمَكَّة. فَقَالَت: أَخْرجُونِي من
مَكَّة، وَلِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَخْبرنِي أَنِّي لَا أَمُوت بهَا، فحملوها حَتَّى أَتَوا
بهَا سَرفًا إِلَى الشَّجَرَة الَّتِي بنى بهَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتهَا مَوضِع الْقبَّة
فَمَاتَتْ هُنَاكَ، سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وَهُنَاكَ
عِنْد قبرها سِقَايَة، وروى الزُّهْرِيّ أَن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، حمى السَّرف والربذة، هَكَذَا أورد
فِي الحَدِيث: السَّرف، بِالْألف وَاللَّام، ذكره
البُخَارِيّ. والأضاة، بِفَتْح الْهمزَة وَالضَّاد
الْمُعْجَمَة، قَالَ الْجَوْهَرِي:
(9/222)
هُوَ الغدير، وَقَالَ السُّهيْلي: بَينهَا
وَبَين مَكَّة عشرَة أَمْيَال. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أضاة
بني غفار بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (بيرة) .
وقَوْلِهِ تعالَى: {إنَّمَا أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ
هذهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} (النَّمْل: 19) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله الْمَجْرُور
بِالْإِضَافَة. وَجه تعلق هَذِه الْآيَة بالترجمة من جِهَة
أَنه اختصها من بَين جَمِيع الْبِلَاد بِإِضَافَة إسمه
إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أحب بِلَاده إِلَيْهِ وَأَكْرمهَا
عَلَيْهِ وَأَعْظَمهَا عِنْده، حَيْثُ أَن حرمهَا لَا يسفك
فِيهَا دم حرَام، وَلَا يظلم فِيهَا أحد وَلَا يهاج صيدها،
وَلَا يخْتَلى خَلاهَا. وَلما بيَّن الله تَعَالَى قبل
هَذِه الْآيَة المبدأ والمعاد ومقدمات الْقِيَامَة
وَأَحْوَالهَا، وَصفَة أهل الْقِيَامَة من الثَّوَاب
وَالْعِقَاب، وَذَلِكَ كَمَال مَا يتَعَلَّق بأصول الدّين،
ذكر هَذِه الْآيَة وَختم مَا قبله بِهَذِهِ الخاتمة،
فَقَالَ: قل يَا مُحَمَّد: إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب
هَذِه الْبَلدة، أَي: أَنِّي أخص رب هَذِه الْبَلدة
بِالْعبَادَة، وَلَا اتخذ لَهُ شَرِيكا. والبلدة: مَكَّة،
وَقَالَ الزّجاج: قرىء: هَذِه الْبَلدة، الَّتِي، وَهِي
قَليلَة، وَتَكون الَّتِي فِي مَوضِع خفض من نعت للبلدة،
وَفِي قِرَاءَة: الَّذِي، يكون: الَّذِي، فِي مَوضِع نصب
من نعت رب، وَأَشَارَ إِلَيْهَا إِشَارَة تَعْظِيمًا لَهَا
وتقريبا دَالا على أَنَّهَا موطن نبيه ومهبط وحيه، وَوصف
ذَاته بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاص، وصفهَا فأجزل
بذلك قسمهَا فِي الشّرف والعلو، ووصفها بِأَنَّهَا مُحرمَة
لَا ينتهك حرمتهَا إلاَّ ظَالِم مضاد لرَبه، وَله كل شَيْء
خلقا وملكا، وَجعل دُخُول كل شَيْء تَحت ربوبيته وملكوته،
و: أمرت، الثَّانِي عطف على: أمرت، الأول يَعْنِي: أمرت
أَن أكون من الحنفاء الثابتين على مِلَّة الْإِسْلَام.
وقولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أوَ لَمْ تُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَما
آمِنا يَجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقا مِنْ
لَدُنَّا وَلاكِنَّ أكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
(الْقَصَص: 75) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الْمَاضِي. وَتعلق
هَذِه الْآيَة أَيْضا بالترجمة من حَيْثُ: إِن الله
تَعَالَى وصف الْحرم بالأمن، ومنَّ على عباده بِأَن مكن
لَهُم هَذَا الْحرم، وروى النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير:
(أَن الْحَارِث بن عَامر بن نَوْفَل قَالَ للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: {إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من
أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . فَأنْزل الله، عز وَجل، ردا
عَلَيْهِ: {أَو لم نمكن لَهُم حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) .
الْآيَة، مَعْنَاهُ: جعلهم الله فِي بلد أَمِين وهم مِنْهُ
فِي أَمَان فِي حَال كفرهم، فَكيف لَا يكون لَهُم أَمن بعد
أَن أَسْلمُوا وتابعوا الْحق. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي
(تَفْسِيره) : وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي الْحَارِث بن
عُثْمَان بن نَوْفَل بن عبد منَاف، وَذَلِكَ أَنه أَتَى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنَّا لنعلم
أَن الَّذِي تَقول حق، وَلَكِن يمنعنا من اتباعك أَن
الْعَرَب تتخطفنا من أَرْضنَا لإجماعهم على خلافنا وَلَا
طَاقَة لنا بهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة،
فَحكى أَولا عَن قَوْلهم بقوله: {وَقَالُوا: إِن نتبع
الْهَدْي مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . ثمَّ
رد عَلَيْهِم بقوله: {أَو لم نمكن لَهُم. .} (الْقَصَص:
75) . الْآيَة، أَي: أَو لم نسكنهم حرما ونجعله مَكَانا
لَهُم؟ وَمعنى: آمنا، ذُو أَمن يَأْمَن النَّاس فِيهِ،
وَذَلِكَ أَن الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت يُغير
بَعضهم على بعض، وَأهل مَكَّة آمنون فِي الْحرم من السَّبي
وَالْقَتْل والغارة، أَي: فَكيف يخَافُونَ إِذا أَسْلمُوا
وهم فِي حرم آمن؟ قَوْله: (يَجِيء) قَرَأَ نَافِع
بِالتَّاءِ من فَوق، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَوْله:
{إِلَيْهِ} أَي: إِلَى الْحرم، أَي: تجلب وَتحمل من
النواحي {ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا} (الْقَصَص: 75)
. أَي: من عندنَا، وَلَكِن أَكثر أهل مَكَّة لَا يعلمُونَ
أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي فعل بهم فيشكرونه.
7851 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
جرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ
عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ إنَّ هاذا البَلَدَ حَرَّمَهُ الله
لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولاَ
يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا الْبَلَد
حرمه الله) ، وَفِيه تَعْظِيم لَهُ، وتعظيمه يدل على فَضله
واختصاصه من بَين سَائِر الْبِلَاد، وَرِجَاله قد ذكرُوا
غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن
الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه
(9/223)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن
عَليّ بن عبد الله، وَأخرجه فِي الْحَج أَيْضا عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَفِي الْجِهَاد عَن آدم وَعَن
عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى
بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، د
وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَفِي الْجِهَاد
أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فيهمَا عَن عُثْمَان بِهِ مقطعا. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج فِي الْبيعَة عَن
إِسْحَاق ابْن مَنْصُور، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن
قدامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حرمه الله) أَي: جعله حَرَامًا،
وَلَفظ البُخَارِيّ فِي: بَاب غَزْوَة الْفَتْح: (أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ يَوْم
الْفَتْح، فَقَالَ: إِن الله حرم مَكَّة يَوْم خلق
السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهِيَ حرَام بحراح الله تَعَالَى
إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. .) الحَدِيث. وَقَالَ
الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس
من غير وَجه. فَإِن قلت: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
حرم مَكَّة وَأَنا أحرم مَا بَين لابتيها) أَي: لابتي
الْمَدِينَة، يُعَارض هَذَا الحَدِيث؟ قلت: لَيْسَ الْأَمر
كَذَلِك، لِأَن معنى قَوْله: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة)
، أعلن بتحريمها وَعرف النَّاس بِأَنَّهَا حرَام
بِتَحْرِيم الله، إِيَّاهَا، فَلَمَّا لم يعرف تَحْرِيمهَا
إلاَّ فِي زَمَانه على لِسَانه أضيف إِلَيْهِ. وَذَلِكَ
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس}
(الزمر: 24) . فَإِنَّهُ أضَاف إِلَيْهِ التوفي. وَفِي
آيَة أُخْرَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} (السَّجْدَة: 11)
. أضَاف إِلَيْهِ التوفي، وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى:
{الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة} (النَّحْل: 82) . فأضاف
إِلَيْهِم التوفي. وَفِي الْحَقِيقَة المتوفي هُوَ الله عز
وَجل، وأضاف إِلَى غَيره لِأَنَّهُ ظهر على أَيْديهم.
قَوْله: (لَا يعضد شَجَرهَا) أَي: لَا يقطع، من عضدتُ
الشّجر أعضده عضد، أَمْثَال: ضرب، إِذا قطعته، وَفِي
(الْمُحكم) : الشّجر معضود وعضيد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ:
معنى: لَا يعضد لَا يفْسد وَيقطع، وَأَصله من عضد الرجل
الرجل إِذا أصَاب عضده بِسوء. قَوْله: (وَلَا ينفر صَيْده)
أَي: لَا يزعج من مَكَانَهُ. وَهُوَ تَنْبِيه من
الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَلَا يضْرب وَلَا يقتل
بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (وَلَا يلتقط) على صِيغَة
الْمَعْلُوم، ولقطته مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (إلاَّ من
عرفهَا) ، أَي: إلاَّ مَنْ عرف أَنَّهَا لقطَة فيلتقطها
ليردها إِلَى صَاحبهَا وَلَا يتملكها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن مَكَّة حرَام فَلَا
يجوز لأحد أَن يدخلهَا إلاَّ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَول
عَطاء بن أبي رَبَاح وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي
حنيفَة وَأَصْحَابه: وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله
الصَّحِيح، وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد
وَأبي ثَوْر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة، وَدَاوُد
بن عَليّ وَأَصْحَابه من الظَّاهِرِيَّة: لَا بَأْس
بِدُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَإِلَيْهِ ذهب
البُخَارِيّ أَيْضا، قَالَه عِيَاض، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا
رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر: (أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة
سَوْدَاء) ، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس:
(أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل مَكَّة وعَلى
رَأسه مغفر. .) الحَدِيث. وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن
دُخُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَكَّة كَانَ وَهِي
حَلَال ساعتئذ، فَكَذَلِك دَخلهَا وَهُوَ غير محرم، وَأَنه
كَانَ خَاصّا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ
عَادَتْ حَرَامًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلَا يجوز
دُخُولهَا لأحد بِغَيْر إِحْرَام.
وَفِيه: أَنه لَا يجوز قطع شَوْكَة وَلَا قطع شَجَرَة،
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على تَحْرِيم قطع
شجر الْحرم، وَقَالَ الإِمَام: اخْتلف النَّاس فِي قطع شجر
الْحرم: هَل فِيهِ جَزَاء أم لَا؟ فَعِنْدَ مَالك: لَا
جَزَاء فِيهِ، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِيهِ
الْجَزَاء، وجزاؤه عِنْد الشَّافِعِي فِي الدوحة بقرة
وَمَا دونهَا شَاة، وَعند أبي حنيفَة: يُؤْخَذ مِنْهُ
قيمَة ذَلِك، يشترى بِهِ هدي، فَإِن لم تبلغ ثمنه ذَلِك
تصدق بِهِ بِنصْف صَاع لكل مِسْكين، وَقَالَ الشَّافِعِي:
فِي الْخشب وَمَا أشبه قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت،
وَالْمحرم والحلال فِي ذَلِك سَوَاء، وَأجْمع كل من يحفظ
عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة أَخذ كل مَا ينبته النَّاس فِي
الْحرم من الْبُقُول والزروع والرياحين وَغَيرهَا،
وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم، فَعَن
مُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار أَنهم رخصوا فِي
ذَاك، وَحكى أَبُو ثَوْر ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ
عَطاء يرخص فِي أَخذ ورق السنا يستمشي بِهِ وَلَا ينْزع من
أَصله، ورخصوا فِيهِ عَمْرو بن دِينَار، وَفِيه أَنه لَا
يجوز رفع لقطتهَا إلاَّ المنشد، قَالَ القَاضِي عِيَاض:
حكم اللّقطَة فِي سَائِر الْبِلَاد وَاحِد، وَعند
الشَّافِعِي: أَن لقطَة مَكَّة بِخِلَاف غَيرهَا من
الْبِلَاد، وَأَنَّهَا لَا تحل إلاَّ لمن يعرفهَا، وَمذهب
الْحَنَفِيَّة كمذهب مَالك لعُمُوم قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ،
من غير فصل.
(9/224)
44 - (بابُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ
وبَيْعِهَا وشِرَائِهَا وَأنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ
الحَرَامِ سَوَاءٌ خاصَّةٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَوْرِيث دور مَكَّة
وَبَيْعهَا وشرائها، وَإِنَّمَا لم يبين الحكم
بِالْجَوَازِ أَو بِعَدَمِهِ لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ.
وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى
تَضْعِيف حَدِيث عَلْقَمَة بن نَضْلَة، قَالَ: توفّي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمَا ترعى رباع مَكَّة
إلاَّ السوائب، من احْتَاجَ سكن، رَوَاهُ ابْن مَاجَه،
قلت: لَيْت شعري مَا وَجه هَذِه الْإِشَارَة؟
وَالْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر. وروى هَذَا الحَدِيث
الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين بِرِجَال ثِقَات، وَلكنه
مُنْقَطع، لِأَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة لَيْسَ بصحابي،
وَلَفظ الطَّحَاوِيّ فِي أحد الطَّرِيقَيْنِ، عَن
عَلْقَمَة بن نَضْلَة، قَالَ: كَانَت الدّور على عهد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر
وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مَا تبَاع وَلَا
تكرى وَلَا ترعى إلاَّ السوائب، من احْتَاجَ سكن، وَمن
اسْتغنى أسكن. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه عَن
عَلْقَمَة بن نَضْلَة الْكِنَانِي، قَالَ: كَانَت بيُوت
مَكَّة ترعى السوائب، لم يبع رباعها فِي زمن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا أبي بكر وَلَا عمر، من
احْتَاجَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن. قَوْله: السوائب، جمع
سائبة، وَأَصلهَا من تسييب الدَّوَابّ، وَهُوَ: إرسالها
تذْهب وتجيء كَيفَ شَاءَت، وَأَرَادَ بهَا: أَنَّهَا
كَانَت سائبة لكل أحد من شَاءَ كَانَ يسكنهَا فَإِذا فرغ
مِنْهَا أسكن غَيره فَلَا بيع وَلَا إجَازَة، والرباع جمع
رَبع، وَهُوَ الْمنزل، قَالَ الْجَوْهَرِي: الرّبع الدَّار
بِعَينهَا حَيْثُ كَانَت، وَجَمعهَا: رباع وَأَرْبع وربوع
وأرباع وَالرّبع: الْمحلة، أَيْضا وروى الطَّحَاوِيّ
أَيْضا من حَدِيث مُجَاهِد عَن عبد الله بن عَمْرو، أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يحل بيع
بيُوت مَكَّة وَلَا إِجَارَتهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
أَيْضا ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى هَذِه
الْآثَار فَقَالُوا: لَا يجوز بيع أَرض مَكَّة وَلَا
إِجَارَتهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل: أَبُو
حنيفَة وَمُحَمّد وَالثَّوْري. قلت: أَرَادَ بالقوم
هَؤُلَاءِ، عَطاء بن أبي رَبَاح ومجاهدا ومالكا وَإِسْحَاق
وَأَبا عبيد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ،
فَقَالُوا: لَا بَأْس بِبيع أرْضهَا وإجارتها، وجعلوها فِي
ذَلِك كَسَائِر الْبلدَانِ، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى هَذَا
القَوْل أَبُو يُوسُف. قلت: أَرَادَ بالآخرين طاووسا
وَعَمْرو بن دِينَار وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَابْن
الْمُنْذر مَعَهم، وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِحَدِيث الْبَاب،
على مَا يَأْتِي. قَوْله: (فَإِن النَّاس) ، عطف على
قَوْله: (فِي دور مَكَّة) ، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان
أَن النَّاس فِي مَسْجِد الْحرم سَوَاء أَي: متساوون.
قَالَ الْكرْمَانِي: أَي فِي نفس الْمَسْجِد، لَا فِي
سَائِر الْمَوَاضِع من مَكَّة. قلت: هَذَا ميل مِنْهُ
إِلَى تَرْجِيح مذْهبه، وَالْمرَاد من الْمَسْجِد
الْحَرَام: الْحرم كُله، ورد ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس
وَعَطَاء وَمُجاهد. أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَغَيرهم
عَنْهُم، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عمر: أَن الْحرم كُله
مَسْجِد ويروى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، بِالْألف
وَاللَّام فِي الْمَسْجِد قَوْله: (خَاصَّة) قيد
لِلْمَسْجِدِ الْحَرَام، وَقد قُلْنَا إِن الْمَسْجِد
الْحَرَام كُله حرم.
لِقَوْلِهِ تَعَالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ
عنْ سَبِيلِ الله والمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي
جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيِهِ
والْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ} (الْحَج: 52) .
هَذَا تَعْلِيل لقَوْله: (وَإِن النَّاس فِي الْمَسْجِد
الْحَرَام سَوَاء) . قَوْله: {إِن الَّذين كفرُوا}
يَعْنِي: أهل مَكَّة. قَوْله: {ويصدون عَن سَبِيل الله}
أَي: ويصرفون النَّاس عَن دين الْإِسْلَام. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الصدود مِنْهُم مُسْتَمر دَائِم للنَّاس،
أَي للَّذين يَقع عَلَيْهِم اسْم النَّاس من غير فرق بَين
حَاضر وباد وناى وظارىء مكي وآفقي وَقد اسْتشْهد بِهِ
أَصْحَاب أبي حنيفَة قائلين بِأَن المُرَاد من الْمَسْجِد
الْحَرَام مَكَّة على امْتنَاع بيع دور مَكَّة وإجارتها.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره)
وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج من الْمَدِينَة مَنعهم
الْمُشْركُونَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ وصف
الْمَسْجِد الْحَرَام فَقَالَ: {اللَّذين جَعَلْنَاهُ
للنَّاس سَوَاء} للْمُؤْمِنين جَمِيعًا، ثمَّ قَالَ:
{العاكف فِيهِ والبادي} يَعْنِي: سَوَاء الْمُقِيم فِي
الْحرم، وَمن دخل مَكَّة من غير أَهلهَا، وَيُقَال:
الْمُقِيم والغريب سَوَاء. وَقَرَأَ عَاصِم فِي رِوَايَة
حَفْص: {سَوَاء} بِالنّصب يَعْنِي: جَعَلْنَاهُ سَوَاء،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ سواءُ، على معنى
الِابْتِدَاء، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَجه النصب أَنه
ثَانِي مفعولي: جَعَلْنَاهُ، أَي: جَعَلْنَاهُ مستويا
العاكف فِيهِ والبادي، وَفِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْع
الْجُمْلَة مفعول ثَان. قَوْله: {وَمن يرد فِيهِ بإلحاد}
الْبَاء فِيهِ صلَة، وَأَصله: وَمن يرد فِيهِ إلحادا كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {تنْبت بالدهن} (الْمُؤْمِنُونَ: 02)
. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ومفعول: يرد، مَتْرُوك ليتناول
كل متناول كَأَنَّهُ قَالَ: وَمن يرد فِيهِ مرَادا مَا
عادلاً عَن الْقَصْد ظَالِما، وقرىء: يرد، بِفَتْح الْيَاء
من الْوُرُود، وَمَعْنَاهُ: من أَتَى فِيهِ بإلحاد ظَالِما
(9/225)
الْإِلْحَاد الْعُدُول عَن الْقَصْد،
وَقيل: الْإِلْحَاد فِي الْحرم منع النَّاس عَن عِمَارَته،
وَعَن سعيد بن جُبَير: الاحتكار، وَقيل: الظُّلم، وَقَالَ
مقَاتل: نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن أنيس بن خطل
الْقرشِي، وَذَاكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بعث رجلَيْنِ أَحدهمَا مُهَاجِرِي وَالْآخر أَنْصَارِي،
فافتخرا فِي الْأَنْسَاب. فنضب عبد الله بن أنيس فَقتل
الْأنْصَارِيّ، ثمَّ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام، وهرب إِلَى
مَكَّة، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح
مَكَّة بقتْله فَقتل. قَوْله: {بإلحاد بظُلْم} حالان
مُتَرَادِفَانِ، وَعَن الْحسن: وَمن يرد إلحاده بظُلْم،
أَرَادَ إلحادا فِيهِ، فأضافه على الاتساع فِي الظّرْف،
كمكر اللَّيْل وَمَعْنَاهُ: من يرد أَن يلحذ فِيهِ
ظَالِما، وَخبر: أَن، مَحْذُوف لدلَالَة جَوَاب الشَّرْط
عَلَيْهِ، تَقْدِيره: أَن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن
سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام يذيقهم من عَذَاب
أَلِيم وكل من ارْتكب فِيهِ ذَنبا فَهُوَ كَذَلِك.
البادِ الطَّارى مَعْكُوفا مَحْبُوسا
هَذَا تَفْسِير من البُخَارِيّ بِالْمَعْنَى، وَمعنى
الطاري الْمُسَافِر، كَمَا أَن معنى العاكف الْمُقِيم،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: معكوفا، إِشَارَة إِلَى مَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله}
(الْحَج: 52) . قلت: لَيست هَذِه الْكَلِمَة فِي الْآيَة
الْمَذْكُورَة، فَلَا مُنَاسبَة لذكرها هُنَا، وَلَكِن
يُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا ذكر المعكوف لكَون العاكف
مَذْكُورا هَهُنَا، وَفِيه مَا فِيهِ.
8851 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخْبَرَنِي ابنُ وَهْبٍ عنْ
يُونُسَ عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْن عنْ
عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ عنْ أسامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ يَا رسولَ الله أيْنَ
تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فقالَ وهَلْ ترَكَ عَقِيلٌ
مِنْ رِبَاعٍ أوْ دُورٍ وكانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أبَا طَالِبٍ
هُوَ وطَالِبٌ ولَمْ يَرثْهُ جَعْفَرٌ ولاَ عَلِيٌّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا شَيْئا لأِنَّهُمَا كانَا
مُسْلِمَيْنِ وكانَ عَقِيلٌ مطَالب كافِرَيْنِ فَكانَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ
لاَ يَرِثُ الْمُؤمِنُ الْكَافِرَ. قَالَ ابنُ شِهَابٍ
وكانُوا يتأوَّلُونَ قَوْلَ الله تَعَالَى: {إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ
وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أولائكَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
(الْأَنْفَال: 27) . الْآيَة..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَهل ترك عقيل من رباع
أَو دور وَكَانَ عقيل ورث أَبَا طَالب) إِلَى قَوْله:
(قَالَ ابْن شهَاب) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله.
الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ،
الْخَامِس: عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَشْهُور بزين
العابدين. السَّادِس: عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان
أَمِير الْمُؤمنِينَ. السَّابِع: أُسَامَة ابْن زيد بن
حَارِثَة حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاه.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه
وَابْن وهب مصريان وَأَن يُونُس أيلي والبقية مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق،
وَفِي الْمَغَازِي عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن
يحيى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن
مهْرَان وَابْن أبي عمر وَعبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع
وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن يُونُس بن عبد
الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
يحيى عَن عبد الرَّزَّاق وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي
الطَّاهِر بن السَّرْح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَيْن تنزل فِي دَارك؟) قَالَ
بَعضهم: حذفت أَدَاة الِاسْتِفْهَام
(9/226)
من قَوْله: فِي دَارك. قلت: هَذَا كَلَام
من لَا يفهم الْعَرَبيَّة وَلَا استنباط الْمعَانِي من
الْأَلْفَاظ، وَقَوله: أَيْن، كلمة اسْتِفْهَام، فَلم يبْق
وَجه لتقدير حرف الِاسْتِفْهَام، فَمَا وَجه قَوْله: حذفت
أَدَاة الِاسْتِفْهَام من قَوْله: فِي دَارك؟ والاستفهام
عَن النُّزُول فِي الدَّار لَا عَن نفس الدَّار؟ فَافْهَم.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ ستأتي فِي الْمَغَازِي: أَيْن
تنزل غَدا. قَوْله: (وَهل ترك عقيل؟) وَفِي رِوَايَة مُسلم
وَغَيره، (وَهل ترك لنا؟) قَوْله: (من رباع؟) ، جمع ربع،
وقذ ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (أَو دور؟) للتَّأْكِيد
إِذا فسر الرّبع بِالدَّار أَو وَهُوَ شكّ من الرَّاوِي،
قَوْله: (وَكَانَ عقيل) ، إدراج من بعض الروَاة،
وَلَعَلَّه من أُسَامَة، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي:
وَعقيل بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة. قَوْله: (هُوَ) أَي:
عقيل. قَوْله: (وطالب) أَي: ورث طَالب مَعَ عقيل أباهما
أَبَا طَالب، وَاسم أبي طَالب: عبد منَاف، وكنى بِابْنِهِ
طَالب، قَوْله: (وَلم يَرِثهُ جَعْفَر) ، وَهُوَ
الْمَشْهُور بالطيار ذِي الجناحين، وطالب أسن من عقيل،
وَهُوَ من جَعْفَر وَهُوَ من عَليّ، والتفاوت بَين كل
وَاحِد وَالْآخر عشر سِنِين، وَهُوَ من النَّوَادِر.
قَوْله: (كَافِرين) نصب على أَنه خبر: كَانَ، أَي: وَكَانَ
كِلَاهُمَا كَافِرين عِنْد وَفَاة أَبِيهِمَا، وَلِأَن
عقيلاً أسلم بعد ذَلِك عِنْد الْحُدَيْبِيَة قيل: لما
كَانَ أَبُو طَالب أكبر ولد عبد الْمطلب احتوى على أملاكه
وحازها وَحده على عَادَة الْجَاهِلِيَّة من تَقْدِيم
الأسن، فتسلط عقيل أَيْضا بعد هِجْرَة رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: بَاعَ عقيل مَا
كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلمن هَاجر من
بني عبد الْمطلب، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بدور من هَاجر
من الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا أمضى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تَصَرُّفَات عقيل كرما وجودا، وَإِمَّا
استمالة لعقيل، وَإِمَّا تَصْحِيحا بتصرفات
الْجَاهِلِيَّة، كَمَا أَنه يصحح أنكحة الْكفَّار،
وَقَالُوا: فقد طَالب ببدر فَبَاعَ عقيل الدَّار كلهَا،
وَقيل: وَلم تزل الدَّار بيد أَوْلَاد عقيل إِلَى أَن
باعوها لمُحَمد بن يُوسُف أخي الْحجَّاج بن يُوسُف
بِمِائَة ألف دِينَار، وَكَانَ عَليّ ابْن الْحُسَيْن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَقُول: من أجل ذَلِك
بتركنا نصيبنا من الشّعب، أَي: حِصَّة جدهم عَليّ من
أَبِيه أبي طَالب. قَوْله: (فَكَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: لَا يَرث الْمُؤمن
الْكَافِر) هَذَا مَوْقُوف على عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَقد ثَبت مَرْفُوعا بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ
عِنْد البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق مُحَمَّد بن
أبي حَفْصَة وَمعمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُفردا فِي
الْفَرَائِض من طَرِيق ابْن جريج عَنهُ، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَمن أجل ذَلِك كَانَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، يَقُول ... قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب)
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، هُوَ
الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث. قَوْله: (وَكَانُوا
يتأولون) أَي: السّلف كَانُوا يفسرون الْولَايَة فِي هَذِه
الْآيَة بِولَايَة الْمِيرَاث. قَوْله تَعَالَى: {إِن
الَّذين آمنُوا} (الْأَنْفَال: 27) . أَي: صدقُوا بتوحيد
الله تَعَالَى، وَبِمُحَمَّدٍ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْقُرْآن {وَهَاجرُوا} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة
{وَجَاهدُوا} الْعَدو {بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل
الله} أَي: فِي طَاعَة الله، وَفِيمَا فِيهِ رضى الله
تَعَالَى، ثمَّ ذكر الْأَنْصَار فَقَالَ: {وَالَّذين آووا}
يَعْنِي أووا الْمُهَاجِرين: يَعْنِي: أنزلوهم وأسكنوهم
فِي دِيَارهمْ {ونصروا} رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بِالسَّيْفِ {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض}
يَعْنِي فِي الْمِيرَاث وَفِي الْولَايَة. قَوْله:
(الْآيَة) ، يَعْنِي الْآيَة بِتَمَامِهَا، أَو: إقرأ
الْآيَة، وتمامها: {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم
من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا وَإِن استنصروكم فِي
الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر إلاَّ على قوم بَيْنكُم
وَبينهمْ مِيثَاق، وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}
(الْأَنْفَال: 27) . قَوْله: {وَلم يهاجروا} يَعْنِي:
إِلَى الْمَدِينَة {مَا لكم من ولايتهم من شَيْء} فِي
الْمِيرَاث {حَتَّى يهاجروا} إِلَى الْمَدِينَة،
وَقَالُوا: يَا رَسُول الله! هَل نعينهم إِذا استعانوا
بِنَا؟ يَعْنِي: الَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا؟ فَنزل:
{وَإِن استنصروكم فِي الدّين} يَعْنِي: إِن اسْتَغَاثُوا
بكم على الْمُشْركين فانصروهم {فَعَلَيْكُم النَّصْر} على
من قَاتلهم {إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق}
أَي: عهد يَعْنِي إلاَّ أَن يقاتلوا قوما بَيْنكُم
وَبينهمْ عهد وميثاق فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم وَأَصْلحُوا
بَينهم {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فِي العون
والنصرة، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة،
قَالَ: كَانَ الْمُسلمُونَ يتوارثون بِالْهِجْرَةِ
وبالمؤاخاة الَّتِي وآخى بَينهم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانُوا يتوارثون بِالْإِسْلَامِ
وبالهجرة، وَكَانَ الرجل يسلم وَلَا يُهَاجر فَلَا يَرث
أَخَاهُ، فنسخ ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَأولُوا
الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} (الْأَنْفَال: 57) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: احْتج
بِهَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي على جَوَاز بيع دور مَكَّة
بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجَاز بيع عقيل الدّور
الَّتِي ورثهَا، وَكَانَ عقيل وطالب ورثا أباهما
لِأَنَّهُمَا إِذْ ذَاك كَانَا كَافِرين فورثا، ثمَّ أسلم
عقيل وباعها. قَالَ الْخطابِيّ: وَعِنْدِي أَن تِلْكَ
الدّور، وَإِن كَانَت قَائِمَة على ملك عقيل، لم ينزلها
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهَا دور
هجروها لله تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر هَذِه
الْإِضَافَة أَنَّهَا كَانَت ملكه، يدل عَلَيْهِ قَوْله:
(وَهل ترك لنا عقيل من رباع) فأضافها إِلَى نَفسه، وظاهرها
الْملك، فَيحْتَمل أَن عقيلاً أَخذهَا وَتصرف فِيهَا كَمَا
فعل أَبُو سُفْيَان بدور الْمُهَاجِرين. فَإِن قلت:
يُعَارض هَذَا الحَدِيث حديثُ عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ عَن
(9/227)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ:
لَا يحل بيع بيُوت مَكَّة وَلَا إِجَارَتهَا) ، رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (مَكَّة
مناخ لَا تبَاع رباعها وَلَا يُؤَاجر بيوتها) . قلت:
الأَصْل فِي بَاب الْمُعَارضَة التَّسَاوِي، وَحَدِيث عبد
الله بن عَمْرو لَا يُقَاوم حَدِيث أُسَامَة، لِأَن فِي
سَنَد حَدِيث عبد الله بن عمر وَإِسْمَاعِيل بن
إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، ضعفه يحيى وَالنَّسَائِيّ،
وَعَن يحيى مرّة: لَا شَيْء، فَحِينَئِذٍ يسْقط حَدِيث عبد
الله بن عَمْرو، وَلَئِن سلمنَا الْمُسَاوَاة فَلَا
يَكْتَفِي بهَا، بل يكْشف وَجه ذَلِك من طَرِيق النّظر،
فَوَجَدنَا أَن مَا يقْضِي بِهِ حَدِيث أُسَامَة أولى
وأصوب من حَدِيث عبد الله، بَيَان ذَلِك أَن الْمَسْجِد
الْحَرَام وَغَيره من الْمَسَاجِد وَجَمِيع الْمَوَاضِع
الَّتِي لَا تدخل فِي ملك أحد لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي
فِيهَا بِنَاء، أَو يحتجر موضعا مِنْهَا، ألاَ ترى أَن
مَوضِع الْوُقُوف بِعَرَفَة لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي
فِيهَا بِنَاء، وَكَذَلِكَ منى لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي
فِيهَا دَارا لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله أَلا تتَّخذ لَك
بمنى بَيْتا تستظل فِيهِ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَة! إِنَّهَا
مناخ لمن سبق) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد
والطَّحَاوِي، وَوجدنَا مَكَّة على خلاف ذَلِك، لِأَنَّهُ
قد أُجِيز فِيهَا الْبناء، وَقد قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم دخل مَكَّة: (من دخل دَار أبي
سُفْيَان فَهُوَ آمن) ، فَهَذَا يذل على أَن مَكَّة مِمَّا
يبْنى فِيهَا الدّور، وَمِمَّا يغلق عَلَيْهَا
الْأَبْوَاب، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون صفتهَا صفة
الْمَوَاضِع الَّتِي تجْرِي عَلَيْهَا الْأَمْلَاك،
وَتَقَع فِيهَا الْمَوَارِيث، فَحِينَئِذٍ يجوز بيع الدّور
الَّتِي فِيهَا، وَيجوز إِجَارَتهَا، وَقَالَ ابْن قادمة:
أضَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّار إِلَى أبي
سُفْيَان إِضَافَة ملك، يَقُول: من دخل دَار أبي سُفْيَان
فَهُوَ آمن، وَلِأَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَت لَهُم دور بِمَكَّة: دَار لأبي بكر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وللزبير وَحَكِيم بن حزَام وَغَيرهم
مِمَّا يكثر تعدادهم، فبعضٌ بيعَ وبعضٌ فِي يَد أَعْقَابهم
إِلَى الْيَوْم، وَأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
اشْترى من صَفْوَان بن أُميَّة دَارا بأَرْبعَة آلَاف
دِرْهَم، وَاشْترى مُعَاوِيَة من حَكِيم بن حزَام دارين
بِمَكَّة: إِحْدَاهمَا بستين ألف دِرْهَم، وَالْأُخْرَى
بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم، وَهَذِه قصَص اشتهرت فَلم
تنكر، فَصَارَت إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا أَرض حَيَّة لم
ترد عَلَيْهَا صَدَقَة مُحرمَة، فَجَاز بيعهَا كَسَائِر
الْأَرَاضِي، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَإِن احْتج مُحْتَج
فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن
سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي جَعَلْنَاهُ
للنَّاس سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي} (الْحَج: 52) . قيل
لَهُ: قد رُوِيَ فِي تَأْوِيل هَذَا عَن الْمُتَقَدِّمين
مَا حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق قَالَ: حَدثنَا أَبُو
عَاصِم عَن عبد الله بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: {سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي} قَالَ: خلق
الله فِيهِ سَوَاء، فَثَبت بذلك أَنه إِنَّمَا قصد بذلك
إِلَى الْبَيْت أَو إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام لَا إِلَى
سَائِر مَكَّة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يتساوى النَّاس
فِي غير الْمَسْجِد الْحَرَام، لِأَن بَعضهم يكونُونَ
ملاكا وَبَعْضهمْ يكونُونَ سكانا، فالمالك يجوز لَهُ بيع
ملكه وإجارته وَنَحْوهمَا، ويخدش هَذَا مَا رُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: كَانُوا يرَوْنَ الْحرم كُله
مَسْجِدا سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي، وروى الثَّوْريّ
عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: يَا أهل مَكَّة لَا تَتَّخِذُوا لدوركم
أبوابا لينزل البادي حَيْثُ شَاءَ، وروى عبيد الله عَن
نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عمر نهى أهل مَكَّة أَن يغلقوا
أَبْوَاب دُورهمْ دون الْحَاج، وروى ابْن أبي نجيح عَن
عبيد الله بن عمر، قَالَ: من أكل كِرَاء بيُوت أهل مَكَّة،
فَإِنَّمَا يَأْكُل نَارا فِي بَطْنه.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن فِيهِ: دَلِيلا على بَقَاء دور
مَكَّة لأربابها، وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمُسلم لَا
يَرث الْكَافِر، وفقهاء الْأَمْصَار على ذَلِك إلاَّ مَا
حُكيَ عَن مُعَاوِيَة ومعاذ وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَإِسْحَاق: أَن الْمُسلم يَرث
الْكَافِر، وَأَجْمعُوا على أَن الْكَافِر لَا يَرث
الْمُسلم.
54 - (بابُ نُزُولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَّة، وَمرَاده بَيَان مَوضِع
نُزُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9851 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ أنَّ أبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ أرَادَ قُدُومَ
مَكَّةَ مَنْزِلُنَا غَدا إنْ شَاءَ الله تَعَالَى
بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى
الكُفْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (منزلنا غَدا) إِلَى
آخِره.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن
نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى
(9/228)
بن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (حِين أَرَادَ قدوم مَكَّة) ، يَعْنِي: حِين
رُجُوعه من منى وتوجهه إِلَى الْبَيْت. قَوْله: (منزلنا)
مَرْفُوع على الِابْتِدَاء. (وَغدا) نصب على الظّرْف. و
(إِن شَاءَ الله) كَلَام معترض بَين الْمُبْتَدَأ وَخَبره،
ذكره للتبرك والامتثال لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقولن
لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا. .} (الْكَهْف: 32) .
الْآيَة. قَوْله: (بخيف بني كنَانَة) أَي: فِي خيف، وَهُوَ
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء، وَهُوَ مَا انحدر من الْجَبَل
وارتفع عَن المسيل، و: كنَانَة، بِكَسْر الْكَاف
وَتَخْفِيف النُّون الأولى. قَوْله: (حَيْثُ تقاسموا) أَي:
تحالفوا على الْكفْر. قَالَ النَّوَوِيّ: معنى تقاسمهم على
الْكفْر تحالفهم على إِخْرَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَبني هَاشم وَالْمطلب من مَكَّة إِلَى هَذَا
الشّعب، وَهُوَ خيف بني كنَانَة، وَكَتَبُوا بَينهم
الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة فِيهَا أَنْوَاع من الْبَاطِل،
فَأرْسل الله عَلَيْهَا الأرضة فَأكلت مَا فِيهَا من
الْكفْر وَتركت مَا فِيهَا من ذكر الله تَعَالَى، فَأخْبر
جِبْرِيل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَأخْبر
بِهِ عَمه أَبَا طَالب، فَأخْبرهُم عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فوجدوه كَمَا قَالَه، والقصة
مَشْهُورَة، نوضحها بِأَكْثَرَ من ذَلِك عَن قريب، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
0951 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ
قَالَ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني الزُّهرِيُّ
عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وهْوَ بِمِنًى نَحْنُ
نازُلُونَ غَدا بِخَيْفِ بَني كِنَانَةَ حَيْثَ تَقاسَمُوا
عَلى الكُفْرِ يَعْني ذالِكَ المُحَصَّبَ وذالِكَ أنَّ
قُرَيْشا وكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ
وبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبُ أوْ بَنِي المُطَّلِّبِ أنْ لاَ
يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمِوا
إلَيْهِمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ عَن
عبد الله بن الزبير الْحميدِي الْمَكِّيّ عَن الْوَلِيد بن
مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن
بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي
هُرَيْرَة.
قَوْله: (من الْغَد) أَصله: من الغدو، فحذفوا اللَّام
وَهُوَ أول النَّهَار، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغدوة،
بِضَم الْغَيْن: مَا بَين الصُّبْح وطلوع الشَّمْس.
قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، نصب على الظّرْف، أَي: قَالَ:
فِي غَدَاة يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَهُوَ بمنى) ، جملَة
إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (نَحن نازلون) ، مقول قَوْله:
قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(يَعْنِي ذَلِك المحصب) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يَعْنِي بذلك
المحصب) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النُّزُول فِي
المحصب هُوَ فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة
لَا فِي الْيَوْم الثَّانِي من الْعِيد الَّذِي هُوَ
الْغَد حَقِيقَة؟ قلت: تجوز عَن الزَّمَان الْمُسْتَقْبل
الْقَرِيب بِلَفْظ الْغَد، كَمَا يتجوز بالْأَمْس عَن
الْمَاضِي. قَوْله: (وَذَلِكَ أَن قُريْشًا وكنانة) ، عطف
على قُرَيْش مَعَ أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن
كنَانَة، فَيكون من بَاب التَّعْمِيم بعد التَّخْصِيص،
وَيحْتَمل أَن يُرَاد بكنانة غير قُرَيْش، فقريش قسيم لَهُ
لَا قسم مِنْهُ قيل: لم يعقب النَّضر غير مَالك، وَلَا
مَالك غير فهر، فقريش ولد النَّضر بن كنَانَة، وَأما
كنَانَة فأعقب من غير النَّضر، فَلهَذَا وَقعت
الْمُغَايرَة. قَوْله: (أَو بني الْمطلب) كَذَا وَقع
عِنْده بِالشَّكِّ، وَوَقع عِنْد الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق
أُخْرَى عَن الْوَلِيد. (وَبني الْمطلب) بِغَيْر شكّ.
وَقَالَ الدَّاودِيّ قَوْله: (بني عبد الْمطلب) . وهم
قَوْله: (تحالفت) كَانَ الْقيَاس فِيهِ: تحالفوا، وَلَكِن
أفرده بِصِيغَة الْمُفْرد الْمُؤَنَّث بِاعْتِبَار
الْجَمَاعَة. قَوْله: (أَن لَا يناكحوهم) ، يَعْنِي: لَا
يَقع بَينهم عقد نِكَاح بِأَن لَا يتَزَوَّج قُرَيْش
وكنانة امْرَأَة من بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب، وَلَا
يزوجوا امْرَأَة مِنْهُم إيَّاهُم، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى
فِي قَوْله: (وَلَا يبايعوهم) ، بِأَن لَا يبيعوا لَهُم
وَلَا يشتروا مِنْهُم، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مُصعب
عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد أَحْمد: (أَن لَا يناكحوهم وَلَا
يخالطوهم) . وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (وَلَا
يكون بَينهم وَبينهمْ شَيْء) ، وَهَذَا أَعم. قَوْله:
(حَتَّى يسلمُوا) ، بِضَم الْيَاء. وَكَانَت هَذِه
الْقِصَّة فِيمَا ذكر فِي (الطَّبَقَات) : لما بلغ
قُريْشًا فعل النَّجَاشِيّ بِجَعْفَر وَأَصْحَابه، وإكرامه
لَهُم، كبر ذَلِك عَلَيْهِم جدا وغضبوا وَأَجْمعُوا على
قتل سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَتَبُوا كتابا على بني هَاشم أَن لَا يناكحوهم وَلَا
يبايعوهم وَلَا يخالطوهم، وَكَانَ الَّذِي كتب الصَّحِيفَة
مَنْصُور بن عِكْرِمَة الْعَبدَرِي فشُلَّت يَده، وَفِي
الْأَنْسَاب للزبير بن أبي بكر، اسْمه: بغيض بن عَامر بن
هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار، وَقَالَ الْكَلْبِيّ:
هُوَ
(9/229)
مَنْصُور بن عَامر بن هَاشم أَخُو عِكْرِمَة بن عَامر بن
هَاشم، ثمَّ ذكر فِي (الطَّبَقَات) : وعلقوا الصَّحِيفَة
فِي جَوف الْكَعْبَة، وَقَالَ بَعضهم: بل كَانَت عِنْد أم
الْجلاس بنت مخربة الحنظلية، خَالَة أبي جهل، وحصروا بني
هَاشم فِي شعب أبي طَالب لَيْلَة هِلَال الْمحرم سنة سبع
من حِين النُّبُوَّة، وانحاز بَنو الْمطلب بن عبد منَاف
إِلَى أبي طَالب فِي شُعْبَة، وَخرج أَبُو لَهب إِلَى
قُرَيْش فظاهرهم على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَقَطعُوا
عَنْهُم الْميرَة والمارة، فَكَانُوا لَا يخرجُون إلاَّ من
موسم إِلَى موسم حَتَّى بَلغهُمْ الْجهد، فأقاموا فِيهِ
ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أطلع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على أَمر صحيفتهم وَأَن الأرضة أكلت مَا كَانَ
فِيهَا من جور وظلم. وَبَقِي مَا كَانَ فِيهَا من ذكر
الله، عز وَجل، وَفِي لفظ: (ختموا على الْكتاب ثَلَاثَة
خَوَاتِيم) فَذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لأبي طَالب، فَقَالَ أَبُو طَالب لكفار قُرَيْش: إِن ابْن
أخي أَخْبرنِي، وَلم يكذبنِي قطّ، أَن الله تَعَالَى قد
سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست مَا كَانَ فِيهَا من جور
وظلم وَبَقِي فِيهَا كل مَا ذكر بِهِ الله تَعَالَى، فَإِن
كَانَ ابْن أخي صَادِقا نزعتم عَن سوء رَأْيكُمْ، وَإِن
كَانَ كَاذِبًا دَفعته إِلَيْكُم فقتلتموه أَو استحييتموه.
قَالُوا: قد أنصفتنا، فَإِذا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسقط فِي أَيْديهم ونكسوا على
رؤوسهم، فَقَالَ أَبُو طَالب: علام نحبس ونحصر، وَقد بَان
الْأَمر؟ فتلاوم رجال من قُرَيْش على مَا صَنَعُوا ببني
هَاشم، مِنْهُم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وَزَمعَة بن
الْأسود وَأَبُو البحتري بن هَاشم وَزُهَيْر بن أبي
أُميَّة، ولبسوا السِّلَاح ثمَّ خَرجُوا إِلَى بني هَاشم
وَبني الْمطلب فأمروهم بِالْخرُوجِ إِلَى مساكنهم،
فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش ذَلِك سقط فِي
أَيْديهم وَعرفُوا أَن لن يسلموهم، وَكَانَ خُرُوجهمْ من
الشّعب فِي السّنة الْعَاشِرَة.
وقالَ سَلاَمَةُ عنْ عُقَيْلٍ ويَحْيى بنُ الضَّحاكِ عنِ
الأوْزَاعِيِّ: أخبَرَنِي ابْن شِهَابٍ وقَالا بَنِي
هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله بَنِي
المطَّلِبِ أشْبِهُ
سَلامَة هُوَ ابْن روح، بِفَتْح الرَّاء: الْأَيْلِي، هُوَ
يروي عَن عَمه عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد
الْأَيْلِي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن خُزَيْمَة فِي
(صَحِيحه) من طَرِيقه. قَوْله: (وَيحيى عَن الضَّحَّاك) ،
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وكريمة بِلَفْظ: عَن
الضَّحَّاك، وَالصَّحِيح: وَيحيى بن الصحاك، وَهُوَ يحيى
بن عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، بباءين موحدتين
الثَّانِيَة مَضْمُومَة وَبعدهَا اللَّام المضمومة
وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة، نِسْبَة إِلَى:
بابلت، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وظني أَنَّهَا مَوضِع
بالجزيرة، وَقَالَ الرشاطي: مَوضِع بِالريِّ، وَنسبَة يحيى
هَذَا إِلَى جده وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَة فِي البُخَارِيّ
إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ يروي عَن عبد الرَّحْمَن
بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ يحيى بن معِين: يحيى بن
عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، وَالله لم يسمع من
الْأَوْزَاعِيّ شَيْئا، وَذكر الْهَيْثَم بن خلف الدوري
أَن أمه كَانَت تَحت الْأَوْزَاعِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
فَلَا يبعد سَمَاعه مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي حجره، وَقَالَ
عَنْبَسَة بن خَالِد: لم يكن لِسَلَامَةِ ابْن روح من السن
مَا يسمع من عقيل بن خَالِد، وَتَعْلِيق يحيى عَن
الضَّحَّاك وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والخطيب فِي
(المدرج) . قَوْله: (وَقَالا) ، أَي: سَلامَة وَيحيى أَن
روايتهما عَن شيخهما عَن ابْن شهَاب هُوَ بني الْمطلب دون
لفظ: عبد، بِخِلَاف رِوَايَة الْوَلِيد فَإِنَّهَا مترددة
بَين الْمطلب وَعبد الْمطلب. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد
الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه بني الْمطلب أشبه
بِالصَّوَابِ يَعْنِي بِحَذْف العَبْد، لِأَن عبد الْمطلب
هُوَ ابْن هَاشم، وَلَفظ هَاشم مغن عَنهُ، وَأما الْمطلب
فَهُوَ أَخُو هَاشم وهما ابْنَانِ لعبد منَاف، فالمقصود
أَنهم تحالفوا على بني عبد منَاف.
[با 64 |