عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
03 - (كتاب الصَّوْم)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الصّيام هَذَا،
هَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين: كتاب الصَّوْم، وَثبتت الْبَسْمَلَة
للْجَمِيع، ثمَّ الْكَلَام هَهُنَا من وُجُوه:
الأول: مَا وَجه تَأْخِير كتاب الصَّوْم، وَذكره آخر كتب
الْعِبَادَات؟ وَهُوَ أَن الْعِبَادَات الَّتِي هِيَ
أَرْكَان الْإِيمَان أَرْبَعَة: الصَّلَاة وَالزَّكَاة
وَالْحج وَالصَّوْم، قدمت الصَّلَاة لكَونهَا تالية
الْإِيمَان وثانيته فِي الْكتاب وَالسّنة، أما الْكتاب
فَقَوْل الله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ
ويقيمون الصَّلَاة} (الْبَقَرَة: 3) . وَأما السّنة
فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على
خمس) الحَدِيث، ثمَّ ذكرت الزَّكَاة عقيبها لِأَنَّهَا
ثَانِيَة الصَّلَاة وثالثة الْإِيمَان فِي الْكتاب
وَالسّنة كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ ذكر الْحَج لِأَن
الْعِبَادَات الْأَرْبَعَة بدنية مَحْض، وَهِي: الصَّلَاة
الصَّوْم، ومالية مَحْض وَهِي: ومركبة مِنْهُمَا وَهُوَ:
الْحَج، وَكَانَ مُقْتَضى الْحَال أَن يذكر الصَّوْم عقيب
الصَّلَاة لِكَوْنِهِمَا من وادٍ واحدٍ، لَكِن ذكرت
الزَّكَاة عقيبها لما ذكرنَا، ثمَّ أَن غَالب المصنفين
ذكرُوا الصَّوْم عقيب الزَّكَاة فَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا،
وَالَّذِي ذكره البُخَارِيّ من تَأْخِير الصَّوْم وَذكره
فِي الْأَخير هُوَ الْأَوْجه والأنسب، لِأَن ذكر الْحَج
عقيب الزَّكَاة هُوَ الْمُنَاسب من حَيْثُ اشْتِمَال كل
مِنْهُمَا على بذل المَال، وَلم يبْق للصَّوْم مَوضِع
إلاَّ فِي الْأَخير.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي تَفْسِير الصَّوْم لُغَة وَشرعا،
وَهُوَ فِي اللُّغَة: الْإِمْسَاك، قَالَ الله تَعَالَى
حِكَايَة عَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام: {إِنِّي نذرت
للحرمن صوما} (مَرْيَم: 62) . أَي: صمتا وسكوتا، وَكَانَ
مَشْرُوعا عِنْدهم، ألاَ تَرى إِلَى قَوْلهَا: {فَلَنْ
أكلم الْيَوْم أنسيا} (مَرْيَم: 62) . وَقَالَ النَّابِغَة
الذبياني:
(خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تَحت العجاج، وَأُخْرَى
تعلك اللجما)
أَي: قَائِمَة على غير علف، قَالَه الْجَوْهَرِي: وَقَالَ
ابْن فَارس: ممسة عَن السّير، وَفِي (الْمُحِيط) وَغَيره:
ممسكة عَن الاعتلاف. وَصَامَ النَّهَار إِذا قَامَ قيام
الظهيرة. وَقَالَ: صَامَ النَّهَار وهجرا يَعْنِي: قَامَ
قَائِم الظهيرة، وَقَالَ أَبُو عبيد: كل مُمْسك عَن طَعَام
أَو كَلَام أَو سير: صَائِم، وَالصَّوْم ركود الرّيح،
وَالصَّوْم الْبيعَة، وَالصَّوْم ذرق الْحمام وسلخ
النعامة، وَالصَّوْم: اسْم شجر. وَفِي (الْمُحِيط) : صَامَ
صوما وصياما واصطام، وَرجل صَائِم وَصَوْم، وَقوم صوام
وَصِيَام وَصَوْم وصيم وصيم، عَن سِيبَوَيْهٍ كسروا
الصَّاد لمَكَان الْيَاء، وَصِيَام وصيامى الْأَخِيرَة
نادرة، وَصَوْم وَهُوَ اسْم للْجمع، وَقيل: هُوَ جمع
صَائِم، وَنسَاء صَوْم. وَفِي (الصِّحَاح) وَرجل صومان.
وَأما فِي الشَّرْع: فالصوم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل
وَالشرب وَالْجِمَاع وَمَا هُوَ مُلْحق بِهِ من طُلُوع
الْفجْر الثَّانِي إِلَيّ غرُوب الشَّمْس، وَقَالَ ابْن
سَيّده: الصَّوْم ترك الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّكَاح
وَالْكَلَام، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَقع الصَّوْم فِي
عرف الشَّرْع على إمْسَاك مَخْصُوص فِي زمن مَخْصُوص مَعَ
النِّيَّة، وَقَالَ ابْن قدامَة: هُوَ الْإِمْسَاك عَن
المفطرات من طُلُوع الْفجْر الثَّانِي إِلَى غرُوب
الشَّمْس، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَنه لما صلى الْفجْر، قَالَ: الْآن حِين تبين الْخَيط
الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود، وَعَن ابْن مَسْعُود
نَحوه، وَقَالَ مَسْرُوق: لم يَكُونُوا يعدون الْفجْر
محرما إِنَّمَا كَانُوا يعدون الْفجْر الَّذِي يمْلَأ
الْبيُوت والطرق، وَهَذَا قَول الْأَعْمَش، وَقَالَ ابْن
عَسَاكِر: فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن
بِلَالًا يُؤذن بلَيْل دَلِيل على أَن الْخَيط الْأَبْيَض
هُوَ الصَّباح، وَأَن السّحُور لَا يكون إلاَّ قبل
الْفجْر، وَهَذَا إِجْمَاع لم يُخَالف فِيهِ إلاَّ
الْأَعْمَش، وَلم يعرج أحد على قَوْله لشذوذه. قلت: قد نقل
قَول جمَاعَة من السّلف بموافقة الْأَعْمَش، وَعَن ذَر،
قُلْنَا لِحُذَيْفَة: أَيَّة سَاعَة تسحرت مَعَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ:
(10/253)
هِيَ النَّهَار إلاَّ أَن الشَّمْس لم
تطلع، رَوَاهُ النَّسَائِيّ، قيل: هُوَ مُبَالغَة فِي
تَأْخِير السّحُور.
الْوَجْه الثَّالِث: اخْتلفُوا فِي أَي صَوْم وَجب فِي
الْإِسْلَام أَولا، فَقيل: صَوْم عَاشُورَاء، وَقيل:
ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لما قدم الْمَدِينَة جعل يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة
أَيَّام، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَلما فرض رَمَضَان خير
بَينه وَبَين الْإِطْعَام، ثمَّ نسخ الْجَمِيع بقوله
تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}
(الْبَقَرَة: 581) . وَنزلت فَرِيضَة رَمَضَان فِي شعْبَان
من السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فصَام رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع رمضانات، وَقيل: اخْتلف
السّلف: هَل فرض على النَّاس صِيَام قبل رَمَضَان أَو لَا؟
فالجمهور وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة: أَنه
لم يجب قطّ صَوْم قبل صَوْم رَمَضَان، وَفِي وَجه وَهُوَ
قَول الْحَنَفِيَّة: أول مَا فرض صِيَام عَاشُورَاء
فَلَمَّا نزل رَمَضَان، نسخ، وَالله أعلم.
1 - (بابُ وُجُوبِ صَوْمِ رمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب صَوْم شهر رَمَضَان،
وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ: بَاب وجوب صَوْم رَمَضَان وفضله.
وقوْلِ الله تعَالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(الْبَقَرَة: 381) .
هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة (وَقَول) مجرور لِأَنَّهُ
عطف على قَوْله: وجوب الصَّوْم، وَأَشَارَ بإيراد هَذِه
الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى أُمُور تَتَضَمَّن هَذِه
الْآيَة، وَهِي: فَرضِيَّة صَوْم رَمَضَان بقوله تَعَالَى:
{كتب عَلَيْكُم الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . وَأَنه كَانَ
فرضا من قبلنَا من الْأُمَم، وَأَن الصَّوْم وصلَة إِلَى
التقى لِأَنَّهُ من الْبر الَّذِي يكف الْإِنْسَان عَن
كثير مِمَّا تطلع لَهُ النَّفس من الْمعاصِي. وَفِيه:
تَزْكِيَة للبدن وتضييق لمسالك الشَّيْطَان، كَمَا ثَبت
فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ
مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ
بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء) ، ثمَّ إِنَّهُم
تكلمُوا فِي هَذَا التَّشْبِيه، وَهُوَ قَوْله: {كَمَا كتب
على الَّذين من قبلكُمْ} (الْبَقَرَة: 381) . فَقيل:
إِنَّه تَشْبِيه فِي أصل الْوُجُوب لَا فِي قدر الْوَاجِب،
وَكَانَ الصَّوْم على آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أَيَّام الْبيض، وَصَوْم عَاشُورَاء على قوم
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ على كل
أمة صَوْم، والتشبيه لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة من كل
وَجه كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّكُم
سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة
الْبَدْر) ، وَهَذَا تَشْبِيه الرُّؤْيَة بِالرُّؤْيَةِ
لَا تَشْبِيه المرئي بالمرئي، وَقيل: هَذَا التَّشْبِيه
فِي الأَصْل وَالْقدر وَالْوَقْت جَمِيعًا، وَكَانَ على
الْأَوَّلين صَوْم رَمَضَان لكِنهمْ زادوا فِي الْعدَد
ونقلوا من أَيَّام الْحر إِلَى أَيَّام الِاعْتِدَال،
وَعَن الشّعبِيّ: إِن النَّصَارَى فرض عَلَيْهِم شهر
رَمَضَان كَمَا فرض علينا، فحولوه إِلَى الْفَصْل،
وَذَلِكَ أَنهم رُبمَا صاموه فِي القيظ فعدوا ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، ثمَّ جَاءَ بعدهمْ قرن مِنْهُم فَأخذُوا بالثقة
فِي أنفسهم فصاموا قبل الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبعدهَا،
ثمَّ لم يزل الآخر يستن بِسنة الْقرن الَّذِي قبله حَتَّى
صَارَت إِلَى خمسين، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ
آخَرُونَ: بل التَّشْبِيه إِنَّمَا هُوَ من أجل أَن صومهم
كَانَ من الْعشَاء الْآخِرَة إِلَى الْعشَاء الْآخِرَة،
وَكَانَ ذَلِك فرض على الْمُؤمنِينَ فِي أول مَا افْترض
عَلَيْهِم الصَّوْم، وَقَالَ السّديّ: النَّصَارَى كتب
عَلَيْهِم رَمَضَان وَكتب عَلَيْهِم أَن لَا يَأْكُلُوا
وَلَا يشْربُوا بعد النّوم وَلَا ينكحوا النِّسَاء شهر
رَمَضَان، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّصَارَى وَجعل يتقلب
عَلَيْهِم فِي الشتَاء والصيف، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك
اجْتَمعُوا فَجعلُوا صياما فِي الْفَصْل بَين الشتَاء
والصيف، وَقَالُوا: نزيد عشْرين يَوْمًا نكفر بهَا مَا
صنعنَا، فَجعلُوا صِيَامهمْ خمسين يَوْمًا، فَلم يزل
الْمُسلمُونَ على ذَلِك يصنعون كَمَا تصنع النَّصَارَى
حَتَّى كَانَ من أَمر أبي قيس بن صرمة وَعمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، مَا كَانَ، فأحل الله لَهُم الْأكل
وَالشرب وَالْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر.
وَفِي تَفْسِير ابْن أبي حَاتِم: عَن الْحسن، قَالَ:
وَالله لقد كتب الصّيام على كل أمة خلت كَمَا كتبه علينا
شهرا كَامِلا وَفِي تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ: عَن قَتَادَة:
كتب الله تَعَالَى على قوم مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، صِيَام رَمَضَان، فغيروا وَزَاد
أَحْبَارهم عشرَة أَيَّام أُخْرَى. ثمَّ مرض بعض
أَحْبَارهم فَنَذر إِن شفي أَن يزِيد فِي صومهم عشرَة
أَيَّام أُخْرَى فَفعل، فَصَارَ صَوْم النَّصَارَى خمسين
يَوْمًا، فصعب عَلَيْهِم فِي الْحر فنقلوه إِلَى الرّبيع،
قَالَ: وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل النّحاس،
(10/254)
وَأسْندَ فِيهِ حَدِيثا يدل على صِحَّته.
فَإِن قلت: لم يعلم من هَذِه الْآيَة إلاَّ أصل فَرضِيَّة
الصَّوْم، وَلم يعلم الْعدَد، وَلَا كَونه فِي شهر
رَمَضَان؟ قلت: لما علم فِيهَا أصل الْفَرْض نزل قَوْله:
{أَيَّامًا معدودات} (الْبَقَرَة: 481) . فَعلم من ذَلِك
أَن الْفَرْض أَيَّام معدودات، وَلما نزل: {شهر رَمَضَان
الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} (الْبَقَرَة: 581) . علم
أَن ذَلِك الْعدَد هُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ فرض
فِي رَمَضَان، والشهر ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَإِن نقص فَحكمه
حكمه، وَعَن هَذَا قَالُوا: إِن الشَّهْر مَرْفُوع على
أَنه بدل من قَوْله: {الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . فِي
قَوْله: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) .
وقرىء بِالنّصب على: صُومُوا شهر رَمَضَان، أَو على أَنه
بدل من قَوْله: {أَيَّامًا معدودات} (الْبَقَرَة: 481) .
وانتصاب: أَيَّامًا، على الظَّرْفِيَّة، أَي: كتب
عَلَيْكُم الصّيام فِي أَيَّام معدودات، وَبَينهَا بقوله:
{شهر رَمَضَان} (الْبَقَرَة: 581) . فَإِن قلت: مَا
الْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص على الثَّلَاثِينَ الَّتِي
هِيَ الشَّهْر الْكَامِل؟ قلت: قَالُوا: لما أكل آدم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّجَرَة الَّتِي
نهى عَنْهَا، بَقِي شَيْء من ذَلِك فِي جَوْفه ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، فَلَمَّا تَابَ الله عَلَيْهِ أمره بصيام
ثَلَاثِينَ يَوْمًا بلياليهن، ذكره فِي (خُلَاصَة
الْبَيَان فِي تَلْخِيص مَعَاني الْقُرْآن) .
1981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ أبِي سُهَيْلٍ عنْ أبِيهِ
عنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله أنَّ أعْرَابِيّا جاءَ
إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثائِرَ الرَّأسِ
فَقَالَ يَا رسولَ الله أخْبِرْنِي ماذَا فرَضَ الله
عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فَقَالَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسُ
إلاَّ أَن تطَوَّعَ شيْئَا فَقَالَ أخبِرْنِي مَا فَرَض
الله عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ فَقَالَ شَهْرَ رَمَضَانَ
إلاَّ أنْ تَطَوَّعَ شَيْئا فَقَالَ أخبِرْنِي بِمَا
فَرَضَ الله عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ فَقَالَ فأخْبَرَهُ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرَائِعَ الإسْلامِ
قَالَ والَّذِي أكْرَمَكَ لاَ أتَطَوَّعُ شَيْئا وَلَا
أنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ الله عَلَيَّ شَيْئا فَقَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْلَحَ إنْ صَدَقَ أوْ
دَخَلَ الجَنَّةَ إنْ صَدَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخْبرنِي مَا فرض الله
عَليّ من الصّيام؟ فَقَالَ: شهر رَمَضَان) ، وَهَذَا
الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب الزَّكَاة
من الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل
عَن مَالك بن أنس عَن عَمه أبي سُهَيْل بن مَالك عَن
أَبِيه أَنه سمع طَلْحَة بن عبيد الله، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، الحَدِيث، وَلَا يَخْلُو عَن زِيَادَة
ونقصان فِي الْمَتْن، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
مُسْتَوفى، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم
الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَقد تقدم فِي كتاب الْإِيمَان،
وَأَبُو سُهَيْل مصغر: السهل نَافِع ابْن مَالك بن عَامر،
مر فِي: بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق، وَأَبوهُ مَالك بن
أبي عَامر أَو أنس الأصبحي الْمدنِي جد مَالك بن أنس،
وَطَلْحَة ابْن عبيد الله أحد الْعشْرَة المبشرة.
قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي:
منتفش شعر الرَّأْس ومنتشره. قَوْله: (أَن تطوَّع)
بتَخْفِيف الطَّاء وتشديدها، وَالِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع،
وَقيل: مُتَّصِل. قَوْله: (بشرائع الْإِسْلَام) أَي: بِنصب
الزَّكَاة ومقاديرها وَغير ذَلِك مِمَّا يتَنَاوَل الْحَج
وَأَحْكَامه، وَيحْتَمل أَن الْحَج حِينَئِذٍ لم يكن
مَفْرُوضًا مُطلقًا، أَو على السَّائِل، وَمَفْهُوم.
قَوْله: (إِن صدق) ! أَنه إِذا تطوع لَا يفلح مَفْهُوم
الْمُخَالفَة فَلَا اعْتِبَار بِهِ لِأَن لَهُ مَفْهُوم
الْمُوَافقَة، وَهُوَ أَنه إِذا تطوع يكون مفلحا
بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهُوَ مقدم على مَفْهُوم
الْمُخَالفَة.
2 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن
أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ صَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - عَاشُورَاء وَأمر بصيامه فَلَمَّا فرض رَمَضَان ترك
وَكَانَ عبد الله لَا يَصُومهُ إِلَّا أَن يُوَافق صَوْمه)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَلَمَّا فرض رَمَضَان
" وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ
قَوْله " عَاشُورَاء " مَمْدُود ومقصور وَهُوَ الْيَوْم
الْعَاشِر من الْمحرم وَقيل أَنه التَّاسِع مِنْهُ
مَأْخُوذ من إظماء الْإِبِل فَإِن الْعَرَب تسمي الْيَوْم
الْخَامِس من أَيَّام الْورْد أَرْبعا وَكَذَا بَاقِي
الْأَيَّام على هَذِه النِّسْبَة فَيكون التَّاسِع عشر أَو
قَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي كِتَابه الْمَمْدُود
والمقصور بَاب
(10/255)
مَا جَاءَ من المدود على مِثَال فاعولاء
اسْما وَلم يَأْتِ صفة عَاشُورَاء مَعْرُوفَة وَيُقَال
أَصَابَتْهُم ضاروراء مُنكرَة من الضّر قَوْله " وَأمر
بصيامه " يدل على أَنه كَانَ فرضا ثمَّ نسخ بِفَرْض
رَمَضَان قَوْله " وَكَانَ عبد الله " أَي ابْن عمر رَاوِي
الحَدِيث لَا يَصُومهُ أَي لَا يَصُوم يَوْم عَاشُورَاء
بعد فرض رَمَضَان وَذَلِكَ كَرَاهِيَة أَن يعظم فِي
الْإِسْلَام كَمَا كَانَ يعظم فِي الْجَاهِلِيَّة وَتَركه
صَوْم عَاشُورَاء لَا يدل على عدم جَوَاز صَوْمه فَإِن من
صَامَهُ مبتغيا بصومه ثَوَاب الله وَلَا يُرِيد بِهِ
إحْيَاء سنة أهل الشّرك فَلهُ عِنْد الله أجر عَظِيم
وكراهية ابْن عمر صَوْم عَاشُورَاء نَظِيره كَرَاهِيَة من
كره صَوْم رَجَب إِذا كَانَ شهرا يعظمه الْجَاهِلِيَّة
فكره أَن يعظم فِي الْإِسْلَام مَا كَانَ يعظم فِي
الْجَاهِلِيَّة من غير تَحْرِيم صَوْمه على من صَامَهُ
وَلَا يؤيسه من الثَّوَاب الَّذِي وعد الله للصائمين
قَوْله " إِلَّا أَن يُوَافق صَوْمه " أَي صَوْمه الَّذِي
كَانَ يعتاده وغرضه أَنه كَانَ لَا يَعْتَقِدهُ تنفلا فِي
عَاشُورَاء وَاخْتلف فِي السَّبَب الْمُوجب لصيام رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاشُورَاء
فَروِيَ أَنه كَانَ يَصُومهُ فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي
البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس قدم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة فَرَأى
الْيَهُود تصومه قَالُوا يَوْم صَالح نجى الله فِيهِ بني
إِسْرَائِيل من عدوهم فصامه مُوسَى فَقَالَ نَحن أَحَق
بمُوسَى مِنْكُم وَيحْتَمل أَن تكون قُرَيْش كَانَت تصومه
كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومهُ مَعَهم قبل أَن يبْعَث
فَلَمَّا بعث تَركه فَلَمَّا هاجرا علم أَنه من شَرِيعَة
مُوسَى فصامه وَأمر بِهِ فَلَمَّا فرض رَمَضَان قَالَ من
شَاءَ فليصمه وَمن شَاءَ أفطر على مَا فِي حَدِيث عَائِشَة
الْآتِي عَن قريب -
3981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي حَبيبٍ أنَّ عِرَاكَ بنَ
مَالِكٍ حدَّثَهُ أنَّ عُرْوَةَ أخْبَرَهُ عَنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ قُرَيشا كانَتْ تَصُومُ
عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أمَرَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِيامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمضانُ
وقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ شاءَ
فَلْيَصُمْهُ ومنْ شاءَ أفْطَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى فرض رَمَضَان) ،
وَرِجَاله قد ذكرُوا، و: عرَاك، بِكَسْر الْعين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، قد مر فِي الصَّلَاة على
الْفراش.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح
كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْحَج، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
قَوْله: (أفطر) ، فَائِدَة تَغْيِير أسلوب الْكَلَام
حَيْثُ قَالَ فِي الصَّوْم بِلَفْظ الْأَمر، وَفِي
الْإِفْطَار بقوله: أفطر، بَيَان أَن جَانب الصَّوْم أرجح،
وَكَأَنَّهُ مَطْلُوب. وَفِيه: إِشْعَار بِكَوْنِهِ
مَنْدُوبًا.
2 - (بابُ فَضْلِ الصَّوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّوْم.
4981 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ الصِّيامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ
يَجْهَلْ وَإنِ امْرُءٌ قاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ
إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله تعَالى
مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ
وشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي الصَّيامُ لِي وَأَنا أجْزِي بِهِ
والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي
بِهِ، وَلم يذكر: الصّيام جنَّة. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن
مَالك بِهِ، وَقَالَ: الصّيام جنَّة، وروى التِّرْمِذِيّ:
حَدثنَا عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز حَدثنَا عبد الْوَارِث
ابْن سعيد عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن ربكُم يَقُول: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا
إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ،
وَالصَّوْم جنَّة من النَّار، ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب
عِنْد الله من
(10/256)
ريح الْمسك، وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل
وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) . وَقَالَ: حَدِيث
حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد انْفَرد
التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ:
وَفِي الْبَاب عَن معَاذ بن جبل وَسَهل بن سعد وَكَعب بن
عجْرَة وسلامة بن قَيْصر وَبشير بن الخصاصية. قَالَ: وَاسم
بشير زحم، والخصاصية هِيَ أمه. أما حَدِيث معَاذ فَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ. قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا
قَرِيبا مِنْهُ وَنحن نسير، فَقلت: أَخْبرنِي بِعَمَل
يدخلني الْجنَّة) . الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ قَالَ: أَلا
أدلك على أَبْوَاب الْخَيْر: الصَّوْم جنَّة) الحَدِيث.
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه
وَالنَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) . وَأما حَدِيث سهل
بن سعد فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِي الْجنَّة بَاب يُدعى
الريَّان يُدعى لَهُ الصائمون فَمن كَانَ من الصائمين دخله
وَمن دخله لم يظمأ أبدا) . وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن مَاجَه
وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال
عَن أبي حَازِم على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما حَدِيث كَعْب بن عجْرَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ
أَيْضا عَنهُ فِي حَدِيث فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة
حَصِينَة) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَأما
حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من حَدِيث عمر بن ربيعَة الْحَضْرَمِيّ،
قَالَ: سَمِعت سَلامَة بن قَيْصر يَقُول: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا
ابْتِغَاء وَجه الله تَعَالَى بعَّده الله، عز وَجل، من
جَهَنَّم بعد غراب طَار وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرما) .
وَأما حَدِيث بشير بن الخصاصية فَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (معجميهما) من رِوَايَة قَتَادَة عَن
جرير بن كُلَيْب عَن بشير ابْن الخصاصية قَالَ يَعْنِي
قَتَادَة: وَحدثنَا أَصْحَابنَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ، يروي عَن ربه تَعَالَى: (الصَّوْم لي وَأَنا
أجزي بِهِ) الحَدِيث.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي سعيد وَعلي وَعَائِشَة
وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ وَأنس
وَجَابِر وَأبي عُبَيْدَة وَحُذَيْفَة وَأبي أُمَامَة
وَعقبَة بن عَامر. وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة
وَأبي سعيد، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن الله يَقُول: إِن الصّيام لي وَأَنا أجزي
بِهِ) الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق
عَن عبد الله بن الْحَارِث عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله يَقُول: الصَّوْم لي
وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه خطأ،
وَالصَّوَاب: عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد
الله بن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَأخْرجهُ
النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عُرْوَة عَنْهَا عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الصّيام جنَّة من النَّار) ،
الحَدِيث. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَرَوَاهُ أَبُو
الشَّيْخ ابْن حبَان فِي كتاب (طَبَقَات الْمُحدثين
بأصبهان) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ:
(الصَّوْم جنَّة) ، من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص عَنهُ.
وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، سَمِعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصّيام جنَّة كجنة أحدكُم
من الْقِتَال) ، وَزَاد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة: (جنَّة
من النَّار) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه. وَأما
حَدِيث أنس فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ فِيهِ:
(وَالصِّيَام جنَّة من النَّار) . وَأما حَدِيث جَابر
فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي
(مُسْتَدْركه) عَنهُ فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: (وَالصَّوْم
جنَّة) . وَأما حَدِيث أبي عُبَيْدَة فَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصَّوْم جنَّة مَا لم يخرقها) ،
وَزَاد الدَّارمِيّ: (بالغيبة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا
مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ
أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: (اسندت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ: لَا إلاهَ
إلاَّ الله، من ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن صَامَ
يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة،
وَمن تصدق بِصَدقَة ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا،
دخل الْجنَّة) . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَرَوَاهُ ابْن
عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة الْوَلِيد بن جميل عَن
الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله
جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا بعد مَا بَين
السَّمَاء وَالْأَرْض) . وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر
فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله
تبَارك وَتَعَالَى، باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مسيرَة
مائَة عَام) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جنَّة) ، بِضَم الْجِيم: كل مَا
ستر، وَمِنْه: الْمِجَن، وَهُوَ الترس، وَمِنْه سمي
الْجِنّ لاستتارهم عَن الْعُيُون، والجنان لاستتارها بورق
الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جنَّة من النَّار
لِأَنَّهُ إمْسَاك عَن الشَّهَوَات، وَالنَّار محفوفة
بالشهوات كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (حفت الْجنَّة
بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات) . وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: معنى كَونه جنَّة أَي يقي
(10/257)
صَاحبه مَا يُؤْذِيه من الشَّهَوَات،
وَقَالَ عِيَاض: مَعْنَاهُ يستر من الآثام أَو من النَّار
أَو بِجَمِيعِ ذَلِك، وبالأخير قطع النَّوَوِيّ. قَوْله:
(فَلَا يرْفث) ، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا وَضمّهَا
مَعْنَاهُ: لَا يفحش، وَالْمرَاد من الرَّفَث هُنَا
الْكَلَام الْفَاحِش، وَيُطلق على الْجِمَاع وعَلى
مقدماته، وعَلى ذكره مَعَ النِّسَاء، وَيحْتَمل أَن يكون
النَّهْي عَمَّا هُوَ أَعم مِنْهَا. قَوْله: (وَلَا يجهل)
أَي: لَا يفعل شَيْئا من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة: كالعياط
والسفه والسخرية، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من
طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه: (فَلَا يرْفث
وَلَا يُجَادِل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذَا
أَن غير الصَّوْم يُبَاح فِيهِ مَا ذكر، وَإِنَّمَا
المُرَاد أَن الْمَنْع من ذَلِك يتَأَكَّد بِالصَّوْمِ.
قَوْله: (وَإِن امْرُؤ قَاتله) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة
مَوْصُولَة بِمَا بعده تَقْدِيره: وَإِن قَاتله امْرُؤ،
وَلَفظ: قَاتله، يفسره كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن
أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) . أَي:
استجارك أحد من الْمُشْركين. وَمعنى قَاتله: نازعه ودافعه.
قَوْله: (أَو شاتمه) أَي: أَو تعرض للمشاتمة، وَفِي
رِوَايَة أبي صَالح: (فَإِن سابه أحد) ، وَفِي رِوَايَة
أبي قُرَّة عَن طَرِيق سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه
إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة همام عَن
أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد، وَفِي رِوَايَة سعيد بن
مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل: (فَإِن سابه أحد أَو ماراه) ،
يَعْنِي: جادله، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق
عجلَان مولى المشمعل عَن أبي هُرَيْرَة: (فَإِن شاتمك أحد،
فَقل: إِنِّي صَائِم، وَأَن كنت قَائِما فاجلس) . وَقد
ذكرنَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، (وَإِن جهل على أحدكُم
جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) .
قَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا على
ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن يَقُول ذَلِك
بِلِسَانِهِ إِنِّي صَائِم حَتَّى يعلم من يجهل أَنه معتصم
بالصيام عَن اللَّغْو والرفث وَالْجهل وَالثَّانِي أَن
يَقُول ذَلِك لنَفسِهِ أَي: وَإِذا كنت صَائِما فَلَا
يَنْبَغِي أَن أخدش صومي بِالْجَهْلِ وَنَحْوه، فيزجر
نَفسه بذلك. وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين
صِيَام الْفَرْض وَالنَّفْل، فَيَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ
فِي الْفَرْض، ويقوله لنَفسِهِ فِي التَّطَوُّع، قَوْله:
(فَلْيقل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: كلَاما لسانيا
ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غَالِبا أَو كلَاما نفسانيا
أَي: يحدث بِهِ نَفسه ليمنعها من مشاتمته، وَعند
الشَّافِعِي: يجب الْحمل على كلا الْمَعْنيين.
وَاعْلَم أَن كل أحد مَنْهِيّ عَن الرَّفَث وَالْجهل
والمخاصمة، لَكِن النَّهْي فِي الصَّائِم آكِد. قَالَ
الْأَوْزَاعِيّ: يفْطر السب والغيبة، فَقيل: مَعْنَاهُ
أَنه يصير فِي حكم الْمُفطر فِي سُقُوط الْأجر لَا أَنه
يفْطر حَقِيقَة. انْتهى كَلَامه. فَإِن قلت: قَاتله أَو
شاتمه من بَاب المفاعلة وَهِي للمشاركة بَين
الْإِثْنَيْنِ، والصائم مَأْمُور بالكف عَن ذَلِك؟ قلت:
لَا يُمكن حمله على أصل الْبَاب، وَلكنه قد يَجِيء
بِمَعْنى: فعل، يَعْنِي لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل
لَا غير، كَقَوْلِك: سَافَرت بِمَعْنى نسبت السّفر إِلَى
الْمُسَافِر، وكما فِي قَوْلهم: عافاه الله، وَفُلَان عالج
الْأَمر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكرنَا من رِوَايَة سُهَيْل
عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَقد
مضى عَن قريب.
قَوْله: (مرَّتَيْنِ) اتّفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنه
يَقُول: إِنِّي صَائِم، فَمنهمْ من ذكرهَا مرَّتَيْنِ،
وَمِنْهُم من اقْتصر على وَاحِدَة. قَوْله: (وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ) ، أقسم على ذَلِك للتَّأْكِيد. قَوْله:
(لخلوف فَم الصَّائِم) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة لَا
غير، هَذَا هُوَ لمعروف فِي كتب اللُّغَة، والْحَدِيث،
وَلم يحك صاحبا (الْمُحكم) و (الصِّحَاح) غَيره. وَقَالَ
عِيَاض: وَكثير من الشُّيُوخ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِهَا،
قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ خطأ. قَالَ القَاضِي: وَحكي عَن
الْقَابِسِيّ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم، وَقَالَ أهل
الْمشرق: يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَالصَّوَاب الأول.
وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي رِوَايَة (لخلفة فَم
الصَّائِم) ، بِالضَّمِّ أَيْضا، وَقَالَ البرقي: هُوَ
تغير طعم الْفَم وريحه لتأخر الطَّعَام، يُقَال: خلف فوه
بِفَتْح الْخَاء وَاللَّام يخلف، بِضَم اللَّام وأخلف يخلف
إِذا تغير، واللغة الْمَشْهُورَة: خلف. وَقَالَ
الْمَازرِيّ: هَذَا مجَاز واستعارة، لِأَن استطابة بعض
الروائح من صِفَات الْحَيَوَان الَّذِي لَهُ طباع يمِيل
إِلَى شَيْء يستطيبه وينفر من شَيْء يستقذره، وَالله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقدس عَن ذَلِك، لَكِن جرت عادتنا
على التَّقَرُّب للروائح الطّيبَة، فاستغير ذَلِك فِي
الصَّوْم لتقريبه من الله تَعَالَى، وَقَالَ عِيَاض:
يجازيه الله تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَة، فَتكون نكهته
أطيب من ريح الْمسك، وَقيل: لِكَثْرَة ثَوَابه وأجره،
وَقيل: يعبق فِي الْآخِرَة أطيب من عبق الْمسك، وَقيل:
طيبه عِنْد الله رِضَاهُ بِهِ، وثناؤه الْجَمِيل، وثوابه.
وَقيل: إِن المُرَاد أَن ذَلِك فِي حق الْمَلَائِكَة
وَأَنَّهُمْ يستطيبون ريح الخلوق أَكثر مِمَّا يستطيبون
ريح الْمسك، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاء على
الصَّائِم والرضى بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَالَه الْقَدُورِيّ
من الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْعَرَبِيّ من الْمَالِكِيَّة،
وَأَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبُو بكر بن
السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة، جزموا كلهم
بِأَنَّهُ عبارَة عَن الرضى وَالْقَبُول، وَقَالَ
القَاضِي، وَقد يجْزِيه الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة
حَتَّى تكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، كَمَا
(10/258)
قَالَ فِي الكلوم فِي سَبِيل الله: (الرّيح
ريح مسك) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله
تَعَالَى، وَقد اخْتلف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن
الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي طيب
رَائِحَة الخلوف، هَل هِيَ فِي الدُّنْيَا أَو فِي
الْآخِرَة؟ فَذهب ابْن عبد السَّلَام إِلَى أَن ذَلِك فِي
الْآخِرَة، كَمَا فِي دم الشَّهِيد، وَاسْتدلَّ بِمَا
رَوَاهُ مُسلم وَأحمد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن
أبي صَالح: (أطيب عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة) ، وَذهب
ابْن الصّلاح إِلَى أَن ذَلِك فِي الدُّنْيَا، فاستدل
بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان: (فَم الصَّائِم حِين يخلف من
الطَّعَام) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحسن بن شعْبَان فِي
(مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من حَدِيث جَابر
فِي فضل هَذِه الْأمة: (فَإِن خلوف أَفْوَاههم حِين يمسون
أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) . وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ:
إِسْنَاده مقارب، وَقَالَ ابْن بطال: معنى (عِنْد الله)
أَي: فِي الْآخِرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن يَوْمًا
عِنْد رَبك} (الْحَج: 74) . يُرِيد أَيَّام الْآخِرَة.
فَإِن قلت: يُعَكر عَلَيْهِ بِحَدِيث الْبَيْهَقِيّ على
مَا لَا يخفى؟ قلت: لَا مَانع من أَن يكون ذَلِك فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قَوْله: (يتْرك طَعَامه وَشَرَابه
وشهوته من أجلى) أَي: قَالَ الله تَعَالَى: يتْرك
الصَّائِم طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي، إِنَّمَا
قَدرنَا هَذَا ليَصِح الْمَعْنى، لِأَن سِيَاق الْكَلَام
يَقْتَضِي أَن يكون ضمير الْمُتَكَلّم فِي لفظ: (وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ) وَلَفظ: (لأجلي) ، من مُتَكَلم وَاحِد
فَلَا يَصح الْمَعْنى على ذَلِك، فَلذَلِك قَدرنَا ذَلِك،
وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن إِسْحَاق
بن الطباع عَن مَالك، فَقَالَ بعد قَوْله: (من ريح الْمسك،
يَقُول الله، عز وَجل: إِنَّمَا يذر شَهْوَته وَطَعَامه)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن مُغيرَة بن عبد
الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد، فَقَالَ فِي أول الحَدِيث:
(يَقُول الله، عز وَجل: كل عمل ابْن آدم لَهُ إلاَّ
الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَإِنَّمَا يذر ابْن
آدم شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي) . قيل: المُرَاد بالشهوة
فِي الحَدِيث شَهْوَة الْجِمَاع لعطفها على الطَّعَام
وَالشرَاب. قلت: الشَّهْوَة أَعم، فَيكون من قبيل عطف
الْعَام على الْخَاص، وَلَكِن قدم لفظ الشَّهْوَة سعيد بن
مَنْصُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَكَذَلِكَ من
رِوَايَة الْمُوَطَّأ بِتَقْدِيم الشَّهْوَة عَلَيْهِمَا،
فَيكون من قبيل عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِي رِوَايَة
ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُهَيْل عَن أبي صَالح عَن
أَبِيه: (يدع الطَّعَام وَالشرَاب من أَجلي، ويدع لذته من
أَجلي، ويدع زَوجته من أَجلي) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة
من هَذَا الْوَجْه: (يدع امْرَأَته وشهوته وَطَعَامه
وَشَرَابه من أَجلي) ، وأصرح من ذَلِك مَا وَقع عِنْد
الْحَافِظ سمويه: (من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من
أَجلي) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي هُنَا: فَإِن قلت: فَهَذَا
قَول الله وَكَلَامه، فَمَا الْفرق بَينه وَبَين
الْقُرْآن؟ قلت: الْقُرْآن لَفظه معجز ومنزل بِوَاسِطَة
جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا غير معجز وَبِدُون
الْوَاسِطَة، وَمثله يُسمى بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي والإل
هِيَ والرباني. فَإِن قلت: الْأَحَادِيث كلهَا كَذَلِك،
وَكَيف، وَهُوَ: مَا ينْطق عَن الْهوى؟ قلت: الْفرق بِأَن
الْقُدسِي مُضَاف إِلَى الله ومروي عَنهُ، بِخِلَاف غَيره،
وَقد يفرق بِأَن الْقُدسِي مَا يتَعَلَّق بتنزيه ذَات الله
تَعَالَى وبصفاته الجلالية والجمالية مَنْسُوبا إِلَى
الحضرة تَعَالَى وتقدس، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْقُرْآن
هُوَ اللَّفْظ الْمنزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للإعجاز، والقدسي
إِخْبَار الله رَسُوله مَعْنَاهُ بالإلهام أَو بالمنام،
فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بِعِبَارَة
نَفسه، وَسَائِر الْأَحَادِيث لم يضفه إِلَى الله وَلم
يروه عَنهُ. قَوْله: (الصّيام لي) ، كَذَا وَقع بِغَيْر
أَدَاة عطف وَلَا غَيرهَا، وَفِي (الْمُوَطَّأ) :
(فالصيام) ، بِالْفَاءِ وَهِي للسَّبَبِيَّة أَي: بِسَبَب
كَونه لي إِنَّه يتْرك شَهْوَته لأجلي، وَوَقع فِي
رِوَايَة مُغيرَة عَن أبي الزِّنَاد عَن سعيد بن مَنْصُور:
(كل عمل ابْن آدم هُوَ لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي
وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمثله فِي رِوَايَة عَطاء عَن أبي
صَالح الَّتِي تَأتي. قَوْله: (وَأَنا أجزي بِهِ) ، بَيَان
لِكَثْرَة ثَوَابه، لِأَن الْكَرِيم إِذا أخبر بِأَنَّهُ
يتَوَلَّى بِنَفسِهِ الْجَزَاء اقْتضى عَظمته وسعته،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: تَقْدِيم الضَّمِير للتخصيص أَو
للتَّأْكِيد والتقوية؟ قلت: يحتملهما، لَكِن الظَّاهِر من
السِّيَاق الأول أَي: أَنا أُجَازِيهِ لَا غَيْرِي
بِخِلَاف سَائِر الْعِبَادَات، فَإِن جزاءها قد يُفَوض
إِلَى الْمَلَائِكَة، وَقد أَكْثرُوا فِي معنى قَوْله:
(الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمُلَخَّصه: أَن
الصَّوْم لَا يَقع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقع فِي غَيره،
لِأَنَّهُ لَا يظْهر من ابْن آدم بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا
هُوَ شَيْء فِي الْقلب، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ
الزُّهْرِيّ مُرْسلا. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَيْسَ فِي الصَّوْم رِيَاء) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي
كتاب الْغَرِيب عَن شَبابَة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ،
قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال لَا تكون إلاَّ
بالحركات إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ
الَّتِي تخفى على النَّاس، وروى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من
وَجه آخر: عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا عَن أبي سَلمَة عَن
أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (الصّيام لَا رِيَاء فِيهِ، قَالَ
الله، عز وَجل: هُوَ لي) وَفِيه مقَال، قيل: لَا يدْخلهُ
الرِّيَاء بِفِعْلِهِ وَقد يدْخلهُ بقوله، بِأَن أخبر أَنه
صَائِم فَكَانَ دُخُول الرِّيَاء فِيهِ من جِهَة
الْإِخْبَار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَعْمَال، فَإِن
الرِّيَاء قد يدخلهَا بِمُجَرَّد فعلهَا. قلت: فِيهِ نظر
(10/259)
لِأَن دُخُول الرِّيَاء وَعدم دُخُوله
بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل والإخبار لَيْسَ مِنْهُ،
فَافْهَم.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لما كَانَت الْأَعْمَال يدخلهَا
الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يطلع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ
فعله إلاَّ الله، فأضافه إِلَى نَفسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي
الحَدِيث: (يدع شَهْوَته من أَجلي) ، وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: جَمِيع الْعِبَادَات تظهر بِفِعْلِهَا، وَقل
أَن يسلم مَا يظْهر من شوب بِخِلَاف الصَّوْم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله مُنْفَرد بِعلم
مِقْدَار ثَوَاب الصَّوْم وتضعيفه، بِخِلَاف غَيره من
الْعِبَادَات، فقد يطلع عَلَيْهَا بعض النَّاس، وَيشْهد
لذَلِك مَا روى فِي (الْمُوَطَّأ) : (تضَاعف الْحَسَنَة
بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى مَا شَاءَ
الله، قَالَ الله: إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا
أجزي بِهِ) . أَي: أجازي بِهِ عَلَيْهِ جَزَاء كثيرا من
غير تعْيين لمقداره، وَهَذَا كَقَوْلِه: {إِنَّمَا يُوفى
الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) .
والصابرون الصائمون فِي أَكثر الْأَقْوَال. قلت: هَذَا
كَلَام حسن، وَلَكِن قَوْله: (الصَّابِرُونَ الصائمون) غير
مُسلم، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ: الصائمون الصَّابِرُونَ،
لِأَن الصَّوْم يسْتَلْزم الصَّبْر وَلَا يسْتَلْزم
الصَّبْر الصَّوْم، وَقَالَ بَعضهم: سبق إِلَى هَذَا أَبُو
عبيد فِي (غَرِيبه) ، فَقَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عُيَيْنَة
أَنه قَالَ ذَلِك، وَاسْتدلَّ لَهُ بِأَن الصَّوْم هُوَ
الصَّبْر لِأَن الصَّائِم يصبر نَفسه عَن الشَّهَوَات،
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ
أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) . ثمَّ قَالَ هَذَا
الْقَائِل: وَيشْهد لَهُ رِوَايَة الْمسيب بن رَافع عَن
أبي صَالح عِنْد سمويه: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ
الصَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحد مَا فِيهِ) . ثمَّ
قَالَ: وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ ابْن وهب فِي
(جَامعه) عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر
عَن جده زيد مُرْسلا، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق أُخْرَى عَن عمر بن
مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا:
(الْأَعْمَال عِنْد الله سبع) الحَدِيث، وَفِيه: (عمل لَا
يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله) . ثمَّ قَالَ: (وَأما
الْعَمَل الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله
فالصيام) . انْتهى. وَقد استبعد الْقُرْطُبِيّ هَذَا، بل
أبْطلهُ بقوله: قد أَتَى فِي غير مَا حَدِيث أَن صَوْم
الْيَوْم بِعشْرَة أَيَّام، فَهَذَا نَص فِي إِظْهَار
التَّضْعِيف.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من الَّذِي ذكر بُطْلَانه، بل
المُرَاد بِمَا أوردهُ أَن صِيَام الْيَوْم الْوَاحِد
يكْتب بِعشْرَة أَيَّام، وَأما مِقْدَار ثَوَاب ذَلِك
فَلَا يُعلمهُ إلاَّ الله. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَنه لَا
يلْزم من ذَلِك بُطْلَانه، بل يلْزم لِأَن كَلَامه
يُؤَدِّي إِلَى تبطيل معنى التَّنْصِيص على مَا لَا يخفى
على المتأمل، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَن
الصَّوْم أحب الْعِبَادَات إِلَيّ، والمقدم عِنْدِي،
لِأَنَّهُ قَالَ: (الصّيام لي) ، فأضافه إِلَى نَفسه وَكفى
بِهِ فضلا على سَائِر الْعِبَادَات. وَقَالَ بَعضهم: وروى
النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (عَلَيْك
بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهُ) ، لَكِن يُعَكر
عَلَيْهِ بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إعلموا أَن خير
أَعمالكُم الصَّلَاة) . قلت: لَا يُعَكر أصلا لِأَنَّهُ
إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال
المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: (خير الْأَعْمَال
أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا) . وَقيل: هُوَ إِضَافَة تشريف
كَمَا فِي قَوْله: {نَاقَة الله} (الشَّمْس: 31) . مَعَ
أَن الْعَالم كُله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل.
وَقيل: لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن الطَّعَام من صِفَات
الله، عز وَجل، فَيقرب الصَّائِم بِمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ
الصّفة وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء، وَقيل:
إِنَّمَا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَن
ذَلِك من صفاتهم، وَقيل: إِضَافَته إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم
يعبد أحد غير الله بِالصَّوْمِ، فَلم يعظم الْكفَّار فِي
عصر من الْأَعْصَار معبودا لَهُم بالصيام. وَإِن كَانُوا
يعظمونه بِصُورَة الصَّلَاة وَالسُّجُود وَالصَّدَََقَة
وَغير ذَلِك، ونقضه بَعضهم بأرباب الاستخدامات فَإِنَّهُم
يَصُومُونَ للكواكب، وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْض، لِأَن
أَرْبَاب الاستخدامات لَا يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَوَاكِب
آلِهَة، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا فعالة بأنفسها
وَإِن كَانَت عِنْدهم مخلوقة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا
الْجَواب عِنْدِي لَيْسَ بطائل. قلت: هَذَا الْجَواب
جَوَاب شَيْخه الشَّيْخ زين الدّين، رَحْمَة الله تَعَالَى
عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَن بيَّن وَجه مَا ذكره،
وَقيل: وَجه ذَلِك أَن جَمِيع الْعِبَادَات توفّي مِنْهَا
مظالم الْعباد إلاَّ الصّيام، وروى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ من
طَرِيق إِسْحَاق بن أَيُّوب عَن حسان الوَاسِطِيّ عَن
أَبِيه عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم
الْقِيَامَة يُحَاسب الله عَبده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ
من الْمَظَالِم من عمله حَتَّى لَا يبْقى لَهُ إلاَّ
الصَّوْم، فيتحمل الله مَا بَقِي عَلَيْهِ من الْمَظَالِم،
ويدخله بِالصَّوْمِ الْجنَّة) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
هَذَا حسن، غير أَنِّي وجدت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة ذكر
الصَّوْم فِي جملَة الْأَعْمَال. لِأَن فِيهِ: (الْمُفلس
من يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصدقَة وَصِيَام،
وَيَأْتِي وَقد شتم هَذَا وَضرب هَذَا وَأكل مَال هَذَا)
الحَدِيث. وَفِيه: (فَيُؤْخَذ لهَذَا من حَسَنَاته،
وَلِهَذَا من حَسَنَاته، فَإِن فنيت حَسَنَاته قبل أَن
يقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخذ من سيئاته فطرحت عَلَيْهِ ثمَّ
طرح فِي النَّار) وَظَاهره أَن الصّيام مُشْتَرك مَعَ
بَقِيَّة الْأَعْمَال فِي ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: إِن ثَبت
قَول ابْن عُيَيْنَة أمكن تَخْصِيص الصّيام من ذَلِك. قلت:
يجْرِي الْإِمْكَان فِي كل عَام وَلَا يثبت التَّخْصِيص
إلاَّ بِدَلِيل، وإلاَّ يلْزم إِلْغَاء حكم
(10/260)
الْعَام وَهُوَ بَاطِل.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد يسْتَدلّ لَهُ بِمَا
رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد
بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
يرفعهُ: (كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم، الصَّوْم
لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن
زِيَاد، وَلَفظه: (قَالَ ربكُم تبَارك وَتَعَالَى: كل
الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم) . قلت: أخرجه
البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن آدم عَن شُعْبَة بِلَفْظ:
(يرويهِ عَن ربكُم قَالَ: لكل عمل كَفَّارَة، وَالصَّوْم
لي وَأَنا أجزي بِهِ) . انْتهى، وَلم يذكر إلاَّ الصَّوْم،
فَدخل فِي صدر الْكَلَام الصَّوْم، لِأَن لفظ: كل، إِذا
أضيف إِلَى النكرَة يَقْتَضِي عُمُوم الْأَفْرَاد، وَلكنه
أخرجه من ذَلِك، بقوله: (وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ)
لحصوصية فِيهِ من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَإِن
كَانَت جَمِيع الْأَعْمَال لله تَعَالَى. وَقيل: إِن
الصَّوْم لَا يظْهر فتكتبه الْحفظَة كَمَا لَا تكْتب
سَائِر أَعمال الْقُلُوب، وَقيل: اسْتندَ قَائِله إِلَى
حَدِيث واهٍ جدا، أوردهُ ابْن الْعَرَبِيّ فِي المسلسلات،
وَلَفظه: (قَالَ الله: الْإِخْلَاص سرُّ من سري أستودعه
قلب من أحب لَا يطلع عَلَيْهِ ملك فيكتبه، وَلَا شَيْطَان
فيفسده) . قيل: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بالصيام هُنَا
صِيَام من سلم صِيَامه من الْمعاصِي قولا وفعلاً. وَنقل
ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الزهاد أَنه مَخْصُوص بصيام
خَواص الْخَواص، فَقَالَ: إِن الصَّوْم على أَرْبَعَة
أَنْوَاع: صِيَام الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم عَن الْأكل
وَالشرب وَالْجِمَاع، و: صِيَام خَواص الْعَوام، وَهُوَ
الصَّوْم وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَاب الْمُحرمَات من قَول
أَو فعل، وَصِيَام الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن ذكر غير
الله وعبادته، وَصِيَام خَواص الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم
عَن غير الله، فَلَا فطر لَهُم إلاَّ يَوْم لِقَائِه.
قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) ، كَذَا وَقع
مُخْتَصرا عِنْد البُخَارِيّ، وروى يحيى بن بكير عَن مَالك
فِي هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: (والحسنة بِعشر
أَمْثَالهَا، فَقَالَ: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى
سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ)
. فَخص الصّيام بالتضعيف على سَبْعمِائة ضعف فِي هَذَا
الحَدِيث، وَإِنَّمَا عقبه بقوله: (والحسنة بِعشر
أَمْثَالهَا) إعلاما بِأَن الصَّوْم مُسْتَثْنى من هَذَا
الحكم فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَائِر الْحَسَنَات بِعشر
الْأَمْثَال بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ بأضعافه بِدُونِ
الْحساب، وَالْحَاصِل أَن الصّيام لَا يتَقَيَّد بأعداد
التَّضْعِيف، بل الله يجْزِيه على ذَلِك بِغَيْر حِسَاب.
فَإِن قلت: الْأَمْثَال جمع مثل، وَهُوَ مُذَكّر، فمنزلته:
بِعشْرَة أَمْثَالهَا، بِالتَّاءِ الَّتِي هِيَ عَلامَة
التَّأْنِيث؟ قلت: مثل الْحَسَنَة هُوَ الْحَسَنَة،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعشر حَسَنَات، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: قد يكون لسبعمائة، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء.
قلت: هَذَا أَقَله، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يدل على
الزَّائِد وَلَا عَدمه.
3 - (بابٌ الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّوْم كَفَّارَة، هَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين بتنوين: بَاب، وَفِي رِوَايَة
غَيره: بَاب الصَّوْم كَفَّارَة، بِالْإِضَافَة. وَفِي
نُسْخَة الشَّيْخ قطب الدّين الشَّارِح: بَاب كَفَّارَة
الصَّوْم أَي: بَاب تَكْفِير الصَّوْم للذنوب.
5981 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا
سُفْيانُ قَالَ حدَّثا جامِعٌ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
مَنْ يَحْفَظُ حَديثا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي الفِتْنَةِ قَالَ حُذَيْفَةُ أَنا سَمِعْتُهُ يَقُولُ
فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ ومالِهِ وجارِهِ
تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ والصِّيَامُ والصَّدَقَةُ قَالَ
لَيْسَ أسْألُ عنْ ذِهْ إنَّمَا أسْألُ عنِ الَّتي تَمُوجُ
كَما يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ حُذَيْفَةُ وإنَّ دُونَ
ذَلِكَ بَابا مُغْلَقا قَالَ فَيُفْتَحُ أوُ يُكْسَرُ
قَالَ يُكْسَرُ قَالَ ذَاكَ أجْدَرُ أنْ لاَ يُغْلَقَ إلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ أكانَ
عُمَرُ مَنِ الْبَابُ فسَألَهُ فَقالَ نَعَمْ كَمَا
يَعْلَمُ أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تكفرها الصَّلَاة
وَالصِّيَام) ، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل
كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة،
وَترْجم هُنَاكَ بِالصَّلَاةِ، وَهنا بالصيام، وَأخرجه
هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق
عَن حُذَيْفَة، وشقيق كنيته أَبُو وَائِل، وَهنا أخرجه:
عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن
جَامع بن أبي رَاشد الصَّيْرَفِي
(10/261)
الْكُوفِي عَن أبي وَائِل هُوَ شَقِيق بن
سَلمَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً هُنَاكَ.
قَوْله: (عَن ذه) بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الْهَاء، وَهُوَ من أَسمَاء الْإِشَارَة للمفرد
الْمُؤَنَّث، وَالَّذِي يشار بِهِ لَهُ عشرَة مِنْهَا ذه،
وَيُقَال: ذه، بالاختلاس. قَوْله: (ذَاك) أَي الْكسر أولى
من الْفَتْح أَن لَا يغلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، أَي
إِذا وَقعت الْفِتْنَة فَالظَّاهِر أَنه لَا يسكن. قَوْله:
(دون غَد) أَي: كَمَا يعلم أَن اللَّيْلَة هِيَ قبل
الْغَد، أَي: علما وَاضحا جليا وَالله أعلم. أَي هَذَا
بَاب يذكر فِيهِ الريان الَّذِي هُوَ اسْم علم لباب من
أَبْوَاب الْجنَّة مُخْتَصّ للصائمين وَوزن رَيَّان فعلان
وَقد وَقعت الْمُنَاسبَة فِيهِ بَين لَفظه وَمَعْنَاهُ
لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الرّيّ الْكثير الَّذِي هُوَ ضد
الْعَطش وَسمي بذلك لِأَنَّهُ جَزَاء الصائمين على عطشهم
وجوعهم وَاكْتفى بِذكر الرّيّ عَن الشِّبَع لِأَنَّهُ يدل
عَلَيْهِ من حَيْثُ أَنه يستلزمه وأفرد لَهُم هَذَا
الْبَاب إِكْرَاما لَهُم واختصاصا وليكون دُخُولهمْ
الْجنَّة غير متزاحمين فَإِن الزحام قد يُؤَدِّي إِلَى
الْعَطش
6981 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدثنَا
سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ عنْ
سَهْل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي الجَنَّةِ بَابا يُقَالُ
لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقالُ
أيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ
أحَدٌ غَيْرُهُمْ فإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ
منهُ أحَدٌ.
(الحَدِيث 6981 طرفه فِي: 7523) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح
الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة
بَينهمَا: البَجلِيّ الْكُوفِي أَبُو مُحَمَّد، وَسليمَان
ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل
بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة عَن خَالِد بن مخلد بِهِ.
قَوْله: (إِن فِي الْجنَّة بَابا) ، قيل: إِنَّمَا قَالَ:
فِي الْجنَّة، وَلم يقل: للجنة ليشعر بِأَن فِي الْبَاب
الْمَذْكُور من النَّعيم والراحة مَا فِي الْجنَّة، فَيكون
أبلغ فِي التشويق إِلَيْهِ. قلت: وَإِنَّمَا لم يقل للجنة،
ليشعر أَن بَاب الريان غير الْأَبْوَاب الثَّمَانِية
الَّتِي للجنة، وَفِي الْجنَّة أَيْضا أَبْوَاب أخر غير
الثَّمَانِية، مِنْهَا: بَاب الصَّلَاة وَبَاب الْجِهَاد
وَبَاب الصَّدَقَة على مَا يَجِيء فِي الحَدِيث الْآتِي،
وَفِي (نَوَادِر الْأُصُول) للحكيم التِّرْمِذِيّ: من
أَبْوَاب الْجنَّة بَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ بَاب الرَّحْمَة، وَهُوَ بَاب التَّوْبَة،
وَهُوَ مُنْذُ خلقه الله مَفْتُوح لَا يغلق، فَإِذا طلعت
الشَّمْس من مغْرِبهَا أغلق فَلم يفتح إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة، وَسَائِر الْأَبْوَاب مقسومة على أَعمال
الْبر: بَاب الزَّكَاة، بَاب الْحَج، بَاب الْعمرَة. وَعند
عِيَاض: بَاب الكاظمين الغيط، بَاب الراضين، الْبَاب
الْأَيْمن الَّذِي يدْخل مِنْهُ من لَا حِسَاب عَلَيْهِ،
وَفِي (كتاب الْآجُرِيّ) : عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن فِي الْجنَّة بَابا
يُقَال لَهُ: بَاب الضُّحَى، فَإِذا كَانَ يَوْم
الْقِيَامَة يُنَادي منادٍ: أَيْن الَّذين كَانُوا يديمون
على صَلَاة الضُّحَى؟ هَذَا بَابَكُمْ فادخلوا) . وَفِي
(الفردوس) عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (للجنة بَاب يُقَال
لَهُ: الْفَرح، لَا يدْخل مِنْهُ إلاَّ مفرح الصّبيان) .
وَعند التِّرْمِذِيّ بَاب للذّكر، وَعند ابْن بطال بَاب
الصابرين، وَذكر البرقي فِي (كتاب الرَّوْضَة) : عَن
أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا روح حَدثنَا أَشْعَث عَن
الْحسن، قَالَ: (إِن لله بَابا فِي الْجنَّة لَا يدْخلهُ
إلاَّ من عَفا عَن مظْلمَة) . وَفِي كتاب (التخبير)
للقشيري، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (الْخلق
الْحسن طوق من رضوَان الله فِي عنق صَاحبه، والطوق مشدود
إِلَى سلسلة من الرَّحْمَة، والسلسلة مشدودة إِلَى حَلقَة
من بَاب الْجنَّة حَيْثُ مَا ذهب الْخلق الْحسن جرته
السلسلة إِلَى نَفسهَا حَتَّى يدْخلهُ من ذَاك الْبَاب
إِلَى الْجنَّة) . فَهَذِهِ الْأَبْوَاب كلهَا دَاخِلَة
فِي دَاخل الْأَبْوَاب الثَّمَانِية الْكِبَار الَّتِي مَا
بَين مصراعي بَاب مِنْهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام. فَإِن
قلت: روى الجوزقي فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أبي
غَسَّان عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (إِن للجنة ثَمَانِيَة
أَبْوَاب مِنْهَا بَاب يُسمى الريان لَا يدْخلهُ إلاَّ
الصائمون) ، قلت: روى البُخَارِيّ هَذَا من هَذَا الْوَجْه
فِي بَدْء الْخلق، لَكِن، قَالَ: (فِي الْجنَّة ثَمَانِيَة
أَبْوَاب) ، وَهَذَا أصح وأصوب. قَوْله: (فَإِذا دخلُوا
أغلق) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الإغلاق، قَالَ
الْجَوْهَرِي: اغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق، والأسم الغلق،
وَيُقَال: غلقت الْبَاب غلقا
(10/262)
وَهِي لُغَة رَدِيئَة متروكة، وغلقت
الْأَبْوَاب شدد للكثرة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: غلق مخففا
ومشددا. هُوَ من بَاب الإغلاق. قلت: هَذَا تَخْلِيط فِي
اللُّغَة حَيْثُ يذكر أَولا أَنه من بَاب الثلاثي، ثمَّ
يَقُول: هُوَ من بَاب الإغلاق، وَالصَّوَاب مَا
ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَلم يدْخل مِنْهُ أحد) ، الْقيَاس،
فَلَا يدْخل، لِأَن: لم يدْخل، للماضي، وَلكنه عطف على
قَوْله: (لَا يدْخل) ، فَيكون فِي حكم الْمُسْتَقْبل.
وَقَالَ بَعضهم: فَلم يدْخل، فَهُوَ مَعْطُوف على أغلق
أَي: لم يدْخل مِنْهُ غير من دخل. انْتهى. قلت: هَذَا
أَخذه من الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ عطف على
الْجَزَاء فَهُوَ فِي حكم الْمُسْتَقْبل، ثمَّ تَفْسِيره
بقوله: أَي لم يدْخل مِنْهُ غير من دخل غير صَحِيح، لِأَن
غير من دخل أَعم من أَن يكون من الصائمين وَغَيرهم،
وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا يدْخل مِنْهُ إلاَّ الصائمون.
وَقَول الْكرْمَانِي، أَيْضا عطف على الْجَزَاء فِيهِ نظر
لَا يخفى، وَإِنَّمَا كرر نفي دُخُول غَيرهم مِنْهُ
للتَّأْكِيد، وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ:
حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن
مخلد، هُوَ الْقَطوَانِي، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال،
قَالَ: حَدثنِي أَبُو حَازِم عَن سهل بن سعد، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن فِي الْجنَّة
بَابا يُقَال لَهُ الريان، يدْخل مِنْهُ الصائمون يَوْم
الْقِيَامَة لَا يدْخل مِنْهُ أحد غَيرهم، يُقَال: أَيْن
الصائمون؟ فَيدْخلُونَ مِنْهُ، فَإِذا دخل آخِرهم أغلق
فَلم يدْخل مِنْهُ أحد) . وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا فِي بعض
النّسخ من مُسلم، وَفِي الْكثير مِنْهَا: (فَإِذا دخل
أَوَّلهمْ أغلق) . قلت: الْأَمر بِالْعَكْسِ، فَفِي
الْكثير: (فَإِذا دخل آخِرهم) ، وَوَقع فِي بعض النّسخ
الَّتِي لَا يعْتَمد عَلَيْهَا: (فَإِذا دخل أَوَّلهمْ) .
وَهُوَ غير صَحِيح، فَلذَلِك قَالَ شرَّاح مُسلم وَغَيرهم:
إِنَّه وهم، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله
تَعَالَى: وَقد اسْتشْكل بَعضهم الْجمع بَين حَدِيث بَاب
الريان وَبَين الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي أخرجه مُسلم من
حَدِيث عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ فَيبلغ أَو يسبغ الْوضُوء،
ثمَّ يَقُول: أشهد أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن
مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إلاَّ فتحت لَهُ أَبْوَاب
الْجنَّة الثَّمَانِية، يدْخل من أَيهَا شَاءَ) . قَالُوا:
فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يدْخل من
أَيهَا شَاءَ، وَقد لَا يكون فَاعل هَذَا الْفِعْل من أهل
الصّيام، بِأَن لَا يبلغ وَقت الصّيام الْوَاجِب، أَو لَا
يتَطَوَّع بالصيام، وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَنه يصرف عَن أَن يَشَاء بَاب الصّيام، فَلَا
يَشَاء الدُّخُول مِنْهُ، وَيدخل من أَي بَاب شَاءَ غير
الصّيام، فَيكون قد دخل من الْبَاب الَّذِي شاءه.
وَالثَّانِي: أَن حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قد اخْتلفت أَلْفَاظه، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيّ: (فتحت لَهُ
ثَمَانِيَة أَبْوَاب من الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ) ،
فَهَذِهِ الرِّوَايَة تدل على أَن أَبْوَاب الْجنَّة أَكثر
من ثَمَانِيَة مِنْهَا، وَقد لَا يكون بَاب الصّيام من
هَذِه الثَّمَانِية، وَلَا تعَارض حِينَئِذٍ.
7981 - حدَّثنا إبرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثني
مَعْنٌ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ
حُمَيْدِ ابنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ
الله نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ يَا عَبْدَ الله
هَذَا خَيْرً فَمَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ
مِنْ بَاب الصَّلاةِ ومَنُ كانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادَ
دُعِيَ مِنْ بابِ الجِهَادِ ومنْ كانَ مِنْ أهْلِ
الصِّيامِ دُعِيَ مِن بابِ الرَّيَّانِ ومنْ كانَ مِنْ
أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ
أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِأبِي أنْتَ
وأُمِّي يَا رسولَ الله مَا عَلَى منْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ
الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ
تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا فَقَالَ نَعَمْ وأرْجُو أنْ
تَكُونَ مِنْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله: (وَمن كَانَ من أهل
الصّيام دعِي من بَاب الريان) ، وَإِبْرَاهِيم بن
الْمُنْذر قد تكَرر ذكره، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون: ابْن عِيسَى بن يحيى
أَبُو يحيى الْقَزاز الْمدنِي، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي
شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة، وَابْن شهَاب
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَحميد، بِضَم
الْحَاء: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل أبي
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن أبي الْيَمَان عَن
شُعَيْب، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر
وحرملة وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَحسن الْحلْوانِي وَعبد بن
حميد، ثَلَاثَتهمْ عَن يَعْقُوب وَعَن عبد بن حميد عَن عبد
الرَّزَّاق. وَأخرجه
(10/263)
التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق بن
مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن معن عَن مَالك إِلَى آخِره
نَحوه، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن
عُثْمَان وَفِي الصَّوْم عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح
والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن وهب عَن مَالك
وَيُونُس بِهِ، وَعَن الْحَارِث وَمُحَمّد بن سَلمَة
كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَفِي
الْجِهَاد عَن عبيد الله بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن) ،
وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ فِي فضل أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَخْبرنِي حميد بن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف) . قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة) ،
قَالَ أَبُو عمر: اتّفقت الروَاة عَن مَالك على وَصله
إلاَّ يحيى ابْن أبي بكير وَعبد الله بن يُوسُف
فَإِنَّهُمَا أَرْسلَاهُ، وَلم يَقع عِنْد القعْنبِي أصلا
لَا مُسْندًا وَلَا مُرْسلا. وَفِي (التَّلْوِيح) ذكر
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الموطآت) : أَن القعْنبِي
رَوَاهُ كَمَا روى ابْن مُصعب ومعن مُسْندًا. قَوْله:
(زَوْجَيْنِ) ، يَعْنِي دينارين أَو دِرْهَمَيْنِ أَو
ثَوْبَيْنِ وَقيل: دِينَار وثوب أَو دِرْهَم ودينار، أَو
ثوب مَعَ غَيره أَو صَلَاة وَصَوْم، فَيشفع الصَّدَقَة
بِأُخْرَى أَو فعل خير بِغَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَة
إِسْمَاعِيل القَاضِي عَن أبي مُصعب عَن مَالك: (من أنْفق
زَوْجَيْنِ من مَاله) . قَوْله: (فِي سَبِيل الله) قيل:
هُوَ الْجِهَاد، وَقيل: مَا هُوَ أَعم مِنْهُ، وَقيل:
المُرَاد بالزوجين انفاق شَيْئَيْنِ من أَي صنف كَانَ من
أَصْنَاف المَال. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَالزَّوْج هُنَا
الْفَرد، يُقَال للْوَاحِد زوج، وللاثنين زوج. قَالَ
تَعَالَى: {فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر
وَالْأُنْثَى} (الْقِيَامَة: 93) . وَصَوَابه أَن
الْإِثْنَيْنِ زوجان يدل عَلَيْهِ الْآيَة. وروى حَمَّاد
بن سَلمَة عَن يُونُس بن عبيد وَحميد عَن الْحسن عَن صعصعة
بن مُعَاوِيَة عَن أبي ذَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (من أنْفق زَوْجَيْنِ ابتدرته حجبة الْجنَّة)
، ثمَّ قَالَ: (بعيران شَاتين حِمَارَيْنِ دِرْهَمَيْنِ،
قَالَ حَمَّاد: أَحْسبهُ قَالَ: خُفَّيْنِ) . وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فرسين من خيله، بَعِيرَيْنِ من
إبِله) . وروى عَن صعصعة قَالَ: رَأَيْت أَبَا ذَر بالربذة
وَهُوَ يَسُوق بَعِيرًا لَهُ عَلَيْهِ مزادتان، قَالَ:
سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من
مُسلم ينْفق زَوْجَيْنِ من مَاله فِي سَبِيل الله إلاَّ
استقبلته حجبة الْجنَّة كلهم يَدعُوهُ إِلَى مَا عِنْده،
قلت: زَوْجَيْنِ مَاذَا؟ قَالَ: إِن كَانَ صَاحب خيل
ففرسين، وَإِن كَانَ صَاحب إبل فبعيرين، وَإِن كَانَ صَاحب
بقر فبقرتين، حَتَّى عد أَصْنَاف المَال) . وشبيه حَدِيث
الْحمانِي ذكره أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ عَن مبارك بن
سعيد عَن ابْن المحيريز، يرفعهُ: (من عَال ابْنَتَيْن أَو
أُخْتَيْنِ أَو خالتين أَو عمتين أَو جدتين فَهُوَ معي فِي
الْجنَّة) . فَإِن قلت: النَّفَقَة إِنَّمَا تشرع فِي
الْجِهَاد وَالصَّدَََقَة، فَكيف تكون فِي بَاب الصَّلَاة
وَالصِّيَام؟ قلت: لِأَن نَفَقَة المَال مقترنة بِنَفَقَة
الْجِسْم فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا بُد للْمُصَلِّي
والصائم من قوت يُقيم رمقه وثوب يستره، وَذَلِكَ من فروض
الصَّلَاة، ويستعين بذلك على الطَّاعَة، فقد صَار بذلك
منفقا لزوجين: لنَفسِهِ ولماله، وَقد تكون النَّفَقَة فِي
بَاب الصَّلَاة أَن يَبْنِي لله مَسْجِدا للمصلين،
وَالنَّفقَة فِي الصّيام أَن يفْطر صَائِما، وَذَلِكَ
بِدلَالَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من بنى لله
مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة) . وَقَوله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من فطر صَائِما فَكَأَنَّمَا
صَامَ يَوْمًا) . فَإِن قلت: إِذا جَازَ اسْتِعْمَال
الْجِسْم فِي الطَّاعَة نَفَقَة، فَيجوز أَن يدْخل فِي
معنى الحَدِيث: من أنْفق نَفسه فِي سَبِيل الله فاستشهد
وَأنْفق كريم مَاله قلت: نعم، بل هُوَ أعظم أجرا من الأول،
يُوضحهُ مَا رَوَاهُ سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي
سُفْيَان (عَن جَابر قَالَ: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله!
أَي الْجِهَاد أفضل؟ قَالَ: أَن يعقر جوادك ويهراق دمك) ؟
فَإِن قلت: يدْخل فِي ذَلِك صَائِم رَمَضَان الْمُزَكي
لمَاله والمؤدي الْفَرَائِض؟ قلت: المُرَاد: النَّوَافِل،
لِأَن الْوَاجِبَات لَا بُد مِنْهَا لجَمِيع الْمُسلمين،
وَمن ترك شَيْئا من الْوَاجِبَات إِنَّمَا يخَاف عَلَيْهِ
أَن يُنَادى من أَبْوَاب جَهَنَّم. قَوْله: (نُودي من
أَبْوَاب الْجنَّة) ، المُرَاد من هَذِه الْأَبْوَاب غير
الْأَبْوَاب الثَّمَانِية، وَقَالَ أَبُو عمر فِي
التَّمْهِيد، كَذَا قَالَ من أَبْوَاب الْجنَّة، وَذكره
أَبُو دَاوُد وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَابْن سنجر: (فتحت
لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية) ، وَلَيْسَ فِيهَا
ذكر: من، وَقَالَ ابْن بطال: لَا يَصح دُخُول الْمُؤمن
إلاَّ من بَاب وَاحِد، ونداؤه مِنْهَا كلهَا إِنَّمَا هُوَ
على سَبِيل الْإِكْرَام والتخيير لَهُ فِي دُخُوله من
أَيهَا شَاءَ. قَوْله: (هَذَا خير) ، لَفْظَة خير لَيْسَ
من أفعل التَّفْضِيل، بل مَعْنَاهُ هُوَ خير من الْخيرَات،
والتنوين فِيهِ للتعظيم، وَفَائِدَة هَذَا الْإِخْبَار
بَيَان تَعْظِيمه. قَوْله: (دعِي من بَاب الصَّلَاة) ،
أَي: المكثرين لصَلَاة التَّطَوُّع، وَكَذَا غَيرهَا من
أَعمال الْبر، وَقد ذكرنَا الْآن أَن الْوَاجِبَات لَا بُد
مِنْهَا لجَمِيع الْمُسلمين. قَوْله: (من بَاب الصَّدَقَة)
، أَي: من الْغَالِب عَلَيْهِ ذَلِك، وإلاَّ فَكل
الْمُؤمنِينَ أهل للْكُلّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: مَا وَجه التّكْرَار حَيْثُ ذكر الْإِنْفَاق فِي صدر
الْكَلَام
(10/264)
وَالصَّدَََقَة فِي عَجزه؟ قلت: لَا
تكْرَار، إِذْ الأول: هُوَ النداء بِأَن الْإِنْفَاق،
وَإِن كَانَ بِالْقَلِيلِ من جملَة الْخيرَات الْعَظِيمَة،
وَذَلِكَ حَاصِل من كل أَبْوَاب الْجنَّة، وَالثَّانِي:
استدعاء الدُّخُول إِلَى الْجنَّة، وَإِنَّمَا هُوَ من
الْبَاب الْخَاص بِهِ، فَفِي الحَدِيث فَضِيلَة عَظِيمَة
للإنفاق، وَلِهَذَا افْتتح بِهِ واختتم بِهِ. قَوْله:
(بِأبي أَنْت وَأمي) أَي: أَنْت مفدى بِأبي وَأمي، فَتكون
الْبَاء مُتَعَلقَة بِهِ، وَقيل: تَقْدِيره: فديتك بِأبي
وَأمي. قَوْله: (من ضَرُورَة) أَي: من ضَرَر، أَي لَيْسَ
على الْمَدْعُو من كل الْأَبْوَاب مضرَّة، أَي: قد سعد من
دعِي من أَبْوَابهَا جَمِيعًا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: مَا
على من دعِي من تِلْكَ الْأَبْوَاب من لم يكن إلاَّ من أهل
خصْلَة وَاحِدَة ودعي من بَابهَا لَا ضَرَر عَلَيْهِ،
لِأَن الْغَايَة الْمَطْلُوبَة دُخُول الْجنَّة من أَيهَا
أَرَادَ، لِاسْتِحَالَة الدُّخُول من الْكل مَعًا. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَقُول: يحْتَمل أَن تكون الْجنَّة كالقلعة
لَهَا أسوار مُحِيط بَعْضهَا بِبَعْض، وعَلى كل سور بَاب،
فَمنهمْ من يدعى من الْبَاب الأول فَقَط، وَمِنْهُم من
يتَجَاوَز عَنهُ إِلَى الْبَاب الدَّاخِل وهلم جرا. قلت:
هَذَا الَّذِي ذكره لَا يستبعده الْعقل، وَلَكِن معرفَة
كَيْفيَّة الْجنَّة وَكَيْفِيَّة أَبْوَابهَا وَغير ذَلِك
مَوْقُوفَة على السماع من الشَّارِع. قَوْله: (وَأَرْجُو
أَن تكون مِنْهُم) ، خطاب لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، والرجاء من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاجِب، نبه عَلَيْهِ ابْن التِّين، فَدلَّ هَذَا على
فَضِيلَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وعَلى أَنه
من أهل هَذِه الْأَعْمَال كلهَا.
وَفِيه: أَن أَعمال الْبر لَا تفتح فِي الْأَغْلَب
للْإنْسَان الْوَاحِد فِي جَمِيعهَا، وَإِن من فتح لَهُ
فِي شَيْء مِنْهَا حرم غَيرهَا فِي الْأَغْلَب، وَأَنه قد
يفتح فِي جَمِيعهَا للقليل من النَّاس، وَإِن الصدِّيق،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم.
5 - (بابٌ هَلْ يُقالُ رمَضَانُ أوْ شَهْرُ رَمَضَانَ
ومَنْ رَأى كُلَّهُ واسِعا)
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: هَل يُقَال؟ أَي: هَل يجوز
أَن يُقَال: رَمَضَان من غير شهر مَعَه؟ أَو يُقَال: شهر
رَمَضَان؟ قَوْله: (هَل يُقَال) ؟ على صِيغَة الْمَجْهُول،
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي: بَاب هَل يَقُول، أَي: الْإِنْسَان أَو
الْقَائِل. قَوْله: (وَمن رأى كُله وَاسِعًا) من جملَة
التَّرْجَمَة أَي: من رأى القَوْل بِمُجَرَّد رَمَضَان أَو
بقيده بِشَهْر وَاسِعًا أَي: جَائِزا لَا حرج على قَائِله،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَمن رَآهُ بهاء الضَّمِير،
وَإِنَّمَا أطلق التَّرْجَمَة وَلم يفصح بالحكم
للِاخْتِلَاف فِيهِ على عَادَته فِي ذَلِك، فَالَّذِي
اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْبُخَارِيّ مِنْهُم لَا
يكره أَن يُقَال: جَاءَ رَمَضَان، وَلَا صمنا رَمَضَان،
وَكَانَ عَطاء وَمُجاهد يكرهان أَن يَقُولَا: رَمَضَان،
وَإِنَّمَا كَانَا يَقُولَانِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:
شهر رَمَضَان، لأَنا لَا نَدْرِي لَعَلَّ رَمَضَان إسم من
أَسمَاء الله تَعَالَى، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن
الْحسن أَيْضا، قَالَ: وَالطَّرِيق إِلَيْهِ وَإِلَى
مُجَاهِد ضَعِيفَة، وَهُوَ قَول أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ
النّحاس: وَهَذَا قَول ضَعِيف لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نطق بِهِ، فَذكر مَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي
(التَّوْضِيح) : وَهُنَاكَ قَول ثَالِث، وَهُوَ قَول أَكثر
أَصْحَابنَا إِن كَانَ هُنَاكَ قرينَة تصرفه إِلَى
الشَّهْر فَلَا كَرَاهَة وَإِلَّا فَيكْرَه.
قَالُوا: وَيُقَال: قمنا رَمَضَان، ورمضان أفضل الْأَشْهر،
وَإِنَّمَا يكره أَن يُقَال: قد جَاءَ رَمَضَان، وَدخل
رَمَضَان، وَحضر، وَنَحْو ذَلِك. فَإِن قلت: فِي (كَامِل)
ابْن عدي عَن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَقولُوا
رَمَضَان، فَإِن رَمَضَان اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى،
وَلَكِن قُولُوا: شهر رَمَضَان؟) قلت: قَالَ أَبُو حَاتِم:
هَذَا خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَفِيه
أَبُو معشر نجيح الْمدنِي، وَضَعفه ابْن عدي الَّذِي خرجه،
وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ
التَّرْجَمَة إِلَى دفع حَدِيث ضَعِيف، ثمَّ ذكر هَذَا
الَّذِي خرجه ابْن عدي. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا
الَّذِي قَالَه من كَلَام صَاحب (التَّلْوِيح) فَإِنَّهُ
قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ البُخَارِيّ أَرَادَ بالتبويب دفع
مَا رَوَاهُ أَبُو معشر نجيح فِي (كَامِل) ابْن عدي،
وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهل هَذَا إلاَّ أَمر عَجِيب
من هذَيْن الْمَذْكُورين؟ فَإِن لفظ التَّرْجَمَة: هَل
يُقَال رَمَضَان أَو شهر رَمَضَان؟ من أَيْن يدل على
هَذَا؟ فَمن أَي قبيل هَذِه الدّلَالَة؟ وَأَيْضًا: من
قَالَ: إِن البُخَارِيّ اطلع على هَذَا الحَدِيث أَو وقف
عَلَيْهِ حَتَّى يردهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة؟ قَوْله:
(رَمَضَان) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (رَمَضَان مصدر رمض
إِذا احْتَرَقَ من الرمضاء، فأضيف إِلَيْهِ الشَّهْر وَجعل
علما، وَمنع الصّرْف للتعريف وَالْألف وَالنُّون، وسموه
بذلك لارتماضهم فِيهِ من حر الْجُوع ومقاساة شدته، كَمَا
سموهُ: ناتقا لِأَنَّهُ كَانَ ينتقهم أَي يزعجهم إضجارا
بشدته عَلَيْهِم، وَقيل: لما نقلوا أَسمَاء الشُّهُور عَن
اللُّغَة الْقَدِيمَة سَموهَا بالأزمنة الَّتِي وَقعت
فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْر أَيَّام رمض الْحر. قلت:
كَانُوا يَقُولُونَ للْمحرمِ المؤتمر، ولصفر ناجر، ولربيع
الأول خوان، ولربيع الآخر وبضان، ولجمادى الأولى ربى،
ولجمادى الآخر حنين، ولرجب الْأَصَم، ولشعبان عاذل
(10/265)
ولرمضان ناتق، ولشوال وعل، وَلِذِي
الْقعدَة، وَرَنَّة، وَلِذِي الْحجَّة برك، وَفِي
(الغريبين) : هُوَ مَأْخُوذ من رمض الصَّائِم يرمض إِذا
حرَّ جَوْفه من شدَّة الْعَطش، وَفِي (المغيث) اشتقاقه من:
رمضت النصل أرمضه رَمضًا إِذا جعلته بَين حجرين ودققته
ليرق، سمي بِهِ لِأَنَّهُ شهر مشقة، ليذكر صائموه مَا
يقاسي أهل النَّار فِيهَا، وَقيل: من رمضت فِي الْمَكَان
يَعْنِي: احْتبست، لِأَن الصَّائِم يحتبس عَمَّا نهى
عَنهُ، و: فعلان، لَا يكَاد يُوجد من بَاب فعل، وَهُوَ فِي
بَاب فعل بِالْفَتْح كثير، وَقَالَ ابْن خالويه: تَقول
الْعَرَب، جَاءَ فلَان يَغْدُو رَمضًا ورمضا وترميضا
ورمضانا إِذا كَانَ قلقا فَزعًا. وَفِي (الْمُحكم) : جمعه
رمضانات ورماضين وأرمضة وأرمض، عَن بعض أهل اللُّغَة،
وَلَيْسَ يثبت فِي (الصِّحَاح) : يجمع على أرمضاء، وَفِي
(الْعلم) : الْمَشْهُور لأبي الْخطاب: وَيجمع أَيْضا على
رماض، وَهُوَ الْقيَاس، وأراميض ورماض. قَوْله: (أَو شهر
رَمَضَان) ، الشَّهْر عدد وَجمعه أشهر وشهور، ذكره فِي
(الموعب) . وَفِي (الْمُحكم) : الشَّهْر الْقَمَر سمي بذلك
لشهرته وظهوره، وَسمي الشَّهْر بذلك لِأَنَّهُ يشهر
بالقمر، وَفِيه عَلامَة ابْتِدَائه وانتهائه. وَيُقَال:
شهر وَشهر. والتسكين أَكثر.
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ صامَ
رَمَضَانَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، وَقد ذكر هَذِه الْقطعَة مِنْهُ لصِحَّة قَول من
يَقُول: رَمَضَان بِغَيْر، قيد شهر.
وَقَالَ لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ
أَي: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا
تقدمُوا رَمَضَان، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا سَيَأْتِي، وَذكر هَذِه
الْقطعَة مِنْهُ أَيْضا لما ذكرنَا.
8981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ
جَعْفَرٍ عَن أبِي سُهَيْلٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا جاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ
أبْوَابُ الجَنَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَاءَ فِي الحَدِيث
(إِذا جَاءَ رَمَضَان) من غير ذكر: شهر، وَهَذَا الحَدِيث
يُفَسر الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد.
الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير أَبُو
إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، مولى زُرَيْق الْمُؤَدب.
الثَّالِث: أَبُو سُهَيْل واسْمه نَافِع بن مَالك بن أبي
عَامر عَمْرو بن الْحَارِث بن غيمان، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الأصبحي،
عَم أنس بن مَالك. وَالرَّابِع: أَبُو مَالك بن أبي عَامر،
تَابِعِيّ كَبِير أدْرك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن شَيْخه بلخي والبقية مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّوْم وَفِي صفة إِبْلِيس وَفِي مَوضِع آخر
عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب وَعلي بن حجر،
ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ وَعَن
حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن الحاتم وَحسن
الْحلْوانِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر
بِهِ وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وَعَن عبيد الله بن سعد
عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن سعد بِهِ وَعَن
إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَعَن مُحَمَّد بن خَالِد بن
عَليّ وَعَن عبد الله بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فتحت) ، رُوِيَ بتَشْديد التَّاء
وتخفيفها، كَذَا أخرجه مُخْتَصرا، وَقد أخرجه مُسلم
بِتَمَامِهِ، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن أَيُّوب وقتيبة بن
سعيد وَابْن حجر، قَالُوا: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، وَهُوَ
ابْن جَعْفَر عَن أبي سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي
هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (إِذا جَاءَ رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الْجنَّة وغلقت
أَبْوَاب النَّار وصفدت الشَّيَاطِين) ، ثمَّ المُرَاد من
فتح أَبْوَاب الْجنَّة حَقِيقَة الْفَتْح، وَذهب بَعضهم
إِلَى أَن المُرَاد بِفَتْح أَبْوَاب الْجنَّة كَثْرَة
الطَّاعَات فِي شهر رَمَضَان، فَإِنَّهَا موصلة إِلَى
الْجنَّة، فكني بهَا عَن ذَلِك، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ
مَا فتح الله على الْعباد فِيهِ من الْأَعْمَال المستوجبة
بهَا إِلَى الْجنَّة من الصّيام وَالصَّلَاة والتلاوة،
وَأَن الطَّرِيق إِلَى الْجنَّة فِي رَمَضَان سهل،
والأعمال فِيهِ أسْرع إِلَى الْقبُول.
9981 - حدَّثني يحْيعى بنُ بُكَيُرٍ قَالَ حدَّثني
اللَّيْثُ عنْ عُقَيلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرَني
ابنُ
(10/266)
أبِي أنَسٍ مَوْلَى التَّيْميِّينَ أنَّ
أباهُ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ يقوُل قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إذَا دخَل شهْرُ رَمَضَانَ فُتِحَتْ
أبْوابُ السَّمَاءِ وغلِقَتْ أبْوَابُ جهَنَّمَ
وسُلْسِلَتِ الشَّياطِينُ..
هَذَا طَرِيق آخر أتم من الطَّرِيق الأول، مطابقته
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا دخل شهر رَمَضَان) ،
حَيْثُ ذكر فِيهِ شهر، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله فِي
التَّرْجَمَة: أَو شهر رَمَضَان.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: يحيى بن بكير وَقد تكَرر
ذكره. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم
الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: ابْن أبي أنس هُوَ أَبُو
سهل نَافِع ابْن أبي أنس بن مَالك بن أبي عَامر.
السَّادِس: أَبوهُ مَالك بن أبي عَامر. السَّابِع: أَبُو
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي موضِعين، وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ يحيى بن عبد الله بن
بكير وَأَنه وَاللَّيْث مصريان، وَأَن عقيلاً أيلي. وَأَن
ابْن أبي أنس وأباه مدنيان. وَفِيه: أَن ابْن أبي أنس من
صغَار شُيُوخ الزُّهْرِيّ بِحَيْثُ أدْركهُ تلامذة
الزُّهْرِيّ وَمن هُوَ أَصْغَر مِنْهُ كإسماعيل بن
جَعْفَر، وَقد ابْن أبي أنس فِي الْوَفَاة عَن
الزُّهْرِيّ، وَهَذَا الْإِسْنَاد يعد من رِوَايَة
الأقران. وَفِيه: أَن ابْن أبي أنس مولى التيميين، أَي:
مولى بني تيم، وَالْمرَاد مِنْهُ آل طَلْحَة بن عبيد الله
أحد الْعشْرَة، وَكَانَ أَبُو عَامر وَالِد مَالك قد قدم
مَكَّة فقطنها وحالف عُثْمَان بن عبيد الله أَخا طَلْحَة
فنسب إِلَيْهِ، وَكَانَ مَالك الْفَقِيه يَقُول: لسنا
موَالِي آل تيم، إِنَّمَا نَحن عرب من أصبح، وَلَكِن جدي
حالفهم، وَالْحَاصِل أَن أَبَا سُهَيْل نَافِع بن مَالك بن
أبي عَامر أَخُو أنس بن مَالك بن عَامر، عَم مَالك بن أنس
الإِمَام حَلِيف عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ،
بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف. وَقَالَ ابْن سعد فِي الطَّبَقَة من
التَّابِعين الْمَدَنِيين: أَخْبرنِي عَم جدي الرّبيع،
مَالك بن أبي عَامر وَهُوَ عَم مَالك بن أنس الْمُفْتِي
عَن أَبِيه، فَذكر حَدِيثا أَنه عَاقد عبد الرَّحْمَن بن
عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ فعدوا الْيَوْم فِي بني
تيم لهَذَا السَّبَب، وَقيل: حَالف ابْنه عُثْمَان بن عبيد
الله، وَأَبُو أنس كنية مَالك بن أبي عَامر، وَمَات مَالك
سنة مائَة وَنَحْوهَا، كَمَا نقل عَن ابْن عبد الْبر،
وَحكى الكلاباذي عَن ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ: سنة إثنتي
عشرَة وَمِائَة، عَن سبعين أَو نَيف وَسبعين. وَفِي
(الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد: أَنه شهد عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْجَمْرَة وأصابه حجر فدماه،
وَفِيه نظر ظَاهر، وَأَوْلَاده أَرْبَعَة: أنس وَنَافِع
وأويس وَالربيع، أَوْلَاد مَالك الْمَذْكُور.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ النَّسَائِيّ:
مُرَاد الزُّهْرِيّ بِابْن أبي أنس: نَافِع، فَأخْرج من
وَجه آخر عَن عقيل عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي أَبُو سُهَيْل
عَن أَبِيه، وَأخرجه من طَرِيق صَالح عَن ابْن شهَاب،
فَقَالَ: أَخْبرنِي نَافِع بن أبي أنس، وَرَوَاهُ ابْن
إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ وَعَن أويس بن أبي أويس عديد بني
تيم عَن أنس بن مَالك نَحوه، وَقَالَ: هَذَا خطأ وَلم
يسمعهُ ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ، وَفِي مَوضِع آخر:
هَذَا حَدِيث مُنكر خطأ، وَلَعَلَّ ابْن إِسْحَاق سَمعه من
إِنْسَان ضَعِيف فَقَالَ فِيهِ: وَذكر الزُّهْرِيّ،
وَرَوَاهُ من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أبي هُرَيْرَة
بِلَفْظ: (أَتَاكُم رَمَضَان شهر مبارك فرض الله عَلَيْكُم
صِيَامه، تفتح فِيهِ أَبْوَاب السَّمَاء وتغلق فِيهِ
أَبْوَاب الْجَحِيم، وتغل فِيهِ مَرَدَة الشَّيَاطِين) .
وَمن حَدِيثه عَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن
معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة:
أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرغب فِي
قيام رَمَضَان من غير عَزِيمَة، وَقَالَ: إِذا دخل
رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الْجنَّة وغلقت الْجَحِيم وسلسلت
فِيهِ الشَّيَاطِين) . وَقَالَ: هَذَا الثَّالِث الْأَخير
خطأ من حَدِيث أبي سَلمَة، وَقَالَ: أرْسلهُ ابْن
الْمُبَارك عَن معمر، ثمَّ سَاقه من حَدِيثه عَن
الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِذا دخل
رَمَضَان فتحت) الحَدِيث.
وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش عَن
الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كَانَ أول
لَيْلَة من شهر رَمَضَان صفدت الشَّيَاطِين ومردة الْجِنّ،
وغلقت أَبْوَاب النيرَان فَلم يفتح مِنْهَا بَاب، وَفتحت
أَبْوَاب الْجنَّة فَلم يغلق مِنْهَا بَاب. .) الحَدِيث،
وَقَالَ: غَرِيب لَا نَعْرِف مثل رِوَايَة أبي بكر بن
عَيَّاش عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة
إلاَّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش، وَسَأَلت مُحَمَّدًا
عَنهُ؟ فَقَالَ: حَدثنَا الْحسن بن الرّبيع حَدثنَا أَبُو
الْأَحْوَص عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد، قَوْله: (إِذا
كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان) ، فَذكر الحَدِيث.
قَالَ مُحَمَّد: وَهَذَا
(10/267)
أصح عِنْدِي من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش
وَقَالَ شَيخنَا: لم يحكم التِّرْمِذِيّ على حَدِيث أبي
هُرَيْرَة الْمَذْكُور بِصِحَّة وَلَا حسن مَعَ كَون
رِجَاله رجال الصَّحِيح، وَكَانَ ذَلِك لِتَفَرُّد أبي بكر
بن عَيَّاش بِهِ، وَإِن كَانَ احْتج بِهِ البُخَارِيّ،
فَإِنَّهُ رُبمَا غلط، كَمَا قَالَ أَحْمد، ولمخالفة أبي
الْأَحْوَص لَهُ فِي رِوَايَته عَن الْأَعْمَش، فَإِنَّهُ
جعله مَقْطُوعًا من قَول مُجَاهِد، وَلذَلِك أدخلهُ
التِّرْمِذِيّ فِي كتاب (الْعِلَل الْمُفْرد) ، وَذكر أَنه
سَأَلَ البُخَارِيّ عَنهُ، وَذكر أَن كَونه عَن مُجَاهِد
أصح عِنْده.
وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي (الْمُسْتَدْرك) وَصَححهُ،
وَكَذَلِكَ صَححهُ ابْن حبَان، وَفِي رِوَايَة ابْن
عَسَاكِر: (وَيغْفر فِيهِ إلاَّ لمن نأى، قَالُوا: أَو من
نأى يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: الَّذِي يَأْبَى أَن
يسْتَغْفر الله عز وَجل) ، وروى من حَدِيث عتبَة بن فرقد،
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: (تفتح فِيهِ أَبْوَاب الْجنَّة وتغلق فِيهِ
أَبْوَاب النَّار) الحَدِيث. قَالَ ابْن أبي حَاتِم:
سَأَلت أبي عَن حَدِيث عتبَة بن فرقد عَن رجل من
الصَّحَابَة يرفعهُ: (إِذا جَاءَ رَمَضَان فتحت أَبْوَاب
الْجنَّة) الحَدِيث، فرجحه مَرْفُوعا. وَخطأ حَدِيث أنس،
وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: عتبَة بن
فرقد السّلمِيّ أَبُو عبد الله لَيْسَ لَهُ صُحْبَة، نزل
الْكُوفَة، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَ أَمِيرا لعمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بعض فتوحات
الْعرَاق، وروى لَهُ النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي، وروى
النَّسَائِيّ من رِوَايَة عَطاء ابْن السَّائِب (عَن
عرْفجَة، قَالَ: كَانَ عندنَا عتبَة بن فرقد، فتذاكرنا شهر
رَمَضَان، فَقَالَ: مَا تذكرُونَ؟ قُلْنَا: شهر رَمَضَان.
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: تفتح فِيهِ أَبْوَاب الْجنَّة، وتغلق فِيهِ
أَبْوَاب النَّار، وتغل فِيهِ الشَّيَاطِين، وينادي منادٍ
كل لَيْلَة: يَا باغي الْخَيْر هَلُمَّ {وَيَا باغي
الشَّرّ أقصر) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ، يُرِيد
أَن الصَّوَاب أَنه حَدِيث رجل من الصَّحَابَة لم يسم،
ثمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب
عَن عرْفجَة، قَالَ: كنت فِي بَيت فِيهِ عتبَة بن فرقد،
فَأَرَدْت أَن أحدث بِحَدِيث، وَكَانَ رجل من أَصْحَاب
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَأَنَّهُ أولى
بِالْحَدِيثِ، فَحدث الرجل عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فِي رَمَضَان تفتح أَبْوَاب
السَّمَاء ... الحَدِيث.، مثل حَدِيث عتبَة بن فرقد.
ذكر مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من أَحَادِيث الصَّحَابَة
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مِنْهَا: حَدِيث عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من
رِوَايَة النَّضر بن شَيبَان، قَالَ: قلت لأبي سَلمَة بن
عبد الرَّحْمَن: حَدثنِي بِشَيْء سمعته من أَبِيك سَمعه
أَبوك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بَين
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أَبِيك أحد.
قَالَ: نعم، حَدثنِي أبي، قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى فرض صِيَام
رَمَضَان، وسننت لكم قِيَامه، فَمن صَامَهُ وقامه
إِيمَانًا واحتسابا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه) .
قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا غلط، وَالصَّوَاب: أَبُو سَلمَة
عَن أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهَا حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَوَاهُ أَبُو يعلى عَنهُ
أَنه سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ
يَقُول، وَقد أهل رَمَضَان: لَو يعلم الْعباد مَا فِي
رَمَضَان لتمنت أمتِي أَن تكون السّنة كلهَا رَمَضَان.
فَقَالَ رجل من خُزَاعَة: حَدثنَا بِهِ} قَالَ: إِن
الْجنَّة تزين لرمضان من رَأس الْحول إِلَى الْحول، حَتَّى
إِذا كَانَ أول يَوْم من رَمَضَان هبت ريح من تَحت
الْعَرْش، فصفقت ورق الْجنَّة، فتنظر الْحور الْعين إِلَى
ذَلِك، فَقُلْنَ: يَا رب! إجعل لنا من عِبَادك فِي هَذَا
الشَّهْر أَزْوَاجًا تقر أَعيننَا بهم، وتقر أَعينهم
بِنَا، فَمَا من عبد يَصُوم رَمَضَان إلاَّ زوج زَوْجَة من
الْحور الْعين فِي خيمة من درة مجوفة، مِمَّا نعت الله
تَعَالَى: {حور مقصورات فِي الْخيام} (الرَّحْمَن: 27) .
على كل امْرَأَة مِنْهُنَّ سَبْعُونَ حلَّة، لَيْسَ
مِنْهَا حلَّة على لون الْأُخْرَى، وتعطى سَبْعُونَ لونا
من الطّيب: لَيْسَ مِنْهُ لون على ريح الآخر، لكل امْرَأَة
مِنْهُنَّ سبعين سريرا من ياقوتة حَمْرَاء موشحة بالدر،
على كل سَرِير سَبْعُونَ فراشا بطائنها من استبرق، وَفَوق
السّبْعين فراشا سَبْعُونَ أريكة لكل امْرَأَة مِنْهُنَّ
سَبْعُونَ ألف وصيفة لحاجاتها، وَسَبْعُونَ ألف وصيف، مَعَ
كل وصيف صَحْفَة من ذهب، فِيهَا لون طَعَام يجد لآخر
لقْمَة مِنْهَا لَذَّة لَا يجد لأوله، وَيُعْطى زَوجهَا
مثل ذَلِك، على سَرِير من ياقوتة حَمْرَاء، عَلَيْهِ
سواران من ذهب، موشح بياقوت أَحْمَر، هَذَا بِكُل يَوْم
صَامَ من رَمَضَان سوى مَا عمل من الْحَسَنَات) هَذَا
حَدِيث مُنكر وباطل، وَفِي سَنَده جرير بن أَيُّوب
البَجلِيّ الْكُوفِي، كَانَ يضع الحَدِيث. قَالَه وَكِيع
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَقَالَ ابْن معِين:
لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: وَأَبُو زرْعَة
مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي، رَوَاهُ الْحَارِث
بن أبي أُسَامَة
(10/268)
فِي (مُسْنده) عَنهُ، قَالَ: (خَطَبنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخر يَوْم من
شعْبَان، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه قد أظلكم شهر
عَظِيم، شهر مبارك، فِيهِ لَيْلَة خير من ألف شهر، فرض
الله صِيَامه وَجعل قيام ليله تَطَوّعا، فَمن تطوع فِيهِ
بخصلة من الْخَيْر كَانَ كمن أدّى سبعين فَرِيضَة فِيمَا
سواهُ، وَمن أدّى فِيهِ فَرِيضَة كَانَ كمن أدّى سبعين
فَرِيضَة، وَهُوَ شهر الصَّبْر، وَالصَّبْر ثَوَابه
الْجنَّة، وَهُوَ شهر الْمُوَاسَاة، وَهُوَ شهر يُزَاد رزق
الْمُؤمن فِيهِ، من فطر صَائِما كَانَ لَهُ عتق رَقَبَة
ومغفرة لذنوبه، قيل: يَا رَسُول الله {لَيْسَ كلنا نجد مَا
يفْطر الصَّائِم} قَالَ: يُعْطي الله هَذَا الثَّوَاب لمن
فطر صَائِما على مذقة لبن أَو تَمْرَة أَو شربة مَاء، وَمن
أشْبع صَائِما كَانَ لَهُ مغْفرَة لذنوبه، وسقاه الله من
حَوْضِي شربة لَا يظمأ حَتَّى يدْخل الْجنَّة، وَكَانَ
لَهُ مثل أجره من غير أَن ينقص من أجره شَيْئا. وَهُوَ شهر
أَوله رَحْمَة وأوسطه مغْفرَة وَآخره عتق من النَّار، وَمن
خفف عَن مَمْلُوكه فِيهِ أعْتقهُ الله من النَّار) ، وَلَا
يَصح إِسْنَاده، وَفِي سَنَده إِيَاس. قَالَ شَيخنَا:
الظَّاهِر أَنه ابْن أبي إِيَاس، قَالَ صَاحب (الْمِيزَان)
إِيَاس بن أبي إِيَاس عَن سعيد بن الْمسيب لَا يعرف،
وَالْخَبَر مُنكر.
وَمِنْهَا: حَدِيث أنس، أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق
مُحَمَّد بن إِسْحَاق. قَالَ: ذكر مُحَمَّد بن مُسلم عَن
أويس ابْن أبي أويس عديد بني تيم، (عَن أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: هَذَا رَمَضَان قد جَاءَكُم تفتح فَهِيَ
أَبْوَاب الْجنَّة وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار، وتسلسل
فِيهِ الشَّيَاطِين) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث
خطأ، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من رِوَايَة
الْفضل بن عِيسَى الرقاشِي عَن يزِيد الرقاشِي عَن أنس بن
مَالك، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: هَذَا رَمَضَان قد جَاءَ تفتح فِيهِ أَبْوَاب
الْجنَّة وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار، وتغل فِيهِ
الشَّيَاطِين، بعدا لمن أدْرك رَمَضَان فَلم يغْفر لَهُ
إِذا لم يغْفر لَهُ فِيهِ فَمَتَى؟) وَالْفضل بن عِيسَى
مُنكر الحَدِيث، قَالَه أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم،
وَقَالَ ابْن معِين: رجل سوء. ولأنس: حَدِيث آخر رَوَاهُ
الْعقيلِيّ فِي (الضُّعَفَاء) قَالَ: حَدثنَا جِبْرِيل بن
عِيسَى المغربي حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان الْقرشِي
حَدثنَا أَبُو معمر عباد بن عبد الصَّمد عَن أنس بن مَالك،
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان نَادَى
الله تبَارك وَتَعَالَى رضوَان خَازِن الْجنَّة، يَقُول:
يَا رضوَان {فَيَقُول: لبيْك سَيِّدي وَسَعْديك} فَيَقُول:
زيَّن الْجنان للصائمين والقائمين من أمة مُحَمَّد، ثمَّ
لَا نغلقها حَتَّى يَنْقَضِي شهرهم) . فَذكر حَدِيثا
طَويلا جدا مُنْكرا، وَعباد ابْن عبد الصَّمد مُنكر
الحَدِيث، قَالَه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الْعِلَل المتناهية) وَيحيى بن
سُلَيْمَان مَجْهُول.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (إِن
رَسُول الله قَالَ يَوْمًا، وَحضر رَمَضَان: أَتَاكُم
رَمَضَان شهر بركَة يغيثكم الله فِيهِ، فَينزل الرَّحْمَة
ويحط الْخَطَايَا ويستجيب فِيهِ الدُّعَاء، ينظر الله
إِلَى تنافسكم ويباهي بكم مَلَائكَته، فأروا الله من
أَنفسكُم خيرا، فَإِن الشقي من حرم فِيهِ رَحْمَة الله عز
وَجل) . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن أبي قيس يحْتَاج
إِلَى الْكَشْف.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
من رِوَايَة نَافِع بن هُرْمُز عَن عَطاء بن أبي رَبَاح
عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا
أخْبركُم بِأَفْضَل الْمَلَائِكَة؟ جِبْرِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، وَأفضل النَّبِيين؟ آدم عَلَيْهِ السَّلَام،
وَأفضل الْأَيَّام يَوْم الْجُمُعَة، وَأفضل الشُّهُور شهر
رَمَضَان، وَأفضل اللَّيَالِي لَيْلَة الْقدر، وَأفضل
النِّسَاء مَرْيَم بنت عمرَان عَلَيْهَا السَّلَام) ،
وَنَافِع بن هُرْمُز ضَعِيف. وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر
رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الْعِلَل المتناهية) من
رِوَايَة الْقَاسِم بن الحكم العرني عَن الضَّحَّاك: (عَن
ابْن عَبَّاس: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: إِن الْجنَّة لتبخر وتزين من الْحول إِلَى الْحول
لدُخُول شهر رَمَضَان، فَإِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر
رَمَضَان هبت ريح من تَحت الْعَرْش، يُقَال لَهَا: المثيرة
فيصطفق ورق أَشجَار الْجنَّة وَحلق المصاريع) . فَذكر
حَدِيثا طَويلا مُنْكرا، وَالقَاسِم بن الحكم مَجْهُول،
قَالَه أَبُو حَاتِم، وَقَالَ: يحيى ابْن سعيد الضَّحَّاك
عندنَا ضَعِيف.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من
رِوَايَة الْوَلِيد بن الْوَلِيد القلانسي عَن ابْن
ثَوْبَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عمر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الْجنَّة
لتزخرف لرمضان من رَأس الْحول إِلَى الْحول الْمقبل،
فَإِذا كَانَ أول لَيْلَة من رَمَضَان هبت ريح من تَحت
الْعَرْش) الحَدِيث، والوليد بن الْوَلِيد ضعفه
الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم
بقوله: صَدُوق.
وَمِنْهَا: حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِلَفْظ:
(ذَاكر الله فِي رَمَضَان مغْفُور لَهُ، وَسَائِل الله
فِيهِ لَا يخيب) ، وَفِي إِسْنَاده: هِلَال بن عبد
الرَّحْمَن، ضعفه الْعقيلِيّ، بقوله:
(10/269)
مُنكر الحَدِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، رَوَاهُ أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (لله عِنْد كل فطر عُتَقَاء) ،
وَرِجَاله ثِقَات.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير بِلَفْظ: (إِن أَبْوَاب
السَّمَاء تفتح فِي أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان، وَلَا
تغلق إِلَى آخر لَيْلَة مِنْهُ) ، وَفِي إِسْنَاده
مُحَمَّد بن مَرْوَان السَّعْدِيّ وَهُوَ ضَعِيف وَلأبي
سعيد حَدِيث آخر رَوَاهُ الْبَزَّار بِلَفْظ: (إِن لله
تبَارك وَتَعَالَى عُتَقَاء فِي كل يَوْم وَلَيْلَة
يَعْنِي: فِي رَمَضَان، وَإِن لكل مُسلم فِي كل يَوْم
وَلَيْلَة دَعْوَة مستجابة) ، وَفِيه أبان بن أبي عَيَّاش
ضَعِيف. وَلأبي سعيد حَدِيث آخر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
بِلَفْظ: (صِيَام رَمَضَان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما
بَينهمَا) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مَسْعُود الْغِفَارِيّ رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ حَدِيث ابْن مَسْعُود
الْمُتَقَدّم، وَفِي إِسْنَاده الْهياج بن بسطَام وَهُوَ
ضَعِيف، قَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن
معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب
حَدِيثه.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
أخرجه النَّسَائِيّ عَنْهَا: (أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرغب النَّاس فِي قيام رَمَضَان من
غير أَن يَأْمُرهُم بعزيمة أَمر فِيهِ فَيَقُول: من قَامَ
رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه)
.
وَمِنْهَا: حَدِيث أم هانىء، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الصَّغِير) و (الْأَوْسَط) بِلَفْظ: (إِن أمتِي لم يخزوا
مَا أَقَامُوا شهر رَمَضَان، قيل: يَا رَسُول الله؟ وَمَا
خزيهم فِي إِضَاعَة شهر رَمَضَان؟ قَالَ: انتهاك
الْمَحَارِم فِيهِ) الحَدِيث، وَفِيه: (فَاتَّقُوا شهر
رَمَضَان فَإِن الْحَسَنَات تضَاعف فِيهِ مَا لَا تضَاعف
فِيمَا سواهُ، وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات) ، وَفِي إِسْنَاده
عِيسَى بن سُلَيْمَان أَبُو طيبَة الْجِرْجَانِيّ، ذكره
ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَضَعفه ابْن معِين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فتحت أَبْوَاب السَّمَاء) ، قد
ذكرنَا معنى: فتحت، وَهنا، قَالَ: (أَبْوَاب السَّمَاء) ،
وَفِي حَدِيث قُتَيْبَة الْمَاضِي قَالَ: (أَبْوَاب
الْجنَّة) ، وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد من السَّمَاء
الْجنَّة بِقَرِينَة ذكر جَهَنَّم فِي مُقَابلَة. قلت:
جَاءَ فِي رِوَايَة: (أَبْوَاب الرَّحْمَة) ، وَلَا تعَارض
فِي ذَلِك، فأبواب السَّمَاء يصعد مِنْهَا إِلَى الْجنَّة
لِأَنَّهَا فَوق السَّمَاء، وسقفها عرش الرَّحْمَن كَمَا
ثَبت فِي (الصَّحِيح) . وأبواب الرَّحْمَة تطلق على
أَبْوَاب الْجنَّة، لقَوْل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (احتجت الْجنَّة
وَالنَّار) الحَدِيث، وَفِيه: (وَقَالَ الله للجنة: أَنْت
رَحْمَتي أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي) الحَدِيث، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة الْفَتْح تَوْقِيف الْمَلَائِكَة
على استحماد فعل الصائمين، وَأَن ذَلِك من الله
بِمَنْزِلَة عَظِيمَة، وَأَيْضًا فِيهِ أَنه إِذا علم
الْمُكَلف المعتقد ذَلِك بِإِخْبَار الصَّادِق يزِيد فِي
نشاطه ويتلقاه بأريحته وينصره مَا روى: (إِن الْجنَّة
تزخرف لرمضان) . قَوْله: (وغلقت أَبْوَاب جَهَنَّم) لِأَن
الصَّوْم جنَّة فتغلق أَبْوَابهَا بِمَا قطع عَنْهُم من
الْمعاصِي وَترك الْأَعْمَال السَّيئَة المستوجبة للنار،
ولقلة مَا يُؤَاخذ الله الْعباد بأعمالهم السَّيئَة
ليستنقذ مِنْهَا ببركة الشَّهْر، ويهب الْمُسِيء للمحسن،
ويجاوز عَن السَّيِّئَات، وَهَذَا معنى الإغلاق، قَوْله:
(وسلسلت الشَّيَاطِين) أَي: شدت بالسلاسل. قَالَ
الْحَلِيمِيّ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن الشَّيَاطِين
مسترقوا السّمع مِنْهُم أَن تسلسلهم يَقع فِي ليَالِي
رَمَضَان دون أَيَّامه، لأَنهم كَانُوا منعُوا زمن نزُول
الْقُرْآن من استراق السّمع، فزيد التسلسل مُبَالغَة فِي
الْحِفْظ، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أَن الشَّيَاطِين
لَا يخلصون من إِفْسَاد الْمُسلمين إِلَى مَا يخلصون
إِلَيْهِ فِي غَيره لاشتغالهم بالصيام الَّذِي فِيهِ قمع
الشَّيَاطِين، وبقراءة الْقُرْآن، وَالذكر. وَقيل:
المُرَاد بالشياطين بَعضهم، وهم المردة مِنْهُم، وَترْجم
لذَلِك ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَأورد مَا أخرجه
هُوَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
وَالْحَاكِم من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي
هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر
رَمَضَان صفدت الشَّيَاطِين مَرَدَة الْجِنّ) . وَأخرجه
النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي هُرَيْرَة
بِلَفْظ: (وتغل فِيهِ مَرَدَة الشَّيَاطِين) ، وَيُقَال:
تصفيد الشَّيَاطِين عبارَة عَن تعجيزهم عَن الإغواء وتزيين
الشَّهَوَات، وصفدت، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وبالفاء
الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة: أَي شدت بالأصفاد، وَهِي
الأغلال، وَهُوَ بِمَعْنى: سلسلت. فَإِن قلت: قد تقع
الشرور والمعاصي فِي رَمَضَان كثيرا، فَلَو سلسلت لم يَقع
شَيْء من ذَلِك. قلت: هَذَا فِي حق الصائمين الَّذين
حَافظُوا على شُرُوط الصَّوْم وراعوا آدابه، وَقيل:
المسلسل بعض الشَّيَاطِين وهم المردة لَا كلهم، كَمَا تقدم
فِي بعض الرِّوَايَات، وَالْمَقْصُود تقليل الشرور فِيهِ،
وَهَذَا أَمر محسوس، فَإِن وُقُوع ذَلِك فِيهِ أقل من
غَيره، وَقيل: لَا يلْزم من تسلسلهم وتصفيدهم كلهم أَن لَا
تقع شرور وَلَا مَعْصِيّة، لِأَن لذَلِك أسبابا غير
الشَّيَاطِين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة
وَالشَّيَاطِين الأنسية.
(10/270)
0091 - حدَّثنا يَحْيَء بنُ بُكَيْرٍ قَالَ
حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ
أخبرَنِي سَالِمٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُولُ إذَا رأيْتُمُوهُ فَصُومُوا وإذَا
رَأيْتُمُوهُ فأفْطِرُوا فإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فاقْدُرُوا
لَهُ.
قيل: هَذَا الحَدِيث غير مُطَابق للتَّرْجَمَة، وَأجَاب
عَنهُ صَاحب (التَّلْوِيح) : بِأَن فِي بعض طرق حَدِيث
ابْن عمر (أَن رَسُول الله ت ذكر رَمَضَان، فَقَالَ: لَا
تَصُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال) ، فَكَأَن البُخَارِيّ
على عَادَته أحَال على هَذَا، فطابق بذلك مَا بوب لَهُ من
ذكر رَمَضَان، وَصَاحب (التَّوْضِيح) تبعه على ذَلِك.
وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا أَرَادَ المُصَنّف بإيراده فِي
هَذَا الْبَاب ثُبُوت ذكر رَمَضَان بِغَيْر شهر، وَلم يَقع
ذَلِك فِي الرِّوَايَة الموصولة، وَإِنَّمَا وَقع فِي
الرِّوَايَة الْمُعَلقَة. قلت: قد ذهل هَذَا الْقَائِل عَن
حَدِيث قُتَيْبَة فِي أول الْبَاب، فَإِنَّهُ مَوْصُول
وَلَيْسَ فِيهِ ذكر شهر، والْحَدِيث الَّذِي يَلِيهِ عَن
يحيى بن بكير فِيهِ ذكر الشَّهْر، والترجمة هَل يُقَال:
رَمَضَان أَو شهر رَمَضَان؟ فَحَدِيث قُتَيْبَة يُطَابق
قَوْله: هَل يُقَال رَمَضَان؟ وَحَدِيث يحيى يُطَابق
قَوْله: أَو شهر رَمَضَان؟ فَضَاعَ الْوَجْه الَّذِي ذكره
بَاطِلا. وَجَوَاب صَاحب التَّلْوِيح أَيْضا لَيْسَ
بِشَيْء، وَالْوَجْه فِي هَذَا أَن يُقَال: الْأَحَادِيث
الْمُعَلقَة والموصولة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب
تدل على أَن لشهر رَمَضَان أوصافا عَظِيمَة. مِنْهَا: أَن
فِيهِ: غفران مَا تقدم من ذَنْب الصَّائِم فِيهِ إِيمَانًا
واحتسابا، وَهُوَ الَّذِي علق مِنْهُ البُخَارِيّ قِطْعَة
فِي أول الْبَاب. وَأَن فِيهِ: فتح أَبْوَاب الْجنان.
وَأَن فِيهِ: غلق أَبْوَاب النَّار. وَأَن فِيهِ: تسلسل
الشَّيَاطِين، وَقد ثَبت بالدلائل القطعية فَرضِيَّة هَذَا
الصَّوْم الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف، وَأورد هَذَا
الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب ليعلم أَن هَذَا الصَّوْم يكون
فِي أَيَّام محدودة، وَهِي: أَيَّام شهر رَمَضَان، وَأَن
الْوُجُوب يتَعَلَّق بِرُؤْيَتِهِ، فَمن هَذِه
الْحَيْثِيَّة يسْتَأْنس لوجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث
فِيهِ، وَيَكْفِي فِي التطابق أدنى الْمُنَاسبَة فَافْهَم.
ثمَّ سَنَد هَذَا الحَدِيث هُوَ بِعَيْنِه سَنَد الحَدِيث
الَّذِي قبله، غير أَنه فِي الأول: يروي ابْن شهَاب عَن
ابْن أبي أنس، عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَفِي هَذَا الحَدِيث يروي: ابْن شهَاب
عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله بن عمر
عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (إِذا رَأَيْتُمُوهُ) أَي: الْهلَال، لَا يُقَال:
إِنَّه إِضْمَار قبل الذّكر لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولأبويه بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا
السُّدس} (النِّسَاء: 11) . أَي: لأبوي الْمَيِّت. قَوْله:
(فَإِن غم عَلَيْكُم) أَي: فَإِن ستر الْهلَال عَلَيْكُم،
وَمِنْه الْغم، لِأَنَّهُ يستر الْقلب، وَالرجل الأغم
المستور الْجَبْهَة بالشعر، وَسمي السَّحَاب غيما
لِأَنَّهُ يستر السَّمَاء، وَيُقَال: غم الْهلَال إِذا
استتر وَلم ير لاستتاره بغيم وَنَحْوه، وغممت الشَّيْء
أَي: غطيته. قَوْله: (فاقدروا لَهُ) ، بِضَم الدَّال
وَكسرهَا، يُقَال: قدرت لأمر كَذَا إِذا نظرت فِيهِ
ودبرته.
وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) وَغَيره: أَي ضيقوا لَهُ
وقدروه تَحت السَّحَاب، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمد بن
حَنْبَل وَغَيره مِمَّن يجوز صَوْم يَوْم الْغَيْم، عَن
رَمَضَان، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْهُم ابْن شُرَيْح ومطرف
بن عبد الله وَابْن قُتَيْبَة مَعْنَاهُ: قدروه بِحِسَاب
الْمنَازل، يَعْنِي منَازِل الْقَمَر.
وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : وَقد كَانَ بعض كبار
التَّابِعين يذهب فِي هَذَا إِلَى اعْتِبَاره بالنجوم
ومنازل الْقَمَر، وَطَرِيق الْحساب. وَقَالَ ابْن سِيرِين،
رَحمَه الله تَعَالَى: وَكَانَ أفضل لَهُ لَو لم يفعل،
وَحكى ابْن شُرَيْح عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه قَالَ: من كَانَ مذْهبه الِاسْتِدْلَال
بالنجوم ومنازل الْقَمَر، ثمَّ تبين لَهُ من جِهَة
النُّجُوم أَن الْهلَال اللَّيْلَة وغم عَلَيْهِ، جَازَ
لَهُ أَن يعْتَقد الصَّوْم ويبيته ويجزيه. وَقَالَ أَبُو
عمر: وَالَّذِي عندنَا فِي كتبه أَنه: لَا يَصح اعْتِقَاد
رَمَضَان إلاَّ بِرُؤْيَة فَاشِية أَو شَهَادَة عادلة، أَو
إِكْمَال شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وعَلى هَذَا مَذْهَب
جُمْهُور فُقَهَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق
وَالشَّام وَالْمغْرب، مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
وَعَامة أهل الحَدِيث إلاَّ أَحْمد وَمن قَالَ بقوله،
وَذكر فِي (الْقنية) للحنفية: لَا بَأْس بالإعتماد على
قَول المنجمين، وَعَن ابْن مقَاتل: لَا بَأْس بالاعتماد
على قَوْلهم وَالسُّؤَال عَنْهُم، إِذا اتّفق عَلَيْهِ
جمَاعَة مِنْهُم، وَقَول من قَالَ: إِنَّه يرجع إِلَيْهِم
عِنْد الِاشْتِبَاه بعيد، وَعند الشَّافِعِي: لَا يجوز
تَقْلِيد المنجم فِي حسابه، وَهل يجوز للمنجم أَن يعْمل
بِحِسَاب نَفسه؟ فِيهِ وَجْهَان، وَقَالَ الْمَازرِيّ: حمل
جُمْهُور الْفُقَهَاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(فاقدروا لَهُ) ، على أَن المُرَاد إِكْمَال الْعدة
ثَلَاثِينَ، كَمَا فسره فِي حَدِيث آخر، وَلَا يجوز أَن
يكون المُرَاد حِسَاب
(10/271)
النُّجُوم، لِأَن النَّاس لَو كلفوا بِهِ
ضَاقَ عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَا يعرفهُ إلاَّ الْأَفْرَاد،
والشارع إِنَّمَا يَأْمر النَّاس بِمَا يعرفهُ جماهيرهم،
قَالَ الْقشيرِي: وَإِذا دلّ الْحساب على أَن الْهلَال قد
طلع من الْأُفق على وَجه يرى لَوْلَا وجود الْمَانِع
كالغيم مثلا، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوب لوُجُود
السَّبَب الشَّرْعِيّ، وَلَيْسَ حَقِيقَة الرُّؤْيَة
مَشْرُوطَة فِي اللُّزُوم، فَإِن الِاتِّفَاق على أَن
الْمَحْبُوس فِي المطمورة إِذا علم بإكمال الْعدة أَو
بِالِاجْتِهَادِ أَن الْيَوْم من رَمَضَان وَجب عَلَيْهِ
الصَّوْم، وَإِذا لم ير الْهلَال وَلَا أخبرهُ من رَآهُ،
وَفِي (الاشراف) : صَوْم يَوْم الثَّلَاثِينَ من شعْبَان
إِذْ لم ير الْهلَال مَعَ الصحو إِجْمَاع من الْأمة أَنه
لَا يجب، بل هُوَ مَنْهِيّ عَنْهُم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التَّقْدِير،
يَعْنِي فِي قَوْله: (فاقدروا لَهُ) ، فَقيل: مَعْنَاهُ
قدرُوا عدد الشَّهْر الَّذِي كُنْتُم فِيهِ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، إِذْ الأَصْل بَقَاء الشَّهْر، وَهَذَا هُوَ
المرضي عِنْد الْجُمْهُور. وَقيل: قدرُوا لَهُ منَازِل
الْقَمَر وسيره، فَإِن ذَلِك يدل على أَن الشَّهْر تِسْعَة
وَعِشْرُونَ يَوْمًا أَو ثَلَاثُونَ، فَقَالُوا: هَذَا
خطاب لمن خصّه الله بِهَذَا الْعلم، وَالْوَجْه هُوَ
الأول.
وَقد اسْتُفِيدَ من هَذَا الحَدِيث: أَن وجوب الصَّوْم
وَوُجُوب الْإِفْطَار عِنْد انْتِهَاء الصَّوْم متعلقان
بِرُؤْيَة الْهلَال. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا عبد
الْعَزِيز بن أبي رواد عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن الله
تَعَالَى جعل الْأَهِلّة مَوَاقِيت للنَّاس فصوموا
لرُؤْيَته، وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فعدوا
ثَلَاثِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن
سعد عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه: (لَا تَصُومُوا
حَتَّى تروا الْهلَال، وَلَا تفطروا حَتَّى تروه، فَإِن غم
عَلَيْكُم فأكملوه الْعدة ثَلَاثِينَ) . قَالَ ابْن عبد
الْبر: كَذَا قَالَ، وَالْمَحْفُوظ فِي حَدِيث ابْن عمر:
(فاقدروا لَهُ) ، وَقد ذكر عبد الرَّزَّاق عَن أَيُّوب
(عَن نَافِع عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لهِلَال رَمَضَان: إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا،
ثمَّ إِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم
فاقدروا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا) .
وَقَالَ أَبُو عمر: وروى ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة
وَحُذَيْفَة وَأَبُو بكر وطلق الْحَنَفِيّ وَغَيرهم عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صُومُوا لرُؤْيَته
وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة
ثَلَاثِينَ) . قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه أَبُو
دَاوُد عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر بصيام يَوْم وَلَا
يَوْمَيْنِ إلاَّ أَن يكون شَيْء يَصُومهُ أحدكُم، لَا
تَصُومُوا حَتَّى تروه، ثمَّ صُومُوا حَتَّى تروه، فَإِن
حَال دونه غمامة فَأتمُّوا الْعدة ثَلَاثِينَ، ثمَّ
أفطروا، والشهر تسع وَعِشْرُونَ) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة
عِنْد التِّرْمِذِيّ، رَوَاهُ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن
أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر بِيَوْم وَلَا
بيومين إلاَّ أَن يُوَافق ذَلِك صوما كَانَ يَصُومهُ
أحدكُم، صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فعدوا ثَلَاثِينَ ثمَّ أفطروا) . وَقَالَ:
حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد انْفَرد
بِهِ التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه. وَحَدِيث حُذَيْفَة
عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، أخرجه أَبُو دَاوُد من
رِوَايَة مَنْصُور عَن ربعي عَن حُذَيْفَة، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا
الشَّهْر حَتَّى تروا الْهلَال أَو تكملوا الْعدة، ثمَّ
صُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال أَو تكملوا الْعدة) . وَنقل
ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : أَن أَحْمد ضعف
حَدِيث حُذَيْفَة، وَقَالَ: لَيْسَ ذكر حُذَيْفَة فِيهِ
بِمَحْفُوظ، وَقد أنكر عَلَيْهِ ابْن عبد الْهَادِي فِي
(التَّنْقِيح) وَقَالَ: إِنَّه وهم مِنْهُ فَإِن أَحْمد
إِنَّمَا أَرَادَ أَن الصَّحِيح قَول من قَالَ: عَن رجل من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجهالته غير
قادحة فِي صِحَة الحَدِيث. وَحَدِيث أبي بكرَة رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَمن طَرِيقه الْبَيْهَقِيّ
بِلَفْظ: (صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ يَوْمًا) . وَحَدِيث
طلق بن عَليّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير)
فَقَالَ: (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى
أَن يَصُوم قبل رَمَضَان بِصَوْم يَوْم حَتَّى تروا
الْهلَال، أَو نفي الْعدة، ثمَّ لَا تفطرون حَتَّى تروه،
أَو نفي الْعدة) . وَفِي إِسْنَاده حبَان بن رفيدة، قَالَ
ابْن حبَان: فِيهِ نظر، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: لَا يعرف.
وَغَيرهم من الصَّحَابَة: الْبَراء بن عَازِب وَعَائِشَة
وَعمر وَجَابِر وَرَافِع بن خديج وَابْن مَسْعُود وَابْن
عمر وَعلي بن أبي طَالب وَسمرَة بن جُنْدُب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. فَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد
أبي دَاوُد. وَحَدِيث عمر عِنْد الْبَيْهَقِيّ. وَحَدِيث
جَابر عِنْد الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَحَدِيث رَافع بن خديج
عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ. وَحَدِيث ابْن مَسْعُود عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَحَدِيث ابْن عمر عِنْد
مُسلم. وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عِنْد أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عِنْد
الطَّبَرَانِيّ.
ثمَّ الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن التَّقْدِيم يَصُوم
يَوْم أَو يَوْمَيْنِ، هِيَ أَن لَا يخْتَلط صَوْم
الْفَرْض بِصَوْم نفل قبله وَلَا بعده، تحذيرا
(10/272)
مِمَّا صنعت النَّصَارَى فِي الزِّيَادَة
على مَا افْترض عَلَيْهِم برأيهم الْفَاسِد، وَقد صَحَّ
عَن أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ
كَرَاهَة صَوْم يَوْم الشَّك إِنَّه من رَمَضَان، مِنْهُم:
عَليّ وَعمر وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس
وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَأَبُو وَائِل وَابْن الْمسيب
وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري
وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر
وَإِسْحَاق، وَجَاء مَا يدل على الْجَوَاز عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لِأَن اتعجل فِي
صَوْم رَمَضَان بِيَوْم أحب إِلَيّ من أَن أتأخر، لِأَنِّي
إِذا تعجلت لم يفتني، وَإِذا تَأَخَّرت فَاتَنِي، وَمثله
عَن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَن مُعَاوِيَة، لِأَن أَصوم
يَوْمًا من شعْبَان أحب إِلَيّ من أَن أفطر يَوْمًا من
رَمَضَان، وروى مثله عَن عَائِشَة، وَأَسْمَاء بِنْتي أبي
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِن حَال دون منظره
غيم وشبهة، فَكَذَلِك لَا يجب صَوْمه عِنْد الْكُوفِيّين
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري،
وَرِوَايَة عَن أَحْمد، فَلَو صَامَهُ وَبَان أَنه من
رَمَضَان يحرم عندنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ ابْن عمر وَأحمد، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَطَائِفَة قَليلَة: يجب صَوْمه فِي
الْغَيْم دون الصحو. وَقَالَ قوم: النَّاس تبع للْإِمَام
إِن صَامَ صَامُوا وَإِن أفطر أفطروا، وَهُوَ قَول الْحسن
وَابْن سِيرِين وسوار الْعَنْبَري وَالشعْبِيّ فِي
رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة.
وَقَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير وَابْن شُرَيْح عَن
الشَّافِعِي وَابْن قُتَيْبَة والداودي، وَآخَرُونَ:
يَنْبَغِي أَن يصبح يَوْم الشَّك مُفطرا متلوما غير آكل
وَلَا عازم على الصَّوْم، حَتَّى إِذا تبين أَنه من
رَمَضَان قبل الزَّوَال نوى، وَإِلَّا أفطر فِيمَا ذكره
الطَّحَاوِيّ، وَيَوْم الشَّك هُوَ أَن يشْهد عِنْد
القَاضِي من لَا تقبل شَهَادَته أَنه رَآهُ أَو أخبرهُ من
يَثِق بِهِ من عبد أَو امْرَأَة، فَلَو صَامَهُ وَنوى
التَّطَوُّع بِهِ فَهُوَ غير مَكْرُوه عِنْد
الْحَنَفِيَّة، وَبِه قَالَ مَالك، وَفِي (شرح
الْهِدَايَة) : وَالْأَفْضَل فِي حق الْخَواص صَوْمه بنية
التَّطَوُّع بِنَفسِهِ وخاصته، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي
يُوسُف، وَفرض الْعَوام التَّلَوُّم إِلَى أَن يقرب
الزَّوَال. وَفِي (الْمُحِيط) إِلَى الزَّوَال، فَإِن ظهر
أَنه من رَمَضَان نوى الصَّوْم وإلاَّ أفطر، وَإِن صَامَ
قبل رَمَضَان ثَلَاثَة أَيَّام أَو شعْبَان كُله أَو وَافق
يَوْم الشَّك يَوْمًا كَانَ يَصُومهُ فَالْأَفْضَل صَوْمه
بنية النَّفْل. .
وَفِي (الْمَبْسُوط) الصَّوْم أفضل، قَالَ: وَتَأْويل
النَّهْي أَن يَنْوِي الْفَرْض فِيهِ، وَفِي (الْمُحِيط) :
إِن وَافق يَوْمًا كَانَ يَصُومهُ فالصوم أفضل وإلاَّ
فالفطر أفضل، وَالصَّوْم قبله بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ
مَكْرُوه، أَي صَوْم كَانَ، وَلَا يكره بِثَلَاثَة، وَهُوَ
قَول أَحْمد.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره التَّطَوُّع إِذا انتصف
شعْبَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا انتصف
شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن
صَحِيح، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا نعلم أحدا روى هَذَا
الحَدِيث غير الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، وروى عَن
أَحْمد أَنه قَالَ: هُوَ لَيْسَ بِمَحْفُوظ، قَالَ:
وَسَأَلنَا عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي عَنهُ فَلم
يُصَحِّحهُ، وَلم يخدش بِهِ، وَكَانَ يتوقاه، قَالَ أَحْمد
والْعَلَاء: لَا يُنكر من حَدِيثه إلاَّ هَذَا، وَفِي
رِوَايَة الْمروزِي: سَأَلنَا أَحْمد عَنهُ فَأنكرهُ،
وَقَالَ أَبُو عبد الله: هَذَا خلاف الْأَحَادِيث الَّتِي
رويت عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى
تَقْدِير صِحَة قَول التِّرْمِذِيّ يُعَارضهُ حَدِيث
عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لرجل: هَل
صمت من سرر شعْبَان؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذا أفطرت فَصم
يَوْمَيْنِ) . وسرر الشَّهْر آخِره، سمي بذلك لاستتار
الْقَمَر فِيهِ. وروى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد جيد من
حَدِيث مُعَاوِيَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (صُومُوا الشَّهْر وسره وَأَنا مُتَقَدم
بالصيام، فَمن أحب فليفعله) . وَعَن أم سَلمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم
يكن يَصُوم من السّنة شهرا كَامِلا إلاَّ شعْبَان يصله
برمضان، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن، وَعند
الْحَاكِم، على شَرطهمَا: عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ أحب الشُّهُور إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَصُوم شعْبَان ثمَّ يصله
برمضان، وَفِي (مُعْجم الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ) فِي حرف
الْعين الْمُهْملَة، بِسَنَد فِيهِ ابْن صَالح كَاتب
اللَّيْث بن سعد: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد، حَدثنَا
ابْن شهَاب عَن سَالم، قَالَ: كَانَ عبد الله بن عمر
يَصُوم قبل هِلَال رَمَضَان بِيَوْم.
وَقَالَ غيرُهُ عنِ اللَّيْثِ قَالَ حدَّثني عُقَيْل
ويُونسُ لِهِلاَلِ رَمَضَانَ
أَي: قَالَ غير يحيى بن بكير، وَأَرَادَ بِهَذَا الْغَيْر:
أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث، حَدثنِي
عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي كَذَلِك أخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث
حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب، وَذكره بِلَفْظ: سَمِعت
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول لهِلَال
رَمَضَان: (إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا) الحَدِيث. قَوْله:
(وَيُونُس) أَي: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. وَفِي
(التَّلْوِيح) حَدِيث يُونُس رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه)
قلت: حَدِيثه رَوَاهُ مُسلم عَن حَرْمَلَة، وَلَكِن لَيْسَ
فِي رِوَايَته: لهِلَال، فَقَالَ: حَدثنِي حَرْمَلَة
(10/273)
قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس
عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي سَالم بن عبد الله بن عمر،
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول: (إِذا رأيتمو فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ
فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فأقدروا لَهُ) قَوْله:
(لهِلَال) أَرَادَ أَن فِي رِوَايَة عقيل وَيُونُس أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لهِلَال
رَمَضَان: إِذا رَأَيْتُمُوهُ) ، فأظهرا مَا كَانَ مضمرا.
فَافْهَم.
6 - (بابُ منْ صامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسابا
ونِيَّةً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا) ، إِلَى
هُنَا لفظ الحَدِيث، وَقَوله: (وَنِيَّة) ، نصب على أَنه
عطف على قَوْله: (احتسابا) ، وَإِنَّمَا زَاد هَذِه
اللَّفْظَة لِأَن الصَّوْم هُوَ التَّقَرُّب إِلَى الله،
وَالنِّيَّة شَرط فِي وُقُوعه قربَة، وَإِنَّمَا لم يذكر
جَوَاب: من، اكْتِفَاء بِذكرِهِ فِي الحَدِيث.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي أَوَائِل
الْبيُوع من طَرِيق نَافِع بن جُبَير عَنْهَا، وأوله:
(يَغْزُو جيشٌ الْكَعْبَة حَتَّى إِذا كَانُوا ببيداء من
الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ. قَالَت: قلت: يَا رَسُول
الله! كَيفَ يخسف بأولهم وَآخرهمْ وَفِيهِمْ أسواقهم وَمن
لَيْسَ مِنْهُم؟ قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ، ثمَّ يبعثون
على نياتهم) . يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا ذكر
هَذِه الْقطعَة هُنَا تَنْبِيها على أَن الأَصْل فِي
الْأَعْمَال النِّيَّة، وَهُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين
هَذِه الْقطعَة وَبَين قَوْله (وَنِيَّة) فِي
التَّرْجَمَة. قَوْله: (يبعثون على نياتهم) ، يَعْنِي: من
كَانَ مِنْهُم مُخْتَارًا تقع الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ،
وَمن كَانَ مكْرها ينجو.
1091 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانا
واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومنْ
صامَ رَمَضَانَ إيمَانا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ..
وَجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة هُوَ أَنه
جعل التَّرْجَمَة جزأ من الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد مضى
الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي ترجمتين: الأولى فِي:
بَاب تطوع قيام رَمَضَان، من الْإِيمَان: من قَامَ
رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه.
وَالثَّانيَِة: عقيب الأولى فِي: بَاب صَوْم رَمَضَان
احتسابا من الْإِيمَان، فَأخْرج الحَدِيث الأول: عَن
إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد
الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن سَلام
عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن يحيى بن سعيد عَن أبي سَلمَة
عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم
الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ عَن هِشَام الدستوَائي عَن
يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِيمَانًا) ، أَي: تَصْدِيقًا بِوُجُوبِهِ.
(واحتسابا) أَي: طلبا لِلْأجرِ فِي الْآخِرَة. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْحِسْبَة، بِالْكَسْرِ: الْأجر احتسبت
كَذَا أجرا عِنْد الله، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي عَزِيمَة،
وَهُوَ أَن يَصُومهُ على معنى الرَّغْبَة فِي ثَوَابه
طيبَة نَفسه بذلك غير مستثقلة لصيامه وَلَا مستطيلة
لإتمامه، وانتصاب إِيمَانًا على أَنه حَال بِمَعْنى:
مُؤمنا، وَكَذَلِكَ احتسابا بِمَعْنى: محتسبا وَنقل بَعضهم
عَمَّن قَالَ مَنْصُوبًا على أَنه مفعول لَهُ أَو
تَمْيِيز؟ قلت: وَجْهَان بعيدان، وَالَّذِي لَهُ يَد فِي
الْعَرَبيَّة لَا ينْقل مثل هَذَا.
7 - (بابٌ أجْوَدُ مَا كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَجود مَا كَانَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (أَجود) ، أفعل
التَّفْضِيل من الْجُود وَهُوَ إِعْطَاء مَا يَنْبَغِي لمن
يَنْبَغِي، وَمَعْنَاهُ: أسخى النَّاس، وأجود مُضَاف إِلَى
مَا بعده مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَكلمَة: مَا،
مَصْدَرِيَّة أَي: أَجود كَون النَّبِي. وَقَوله: (يكون) ،
جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. قَوْله: (فِي
رَمَضَان) أَي: فِي شهر رَمَضَان، وَكَانَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَجود النَّاس، وَكَانَ
(10/274)
أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان لِأَنَّهُ شهر
يتضاعف فِيهِ ثَوَاب الصَّدَقَة. وَفِيه: الصَّوْم وَهُوَ
من أشرف الْعِبَادَات، فَلذَلِك قَالَ: (الصَّوْم لي
وَأَنا أجزي بِهِ) . وَفِيه: لَيْلَة الْقدر. وَفِيه:
كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يلقاه كل
لَيْلَة من رَمَضَان فيدارسه الْقُرْآن.
2091 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ أخبرَنا ابنُ شِهابٍ عنْ
عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أنَّ ابنَ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجْوَدَ النَّاسِ
بالخَيْرِ وكانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رمَضَانَ حِينَ
يَلْقَاهُ جِبرِيلُ وكانَ جِبْرِيلُ عَليْهِ السَّلاَمُ
يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ
يَعْرِضُ عَلَيْهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْقُرْآنَ فإذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ
كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا من الحَدِيث
بِبَعْض تَغْيِير، والْحَدِيث قد مضى فِي أول الْكتاب فِي:
بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْوَحْي إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ
عَن عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره،
وَقد أخرجه فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وَقد اسْتَوْفَيْنَا
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَلم نبق شَيْئا، وَالله أعلم
بِحَقِيقَة الْحَال.
8 - (بابُ مَنْ لَمُ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ
بِهِ فِي الصَّوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من لم يدع، أَي: لم يتْرك
قَول الزُّور وَهُوَ الْكَذِب والميل عَن الْحق،
وَالْعَمَل بِالْبَاطِلِ والتهمة. قَوْله: (وَالْعَمَل
بِهِ) ، أَي: بِمُقْتَضَاهُ مِمَّا نهى الله عَنهُ،
وَإِنَّمَا حذف الْجَواب اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث،
وَهَكَذَا دأبه فِي غَالب الْمَوَاضِع، وَقيل: لَو نَص مَا
فِي الْخَبَر لطالت التَّرْجَمَة أَو لَو عبر عَنهُ بِحكم
معِين لوقع فِي عهدته.
3091 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إيَاسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
أبِي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ
أبِيهِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ لَمْ
يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله
حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ.
(الحَدِيث 3091 طرفه فِي: 7506) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن التَّرْجَمَة نصف
حَدِيث الْبَاب، وَابْن أبي ذِئْب هم مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَهُوَ يروي عَن سعيد المَقْبُري
عَن أَبِيه كيسَان اللَّيْثِيّ عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن
أَحْمد بن يُونُس عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد أَيْضا عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر وَعَن
الرّبيع بن سُلَيْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن
عَمْرو بن رَافع عَن ابْن الْمُبَارك، الْكل عَن ابْن أبي
ذِئْب، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه، وَقد رَوَاهُ ابْن وهب عَن
ابْن أبي ذِئْب فَاخْتلف عَلَيْهِ، رَوَاهُ الرّبيع عَنهُ
مثل الْجَمَاعَة، وَرَوَاهُ ابْن السَّرْح عَنهُ فَلم يقل:
عَن أَبِيه. وأخرجهما النَّسَائِيّ وَأخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن خَالِد عَن ابْن
أبي ذِئْب بإسقاطه أَيْضا، وَاخْتلف فِيهِ عَليّ ابْن
الْمُبَارك فَأخْرجهُ ابْن حبَان من طَرِيقه بالإسقاط،
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة
بإثباته، وَكَذَلِكَ اخْتلف على أَحْمد بن يُونُس،
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَنهُ عَن ابْن أبي
ذِئْب عَن سعيد عَن أَبِيه كَرِوَايَة الأَصْل وَرَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب، عَن أَحْمد بن يُونُس عَن
ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،
هَكَذَا هُوَ فِي أَكثر رِوَايَات البُخَارِيّ، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر زِيَادَة ذكر أَبِيه، وَقد اخْتلف فِيهِ
على ابْن أبي ذِئْب، اخْتِلَاف آخر، فَرَوَاهُ يُونُس بن
يحيى بن سابه عَن ابْن أبي ذِئْب عَن ابْن شهَاب عَن عبد
الله بن ثَعْلَبَة بن صَغِير عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ
النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) كَذَلِك، وَقَالَ
فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : هَذَا
حَدِيث مُنكر لَا أعلم من رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ، غير
ابْن أبي ذِئْب إِن كَانَ يُونُس بن يحيى حفظه عَنهُ، وَلم
أر كَلَام النَّسَائِيّ فِي نُسْخَتي، وَلأبي هُرَيْرَة
(10/275)
حَدِيث آخر رَوَاهُ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة
الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن عَمه عَن
أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ الصّيام من الْأكل وَالشرب فَقَط،
إِنَّمَا الصّيام من اللَّغْو والرفث، فَإِن سابك أحد أَو
جهل عَلَيْك، فَقل: إِنِّي صَائِم) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من لم يدع قَول الزُّور) ، أَي:
من لم يتْرك، وَقد ذكرنَا تَفْسِير الزُّور عَن قريب،
وَقَالَ شَيخنَا، قَوْله: هَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد: من لم
يدع ذَلِك مُطلقًا غَيره مُقَيّد بِصَوْم، وَيكون
مَعْنَاهُ: أَن من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ
الَّذِي هُوَ من أكبر الْكَبَائِر وَهُوَ متلبس بِهِ،
فَمَاذَا يصنع بصومه؟ وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: أَفعَال
الْبر يَفْعَلهَا الْبر والفاجر وَلَا يجْتَنب النواهي
إلاَّ صدِّيق، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: من لم يدع
ذَلِك فِي حَال تلبسه بِالصَّوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِر، وَقد
صرح بِهِ فِي بعض طرق النَّسَائِيّ: (من لم يدع قَول
الزُّور وَالْعَمَل بِهِ وَالْجهل فِي الصَّوْم) . وَقد
بوب التِّرْمِذِيّ على هَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب مَا
جَاءَ فِي التَّشْدِيد فِي الْغَيْبَة للصَّائِم. وَقَالَ
شَيخنَا: فِيهِ إِشْكَال من حَيْثُ أَن الحَدِيث فِيهِ
قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ، والغيبة لَيست قَول الزُّور
وَلَا الْعَمَل بِهِ، إِذْ حد الْغَيْبَة على مَا هُوَ
الْمَشْهُور ذكرك أَخَاك بِمَا فِيهِ مِمَّا يكرههُ،
وَقَول الزُّور هُوَ الْكَذِب والبهتان، وَقد فسر
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَول الزُّور فِي
قَوْله فِي سُورَة الْحَج، بِشَهَادَة الزُّور، فَقَالَ:
(عدلت شَهَادَة الزُّور الْإِشْرَاك بِاللَّه) ، وَهَكَذَا
بوب أَبُو دَاوُد على الحَدِيث: الْغَيْبَة للصَّائِم،
وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) : مَا
ينْهَى عَنهُ الصَّائِم من قَول الزُّور والغيبة،
وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن مَاجَه: بَاب مَا جَاءَ فِي
الْغَيْبَة والرفث للصَّائِم، وَكَأَنَّهُم وَالله أعلم
فَهموا من الحَدِيث حفظ الْمنطق عَن الْمُحرمَات، وَمن
جُمْلَتهَا الْغَيْبَة، وَلِهَذَا بوب عَلَيْهِ ابْن حبَان
فِي (صَحِيحه) : ذكر الْخَبَر الدَّال على أَن الصّيام
إِنَّمَا يتم باجتناب الْمَحْظُورَات لَا بمجانبة
الطَّعَام وَالشرَاب، وَالْجمع فَقَط، وَفِي بعض أَلْفَاظ
الحَدِيث: (من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ
وَالْجهل) ، فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْجَهْلِ جَمِيع
الْمعاصِي، وَهَذِه اللَّفْظَة عِنْد البُخَارِيّ فِي كتاب
الْأَدَب، وَعند النَّسَائِيّ أَيْضا وَابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَلَفظه: (من لم يدع
قَول الزُّور وَالْجهل وَالْعَمَل بِهِ) ، قَالَ شَيخنَا:
الضَّمِير فِي: بِهِ، يحْتَمل أَن يعود إِلَى الزُّور
فَقَط، وَإِن كَانَ أبعد فِي الذّكر لِاتِّفَاق
الرِّوَايَات عَلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يعود على الْجَهْل
فَقَط لكَونه أقرب مَذْكُور، وعَلى هَذَا فالغيبة عمل
بِالْجَهْلِ، وَيحْتَمل عود الضَّمِير عَلَيْهِمَا: أَعنِي
الزُّور وَالْجهل، وَإِنَّمَا أفرد الضَّمِير
لاشْتِرَاكهمَا فِي تنقيص الصَّوْم. انْتهى. قلت: يجوز أَن
يعود إِلَيْهِمَا بِاعْتِبَار كل وَاحِد.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الْغَيْبَة والنميمة وَالْكذب:
هَل يفْطر الصَّائِم؟ فَذهب الْجُمْهُور من الْأَئِمَّة
إِلَى أَنه لَا يفْسد الصَّوْم بذلك، وَإِنَّمَا
التَّنَزُّه عَن ذَلِك من تَمام الصَّوْم. وَعَن
الثَّوْريّ: إِن الْغَيْبَة تفْسد الصَّوْم، ذكره
الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) ، وَقَالَ: رَوَاهُ بشر بن
الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: وروى لَيْث عَن مُجَاهِد: (خصلتان
تفسدان الصَّوْم: الْغَيْبَة وَالْكذب) ، هَكَذَا ذكره
الْغَزالِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَالْمَعْرُوف عَن
مُجَاهِد: (خصلتان من حفظهما سلم لَهُ صَوْمه: الْغَيْبَة
وَالْكذب) ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد
بن فُضَيْل عَن لَيْث عَن مُجَاهِد، وروى ابْن أبي
الدُّنْيَا عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم عَن يعلى بن عبيد
عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانُوا
يَقُولُونَ: إِن الْكَذِب يفْطر الصَّائِم. وروى أَيْضا
عَن يحيى بن يُوسُف عَن يحيى بن سليم عَن هِشَام عَن ابْن
سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي، قَالُوا: اتَّقوا
المفطِرَين: الْكَذِب والغيبة.
قَوْله: (فَلَيْسَ لله حَاجَة) هَذَا مجَاز عَن عدم
الِالْتِفَات وَالْقَبُول، فنفى السَّبَب وَأَرَادَ
الْمُسَبّب، قَالَ ابْن بطال: وضع الْحَاجة مَوضِع
الْإِرَادَة، إِذْ الله لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء، يَعْنِي:
لَيْسَ لله إِرَادَة فِي صِيَامه، وَقَالَ أَبُو عمر:
لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يُؤمر بِأَن يدع صِيَامه، وَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ التحذير من قَول الزُّور، وَمَا ذكر مَعَه،
وَهُوَ مثل قَوْله: (من بَاعَ الْخمر فليشقص الْخَنَازِير)
، أَي: يذبحها، وَلم يَأْمُرهُ بذبحها، وَلكنه على التحذير
والتعظيم لإثم بَائِع الْخمر، قَالَ: فَكَذَلِك من اغتاب
أَو شهد زورا أَو مُنْكرا لم يُؤمر بِأَن يدع صِيَامه،
وَلكنه يُؤمر باجتناب ذَلِك ليتم لَهُ أجر صَوْمه. ثمَّ
قَوْله: (فَلَيْسَ لله حَاجَة) هَكَذَا لفظ (الصَّحِيح)
وَكتب السّنَن وَغَيرهَا من الْكتب الْمَشْهُورَة، وَفِي
بعض طرقه: (فَلَيْسَ بِهِ حَاجَة) ، يَعْنِي بِالَّذِي
يَصُوم بِهَذَا الْوَصْف، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ
الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من رِوَايَة يزِيد بن
هَارُون عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري من غير
ذكر أَبِيه، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَيزِيد بن هَارُون من
أَئِمَّة الْمُسلمين.
(10/276)
|