عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 671 - (بابٌ هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أهْلِ
الذِّمَّةِ ومُعامَلَتِهِمْ)
أَقُول: هَكَذَا وَقع هَذَانِ البابان، وَلَيْسَ بَينهمَا
شَيْء فِي جَمِيع النّسخ من طَرِيق الْفربرِي، إلاَّ أَن
فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن بن شبويه عَن الْفربرِي وَقع:
بَاب جوائز الْوَفْد، بعد: بَاب هَل يستشفع، وَكَذَا وَقع
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَهَذَا أصوب لِأَن حَدِيث
الْبَاب مُطَابق لترجمة جوائز الْوَفْد، لقَوْله فِيهِ:
وأجيزوا الْوَفْد، بِخِلَاف التَّرْجَمَة الْأُخْرَى،
وَكَانَ البُخَارِيّ وضع هَاتين الترجمتين وأخلى بَينهمَا
بَيَاضًا ليجد حَدِيثا يناسبهما، فَلم يتَّفق ذَلِك، ثمَّ
إِن النساخ أبطلوا الْبيَاض وقرنوا بَينهمَا، وَلَيْسَ فِي
رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب جوائز الْوَفْد، بل الَّذِي
وَقع عِنْده: بَاب هَل يستشفع إِلَى أهل الذِّمَّة، وَأورد
فِيهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِي طلب الْمُطَابقَة
بَينهمَا تعسف، وَلَقَد تكلّف بَعضهم فِي تَوْجِيه
الْمُطَابقَة، فَقَالَ: وَلَعَلَّه من جِهَة أَن
الْإِخْرَاج يَعْنِي فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أخرجُوا الْمُشْركين من جَزِيرَة الْعَرَب، يَقْتَضِي رفع
الاستشفاع، والحض على إجَازَة الْوَفْد يَقْتَضِي حسن
الْمُعَامَلَة. أَو لَعَلَّ: إِلَى، فِي التَّرْجَمَة
بِمَعْنى: اللَّام، أَي: هَل يستشفع لَهُم عِنْد الإِمَام
وَهل يعاملون ... ؟ انْتهى. قلت: قَوْله يَقْتَضِي رفع
الاستشفاع، يَقْتَضِي الْعَمَل بِرَفْع الاستشفاع
وَالْعَمَل بالاقتضاء يكون عِنْد الضَّرُورَة وَلَا
ضَرُورَة هَهُنَا، والإخراج مَعْنَاهُ مَعْلُوم وَلَيْسَ
فِيهِ معنى الِاقْتِضَاء.
(14/297)
والوفد أَعم من أَن يكون من الْمُسلمين أَو
من الْمُشْركين، والمواضع الَّتِي تذكر فِيهَا أَن إِلَى
بِمَعْنى اللَّام إِنَّمَا معنى: إِلَى، فِيهَا على
أَصْلهَا بِمَعْنى الِانْتِهَاء، فَافْهَم، وَهَهُنَا لَا
يتأتي هَذَا الْمَعْنى، ثمَّ التَّقْدِير فِي: بَاب جوائز
الْوَفْد، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جوائز الْوَفْد؟
والجوائز جمع جَائِزَة، وَهِي الْعَطِيَّة، يُقَال: أجَازه
يُجِيزهُ إِذا أعطَاهُ، والوفد: هم الْقَوْم يَجْتَمعُونَ
ويردون الْبِلَاد، واحدهم وَافد. وَكَذَلِكَ الَّذين
يقصدون الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد وانتجاع وَغير ذَلِك،
يُقَال: وَفد يفد فَهُوَ وَافد، وأوفدته فوفد وأوفد على
الشَّيْء فَهُوَ موفد إِذا أشرف، وَالتَّقْدِير فِي: بَاب
هَل يستشفع، أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ هَل يستشفع.
قَوْله: (ومعاملتهم) ، بِالْجَرِّ عطفا على الْمُضَاف
إِلَيْهَا لفظ الْبَاب.
3503 - حدَّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ
عنْ سُلَيْمَانَ الأحْوَلِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهُ قَالَ
يَوْمَ الخَمِيسِ ومَا يَوْمُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى
حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ فَقَالَ اشْتَدَّ
بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجَعُهُ يَوْمَ
الخَمِيسِ فَقال ائْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ
كِتَابَاً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدَاً فتَنَازَعُوا
ولاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنازُعَ فَقَالُوا أهَجَرَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ دَعُونِي
فالَّذِي أَنا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إلَيْهِ
وأوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثٍ أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ
مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ وأجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا
كُنْتُ أُجِيزُهُمْ ونَسِيتُ الثَّالِثَةَ..
وَجه الْمُطَابقَة قد ذكر الْآن، وَقبيصَة بِفَتْح الْقَاف
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة، قَالَ الجياني:
لَا أحفظ لقبيصة عَن ابْن عُيَيْنَة شَيْئا فِي
(الْجَامِع) ، وَرِوَايَة ابْن السكن: قُتَيْبَة، بدل:
قبيصَة. قلت: وَقع هَكَذَا: قبيصَة حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة
عِنْد أَكثر الروَاة عَن الْفربرِي، وَكَذَا فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ، وَلم يَقع فِي البُخَارِيّ لقبيصة رِوَايَة
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إلاَّ هَذِه الرِّوَايَة،
وَرِوَايَته فِيهِ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ كَثِيرَة جدا.
وَقيل: لَعَلَّ البُخَارِيّ سمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُمَا،
غير أَنه لَا يحفظ لقبيصة عَن ابْن عُيَيْنَة شَيْء فِي
(الْجَامِع) وَلَا ذكره أَبُو نصر فِيمَن روى فِي
(الْجَامِع) عَن غير الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي عَن
قُتَيْبَة وَفِي الْجِزْيَة عَن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم
فِي الْوَصَايَا عَن سعيد بن مَنْصُور وقتيبة وَأبي بكر بن
أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، الْكل عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن سعيد بن مَنْصُور
بِبَعْضِه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد
بن مَنْصُور عَن سُفْيَان مثل الأول.
قَوْله: (يَوْم الْخَمِيس) ، خبر الْمُبْتَدَأ
الْمَحْذُوف، أَو بِالْعَكْسِ نَحْو: يَوْم الْخَمِيس
يَوْم الْخَمِيس، نَحْو: أَنا أَنا، وَالْغَرَض مِنْهُ
تفخيم أمره فِي الشدَّة وَالْمَكْرُوه. قَوْله: (وَمَا
يَوْم الْخَمِيس؟) أَي: أَي يَوْم يَوْم الْخَمِيس؟
وَهَذَا أَيْضا لتعظيم أمره فِي الَّذِي وَقع فِيهِ.
قَوْله: (حَتَّى خضب) ، أَي: رطب وبلل. قَوْله: (فتنازعوا)
، وَقد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب كِتَابَة الْعلم بعض
هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس. . وَفِيه: (ائْتُونِي
بِكِتَاب أكتب لكم كتابا لَا تضلوا بعده، قَالَ عمر: إِن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَلبه الوجع، وَعِنْدنَا
كتاب الله حَسبنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكثر اللغظ، قَالَ:
قومُوا عني وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع) الحَدِيث
وَهَذَا يُوضح معنى قَوْله: فتنازعوا. قَوْله: (وَلَا
يَنْبَغِي عِنْد نَبِي تنَازع) ، قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ:
وَلَا يَنْبَغِي، إِمَّا قَول رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَإِمَّا قَول ابْن عَبَّاس، والسياق
يحتملهما، والموافق لسَائِر الرِّوَايَات الأولى. قلت: لَا
حَاجَة إِلَى هَذَا الترديد لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صرح فِي الحَدِيث الَّذِي سبق فِي كتاب الْعلم
بقوله: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع) ، وَالْعجب
مِنْهُ ذَلِك مَعَ أَنه قَالَ: وَمر شرح الحَدِيث فِي:
بَاب كِتَابَة الْعلم. قَوْله: (أَهجر) ، ويروى: هجر،
بِدُونِ الْهمزَة، أطلق بِلَفْظ الْمَاضِي، لما رَأَوْا
فِيهِ من عَلَامَات الْهِجْرَة عَن دَار الفناء، وَقَالَ
ابْن بطال: قَالُوا: هجر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَي: اخْتَلَط، وأهجر إِذا أفحش. وَقَالَ ابْن
التِّين: يُقَال: هجر العليل إِذا هذى يهجر هجراً
بِالْفَتْح، والهجر بِالضَّمِّ الإفحاش. وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: يُقَال: هجر الرجل فِي الْمنطق إِذا تكلم بِمَا
لَا معنى لَهُ، وأهجر إِذا أفحش. قلت: هَذِه الْعبارَات
كلهَا فِيهَا ترك الْأَدَب وَالذكر بِمَا لَا يَلِيق بِحَق
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَقَد أفحش من أَتَى
بِهَذِهِ الْعبارَة، فَانْظُر إِلَى مَا قَالَ
النَّوَوِيّ: أَهجر؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام الإنكاري،
أَي: أَنْكَرُوا على من قَالَ: لَا تكْتبُوا، أَي: لَا
تجعلوه كأمر من هذي فِي كَلَامه، وَإِن صَحَّ بِدُونِ
الْهمزَة فَهُوَ أَنه لما أَصَابَته الْحيرَة والدهشة لعظم
مَا شَاهد من هَذِه الْحَالة الدَّالَّة
(14/298)
على وَفَاته وَعظم الْمُصِيبَة، أجْرى
الهجر مجْرى شدَّة الوجع، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَقُول:
هُوَ مجَاز لِأَن الهذيان الَّذِي للْمَرِيض مُسْتَلْزم
لشدَّة وَجَعه، فَأطلق الْمَلْزُوم وَأُرِيد اللَّازِم.
قلت: لَو كَانَ بتحسين الْعبارَة لَكَانَ أولى. قَوْله:
(دَعونِي) ، أَي: اتركوني وَلَا تنازعوا عِنْدِي، فَإِن
الَّذِي أَن فِيهِ من المراقبة وَالتَّأَهُّب للقاء الله
تَعَالَى والفكر فِي ذَلِك وَنَحْوه أفضل مِمَّا تَدعُونِي
إِلَيْهِ من الْكِتَابَة وَنَحْوهَا. قَوْله: (أخرجُوا
الْمُشْركين من جَزِيرَة الْعَرَب) ، أخرجُوا: أَمر من
الْإِخْرَاج، وَلم يتفرغ أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ لذَلِك، فأجلاهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قيل: كَانُوا أَرْبَعِينَ ألفا وَلم ينْقل عَن أحد
من الْخُلَفَاء أَنه أجلاهم من الْيمن، مَعَ أَنَّهَا من
جَزِيرَة الْعَرَب.
وروى أَحْمد من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: (أخرجُوا يهود الْحجاز، وَأهل
نَجْرَان من جَزِيرَة الْعَرَب) ، وَإِنَّمَا أخرج أهل
نَجْرَان من الجزيرة، وَإِن لم تكن من الْحجاز، لِأَنَّهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَالحهمْ على أَن لَا يَأْكُلُوا
الرِّبَا فأكلوه، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ أَحْمد
بن الْمعدل: حَدثنِي يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن عِيسَى عَن
الزُّهْرِيّ قَالَ: قَالَ مَالك بن أنس: جَزِيرَة
الْعَرَب: الْمَدِينَة وَمَكَّة واليمامة واليمن، وَفِي
رِوَايَة ابْن وهب عَنهُ: مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن،
وَعَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن: مَكَّة وَالْمَدينَة
واليمن وقرياتها، وَعَن الْأَصْمَعِي: هِيَ مَا لم يبلغهُ
ملك فَارس من أقْصَى عدن إِلَى أَطْرَاف الشَّام، هَذَا
الطول وَالْعرض من جدة إِلَى ريف الْعرَاق. وَفِي رِوَايَة
أبي عبيد عَنهُ: الطول من أقْصَى عدن إِلَى ريف الْعرَاق
طولا، وعرضها من جَزِيرَة جدة وَمَا والاها من سَاحل
الْبَحْر إِلَى أَطْرَاف الشَّام، وَقَالَ الشّعبِيّ: هِيَ
مَا بَين قادسية الْكُوفَة إِلَى حَضرمَوْت، وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَة: هِيَ مَا بَين حفر أبي مُوسَى بطوارة من أَرض
الْعرَاق إِلَى أقْصَى الْيمن فِي الطول، وَأما فِي الْعرض
فَمَا بَين رمل بيرين إِلَى مُنْقَطع السماوة. وَقَالَ
أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: قَالَ الْخَلِيل: سميت جَزِيرَة
الْعَرَب لِأَن بَحر فَارس وبحر الْحَبَش والفرات ودجلة
أحاطت بهَا، وَهِي أَرض الْعَرَب ومعدنها. وَقَالَ أَبُو
إِسْحَاق الْحَرْبِيّ: أَخْبرنِي عبد الله بن شبيب عَن
زبير عَن مُحَمَّد بن فضَالة: إِنَّمَا سميت جَزِيرَة
لإحاطة الْبَحْر بهَا والأنهار من أقطارها وأطرافها،
وَذَلِكَ أَن الْفُرَات أقبل من بِلَاد الرّوم فَظهر
بِنَاحِيَة قنسرين ثمَّ انحط عَن الجزيرة وَهِي مَا بَين
الْفُرَات ودجلة وَعَن سَواد الْعرَاق حَتَّى دفع فِي
الْبَحْر من نَاحيَة الْبَصْرَة والأيلة، وامتد الْبَحْر
من ذَلِك الْموضع مغرباً مطبقاً بِبِلَاد الْعَرَب
مُنْقَطِعًا عَلَيْهَا، فَأتى مِنْهَا على سفوان وكاظمة
وَنفذ إِلَى القطيف وهجروا أسياف عمان والشحر، وسال مِنْهُ
عنق إِلَى حَضرمَوْت إِلَى أبين وعدن ودهلك، واستطال ذَلِك
الْعُنُق فطعن فِي تهايم الْيمن بِلَاد حكم والأشعريين
وعك، وَمضى إِلَى جدة سَاحل مَكَّة، وَإِلَى الجاد سَاحل
الْمَدِينَة وَإِلَى سَاحل تيما وإيلة حَتَّى بلغ إِلَى
قلزم مصر وخالط بلادها، وَأَقْبل النّيل فِي غربي هَذَا
الْعُنُق من أَعلَى بِلَاد السودَان مستطيلاً مُعَارضا
للبحر حَتَّى دفع فِي بَحر مصر وَالشَّام، ثمَّ أقبل ذَلِك
الْبَحْر من مصر حَتَّى بلغ بِلَاد فلسطين وَمر بعسقلان
وسواحلها وأتى على صور بساحل الْأُرْدُن وعَلى بيروت
وذواتها من سواحل دمشق، ثمَّ نفذ إِلَى سواحل حمص وسواحل
قنسرين حَتَّى خالط النَّاحِيَة الَّتِي أقبل مِنْهَا
الْفُرَات منحطاً على أَطْرَاف قنسرين والجزيرة إِلَى سوار
الْعرَاق، فَصَارَت بِلَاد الْعَرَب من هَذِه الجزيرة
الَّتِي نزلوها على خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة، والحجاز،
ونجد وَالْعرُوض، واليمن.
قَوْله: (وأجيزوا الْوَفْد) ، وأجيزوا من الْإِجَازَة،
يُقَال: أجَازه بجوائز أَي: أعطَاهُ عطايا، قد مر تَفْسِير
الْجَائِزَة، والوفد، وَيُقَال: الْجَائِزَة قدر مَا يجوز
بِهِ الْمُسَافِر من منهل إِلَى منهل، وجائزته يَوْم
وَلَيْلَة. قَوْله: (ونسيت الثَّالِثَة) ، قَالَ ابْن
التِّين: ورد فِي رِوَايَة أَنَّهَا الْقُرْآن، وَقَالَ
الْمُهلب: هِيَ تجهيز جَيش أُسَامَة بن زيد، وَقَالَ ابْن
بطال: كَانَ الْمُسلمُونَ اخْتلفُوا فِي ذَلِك على الصّديق
فأعلمهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عهذ بذلك عِنْد
مَوته، وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَنَّهَا قَوْله: لَا
تَتَّخِذُوا قَبْرِي وثناً، فقد ذكر مَالك مَعْنَاهُ مَعَ
إجلاء الْيَهُود.
وَهَهُنَا فرع ذكره فِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ يمْنَع كل
كَافِر عندنَا وَعند مَالك من استيطان الْحجاز، وَلَا
يمْنَعُونَ من ركُوب بحره وَلَو دخل بِغَيْر إِذن الإِمَام
أخرجه وعزره إِن علم أَنه مَمْنُوع، فَإِن اسْتَأْذن فِي
دُخُوله أذن الإِمَام أَو نَائِبه فِيهِ إِن كَانَ مصلحَة
للْمُسلمين، كرسالة وَحمل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَعَن أبي
حنيفَة: جَوَاز سكناهم فِي الْحرم وَيمْنَع دُخُول حرم
مَكَّة. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس
فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام} (التَّوْبَة: 82) .
وَالْمرَاد بِهِ هُنَا جَمِيع الْحرم. وَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: إِن الشَّيْطَان إيس أَن يعبد فِي
جَزِيرَة الْعَرَب، فَلَو دخله وَمَات لم يدْفن فِيهِ،
وَإِن مَاتَ فِي غير الْحرم من الْحجاز
(14/299)
وَتعذر نَقله دفن هُنَاكَ، وَحرم
الْمَدِينَة لَا يلْحق بحرم مَكَّة فِيمَا ذكر، لَكِن
اسْتحْسنَ الرَّوْيَانِيّ أَن يخرج مِنْهُ إِذا لم
يتَعَذَّر الْإِخْرَاج ويدفن خَارجه. قلت: مَذْهَب أبي
حنيفَة: أَنه لَا بَأْس بِأَن يدْخل أهل الذِّمَّة
الْمَسْجِد الْحَرَام، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أنزل وَفد ثَقِيف فِي مَسْجده وهم كفار، رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، وَالْآيَة مَحْمُولَة على مَنعهم أَن
يدخلوها مستولين عَلَيْهَا ومستعلين على أهل الْإِسْلَام
من حَيْثُ التَّدْبِير وَالْقِيَام بعمارة الْمَسْجِد،
فَإِن قبل الْفَتْح كَانَت الْولَايَة والاستعلاء لَهُم
وَلم يبْق ذَلِك لَهُم بعد الْفَتْح. أَو هِيَ مَحْمُولَة
على كَونهم طائفين الْكَعْبَة حَال كَونهم عُرَاة، كَمَا
كَانَت عَادَتهم فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بنُ مُحَمَّدٍ سألْتُ الْمُغِيرَةَ بنَ
عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ فَقالَ مَكَّةُ
والمَدِينَةُ واليَمَامَةُ واليَمَنُ وَقَالَ يَعْقُوبُ
والعَرْجُ أوَّلُ تِهَامَةَ
يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن عِيسَى الزُّهْرِيّ، والمغيرة بن
عبد الرَّحْمَن، وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله
إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي كتاب (أَحْكَام الْقُرْآن) : عَن
أَحْمد بن الْمعدل عَن يَعْقُوب بن مُحَمَّد عَن مَالك بن
أنس مثله. قَوْله: (وَالْعَرج) ، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: وَهُوَ
منزل بَين طَرِيق مَكَّة وتهامة، وَهِي بِكَسْر التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق: اسْم لكل مَا نزل عَن نجد من بِلَاد
الْحجاز، وَقَالَ الْبكْرِيّ: العرج قَرْيَة جَامِعَة على
طَرِيق مَكَّة من الْمَدِينَة، بَينهَا وَبَين
الرُّوَيْثَة أَرْبَعَة عشر ميلًا، وَبَينهَا وَبَين
الْمَدِينَة أحد وَعِشْرُونَ فرسخاً.
771 - (بابُ التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التجمل باللبس لأجل الْوُفُود،
وَهُوَ جمع وَفد، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب.
4503 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ
عبْدِ الله أنَّ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ
وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ
فأتَى بِها رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
يَا رسُولَ الله ابْتَعْ هاذِهِ الحُلَّة فتَجَمَّلْ بِهَا
لِلْعِيدِ ولِلْوُفُودِ فَقَالَ رسوُلُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا هاذِهِ لِباسُ مَنْ لاَ خَلاقَ
لَهُ أوْ إنَّمَا يَلْبَسُ هِذِهِ منْ لاَ خَلاَقَ لَهُ
فَلَبِثَ مَا شاءَ الله ثُمَّ أرْسَلَ إلَيْهِ النبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجَ فأقْبَلَ
بِهَا عُمَرُ حتَّى أتَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله قُلْتَ إنَّمَا هاذِهِ
لِباسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ أوْ إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ
مَنْ لاَ خَلاقَ لَهُ ثُمَّ أرْسَلْتَ إلَيَّ بِهاذِهِ
فَقَالَ تَبِيعُهَا أوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ابتع هَذِه الْحلَّة
فتجمل بهَا للعيد وللوفود) . وَأخرج البُخَارِيّ نَحوه فِي
كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب يلبس أحسن مَا يجد، عَن عبد
الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر
أَن: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى
حلَّة سيراء عِنْد بَاب الْمَسْجِد ... الحَدِيث، وَفِي
آخِره: فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِنِّي لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر بن الْخطاب أَخا
لَهُ بِمَكَّة مُشْركًا.
قَوْله: (استبرق) ، هُوَ مُعرب استبر، فزيدت عَلَيْهِ:
الْقَاف. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الإستبرق، مَا غلظ من
الْحَرِير، وَهِي لَفْظَة أَعْجَمِيَّة معربة أَصْلهَا:
استبره، وَقد ذكرهَا الْجَوْهَرِي فِي فصل الْبَاء من
الْقَاف، على أَن الْهمزَة وَالسِّين وَالتَّاء زَوَائِد،
وَذكرهَا الْأَزْهَرِي فِي خماسي الْقَاف، على أَن همزتها
وَحدهَا زَائِدَة. قَوْله: (ابتع) ، أَمر من الإبتياع أَي:
شتر، والحلة وَاحِدَة الْحلَل، وَلَا تسمى حلَّة إلاَّ أَن
تكون ثَوْبَيْنِ من جنس وَاحِد. قَوْله: (فتجمل) ، أَمر
من: التجمل، وَهُوَ التزين. قَوْله: (من لَا خلاق لَهُ) ،
أَي: من لَا نصيب لَهُ. قَوْله: (ديباج) ، وَهِي الثِّيَاب
المتخذة من الإبريسم، فَارسي مُعرب، وَقد تفتح داله وَيجمع
على دباييج ودبابيج بِالْبَاء وَالْيَاء، لِأَن أَصله
دباج، بِالتَّشْدِيدِ قَوْله: (أَو إِنَّمَا) شكّ من
الرَّاوِي، وَقد مرت الأبحاث فِيهِ فِي كتاب الْجُمُعَة.
(14/300)
871 - (بابٌ كَيْفَ يُعْرَضُ الإسْلاَمُ
علَى الصَّبِيِّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ يعرض الْإِسْلَام على
الصَّبِي.
5503 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
هِشَامً قالَ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قالَ
أخْبرَني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّ عُمَرَ
انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قِبَلَ ابنِ صَيَّادٍ حَتَّى وجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ
الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مغالَةَ وقَدْ قَارَبَ
يَوْمَئِذٍ ابنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ فلَمْ يَشْعُرْ حتَّى
ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَهْرَهُ
بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فنَظَرَ إلَيْهِ ابنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أشْهَدُ أنَّكَ
رَسولْ الأمِّيِّينَ فَقَالَ ابنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَشْهَدُ أنِّي رسُولُ الله
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آمَنْتُ
بِاللَّه ورُسُلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ماذَا تَرَى قَالَ ابنُ صَيَّادٍ يأتِيني صادِقٌ
وكاذِبٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُلِطَ
عَلَيْكَ الأمْرُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنِّي قَدْ خَبأتُ لَكَ خَبِيئَاً قَالَ ابنُ
صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اخْسَأ فلَنْ تَعْدُو قَدْرَكَ قَالَ
عُمَرُ يَا رسولَ الله ائْذَنْ لِي فيهِ أضْرِبْ عُنُقَهُ
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ يَكُنْهُ
فلَنْ تُسَلَّطَ علَيْهِ وإنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ
لَكَ فِي قَتْلِهِ. قالَ ابنُ عُمَرَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ
وأُبَيُّ بنُ كعْبٍ يأتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ
ابنُ صَيَّادٍ حتَّى إذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ
النَّخْلِ وهْوَ يَخْتِلُ أنْ يَسْمَعَ منِ ابنِ صَيَّادٍ
شَيْئاً قَبْلَ أنْ يَرَاهُ وابنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِع عَلى
فِرَاشِهِ فِي قَطيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ فرَأتْ أُمُّ
ابنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ
يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فقالَتْ لإِبْنِ صَيَّادٍ
أَي صافِ وهْوَ اسْمُهُ فَثارَ ابنُ صَيَّادٍ فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ تَرَكْتُهُ
بَيَّن.
وقَالَ سالِمٌ قَالَ ابنُ عُمَرَ ثُمَّ قامَ النَّبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاسِ فأثْنَى على الله
بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ
إنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ قَدْ
أنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ
ولاكِنْ سأقُوُلُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبي
لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أنَّهُ أعْوَرُ وأنَّ الله لَيسَ
بِأعْوَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَتَشهد أَنِّي رَسُول
الله؟) وَهُوَ عرض الْإِسْلَام على الصَّبِي، لِأَن ابْن
صياد إِذْ ذَاك لم يحْتَمل، وَقد ترْجم فِي كتاب
الْجَنَائِز: بَاب إِذا أسلم الصَّبِي فَمَاتَ، هَل يصلى
عَلَيْهِ؟ وَهل يعرض على الصَّبِي الْإِسْلَام؟ وَذكر
فِيهِ حَدِيث ابْن صياد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
مُسْتَوفى، ولنذكر هُنَا بعض شَيْء. وَفِي هَذَا الحَدِيث
ثَلَاث قصَص ذكرهَا البُخَارِيّ بِتَمَامِهَا فِي
الْجَنَائِز من طَرِيق يُونُس، وَذكر هُنَا من طَرِيق معمر
بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن
عبد الله عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَذكر فِي
الْأَدَب من طَرِيق شُعَيْب، وَاقْتصر فِي الشَّهَادَات
على الثَّانِيَة، وَذكرهَا أَيْضا فِيمَا مضى من الْجِهَاد
من وَجه آخر، وَاقْتصر فِي الْفِتَن على الثَّالِثَة.
قَوْله: (قبل ابْن صياد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، أَي: ناحيته وجهته. قَوْله: (عِنْد أَطَم بني
مغالة) ، بِضَم الْهمزَة، وَهُوَ الْبناء الْمُرْتَفع،
وَيجمع على: آطام، وآطام الْمَدِينَة: أبنيتها المرتفعة
كالحصون، (ومغالة) : بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وباللام، قَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا فِي بعض
النّسخ: بني مغالة، وَفِي بَعْضهَا: ابْن مغالة، وَالْأول
هُوَ الْمَشْهُور. وَذكره مُسلم فِي رِوَايَة الْحسن
الْحلْوانِي أَنه أَطَم بني مُعَاوِيَة، بِضَم الْمِيم
وبالعين الْمُهْملَة، قَالَ الْعلمَاء: الْمَشْهُور
(14/301)
الْمَعْرُوف هُوَ الأول، وَقد ذكرنَا فِي
كتاب الْجَنَائِز أَن بني مغالة بطن من الْأَنْصَار،
وَقيل: حَيّ من قضاعة. قَوْله: (الْأُمِّيين) ، أَي:
الْعَرَب. وَمَا ذكره، وَإِن كَانَ حَقًا من جِهَة
الْمَنْطُوق، بَاطِل من جِهَة الْمَفْهُوم، وَهُوَ أَنه
لَيْسَ مَبْعُوثًا إِلَى الْعَجم كَمَا زَعمه الْيَهُود.
قَوْله: (آمَنت بِاللَّه وَرُسُله) ، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: (وَرَسُوله) ، بِالْإِفْرَادِ، وَفِي
حَدِيث أبي سعيد: (آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه
وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر. قيل: كَيفَ طابق: آمَنت
بِاللَّه وَرُسُله الِاسْتِفْهَام؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما
أَرَادَ أَن يظْهر للْقَوْم حَاله أرْخى الْعَنَان حَتَّى
يُبينهُ عِنْد المغتر بِهِ، فَلهَذَا قَالَ آخرا: إخسأ.
وَقيل: إِنَّمَا عرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
الْإِسْلَام على ابْن صياد بِنَاء على أَنه لَيْسَ
الدَّجَّال المحذر مِنْهُ، ورد بِأَن أمره كَانَ مُحْتملا
فَأَرَادَ اختباره بذلك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَ
ابْن صياد على طَرِيق الكهنة يخبر بالْخبر فَيصح تَارَة
وَيفْسد أُخْرَى، وَلم ينزل فِي شَأْنه وَحي، فَأَرَادَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سلوك طَرِيقَته يختبر
بهَا حَاله، وَهَذَا هُوَ السَّبَب أَيْضا فِي انطلاقه
إِلَيْهِ، وَقد روى أَحْمد من حَدِيث جَابر. قَالَ: (ولدت
امْرَأَة من الْيَهُود غُلَاما ممسوحة إِحْدَى عَيْنَيْهِ،
وَالْأُخْرَى طالعة ناتئة، فأشفق النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون هُوَ الدَّجَّال. قَوْله: (مَاذَا
ترى؟) قَالَ ابْن صياد: يأتيني صَادِق وكاذب، وروى
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد. قَالَ: لَقِي رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن صياد فِي بعض طرق
الْمَدِينَة، فاحتبسه وَهُوَ غُلَام يَهُودِيّ وَله ذؤابة
وَمَعَهُ أَبُو بكر، وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تشهد
أَنِّي رَسُول الله؟) فَقَالَ: أَتَشهد أَنِّي رَسُول
الله؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: آمَنت
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر،
فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا ترى؟
قَالَ: أرى عرشاً فَوق المَاء. قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ترى عرش إِبْلِيس فَوق الْبَحْر، قَالَ:
مَا ترى؟ قَالَ: أرى صَادِقا وكاذبين، أَو صَادِقين
وكاذباً، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ
عَلَيْهِ فَدَعَاهُ) . انْتهى. قَوْله: (فَدَعَاهُ) أَي:
اتركاه، يُخَاطب أَبَا بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم، وَفِي آخِره:
(فَدَعوهُ) ، بِصِيغَة الْجمع: وَفِي رِوَايَة أَحْمد: أرى
عرشاً على المَاء وَحَوله الْحيتَان. قَوْله: (خلط عَلَيْك
الْأَمر) ، بِضَم الْخَاء وَكسر اللَّام المخففة،
وَمَعْنَاهُ: لبس، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة، بِضَم
اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة بعْدهَا سين
مُهْملَة. وَفِي حَدِيث أبي الطُّفَيْل عِنْد أَحْمد،
فَقَالَ: (تعوذوا بِاللَّه من شَرّ هَذَا) . قَوْله:
(إِنِّي خبأت) ، أَي: ضمرت (لَك خبيئاً) ، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف ثمَّ همزَة، ويروى: (خبأ) بِكَسْر الْخَاء
وَسُكُون الْبَاء وبالهمزة، يَعْنِي: أضمرت لَك اسْم
الدُّخان، وَقيل: آيَة الدُّخان، وَهِي {فَارْتَقِبْ يَوْم
تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . قَوْله:
(هُوَ الدخ) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وبالخاء
الْمُعْجَمَة، وَحكى صَاحب (الْمُحكم) الْفَتْح، وَوَقع
عِنْد الْحَاكِم: الزخ، بِفَتْح الزَّاي بدل الدَّال،
وَفَسرهُ: بِالْجِمَاعِ، وَاتفقَ الْأَئِمَّة على تغليطه
فِي ذَلِك، وَيَردهُ مَا وَقع فِي حَدِيث أبي ذَر وَأخرجه
أَحْمد وَالْبَزَّار، فَأَرَادَ أَن يَقُول: الدُّخان فَلم
يسْتَطع، فَقَالَ: الدخ، وَفِي رِوَايَة الْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث زيد بن
حَارِثَة، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خبأ لَهُ سُورَة الدُّخان، وَكَأَنَّهُ أطلق السُّورَة
وَأَرَادَ بَعْضهَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أَحْمد روى
عَن عبد الرَّزَّاق فِي حَدِيث الْبَاب، وخبأ لَهُ: {يَوْم
تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . وَأما
جَوَاب ابْن صياد: بالدخ، فَإِنَّهُ اندهش وَلم يَقع من
لفظ الدُّخان إلاَّ على بعضه، وَحكى الْخطابِيّ: أَن
الْآيَة كَانَت حِينَئِذٍ مَكْتُوبَة فِي يَد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يهتد ابْن صياد مِنْهَا إلاَّ
لهَذَا الْقدر النَّاقِص على طَرِيق الكهنة، وَلِهَذَا
قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لن تعدو
قدرك) أَي: قدر مثلك من الْكُهَّان الَّذِي يحفظون من
إِلْقَاء شياطينهم مَا يختطفونه مختلطاً صدقه بكذبه، وَحكى
أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: أَن السِّرّ فِي امتحان
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ بِهَذِهِ الْآيَة.
الْإِشَارَة إِلَى أَن عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، يقتل الدَّجَّال بجبل الدُّخان،
فَأَرَادَ التَّعْرِيض لِابْنِ صياد بذلك. قَوْله: (إخسأ)
، كلمة زجر واستهانة، أَي: اسْكُتْ صاغراً ذليلاً. قَوْله:
(فَلَنْ تعدو قدرك) ، قد مر تَفْسِيره الْآن ويروى بِحَذْف
الْوَاو، وَقَالَ ابْن مَالك: الْجَزْم، بلن، لُغَة
حَكَاهَا الْكسَائي. قَوْله: (إِن يكنه) ، الْقيَاس: إِن
يكن إِيَّاه لِأَن الْمُخْتَار فِي خبر: كَانَ الإنفصال،
وَلَكِن يَقع الْمَرْفُوع الْمُنْفَصِل مَوضِع
الْمَنْصُوب، وَيحْتَمل أَن يكون تَأْكِيدًا للمتصل،
وَكَانَ تلامة، أَو الْخَبَر مَحْذُوف، أَي: إِن يكن هُوَ
هَذَا وَإِن يكون ضمير فصل، والدجال الْمَحْذُوف خَبره
وَإِنَّمَا لم يَأْذَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يضْرب عُنُقه لِأَنَّهُ كَانَ غير بَالغ، أَو هُوَ
من أهل مهادنة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَهم. قَوْله: (فَلَنْ تسلط عَلَيْهِ) ، وَفِي حَدِيث
جَابر: فلست بِصَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا صَاحبه عِيسَى بن
مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام. قَوْله: (فَلَا خير لَك
فِي قَتله) ، وَفِي
(14/302)
مُرْسل عُرْوَة: فَلَا يحل لَك قَتله.
قَوْله: (قَالَ ابْن عمر) ، هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الأول، وشروع فِي الْقِصَّة الثَّانِيَة، وَفِي حَدِيث
جَابر: ثمَّ جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَنَفر من الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار وَأَنا مَعَهم. قَوْله: (طفق النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: جعل، قَوْله: (وَيَتَّقِي) ،
أَي: يستر. قَوْله: (ويختل) أَي: يسمع فِي خُفْيَة وَفِي
حَدِيث جَابر: رَجَاء أَن يسمع من كَلَامه شَيْئا ليعلم
أَنه صَادِق أم كَاذِب، وَيُقَال: يخْتل بِسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، أَي:
يخدعه ليعلم الصَّحَابَة حَاله فِي أَنه كَاهِن حَيْثُ
يسمعُونَ مِنْهُ شَيْئا يدل على كهانته. قَوْله: (رمزة) ،
بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْمِيم وَفتح الزَّاي، وَفِي
(الْمطَالع) قَوْله: (فِيهَا رمرمة) ، أَو رمزة، كَذَا فِي
البُخَارِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات بِغَيْر خلاف، وَفِي
الْجَنَائِز مثله فِي الأول، وَفِي الآخر: رمزة لأبي ذَر
خَاصَّة، وَعند النَّسَفِيّ: وَقَالَ عقيل: رمزة، وَفِي
كتاب (كَيفَ يعرض الْإِسْلَام على الصَّبِي) : رمزة، وَعند
البُخَارِيّ فِي حَدِيث أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب. رمرمة
أَو زمزمة، وَكَذَا للنسفي فِي الْجَنَائِز، قَالَ: وَمعنى
هَذِه الْأَلْفَاظ كلهَا مُتَقَارب، و: الزمزمة، بالزايين:
تَحْرِيك الشفتين بالْكلَام، قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ
غَيره: هُوَ كَلَام العلوج، وَهُوَ سكُوت بِصَوْت يدار من
الخواشيم وَالْحلق لَا يَتَحَرَّك فِيهِ السان وَلَا
الشفتان، و: الرمرمة، بالراءين: صَوت خَفِي بتحريك الشفتين
بِكَلَام لَا يفهم، وَأما الزمرة بِتَقْدِيم الزَّاي من
دَاخل الْفَم. قَوْله: (أَي: صَاف) ، بالصَّاد الْمُهْملَة
وَالْفَاء وَزَاد فِي رِوَايَة يُونُس: أَي صَاف {هَذَا
مُحَمَّد، وَفِي حَدِيث جَابر، فَقَالَت: يَا عبد الله}
هَذَا أَبُو الْقَاسِم قد جَاءَ، وَكَانَ الرَّاوِي عبر
باسمه الَّذِي يُسمى بِهِ فِي الْإِسْلَام، وَأما اسْمه
الأول فَهُوَ: صَاف. قَوْله: (لَو تركته) أَي: لَو تركت أم
ابْن صياد ابْنهَا بيَّن هُو، أَي: أظهر لنا من حَاله مَا
نطلع بِهِ على حَقِيقَة حَاله. قَوْله: (وَقَالَ سَالم) ،
أَي: ابْن عمر، هَذَا أَيْضا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الأول وشروع فِي الْقِصَّة الثَّالِثَة، وَالله أعلم.
971 - (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ لله لِلْيَهُودِ أسْلِمُوا
تَسْلَمُوا)
أَي: هَذَا بَاب فِيمَا ذكر من قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم للْيَهُود: أَسْلمُوا، بِفَتْح الْهمزَة من
الْإِسْلَام. قَوْله: (تسلموا) ، بِفَتْح التَّاء من
السَّلامَة أَي: تسلموا فِي الدُّنْيَا من الْقَتْل
والجزية، وَفِي الْآخِرَة من الْعقَاب وَالْخُلُود فِي
النَّار.
قالَهُ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
هُوَ سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، بِفَتْح الْمِيم
وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى
الْمقْبرَة، واشتهر بهَا سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري
لسكناه بِالْقربِ من الْمقْبرَة، وَأَبُو سعيد اسْمه كيسن،
وَسَيَأْتِي حَدِيثه فِي الْجِزْيَة، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
081 - (بابٌ إذَا أسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الحَرْبِ
ولَهُمْ مالٌ وأرْضُون فَهْيَ لَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذْ أسلم قوم من أهل الْحَرْب
فِي دَار الْحَرْب، وَالْحَال أَن لَهُم مَالا وأرضين،
فَهِيَ لَهُم، يَعْنِي: إِذا غلب الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا
فَهُوَ أَحَق بِمَالِه وأرضه، وَفِيه خلاف، فَقَالَ
الشَّافِعِي وَأَشْهَب وَسَحْنُون: إِن الَّذِي أسلم فِي
دَار الْحَرْب وَبَقِي فِيهَا مَاله وَولده، ثمَّ خرج
إِلَيْنَا مُسلما، ثمَّ غزا مَعَ الْمُسلمين بَلَده أَنه
قد يحرز مَاله وعقاره حَيْثُ كَانَ وَولده الصغار لأَنهم
تبع لَهُ فِي الْإِسْلَام. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث:
أَهله وَمَاله وَولده فِيهَا فَيْء على حكم الْبَلَد،
وَفرق أَبُو حنيفَة بَين حكمهَا إِذا أسلم فِي بَلَده ثمَّ
خرج إِلَيْنَا فأولاده الصغار أَحْرَار مُسلمُونَ، وَمَا
أودعهُ مُسلما أَو ذِمِّيا فَهُوَ لَهُ، وَمَا أودعهُ
حَرْبِيّا، فَهُوَ وَسَائِر عقاره هُنَالك فَيْء، وَإِذا
أسلم فِي بلد الْإِسْلَام ثمَّ ظهر الْمُسلمُونَ على
بَلَده فَكل مَا لَهُ فِيهِ فَيْء لاخْتِلَاف حكم
الدَّاريْنِ عِنْده، وَلم يفرق مَالك وَالشَّافِعِيّ بَين
إِسْلَامه فِي دَاره أَو فِي دَار الْإِسْلَام.
8503 - حدَّثنا مَحْمُودٌ أخبرَنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ
أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ علِيِّ بنِ
حُسَيْنٍ عنْ عَمْرو بنِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّان عنْ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قُلْتُ يَا رسولَ الله الله
أيْنَ تَنْزِلُ غَدا فِي حجَّتِهِ قالَ وهَلْ تَرَكَ لَنا
عَقِيلٌ مَنْزِلاً ثُمَّ قالَ نَحْنُ نازِلُونع غَداً
بخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ المُحَصَّبَ حَيْثُ قاسَمتُ
قُرَيْشٌ علىَ الكْفْرِ وذَلِكَ أنَّ بَنِي كِنانَةَ
حالَفَتْ قُرَيْشاً على بَنِي هاشِم أنْ لَا
يُبَايِعُوهُمْ ولاَ
(14/303)
يُؤْووهُم قَالَ الزُّهْرِيُّ والخَيْفُ
الوادِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعقيل: تصرفه قبل إِسْلَامه فَمَا
بعد الْإِسْلَام بِالطَّرِيقِ الأولى، ومحمود هُوَ ابْن
غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، ومحمود بن عبد
الرَّزَّاق هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر: حَدثنَا مَحْمُود حَدثنَا عبد الله هُوَ ابْن
الْمُبَارك، وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ زين العابدين،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَمْرو بن عُثْمَان بن
عَفَّان الْقرشِي الْأمَوِي الْمدنِي.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب تَوْرِيث دور
مَكَّة وَبَيْعهَا وشرائها.
قَوْله: (عقيل) ، بِفَتْح الْعين: ابْن أبي طَالب. قَوْله:
(بخيف بني كنَانَة) ، الْخيف مَا ارْتَفع عَن مجْرى
السَّيْل وَانْحَدَرَ عَن غلظ الْجَبَل، وَمَسْجِد منى
يُسمى: مَسْجِد الْخيف، لِأَنَّهُ فِي سفح جبلها، وَقد فسر
الزُّهْرِيّ الْخيف بالوادي. قَوْله: (المحصب) بِلَفْظ
الْمَفْعُول من التحصيب، عطف بَيَان أَو بدل من الْخيف.
قَوْله: (حَيْثُ قاسمت) ، أَي: حَيْثُ حالفت قُرَيْش.
قَوْله: (ذَلِك أَن بني كنَانَة. .) إِلَى آخِره هَكَذَا
وَقع هَذَا الْقدر مَعْطُوفًا على حَدِيث أُسَامَة، وَذكر
الْخَطِيب: أَن هَذَا مدرج فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن
عَليّ بن الْحُسَيْن عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أُسَامَة،
وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة، وَذَلِكَ أَن ابْن وهب رَوَاهُ عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ، ففصل بَين الْحَدِيثين، وروى عَن مُحَمَّد بن
أبي حَفْصَة عَن الزُّهْرِيّ الحَدِيث الأول فَقَط، وروى
شُعَيْب والنعمان بن رَاشد وَإِبْرَاهِيم بن سعد
وَالْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ الحَدِيث الثَّانِي
فَقَط، لَكِن عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَأجِيب:
إِن أَحَادِيث الْجمع عَنهُ وَطَرِيق ابْن وهب عِنْده
لحَدِيث أُسَامَة فِي الْحَج، وَلِحَدِيث أبي هُرَيْرَة
فِي التَّوْحِيد، وأخرجهما مُسلم مَعًا فِي الْحَج.
9503 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ
زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبيهِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ
يُدْعَى هُنَيا علَى الحِمَى فَقال يَا هُنَيَّ اضْمُمْ
جَنَاحَكَ عنِ الْمُسْلِمِينَ واتَّقِ دَعْوَةَ
المَظْلُومِ فإنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ
وأدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرب الغُنَيْمَةِ وإيَّايَ
ونَعَمَ ابنِ عَوْفٍ ونعَمَ ابنِ عَفَّانَ فإنَّهُمَا إنْ
تَهْلِكَ ماشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وزَرْعٍ
وإنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ ورَبَّ الغُنَيْمَةِ إنْ
تَهْلِكْ ماشِيَتُهُمَا يأتِني بِبَنِيهِ فيَقُولُ يَا
أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أفَتَارِكُهُمْ أنَا لَا أبالَكَ
فالمَاءُ والكَلأُ أيْسَرُ علَيَّ منَ الذَّهَبِ والوَرِقِ
وايْمُ الله إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أنِّي قدْ ظَلَمْتُهُمْ
إنَّها لَبِلاَدُهُمْ فَقاتَلُوا علَيْها فِي
الجَاهِلِيَّةِ وأسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإسْلاَمُ
والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ المَالُ الَّذي أحْمِلُ
علَيْهِ فِي سَبِيلِ الله مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بِلادِهِمْ شِبْراً.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله:
(إِنَّهَا لبلادهم فَقَاتلُوا عَلَيْهَا فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام) ،
وَذَلِكَ لِأَن أهل الْمَدِينَة أَسْلمُوا لَو لم
يَكُونُوا من أهل العنوة، فهم أَحَق، وَمن أسلم من أهل
العنوة فارضه فَيْء للْمُسلمين، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن
أويس، واسْمه عبد الله وَهُوَ ابْن أُخْت مَالك، وَأسلم
مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَهَذَا الْأَثر تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن الْجَمَاعَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، فِيهِ: غَرِيب صَحِيح.
قَوْله: (هنياً) بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد يهمز: أدْرك أَيَّام النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن لم يذكرهُ أحد فِي
الصَّحَابَة، وروى عَن أبي بكر وَعمر وَعَمْرو بن
الْعَاصِ، وروى عَنهُ ابْنه عُمَيْر وَشَيخ من الْأَنْصَار
وَغَيرهمَا، وَشهد صفّين مَعَ مُعَاوِيَة، وَلما قتل عمار
تحول إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَوْلَا
هُوَ من أهل الْفضل والثقة لما ولاه عمر على مَوضِع.
قَوْله: (على الْحمى) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح
الْمِيم مَقْصُورا، وَهُوَ مَوضِع يُعينهُ الإِمَام لأجل
نعم الصَّدَقَة مَمْنُوعًا عَن الْغَيْر، وَبَين ابْن سعد
من طَرِيق عُمَيْر بن عَليّ عَن أَبِيه: أَنه كَانَ على
حمى الربذَة. قَوْله: (أضمم جناحك) ، ضم الْجنَاح كِنَايَة
عَن الرَّحْمَة والشفقة، وَحَاصِل الْمَعْنى: كف يدك عَن
ظلم الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة معن بن عِيسَى عَن مَالك
عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) : (أضمم جناحك
للنَّاس) ، وَفِي (التَّلْوِيح) : (اضمم جناحك على
الْمُسلمين) يُرِيد استرهم بجناحك، وَفِي بعض
الرِّوَايَات: (على الْمُسلمين) ، أَي: لَا تحمل ثقلك
عَلَيْهِم، وكف يدك عَن ظلمهم. قَوْله: (وَاتَّقِ دَعْوَة
الْمَظْلُوم) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ
(14/304)
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأبي نعيم، ويروى:
(وَاتَّقِ دَعْوَة الْمُسلمين) . قَوْله: (وَأدْخل) ،
بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة: أَمر من
الإدخال، يَعْنِي: أَدخل فِي المرعى رب الصريمة، بِضَم
الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء مصغر الصرمة وَهِي
القطيعة من الْإِبِل بِقدر الثَّلَاثِينَ، وَالْغنيمَة
مصغر الْغنم وَالْمعْنَى: صَاحب القطيعة القليلة من
الْإِبِل وَالْغنم، وَلِهَذَا صغر اللَّفْظَيْنِ. قَوْله:
(وإياي) ، وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: وَإِيَّاك، لِأَن
هَذِه اللَّفْظَة للتحذير، وتحذير الْمُتَكَلّم نَفسه شَاذ
عِنْد النُّحَاة، وَلكنه بَالغ فِيهِ من حَيْثُ إِنَّه حذر
نَفسه، وَمرَاده تحذير الْمُخَاطب، وَهُوَ أبلغ، لِأَنَّهُ
ينْهَى نَفسه، وَمرَاده نهي من يخاطبه، قَوْله: (نعم ابْن
عَوْف) ، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف، وَنعم ابْن
عَفَّان، وَهُوَ عُثْمَان بن عَفَّان، وَإِنَّمَا خصهما
بِالذكر على طَرِيق الْمِثَال لِكَثْرَة نعمهما،
لِأَنَّهُمَا كَانَا من مياسير الصَّحَابَة، وَلم يرد بذلك
منعهما الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه إِذا لم يسع
المرعى إلاَّ نعم الْفَرِيقَيْنِ فَنعم المقلين أولى،
فَنَهَاهُ عَن إيثارهما على غَيرهمَا، وتقديمهما على
غَيرهمَا، وَقد بيَّن وَجه ذَلِك فِي الحَدِيث. بقوله:
(فَإِنَّهُمَا) أَي: فَإِن ابْن عَوْف وَابْن عَفَّان (إِن
تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى نخل وَزرع أَرَادَ أَن
ماشيتهما إِذا هَلَكت كَانَ لَهما عوض ذَلِك من أموالها من
النّخل وَالزَّرْع وَغَيرهمَا يعيشان فِيهَا وَمن لَيْسَ
لَهُ إِلَّا الصريمة القليلة أَو الْغَنِيمَة القليلة إِن
تهْلك ماشيتهما يستغيث عمر وَيَقُول انفق عَليّ وعَلى بني
من بَيت المَال، وَهُوَ معنى قَوْله: (يأتني ببنيه) ، أَي:
بأولاده، فَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: نَحن
فُقَرَاء محتاجون، وَهَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني
هَكَذَا ببنيه، جمع ابْن، وَفِي رِوَايَة غَيره: (ببيته) ،
بِلَفْظ:؛ الْبَيْت الَّذِي هُوَ عبارَة عَن زَوجته.
قَوْله: (يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ!) هَكَذَا هُوَ
بالتكرار. قَوْله: (أفتاركهم أَنا؟) الْهمزَة فِيهِ
للإستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار، وَالْمعْنَى: أَنا لَا
أتركهم مُحْتَاجين، وَلَا أجوز ذَلِك فَلَا بُد لي من
إِعْطَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة إيَّاهُم بدل المَاء
والكلأ. قَوْله: (لَا أبالك) ، هُوَ حَقِيقَة فِي
الدُّعَاء عَلَيْهِ، لَكِن الْحَقِيقَة مهجورة، وَهِي
بِلَا تَنْوِين، لِأَنَّهُ صَار شَبِيها بالمضاف، وإلاَّ
فَالْأَصْل لَا أَب لَك. قَوْله: (وأيم الله) من أَلْفَاظ
الْقسم كَقَوْلِك: لعمر الله وعهد الله، وَفِيه لُغَات
كَثِيرَة، وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزَة وصل، وَقد
تقطع. وَأهل الْكُوفَة من النُّحَاة يَزْعمُونَ أَنَّهَا
جمع يَمِين، وَغَيرهم يَقُول: هُوَ اسْم مَوْضُوع للقسم.
قَوْله: (إِنَّهُم لَيرَوْنَ) ، بِضَم الْيَاء أَي: ليظنون
(أَنِّي قد ظلمتهم) وَيجوز بِفَتْح الْيَاء أَي: ليعتقدون.
قَوْله: (قد ظلمتهم) ، قَالَ ابْن التِّين: يُرِيد
أَرْبَاب المواضي الْكَثِيرَة، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ
أَرْبَاب الْمَوَاشِي القليلة، لأَنهم الْأَكْثَرُونَ، وهم
أهل تِلْكَ الْبِلَاد من بوادي الْمَدِينَة، يدل عَلَيْهِ
قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن هَذِه الْأَرَاضِي (لبلادهم،
فَقَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة) وَالْمرَاد
عُمُوم أهل الْمَدِينَة، وَلم يدْخل فِي ذَلِك ابْن عَوْف
وَلَا ابْن عَفَّان. قَوْله: (لَوْلَا المَال الَّذِي أحمل
عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله) أَي: من الْإِبِل الَّتِي كَانَ
يحمل عَلَيْهَا من لَا يجد مَا يركب، وَجَاء عَن مَالك:
أَن عدَّة مَا كَانَ فِي الْحمى فِي زمن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، بلغ أَرْبَعِينَ ألفا من إبل وخيل
وَغَيرهمَا.
وَفِيه: دَلِيل على أَن مشارع الْقرى وعوامرها الَّتِي
ترعى فِيهَا مواشي أَهلهَا من حُقُوق أهل الْقرْيَة
وَلَيْسَ للسُّلْطَان بَيْعه إلاَّ إِذا فضل مِنْهُ فضلَة.
فَإِن قلت: قد مضى: (لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) ،
قلت: مَعْنَاهُ: لَا حمى لأحد يخص بِهِ نَفسه، وَإِنَّمَا
هُوَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلمن ورث ذَلِك عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الْخُلَفَاء للْمصْلحَة الشاملة
للْمُسلمين، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى حمايته.
181 - (بابُ كِتَابَةِ الإمامِ لِلنَّاسَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كِتَابَة الإِمَام لأجل
النَّاس من الْمُقَاتلَة وَغَيرهم. قَوْله: (كِتَابَة
الإِمَام) ، أَعم من كِتَابَته بِنَفسِهِ أَو بأَمْره،
وَفِي بعض النّسخ: كِتَابَة الإِمَام النَّاس، بِنصب
النَّاس على أَنه مفعول للمصدر الْمُضَاف إِلَى فَاعله،
وَفِي الأول يكون الْمَفْعُول محذوفاً. فَافْهَم.
0603 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بالإسْلاَمِ
مِنَ النَّاسِ فَكتَبْنا لهُ ألْفاً وخَمْسْمِائَةِ رَجُلٍ
فَقُلْنَا نَخَافُ ونَحْنُ ألْفٌ وخَمْسُمِائَةٍ فَلَقَدْ
رأيْتُنَا ابْتُلِينا حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي
وحْدَهُ وهْوَ خَائِفٌ.
(14/305)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد
بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ،
وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل هُوَ شَقِيق
بن سَلمَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَبْدَانِ عَن
أبي حَمْزَة فِي هَذَا الْبَاب. وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن أبي بكر وَابْن نمير، وَأبي كريب. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي السّير عَن هناد. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِي الْفِتَن عَن ابْن نمير. وَعلي بن مُحَمَّد. قَوْله:
(أكتبوا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: احصوا، بدل: أكتبوا، وَهِي
أَعم من: أكتبوا، وَقد يُفَسر: احصوا باكتبوا، وَقَالَ
الْمُهلب كِتَابَة الإِمَام النَّاس سنة عِنْد الْحَاجة
إِلَى الدّفع عَن الْمُسلمين حِينَئِذٍ فرض الْجِهَاد على
كل إِنْسَان يطبق المدافعة إِذا أنزل: بِأَهْل ذَلِك
الْبَلَد مَخَافَة. قَوْله: (فَقُلْنَا نَخَاف؟)
تَقْدِيره: هَل نَخَاف، وَهُوَ اسْتِفْهَام تعجب، يَعْنِي:
كَيفَ نَخَاف وَنحن ألف وَخَمْسمِائة رجل؟ وَكَانَ هَذَا
القَوْل عِنْد حفر الخَنْدَق، جزم بذلك ابْن التِّين،
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك عِنْد خُرُوجهمْ إِلَى د،
وَعَن الدَّاودِيّ: بِالْحُدَيْبِية. قَوْله: (فَلَقَد
رَأينَا) بِضَم التَّاء التَّاء الَّتِي للمتكلم أَي:
فَلَقَد رَأَيْت نفسنا، ويروى: فَلَقَد رَأينَا. قَوْله:
(ابتُلِينا) على صِيغَة الْمَجْهُول من الإبتلاء، وَحَاصِل
الْكَلَام: يَقُول حُذَيْفَة: كُنَّا نتعجب من خوفنا
وَالْحَال أَنا نَحن ألف وَخَمْسمِائة رجل، فَصَارَ أمرنَا
بعد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن الرجل
يُصَلِّي وَحده وَهُوَ خَائِف مَعَ كَثْرَة الْمُسلمين،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَعَلَّه أَرَادَ أَنه كَانَ فِي بعض
الْفِتَن الَّتِي جرت بعد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَكَانَ بَعضهم يخفي نَفسه وَيُصلي سرا يخَاف من
الظُّهُور والمشاركة فِي الدُّخُول فِي الْفِتْنَة
وَالْحَرب.
حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبِي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ
فَوَجَدْناهُمْ خَمْسَمِائَةٍ قَالَ أبُو مُعَاوِيَةَ مَا
بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمائَةٍ
عبد الله هُوَ عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة، وعبدان لقبه،
وَقد مر غير مرّة. وَأَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالزَّاي: هُوَ مُحَمَّد بن مَيْمُون الْيَشْكُرِي،
وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَة. وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن كل
وَاحِد من أبي حَمْزَة وَأبي مُعَاوِيَة خَالف سُفْيَان
الثَّوْريّ الْمَذْكُور فِي السَّنَد الَّذِي قبله فِي
رِوَايَته عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش. أما أَبُو حَمْزَة
فَإِنَّهُ روى عَن الْأَعْمَش خَمْسمِائَة وَلم يذكر
الْألف وَقد كَانَ سُفْيَان رُوِيَ عَن الْأَعْمَش ألفا
وهمسامائة أما أَبُو مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ روى عَن
الْأَعْمَش: مَا بَين سِتّمائَة إِلَى سَبْعمِائة،
فَالْبُخَارِي اعْتمد على رِوَايَة سُفْيَان لكَونه أحفظهم
مُطلقًا، وَزَاد على أبي حَمْزَة وَأبي مُعَاوِيَة،
وَزِيَادَة الثِّقَة الْحَافِظ مَقْبُولَة مُقَدّمَة،
وَإِن كَانَ أَبُو مُعَاوِيَة أحفظ أَصْحَاب الْأَعْمَش
بِخُصُوصِهِ. فَإِن قلت: طَرِيق أبي مُعَاوِيَة وَصله
مُسلم فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد
بن عبد الله بن نمير وَأَبُو كريب، وَاللَّفْظ لأبي بكر،
قَالُوا: حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق
عَن حُذَيْفَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إحصوا لي كم مَنْ تلفظ
بِالْإِسْلَامِ؟ قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُول الله أتخاف
علينا وَنحن مَا بَين الستمائة إِلَى السبعمائة؟ قَالَ:
إِنَّكُم لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّكُمْ أَن تبتلوا. قَالَ:
فابتلينا حَتَّى جعل الرجل منا لَا يُصَلِّي إلاَّ سرا.
قلت: إِنَّمَا اخْتَار مُسلم طَرِيق أبي مُعَاوِيَة لما
ذكرنَا أَنه كَانَ أحفظ أَصْحَاب الْأَعْمَش بِخُصُوصِهِ،
وَالْبُخَارِيّ رجح رِوَايَة الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش
لكَون الثَّوْريّ أحفظ من الْكل مُطلقًا. فَإِن قلت: مَا
وَجه التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات؟ قلت: قَالَ
الدَّاودِيّ: لَعَلَّهُم كتبُوا مَرَّات فِي مَوَاطِن،
وَقيل: المُرَاد بِالْألف والخمسمائة جَمِيع من أسلم من
رجل وَامْرَأَة وَعبد وَصبي، وَبِمَا بَين الستمائة إِلَى
السبعمائة: الرِّجَال خَاصَّة، وبالخمسمائة الْمُقَاتلَة
خَاصَّة، قَالَ النَّوَوِيّ: قَالُوا: وَجه الْجمع بَين
هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث، فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ،
وَقيل: المُرَاد بِالْألف ... إِلَى آخِره، ثمَّ قَالَ:
وَهَذَا بَاطِل، للتصريح بِأَن الْكل رجال فِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى، حَيْثُ قَالَ: فكتبنا لَهُ ألفا وَخَمْسمِائة
رجل، بل الصَّحِيح مَا بَين الستمائة إِلَى السبعمائة رجل
من الْمَدِينَة خَاصَّة، وبالألف والخمسمائة هم مَعَ
الْمُسلمين الَّذين حَولهمْ. قلت: الحكم بِبُطْلَان
الْوَجْه الْمَذْكُور لَا يَخْلُو عَن نظر، لِأَن العبيد
وَالصبيان يدْخلُونَ فِي لفظ: الرجل، فَتَأمل، وَالله
أعلم.
1603 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ
ابنِ جُرَيْجٍ عَن عَمْرِو بنِ دِينار عنْ أبِي مَعْبَد
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ يَا رسولَ الله إنِّي كُتِبْتُ
(14/306)
فِي غَزْوَةِ كَذَا وكَذَا وامْرَأتِي
حاجَّةٌ قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأتِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنِّي كتبت فِي
غَزْوَة كَذَا وَكَذَا) وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن،
وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَأَبُو
معبد، بِفَتْح الْمِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه
نَافِذ، بالنُّون وَالْفَاء وَفِي آخِره ذال مُعْجمَة.
والْحَدِيث قد مر فِيمَا قبل فِي: بَاب، من اكتتب فِي
جَيش، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة عَن
سُفْيَان عَن عَمْرو عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس إِلَى
آخِره، وَفِيه زِيَادَة على هَذَا.
281 - (بابٌ إنَّ الله يُؤيِّدُ الدِّينَ بالرَّجُلِ
الفاجِرِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الله ... إِلَى آخِره،
والفاجر من الْفُجُور، وَهُوَ الانبعاث فِي الْمعاصِي
والمحارم، وَيَأْتِي بِمَعْنى: الذَّنب، كَمَا فِي
قَوْلهم: الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور،
أَي: الذُّنُوب، وَبِمَعْنى الْعِصْيَان كَمَا فِي قَوْله:
ونترك من يفجرك، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فجر فجوراً، أَي:
فسق، وفجر، أَي: كذب وَأَصله: الْميل، والفاجر: المائل.
2603 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخْبَرنا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْريِّ ح وحدَّثني مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ قَالَ
حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رسُولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ
يَدَّعِي الإسْلاَمَ هَذَا منْ أهْلِ النَّارِ فَلَمَّا
حَضرَ القِتالُ قاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيداً
فأصابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ يَا رسولَ الله الَّذِي
قُلْتَ إنَّهُ مِنْ أهْلِ النَّارِ فإنَّهُ قَدْ قاتَلَ
اليَوْمَ قِتَالاً شَدِيداً وقدْ ماتَ فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّارِ قالَ فَكانَ بعْضَ
النَّاسِ أرَادَ أنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَما هُمْ علَى
ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَمُتْ ولَكِنَّ بِهِ
جِرَاحاً شَديدَاً فلَمَّا كانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ
يَصْبِرْ علَى الجِرَاحِ فقَتَلَ نَفْسَهُ فأُخْبِرَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَلِكَ فَقَالَ الله
أكْبَرُ أشْهَدُ أنِّي عَبْدُ الله ورسُولُهُ ثُمَّ أمَرَ
بِلاَلاً فَنادَى بالنَّاسِ إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ
إلاَّ نَفْسٌ مُسلِمةٌ وإنَّ الله لَيُؤيِّدُ هذَا
الدِّينَ بالرَّجُلِ الفَاجِرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث، وَرِجَاله قد
ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْيَمَان الحكم
ابْن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالْآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن
عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر ابْن رَاشد عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة،
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر عَن حبَان
عَن ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن
مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد، وَنَظِير هَذَا الحَدِيث
عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ قد مر فِيمَا قبل فِي: بَاب
لَا يُقَال فلَان شَهِيد.
قَوْله: (شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، لم يعين المشهد، فَزعم ابْن إِسْحَاق والواقدي
وَآخَرُونَ: أَن هَذَا كَانَ بِأحد، وَاسم الرجل: قزمان،
وَهُوَ مَعْدُود فِي جملَة الْمُنَافِقين، وَكَانَ تخلف
عَن أحد فَعَيَّرْته النِّسَاء، فَلَمَّا احفضنه خرج وَقتل
سَبْعَة ثمَّ جرح فَقتل نَفسه، ورد عَلَيْهِم بِأَن قصَّة
قزمان كَانَت بِأحد، وَقد سلف ذكرهَا فِيمَا قبل. وَأما
حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا فَكَانَ بِخَيْبَر، كَمَا ذكره
البُخَارِيّ، وَلِهَذَا ذكر فِي بعض النّسخ: شَهِدنَا مَعَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر، فَقَالَ
لرجل ... إِلَى آخِره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح،
لِأَنَّهُمَا قصتان. قَوْله: (فَلَمَّا حضر الْقِتَال)
قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع وَالنّصب. قلت: وَجه
الرّفْع على أَنه فَاعل حضر، وَوجه النصب على المفعولية
على التَّوَسُّع، وَفِي: حضر، ضمير يرجع إِلَى الرجل،
وَهُوَ فَاعله. قَوْله: (الَّذِي قلت: إِنَّه من أهل
النَّار) ويروى الَّذِي قلت لَهُ: إِنَّه، أَي: الَّذِي
قلت فِيهِ، وَاللَّام بِمَعْنى: فِي قَوْله: (فَكَأَن بعض
النَّاس أَرَادَ) ويروى: فكاد بعض النَّاس، من أَفعَال
المقاربة. قَوْله: (أَن يرتاب) كَذَا فِي الأَصْل
بِإِثْبَات: أَن، وإثباتها مَعَ: كَاد، قَلِيل. قَالَ
الْكرْمَانِي: ويرتاب أَي: يشك فِي صدق رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: يرْتَد عَن دينه. قَوْله:
(فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (إلاَّ نفس مسلمة) يدل على أَن الرجل
قد ارتاب وَشك حِين أَصَابَته الْجراحَة، وَقيل: هَذَا رجل
ظَاهر الْإِسْلَام قتل نَفسه، وَظَاهر النداء عَلَيْهِ يدل
على أَنه
(14/307)
كَانَ لَيْسَ مُسلما، وَالْمُسلم لَا
يُخرجهُ قتل نَفسه عَن كَونه مُسلما فَلَا يحكم
بِكُفْرِهِ، وَيصلى عَلَيْهِ. وَأجِيب: عَن ذَلِك
بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع من أمره على سره:
فَعلم بِكُفْرِهِ لِأَن الْوَحْي عِنْده عتيد. قَوْله:
{إِن الله ليؤيد} (آل عمرَان: 31) . ويروى: يأيد، بِدُونِ:
اللَّام، وَيجوز فِي: إِن، هَذِه الْفَتْح وَالْكَسْر وَقد
قرىء فِي السَّبْعَة: {إِن الله يبشرك} (آل عمرَان: 93 و
54) . فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِنَّا لَا نستعين بمشرك، رَوَاهُ مُسلم. قلت: لَا
تعَارض، لِأَن الْمُشرك غير الْمُسلم الْفَاجِر، رُوِيَ
هَذَا أَيْضا عَن الشَّافِعِي، أَو يُقَال: إِنَّه خَاص
بذلك الْوَقْت، وَقد اسْتَعَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بِصَفْوَان بن أُميَّة فِي هوَازن، واستعار مِنْهُ مائَة
درع بأداتها، وَخرج مَعَه صَفْوَان حَتَّى قَالَت لَهُ
هوَازن: تقَاتل مَعَ مُحَمَّد وَلست على دينه؟ فَقَالَ: رب
من قُرَيْش خير من رب من هوَازن، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
قتال صَفْوَان مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُعَارض قَوْله: (إِنَّا لَا نستعين
بمشرك) وَقَالَ بَعضهم: هِيَ تَفْرِقَة لَا دَلِيل
عَلَيْهَا، وَلَا أثر. قلت: كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قد علم بِالْوَحْي أَنه لَا بُد من
إِسْلَامه، وَلِهَذَا أعْطى لَهُ من الْغَنَائِم يَوْم
حنين شَيْئا كثيرا، ثمَّ أسلم وَالله أعلم. وَمن قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله ليؤيد ... الحَدِيث،
اسْتحْسنَ الْعلمَاء الدُّعَاء للسلاطين بالتأييد، وَشبهه
من أهل الْخَيْر من حَيْثُ تأييدهم للدّين لَا من
أَحْوَالهم الْخَارِجَة.
381 - (بابُ مَنْ تَأمَّرَ فِي الحَرْبِ مِنْ غَيْرِ
إمْرَةٍ إذَا خافَ العَدُوَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من تَأمر، أَي: جعل نَفسه
أَمِيرا على قوم فِي الْحَرْب من غير تأمير الإِمَام أَو
نَائِبه، وَجَوَاب: مَن، مَحْذُوف أَي: جَازَ ذَلِك.
3603 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
ابنُ عُلَيَّةَ عنْ أيُّوبَ عنْ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ عنْ
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ خطَبَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ أخَذَ
الرَّايَةَ زَيْدٌ فأُصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ
فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَها عبْدُ الله بنُ رَواحَةَ فأُصِيبَ
ثُمَّ أخَذَها خالِدُ بنُ الوَلِيدِ منْ غَيْرِ إمْرَةٍ
فَفُتِحَ علَيْهِ وَمَا يَسُرُّني أَو قالَ مَا يَسُرهُمْ
أنَّهُمْ عندَنا وقالَ وإنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أخدها خَالِد بن
الْوَلِيد من غير إمرة) . وَيَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم بن
كثير الدَّوْرَقِي وَابْن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، هُوَ
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَعليَّة أمه
مولاة لبني أَسد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمضى
هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل الْجِهَاد فِي: بَاب تمني
الشَّهَادَة.
وَهَذَا الحَدِيث فِي غَزْوَة مُؤْتَة، وَسَيَأْتِي بأتم
مِنْهُ فِي الْمَغَازِي، وَكَانَت فِي السّنة الثَّامِنَة
من الْهِجْرَة فِي جمادي الأوى. وَكَانَ السَّبَب فِي
ذَلِك مَا قَالَه الْوَاقِدِيّ عَن الزُّهْرِيّ: بعث
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَعْب بن عُمَيْر
الْغِفَارِيّ فِي خَمْسَة عشر رجلا حَتَّى انْتَهوا إِلَى
ذَات أطلاح من الشَّام، وَهُوَ مَوضِع على لَيْلَة من
البلقاء، وَقيل: مَوضِع من وَرَاء وَادي الْقرى، فوجدوا
جمعا كثيرا من بني قضاعة فدعوهم إِلَى الْإِسْلَام فَلم
يَسْتَجِيبُوا أورشقوهم بِالنَّبلِ، فَلَمَّا رَآهُمْ
أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاتلوهم
أَشد الْقِتَال، فَقتلُوا، فَأَفلَت مِنْهُم رجل جريح فِي
الْقَتْلَى، فَلَمَّا أَن برد عَلَيْهِ اللَّيْل تحامل
حَتَّى أَتَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأخْبر بذلك، وَبعث سَرِيَّة عَلَيْهَا زيد بن حَارِثَة
فِي نَحْو من ثَلَاثَة آلَاف إِلَى أَرض البلقاء لأجل
هَؤُلَاءِ الَّذين قتلوا، وَقَالَ: إِن أُصِيب زيد فجعفر
على النَّاس، وَإِن أُصِيب جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة،
فَخَرجُوا حَتَّى نزلُوا معَان من أَرض الشَّام،
فَبَلغهُمْ أَن هِرقل قد نزل مآب من أَرض البلقاء فِي
مائَة ألف من الرّوم، وانضم إِلَيْهِ من لخم وجذام والقين
وبهرام وبلي مائَة ألف مِنْهُم، عَلَيْهِم رجل من بلي،
ثمَّ أحد أراشه يُقَال لَهُ: مَالك بن نَافِلَة، فَلَمَّا
بلغ ذَلِك لمسلمين أَقَامُوا على معَان لَيْلَتَيْنِ
ينظرُونَ فِي أَمرهم، وَقَالُوا: نكتب إِلَى رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نخبره بِعَدَد عدونا، فإمَّا أَن
يمدنا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَن يَأْمُرنَا بِأَمْر
فنمضي لَهُ، قَالَ: فشجع النَّاس عبد الله بن رَوَاحَة،
وَقَالَ: يَا قوم إِن الَّذِي تَكْرَهُونَ للَّتِي
خَرجْتُمْ تطلبون الشَّهَادَة، وَمَا نُقَاتِل بِعَدَد
وَلَا قُوَّة وَلَا نُقَاتِل إلاَّ لهَذَا الدّين،
فانطلِقوا فإحدى الحسنيين: إِمَّا ظُهُور وَإِمَّا
شَهَادَة، فصدقوه فَمَضَوْا حَتَّى إِذا كَانُوا بتخوم
البلقاء لَقِيَهُمْ جموع هِرقل من الرّوم وَالْعرب بقرية
من قرى البلقاء يُقَال
(14/308)
لَهَا: مشارف، وَلما دناالعدو انحاز
الْمُسلمُونَ، إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: مُؤْتَة،
فتلاقوا عِنْدهَا فَاقْتَتلُوا، فَقتل زيد بن حَارِثَة،
ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر فقاتل بهَا حَتَّى قتل. قَالَ
ابْن هِشَام: إِن جَعْفَر أَخذ اللِّوَاء بِيَمِينِهِ
فَقطعت، فَأَخذهَا بِشمَالِهِ فَقطعت، فاحتضنها بعضديه
حَتَّى قتل، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، فأثابه
الله بذلك جناحين فِي الْجنَّة يطير بهما حَيْثُ شَاءَ،
ثمَّ أَخذ الرَّايَة عبد الله بن رَوَاحَة فقاتل حَتَّى
قتل، ثمَّ أَخذهَا ثَابت بن أقرم فَقَالَ: يَا معشر
الْمُسلمين اصْطَلحُوا على رجل مِنْكُم، قَالُوا: أَنْت!
قَالَ مَا أَنا بفاعل، فَاصْطَلَحَ النَّاس على خَالِد بن
الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ
الْوَاقِدِيّ: لما أَخذ خَالِد الرَّايَة قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْآن حمى الْوَطِيس،
فَهزمَ الله الْعَدو وَظهر الْمُسلمُونَ، وَقتلُوا مِنْهُم
مقتلة عَظِيمَة. قَوْله: (خطب رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدثنِي عبد
الْجَبَّار بن عمَارَة بن غزيَّة عَن عبد الله بن أبي بكر
بن عَمْرو بن حزم، قَالَ: لما التقى النَّاس بمؤتة جلس
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر،
وكشف لَهُ مَا بَينه وَبَين الشَّام، فَهُوَ ينظر إِلَى
معركتهم، فَقَالَ: أَخذ الرَّايَة زيد، وَهُوَ زيد بن
حَارِثَة ابْن شرَاحِيل بن كَعْب الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي،
مولى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(فأصيب) أَي قتل. قَوْله: (ثمَّ أَخذهَا) ، أَي: الرَّايَة
جَعْفَر، وَهُوَ ابْن أبي طَالب عَم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثمَّ أَخذهَا عبد الله بن
رَوَاحَة) ، بن ثَعْلَبَة بن امرىء الْقَيْس الْأنْصَارِيّ
الخزرجي. قَوْله: (من غير إمرة) ، بِلَفْظ الْمصدر النوعي،
أَي: صَار أَمِيرا بِنَفسِهِ من غير أَن يُفَوض إِلَيْهِ
الإِمَام. قَوْله: (فَفتح عَلَيْهِ) ، أَي: على خَالِد.
قَوْله: (وَمَا يسرني) ، أَو قَالَ: مَا يسرهم أَنهم
عندنَا لِأَن حَالهم فِيمَا هم فِيهِ أفضل مِمَّا لَو
كَانُوا عندنَا. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ أنس: وَإِن
عَيْنَيْهِ لتذرفان، بِكَسْر الرَّاء، يَعْنِي: تسيلان
دمعاً. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي: تدفعان وَقيل: تدمعان
الدمع.
481 - (بابُ العَوْنِ بِالْمَدَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عون الْجَيْش بالمدد، وَهُوَ
فِي اللُّغَة مَا يمد بِهِ الشَّيْء، أَي: يُزَاد وَيكثر،
وَمِنْه أمد الْجَيْش بمدد إِذا أرسل إِلَيْهِ زِيَادَة،
وَيجمع على أَمْدَاد. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هم الأعوان
وَالْأَنْصَار الَّذين كَانُوا يمدون الْمُسلمين فِي
الْجِهَاد.
4603 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
أبي عَدِيٍّ وسَهْلُ بنُ يُوسُفَ عنْ سَعِيدٍ عنْ قَتادَةَ
عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أتَاهُ رَعْلٌ وذَكْوَانُ وعُصَيَّةُ
وبَنُو لِحْيَانَ فزَعَمُوا أنَّهُمْ قَدْ أسْلَمُوا
واسْتَمَدُّوهُ على قَوْمِهِمْ فأمَدَّهُمْ النَّبِيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبْعِينَ مِنَ الأنْصَارِ قَالَ
أنَسٌ كُنَّا نُسَمِّيهِم القرَّاءَ يَحْطِبُونَ
بالنَّهارِ ويُصَلُّونَ باللَّيْلِ فانْطَلَقُوا بِهِمْ
حتَّى بلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ
وقَتلُوهُمْ فَقَنتَ شَهْرَاً يَدْعُو علَى رِعْلٍ
وذَكْوَانَ وبَنِي لِحْيَانَ قَالَ قَتادَةُ وحدَّثنا
أنَسٌ أنَّهُمْ قَرَؤوا بِهِم قُرْآناً ألاَ بَلِّغُوا
عَنَّا قَوْمَنَا أَنا قَدْ لَقِينا رَبَّنا فَرَضِيَ
عَنَّا وأرْضَانَا ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واستمدوه على قَومهمْ
فَأَمَدَّهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسبعين من
الْأَنْصَار) وَابْن أبي عدي: هُوَ مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو السّلمِيّ الْبَصْرِيّ، وَسَهل
بن يُوسُف أَبُو عبد الله الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ،
وَسَعِيد هُوَ بن أبي عرُوبَة الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ وَفِي
الْمَغَازِي عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد. وَأخرجه مُسلم
فِي الْحُدُود عَن أبي مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الطَّهَارَة وَفِي الْحُدُود وَفِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد
بن عبد الْأَعْلَى وَفِي الْمُحَاربَة عَن أبي مُوسَى
بِهِ.
قَوْله: (رعل) ، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة: ابْن خَالِد بن عَوْف بن امرىء الْقَيْس بن
بهثة بن سليم قَالَ ابْن دُرَيْد: رعل من الرَّعْلَة وَهِي
النَّخْلَة الطَّوِيلَة، وَالْجمع: رعال (وذكوان) بِفَتْح
الذَّال الْمُعْجَمَة: ابْن ثَعْلَبَة بن بهثة بن سليم.
(وَعصيَّة) : بِضَم الْعين الْمُهْملَة مصغر عَصا: ابْن
خفاف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم، وَهَؤُلَاء
الثَّلَاثَة قبائل فِي سليم. قَوْله: (وَبَنُو لحيان)
بِكَسْر اللَّام: حَيّ من هُذَيْل، وَقَالَ الْحَافِظ
الدمياطي: قَوْله فِي هَذِه الطَّرِيق: أَتَاهُ رعل وذكوان
وَعصيَّة وَبَنُو لحيان، وهم: لِأَن هَؤُلَاءِ
(14/309)
لَيْسُوا أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة، وَإِنَّمَا هم أَصْحَاب
الرجيع الَّذين قتلوا عَاصِم بن أبي الْأَفْلَح
وَأَصْحَابه، وأسروا خبيباً وَابْن الدثنة، وَإِنَّمَا
الَّذِي أَتَاهُ أَبُو برَاء من بني كلاب، وأجار أَصْحَاب
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخفر جواره عَامر
بن الطُّفَيْل وَجمع عَلَيْهِ هَذِه الْقَبَائِل من سليم.
قَوْله: (واستمدوه) أَي: طلبُوا مِنْهُ المدد. قَوْله:
(بسبعين من الْأَنْصَار) ، قَالَ مُوسَى بن عقبَة: وَكَانَ
أَمِير الْقَوْم الْمُنْذر بن عَمْرو، وَيُقَال: مرْثَد بن
أبي مرْثَد. قَوْله: (كُنَّا نسميهم الْقُرَّاء) جمع
القاريء، وَسموا بذلك لِكَثْرَة قراءتهم. قَوْله: (يحطبون)
، أَي: يجمعُونَ الْحَطب. قَوْله: (بِئْر مَعُونَة)
بِفَتْح الْمِيم وَضم الْعين الْمُهْملَة وبالنون، وَهُوَ
بَين مَكَّة وَعُسْفَان وَأَرْض هُذَيْل حَيْثُ قتل
الْقُرَّاء، وَكَانَت سَرِيَّة بِئْر مَعُونَة فِي صفر من
السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَأغْرب مَكْحُول
حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَت بعد الخَنْدَق، وَقَالَ
ابْن إِسْحَاق: كَانَت فِي صفر على رَأس أَرْبَعَة أشهر من
أحد. قَوْله: (ثمَّ رفع بعد ذَلِك) أَي: نسخت تِلَاوَته.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِيه: أَنه يجوز النّسخ فِي
الْإِخْبَار على صفة وَلَا يكون نسخه تَكْذِيبًا، إِنَّمَا
يكون نسخه رفع تِلَاوَته فَقَط، كَمَا أَن نسخ الْأَحْكَام
ترك الْعَمَل بهَا، فَرُبمَا عوض من الْمَنْسُوخ من
الْأَحْكَام حكم غَيره، وَرُبمَا لم يعوض عَنهُ،
وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار نسخهَا من الْقُرْآن رفع ذكرهَا
وَترك تلاوتها، لَا أَن تكذب بِخَبَر آخر مضاد لَهَا،
وَمثله مِمَّا نسخ من الْأَخْبَار مَا كَانَ يقرؤ فِي
الْقُرْآن: لَو أَن لِابْنِ آدم واديين من ذهب لابتغى
لَهما ثَالِثا. |