فتح الباري لابن رجب

بسم الله الرحمن الرحيم
11
كتاب الجمعة
1 - باب
فرض الجمعة
لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] الآية.
صلاة الجمعة فريضة من فرائض الأعيان على الرجال دون النساء، بشرائط أخر، هذا قول جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر.
وشذ من زعم أنها فرض كفايةٍ الشافعية، وحكاه بعضهم قولاً للشافعي، وأنكر ذلك عامة أصحابه، حتى قال طائفة منهم: لا تحل حكايته عنه.

(8/58)


وحكاية الخطابي لذلك عن أكثر العلماء وهم منه، ولعله أشتبه عليه الجمعة
بالعيد.
وحكي عن بعض المتقدمين: أن الجمعة سنةٌ.
وقد روى ابن وهبٍ، عن مالكٍ، أن الجمعة سنة.
وحملها ابن عبد البر على أهل القرى المختلف في وجوب الجمعة عليهم خاصة، دون أهل الأمصار.
ونقل حنبلٌ، عن أحمد، أنه قال: الصلاة –يعني: صلاة الحمعة –فريضةٌ، والسعي إليها تطوعٌ، سنةٌ مؤكدةٌ.
وهذا إنما هو توقف عن اطلاق الفرض على اتيان الجمعة، وأما الصلاة نفسها، فقد صرح بأنها فريضةٌ، وهذا يدل على أن ما هو وسيلة إلى الفريضة ولا تتم الإ به لا يطلق عليه اسم الفريضة؛ لأنه وإن كان مأموراً به فليس مقصوداً لنفسه، بل لغيره.
وتأول القاضي أبو يعلى كلام أحمد بما لا يصح.
وقد دل على فرضيتها: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .
والمراد بالسعي: شدة الاهتمام بإتيانها والمبادرة إليها. فهو من سعي القلوب، لا من سعي الأبدان،

(8/59)


كذا قال الحسن وغيره، وسيأتي بسط ذلك فيما بعد –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة، إنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري –وكانت له صحبة -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات طبع على قلبه)) .
وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.
وخرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) .
وروي معناه من وجوهٍ كثيرةٍ:

(8/60)


وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن ابن مسعودٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أن يحرق على من يتخلف عن الجمعة بيوتهم، وقد سبق ذكره.
وخرج أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ، عن طارق بن شهابٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((الجمعة حقٌ واجبٌ في جماعةٍ، إلا أربعة: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌ، أو
مريضٌ)) .
قال أبو داود: طارق بن شهابٍ راى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يسمع منه شيئاً. قال البيهقي: وقد وصله بعضهم عن طارق، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس وصله بمحفوظٍ. وخرج النسائي من حديث حفصة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .
وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبهم، فقال في خطبيه: ((إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا الى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائرٌ، استخفافاً بها أو جحودا

(8/61)


لها فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا بركة حتى يتوب، فمن تاب تاب الله
عليه)) .
وفي إسناده ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ، قد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم في ((أبواب الإمامة)) وفيه: دليلٌ على أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة؛ لأن جابراً إنما صحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهد خطبته بالمدينة، وهذا قول جمهور العلماء.
ويدل عليه –أيضاً -: أن سورة الجمعة مدنيةٌ، وأنه لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة بمكة قبل هجرته.
ونص الإمام أحمد على أن أول جمعةٍ جمعت في الإسلام هي التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عميرٍ.
وكذا قال عطاء والأوزاعي وغيرهما. وزعم طائفةٌ من الفقهاء: أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بمكة قبل أن يهاجر.
واستدل لذلك: بما خرَّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) من حديث المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن طهان، عن محمد ابن زياد، عن أبي هريرة قال: إن أول جمعةٍ جمعت –بعد جمعة جمعت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة –بجواثاء بالبحرين –قرية لعبد

(8/62)


القيس.
وقد خرَّجه البخاري –كما سيأتي في موضعه – من طريق أبي عامر العقدي، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة، عن ابن عباسٍ، أن أول جمعة جمعت –بعدجمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.
وكذا رواه وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، ولفظه: إن أول جمعة جمعت في الإسلام –بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة –لجمعة جمعت بجواثاء – قرية من قرى البحرين.
خرَّجه أبو داود.
وكذا رواه ابن المبارك وغيره، عن إبراهيم بن طهمان.
فتبين بذلك: أن المعافى وهم في إسناد الحديث ومتنه، والصواب: رواية
الجماعة، عن إبراهيم بن طهمان.
ومعنى الحديث، أن أول مسجدٍ جمع فيه –بعد مسجد المدينة -: مسجد جواثاء، وليس معناه: أن الجمعة التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جمعت بالمدينة، كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات؛ فإن عبد القيس إنما وفد على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، كما ذكره ابن سعد، عن عروة بن الزبير وغيره.
وليس المراد به –أيضاً - أن أول جمعة في الإسلام في مسجد المدينة، فإن أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات، قبل

(8/63)


أن يقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وقبل أن يبني مسجده.
يدل على ذلك: حديث كعب بن مالكٍ، أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسأله ابنه عن ذلك، فقال: كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة في نقيع الخضمات، في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، قيل له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلاً.
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه –مطولاً.
وروى أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) له، عن الأوزاعي، عمن
حدثه، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة، قبل أن يهاجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أجمع من بها من المسلمين، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين)) .
قال: وقال الزهري: فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار، فجمع بهم وهم بضعة عشر.
قال الأوزاعي: وهو أول من جمع بالناس.

(8/64)


وقد خرّج الدارقطني –أظنه في ((أفراده)) –من رواية أحمد بن محمد بن غالب الباهلي: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني: ثنا المغيرة بن عبد الرحمن: ثنا مالكٌ، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباسٍ، قال: أذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بمكة ولا يبين لهم، وكتب إلى مصعب بن عمير: ((أما بعد، فانظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين)) .
قال: فهو أول من جمع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك.
وهذا إسنادٌ موضوعٌ، والباهلي هو: غلام خليلٍ، كذاب مشهور بالكذب، وإنما هذا أصله من مراسيل الزهري، وفي هذا السياق ألفاظٌ منكرةٌ.
وخرج البيهقي من رواية يونس، عن الزهري، قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمع بالمسلمين مصعب بن عميرٍ.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بهم، فاذن له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس

(8/65)


يومئذٍ بأميرٍ، ولكنه انطلق يعلم أهل امدينة.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: من أول من جمع؟ قال: رجلٌ من بني عبد الدار –زعموا -، قلت: أفبأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فمه.
وخرَّجه الأثرم من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج، وعنده: قال: نعم، فمه. قال ابن عيينة: سمعت من يقول: هو مصعب بن عميرٍ.
وكذلك نص الإمام أحمد في - رواية أبي طالب – على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو امر مصعب بن عمير أن يجمع بهم بالمدينة.
ونص أحمد –أيضاً - على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير.
وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي.
فتبين بهذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإقامة الجمعة بالمدينة، ولم يقمها بمكة، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليه الجمعة بمكة.
وممن قال: إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة: أبو حامد الاسفراييني من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير)) من أصحابنا، وابن عقيل في ((عمد الادلة)) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية، منهم: السهيلي وغيره.
وأما كونه لم يفعله بمكة، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار

(8/66)


الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال.
وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة، وهو: أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام.
ولهذا لا تقام الجمعة في السجن، وإن كان فيه أربعون، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء، وممن قاله: الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.
وعلى قياس هذا: لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب – وإن طالت – حكمها حكم السفر، فتقصر فيها الصلاة أبداً، ولو اقام المسلم باختياره، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً؟
وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة، أظهر، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة: فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام، فحمله القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها.
وهذا بعيدٌ جداً، وإنما مراده: أنهم يصلون الظهر لوقتها، ثم

(8/67)


يشهدون الجمعة مع الأمراء.
وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها، ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها.
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا، وإلا صلوا ظهراً، وتنفلوا بصلاتهم معهم.
قال: ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا.
وأراد بالتجميع هنا: صلاة الظهر جماعةً، لا صلاة الجمعة؛ فإنه قال قبله: وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا.
والفرق بين صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة، ممن تجب عليه وممن لا تجب عليه: أن من تجب عليه يتهم في تركها، بخلاف من لا تجب عليه فإن عذره ظاهرٌ.
وقد روي عن ابن سيرين، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم، من غير أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلية، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا اسماعيل –هو: ابن عليه -: ثنا ايوب، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن الانصار

(8/68)


قبل قدوم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا
به، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم.
قالوا: فيوم العروبة: قال: وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاةٌ، فكفتهم.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عم معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يومٌ يجتمعون فيه كل ستة أيامٍ، وللنصارى –أيضاً - مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، ونذكر الله عز وجل، ونصلي ونشكره –أو كما فقالوا -، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم
العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة، فصلى بهم وذكرهم، فسموه: يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم، فأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
فوقع في كلام الإمام أحمد: أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عميرٍ، وهي التي ذكرها كعب بن مالكٍ في حديثه، أنهم كانوا أربعين رجلاً.
وفي هذا نظرٌ.
ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم

(8/69)


بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه، وكان باجتهاد منهم، لا بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال البخاري –رحمه الله -:

(8/70)


876 - نا أبو اليمان: أنا شعيب: نا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الاعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غدٍ)) .
قوله: ((نحن الآخرون)) –يعني: في الزمان؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم.
وقوله: ((السابقون)) –يعني: في الفضل والكرامة على الله؛ قالَ الله تعالى: ... {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:11] .
وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل)) .

(8/70)


وفي رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الحديث -: ((نحن الآخرون من أهل الدنيا، الأولون يوم القيأمة، المقضى لهم قبل الخلائق)) .
خرَّجه مسلم. امة
وخرَّجه من حديث حذيفة –بمثله.
وخرّج من حديث أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هذا الحديث زيادةٌ: ((ونحن أول من يدخل الجنة)) .
وهذا كله –أيضاً - من سبقهم؛ فإنهم أول من يحاسب يوم القيأمة، ومن يجوز على الصراط، ومن يدخل الجنة.
وقوله: ((بيد)) ، هو اسمٌ ملازم للإضافة إلى ((أن)) وصلتها، ومعناه - هاهنا -: غير، ولا يستثنى به في الاتصال، بل في الانقطاع.
والمعنى: لكن أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا نحن الكتاب من
بعدهم، فلهم السبق في الزمان بهذا الاعتبار في الدنيا، لا في الفضل، ولا في الآخرة.
ونقل الربيع، عن الشافعي: أنه قال: ((بيد أنهم)) : من أجل أنهم –فجعله تعليلاً.
وقوله: ((ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه)) .
((ثم)) –هاهنا - لترتيب الاخبار، ويحتمل أنه لترتيب المخبر به، والمراد: أنهم أوتوا الكتاب، ثم فرض عليهم هذا اليوم –والاشارة إلى يوم الجمعة -، فاختلفوا

(8/71)


فيه، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق باذنه، فالناس لنا فيه تبعٌ.
وهذا - أيضاً - مما حازت به الأمة السبق مع تأخر زمانهم، فإن اليهود والنصارى لما فرض عليهم تعظيم الجمعة، والعبادة فيه لله، واتخاذه عيداً للاجتماع فيه لذكر الله فيه، ضلوا عنه، فاختارت اليهود السبت؛ لأنه يوم فرغ فيهِ الخلق، واختارت النصارى الأحد؛ لأنه يوم بدئ فيه الخلق، فهدانا الله للجمعة، فصار عيدنا أسبق من عيدهم، وصاروا لنا في عيدنا تبعاً، فمنهم من عيده الغد من يوم الجمعة، ومنهم من عيده بعد
غدٍ.
وإنما ضلت الطائفتان قبلنا لتقديمهم رأيهم على ما جاءت به رسلهم وانبياؤهم، واهتدت هذه الأمة باتباعهم ما جاءهم به رسلهم عن ربهم، من غير تغيير له ولا تبديلٍ.
وفي الحديث: دليلٌ على أن الجمعة فرض من الله واجب علينا، كما كان على من قبلنا، فإن الله فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة، واتخاذه عيداً ومجمعاً لذكر الله
وعبادته، فبدلوه بغيره من الايام، وهدانا الله لهُ، فدل ذَلِكَ على أنه مفروض علينا تعظيمه، واتخاذه عيداً؛ لذكر الله والاجتماع فيه لعبادته، وهذا من أدل دليلٍ على أن شهود الجمعة فرض على هذه الأمة.
* * *

2 -

(8/72)


باب
فضل الغسل يوم الجمعة
وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء؟
فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
877 -

(8/73)


ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) .
ليس في هذا الحديث، ولا فيما بعده من الأحاديث المخرجة في هذا الباب ذكر فضل الغسل وثوابه، كما بوب عليه، بل الأمر به خاصةً.
وقد خرج فيما بعد هذا الباب أحاديث في فضل الغسل مع الرواح، أو مع الدهن والطيب، وستأتي في مواضعها –إن شاء الله تعالى.
وقد بوب على أن الصبي والمرأة: هل عليهما شهود الجمعة؟
فأما الصبي، فسيأتي الحديث الذي يؤخذ منه حكمه.
وأما حكم المرأة، فكأنه أخذه من هذا الحديث، وهو قوله: ((إذا جاء أحدكم الجمعة)) ، فإن الخطاب كان للرجال، والضمير يعود إليهم، لأنه ضمير تذكيرٍ، فلا يدخل فيه النساء.

(8/73)


وقد اختلف المتكلمون في أصول الفقه في صيغ الجموع المذكرة: هل يدخل فيها النساء تبعاً، أم لا؟ وفي ذلك اختلاف مشهورٌ بينهم.
وأكثر أصحابنا على دخولهن مع الذكور تبعاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخلن معهم، وهو قول أكثر الشافعية والحنفية ولفظة: ((أحد)) وإن لم تكن جمعاً، إلا أنها مقتضية للعموم، إما بطريق البدلية، أو الشمول، كما في قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة:285] .
ولكن الأمر هنا بالغسل، لا بمجيء الجمعة، ولكن المأمور به بالغسل هو الذي يأتي الجمعة، بلفظ يقتضي أنه لابد من المجيء إلى الجمعة، فإن ((إذا)) إنما يعلق بها الفعل المحقق وقوعه غالبا قد يقتضي –أيضاً –العموم، لكن هذا العموم يخرج منه المرأة، بالأحاديث الدالة على أنه لا جمعة عليها، وقد سبق بعضها.
وخرّج أبو داود من حديث أم عطية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيتٍ، فأرسل إليهن عمر، فقال: أنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليكن، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق، ولا جمعة علينا.
وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن النساء لا تجب عليهن الجمعة، وعلى أنهن إذا صلين الجمعة مع الرجال أجزأهن من الظهر.
ومن حكى من متأخري أصحابنا في هذا خلافاً، فقد غلط، وقال ما لا حقيقة
له.

(8/74)


وروى أبو داود في ((مراسليه)) بإسناده، عن الحسن، قال: كن النساء يجمعن مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن واصلٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان الضعفاء من الرجال والنساء يشهدون الجمعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد، من الضعف.
وواصلٌ، فيه ضعفٌ.
وروي، عن ابن مسعودٍ، أنه قال للنساء يوم الجمعة: إذا صليتن مع الإمام فبصلاته، وإذا صليتن وحدكن فتصلين أربعاً.
وعنه، أنه كان يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة، ويقول: أخرجن؛ فإن هذا ليس لكن.
خرّجهما البيهقي.
ولعله كره أن يضيقن المسجد على الرجال لكثرة زحام الجمعة، أو كره لهن الخروج من بيوتهن بالنهار.
ومن الشافعية من استجب للعجائز حضور الجمعة.
وعند أصحابنا: لا يكره للعجائز حضور الجمعة.
وفي كراهته للشواب وجهان.
الحديث الثاني:
878 -

(8/75)


ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: أنا جويرية،

(8/75)


عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من اصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فناداه عمر: اية ساعةٍ هذه؟ قالَ: إني
شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل.
وهذا –أيضاً - ليس فيه ذكر فضل الغسل، إنما فيه إلامر به، ولعل مراده بتخريجه في هذا الباب: أن فيه ما يشعر بأن الأهل لا يخرجن إلى الجمعة؛ فإن هذا الرجل لما قال لعمر: ((لم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت)) ، وسمع ذلك عمر ومن حضره من الصحابة، دل على اتفاقهم على أن خروج الأهل إلى الجمعة غير واجب. والله أعلم.
الحديث الثالث:

(8/76)


879 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلمٍ)) .
وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل، كما سبق ذكره في ((باب: وضوء الصبيان وطهارتهم)) .
وقد تقدم ما يدل

(8/76)


على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة، فيستدل بذلك على اختصاص إلاتيان للجمعة بمن بلغ الحلم، دون من لم يبلغ.
وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباسٍ، عن بكير بن الأشج، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن حفصة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل
محتلم)) .
وهذا صريحٌ بأن الرواح إنما يجب على المحتلم، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم.
وخرَّجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظ أبي داود: ((على كل محتلمٍ رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)) .
وقد أعل، بأن مخرمة بن بكيرٍ رواه عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر حفصة.
وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث عياش في لفظه، أم لا؟
وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في ((باب: وضوء الصبيان)) .
وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل للجمعة، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه.

(8/77)


وقد أختلف العلماء في غسل الجمعة: هل هو واجبٌ –بمعنى: أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر -، أم هو مستحبٌ –فلا ياثم بتركه بحال –؟
ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة، وأنها تصح بدونه، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل، ولم يأمروه بالخروج للغسل.
وقد استدل –أيضاً - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمروه بالخروج له.
وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت.
وأكثر العلماء على أنه يستحب، وليس بواجب.
وذكر الترمذي في ((كتابه)) أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك.
وقد حكي عن عمر وعثمان، ومستند من حكاه عنهما: قصة عمر مع الداخل إلى المسجد؛ فإنه قد وقع في روايةٍ أنه كان عثمان، وسنذكرها –إن شاء الله تعالى.
وممن قال: هو سنة: ابن مسعودٍ.
وروي عن عباسٍ، أنه غير واجبٍ، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد –في ظاهر مذهبه -، وإسحاق.
ورواه ابن وهبٍ عن مالكٍ، وأنه قيل له: في

(8/78)


الحديث: ((هو واجبٌ)) ؟ قال ليس كل ما في الحديث: ((هو واجبٌ)) يكون كذلك.
وهواختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه.
واستدل من قال: ليس بواجبٍ: بما روي عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل)) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.

(8/79)


وقد أختلف في سماع الحسن من سمرة.
وخرَّجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي، عن انس –مرفوعاً - أيضاً.
ويزيد، ضعيف الحديث.

(8/80)


وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام)) .
وهذا يدل على أن الوضوء كافٍ، وان المقتصر عليه غير أثمٍ ولا عاصٍ، وأما إلامر بالغسل فمحمول على إلاستحباب.
وقد روي من حديث عائشة وابن عباسٍ ما يدل على ذلك، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
وأما رواية الوجوب، فالوجوب نوعان: وجوب حتم، ووجوب سنةٍ وفضلٍ.
وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل، وروي عن أبي هريرة، والحسن، وروي - أيضاً - عن سعدٍ، وعمارٍ، وابن عباسٍ –في رواية أخرى عنه -، وعن عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود، وعطاء بن السائب، وعمرو بن سليمٍ وغيرهم من المتقدمين.
وحكي رواية عن أحمد، قال أحمد - في رواية حربٍ وغيره -: أخاف أن يكون واجباً، إلا أن يكون بردٌ شديدٌ.
وهذا لا يدل على الوجوب جزماً.
وهو رواية عن مالكٍ، ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.
ذكر ابن عبد البر: أنه لا يعلم أحداً

(8/81)


قال: إنه يأثم بتركه، غير أهل الظاهر، وأن من أوجبه، قال: لا يأثم بتركه.
وحكى –أيضاً - إلاجماع على أنه ليس بفرضٍ واجبٍ.
وذكر عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاءٍ: غسل الجمعة
واجبٍ؟ قال: نعم، من تركه فليس بأثمٍ.
قال عبد الرزاق: وهو أحب القولين إلى سفيان، يقول: هو واجبٌ.
يعني: وجوب سنةٍ.
وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء، وذكر أنه أشهر الروايتين عن مالكٍ.
والثاني: أنه مستحب وليس بسنةٍ، بل كالطيب والسواك، وحكاه رواية عن مالكٍ.
وحكى عن بعضهم: أن الطيب يغني عنه، حكاهٌ عن عطاء الخراساني، وعن
عبد الكريم بن الحارث المصري، وعن موسى بن صهيبٍ، قالَ: كانوا يقولون ذَلِكَ.
وعن النخعي، قالَ: ما كانوا يرون غسلاً واجبً إلا غسل الجنابة، وكانوا يستحبون غسل الجمعة.
فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة –بمعنى كونه فرضاً يأثم بتركه – اختلافاً بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذَلِكَ باهل الظاهر.
والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا

(8/82)


القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة وعمار، وعن مالكٍ –أيضاً.
والذي ذكره ابن عبد البر هوَ التحقيق في ذَلِكَ –والله أعلم -، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذَلِكَ ما جاء عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إطلاق اسم ((الواجبٍ)) عليهِ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي إلاثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذَلِكَ –أيضاً.
وممن صرح بهذا: عطاءٌ، كما سبق ذكره عنه، ومنهم: يحيى بن يحيى النيسابوري، والجوزجاني.
وقد تبين بهذا أن لفظ ((الواجبٍ)) ليس نصاً في إلالزام بالشيء والعقاب على تركه، بل قد يراد به ذَلِكَ - وهو الأكثر -، وقد يراد به تأكد إلاستحباب والطلب.
ولهذا قالَ إسحاق: إن كل ما في الصَّلاة فهوَ واجبٌ. وإن كانت الصَّلاة تعاد من ترك بعضه، كما سبق ذكره عنه.
وسبق –أيضاً -، عن الشافعي وأحمد في لفظ: ((الفرض ما يدل على نحو ذَلِكَ، فالواجب أولى؛ لأنه دون الفرض.
ونص الشافعي –في رواية البويطي –على أن صلاة الكسوف ليست بنفلٍ، ولكنها واجبةٌ وجوب السنة.
وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى ((واجباً)) . والله أعلم.

* * *

3 -

(8/83)


باب
الطيب للجمعة

(8/84)


880 - حدثنا علي: ثنا حرمي بن عمارة: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: حدثني عمرو بن سليم إلانصاري، قال: اشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم، وان يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .
قال عمروٌ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ، وأما الاستنان والطيب، فالله أعلم واجبٌ هو، أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث.
قال أبو عبد الله: هو أخو محمد بن المنكدر، ولم يسم أبو بكرٍ هذا، روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدةٌ.
وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكرٍ، وأبي عبد الله.
((علي)) شيخ البخاري، هو: ابن المديني، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث –فيما ذكره الدارقطني في ((علله)) -:
فرواه عنه تمتامٌ، كما رواه

(8/84)


عنه البخاري.
ورواه الباغندي عنه، فزاد في إسناده: ((عبد الرحمن بن أبي سعيدٍ)) ، جعله: عن عمرو بن سليمٍ، عن عبد الرحمن، عن أبيه.
وكذا رواه سعيد بن أبي هلالٍ، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمروٍ، عن
عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
خرَّجه مسلمٌ من طريقه كذلك.
وخرَّجه –أيضاً - من رواية بكير بن الأشج، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، ولم يذكر في إسناده: ((عبد الرحمن)) .
وعن الدارقطني: أنه ذكر ((عبد الرحمن)) في إسناده أصح من إسقاطه.
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك؛ فإنه لم يخرج الحديث إلا بإسقاطه، وفي روايته: أن عمروٍ بن سليم شهد على أبي سعيدٍ، كما شهد

(8/85)


أبو سعيدٍ على النَّبيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا صريح في أنه سمعه من أبي سعيد بغير واسطةٍ.
وكذا رواه إبراهيم بن عرعرة، عن حرمي بن عمارة –أيضاً.
وخرَّجه عنه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .
وكذا رواه القاضي إسماعيل، عن علي بن المديني، كما رواه عنه البخاري.
خرَّجه من طريقه ابن منده في ((غرائب شعبة)) .
وكذا خرَّجه البيهقي من طريق الباغندي، عن ابن المديني.
وهذا يخالف ما ذكره الدارقطني عن الباغندي.
وذكر الدارقطني: أن بكير بن الأشج زاد في إسناده: ((عبد الرحمن بن أبي
سعيدٍ)) ، وهو –أيضاً - وهم منه.
فالظاهر: أن إسقاط عبد الرحمن من إسناده هو الصواب، كما هي طريقة البخاري.
وأما أبو بكر بن المنكدر، فهو: اخو محمد بن المنكدر، وهو ثقة جليل، ولم يسم، كذا قاله البخاري هاهنا، وأبو حاتمٍ الرازي.
وإنما نبه البخاري على ذلك لئلا يتوهم أنه محمد بن المنكدر، وأنه ذكر بكنيته؛ فإن ابن المنكدر كان يكنى بابي بكرٍ وبأبي عبد الله.
ويعضد هذا الوهم: أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام روي عنه هذا الحديث، عن محمد بن المنكدر، عن عمرو بن سليمٍ، عن أبي سعيدٍ، وروي عنه، عن محمد بن المنكدر، عن اخيه أبي بكرٍ، عن عمرو، عن

(8/86)


أبي سعيدٍ، وهو الصواب.
وفي الطيب للجمعة أحاديث أخر، يأتي بعضها –إن شاء الله تعالى.
وأكثر العلماء على استحباب الطيب للجمعة:
روى وكيعٌ، عن العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن عمر كان يجمر ثيابه للمسجد يوم الجمعة.
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، قال: كان عمر إذا راح إلى الجمعة أغتسل وتطيب بأطيب طيب عنده.
وروي عنه، أنه كان يستجمر للجمعة بالعود.
وروي عن عمر، أنه كان يأمر بتجمير المسجد يوم الجمعة.
ولم تزل المساجد تجمر في أيام الجمع من عهد عمر.
وفي الأمر بتجميرها في الجمع حديثٌ مرفوعٌ، خرَّجه ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع، وإسناده ضعيف جداً.
ومذهب مالكٍ: أن يتصدق بثمن ما يجمر به المسجد، أو يحلق، وقال: هو أحب إلي: - ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وسيأتي عن ابن عباسٍ التوقف في الطيب للجمعة.
وقد يقال: إنما توقف في وجوبه، كما توقف عمروٍ بن سليم الأنصاري،

(8/87)


فقد روى ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، قال: سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة، فسألت ابن عباسٍ عنه، فقال: لا أعلمه.
قال سفيان: وأخبرني ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، قال: من أتى الجمعة فليمس طيبا، أن كان لأهله، غير مؤثمٍ من تركه.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء طيب)) .
وقال الترمذي: حسنٌ.
وذكر في ((علله)) أنه سأل البخاري عنه، فقال: الصحيح: عن البراء موقوف.

* * *

4 -

(8/88)


باب
فضل الجمعة

(8/89)


881 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالحٍ السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكانما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فاذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) .
قوله: ((من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح)) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يات بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة.
وممن قال: لا يصيب السنة بالغسل للجمعة قبل طلوع الفجر: مالكٌ، والشافعي، وأحمد، وأكثر العلماء.
وروى معناه عن ابن عمر.

(8/89)


خرَّجه حربٌ الكرماني بإسناد فيه نظرٌ.
وأجازه الأوزاعي، وهذا الحديث حجةٌ عليه، وكذلك حديث أبي سعيدٍ المتقدم: ((غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .
وحكي عن أحمد ما يدل على صحته سحراً – أيضاً.
وروي عن الشعبي ومجاهدٍ، وهو وجه للشافعية - أيضاً - وقول يحيى بن يحيى النيسابوري.
وقوله: ((غسل الجنابة)) في تأويله قولان:
أحدهما: أن المراد به: تعميم بدنه بالغسل، كما يعمه بغسل الجنابة.
ويشهد لذلك: الحديث الآخر الذي فيه: ((فيغسل رأسه وجسده)) .
فيكون المعنى: اغتسأله للجمعة كاغتسألة للجنابة، في المبالغة وتعميم البدن
بالماء، وهذا قول اكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.
والثاني: أن المراد به: غسل الجنابة حقيقةً، وأنه يستحب لمن له زوجة أو أمة أن يطأها يوم الجمعة، ثم يغتسل، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف، وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهما.
وروي عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا، وأن يغسلوا.
وقول طائفةٍ من الشافعية، وحملوا عليه –أيضاً - حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل)) –الحديث.

(8/90)


وقالوا: المراد: من اغتسل بنفسه وغسل من يطؤه من زوجة أو أمةٍ.
فعلى هذا: يستدل بالحديث على أن من عليه غسل الجنابة، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه عن غسل الجمعة، وسواء نوى به الجمعة، أو لم ينو.
أما إن نواهما بالغسل، فإنه يحصل له رفع حدث الجنابة وسنة غسل الجمعة بغير خلافٍ بين العلماء، روي ذلك عن ابن عمر، وتبعه جمهور العلماء.
وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ: لا يجزئه عنهما، وقاله بعض الظاهرية.
وحكي عن مالكٍ، وقيل: إنه لا يصح عنه، إنما قاله بعض المتأخرين من
أصحابه، وقد ذكر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره.
وأما أن نوى بغسله الجنابة خاصةً، فإنه يرتفع حدثه من الجنابة.
وهل يحصل له سنة إلاغتسأل للجمعة؟ على قولين: أشهرهما: لا يحصل له، وروي عن أبي قتادة الأنصاري صأحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامريءٍ ما نوى)) ، وهو المشهور عن مالكٍ، وروي نحوه عن الأوزاعي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد، ونص عليه أحمد في رواية الشالنجي.
والثاني: يحصل له غسل الجمعة بذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وقول أشهب المالكي، وهو نص الشافعي، وقول أبي حنيفة وإسحاق، مع كون أبي حنيفة يعتبر النية لنقل الطهارة، وحكاه ابن عبد البر عن عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد

(8/91)


والطبري، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.
وأما إن نوى الجنب غسل الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فهل يرتفع حدث الجنابة بذلك؟ فيه قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد.
ومن أصحابنا من رجح: أنه لا يرتفع، لأن غسل الجنابة ليس سببه الحدث؛ ولهذا يشرع للطاهر.
وعلى هذا: فهل يحصل له به سنة غسل الجمعة مع بقاء غسل الجنابة عليه؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية، أصحهما: أنه يحصل له ذلك.
وأختلف أصحاب مالكٍ: هل يرتفع حدثه بنية غسل الجمعة؟
فقال: ابن القاسم: لا يجزئه، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالكٍ.
وقال أشهب وابن وهب والأكثرون منهم: يجزئه: وهو قول المزني.
وقوله: ((ثم راح)) يدل على أنه لا تحصل سنة إلاغتسأل للجمعة إلا قبل صلاة الجمعة، وأنه لو اغتسل بعد الصلاة في بقية اليوم لم يكن آتياً بفضيلة الغسل المأمور به، وقد حكى ابن عبد البر وغيره إلاجماع على ذلك.
وأظن بعض الظاهرية يخالف فيه، ويزعم: أن الغسل لليوم لا للصلاة، ولا يعبأ بقوله في ذلك.
ويدل على أنه يحصل المقصود بالغسل، وإن اغتسل أول نهار الجمعة إذا كان الرواح متعقباً له.
فإن لم يتعقبه الرواح، بل أخر الرواح إلى بعده، فقال أكثر العلماء: تحصل له –أيضاً - سنة الغسل، فقالوا: ((

(8/92)


ثُمَّ)) تقتضي التراخي، فيصدق ذلك بأن يؤخر الرواح إلى الزوال.
وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل، نص عليه أحمد وغيره.
وذهب طائفة إلى أنه لا تحصل له فضيلة الغسل إلا بأن يتعقبه الرواح، وهو قول مالكٍ، وحكاه الطحاوي عن الأوزاعي، وهو يخالف قوله المشهور عنه: أن الغسل للجمعة يجزئ من الليل، كما تقدم.
ومذهب مالكٍ في ذلك، أنه لا يجزئ الغسل إلا متصلا بالروح، فإن اغتسل وراح، ثم أحدث أو خرج من المسجد إلى موضع قريب، لم ينتقض غسله، وإن تباعد أو تغدى أو نام انتقض غسله وأعاده -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
واستدلوا بقوله: ((إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) .
ويجاب عنه: بأن هذا كقوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية، المراد: أنه يتضيق الوجوب على القائم للصلاة، فكذلك يتضيق وقت الغسل على الآتي إلى الجمعة.
فاما أن كان قد فعله قبل ذلك فإنه يجزئه، ولا اعادة عليه منذ قيامه ورواحه.
كمن أدى الدين الواجبٍ عليه قبل تضايق وقت أدائه، فإنه لا يؤمر بأدائه مرة آخرى بعد ذلك.
ولو اغتسل للجمعة ثم انتفض وضؤوه، فهل يستحب له اعادته، أم يكفيه الوضوء؟ فيهِ قولان:
أحدهما: يكفيه الوضوء، وهو قول عبد الرحمن بن أبزى والحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والليث والأوزاعي

(8/93)


والشافعي وأحمد.
والثاني: أنه يعيد غسله، وهو قول طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ.
وروى ابن أبي شيبة باسناده، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا يحبون لمن اغتسل يوم الجمعة أن لا يكون بينه وبين الجمعة حدثٌ. قال: وكانوا يقولون: إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حاله التي كان عليها قبل أن يغتسل.
وعن أبي يوسف، أنه بنى هذا إلاختلاف على أن الغسل هل هو لليوم أو للصلاة، فمن قال: أنه لليوم قال: يجزئه غسله، ومن قال: إنه للصلاة قال: يعيده؛ لأنه إذا توضأ فإنما شهد الصلاة بوضوء لا بغسلٍ.
وخالف الأكثرون في ذلك، وقالوا: بل شهد الصلاة بغسلٍ، لأن الحدث الموجب للوضوء ليس منافياً للغسل، وحصول النظافة به.
ولو أحدث حدثاً موجباً للغسل، مثل أن اجنب، فحكي عن الأوزاعي، أنه يعيد غسل الجمعة –أيضاً -؛ لأنه قد أتى بما يبطل الغسل.
وعن الجمهور خلافه؛ لأنه إنما أتى بما يوجب غسل الجنابة، فيكتفي به، ولا حاجة إلى إعادته لغسل الجمعة.
وقوله: ((ثم راح فكانما قرب بدنةً)) المراد: راح في الساعة الأولى؛

(8/94)


بدليل قوله: ((ومن راح في الساعة الثانية)) .
وقد خرَّجه مالكٍ في ((الموطإ)) عن سمي بهذا إلاسناد، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى.
وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعات: هل هي من أول النهار، أو بعد زوال الشمس؟ على قولين:
أحدهما: أن المراد بها أخر الساعة التي بعد زوال الشمس؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال، والغدو يكون قبله، كما قال تعالى: {?غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] .
واستدلوا –أيضاً –بالحديث الآخر: ((المهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنةٍ)) ، فجعل البدنة بالتهجر، والتهجير إنما هو إلاتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزوال.
هذا تأويل مالكٍ وأكثر أصحابه، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك.
والقول الثاني: أن المراد بالساعات من أول النهار، وهو قول الأكثرين.
ثم اختلفوا: هل أولها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟
فقالت طائفةٌ: أولها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد.
واستدلوا بقوله: ((إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الناس الأول فالأول)) - الحديث، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله تعالى.
وظاهره: أن ذلك يكون بعد طلوع الفجر.
وقالت طائفة: أولها من طلوع الشمس، وحكي عن الثوري وأبي

(8/95)


حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجحه الخطابي وغيره، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر.
ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيبٍ المالكي.
وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم.
وأما ذكر الرواح، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال، وهو رواحٌ حقيقيٌ، سميت كلها رواحاً، كما يسمى الخارج للحج والجهاد حاجاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو؛ لأن امره ينتهي إلى ذلك.
والثاني: أن الرواح هنا اريد به القصد والذهاب، مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.
قال الأزهري وغيره: الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير، أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهارٍ، يقال: راح في أول النهار وآخره، وغدا بمعناه.
وأما التهجير، فيجاب عنه، بأنه استعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير –أيضاً – لا بمعنى الخروج في الهاجرة.
وقيل: أنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هجر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.
وقد دل على استحباب التبكير من أول النهار حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكرٍ وابتكر، ودنا واستمع كان له بكل خطوة يخطوها اجر سنة

(8/96)


صيامها وقيامها)) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في
((صحيحه)) .
وحسنه الترمذي.
وله طرقٌ متعددةٌ، قد ذكرناها في ((شرح الترمذي)) .
وفي رواية للنسائي: ((

(8/97)


وغدا وابتكر)) .
وفي بعض رواياته: ((ومشى ولم يركب)) .
وظاهر الحديث: يدل على تقسيم يوم الجمعة إلى اثني عشر ساعة، وأن الخطبة والصلاة يقعان في السادسة منها.
ومتى خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها، ولم يكتب لأحدٍ فضل التبكير، وهذا يدل على أنه بعد الزوال لا يكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلية.
وظاهر الحديث: يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثني عشر ساعةً مع طول النهار وقصره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعة وعشرين ساعة؛ فإن ذَلِكَ يختلف باختلاف طول النهار وقصره.
ويدل على هذا: حديث جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه،

(8/100)


فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد
العصر)) .
خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقاتٌ.
وظاهره: يدل علي أن ساعة إلاجابة جزء من هذه إلاجزاء إلاثني عشر المتساوية في جميع فصول السنة.
وزعم بعض الشافعية: أنه ليس المراد بالساعات في التبكير الأربع والعشرون، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة.
ورد ذلك آخرون منهم، وقالوا: من جاء في أول ساعةٍ من هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلا، ولكن بدنة الأول أو بقرته أكمل مما للذي جاء في آخرها، وبدنة المتوسط متوسطةٌ.
وهذا هو الأقرب، وعليه يحمل الحديث الذي خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن
جريج، عن سميَّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا في أول ساعةٍ، فله من إلاجر مثل الجزور، وأول الساعة وآخرها سواء)) - وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرابعة، يقول: ((أولها وآخرها سواءٌ)) ، وزاد في آخر الحديث: ((ثم غفر له إذا استمع وأنصت ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
وفي هذه الرواية: ذكر الغدو إلى الجمعة،

(8/101)


والغدو يكون من أول النهار.
وقوله: ((فكأنما قرب بدنةً، فكأنما قرب بقرةً)) –إلى آخره – يدل على أن أفضل ما يتقرب به من الهدايا البدن، ثم البقر، ثم الغنم، وهو قول الجمهور، خلافاً لمالكٍ، ويذكر في موضعٍ آخر مستوفىَ –أن شاء الله تعالى.
ويدل –أيضاً - على أن الجمعة فيها شبهٌ من الحج، وقد روي في حديث ضعيف: ((الجمعةُ حجُ المساكين)) .
قال ابن المسيب: شهود الجمعة أحب الي من حجةٍ نافلةٍ.
وخرج البيهقي من حديث سهل بن سعد –مرفوعاً -: ((إن لكم في كل جمعة حجةً وعمرةً، فالحجة التهجير للجمعة، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة)) .
وقال: هو ضعيف ٌ.
وقد روي: ((إن المؤمن يصبح يوم الجمعة كالمحرم، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره حتى يصلي)) .
وقد حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر، واستدل لهما بهذا الحديث.
وقدروي من حديث علي –مرفوعاً -: أن ذلك يكون يوم الخميس، وإسناده لا يصح.
واستحب بعض أصحابنا فعله يوم الخميس؛ لذلك.
والحديث الذي ذكر فيه إلاحرام، هو بإسنادٍ مجهولٍ، عن أبي معشرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً -: ((يصبح الرجل محرماً يوم الجمعة، فلا

(8/102)


يحل حتى يصلي، فاذا جلس في مكانه حتى يصلي العصر رجع بحجةٍ وعمرةٍ)) .
وهو منكرٌ، لا يصح.
قال البيهقي: قد روي عن ابن عباسٍ – مرفوعاً – في ((المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضى الصلاة)) ، وعن ابن عمر – مرفوعاً -: ((المسلم يوم الجمعة محرمٌ، فاذا صلى فقد أحل)) ، فانما رويا عنهما باسنادين ضعيفين، لا يحتج بمثلهما.
قال: وفي الرواية الصحيحة عن ابن عمر من فعله دليلٌ على ضعف ما خالفه.
وروي من طريق ابن وهبٍ، بإسنادٍ صحيح، عن نافعٍ، أن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعةٍ.
قال: وروينا عن أبي جعفرٍ - مرسلاً -، النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن ياخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة.
وروى بإسناده، عن معاوية بن قرة: قال: كان لي عمان قد شهدا الشجرة، يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة.
وخرّج البزار في ((مسنده)) والطبراني من رواية إبراهيم بن قدامه، عن الأغر، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقلم أظفاره ويقص شاربه

(8/103)


يوم الجمعة، قبل أن يخرج إلى الصلاة.
قال البزار: لم يتابع إبراهيم بن قدامة عليه، وهو إذا انفرد بحديثٍ لم يكن حجةً؛ لأنه ليس بمشهورٍ.
قلت: وقد روي عنه، عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن أبي عاصمٍ: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمروٍ –رجلاً من بني
جمحٍ، أدخله يعقوب بن حميد بن كاسبٍ في ((مسند قريش)) في الجمحيين.
يشير إلى أنه ليس ابن العاص.
وكذا ذكر ابن عبد البر، وزاد أن في صحبته نظرا.
وفي الباب – أيضاً - من حديث ابن عباسٍ وعائشة وأنسٍ، أحاديث مرفوعة، ولا تصح أسانيدها.
وقال راشد بن سعد: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: من اغتسل يوم الجمعة واستاك وقلم أظفاره فقد اوجب.
خرَّجه حميد بن زنجويه.
وممن استحب ذلك: النخعي.
قال مكحولٌ: من قص شاربه وأظفاره يوم جمعة لم يمت من الماء الأصفر.
وقال حميدٌ الحميري من قص أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه الداء، وادخل فيه الشفاء.
وكان الإمام أحمد يفعله.
واستحبه أصحاب الشافعي وغيرهم؛

(8/104)


فإنه من كمال التنظف والتطهر المشروع في يوم الجمعة، فيكون مستحبا فيه، كالطيب والدهن، والمحرم بخلاف ذلك.
ويشهد لذلك: ما خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من فطرة إلاسلام: الغسل يوم الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب، وإعفاء اللحى؛ فإن المجوس تحفى شواربها وتحفى لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم)) .
فقرن أخذ الشارب بغسل يوم الجمعة والاستنان، وقد صح الأمر بالاستنان في يوم الجمعة –أيضاً.
* * *
5 -

(8/105)


باب

(8/106)


882 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجلٌ، فقال عمر بن الخطاب: لم تحتسبون عن الصلاة؟ فقالَ الرجل: ما هوَ إلا أن سمعت النداء، فتوضأت. فقالَ: ألم تسمعوا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا راح أحدكم إلى الجمعة
فليغتسل)) ؟ .
وخرَّجه مسلم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وسمى الداخل:
((عثمان بن عفان)) وقال في حديثه: فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟
وهذا يستدل به على إنكار الإمام علي من يتأخر إلى بعد النداء، خصوصاً إن كان من أهل الفضائل الدينية، وكذلك ينكر عليه تقصيره في إلاخلال ببعض سنن الجمعة ومندوباتها المكتوبة، كالغسل ونحوه.

(8/106)


وقد روي هذا المعنى – مرفوعاً – من وجوه:
خرّج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابرٍ، قال: دخل سليكٌ الغطفاني المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فقال له: ((أركع ركعتين، ولا تعودن لمثل هذا)) ، فركعهما، ثم جلس.
قال ابن حبان: أراد: لا تعودن إلى إلابطاء في المجيء الىالجمعة، لأن في حديث أبي سعيدٍ، أنه امره بالركعتين –أيضاً – في الجمعة الثانية.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن يسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أجلس، فقد آذيت
وآنيت)) .
وخرَّجه أبو داود والنسائي، وليس عندهما: ((وآنيت)) .
ومعنى: ((آنيت)) : ابطأت في المجيء، وأخرته عن آوانه.
وخرَّجه ابن ماجه من حديث جابر، بإسنادٍ ضعيفٍ.
وخرّج الطبراني وغيره من رواية عمر بن الوليد الشني، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جاء رجلٌ والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة،

(8/107)


فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يلهو أحدكم، حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم)) . فقال:
يا رسول الله، ما فعلت، ولكني كنت راقداً، فاستيقظت، ثم تؤضأت وجئت. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أو يوم وضوءٍ هذا؟!)) .
وعمر بن الوليد: ضعيف الحديث.
وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: اخبرني عمروٍ بن دينارٍ، عن عكرمة، أن عثمان جاء وعمر يخطب –فذكر الحديث بمعنى رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة التي خرجها البخاري هاهنا.
وهذا أصح. والله أعلم.
* * *

6 -

(8/108)


باب
الدهن للجمعة
فيه عن سلمان، وأبي هريرة:
أما حديث سلمان:
فقال:
883 -

(8/109)


ثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه – أو يمس من طيب بيته -، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ماكتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
هذا الحديث تفرد بتخريجه البخاري دون مسلمٍ؛ لاختلاف وقع في إسناده.
وقد خرَّجه البخاري هاهنا عن آدم بن أبي إياسٍ، عن ابن أبي ذئبٍ. ثم خرَّجه بعد ذلك من طريق
ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب بهذا إلاسناد –أيضاً وكذا رواه جماعةً عن ابن أبي ذئب.
ورواه بعضهم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، عن ابن وديعة، عن سلمان – لم يذكر في

(8/109)


إسناده: ((أبا سعيدٍ المقبري)) .
ورواه الضحاك بن عثمان، عن المقبري بهذا إلاسناد –أيضاً - مع إلاختلاف عليه في ذكر ((أبي سعيدٍ)) وإسقاطه.
وزاد الضحاك في حديثه: قال سعيدٌ المقبري: فحدثت بذلك عمارة بن عمرو بن حزمٍ، فقال: أوهم ابن وديعة؛ سمعته من سلمان يقول: ((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
ورواه ابن عجلان، عن سعيدٍ بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن وديعة، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
قال ابن عجلان: فذكرته لعبادة بن عامر بن عمرو بن حزمٍ، فقال: صدق،
((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، ولم يذكر آخره.
وقد روى ابن أبي حاتم - مرةً -، عن أبي زرعة، أنه قال: حديث ابن عجلان أشبه.
يعني: قوله: ((عن أبي ذر)) .
ونقل –مرةً أخرى -، عن أبيه وأبي زرعة، أنهما قالا: حديث سلمان الأصح.
وكذا قال علي بن المديني والدارقطني، وهو الذي يقتضيه تصرف البخاري.
وكذا قال ابن معينٍ: ابن أبي ذئبٍ أثبتُ في المقبري من ابن عجلان.

(8/110)


وعبيد الله بن وديعه – ويقال: عبد الله -، قال أبو حاتمٍ الرازي: الصحيح
عبيد الله.
وقال أبو زرعة: الصحيح عبد الله.
وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئبٍ، فسماه: عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو وهم منه -: قاله أبو حاتمٍ.
وقد رواه جماعةً، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: ابن جريجٍ وعبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله وغيرهم. وزاد ابن جريجٍ: وعن عمارة بن عامرٍ الأنصاري.
قال الدارقطني: ووهم في ذلك؛ إنما أراد عمارة بن عمرو بن حزمٍ، كما ذكر الضحاك.
ورواه صالحٌ بن كيسان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو زرعة وأبو حاتم: هو خطأ؛ إنما هوَ ما قاله ابن أبي ذئبٍ وابن عجلان.
ولا ريب أن الذي قالوا فيهِ: ((عن أبي هريرة)) جماعةٌ حفاظٌ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا إلاسناد؛ فإن رواية ((سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة - أو عن أبيه، عن أبي هريرة)) سلسلةٌ معروفةُ، تسبق إليها الالسن، بخلاف رواية ((سعيدٍ)) عن
أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان)) ؛ فانها سلسلةٌ غريبةٌ، لا يقولها إلا حافظ لها متقنٌ.
ورجح ابن المديني قول من

(8/111)


رواه عن سلمان، [بأن حديثه ... ] ، فإنه قدر رواه النخعي، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقوله: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة)) يؤخذ منه اختصاص الغسل بالرجال، كما هو قول أحمد، ويأتي ذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((ويتطهر ما استطاع من طهر)) ، الظاهر: أنه أراد به المبالغة في
التنظف، وإزالة الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من قص الشعر وحلق العانة ونتف إلابط؛ فإن ذَلِكَ كله طهارة.
ويدل عليهِ: ما خرَّجه البزار من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((الطهارات أربعٌ: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك)) .
وفي إسناده: معاوية بن يحيى، قال البزار: ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمروٍ بن العاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة)) . فقال رجلٌ: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قالَ:
((لا، ولكن تأخذ من شعرك،

(8/112)


وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل)) .
وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها، وأنها من تمام النسك المشروع فيها، والجمعة من جملة الأعياد، وهي عيد الأسبوع، كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام.
وقوله: ((ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته)) ، ظاهره: التخيير بين الأمرين، إما الأدهان، أو التطيب، وأن أحدهما كاف.
وقوله: ((من طيب بيته)) يشير إلى أنه ليس عليه أن يطلب ما لا يجده، بل يجتزئ بما وجده في بيته.
والأدهان: هو دهن شعر الرأس واللحية مع تسريحه، وهو الترجل، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شمط مقدم رأسه ولحيته فكأن إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر الرأس واللحية - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعمل الطيب في شعره.
وقد خرّج البخاري في ((كتابه)) هذا من حديث ربيعة، قال: رأيت شعراً من شعره – يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحمر، فسألت عنه، فقيل لي: أحمر من الطيب.

(8/113)


وخرّج البزار في ((مسنده)) من حديث ابن عقيل، عن أنس، أن عمر بن
عبد العزيز سأله عن خضاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال له: اني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: ((ثم يخرج)) يشير إلى أنه يفعل ذلك كله في بيته قبل خروجه، ثم بعد ذلك يخرج إلى المسجد.
وقوله: ((فلا يفرق بين أثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم
الإمام)) .
يأتي الكلام على هذه الثلاثة فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((إلاّ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) . والمراد بذلك: الصغائر؛ بدليل ما خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .
وفي حديث عمارة بن عمروٍ بن حزم، عن سلمان: ((وزيادة ثلاثة أيام)) .
وخرج مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، فصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة إلاخرى، وفضل ثلاثة أيام)) .
وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، وجعل ذكر الثلاثة من قول أبي هريرة، قال: وكان أبو هريرة يقول: ((وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ إن

(8/114)


الله جعل الحسنة بعشر أمثالها)) .
وأما حديث ابن عباسٍ:
فقال:
884 -

(8/115)


ثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: قال طاوسٌ: قلت لابن عباسٍ: ذكروا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وان لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب)) ؟ قال ابن عباسٍ: أما الغسل، فنعم، وأما الطيب، فلا أدري.

(8/115)


885 - حدثنا إبراهيم بن محمد بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريجٍ أخبرهم، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، أنه ذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغسل يوم الجمعة، فقلت لابن عباسٍ: أيمس طيبا، أو دهناً، إن كان عند أهله؟ فقال: لا أعلمه.
مضمون هذا: أن ابن عباسٍ روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل للجمعة، وأنه لم يكن عنده من ذكر الطيب والدهن علمٌ، فيحتمل أنه نفى أن يكون يعلم ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أنه نفى أن يكون ذلك مستحباً بالكلية؛ فإنه إذا لم يكن عنده عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء، فإنه يقتضي التوقف في استحبابه.
وفي سماع الزهري لهذا الحديث من طاوسٍ نظرٌ، ولعله بلغه عنه؛ فإنه كانَ كثير الإرسال.
* * *
7 -

(8/115)


باب
يلبس أحسن ما يجد

(8/116)


886 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلةً سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخره)) - وذكر بقيه حديث.
وقد خرَّجه بتمامه في ((اللباس)) وغيره.
والمقصود منه هاهنا: أنّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقر عمر على ما ذكره من التجمل بحسن اللباس للجمعة والظاهر: أن ذلك كان عادته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلهذا قال له عمر ما قال وإنما امتنع من هذه الحلة لإنها كانت حريراً خالصاً أو أكثرها حريرٌ وقد قيل: أن السيراء نوعٌ من البرود، يخالطة حريرٌ، سمي سيراء لتخطيطٍ فيه، والثوب المسير الذي فيه سيرٌ، أي: طرائق.
وقال الخطابي: الحله السيراء هي المضلعة بالحرير، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور.

(8/116)


وفي حديث عبد الله بن وديعه عن أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((من اغتسل يوم الجمعه فأحسن الغسل، ثم لبس من صالح ثيابه)) - وذكر بقيه الحديث.
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وقد سبق ذكره.
وخرّج أبو داود معناه من حديث أبي هريره وأبي سعيدٍ وعبد الله بن عمروٍ بن العاص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج – أيضاً - من حديث يوسف بن سلام أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر
((ما على أحدكم إن وجد ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته)) .
وفي روايةٍ له: عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرَّجه ابن ماجه وعنده: يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرَّجه – أيضاً - من حديث عائشه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسنادٍ ضعيفٍ.
وخرَّجه البيهقي من روايه حجاج بن أرطاة، عن أبي جعفرٍ، عن جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة.

(8/117)


كذا رواه حفص بن غياثٍ عن حجاجٍ.
ورواه هشيم عن حجاج عن أبي جعفرٍ – مرسلاً - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم يوم العيدين.
خرَّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) .
وكذا خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن جريحٍ، عن جعفرٍ، عن أبيه – مرسلاً.
وهذا المرسل أشبه.
وخرّج الطبراني من رواية سعد بن الصلت، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه عن علي بن حسينٍ عن ابن عباسٍ قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبس يوم العيد بردة حمراء.
وهذا إلاسناد غير محفوظٍ.
وخرّج الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((حقٌ على كل محتلمٍ الغسل يوم الجمعه، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيبٌ مس منه)) .
كذا رواه فليحٌ، إنما رواه أبو بكرٍ بن المنكدر، عن عمرو بن سيلمٍ، عن أبي سعيدٍ.
وقد خرَّجه البخاري فيما تقدم بغير هذا اللفظ.

(8/118)


ولا خلاف بين العلماء – فيما نعلمه - في استحباب لبس الثياب أجود الثياب لشهود الجمعة والأعياد.
وروى وكيعٌ في ((كتابه)) عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت أشياخ الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانَ يوم الجمعه اغتسلوا، ولبسوا أحسن ثيابهم، وتطيبوا بأطيب طيبهم، ثُمَّ راحوا إلى الجمعة.
* * *
8 -

(8/119)


باب
السواك يوم الجمعة
وقال أبو سعيدٍ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يستن.
حديث أبي سعيدٍ قد خرَّجه فيما سبق في ((باب: الطيب للجمعة)) ولفظه
((الغسل يوم الجمعة واجبٍ على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .
قال عمروٍ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ وأما الطيب وإلاستنان فالله أعلم.
وهذا مما استدل به جمهور العلماء على أن المراد بالوجوب هاهنا: تأكد الاستحباب؛ لأنه قرنه بما ليس بواجبٍ اجماعاً وهو الطيب والسواك.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة وأبي أمامة بن سهلٍ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ، قالا: سمعنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة، واستن، ومس من طيب – إن كانَ عنده – ولبس أحسن ثيابه ثُمَّ جاء إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثُمَّ ركع ما شاء الله أن يركع ثُمَّ انصت إذا خرج إمامه حتَّى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة التي كانت
قبلها)) . يقول أبو هريرة: وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ لأن الله قد جعل الحسنة بعشر أمثالها.

(8/120)


وفي إسناده اختلافٌ.
وروى مالكٍ في ((الموطإ)) عن ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال – في جمعة من الجمع -: ((يا معشر المسلمين، أغتسلوا، ومن كان عنده طيبٌ فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) .
وقد روي عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمرسل: هو الصحيح.
ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن ابن
عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه ابن ماجه.
ولا يصح –أيضاً -، والصحيح: رواية مالكٍ.
ويدل عليه: إنكار ابن عباسٍ للطيب، كما سبق عنه.
وخرّج الإمام أحمد من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجلٍ من الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويتسوك، ويمس من طيب أن كان لاهله)) .

(8/121)


وخرَّجه بهذا إلاسناد موقوفاً –أيضاً.
وروي –أيضاً – عن ثوبان، عن أبي سعيدٍ الخدري – مرفوعاً.
وروي عن ابن ثوبان، عن رجلٌ، عن أبي سعيدٍ الخدري –مرفوعاً وموقوفاً.
وعن أبي زرعة وأبي حاتمٍ: أن الموقوف أصح.
خرّج البخاري في هذا الباب أحاديث ثلاثة، في السواك للصلاة، ولكن لا اختصاص لها بالجمعة:
الحديث الأول:
887 -

(8/122)


ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لولا أن أشق على أمتي –أو على الناس – لأمرتهم بالسواك مع كل صلاةٍ)) .
وفيه: دليلٌ على أن الحرج والمشقة مرفوعاًن عن هذه الأمة، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وقد سبق ذكر ذلك في تأخير عشاء الآخرة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب تأخيرها، ولولا المشقة على أمته لجعل وقتها ثلث الليل أو نصفه.
وفيه: دليل على أن السواك ليس بفرض كالوضوء للصلاة، وبذلك قال جمهور العلماء، خلافاً لمن شذ منهم من الظاهرية.

(8/122)


وقد حكي عن إسحاق، أنه لو تركه عمداً اعاد الصلاة. وقيل: أنه لا يصح عنه.
وهذا الحديث: نص على أنه غير واجبٍ على الأمة؛ فإن المراد: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك أمر فرضٍ وأيجابٍ، لا أمر ندبٍ واستحبابٍ؛ فإنه قد ندب اليه واستحبه، ولكن لم يفرضه، ولم يوجبه.
وقد صرح بذلك في حديث آخر:
خرَّجه الإمام أحمد من حديث تمام بن العباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك، كما فرضت عليهم الوضوء)) .
وخرّج ابن أبي شيبة نحوه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويروى نحوه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي الحديث: دليل على استحباب السواك مع كل صلاةٍ، فدخل في ذلك صلاة الجمعة وغيرها.
والسواك مع الصلاة نوعان:
أحدهما: السواك مع الوضوء للصلاة، وقد سبق ذكره في ((الطهارة)) .

(8/123)


والثاني: السواك للصلاة عند القيام إليها.
وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث زيد بن خالدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل
صلاةٍ)) فكأن زيد بن خالدٍ يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى صلاةٍ إلا استن، ثم رده إلى موضعه.
وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
وهذا مذهب الشافعي وأصحابنا.
وروى أبو يحيى الحماني، عن أبي سعدٍ، عن مكحولٍ، عن واثلة بن الأسقع، قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يربطون مساويكهم بذوائب سيوفهم، فاذا حضرت الصلاة استاكوا، ثم صلوا.
خرَّجه البيهقي في ((صلاة الخوف)) من ((سننه)) .
وقال: أبو سعدٍ البقال، غير قوي.
وقد أنكر طائفة من العلماء السواك عند إرادة الصلاة المفروضة في المسجد، وقالوا: ليس فيه نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل للتهجد في بيته.
وحكي عن مالكٍ، أنه يكره السواك في المساجد،

(8/124)


والذي رأيناه في ((تهذيب المدونة)) : أنه يكره أن يأخذ المعتكف من شعره أو أظفاره في المسجد، وإن جمعه
وألقاه؛ لحرمة المساجد.
وقد روي عن عثمان بن عفان، أنه كانَ يخطب يوم الجمعة، فذكر أنه لم
يستك، فنزل فاستاك.
وهذا يدل على أنه إنما نزل ليستاك خارج المسجد، وأنه رأى السواك في الجمعة عند الوضوء لا عند الصلاة.
وخرج الحاكم في ((أماليه)) من رواية أبي ايوب الأفريقي، عن صالح بن أبي
صالح، أظنه عن أبيه، عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك.
وهذا غريبٌ.
ويستدل به: على أنه إنما كان يستاك في بيته قبل خروجه إلى المسجد.
الحديث الثاني:
888 -

(8/125)


نا أبو معمر: نا عبد الوارث: نا شعيب: نا أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قد أكثرت عليكم في السواك)) .
المراد بإكثاره عليهم في السواك: كثرة حثهم عليه؛ وترغيبهم فيهِ، بذكر فضله.

(8/125)


وقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((السواك مطهر للفم، مرضاة للرب)) .
وقد علقه البخاري في موضع آخر، ويأتي في موضعه –إن شاء الله تعالى.
وقدروي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه أكثر عليه في امره بالسواك:
ففي ((مسند الإمام أحمد)) من رواية إبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن
عباسٍ. أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يوحى الي فيه)) .
التميمي، اسمه: أربد، ويقال: أربدة.
ومن حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يكتب علي)) .
وفي إسناده: ليث بن أبي سليمٍ.
ويستدل به: على أن السواك لم يكن واجباً على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قيل: إنه كان واجباً عليه.
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، أن

(8/126)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهرٍ، فلما شق ذلك على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء، إلا من حدثٍ.
وخرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم.
وقال: على شرط مسلم.
وليس كما قال.
وخرَّجه البزار في ((مسنده)) ، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالوضوء عند كل صلاةٍ، فلما شق عليهم أمر بالسواك عند كل صلاة.
وقد روي من حديث عنبسة - مرفوعاً - أن السواك كان عليه فريضةً، وهو لأمته تطوعٌ.
خرَّجه الطبراني.
ولا يصح إسناده. والله أعلم.
الحديث الثالث:
889 -

(8/127)


نا محمد بن كثير: نا سفيان، عن منصور وحصين، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه.
قد سبق هذا الحديث في ((الطهارة)) من رواية جريرٍ، عن منصورٍ وحده، وسبق الكلام على معناه مستوفى.
* * *
9 -

(8/127)


بابٌ
من تسوك بسواك غيره

(8/128)


890 - حدثنا إسماعيل: حدثني سليمان بن بلال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، ومعه سواكٌ يستن به، فنظر اليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فاعطانيه، فقصمته، ثم مضغته، فاعطيته رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستن به، وهو مستند إلى صدري.
يروي: ((فقصمته)) بفتح الصاد المهملة، أي: كسرته، فأبنت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن، والقصأمة: ما يكسر من رأس السواك.
هذا هو الذي ذكره الخطابي، وقال: أصل القصم: الدق.
ويروى: ((فقصمته)) ، بكسر الضاد المعجمة، من القضم، وهو العض بالأسنان، ومنه: الحديث: ((فيقضمهما كما يقضم الفحل)) .
[ ... ] الإستياك بسواك غيره في ((باب: دفع السواك إلى الأكبر)) من ((كتاب

(8/128)


الطهارة)) فأغنى عن إعادته هاهنا.
وفي الحديث: دليلٌ على أن إلاستياك سنةٌ في جميع الأوقات، عند إرادة الصلاة وغيرها، فإن استياك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا السواك كان في مرض موته عند خروج نفسه، ولم يكن قاصداً حينئذ لصلاةٍ ولا تلاوة.
وقد قيل: إنه قصد بذلك التسوك عند خروج نفسه الكريمة؛ لأجل حضور الملائكة الكرام، ودنوهم منه لقبض روحه الزكية الطاهرة الطيبة.
وقد أمر سلمان الفارسي –رضي الله عنه – امرأته عند احتضاره أن تطيب موضعه بالمسك؛ لحضور الملائكة فيه، وقال: أنه يزورني أقوام، يجدون الريح، ولا يأكلون الطعام –أو كما قال.
* * *
10 -

(8/129)


باب
ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة

(8/130)


891 - حدثنا أبو نعيمٍ ومحمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن –هو: ابن هرمز -، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .
هذا الحديث خرَّجه البخاري هاهنا، وفي ((سجود القرآن)) .
في أحدهما: خرَّجه عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان –هو: الثوري.
وفي الآخر: عن أبي نعيمٍ، عن سفيان.
وفي رواية محمد بن يوسف زيادة: ذكر السجدة.
ففي بعض النسخ في هذا الباب: رواية محمد بن يوسف، وفي الآخر: رواية أبي نعيمٍ، وفي بعضها - في الموضعين: - عن محمد بن يوسف.
وإلاول: أصح. والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في ((مستخرجه)) : أن البخاري خرَّجه في هذا الباب، عن أبي نعيمٍ.

(8/130)


وقد رواه يحيى القطان، عن سفيان، فقال في حديثه: وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] .
خرَّجه من طريقه إلاسماعيلي في ((صحيحه)) .
والظاهر: أن ذلك وهمٌ منه.
وقد روي هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولم يخرجه البخاري إلاّ من هذا الوجه.
وخرَّجه مسلم منه، ومن حديث ابن عباسٍ –أيضاً.
وقوله: ((كان يقرأ)) يدل على تكرر ذلك منه، ومداومته عليه.
وقد روي، أنه كان يديم ذلك:
خرَّجه الطبراني من طريق عمروٍ بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرا في صلاة الصبح يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .
يديم ذلك.
ورواته كلهم ثقاتٌ، إلا أنه روي عن أبي إلاحوص مرسلاً.
وإرساله أصح عند البخاري وأبي حاتم والدارقطني.

(8/131)


وقد خرَّجه ابن ماجه من وجه أخر عن أبي الأحوص، عن عبد الله، موصولاً –أيضاً -، بدون ذكر المداومة.
وقد اختلف العلماء في قرءاة سورةٍ معينةٍ في صلاةٍ معينةٍ.
فكرهة طائفة، وحكي عن أبي حنيفة ومالك.
ولم يكرهه الأكثرون، بل استحبوا منه ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وممن استحب قراءة سورة {آلم} سورة السجدة و {هلْ أَتَى} في صلاة الفجر يوم

(8/132)


الجمعة: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث.
وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عليٌ وابن عباسٍ وأبو هريرة.
ثم اختلفوا: هل يستحب المداومة على ذلك في كل جمعةٍ؟
فقال بعضهم: لا يستحب ذلك، بل يستحب فعله أحياناً، وهو قول الثوري وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق.
وعللا بأنه يخشى من المداومة عليه اعتقاد الجهال وجوبه، وان صلاة الفجر يوم الجمعة فيها زيادة سجدة، أو أنها ثلاث ركعات، ونحو ذلك مما قد يتخيله بعض من هو مفرطٌ في الجهل.
وقال الأكثرون: بل يستحب المداومة عليه، وهو قول الشافعي، وسائر من سمينا قوله.
وهو ظاهر ما نقله اسماعيل بن سعيدٍ الشالنجي عن أحمد؛ فإنه قالَ: سألته عن القراءة في الفجر يوم الجمعة؟ فقال: نراه حسناً، أن تقرأ {آلم تنزيل} السجدة،
و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .
ورجحه بعض أصحابنا، وهو الأظهر.
وكان السلف يداومون:
قال الأعرج: كان مروان وأبو هريرة يقرءان في صلاة الصبح بـ {آلم تنزيل} سورة السجدة و {هلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .
وقال الشعبي: ما شهدت ابن عباسٍ قرأ يوم الجمعة إلا {تنزيل} و {هلْ أَتَى} [الإنسان:1] .
خرَّجه ابن أبي شيبة.
واعتقاد فرضية ذلك بعيدٌ جداً، فلا يترك لأجله السنة الصحيحة، واتباع عمل الصحابة.
وكان كثيرٌ من السلف يرى أن السجدة مقصودةٌ قراءتها في فجر يوم الجمعة:

(8/133)


قال سعيدٍ بن جبيرٍ: ما صليت خلف ابن عباسٍ يوم الجمعة الغداة إلا قرأ سورة فيها سجدةً.
وعن ابن عوان، قال: كانوا يقرءون يوم الجمعة سورة فيها سجدةٌ، قال: فسألت محمداً –يعني: ابن سيرين -، فقال: لا أعلم به بأساً.
وعن النخعي، أنه صلى بهم يوم جمعة الفجر، فقرأ بـ {كهيعص} [مريم:1] .
خرج ذلك ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
ونقل حربٌ، عن إسحاق، قال: لا بأس أن يقرأ الإمام في المكتوبة سورة فيها سجدةٌ، وأحب السور الينا {آلم تزيل} السجدة، {هلْ أَتَى} [إلانسان:1] ، ويقرأ بهما في الجمعة، ولابد منهما في كل جمعة، وان أدمنهما جاز.
وهذا يدل على أنه يستحب قراءةٌ فيها سجدةٌ، وافضلها {آلم تنزيل} .
وروى أبو بكرٍ بن أبي داود باسناده، عن ابن عباسٍ، قال: غدوت على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم جمعة في صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأخيرة سورةً من المئين فيها سجدةٌ، فسجد فيها.
وقد روي عن أحمد ما يشهد لهذا –أيضاً -، وأن السجدة مقصودة في صلاة الفجر يوم الجمعة؛ فإن أبا جعفر الوراق روى، أن أحمد صلى

(8/134)


بهم الفجر بوم الجمعة، فنسي قراءة آية السجدة، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو.
قال القاضي أبو يعلى: إنما سجد للسهو، لأن هذه السجدة من سنن الصلاة، بخلاف بقية السجداًت في الصلاة؛ فإنها من سنن القراءة.
وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية: أن تعمد قراءة سورة سجدة غير {آلم تنزيل} في فجر الجمعة بدعةٌ، وقد تبين أن الأمر بخلاف ذلك.
وقدصلى الإمام أحمد صلاة الفجر يوم الجمعة بـ {آلم} السجدة، وسورة
{عبس} ، وهذا يدل –أيضاً - على أن ابدال {هلْ أَتَى} بغيرها غير مكروه.
وفي هذه الصلاة نسي قراءة السجدة، وسجد سجدتي السهو، وهو يدل على أن من نسي أن يسجد في صلاته للتلاوة لم يعد السجود بعد فراغه من الصلاة، وقد صرح به أصحابنا.
قال القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) : ظاهره: أن من نسي سجود التلاوة سجد للسهو، كما إذا نسي دعاء القنوت.
قال: ولا يلزم على هذا بقية سجود التلاوة في غير صلاة؛ لأنه يحتمل أن يقال فيه مثل ذلك، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن الحث والترغيب وجد في هذه السجدة اكثر، وهو مداومة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقراءتها. انتهى ما ذكره.
والتحقيق في الفرق: ما ذكره في موضعٍ آخر: أن السجدة في فجر يوم الجمعة من سنن الصلاة، فهي كقنوت الوتر، وفي غيرها من سنن القراءة التي لا تختص بالصلاة.

(8/135)


وممن قال: إن من نسي السجود للتلاوة في صلاته سجد للسهو إذا قضى صلاته: حمادٌ وابن جريجٍ -: ذكره عبد الرزاق عنهما في ((كتابه)) ، ولم يفرق بين سجدة يوم الجمعة وغيرها، ويحتمل أن مذهبهما وجوب سجود التلاوة، فيجبره إذا نسيه بسجود السهو.
ومذهب مالكٍ: أن نسي سجودها في الركعة الأولى من النافلة حتَّى يرفع رأسه من ركوعه، قالَ: فأحب الي أن يقرأها في الثانية، ويسجدها، ولا يفعل ذَلِكَ في الفريضة، وإن ذكرها وهو راكعٌ في الثانية من النافلة تمادى، ولا شيء عليهِ، إلا أن يدخل في نافلة اخرى، فإذا قام قرأها وسجد.
ذكره في ((تهذيب المدونة)) ، ولم يذكر لذلك سجود سهوٍ.
وعند أصحاب الشافعي: إذا نسي سجود التلاوة حتَّى سلم، فإن لم يطل الفصل سجد للتلاوة بعد سلامه، وان طال ففي قضاء السجود لهم قولان.
وأما من أوجب السجود للتلاوة، فقالَ سفيان فيمن قرأ سجدةً، فركع ناسياً، فذكر في آخر صلاته: سجدها، ثُمَّ ركع.
* * *

11 -

(8/136)


باب
الجمعة في القرى والمدن
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
892 -

(8/137)


نا محمد بن المثنى: نا أبو عامرالعقدي: نا إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباسٍ، قال: أن أول جمعة جمعت في الأسلام –بعد جمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.
قد ذكرنا هذا الحديث في أول ((كتاب الجمعة)) ، وذكرنا بعض الأختلاف في إسناده ومتنه، وأن معناه: أنه لم يجمع في الأسلام بعد التجميع بالمدينة إلا في مسجد عبد القيس بالبحرين، فكأن أول بلدٍ أقيمت الجمعة فيه المدينة، ثم بعدها قرية جوثاء بالبحرين.
وهذا يدل على أن عبد القيس أسلموا قبل فتح مكة، وجمعوا في

(8/137)


مسجدهم، ثم فتحت مكة بعد ذلك، وجمع فيها.
والمقصود: أنهم جمعوا في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قرية جواثاء، وإنما وقع ذلك منهم باذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره لهم؛ فإن وفد عبد القيس أسلموا طائعين، وقدموا راغبين في إلاسلام، وسألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مهمات الدين، وبين لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قواعد إلايمان وأصوله، وقد سبق ذكر حديثهم في ((كتاب الإيمان)) .
فيدل ذلك على جواز إقامة الجمعة بالقرى، وأنه لا يشترط لإقامة الجمعة المصر الجامع، كما قاله طائفة من العلماء.
وممن ذهب إلى جواز إقامة الجمعة في القرى: عمر بن عبد العزيز وعطاءٌ ومكحولٌ وعكرمة والأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروى القناد، عن سفيان نحوه.
وكان ابن عمر يمر بالمياه بين مكة والمدينة، فيرى أهلها يجمعون، قلا يعيب عليهم.
ذكره عبد الرزاق، عن العمري، عن نافعٍ، عنه.
وروى ابن المبارك، عن أسامة بن زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: لا

(8/138)


جمعة في سفر، ولا جمعة إلا في مصر جامع.
وهذا –مع الذي قبله – يدل على أنه أراد بالمصر القرى.
وروى الأثرم بإسناده، عن أبي ذر، أنه كان يجمع بالربذة مع الناس.
وقالت طائفة: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والثوري – في المشهور عنه – وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
وقال الحسن وابن سيرين: لا جمعة إلا في مصرٍ.
وقد روي عن علي خلاف ذلك، روى وكيعٌ، عن قيس بن الربيع، عن طالب بن السميدع، عن أبيه، أن علياً جمع بالمدائن.
وعن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، أن حذيفة جمع بالمدائن.
وعن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: كتبت إلى عمر بن الخطاب أسأله عن الجمعة بالبحرين، فكتب الي: أن اجمعوا حيثما كنتم.
قال الإمام أحمد: هذا إسنادٌ جيدٌ.
وروى وكيعٌ باسناده، عن النخعي، أنه جمع بحلوان.

(8/139)


وهذا كله يدل على أن من قال: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، فإنه أراد بذلك القرى التي فيها والٍ من جهة الإمام، فيكون مراده: أنه لا جمعة إلا بإذن الإمام في مكان له فيه نائب يقيم الجمعة بإذنه.
وبذلك فسره أحمد في روايةٍ عنه.
وكذلك روى عن محمد بن الحسن –صاحب أبي حنيفة - تفسير المصر: أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا له لإقامة الحدود، فهو مصرٌ، فلو عزله ألحق بالقرى.
وروي نحوه عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة –أيضاً.
قال أحمد: المصر إذا كان به الحاكم، ولا يقال للقرى: مصرٌ.
وقال إسحاق: كل قرية فيها أربعون رجلاً يقال لها: مصرٌ.
وهذا بعيدٌ جداً.
وعن سفيان روايتان في تفسير المصر:
إحدهما: أنه كل مصرٍ فيه جماعةً وإمامٌ.
والثانية - نقلها عنه ابن المبارك -: أن المصر الجامع ما عرفه الناس أنه جامعٌ.
وقال عمرو بن دينارٍ: سمعنا: أن لا جمعة إلا في قريةٍ جامعةٍ.
وعنه، قال: إذا كان المسجد تجمع فيه الصلوات فلتصل فيه الجمعة.
وقد تقدم حديث كعب بن مالك، أن أول جمعةٍ جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم من حرة بني بياضة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع أول ما

(8/140)


قدم المدينة في مسجد بني سالم.
وهذه كلها في حكم القرى خارج المدينة.
الحديث الثاني:
893 -

(8/141)


نا بشر بن محمد: أنا عبد الله بن المبارك: أنا يونس، عن الزهري، قال: أخبرني سالمٌ، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((كلكم راع)) .
وزاد الليث: قال يونس: كتب رزيق بن حكيم الىابن شهابٍ، وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل ترى أن أجمع؟ ورزيقٌ عاملٌ على أرض يعملها، وفيها جماعةً من السودان وغيرهم، ورزيقٌ يومئذ عاملٌ على أيلة، فكتب ابن شهاب - وأنا اسمع - يامره أن يجمع، يخبره أن سألما حدثه، أن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، الإمام راع ومسول عن رعيته)) –وذكر بقية الحديث.
والمقصود منه: أن الزهري استدل بهذا الحديث –في رواية الليث، عن يونس، عنه، التي ذكرها البخاري تعليقاً – على أن الأمير في البلدان

(8/141)


والقرى – وإن لم يكن من الأمصار الجامعة – أن يقيم الجمعة لأهلها، لأنه راع عليهم، ومسئول عنهم، ومما يجب عليه رعايته: أمر دين رعيته، واهمه الصَّلاة.
وقال الخطابي: فيه دليلٌ على جواز إقامة الجمعة بغير سلطانٍ.
وفيما قاله نظر؛ وابن شهابٍ إنما استدل به على أن نائب السلطان يقيم الجمعة لأهل بلدته وقريته، وان لم يكن مصراً جامعاً، ولا يتم إلاستدلال بذلك حتَّى يقوم دليل على جواز اقأمة الجمعة في غير الأمصار الجامعة، وإلا فاذا اعتقد الإمام أو نائبة أنه لا جمعة إلا في مصر جامع، ولم يقم الجمعة في قريته وبلدته الصغيرة؛ فإنه لا يلام على
ذلك، ولا يأثم أهل قريته وبلدته بترك الجمعة في هذه الحال.
قال أحمد - في الإمام إذا لم يول عليهم من يصلي بهم الجمعة -: ليس عليهم في ذلك إثمٌ.
وروى حجاج بن أرطاة، عن الزهري، قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ناس من أهل المياه، بين مكة والمدينة، أن يصلوا الفطر والأضحى، وأن يجمعوا.
خرَّجه حربٌ الكرماني وغيره.
وهو مرسلٌ ضعيفٌ، وحجاجٌ مدلسٌ، ولم يسمع من الزهري.
* * *
12 -

(8/142)


باب
هل على من لم يشهد الجمعة غسلٌ من النساء والصبيان وغيرهم؟
وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة.
مراده: أن من لا يلزمه شهود الجمعة من النساء والصبيان وغيرهم كالمسافرين، هل عليهم غسلٌ، أم لا؟
والمعنى: هل يلزمهم الغسلٌ على قول من يرى الغسلٌ واجباً، أو يستحب لهم على قول من يراه مستحباً؟
وقد ذكر عن ابن عمر –تعليقاً -، أنه قالَ: إنما الغسلٌ على من تجب عليهِ
الجمعة.
وروى وكيعٌ: نا خالج بن عبد الرحمن بن بكيرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: إنما الغسلٌ على من أتى الجمعة.
يعني: ليس على النساء جمعةٌ.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن سالمٍ ونافعٍ، أن ابن عمر كان لا يغتسل في السفر يوم الجمعة.
وإنما ذهب ابن عمر إلى هذا، تمسكاً بما رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) ، فحمله على أن المراد: من لزمه إتيان الجمعة

(8/143)


فليغتسل، وهو أعلم بما روى، وأفهم له.
وقد فهم آخرون منه أنه: من أراد إتيان الجمعة فلغتسل، سواء كان إتيانه للجمعة واجباً عليه، أو غير واجبٍ، وأما من لم يرد إتيانها كالمسافر والمريض المنقطع في بيته، ومن لا يريد حضور الجمعة من النساء والصبيان، فلم يدل الحديث على غسل أحدٍ
منهم.
وقد ذهب إلى أنهم يغتسلون للجمعة طائفةٌ من العلماء، فصارت إلاقوال في المسألة ثلاثةٌ:
اما اختصاص الغسلٌ بمن تلزمه الجمعة.
أو بمن يريد شهود الجمعة، سواءٌ لزمته، أو لا.
وأما أنه يعم الغسلٌ كل مكلف يوم الجمعة، سواءٌ أراد شهودها، أو لم يرده.
والقول الأول -: وجه لأصحابنا، وهوظاهر اللفظ الذي ذكره البخاري عن ابن عمر –تعليقاً -، وتبويب البخاري يدل على اختياره.
والثاني -: هو قول الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أن أحمد استثنى منه المرأة خاصة، الحاقا لغسلٌها بتطيبها، وهي منهيةٌ عنه إذا حضرت المسجد.
واستحبه الآخرون، وبعض أصحاب أحمد، حيث لم يكن خروجها للجمعة مكروهاً.
وقال عطاءٌ والشعبي: ليس على المسافر غسلٌ يوم الجمعة.

(8/144)


وأما القول الثالث -: فهو قول طائفة من العلماء، أن كان من أهل وجوب الجمعة، وإن كان له عذر يمنع الوجوب؛ فإنه يغتسل يوم الجمعة، مريضاً كان أو مسافراً، أو غير ذلك.
وروي عن طلحة بن عبيد الله ومجاهدٍ وطاوسٍ وسعيدٍ بن جبير، وهو قول إسحاق وأبي ثورٍ، ووجهٌ للشافعية.
ولهم وجه آخر: يسن لكل أحدٍ، مكلفاً كان بها أو غير مكلف، كفسل العيد، لما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل في سبعة أيامٍ يوماً)) ، وسيأتي ذكره.
وروى الحسن، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاه بثلاثٍ، لا يدعهن في حضرٍ ولا سفرٍ، فذكر منها: ((والغسلٌ يوم الجمعة)) .
خرَّجه الإمام أحمد.
والحسن، لم يسمع من أبي هريرة، على الصحيح عند الجمهور.
والمعروف: حديث وصية أبي هريرة بثلاثٍ، ليس فيها: ((غسلٌ الجمعة)) ، كما يأتي في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

(8/145)


واستدل الأكثرون بقوله: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) .
وفي رواية: ((إذا أراد أن يأتي الجمعة فلغتسل)) .
وبأن الغسل مقرونٌ بالرواح إلى الجمعة في غير حديث، وهذا مقيد، فيقضي على المطلق.
ولأنه شرع للنظافة؛ لئلا يؤذي الحاضرون بعضهم بعضاً بالرائحة الكريهة، وهذا غير موجود في حق من لا يحضر الجمعة.
خرج في هذا الباب خمسة أحاديث:
الحديث الأول:
894 -

(8/146)


نا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: حدثني سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من جاء منكم الجمعة فليغتسل)) .
لما كان الخطاب في هذا للرجال لمن جاء منهم الجمعة، دل على أنه لا غسل على من لا يأتي منهم الجمعة، كالمسافر والمريض والخائف على نفسه، ولا على من ليس من الرجال، كالنساء والصبيان؛ فإن الصبيان لا يدخلون في خطاب التكليف.
الحديث الثاني.

(8/146)


895 - حديث: أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ((غسلٌ يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ)) .
خرَّجه: عن القعنبي، عن مالكٍ.
وقد سبق إسناده.
ويستدل به على أن من لم يبلغ الحلم فلا غسلٌ عليه.

الحديث الثالث:
896 -

(8/147)


نا مسلم بن إبراهيم: نا وهيبٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نحن الآخرون السابقة يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، وهدانا الله اليه، فغداً
لليهود، وبعد غد للنصارى)) .
897 -

(8/147)


فسكت، ثم قال: ((حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام
يوماً، يغسلٌ فيه رأسه وجسده)) .
898 -

(8/147)


رواه أبان بن صالح، عن مجاهدٍ، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الله تعالى على كل مسلم حق: أن يغتسل في كل

(8/147)


سبعة أيام يوماً)) .
إنما ذكر رواية أبان بن صالح المعلقة؛ ليبين أن آخر الحديث –وهو: ذكر الغسلٌ –مرفوع إلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لئلا يتوهم أن القائل: ((حقٌ على كل مسلمٍ)) في آخر حديث وهيبٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه -: هو أبو هريرة، وأنه مدرج في آخر الحديث.
وقد خرج مسلمٌ في ((صحيحه)) ذكر الغسلٌ من طريق وهيبٍ، وصرح برفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وتوهم آخرون: أن ذكر الغسل في آخر الحديث مدرج من قول أبي هريرة.
قال الدارقطني: رفعه أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ: عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، واختلف عن عمروٍ بن دينار: فرفعه عمر بن قيس، عنه. وقيل: عن شعبة، عنه –مرفوعاً. وقيل: عنه –موقوفٌ. ورواه ابن جريجٍ وابن عيينة، عن عمروٍ - موقوفاً. وكذلك رواه إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس –موقوفاً، وروي عن ابن جريجٍ، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس –مرسلاً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحيح الموقوف على أبي هريرة. انتهى.

(8/148)


ولم يذكر رواية وهيبٍ المخرجة في ((الصحيحين)) .
وكذا رواه أبو الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.
ورواه داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر –مرفوعاً -: ((على كل رجلٍ مسلمٍ في كل سبعة أيامٍ غسل)) ، وهو يوم الجمعة.
خرَّجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .
وقال أبو حاتم الرازي: هو خطأ، إنما هو –على ما رواه الثقات -: عن أبي الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.
وهذا الحديث هو الذي استدل به من قال: إن غسل الجمعة يكون لليوم لا لشهود الجمعة، فيغتسل من حضر الجمعة، ومنلم يحضرها، كما سبق ذكره عنهم.
واستدل بع بعضهم على أن الغسلٌ للأسبوع، لا لخصوص يوم

(8/149)


الجمعة، وأن من اغتسل في الأسبوع مرةً كفاه من غسلٌ الجمعة.
نقل حربٌ، عن إسحاق، قال: إن كان مغتسلاً سبعة أيام مرةً، فجاء يوم الجمعة، وقدكان غسلٌ رأسه واغتسل في كل سبعة أيامٍ مرةً جاز له ترك غسلٌ يوم الجمعة؛ قال ذلك ابن عباسٍ ومن بعده، أنهم كانوا يؤمرون بغسل رءوسهم وأجسادهم في كل سبعة أيام مرةً، فحول الناس إلى يوم الجمعة.
وقوله: ((يغسل رأسه وجسده)) يشير إلى أنه يعم بدنه بالغسل، فإن الرأس إلى الغسلٌ [ ... ] لشعره، وقد كانت لهم شعورٌ في رءوسهم.
وعلي مثل هذا حمل طائفةٌ من العلماء قوله ((من غسل واغتسل)) ، فقالوا: غسل رأسه واغتسل في بدنه، وقالوا: كانت للقوم جممٌ.
الحديث الرابع:

(8/150)


899 - نا عبد الله بن محمد: نا شبابة: نا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن
مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .
وقد سبق من وجه أخر عن ابن عمر – بنحوه.
الحديث الخامس:
900 -

(8/151)


نا يوسف بن موسى: نا أبو اسأمة: نا عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: كانت امرأةٌ لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن
ينهاني؟ قالَ: يمنعه قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عز وجل)) .
ومراده بهذين الحديثين في هذا الباب: أن إلاذن في خروج النساء إلى المساجد إنما كانَ بالليل خاصةً، وحديث عمر يبين انهن إنما كن يخرجن كذلك، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: خروج النساء إلى المساجد في الليل والغلس)) .
وحينئذ؛ فلا تكون الجمعة مما اذن لهن في الخروج اليها؛ لانها منصلاة النهار، لا من صلوات الليل، وإنما أمر بالغسلٌ من يجيء إلى الجمعة، كما في حديث ابن عمر المتقدم،

(8/151)


فيدل ذلك على أن المرأة ليست مأمورة بالغسلٌ للجمعة، حيث لم يكن مأذونا لها بالخروج إلى الجمعة.
وقد رود لفظٌ صريحٌ بالغسل للنساء يوم الجمعة.
خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عثمان بن واقد العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) .
وخرَّجه بلفظٍ أخر، وهو: ((الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال، وعلى كل بالغٍ من النساء)) .
وخرَّجه البزار في ((مسنده)) باللفظ الأول.
وقال: أحسب عثمان بن واقدٍ وهم في هذا اللفظ.
وعثمان بن واقدٍ هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد والدارقطني: لا بأس به.
قال أبو داود: هو ضعيفٌ، حدث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) لا نعلم أن أحداً قال هذا غيره.
يعني: أنه لم يتابع عليه، وأنه منكرٌ لا يحتمل منه تفردا به.

(8/152)


14 - باب
الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر

(8/153)


901 - حدثنا مسددٌ: نا إسماعيل: أخبرني عبد الحميد –صاحب الزيادي -: نا عبد الله بن الحارث –ابن عم محمد بن سيرين -: قال ابن عباس لمؤذنه يوماً مطيراً: اذا قلت: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) فلا تقل: ((حي على الصلاة)) ، قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكان الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خيرٌ مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم، فتمشون في الطين والدحض.
قد سبق هذا الحديث في موضعين: في ((باب: الكلام في الأذان)) ، وفي ((أبواب الجماعة)) في ((باب: هل يصلي لمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر)) .
وفي هذه الرواية: زيادةٌ، وهي قوله: ((إن الجمعة عزمةٌ)) ، ولم يذكر فيما تقدم لفظ الجمعة.
وقد قال الإسماعيلي في ((صحيحه)) : هذه

(8/153)


اللفظة ما إخالها صحيحةً، فإن في هذا الحديث بيان أن العزمة قوله: ((حي على الصلاة)) فكأن الدعاء إليها يوجب على السامع الإجابة، ولا أدري هذا في الجمعة أو غيرها، فلو كان المعنى: الجمعة عزمةٌ، لكانت العزمة لا تزول بترك بقية الأذان، لأن الجمعة قائمة، وإن لم يدع إليها الناس، والعزمة –إن شاء الله – هي الدعاء إلى الصلاة. والله أعلم. انتهى ما ذكره.
ولكن ذكر الخطبة يشهد لأنه كان في يوم جمعة.
وقد ورد التصريح بان ذلك كان يوم جمعةٍ في رواياتٍ أخر:
فخرج مسلمٌ ذكر الجمعة في هذا الحديث، من طريق شعبة، عن عبد الحميد.
قال البيهقي: ورواه –أيضاً - معمر، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث. وذكره –أيضاً - وهيبً، عن أيوب، عن عبد الله بن الحارث.
والظاهر: أن المراد: أن الجمعة فرض عينٍ حتمٌ، لا رخصة لأحدٍ في تركه، إلا بإذن الإمام للناس في التخلف في الأذان؛ فإن الأذان الذي بين يدي الإمام هوَ الموجب للسعي إليها على الناس، فلذلك احتاج أن يرخص

(8/154)


للناس فيهِ في التخلف.
وقد ذكرنا فيما تقدم، عن أحمد، أنَّهُ قالَ: إذا قالَ المؤذن في أذانه: ((صلوا في الرحال)) فلك أن تتخلف، وإن لم يقل، فقد وجب عليك أذاً قالَ: ((حي على الصَّلاة، حي على الفلاح)) .
ولم يفرق بين جمعةٍ وغيرها.
وسبق ذكر حكم التخلف عن حضور الجمعة للمطر والوحل بما فيهِ كفاية. والله أعلم.
* * *

15 -

(8/155)


باب
من أين تؤتى الجمعة، وعلى من تجبُ؟
لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعةٍ، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحقٌ عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.
وكان أنس بن مالكٍ في قصره، أحيانا يجمع، وأحياناً لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.
تضمن هذا الذي ذكره مسألتين:
إحدهما:
أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها، سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن
عطاء.
وهذا الذي فيالقرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواءُ سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه.
وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافراً يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعةٍ عليه.

(8/156)


وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية.
وروي عن عطاءٍ - أيضاً -، أنه يلزمه.
وكذا قال الأوزاعي: أن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب.
وإن كان المسافر قد نوى إقامة بالقرية تمنعه من قصر الصلاة، فهل يلزمه الجمعة؟ وفيه وجهان لأصحابنا.
وأوجب عليه الجمعة في هذه الحال: مالكٌ وأبو حنيفة، ولم يوجبها عليه الشافعي وأصحابه.
المسألة الثانية:
أن من كان خارج القرية أو المصر الذي تقام فيه الجمعة، هل تلزمه الجمعة مع أهل القرية أو المصر، أم لا؟ هذا مما اختلف فيه العلماء:
فقالت طائفةٌ: لا تلزم من كان خارج المصر أو القرية الجمعة مع أهله بحالٍ، إذا كان بينهم وبين المصر فرجة، ولو كانوا من ربض المصر.
وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، الحاقاً لهم بأهل القرى، فإن الجمعة لا تقام عندهم في القرى.
وقال أكثر أهل العلم: تلزمهم الجمعة مع أهل المصر أو القرية، مع القرب دون البعد.
ثم اختلفوا في حد ذلك:

(8/157)


فقالت طائفةٌ: المعتبر: إمكان سماع النداء، فمن كان مو موضع الجمعة بحيث يمكنه سماع النداء لزمه، وإلا فلا. هذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
واستدلوا: بظاهر قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب.
وروي عن أبي أمامة الباهلي –معناه.
وخَّرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((الجمعة على من سمع النداء)) .
وروي موقوفاً، وهو أشبه.
وروى إسماعيل، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن عبيد الله بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه –يرفعه -، قال: ((

(8/158)


لينتهين أقوامٌ يسمعون النداء يوم الجمعة، ثم لا يشهدونها، أو ليطبعن الله على قلوبهم، وليكونن من الغافلين، أو ليكونن من أهل النار)) .
عبد العزيز هذا، شامي تكلموا فيه.
وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبين الجمعة فرسخٌ، وهو ثلاثة أميالٍ، وهوقول ابن المسيب والليث ومالكٍ ومحمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين هذا القول والذي قبله، لأن الفرسخ هو منتهى ما يسمع فيه النداء – غالباً -، فإن أحمد قال: الجمعة على من سمع النداء، والنداء يسمع من فرسخٌ، وكذلك راواه جماعة عن مالكٍ، فيكون هذا القول والذي قبله
واحدا.
وخرّج الخلال من رواية مندل، عن ابن جريج، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((عسى أحدكم أن يتخذ الصبة على رأس ميلين أو ثلاثة، تأتي عليه الجمعة لا يشهدها، ثم تأتي

(8/159)


الجمعة لا يشهدها –ثلاثاً -، فيطبع على قلبه)) .
مندل، فيه ضعف.
وخرّج الطبراني نحوه من حديث ابن عمر – مرفوعاً.
وفي إسناده: إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف.
وروى معدي بن سليمان، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلا، فيرتفع، ثم تجئ الجمعة، فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه)) .
خرّجه ابن ماجه.
وخرّجه أبو بكر النحاد وابن عبد البر، وفي روايتيهما: ((ميلين أو ثلاثة)) .
ومعدي هذا، تكلم فيه أبو زرعة غيره، وقال أبو حاتم: شيخ.

(8/160)


وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميالٍ؟، وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة.
وروي عن الزهري –أيضاً - تحديده بستة أميالٍ، وهي فرسخان.
وروي عن أبي هريرة، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.
خرّجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.
وروى عبد الرزاق بإسناد منقطع، عن معاذ، أنه كان يقوم على منبره، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ: إن الجمعة لزمتكم، وأن لا جمعةٍ الا معنا.
وبإسناد منقطع، عن معاوية، أنه كان يامر بشهود الجمعة من بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً.
وقال بقية: عن محمد بن زياد: أدركت الناس بحمص تبعث الخيل نهار الخميس إلى جوسية وحماة والرستن يجلبون الناس إلى الجمعة، ولم يكن يجمع إلا بحمص.
وعن عطاءٍ، أنه سئل: من كم تؤتى الجمعة؟ قال: من سبعة أميالٍ.
وعنه، قال: يقال: من عشرة أميالٍ إلى بريد.

(8/161)


وعن النخعي، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أمر أهل قباء، وأهل ذي الحليفة، وأهل القرى الصغار حوله: لا يجمعوا، وأن يشهدوا الجمعة بالمدينة.
وعن ربيعة - أيضاً -، أنه قال: تجب الجمعة على من إذا نودي بصلاة الجمعة خرج من بيته ماشياً أدرك الجمعة.
وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور. انتهى.
وهو قول أبي خيثمة زهر بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي.
وحكى إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد نحوه، واختاره الجوزاني.

(8/162)


وفيه حديث مرفوع، من حديث أبي هريرة.
وقد ذكره الترمذي، وبين ضعف إسناده، وأن أحمد أنكره أشد الإنكار.
وفيه - أيضاً -، عن عائشة، وإسناده ضعيف.
وفيه –أيضاً - من مراسيل أبي قلابة، وفي إسناده ضعف.
وقالت طائفةٌ: تؤتى الجمعة من فرسخين، قاله النخعي وإسحاق -:

(8/163)


نقله عنه حرب.
لكنهما لم يصرحا بوجوب ذلك، وقد تقدم نحوه عن غير واحد.
وخرّج حرب من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أنه كان يجمع من الزاوية، وهي فرسخان.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يكون بينه وبين البصرة ثلاثة أميالٍ، فيشهد الجمعة بالبصرة.
وقد ذكر البخاري، عنه، أنه كان أحياناً لا يجمع.
وكذلك روي عن أبي هريرة، أنه كان بالشجرة –وهي ذو الحليفة -، فكان أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع.
وقد روي عنه الأمران جميعاً.
وكذلك سعد بن أبي وقاص، كان في قصره بالعقيق، فكأن أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع، وكان بينه وبين المدينة سبعة أميالٍ أو ثمانية.
وكذلك روي عن عائشة بنت سعد، أن أباها كان يفعل.

(8/164)


قال البخاري:
902 -

(8/165)


نا أحمد: نا عبد الله بن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفرٍ بن الزبير حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة –زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي، فياتون في الغبار، يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى إنسان منهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عندي -، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) .
((أحمد)) هذا، قد سبق الاختلاف فيه: هل هو ابن أخي ابن وهبٍ، أو ابن صالح، أو ابن عيسى التستري؟

(8/165)


وذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) : أنه ابن عبد الله.
كذا قال، ولم يبين من هو؟
وفي أكثر النسخ: ((فيأتون في الغبار)) ، وفي بعضها: ((في العباء)) ، وهو الأشبه.
وفي النسخ: ((فيخرج منهم العرق)) ، وفي ((صحيح مسلم)) : ((فيخرج منهم الريح)) .
وفيه - أيضاً -: ((العباء)) .
وهذا من أوضح الأدلة على أن غسل الجمعة ليس بواجب، حتى ولا على من له ريح تخرج منه، وإنما يؤمر به ندباً واستحباباً، لقوله: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم
هذا)) .
ومقصود البخاري من هذا الحديث: أن أهل العوالي كانوا يشهدون الجمعة مع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(8/166)


وليس في هذا ما يدل على وجوب الجمعة على من كانَ خارج المصر، فإنه ليس فيهِ أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بشهود الجمعة.
وكذا، ما خرّجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لكن قد روي عنه، أنه أمرهم بذلك.
خرّجه الترمذي من رواية إسرائيل، عن ثوبر –هوَ: ابن أبي فاختة -، عن رجل من أهل قباء، عن أبيه – وكان من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: أمرنا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشهد الجمعة من قباء.
وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قالَ: ولا يصح في هذا الباب شيء. انتهى؟
وثوير، ضعيف الحديث: وشيخه مجهول.
وقد خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن إسرائيل، به، ولفظه: كنا نجمع من قباء - ولم يذكر: أمرهم بذلك.
وقال الزهري: كانوا يشهدون الجمعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذي الحليفة.
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره.

(8/167)


ومراسيل الزهري ضعيفة.
وقد ذكر الإمام أحمد أن بين ذي الحليفة والمدينة فرسخين، وقال: كانوا يتطوعون بذلك من غير أن يجب عليهم.
ويشهد لقوله: أن أبا هريرةكان بذي الحليفة، وكان أحياناً ياتي الجمعة، وأحياناً لا يأتيها.
وكذلك ذكر عمرو بن شعيب، أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكون بالرهط، فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف، وانما بينه وبين الطائف أربعة أميالٍ أو ثلاثة.
خرّجه عبد الرزاق.
وروى عطاءٍ بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أنه كان يشهد الجمعة بالطائف من الرهط.
وهذا يدل على أنه كان يشهدها أحياناً، ويتركها أحياناً، كما فعل غيره من الصحابة – رضي الله عنهم.
* * *
16 -

(8/168)


باب
وقت الجمعة إذا زالت الشمس
وكذلك يروى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشيرٍ، وعمرو بن حريثٍ.
اما المروي عن عمر: فروى مالكٌ في ((الموطإ)) ، عن عنه أبي سهيل، عن أبيه، قال: كنت ارى طنفسةً لعقيل بن أبي طالبٍ يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فاذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خَّرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. قال: ثم نرجع بعد الجمعة فنقبل قائلة الضحى.
وأما المروي عن عليّ: فمن طريق إسماعيل بن سميع، عن أبي رزينٍ، قال: صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس.
وأما المروي عن النعمان بن بشيرٍ وعمرو بن حريثٍ: فخرجه ابن أبي شيبة من طريق سماكٍ، قال: كان النعمان بن بشيرٍ يصلي بنا الجمعة

(8/169)


بعدما تزول الشمس.
ومن طريق الوليد بن العيزار، قال: ما رأيت إماماً كان أحسن صلاةً للجمعة من عمرو بن حريث، وكان يصليها إذا زالت الشمس.
وقد روي هذا - أيضاً - عن معاذ بن جبل، لكن من وجهٍ منقطعٍ.
وهو قول أكثر الفقهاء، منهم: الحسن، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعي.
وذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال، وسنذكر ذلك فيما بعد – أن شاء الله تعالى.
خَّرج البخاري في ها الباب ثلاثة احاديث:
الحديث الأول:
903 -

(8/170)


ثنا عبدان: أنا عبد الله –هو: ابن المبارك -: أنا يحيى بن سعيد؟ أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: ((لو اغتسلتم)) .
هذا مما يستدل به على أن الغسل للجمعة غير واجبٍ، كما سبق.
والمراد بالمهنة: الخدمة، وقضاء الحوائج والأشغال، وذلك يوجب

(8/170)


الوسخ والشعث.
ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب: أن فيه ذكر رواح الناس إلى الجمعة، والرواح إنما يكون بعد الزوال، فدل على أن الجمعة إنما كانت تقام في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الزوال.
وقد يقال: ذكر الرواح في هذا الحديث كذكر الرواح في قوله: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً)) – الحديث، ولم يحمله أكثر العلماء على ما بعد
الزوال، كما سبق، فالقول في هذا كالقول في ذاك.
الحديث الثاني:
904 -

(8/171)


نا سريج بن النعمان: ثنا فليح بن سليمان، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالكٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.
ومعنى ((تميل)) : أي تزول عن كبد السماء، بعد استوائها في قائم الظهيرة.
وهذا يدل على انهذه كانت عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغالبة، ولا يدل على أنه لم يكن يخل بذلك.
وقد قال أنسٌ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعةٌ.
وقالت عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس في حجرتي.
وقال أبو برزة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الهجير

(8/171)


حين تدحض الشمس - الحدث
بطوله.
وإنما أرادوا: أن ذلك كان الغالب عليه، وإلا فقد يؤخرها عن ذلك أحياناً، كما أخرها لما سأله السائل عن مواقيت الصلاة، وأخرها يوم الخندق، وغير ذلك.
الحديث الثالث:
905 -

(8/172)


ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا حميد، عن أنس: قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة.
هذا ما يستدل به من يقول بجواز إقامة الجمعة قبل الزوال، لأن التبكير والقائلة لايكون إلا قبل الزوال. وقد تقدم إنهم كانوا في عهد عمر يصلون معه الجمعة، ثم يرجعون فيقيلون قائلة الضحى، وهذا يدل على أن وقت الضحى كان باقياً.
وكل ما استدل به من قال: تمنع إقامة الجمعة قبل الزوال ليس نصاً صريحاً في
قوله، وإنما يدل على جواز إقامة الجمعة بعد الزوال أو على استحبابه، إما منع إقامتها قبله فلا، فالقائل بأقامتها قبل الزوال يقول بجميع الأدلة، ويجمع بينها كلها، ولا يرد منها شيئاً.
فروى جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: مال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره.

(8/172)


خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن جعفر، به.
وخرّجه عنه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
وخرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن جعفر، به.
وخرّجه الأثرم والدارقطني.
ورواه الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -، عن وكيع، عن جعفر، واستدل
به.
وهذا إسنادٌ جيدٌ:
وجعفر: حديثه من غير الزهري حجةٌ يحتج به -: قاله الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما.
وثابت بن الحجاج: جزري تابعيٌ معروفٌ، لا نعلم أحداً تكلم فيه، وقد خَّرج له أبو داود.
وعبد الله بن سيدان السلمي المطرودي، قيل: إنه من الربذة، وقيل: إنه
جزريٌ، يروي عن أبي بكر وحذيفة وأبي ذر، وثقه العجلي، وذكره ابن سعدٍ في
((طبقة الصحابة)) ممن نزل الشام، وقال: ذكروا أنه رأى النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال القشيري في ((تاريخ الرقة)) : ذكروا أنه أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما البخاري، فقال: لا يتابع على حديثه – كأنه يشير إلى حديثه هذا.
وقول ابن المنذر: إن هذا الحديث لا يثبت. هو متابعة لقول

(8/173)


البخاري، وأحمد أعرف الرجال من كل من تكلم في هذا الحديث، وقد استدل به وأعتمد عليه.
وقد عضد هذا الحديث: أنه قد صح من غير وجه أن القائلة في زمن عمر وعثمان كانت بعد صلاة الجمعة، وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بمللٍ. خرّجه مالك في ((الموطإ)) ، وبين المدينة ومللٍ اثنان وعشرون ميلاً، وقيل: ثمانية عشر ميلاً، ويبعد أن يلحق هذا السائر بعد زوال الشمس.
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى: وقال: خشيت عليكم الحر.
وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد، قال صلى بنا معاوية الجمعة ضحى.
وروى إسماعيل بن سميع، عن بلالٍ العبسي، أن عماراً صلى للناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل.
خرّج ذلك كله ابن أبي شيبة.

(8/174)


وخرّج –أيضاً - من طريق الأعمش، عن مجاهد، قال: ما كان للناس عيدٌ إلا أول النهار.
ومن طريق يزيد بن أبي زياد، عن عطاءٍ، قال: كان من كان قبلكم يصلون الجمعة وإن ظل الكعبة كما هو.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة، والأضحى، والفطر، كذلك بلغنا.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن جعفر بن برقان، عن حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاءٍ، قال: كل عيد في صدر النهار.
وعن شعبة، عن الحكم، عن حماد، قال: كل عيد قبل نصف النهار.
وروى أبو سعدٍ البقال، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعودٍ، قال: ما كان عيدٌ قط إلا في صدر النهار، ولقد رأيتنا وأنا لجمع مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ظل الخطبة.
أبو سعدٍ، فيه ضعفٌ.

(8/175)


وحكى الماوردي في كتابه ((الحاوي)) عن ابن عباسٍ، أنه يجوز صلاة الجمعة قبل الزوال.
وهو مذهب أحمد وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصورٍ، وهو مشهورٌ عن أحمد، حتى نقل أنه لا يختلف قوله في جواز إقامة الجمعة قبل الزوال، كذا قاله غير واحد من أصحابه، ومنهم: ابن شاقلا وغيره.
وقد روى حنبل، عن أحمد، قال: صلاة الجمعة تعجل، يؤذن المؤذن قبل أن تزول الشمس، وإلى أن يخطب الإمام، وتقام الصلاة، قد قام قائم الظهيرة، ووجبت الصلاة، ويقال: إن يوم الجمعة صلاةٌ كله لا تحرى فيها الصلاة، وكان أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرون بصلاة الجمعة، إلا أنه لا ينبغي أن تصلى حتى تزول الشمس لأول الوقت، هذه السنة التي لم يزل الناس يعملون عليها بالمدينة والحجازٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ذلك.
وظاهر هذه الرواية: أنه إنما يقدم على الزوال الأذان والخطبة خاصة، وظاهرها: أنه يجوز الصلاة في وقت الزوال يوم الجمعة خاصةً.
وقال صالح بن أحمد: سألت أبي عن وقت الجمعة؟ فقالَ: إذا زالت الشمس.
ونقل صالح - أيضاً -، عن أبيه - في موضع أخر -، أنه قال: إن فعل ذلك قبل الزوال فلا أعيبه، فأما بعده فليس فيه شكٌ.
ونحوه نقل ابن منصورٍ، عن أحمد وإسحاق.
ونقل أبو طالب، عنه، قال: ما ينبغي أن يصلي قبل الزوال، وقد صلى ابن مسعودٍ.

(8/176)


ونقل عنه جماعة ما يقتضي التوقف.
ونقل عنه عبد الله، أنه قال: لا بأس أن يصلي قبل الزوال، قد صلى ابن
مسعود.
وقد نقل عنه ابن القاسم، قال: وقت الجمعة قبل الزوال وبعد الزوال، أي ذلك فعل جاز.
ونقل عنه أحمد بن الحسن الترمذي، أنه قال: على ما جاء من فعل أبي بكر وعمر: لا أرى به بأسا، لأنها عيد، والأعياد كلها في أول النهار.
وكذا نقل عبد الله، عن أبيه، قال: يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد.
قال أبو بكر: وعلى هذا استقرت الروايات عنه، وعليه العمل.
واختلف أصحابنا في الوقت الذي يجوز فعلها فيه:
فقال الخرقي: في الساعة السادسة –وفي بعض النسخ: الخامسة.
وقال القاضي وكثير من أصحابه: يجوز فعلها في وقت جواز صلاة العيد، وهو إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها، وزال وقت النهي.
وهو ظاهررواية عبد الله، عن أبيه.
ومن أصحابنا من ثال: يجوز فعلها من وقت طلوع الفجر يوم الجمعة، إذا دخل وقت الفجر، حكاه ابن عقيل في ((مفرداته)) و ((عمد الأدلة)) .

(8/177)


وهذا القول غلوٌ من قائله، وكيف يجوز إقامة الجمعة في وقت صلاة الفجر؟! وهل فعل هذا أحدٌ سلفاً أو خلفاً؟! وإذا كانت صلاة لا تفعل قبل طلوع الشمس، ووقتها قبل الزوال دون ما بعده، فكيف تصلي الجمعة قبل طلوع الشمس، وإنما جاز تقديمها على الزوال إلحاقاً لها بالعيد، وتشبيهاً لها بها.
وبكل حالٍ؛ فلا يجب فعلها إلا بعد الزوال، على الصحيح من المذهب. وعليه جمهور الأصحاب.
وإنما يجوز تقديمها قبله وتعجيلها كما تعجل الصلاة المجموعة؛ فإن صلاة الجمعة سببها: اليوم؛ ولهذا تضاف إليه، فيقال: صلاة الجمعة، وشرطها:
الزوال، فيجوز تقديمها على شرطها بعد وجود سببها، وهو اليوم، كما يجوز تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب، وهو سبب الوجوب، وقيل: الحول، وهوشرطه.
وهذا هو الذي تخيله من قال من الأصحاب: يجوز فعلها في وقت صلاة الفجر، لكن الصحيح: أنه غير جائز، ما دام وقت الفجر باقياً؛ لئلا يتداخل وقت الصلاتين، فإذا خرج وقت صلاة الفجر، وزال وقت النهي، ودخل وقت صلاة العيد والضحى جاز تقديم صلاة الجمعة حينئذٍ.
ومع هذا، فلا تصلى في حال استواء الشمس في السماء، ويجوز قبله، نص عليه أحمد، وقال: ما يعجبني، وأتوقاه في صلاتها في قائم الظهيرة، مع قوله: يجوز صلاتها قبل الزوال.

(8/178)


وأما آخر وقت الجمعة: فهو آخر وقت الظهر، هذا هو قول جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، ومالك - في رواية -، والشافعي، وأحمد، وعبد العزيز بن الماجشون.
واتفقوا: على أنه متى خَّرج وقت الظهر، ولم يصل الجمعة فقد فاتت ويصلي الظهر.
وأما أن صلى الجمعة، ثم خَّرج الوقت وهم في الصلاة، فقال أبو حنيفة والشافعي: تبطل الصلاة، إلا أن يخرج قبل السلام –على رأي أبي حنيفة وحده.
والمنصوص عن أحمد: أنه أن خَّرج الوقت وهم في التشهد أتموا الجمعة.
واعتبر الخرقي من أصحابنا أن يكون قد أدرك في الوقت ركعة فصاعدا، فإن خرج الوقت قبل إدراك ركعةٍ صلوا ظهراً.
وحكي رواية عن مالكٍ كذلك.
ومن أصحابنا من قال: تلحق الجمعة بتكبيرة الإحرام في الوقت كسائر
الصلوات.
ونقل ابن القاسم، عن مالكٍ، أن آخر وقتها: غروب الشمس.
قال ابن القاسم: من صلى من الجمعة ركعةً، ثم غربت الشمس صلى الركعة الثانية بعد غروب الشمس، وكانت جمعةً.
والعجب ممن ينصر هذا القول، ويحتج له، مع أنه لا يعرف العمل به إلاّ عن ظلمة بني أمية واعوانهم، وهو مما ابتدعوه في الإسلام، ثم ينكر على من قدم الجمعة على الزوال متابعة لأصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكثيرٍ من التابعين لهم بإحسان!
فإن قيل: فقد كان الصحابة يصلون مع من يؤخر الجمعة إلى بعد

(8/179)


العصر، والى قريب من غروب الشمس؟
قيل: كانوا يصلون الظهر والعصر في بيوتهم قبل مجيئهم، ثم يجيئون إتقاء شر الظلمة، كما أمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ومنهم من كان يومئ بالصلاة، وهو جالسٌ في المسجد إذا خاف فوت الوقت.
وسنذكر ذلك في الباب الآتي – أن شاء الله تعالى.

* * *
17 -

(8/180)


بابٌ
إذا اشتد الحر يوم الجمعة

(8/181)


906 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي: ثنا حرمي بن عمارةً: ثناابو خلدة –هو: خالد بن دينار -، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة –يعني: الجمعة.
وقال يونس بن بكير: أنا أبو خلدة، وقال: ((بالصلاة)) ، ولم يذكر:
((الجمعة)) .
وقال بشر بن ثابت: ثنا أبو خلدة: صلى بنا أمير المؤمنين الجمعة، ثم قال لأنسٍ: كيف كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر؟
خرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) –وهو ((المستخرج على صحيح البخاري)) –من طريق هارون بن عبد الله، عن حرمي بن عمارة: حدثني أبو خلدة، قالَ: سمعت أنس بن مالكٍ –وناداه يزيد الضبي: يا أبا حمزة، قد شهدت الصَّلاة مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشهدت الصَّلاة معنا، فكيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة؟ - فقال: كان إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة.
وخرّجه –أيضاً - من رواية محمد بن المثنى، عن حرمي، ولم يذكر في حديثه:
((الجمعة)) .
وخرّج –أيضاً - رواية يونس بن بكير التي علقها البخاري، ولفظ

(8/181)


حديثه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بها –يعني: الظهر.
وخرّج - أيضاً - حديث بشر بن ثابت الذي علقه البخاري - أيضاً -، ولفظ حديثه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الشتاء يبكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء.
وخرّجه البيهقي من رواية بشر بن ثابت – بهذا المعنى.
وخرّج - أيضاً - رواية يونس بن بكيرٍ: ثنا أبو خلدة: سمعت أنس بن مالكٍ – وهو جالسٌ مع الحكم أمير البصرة على السرير – يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة.
وروى هذا الحديث – أيضاً – خالد بن الحارث: ثنا أبو خلدة، أن الحكم ابن أيوب أخر الجمعة يوماً، فتكلم يزيد الضبي. وقال: دخلنا الدار وأنس معه على السرير، فقال له يزيد: يا أبا حمزة، قد صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضرت صلاتنا، فأين صلاتنا من صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: إذا كان الحر برد بالصلاة، وإذا كان البرد يبكر بالصلاة، ولم يسمعه، ولكنه قد شهد الأمر.
خرّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) .

(8/182)


وهذه الرواية تخالف رواية البخاري التي فيها التصريح بالسماع.
وقد رواه سهل بن حمادٍ، عن أبي خلدة، قال: بينا الحكم بن أيوب يخطب في البصرة إذ قام يزيد الضبي، فناداه، فقال: أيها الأمير: إنك لا تملك الشمس، فقال: خذاه، فأخذ، فلما قضى الصلاة أدخل عليه، ودخل الناس، وثم أنس بن مالكٍ، فأقبل على أنس، فقال: كيف كنتم تصلون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبرد بالصلاة في الحر، ويبكر بها في الشتاء.
خرّجه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .
فقد تبين بهذه الروايات أن سبب سؤال أنس إنما كان تأخير الحكم بن أيوب.
وقضية يزيد الضبي مع الحكم بن أيوب في إنكاره عليه تأخير الجمعة وهو يخطب معروفة، وكان أنس بن مالكٍ حاضراً.
وقد خرّجها بتمامها ابن أبي الدنيا في ((كتاب الأمر بالمعروف)) من رواية جعفر بن سليمان: حدثني المعلى بن زياد، قال: حدثني يزيد الضبي، قال: أتيت الحسن ثلاث مراتٍ، فقلت: يا أبا سعيدٍ، غلبنا على كل شيء، وعلى صلاتنا نغلب؟! فقال الحسن: إنك لن تصنع شيئاً، إنما تعرض نفسك لهم.
قال: فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب، فقلت: الصلاة يرحمك الله، قال: فجاءتني الزبانية، فسعوا الي من كل جانب، فأخذوا بلبتي، وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء، وجعلوا يضربوني بنعالهم وسيوفهم، قال: وسكت الحكم بن
أيوب، وكدت أن أقتل دونه، ففتح باب المقصورة، فادخلت عليه، فقال: أمجنونٌ أنت؟!

(8/183)


قلت: ما بي من جنون، قالَ: أوما كنا في صلاة؟ قلت: أصلحك الله، هل من كلام أفضل من كتاب الله؟ قال: لا، قلت: لو أن رجلاً نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي، ولا يصلي فيما بين ذلك، كان ذلك قاضياً عنه صلاته؟ قال الحكم: إني لأحسبك مجنوناً: قال: وأنس بن مالكٍ جالس قريباً من المنبر، على وجههٌ خرقة
خضراء، فقلت: يا أبا حمزة، أذكرك الله، فانك صحبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخدمته، أحقٌ أقول أم باطلٌ؟ قال: فو الله ما أجابني بكلمةٍ، فقال له الحكم: يا أنس، قال: لبيك، أصلحك الله – قال: وقد كان فات ميقات الصلاة – قال: يقول له أنس: قد كان بقي من الشمس بقيةٌ؟ فقال: احبساه. قال: فحبست، فشهدوا أني مجنونٌ.
قال جعفر: فإنما نجا من القتل بذلك – وذكر بقية القصة.
فقد تبين بهذا السياق أن الصحابة والتابعين كانوا كلهم خائفين من ولاة السوء الظالمين، وإنهم غير قادرين على الإنكار عليهم، وأنه غير نافع بالكلية؛ فإنهم يقتلون من أنكر، ولا يرجعون عن تأخير الصلاة على عوائدهم الفاسدة.
وقد تكلم بعض علماء أهل الشام في زمن الوليد بن عبد الملك في ذلك، وقال: أبعث نبيٌ بعد محمدٍ يعلمكم هذا – أو نحو ذلك؟ فأخذ فأدخل الخضراء، فكان آخر العهد به.
ولهذا لم يستطع أنس أن يجيب يزيد الضبي بشئ حين تكلم يزيد، وإنما قال للحكم لما سأله: قد بقي من الشمس بقيةٌ – يريد: قد بقي من ميقات العصر بقيةٌ -، وهو كما قال لكن وقت الجمعة كان قد فات، ولم

(8/184)


يستطع أن يتكلم بذلك، فلما دخل الحكم داره، وأدخل معه أنساً ويزيد الضبي، فسئل أنس في ذلك الوقت عن وقت صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبر أنه كان يعجل في البرد، ويبرد في الحر، ومراده –والله أعلم -: صلاة الظهر، وهذا هو الذي امكن أنسا أن يقوله فيذلك الوقت، ولم يمكنه الزيادة على
ذلك.
وأكثر العلماء على أن الجمعة لا يبرد بها بعد الزوال، بل تعجل في أول الوقت، وللشافعية في ذلك وجهان.
وقد كان الصحابة والتابعون مع أولئك الظلمة في جهدٍ جهيدٍ، لا سيما في تأخير الصلاة عن ميقاتها، وكانوا يصلون الجمعة في أخر وقت العصر، فكان أكثر من يجيء إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يجيء إلى المسجد تقية لهم، ومنهم من كان إذا ضاق وقت الصلاة وهو في المسجد أومأ بالصلاة خشية القتل.
وكانوا يحلفون من دخل المسجد أنه ما صلى في بيته قبل أن يجيء.
قال إبراهيم بن مهاجرٍ: كنت أنا وسعيد بن جبيرٍ وإبراهيم نصلي الظهر، ثم نجلس فنتحدث والحجاج يخطب يوم الجمعة.
خرّجه أبو نعيمٍ الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .
وخَّرج –أيضاً - بإسناده، عن أبي بكر بن عتبة، قال صليت إلى جنب أبي جحيفة، فتمسى الحجاج بالصلاة، فقام يصلي الجمعة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أبا بكر، أشهدك أنها الجمعة.

(8/185)


وهذا غريبٌ، يدل على أنه يصح أن يصلي الرجل الجمعة وحده.
وبإسناده: عن الأعمش، عن إبراهيم وخيثمة، أنهما كانا يصليان الظهر
والعصر، ثم يأتيان الحجاج يوم الجمعة، فيصليان معه.
وعن أبي وائل، أنه كان يأمرهم أن يصلوا في بيوتهم، ثم يأتوا الحجاج فيصلون معه الجمعة.
وعن محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت في مسجد منى، وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة: قال: فنظرت إلى سعيدٍ بن جبير وعطاء يومئان، وهما قاعدان.
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري في ((كتاب أدب السلطان)) باباً في تأخير الأمراء الصلاة، خَّرج فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة في ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في ((أبواب: المواقيت)) .
وروى فيه بإسناده: أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ كان يروح إلى المسجد وقد صلى الظهر والعصر، فيجلس فينتظر، فيقول: ماله قاتله الله؟!
يصيح على منبره صياحاً، وقد فاتته العصر، ولم يصل الظهر بعد.
وبإسناده: عن عمرو بن هرم، قال: كان أنس بن مالكٍ يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يأتي الحجاج فيصلي معه الجمعة.
وبإسناده: عن عبد الله بن أبي زكريا، أنه كان يجمع مع الوليد بن عبد الملك ما صلى الوليد في وقت الظهر الجمعة، ويعتد بها جمعةً، فإن أخرها عن وقت الظهر صلى الظهر في آخر وقت الظهر أربعاً إيماءً، ثم

(8/186)


صلى الجمعة معه، وجعلها تطوعا، فإن أخر العصر حتى يخرج وقتها صلاها في آخر وقتها ايماءً.
وبإسناده: عن حصينٍ، قال: كان أبو وائل إذا أخر الحجاج الجمعة استقبل القبلة، يومئ ايماءً: يتناعس.
وبإسناده: عن جريرٍ، قال: شهدت الجمعة مع ابن هبيرة، فأخر الصلاة إلى قريب من العصر، فرأيت الناس يخرجون، فرأيت أبا حنيفة خَّرج، فكأن شيخ يصيح في المسجد: لو كان الحجاج ما خرجوا، وجعل فضيل بن غزوان ويقول: إنهم، إنهم.
وبإسناده: عن ابن سيرين، أنه حضر الجمعة، فأخر الأمير الصلاة، فأدمى
ظفره، ثم قام فخرج، وأخذته السياط حتى خَّرج من المسجد. وعن عطاءٍ بن السائب: قال: رأيت سعيدٍ بن جبير وأبا البختري وأصحابه يومئون يوم الجمعة، والحجاج
يخطب، وهم جلوسٌ.
وعن محمد بن إسماعيل، قال: رأيت سعيد بن جبير وعطاء، وأخر الوليد الجمعة والعصر، فصلاهما جميعاً، قال: فأومئا إيماءً، ثم صليا معه بمنىً.
وبإسناده: عن حميدٍ، أن الوليد بن عبد الملك خَّرج بمنىً بعد العصر، فخطب حتى صارت الشمس على رؤس الجبال، فنزل فصلى الظهر، ثم صلى العصر، ثم صلى المغرب.

(8/187)


وروى بإسنادٍ له: عن سالم، أنه ذكر أن الوليد قدم عليهم المدينة، فما زال يخطب ويقرأ الليث حتى مضى وقت الجمعة، ثم مضى وقت العصر، فقال القاسم بن محمد لسالم: أما قمت فصليت؟ قال: لا. قال: أفما اومأت؟ قال: لا. وقال: خشيت أن يقال: رجل من آل عمر.
وروى بإسناده: عن عمارة بن زاذان: حدثني مكحولٌ، قال: خطب الحجاج بمكة، وأنا إلى جنب ابن عمر، يحبس الناس بالصلاة، فرفع ابن عمر راسه، ونهض، وقال: يا معشر المسلمين، انهضوا إلى صلاتكم، ونهض الناس، ونزلالحجاج، فلما صلى قال: ويحكم، من هذا؟ قالوا: ابن عمر.
قال: أما والله لولا أن به لمماً لعاقبته.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا زهير، عن جابر –وهو: الجعفي -، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، فلما اخرهاترك الصلاة معه.
وكان الحسن يأمر بالكف عن الإنكار عليهم، ثم غلبه الأمر فأنكر على الحجاج، وكان سبب اختفائه منه حتى مات الحجاج، والحسن متوار عنه بالبصرة.
وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ((مناقب الحسن)) بإسناد له، أن الحسن شهد الجمعة مع الحجاج، فرقى الحجاج المنبر، فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر، فقال الحسن: أما من رجل يقول:

(8/188)


الصلاة جامعةٌ؟ فقالَ رجل: يا أبا سعيدٍ، تأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب؟ فقال: إنما أمرنا أن ننصت لهم فيما أخذوا من أمر
ديننا، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر ديننا، قوموا، فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن، فقطع الحجاج خطبته، ونزل فصلى بهم، فطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه.
وهذا كله مما يدل على اجتماع السلف الصالح على أن تأخير الجمعة إلى دخول وقت العصر حرام لا مساغ له في الإسلام.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة صلى الجمعة في أول وقتها على ما كانت عليه السنة.
فروى إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجرٍ، أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة في أول وقتها حين يفيء الفيء ذراعا ونحوه، وذلك في الساعة السابعة.
وقال ابن عونٍ: كانوا يصلون الجمعة في خلافة عمر بن عبد العزيز والظل هنية.

* * *

18 -

(8/189)


باب
المشي إلى الجمعة
وقول الله عز وجل: {فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ومن قال: السعي العمل والذهاب، لقوله {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا?} [الإسراء:19] .
وقال ابن عباسٍ: يحرم البيع حينئذ.
وقال عطاءٌ: تحرم الصناعات كلها.
وقال إبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري: إذا اذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد.
اشتمل كلامه –هاهنا - على مسائل:
إحداها:
المشي إلى الجمعة، وله فضل.
وفي حديث أوس بن أوس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب)) . وقد سبق.
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى، ((إنهم يختصمون في الكفارات والدرجات، والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات، والمشي على الأقدام إلى الجمعات)) .
وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث

(8/190)


معاذٍ.
وله طرق كثيرة، ذكرتها مستوفاة في ((شرح الترمذي)) .
وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ فيه انقطاعٌ، أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشياً، فإذا رجع كيف شاء ماشياً، وإن شاء راكباً.
وفي رواية: وكان بين منزلة وبين الجمعة ميلان.
وعن أبي هريرة، أنَّهُ كان يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً.
وذكر ابن سعدٍ في ((طبقاته)) بإسناده، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب ينهى أن يركب أحد إلى الجمعة والعيدين.
وقال النخعي: لا يركب إلى الجمعة.
المسألة الثانية:
أنه يستحب المشي بالسكينة مع مقاربة الخطا، كما في سائر الصلوات، على ماسبق ذكره في موضعه.
فأما قول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى

(8/191)


ذِكْرِ
اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فقد حمله قوم من المتقدمين علىظاهره، وأنكر ذلك عليهم
الصحابة.
فروى البيهقي من حديث عبد الله بن الصامت، قال: خرجت إلى المسجد يوم الجمعة، فلقيت أبا ذر، فبينا أنا امشي اذ سمعت النداء، فرفعت في المشي؛ لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، فجذبني جذبة
كدت أن ألاقيه، ثم قال: أو لسنا في سعي؟ .
فقد أنكر أبو ذر على من فسر السعي بشدة الجري والعدو، وبين أن المشي إليها سعي؛ لأنه عمل، والعمل يسمى سعياً، كم قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ، وقال: {?وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] ومثل هذا كثير في القرآن.
وبهذا فسر السعي في هذه الآية التابعون فمن بعدهم، ومنهم: عطاءٍ، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، ومالك، والثوري، والشافعي وغيرهم.
وروي عن ابن عباسٍ –أيضاً - من وجه منقطع.
ومنهم من فسر السعي بالجري والمسابقة، لكنه حمله على سعي القلوب والمقاصد والنيات دون الأقدام، هذا قول الحسن.
وجمع قتادة بين القولين –في روايةٍ -، فقال: السعي بالقلب والعمل.

(8/192)


وكان عثمان وابن مسعودٍ وجماعة من الصحابة يقرءونها: ((فامضوا إلى ذكر
الله)) .
وقال النخعي: لو قرأتها ((فسعوا)) لسعيت حتى يسقط ردائي.
وروي هذا الكلام عن ابن مسعودٍ من وجهٍ منقطعٍ.
المسألة الثالثة:
في تحريم البيع وغيره مما يشغل به عن السعي بعد النداء.
وقد حكى عن ابن عباسٍ تحريم البيع وغيره.
وروى القاضي إسماعيل في كتابه ((أحكام القرآن)) من روايةٍ سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة، فاذا قضيت الصلاة فاشتر وبع.
وبإسناده: عن ميمون بن مهران، قال: كان بالمدينة إذا نودي بالصلاة من يوم الجمعة نادوا: حرم البيع، حرم البيع.
وعن أيوب، قال: لأهل المدينة ساعة، وذلك عند خروج الإمام، يقولون: حرم البيع، حرم البيع.
وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يمنع الناس من البيع يوم الجمعة إذا

(8/193)


نودي بالصلاة.
وعن الحسن وعطاء والضحاك: تحريم البيع إذا زالت الشمس من يوم الجمعة.
وعن الشعبي، أنه محرمٌ.
وكذا قال مكحولٌ.
وحكى إسحاق بن راهويه الإجماع على تحريم البيع بعد النداء.
وحكى القاضي إسماعيل، عمن لم يسمه، أن البيع مكروه، وانه استدل بقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الجمعة:9] .
ورد عليه: بأن من فعل ما وجب عليه وترك ما نهي عنه فهو خيرٌ له، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] .
وحكي القول بأن البيع مردود عن القاسم بن محمد وربيعة ومالكٍ.
ورواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن مجاهد أو غيره.
وهو مذهب الليث والثوري وإسحاق وأحمد وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.
وخالف فيه أبو حنيفة والشافعي واصحابهما وعبيد الله العنبري، وقالوا: البيع غير مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهياً عنه لذاته بل لوقته.
والأولون يقولون: النهي يقتضي فساد المنهي عنه، سواء كان لذات المنهي عنه أو لوقته، كالصوم يوم العيد، والصلاة وقت النهي، فكذلك العقود.

(8/194)


وقال الثوري –فيما إذا تصارفا ذهباً بفضة وقبضا البعض، ثم دخل وقت النداء يوم الجمعة -: فإنهما يترادان البيع.
وهذا يدل على أن القبض عند شرط لانعقاد الصرف، فلا يتم العقد الا به، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا –أيضاً.
وأما ما ذكره عن عطاءٍ، أنه تحرم الصناعات حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنما حرم البيع؛ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر الله والصلاة، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرم من صناعة أو غيرها، حتى الاكل والشرب والنوم والتحدث وغير ذلك، وهذا قول الشافعية وغيرهم –أيضاً.
لكن لأصحابنا في بطلان غير البيع من العقود وجهان، فإن وقوعها بعد النداء نادر، بخلاف البيع، فإنه غالب، فلو لم يبطل لادى إلى الاشتغال عن الجمعة به، فتفوت الجمعة غالباً.
وأكثر أصحابنا حكوا الخلاف في جواز ذلك، وفيه نظرٌ؛ فإنه إذا وجب السعي إلى الجمعة حرم كل ما قطع عنه.
وقد روي عن زيد بن أسلم، قال: لم يأمرهم الله أن يذروا شيئاً غيره، حرم البيع، ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا.
وهذا ضعيف جدا؛ فإن البيع إنما خص بالذكر لأنه أكثر ما يقع حينئذ مما يلهي عن السعي، فيشاركه في المعنى كل شاغل.
وأستدل بعض أصحابنا على جواز غير البيع من العقود بالصدقة، وقال: قد أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب.

(8/195)


وهذا لا يصح؛ فإن الصدقة قربة وطاعة، وإذا وقعت في المسجد حيث لا يكره السؤال فيه فلا وجه لمنعها.
فإن الحق بذلك عقد النكاح في المسجد قبل خروج الإمام كان متوجهاً، مع أن بعض أصحابنا قد خص الخلاف بالنكاح، وهو ابن عقيل.
وعن أحمد روايةٍ: إنه يحرم البيع بدخول وقت الوجوب، وهو زوال الشمس.
وقد سبق مثله عن الحسن، وعطاء، والضحاك، وهو - أيضاً - قول مسروق، ومسلم بن يسارٍ، والثوري، وإسحاق.
وقياس قولهم: إنه يجب السعي بالزوال، ويحرم حينئذ كل شاغلٍ يشغل عنه.
والجمهور: على أنه لا يحرم بدون النداء.
ثم الأكثرون منهم على أنه النداء الثاني الذي بين يدي الإمام؛ لأنه النداء الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا ينصرف النداء عند إطلاقه إلا إليه.
وفي ((صحيح الإسماعيلي)) من حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة إذا خَّرج الإمام، وإذا قامت الصلاة في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر.
وعن أحمد روايةٌ: أنه حرم البيع ويجب السعي بالنداء الأول.
وهو قول مقاتل بن حيان، قال: وقد كان النداء الأول قبل زوال الشمس.
ونقله ابن منصورٍ، عن إسحاق بن راهويه –صريحاً.
وعن أحمد، أنه قال: أخاف أن يحرم البيع، وإن أذن قبل الوقت.
ومجرد الشروع في الأذان يحرم به البيع عند أصحابنا والشافعية؛

(8/196)


لأنه صار نداءً مشروعاً مسنوناً سنة الخلفاء الراشدين.
قال أصحابنا: ولو اقتصر عليه اجزأ، وسقط فرض الأذان.
وعند أصحاب الشافعي: يحرم البيع بمجرد الشروع في النداء الثاني بين يدي
الإمام، إذا كان قاطعاً عن السعي، فأما إن فعله وهو ماش في الطريق ولم يقف، أو هو قاعد في المسجد كره ولم يحرم.
وهذا بعيد، والتبايع في المسجد بعد الأذان يجتمع فيه نهيان؛ لزمانه ومكانه، فهو أولى بالتحريم.
المسألة الرابعة:
حكى عن الزهري: أن المسافر إذا سمع النداء للجمعة، فعليه أن يشهدها، وقد سبق ذكر ذلك عنه، وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاءٍ: أن عليه شهودها، سمع الأذان أو لم يسمعه، وأن الجمهور على خلاف ذلك.
وهل للمسافر أن يبيع ويشتري بعد سماع النداء؟ فيهِ اختلاف بين أصحابنا، يرجع إلى أن من سقطت عنه الجمعة لعذر، كالمريض: هل لهُ أن يبيع بعد النداء، أم
لا؟ فيه روايتان عن أحمد.
وأما من ليس من أهل الجمعة بالكلية، كالمرأة، فلها البيع والشراء بغير خلاف، وكذا العبد، إذا قلنا: لا يجب عليه الجمعة.
خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

(8/197)


الأول:
907 -

(8/198)


ثنا علي بن عبد الله: ثنا الوليد بن مسلمٍ: ثنا يزيد بن أبي مريم: ثنا عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبسٍ وأنا اذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)) .
((يزيد بن أبي مريم)) ، هو: الأنصاري الشامي، وهو بالياء المثناة من تحت، وبالزاي.
وأما: بريد بن أبي مريم –بالباء الموحدة، والراء المهملة -، فبصري، لم يخرج له البخاري في ((صحيحه)) شيئاً.
وخرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) هذا الحديث بسياق تام، ولفظه: عن يزيد بن أبي مريم: بينما أنا رائحٌ إلى الجمعة إذ لحقني عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج
الأنصاري، وهو راكب وأنا ماشٍ، فقال: احتسب خطاك هذه في سبيل الله، فاني سمعت أبا عبس بن جبر الأنصاري يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار)) .
وخرّجه الترمذي والنسائي –بمعناه.
ففي هذه الرواية أن هذه القصة جرت ليزيد مع عباية، وفي روايةٍ البخاري أنها جرت لعباية مع أبي عبس، وقد يكون كلاهما محفوظاً. والله أعلم.

(8/198)


وليس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله، فأدخل الرواي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل، وجعله شاملاً له
وللجهاد.
والأظهر في اطلاق سبيل الله: الجهاد، وقد يؤخذ بعموم اللفظ، كما أذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه، وقال: ((الحج من سبيل الله)) ، وقد ذكرناه في موضع آخر.
وقد كان كثير من السلف يختارون المشي إلى الجمعة، كما سبق من غير واحدٍ من الصحابة.
وقد روي عن عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه -، أنه كان يبكر إلى الجمعة، ويخلع نعليه، ويمشي حافياً، ويقصر في مشيه.
خرّجه الأثرم بإسناد منقطع.
الحديث الثاني:
908 -

(8/199)


حديث: أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاتموا)) .

(8/199)


وقد تقدم في ((كتاب: الصلاة)) باختلاف أسانيده وألفاظه.
الحديث الثالث:
909 -

(8/200)


حديث: يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة –قال أبو عبد الله: ولا أعلمه إلاّ عن أبيه -، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا تقوموا حتَّى تروني، وعليكم السكينة)) .
وقد تقدم –أيضاً - باختلاف ألفاظه.
وليس في هذا – والذي قبله – ذكر الجمعة، إنما فيهِ ذكر الصَّلاة، وهي تعم الجمعة وغيرها.
وحديث أبي هريرة إنما يدل على النهي عن السعي عندَ سماع الإقامة، وحديث أبي قتادة إنما فيهِ الأمر بالسكينة في القيام إلى الصَّلاة، لا في المشي إليها.
* * *

19 -

(8/200)


باب
لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

(8/201)


910 - ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، [عن
أبيه] ، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيبٍ، ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خَّرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
التفريق بين اثنين يدخل فيه شيئان:
أحدهما:
أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدمٍ.
وقد خرج أبو داود نحو هذا الحديث من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ((ولم يتخط رقاب الناس)) .
ومن حديث عبد الله بن عمرو –أيضاً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(8/201)


وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي أيوب، ومن حديث نبيشة الهذلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثهما: ((ولم يؤذ أحداً)) .
ومن حديث أبي الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثه: ((ولم يتخط أحداً، ولم يؤذه)) .
وقد تقدم حديث عبد الله بن بسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناسِ يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجلس، فقد آذيت)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وخرّجه ابن ماجه من حديث جابر.

(8/202)


وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث زبان بن فائد، من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من تخطي رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم)) .
وزبان، مختلف في أمره.
ورواه عنه ابن لهيعة ورشدين بن سعدٍ.
وخرّج الإمام أحمد من حديث أرقم بن الأرقم المخزومي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة إلى النارِ)) .

(8/203)


وفي إسناده: هشام بن زياد أبو المقدام، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.
وأكثر العلماء على كراهة تخطي الناس يوم الجمعة، سواء كان الإمام قد خَّرج أو لم يخرج بعد.
وقالت طائفةٌ: لا يكره التخطي إلا بعدَ خروجهِ، كما دل عليه حديث الأرقم، منهم: الثوريُ، ومالكٌ، والأوزاعي – في روايةٍ -، ومحمد بن الحسنِ.
وذكر مالكٌ، عن أبي هريرة، قال: لأن يصلي أحدكم بظهرة الحرة خيرٌ له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطبُ جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعةِ.
فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، ففيه قولان:
أحدهما:

(8/204)


يجوز له التخطي حينئذ، وهو قول الحسن، وقتادة، والأوزاعي والشافعي، وكذا قال مالكٌ في التخطي قبل خروج الإمام، وكذا روى معمر عن الحسن وقتادة.
والثاني: أنه يكره، وهو قولُ عطاءٍ، والثوريّ.
وعن أحمد روايتان في ذلك، كالقولين.
وعنه روايةٌ ثالثةٌ: إن كان يتخطى واحداً أو اثنين جاز، وان كان أكثر كره.
وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف، وتركوا مقدمها عمداً، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ.
وفي كلام الأوزاعي وغيره ما يدل على مثل هذا - أيضاً -، وكذلك قال الحسن، قال: لا حرمة لهم.
ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لابد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعا للصلاة بدونه، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي، لم
يكره.
وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته مسرعاً، يتخطى رقاب الناسِ.
وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم –إذا أقيمت الصلاة – أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ.
وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة: جواز تخطيهم بإذنهم، وعن قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه.
ثم قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك

(8/205)


عندي، لأن الأذى يحرم قليلة وكثيرة، وهذا اذى، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجلس، فقد آذيت)) .
فظاهر كلامه: تحريمه بكل حال، والاكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ.
ومتى كان بين الجالسين فرجة، بحيث لا يتخطاهما، جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما كره له ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً، ولم يؤذه، ولم يضيق على أحد جاز، وإلاّ فلا.
قال ذلك كله عطاءٍ -: ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.
الثاني –مما يدخل في التفريق بين اثنين -:
الجلوس بينهما إن كانا جالسين، أو القيام بينهما أن كانا قائمين في صلاة.
فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما ولا دفع ولا أذى، مثل أن يكون بينهما فرجة، فإنه يجوز، بل يستحب، لأنه مامور بسد الخلل في الصف، وإلاّ فهو منهي عنه، إلاّ أن ياذنا في ذلك.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا باذنهما)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وقال: حديثٌ

(8/206)


حسنٌ.
فإن كان الجالسان بينهما قرابة، أو كانا يتحدثان فيما يباح، كان أشد كراهةً.
وفي ((مراسيل أبي داود)) عن المطلب بن حمطب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا يفرق بين الرجل ووالده)) .
وخرّجه الطبراني من حديث سهل بن سعدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يجلس الرجل بين الرجل وابيه في المجلس)) .
وفي إسناده نظر.
وروي عن ابن عمر – مرفوعاً، وموقوفاً -: ((إذا كان اثنان يتناجيان فلا يدخل بينهما إلا بإذنهما)) .
قال الإمام أحمد في الرجل ينتهي إلى الصف وقد تم فيدخل بين رجلين: أن علم أنه لا يشق عليهم.
قال القاضي أبو يعلى: أن شق عليهم لم يجز؛ لأن فيهِ أذية لهم، وشغلاً لقلوبهم.

* * *

20 -

(8/207)


باب
لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه

(8/208)


911 - حدثنا محمد بن سلام: ثنا مخلد: أنا ابن جريجٍ: سمعت نافعا يقول: سمعت ابن عمر يقول: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقيم الرجلُ الرجل من مقعده، ثم يجلس فيهِ)) .
قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها.
وقد خرّجه البخاري في مواضع متعددة، وفي بعضها زيادة: ((ولكن تفسحوا وتوسعوا)) .
وخرّج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(8/208)


قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الحمعة ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) .
وخَّرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)) .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: أنزلت هذه الآية – يعني: قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة:11] –في يوم جمعة، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيقٌ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء اناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلموا عليه، ثم سلموا على القوم، فقاموا على ارجلهم ينتظرون أن يفسح لهم، فلم يوسع لهم، فشق ذلك على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار –من غير أهل بدر -: ((قم أنت

(8/209)


يا فلان، وأنت
يا فلان)) ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكراهة في وجوههم، وتكلم في ذلك المنافقون، فبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((رحم الله رجلاً فسح لاخيه)) ، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لاخوانهم، ونزلت الآية يوم الجمعة.
فظاهر هذا: يدل على أن إقامة الجالس نسخ بهذه الآية، وانتهى الأمر إلى التفسح المذكور فيها.
وقال قتادة: كان هذا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن حوله خاصة.
يشير إلى إقامة الجالسين ليجلس غيرهم؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك إكراماً لأهل الفضائل والاستحقاق، وغيره لا يؤمن عليه أن يفعله بالهوى.
ويستثنى من ذلك: الصبي، إذا كان في الصف، وجاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، كما فعله أبي بن كعب بقيس بن عباد، وقد ذهب اليه الثوري وأحمد، وقد تقدم ذلك.
فإن كان الذي في الصف رجلاً، وكان أعرابياً أو جاهلاً، لم يجز تاخيره من موضعه.
قال أحمد: لا أرى ذلك.
وفي ((سنن أبي داود)) ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من سبق إلى ما لم

(8/210)


يسبق اليه أحد فهو أحق به)) .
واستثنى بعض الشافعية – أيضاً - ثلاث صور، وهي: أن يقعد في موضع الإمام، أو طريق الناس ويمنعهم الاجتياز، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة.
ويستثنى من ذلك، أن يكون المتاخر قد ارسل من ياخذ له موضعاً في الصف، فاذا جاء الجالس وجلس الباعث فيه. وقد ذكره الشافعي وأصحابنا وغيرهم.
وروي عن ابن سيرين، أنه كان يفعله.
واما إن قام احد من الصف تبرعاً واثر الداخل بمكانه، فهل يكره ذلك، أم لا؟ أن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهة الشافعية.
وقال أحمد فيمن تاخر عن الصف الأول، وقدم اباه فيه: هو يقدر أن يبرَّ أباه بغير هذا.
وظاهره: الكراهة، وأنه يكره الإيثار بالقرب.
وأم الموثر، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي اوثر به؟ فيهِ قولان

(8/211)


مشهوران.
أشهرهما: لا يكره، وهو قولُ أصحابنا والشافعية وغيرهم.
والثاني: يكره، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك، وكذلك أبو بكرة.
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، قال: جاء رجل إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرّج أحمد وأبو داود من حديث أبي بكر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه –أيضاً.
ولو بادر رجلٌ وسبق المؤثر إلى المكان، فهل هو أحق به من الموثر، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم.
وأما من فسح له في مجلسٍ اوصفٍ، فلا يكره له الجلوس فيه.
وفي مراسيل خالد بن معدان، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا جاء أحدكم

(8/212)


إلى المجلس، فوسع له، فليجلس؛ فإنها كرامة)) .
خرّجه حميد بن زنجوية.
فإن كان في جلوسه تضييق على الناس، أو لم يصل إلى المكان الا بالتخطي، فلا يفعل.
وقد روي عن أبي سعيدٍ الخدري، أنه أوذن بجنازة في قومه، فتخلف حتى جاء الناس واخذوا المجالس، ثم جاء بعد، فلما رآه القوم توسعوا له، فقال: لا؛ إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إن خيرٌ المجالس أوسعها)) ، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع.
وخَّرج أبو داود منه المرفوع فقط.
وروى الخرائطي –بإسناد فيه جهالة -، عن أبي هريرة –مرفوعاً -: ((لا توسع المجالس إلا لثلاثة: لذي علم لعلمه، وذي سن لسنه، وذي سلطان لسلطانه)) .
ودخل خالد بن ثابت الفهمي المسجد يوم الجمعة، وقد امتلأ من الشمس، فرآه بعض من في الظل، فأشار اليه ليوسع له، فكره أن يتخطى

(8/213)


الناس إلى ذلك الظل، وتلا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] ، ثم جلس في الشمس.
خرّجه حميد بن زنجويه.
* * *

21 -

(8/214)


باب
الأذان يوم الجمعة

(8/215)


912 - حدثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء.
قال أبو عبد الله: الزوراء: موضع بالسوق بالمدينةِ.
الأذان يوم الجمعة قد ذكره الله تعالى في كتابه، وفي قوله {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه، وان قيل: أن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى من أصحابنا، وقاله طائفةٌ من الشافعية –أيضاً.
وقد دل الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء.
ولهذا قال أكثرهم: أنه هو الأذان الذي يمنع البيع، ويوجب السعي إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواه.

(8/215)


وما ذكره ابن عبد البر عن طائفةٌ من أصحابهم، أن هذا الأذان الذي يمنع البيع، لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك، فقد بين ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله، لعدم معرفته بالسنة والاثار.
فإن قال هذا الجاهل: أنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة، فقد باهت، ويكذبه قولُ الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام، فقد أبطل، ويكذبه هذا الحديث واجتماع العلماء على ذلك.
وقوله في هذه الرواية: ((أوله إذا جلس الإمام على المنبر)) ، معناه: أن هذا الأذان كان هو الأول، ثم تليه الإقامة، وتسمى: أذاناً، كما في الحديث المشهور: ((بين كل اذانين صلاةٌ)) .
وخرّجه النسائي من روايةٍ المعتمر، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فاذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني.

(8/216)


وقد خَّرج أبو داود هذا الحديث من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، وأبي بكر وعمر.
ففي هذه الرواية: زيادة: أن هذا الأذان لم يكن في نفس المسجد، بل على بابه، بحيث يسمعه من كان في المسجد ومن كان خارج المسجد، ليترك أهل الأسواق البيع ويسرعوا إلى السعي إلى المسجد.
وقوله: ((فلما كان عثمان)) –يريد: لما ولي عثمان – ((وكثر الناس في زمنه زاد النداء الثالث على الزوراء)) ، وسماه: ثالثاً؛ لأن به صارت النداآت للجمعة ثلاثة، وإن كان هو أولها وقوعاً.
وخرّجه ابن ماجه، وعنده –بعد قوله: ((على دار في السوق، يقال لها:
الزوراء)) -: ((فاذا خَّرج أذن، وإذا نزل أقام)) .
وهو من روايةٍ: ابن إسحاق، عن الزهري.
وروى الزهري، عن ابن المسيب: معنى حديثه عن السائب بن يزيد، غير أنه قال: ((فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، واراد أن يتهيأ الناس للجمعة)) .

(8/217)


خرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عنه.
وقد رواه إسماعيل بن يحيى التميمي – وهو ضعيف جداً -، عن مسعر، عن القاسم، عن ابن المسيب، عن أبي أيوب الأنصاري، قال ما كان الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة إلا قدام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو على المنبر، فاذا نزل أقاموا الصلاة، فلما ولي عثمان أمر أن يؤذن على المنارة ليسمع الناس.
خرّجه الإسماعيلي في ((مسند مسعر)) ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ.
قلت: والصحيح: المرسل.
وقد أنكر عطاءٍ الأذان الأول، وقال: إنما زاده الحجاج، قال: وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاء.
خرّجه عبد الرزاق.
وقال عمرو بن دينار: إنما زاد عثمان الأذان بالمدينة، وأما مكة فأول من زاده الحجاج، قال: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة.

(8/218)


خرّجه عبد الرزاق –أيضاً.
وروى مصعب بن سلام، عن هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد على المنبر أذن بلالٌ، فإذا فرغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خطبته اقام الصلاة، والاذان الأول بدعة.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن هشام بن الغاز، قال: سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة؟ فقالَ: قالَ ابن عمر: بدعةٌ، وكل بدعة ظلالة، وإن رآه الناس حسناً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يكن في زمان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصَّلاة. قال: وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعد.
خرّجه ابن أبي حاتمٍ.
وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس، وإذا أذن المؤذن قام الإمام عى المنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان

(8/219)


الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر أذان وأقامة، وهذا الأذان الذي زادوه محدثٌ.
وقال الشافعي –فيما حكاه ابن عبد البر -: أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، قال: وكان عطاءٍ ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني، وقال: إنما أحدثه معاوية.
قال الشافعي: وأيهما كان، فالأذان الذي كان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي ينهى الناس عنده عن البيع.
ولأصحابه في أذان الجمعة – على قولهم: الأذان سنة - وجهان:
أحدهما: أنه سنة –أيضاً.
والثاني: أنه للجمعة خاصة فرض كفاية.
فعلى هذا: هل تسقط الكفاية بالأذان الأول، أو لا تسقط الا بالاذان بين يدي الإمام؟ على وجهين –أيضاً.
ومن أصحابنا من قال: يسقط الفرض بالأذان الأول، وفيه نظر. والله أعلم.
وقال القاضي أبو يعلى: المستحب أن لا يؤذن الا أذان واحد، وهو بعد جلوس الإمام على المنبر، فإن أذن لها بعد الزوال وقبل جلوس الإمام جاز، ولم يكره.
ثم ذكر حديث السائب بن يزيد هذا.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن الأذان الأول للجمعة محدث،

(8/220)


احدثه عثمان، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين، ليعلم الأبعدين ذلك، فصار سنة: لأن على الخلفاء النظر في مثل ذلك للناس.
وهذا يفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإمام، فإن احتاج اليه لكثرة الناس فعله، وإلا فلا حاجة إليه.
* * *

22 -

(8/221)


باب
المؤذن الواحد يوم الجمعة

(8/222)


913 - حدثنا أبو نعيمٍ: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير مؤذنٍ واحدٍ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام –يعني: على المنبر.
قوله: ((ولم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مؤذن واحد)) –يعني: في الجمعة؛ فإن في غير الجمعة كان له مؤذنان، كما سبق في ((الأذان)) .
وقد قيل: إنه يحتمل أن يكون مراد السائب: أنه لم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة إلا تأذين واحد، فعبر بالمؤذن عن الأذان -: ذكره الإسماعيلي.
وهذا يرده قوله: ((فزاد عثمان النداء الثالث)) ، فإنه يدل على أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذانان –يعني: الأذان والاقامة - والمؤذن الواحد في الجمعة.
وقد تقدم في روايةٍ النسائي لحديث السائب بن يزيد، ويفهم من

(8/222)


حديث ابن عمر –أيضاً.
وخرّج ابن ماجه من روايةٍ عبد الرحمن بن سعدٍ بن عمار: حدثني أبي، عن
أبيه، عنجده –وهو: سعدٍ القرظ -، أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الفيء مثل الشراك.
وهذا إسنادٌ ضعيف، ضعفه ابن معين وغيره.
وإنما كان سعدٍ يؤذن بقباء في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بقباء جمعةٌ.
وقد حكى ابن عبد البر اختلافاً بين العلماء في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام: هل يكون من مؤذن واحد، أو مؤذنين؟
فذكر من روايةٍ ابن عبد الحكم، عن مالكٍ، أنه قالَ: إذا جلس الإمام على
المنبر، ونادى المنادي منع الناس من البيع.
قال: وهذا يدل على أن النداء عنده واحدٌ بين يدي الإمام.
وفي ((المدونة)) من قول ابن قاسم، وروايته، عن مالكٍ: إذا جلس الإمام على المنبر، وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع.
فذكر ((المؤذنين)) بلفظ الجماعة.
قال: ويشهد لهذا حديث مالكٍ، عن ابن شهاب، عن ثعبلة بن أبي مالكٍ، أنهم كانوا في زمن عمر بن

(8/223)


الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فاذا خَّرج وجلس على المنبر وأخذ المؤذنون.
هكذا بلفظ الجماعة.
قال: ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحداً وجماعة في كل
صلاة، إذا كان ذلك مترادفاً، لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها.
وذكر من كلام الشافعي، أنه قال: إذا قعد الإمام اخذ المؤذنون في الأذان.
ومن كلام الطحاوي في ((مختصره)) : حكاية قولُ أبي حنيفة وأصحابه: إذا جلس الإمام على المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه – بلفظ الجمع.
ووقع في كلام الخرقي من أصحابنا: واخذ المؤذنون في الأذان –بلفظ الجمع.
وقال مكحول: إن النداء كان في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، فأمر عثمان أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.
خرّجه ابن أبي حاتم.
قال حربٌ: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة إذا أذن على المنارة عدة؟ قال: لا بأس بذلك، قد كان يوذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال وابن أم مكتوم، وجاء أبو محذورة وقد أذن رجل قبله، فأذن أبو محذورة.
وظاهر هذا: أنه لو أذن على المنارة مؤذن بعد مؤذن جاز، وهذا قبل خروج الإمام.

(8/224)


وقال القاضي أبو يعلى: يستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحداً، فإن أذن أكثر من واحد جاز، ولم يكره.
ومراده: إذا أذنوا دفعة واحدة بين يدي الإمام، أو اذنوا قبل خروجه تترى، فأما أن أذنوا بعد جلوسه على المنبر، مرةً بعد مرة، فلا شك في كراهته، وأنه لم يعلم وقوعها في الإسلام قط.
وكذا قال كثيرٌ من أصحاب الشافعي: أنه يستحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر، ويستحب أن يكون المؤذن واحداً؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بلالٌ.
ونقل المحاملي هذا الكلام عن الشافعي، والذي نقله البويطي عن الشافعي يخالف ذلك؛ فإنه نقل عنه، أنه قال: النداء للجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر، ليسمع الناس فيؤبون إلى المسجد.
وهذا تصريح بأنهم يكونون جماعة، وأنهم يؤذنون على المنارة لإسماع الناس، لا بين يدي المنبر في المسجد.
وقد خرّج البخاري في ((صحيحه)) هذا في ((باب: رجم الحُبلى)) ، من حديث ابن عباسٍ، قال: جلس عمر على المنبر يوم الجمعة، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله –وذكر الحديث.
وروي عن المغيرة بن شعبة، أنه كان له في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ.
وخرّج الإمام أحمد من روايةٍ ابن إسحاق، عن العلاء بن

(8/225)


عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد، يكتبون من جاء، فاذا أذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف، ودخلوا المسجد يستمون الذكر)) .
وهذا لفظ غريب.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن موسى بن طلحة، قال: رأيت عثمان بن عفان جالساً على المنبر في يوم الجمعة، والمؤذنون يؤذنون يؤم الجمعة، وهو يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم.
ويحتمل أن يكون مراد من قال: ((المؤذن)) –بلفظ الافراد -: الجنس، لا
الواحد، فلا يبقى فيهِ دلالة على كونه واحداً.
* * *

23 -

(8/226)


باب
يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء

(8/227)


914 - ثنا ابن مقاتل: أنا عبد الله: أنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو جالس على المنبر، اذن المؤذن، فقال: ((الله أكبر الله أكبر)) . قال معاوية: ((الله أكبر الله أكبر)) , فقال: ((أشهد أن لا إله الا الله)) . فقال معاوية: ((وأنا)) قال: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) . قال معاوية: ((وأنا)) ، فلما قضى التاذين قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالي.

(8/227)


المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن الإمام يجيب المؤذن على المنبر إذا أذن بين يديه، كما يجيبه غيره من السامعين، وليس في ذلك خلافُ؛ فإن الإمام من جملة السامعين للمؤذن، فيدخل في عموم قوله: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)) .
وقد سبق في ((الأذان)) الكلام على اجابة المؤذن مستوفىً.
وفي حديث معاوية: دليل على أن من سمع مخبراً يخبر عن نفسه بشئ، فقال هو - مجيباً له -: ((وأنا)) ، أنه يصير مقراً بمثل ما أقر به.
وعلى هذا: فلو سمع الكافر مؤذناً يؤذن، فقال –مجيباً له -: ((وأنا)) ، فهل يصير مسلماً؟
وقد قال أحمد في ذمي مر بمؤذن، يؤذن، فقال له: كذبت: إنه يقتل.
وكذا لو سمع رجل رجلاً قال لامرأته: أنت طالق، أو قال: امرأتي طالق، فقال: وأنا، ونوى الطلاق، فهل تطلق امرأته؟
وقد حكى القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) فيما إذا قالَ رجل لرجل: يا زان، فقالَ لهُ: لا، بل أنت، فهل يحد الثاني، لكونه قاذفا، أم لا؟ على وجهين.

* * *
24 -

(8/228)


باب
الجلوس على المنبر عند التأذين

(8/229)


915 - حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، أن السائب بن يزيد أخبره، أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام.
إنما سماه ((الثاني)) باعتبار الأذان عند الجلوس على المنبر، فهما أذانان بهذا الاعتبار، و ((الإقامة)) لا تسمى أذاناً عند الاطلاق.
وجلوس الإمام على المنبر يوم الجمعة إذا رقى المنبر حتى يفرغ من الأذان سنة مسنونة، تلقاها الأمة بالعمل بها خلفاً عن سلف.
إلا أن ابن عبد البر حكى عن أبي حنيفة: أنه غير مسنون. ولا خلاف أنه غير واجبٍ.

* * *
25 -

(8/229)


باب
التأذين عند الخطبة

(8/230)


916 - حدثنا محمد بن مقاتل: أنا عبد الله: أنا يونس: عن الزهري، قال: سمعت السائب ين يزيد يقول: إن الأ ان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر، في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك.
المقصود بهذا الباب: أن الأذان يوم الجمعة يكون عند جلوس الإمام على المنبر للخطبة، فهذا هو الأذان الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، وهو المجتمع على مشروعيته.
وهل يكون بين يدي المنبر في المسجد، أو على المنارة؟ فيه كلام سبق ذكره، وان الشافعي نص في ((كتاب البويطي)) على أنه يكون على المنارة.
وكذا مذهب مالكٍ، قال في ((تهذيب المدونة)) : يجلس الإمام في أول خطبته حتى يؤذن المؤذنون على المنار، ثم يخطب.
ونقل مثنى الأنباري عن أحمد، أنه سئل عن الأذان الذي يجب على من كان خارجاً من المصر، أن يشهد الجمعة؟ قال: هو الأذان الذي في المنارة.

(8/230)


وهذا يحتمل أنه يريد به ما قاله الشافعي: أن أذان الجمعة بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر يكون على المنارة.
ويحتمل أنه يريد به: أنه يجب السعي بالأذان الأول، كما يحرم البيع به، على روايةٍ عنه؛ فإن قوله: ((الذي على المنارة)) إخبار عن الواقع في زمانه، ولم يعهد في زمانه الأذان على المنارة سوى الذي زاده عثمان.
ويحتمل أنه إنما قال ذلك فيمن كان خارج المصر؛ لأن الأذان الأول يكون لإعلامهم، فليزمهم السعي به، بخلاف أهل المصر، فإنهم يلزمهم السعي من غير سماع أذان، فلا يجب عليهم السعي بالأذان الأول، بل بالثاني، والله أعلم.
وقد تقدم في روايةٍ ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد لهذا الحديث: أن هذا الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكرٍ وعمر كان على باب المسجد.
وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا: ((فثبت الأمر على ذلك)) ، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان أستمر، ولم يترك بعده.
وهذا يدل على أن علياً اقر عليه، ولم يبطله، فقد أجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم أجمعين.

* * *

26 -

(8/231)


باب
الخطبة على المنبر
وقال أنس: خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر.
حديث أنس هذا: الظاهر أنه يريد به حديثه في دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاستسقاء يوم الجمعة على المنبر، وسيأتي في مواضع أخر من الكتاب – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
917 -

(8/232)


نا قتيبة: نا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري الاسكندراني: نا أبو حازم بن دينار، أن رجالاً أتوا سهل بن سعدٍ الساعدي، وقد امتروا في المنبر: مم عوده؟ فسألوه عن ذَلِكَ، فقالَ: إني والله: لأعرف مما هوَ، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليهِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فلانة –امرأة قد سماها سهل -: ((مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس)) ، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثُمَّ جاء بها، فارسلت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فامر بها فوضعت هاهنا، ثُمَّ رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليها، وكبر وهو عليها، ثُمَّ ركع وهو عليها، ثُمَّ نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثُمَّ عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ((ياأيها الناس،

(8/232)


إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي)) .
قد خرّجه فيما تقدم من حديث ابن عيينة عن أبي حازم، وهذا السياق أتم.
وفي روايةٍ ابن عيينة: ((من أثل الغابة)) ، و ((الأثل)) و ((الطرفاء)) : يشبه بعضه بعضاً. و ((الغابة)) : خارج المدينة مشهورة.
وخرّجه البخاري –أيضاً - مختصراً في ((أبواب المساجد)) ، في ((باب: الاستعانة بالصناع والنجار في عمل المسجد والمنبر)) من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، وذكرنا الاختلاف في رسم الذي عمل المنبر.
وخرّجه مسلم من حديث عبد العزيز بتمامه، وفي حديثه: أن المنبر كان ثلاث درجاتٍ.
وقد روي هذا الحديث عن سهل من وجه أخر، وفيه: حنين الخشبة.
خرّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) : ثنا أبو بكر بن أبي أويس: حدثني سليمان بن بلال، عن سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس، عن عباسٍ بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين –قال: أراه كانت من دومة كانت في مصلاه -،

(8/233)


فكأن يتكئ عليها، فقال له أصحابه: يا رسول الله، إن الناس قد كثروا، فلو أتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت نراك؟ فقال: ((ما شئتم)) .
قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخانقين، فقطعنا هذا المنبر من أثله. قال: فقام عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحنت الخشبة، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟)) فأقبل الناس وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتاها، فوضع يده عليها، فسكنت، فامر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدفنت تحت منبره – أو جعلت في السقف.
ورواه أبو إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر ابن أبي أويس، به.
وهذا إسنادٌ جيد، ورجاله كلهم يخرج لهم البخاري، الا سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس –وهو: اخو يحيى بن سعيدٍ -؛ فإن البخاري استشهد به، وخَّرج له مسلم، وتكلم بعضهم في حفظه.
الحديث الثاني:
918 -

(8/234)


نا سعيدٍ بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني يحيى بن سعيدٍ: أخبرني ابن أنس: سمع جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم اليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده
عليه.
قال سليمان، عن يحيى: أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس: سمع جابر بن
عبد الله.
روايةٍ سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيدٍ: قد أسندها البخاري في ((أعلام النبوة)) .
والمقصود من ذكرها هاهنا: أن فيها تسمية ابن أنس الذي ابهم في روايةٍ محمد بن جعفر، وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس.
والظاهر: أن البخاري أبهمه في روايةٍ محمد بن جعفر، لأن محمد بن جعفر سماه: ((عبيد الله بن حفص بن أنس)) ، ووهم في ذلك -: قاله الدارقطني.
وقد خرّجه الإسماعيلي من طريق سعيدٍ بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن حفص بن عبيد الله بن أنس على الصواب.
وخرّجه من طريق يعقوب بن محمد: نا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق: ثنا
يحيى بن سعيدٍ: حدثني عبيد الله بن حفص بن أنس.

(8/235)


قال يعقوب: وإنما هو: حفص بن عبيد الله، ولكن هكذا ثنا.
وفي روايةٍ البخاري: التصريح بسماع حفص لهذا الحديث من جابر، وهذا يرد ما قاله أبو حاتم الرازي: إنه لا يدري: هل سمع من جابر، أم لا؟ قال: ولا يثبت له السماع إلا من جده أنس.
ورواه سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدٍ بن المسيب، عن جابر، ووهم في قوله: ((سعيدٍ بن المسيب)) -: قاله أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني.
و ((العشار)) : النوق الحوامل، واحدتها: عشراء، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، فتسمى بذلك حتى تضع، وبعد أن تضع.
وقد خَّرج البخاري هذا الحديث في ((الأعلام)) من روايةٍ عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر –نحوه.
الحديث الثالث:
919 -

(8/236)


نا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: ((من جاء إلى الجمعة فلغتسل)) .
والمقصود من هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على المنبر، ويعلم الناس دينهم
عليه.

(8/236)


ولو جمعت الأحاديث التي فيها ذكر خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وكلامه عليه لكانت كثيرة جدا، وكذلك احاديث اتخاذ المنبر كثيرةٌ –أيضاً.
وقد خَّرج منها البخاري في ((دلائل النبوة)) من حديث ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى الجذع، فلما أتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه.
خرّجه عن محمد بن المثنى: نا يحيى بن كثير أبو غسان: نا أبو حفص –واسمه: عمر بن العلاء، أخو أبي عمرو بن العلاء -، قال: سمعت نافعاً، عن ابن عمر –
فذكره.
ثم قال:
وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر: أنا معاذ بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر – بهذا.
ورواه أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?. انتهى.
وعبد الحميد هذا، قيل: أنه عبد بن حميد.
وقد خرّجه الترمذي عن أبي حفص الفلاس، عن عثمان بن عمر

(8/237)


ويحيى ابن كثير –كلاهما -، عن معاذ بن العلاء، عن نافع.
وخرّجه البيهقي من روايةٍ عباسٍ الدوري، عن عثمان بن عمر، عن معاذ.
وكذا رواه غير واحدٍ عن عثمان بن عمر.
وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من روايةٍ أبي عبيدة الحداد، عن معاذ بن العلاء –أيضاً.
وكذا رواه وكيع ويحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان، عن معاذ بن العلاء.
وليس لأبي حفص عمر بن العلاء ذكر في غير روايةٍ البخاري المسندة، وقد قيل أنها وهم من محمد بن المثنى.

(8/238)


ولكن خرّجه أبو أحمد الحاكم من روايةٍ عبد الله بن رجاء الغذاني، عن أبي حفص بن العلاء –أيضاً.
وقد رواه يحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان عن معاذ بن العلاء، وكنياه: ((أبا غسان)) .
قال أبو أحمد الحاكم: والله أعلم، أهما أخوان: أحدهما يسمى:

(8/239)


عمر، والآخر: معاذ، وحدثا بحديث واحد؟ أو أحدهما محفوظ، والآخر غير محفوظ؟
وذكر: أن معاذ بن العلاء أخا أبي عمرو مشهورٌ، وأن أبا حفص لا يعرفه إلا في هاتين الروايتين. قال: والله أعلم بصحة ذلك. انتهى.
والصحيح في هذا الحديث: معاذ بن العلاء -: قاله أحمد والدارقطني وغيرهما.
وأما روايةٍ أبي عاصم، عن ابن أبي رواد التي علقها البخاري، فخرجها أبو
داود، ولفظ حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بدن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله، يجمع عظامك، أو يحمل عظامك؟ قالَ: ((بلى)) ، فاتخذ لهُ منبراً
مرقاتين.
ولم يزد على هذا.
وخرّجه البيهقي، وزاد: ((فاتخذ له مرقاتين - أو ثلاثة -، فجلس عليها.
قال: فصعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحن جذع في المسجد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب يستند
إليه، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحتضنه، فقال شيئاً لا أدري ما هو؟ ثم صعد المنبر، وكانت اساطين المسجد جذوعاً، وسقائفه جرائد)) .
وعنده - في أوله -: ((لما أسن وثقل)) .
ورواه عامر بن مدرك، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن تميم الداري –بنحوه، وفي حديثه: ((فصنع له منبراً مرقاتين، والثالثة مجلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، فإذا عي قعد فاستراح، ثم قام فخطب –ووذكر الحديث.
ورواية أبي عاصم أصح.

(8/240)


ومن أغرب سياقات أحاديث اتخاذ المنبر: ما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جذع، إذ كان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم؟ قالَ:
((نعم)) ، فصنع له ثلاث درجات التي على المنبر –ثم ذكر حنينه إليه وسكونه بمسحه بيده -، ثم قال: وكان إذا صلى صلى إليه، فلما هدم المسجد وغير اخذ ذلك الجذع أبي بن كعب، فكأن عنده حتى بلي وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً.
خرّجه الإمام أحمد.
وفي روايةٍ له: أن القائل: ((فلما هدم المسجد)) –إلى اخره، هو الطفيل بن أبي بن كعب.
وخرّجه ابن ماجه –بمعناه.
وخرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في ((زيادات المسند)) ، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((أن تشأ غرستك في الجنة فياكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت حطباً)) فاختار الآخرة على الدنيا، فلما قبض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى أبي، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة.

(8/241)


وقد خرّجه الطبراني بنحو هذه الزيادة، بإسناد ضعيف، عن عائشة، وفيه: أن المنبر كان أربع مراقٍ. وفي آخره: أن الجذع غار فذهبَ.
وفي ((مسند البزار)) ، بإسناد لا يصح، عن [ ... ] معاذ، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وان اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم)) .
وقد أنكره أبو حاتم الرازي وغيره.
وقد قالَ بعض السلف: إن إبراهيم –عليهِ السلام – هوَ أول من خطب على المنابر.
والصحيح: أن المنبر كانَ ثلاث مراق، ولم يزل على ذَلِكَ في عهد خلفائه الراشدين، ثُمَّ زاد فيهِ معاوية.
وقد عد طائفةٌ من العلماء: تطويل المنابر من البدع المحدثة، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.
وقد روي في حديث مرفوع: أن ذَلِكَ من أشراط الساعة، ولا يثبت إسناده.
وكره بعض الشافعية المنبر الكبير جداً، إذا كانَ يضيق به المسجد.

* * *

27 -

(8/242)


باب
الخطبة قائما
وقال أنس: بينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً.
حديث أنس، هو الذي فيه ذكر الاستسقاء في الجمعة، وسيأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى - فيما بعد.

(8/243)


920 - حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري: نا خالد بن الحارث: نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما يفعلون الان.
وفي الخطبة قائماً احاديث أخر.
وخَّرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد –والله – صليت معه أكثر من ألفي صلاةٍ.

(8/243)


وخَّرج مسلم بإسناده من حديث كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد
وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا الخبيث، يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] .
وخرّج ابن ماجه من حديث إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ، أنه سئل: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً أو قاعداً؟ قالَ: إما تقرأ {تَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] ؟
وهذا إسنادٌ جيد.
لكن روي، عن إبراهيم، عن علقمة من قوله. وعن إبراهيم، عن عبد الله منقطعاً.
واستدل بهذه الآية على القيام في الخطبة جماعة، منهم: ابن سيرين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ.
وإنما احتاجوا إلى السؤال عن ذلك، لأنه كان في زمن بني امية من يخطب
جالساً، وقد قيل: أن أول من جلس معاوية -: قاله الشعبي والحسن وطاوس.
وقال طاوس: الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة.
وقال الحسن: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر وعثمان يخطبون

(8/244)


قياماً، ثم أن عثمان لما رق وكبر كان يخطب، فيدركه ما يدرك الكبير فيستريح ولا يتكلم، ثم يقوم فيتم خطبته.
خرّجه القاضي إسماعيل.
وخَّرج –أيضاً - من روايةٍ ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، أنه قال: أول من جعل في الخطبة جلوساً عثمان، حين كبر واخذته الرعدة جلس هنية، قيل له: هل كان يخطب عمر إذا جلس؟ قال: لا أدري.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يخطب الخطبة الأولى جالساً، ويقوم في الثانية.
خرّجه ابن سعدٍ.
والظن به أنه لم تبلغه السنة في ذلك، ولو بلغته كان أتبع الناس لها.
وقد قيل: أن ذلك لم يصح عنه؛ فإن الأثرم حكى: أن الهيثم بن خارجة قال لأحمد: كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته؟ قال: فظهر منه أنكار لذلك.
ورواية ابن سعدٍ له عن الواقدي، وهو لا يعتمد.
وقد روي عن ابن الزبير –أيضاً - الجلوس في الخطبة الأولى –أيضاً.

(8/245)


خرّجه القاضي إسماعيل.
واختلف العلماء في الخطبة جالساً: فمنهم من قال: لا يصح، وهو قولُ
الشافعي، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمد.
وقال ابن عبد البر: اجمعوا على أن الخطبة لا تكون إلا قائماً لمن قدر على القيام.
ولعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك؛ فإن الاكثرين على أنها تصح من
الجالس، مع القدرة على القيام، مع الكراهة. وهو قولُ أبي حنيفة ومالك، والمشهور عن أحمد، وعليه أصحابه، وقول إسحاق –أيضاً.

* * *
28 -

(8/246)


باب
يستقبل الإمام القوم
واستقبال الناس الإمام إذا خطب
واستقبل ابن عمر وأنس الإمام.

(8/247)


921 - حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة: نا عطاءٍ بن يسار: سمع أبا سعيدٍ الخدري: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله.
هذا أول حديث طويل، ذكر فيه قولُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، وضرب مثل الدنيا بنبات الربيع.
وهو حديث عظيم، قد خرجاه بتمامه في ((الصحيحين)) من حديث هشام الدستوائي.
وهذا لم يكن في خطبة الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يجلس في خطبة الجمعة.
وأما ما ذكره عن ابن عمر وأنس.

(8/247)


فمن طريق ابن عجلان، عن نافع، أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فاذا خَّرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله.
ومن طريق ابن المبارك، قال: قال أبو الجويرية: رأيت أنس بن مالك إذا أخذ الإمام يوم الجمعة في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: هو السنة.
وقال الزهري: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخذ في خطبة استقبلوه بوجوههم.
خرجها البيهقي.
وخَّرج الأثرم من حديث الضحاك بن عثمان، عن نافع، أن ابن عمر كان يتهيأ للإمام قبل أن يخرج، ويتوجه قبل المنبر.
وروى وكيع، عن العمري، عن نافع، أن ابن عمر كان يستقبل الإمام يوم الجمعة إذا خطب.
وفي الباب أحاديث مرفوعة متصلة، لا تصح أسانيدها -: قاله

(8/248)


الترمذي، وقد ذكرتها بعللها في ((شرح الترمذي)) .
وذكر الترمذي: أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم: يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، قال: وهو قولُ سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال ابن المنذر: هو كالإجماع.
وروي عن الشعبي، قال: هو السنة.
وقد تقدم مثله عن يحيى بن سعيدٍ، وكذا قال مالكٍ.
وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون فيه.
وقال عمر بن عبد العزيز: كل واعظ قبلة.
يعني: أنه يستقبل كما تستقبل القبلة.
وقد روي عن بعض التابعين: أنه يستقبل القبلة حال الخطبة. وهو محمول على إنهم كانوا يفعلونه مع أمير ظالم يسب السلف، ويقول ما لا يجوز استماعه، وكانوا قد ابتلوا بذلك في زمن بني أمية.
والأكثرون على إنهم إنما يستقبلوه في حال الخطبة، وهو قولُ

(8/249)


أحمد.
وقال إسحاق: يستقبلونه إذا خرج، وهو قولُ أبي بكر بن جعفر من أصحابنا.
وقال الأوزاعي: يغفى بصره، ويلقي السمع، فإن نظر إلى الإمام فلا حرج.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول – وذكر يوم الجمعة -: ((إذا جلس الرجل مجلساً يستمكن فيه من الإستماع والنظر، فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر)) .
وفي إسناده من ليس بمشهورٍ.
وخرّج ابن سعدٍ بأسانيد له متعددةً حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم، وأصغوا بأسماعهم، ورمقوه بأبصارهم.
وهذا لا يصح. والله أعلم.
أما استقبال الإمام أهل المسجد واستدباره القبلة فمجمع عليه –أيضاً -، والنصوص تدل عليه –أيضاً -؛ فإنه يخاطبهم ليفهموا عنه –أيضاً.
وذلك كله سنة، فلو خالفها الإمام فقد خالف السنة، وصحت جمعته.
ولأصحاب الشافعي وجه صعيف: أنها لا تصح. والله أعلم.

* * *

29 -

(8/250)


باب
من قال في الخطبة بعد الثناء: ((أما بعد))
رواه عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث عكرمة، عن ابن عباسٍ قد أسنده في آخر الباب، فلا أدري لأي معنى علقه في اوله؟
وقد ذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) هذا في الباب الذي قبله.
قال:
922 -

(8/251)


وقال محمود: نا أبو أسامة: نا هشام بن عروة: أخبرتني فاطمة ابنة
المنذر، عن أسماء ابنة أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلون.
فذكرت حديث الكسوف، وفيه:
قالت: ثم انصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تجلت الشمس، فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((إما بعد)) –وذكر بقيةٌ الحديث.

(8/251)


هكذا ذكره هنا تعليقاً عن محمود –وهو: ابن غيلان -، عن أبي اسامة.
وذكر بعضه في ((الكسوف)) تعليقاً - أيضاً - عن أبي أسامة.
وأسند الحديث في ((كتاب: العلم)) من حديث وهيب. وفي ((الكسوف)) وغيره من حديث مالكٍ –كلاهما -، عن هشام، وليس في حديثهما: ذكر: ((أما بعد)) .
وخرّج مسلم الحديث بهذه اللفظة من طريق ابن نمير وأبي أسامة –كلاهما - عن هشام، به.
ثم قال البخاري:
923 -

(8/252)


نا محمد بن معمر: نا أبو عاصم، عن جريرٍ بن حازم، قال: سمعت الحسن: نا عمرو بن تغلب، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتي بمال –أو سبي -، فقسمه، فاعطى رجالاً وترك رجلاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب الي من الذين أعطي)) .

(8/252)


وذكر
الحديث.
سماع الحسن من عمرو بن تغلب مختلف فيه، فأثبته أبو حاتم والبخاري، ونفاه علي بن المديني شيخ البخاري.
وكذلك يحيى بن معين –فيما نقله عنه جعفر بن محمد بن أبان الحراني -، قال: لم يسمع منه، ولم يرو حديثه إلاّ جريرٍ بن حازم، وليس بشيء.

(8/253)


واختلف عن أحمد:
فنقل عنه ابنه صالح، قال: سمع الحسن من عمر بن تغلب أحاديث.
ونقل عنه ابنه عبد الله، قال: كانت سجية في جريرٍ بن حازم: نا الحسن، نا عمرو بن تغلب، وأبو الأشهب يقول: عن الحسن، قال: بلغني أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمرو بن تغلب.
يريد: أن قول جريرٍ بن حازم: نا الحسن: نا عمرو بن تغلب كانت

(8/254)


عادة له، لا يرجع فيها إلى تحقيق.
وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقيةٌ بن الوليد، أنهم يروون عنه، عن شيوخه، ويصرحون بتحديثه عنهم، من غير سماع له منهم.
وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة: أنه كان يقول: ((ثنا فلان بحديث)) ، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً أخر، كان ذلك سجية منه.
ذكره العقيلي في ((كتابه)) .
وكذا ذكر الإسماعيلي: أن أهل الشام ومصر يتسامحون في قولهم: ((ثنا)) من غير صحة السماع، منهم: يحيى بن أيوب المصري.
وقال:
924 -

(8/255)


نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عائشة - رضي الله عنها – اخبرته، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَّرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته.

(8/255)


فذكره، وفيه:
فلما قضى الفجر اقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: ((أما بعد، أنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) .
تابعه: يونس.
يعني: عن الزهري، في لفظه: ((أما بعد)) ، وهو من روايةٍ ابن وهبٍ، عن يونس.
ورواه مالكٍ عن الزهري، لم يذكر فيه هذه اللفظة.
وخرّج البخاري حديثه في موضع آخر.
ثم قال:
925 -

(8/256)


نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عروة، عن أبي حميد الساعدي، أنه أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد)) .
تابعه: أبو معاوية وأبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أبي حميد

(8/256)


الساعدي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أما بعد)) .
وتابعه: العدني، عن سفيان.
هذا قطعة من حديث بعث ابن اللتبية على الصدقة، وقد خرّجه في مواضع تأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى.
وخرّجه في ((الأحكام)) بتمامه من طريق عبدة، عن هشام، وفيه: فقام
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فإني استعمل رجالاً منكم)) –وذكر الحديث.
وقد ذكر أن هذه اللفظة ذكرها في الحديث: أبو معاوية وأبو أسامة.
وقد خرّجه في ((الزكاة)) من طريق أبي أسامة، فاختصره ولم يتمه.
وخرّجه مسلم من طريق أبي أسامة بتمامه، وفيه ((أما بعد)) .
وخرّجه مسلم –أيضاً - من روايةٍ أبي معاوية، ولم يسق لفظ حديثه بتمامه. وكذلك خرّجه عن العدني، عن سفيان، ولم يسقه بلفظه.
ثم قال:
926 -

(8/257)


نا ابواليمان: أنا شعيب، عن الزهري: حدثني علي بن الحسين، عن المسور بن مخرمة، قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسمعته حين تشهد يقول: ((أما بعد)) .
تابعه: الزبيدي، عن الزهري.
والحديث مختصر من قصة خطبة علي لابنة أبي جهل، وقيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيباً، فذكر فضل فاطمة عليها السلام.
وقد خرّجه بتمامه في ((مناقب فاطمة)) .
وذكره متابعة الزبيدي، لأن جماعة من أصحاب الزهري رووا الحديث، فلم يذكروا فيه: لفظة: ((أما بعد)) .
وللمسور حديث آخر في المعنى، في قصة قدوم هوازن وإسلامهم، ورد سبيهم عليهم.
خرّجه البخاري في ((الهبة)) من روايةٍ الزهري، عن عروة، عن المسور بن
مخرمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جاءه وفد هوزان قام في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإن أخوانكم جاءونا تائبين)) –الحديث.
ثم قال:

(8/258)


927 - ثنا إسماعيل بن ابان - هو: الوراق -: نا ابن الغسيل –واسمه: عبد الرحمن بن سليمان -: نا عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: صعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر –وكان أخر مجلس جلسه –متعطفاً ملحفة على منكبه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: ((أيها الناس، إلي)) ، فثابوا اليه، ثم قال: ((أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئاً من أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستطاع أن يضر فيه أحداً أو ينفع فيه أحداً، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .
وفي الباب أحاديث أخر.
وقد خَّرج البخاري في ((المغازي)) حديث عائشة في قصة الافك بطولها، وفيه: فتشهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جلس ثم قال: ((أما بعد، يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا)) –الحديث.
وخرّجه في موضع أخر، وليس فيه: ((أما بعد)) .
وخرّج مسلم في ((صحيحه)) من حديث جريرٍ البجلي، قال: ((كنت جالساً عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه قوم مجتابي النمار، فصلى الظهر، ثم صعد

(8/259)


منبراً صغيراً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إما بعد؛ فإن الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] –)) وذكر الحديث في الحثّ على الصدقة.
وخرّجه من طريق أخرى، ليس فيها لفظه: ((أما بعد)) .
وخرّج – أيضاً - من حديث سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أن ضماداً قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وان الله يشفي على يدي من
يشاء، فهل لك؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الحمد لله نستعينه، من يهده الله فلا مضل
له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) .
فدلت هذه الأحاديث كلها على أن الخطب كلها، سواء كانت للجمعة أو
لغيرها، وسواء كانت على المنبر أو على الارض، وسواء كانت من جلوس أو قيام، فإنها تبتدا بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يذكر بعد ذلك ما يحتاج إلى ذكره من موعظة أو ذكر حاجة يحتاج إلى ذكرها، ويفصل بين الحمد والثناء، وبين ما بعده بقوله: أما بعد.
وقد قيل: أن هذه الكلمة فضل الخطاب الذي أوتيه داود –عليه السلام -، وقد سبق ذكر ذلك في أول الكلام في الكلام على حديث كتاب

(8/260)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هرقل: ((أما بعد؛ فاني ادعوك بدعاية الإسلام)) .
والمعنى في الفصل بأما بعد: الإشعار بأن الأمور كلها وان جلت وعظمت فهي تابعة لحمد الله والثناء عليهِ، فذاك هوَ المقصود بالاضافة، وجميع المهمات تبع له من أمور الدين والدنيا.
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع)) ، وفي روايةٍ: ((أجذم)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
وقد روي مرسلاً.
فالحمد لله متقدم على جميع الكلام، والكلام كله متأخر عنه وتبع له.
ولا يستثنى مما ذكرناه من الخطب إلا خطبة العيد، فقد قيل: إنها تستفتح
بالتكبير.

(8/261)


وقد روى عن أبي موسى الأشعري، أنه استفتح خطبتي العيدين بالحمد، ثم كبر بعد الحمد. وهو الأظهر.
وكذا قيل في خطبة الاستسقاء.
ومن الناس من قال: تستفتح بالحمد –أيضاً.
وقد ذكر بعض ائمة الشافعية: أن الخطب كلها تستفتح بالحمد بغير خلافٍ، وإنما التكبير في العيد يكون قبل الخطبة، وليس منها، وإن ذلك نص الشافعي.
وكذا ذكر طائفةٌ من أصحابنا: أن ظاهر كلام أحمد أنه يكبر إذا جلس على المنبر قبل الخطبة، وأنه ليس من الخطبة، فإذا قام استفتح الخطبة بالحمد.
وذكروا: قولُ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل الخطبة تسعاً، وبعدها سبعاً.
فأما خطبة الجمعة، فلا خلاف أنها تستفتح بالحمد.
وخرّجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا

(8/263)


صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم)) ، ويقول ((بعثت أنا والساعة
كهاتين)) ، ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد؛ فإن خيرٌ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة
ضلالة)) ، ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)) .
وفي روايةٍ له - أيضاً - بهذا الإسناد: كانت خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته - ثم ساق الحديث بمثله.
وفي روايةٍ له – أيضاً -: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) –ثم ساق الحديث بمثل الرواية الأولى.
وقد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بهذه الخطبة لكل من له حاجة، أن يبدأ بها قبل ذكر
حاجته، كما خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ، قال: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(8/264)


خطبة الحاجة: ((إن الحمد لله نستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يا ايها الذين امنوا اتقوا الله الذي تساءلون به والارحام أن الله كان عليكم رقيبا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
[آل عمران:102] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} - إلى قوله -: {فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:7107] .
وهذا لفظ أبي داود.
وفي روايةٍ له: ((الحمد لله)) ، بغير ((إن)) ، وهي روايةٍ الأكثرين.
وفي روايةٍ له: ((في خطبة الحاجة في النكاح وغيره)) .
وعند ابن ماجه: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) –وذكر الحديث، وفيه: زيادة: ((وحده لا شريك
له)) .
وحسن الترمذي هذا الحديث، وصححه جماعة، منهم: ابن خراش وغيره.
وخرّج النسائي في ((اليوم والليلة)) من حديث أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((فإن شئت أن تصل خطبتك بآيٍ من القرآن)) - فذكر آلايات الثلاث، ثم قال: ((أما بعد، ثم يتكلم بحاجته)) .

(8/265)


وخرّجه أبو داود من وجه آخر، عن ابن مسعودٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا تشهد قال: ((الحمد لله)) - فذكره كما تقدم، زاد فيه –بعد قوله: ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) -: ((أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)) .
وروى أبو مالكٍ الأشجعي، عن نبيط بن شريط، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب عند الجمرة فقال: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، وأشهد أن لا إله الا الله، وان محمداً عبده ورسوله، واوصيكم بتقوى الله)) –وذكر الحديث.
وخرّج أبو داود في ((مراسليه)) من روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، أنه سأله عن تشهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة؟ فقالَ ابن شهاب: ((أن الحمد لله وحده واستعينه
واستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل لهُ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله فقد غوى، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه، ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه؛ فإنما نحن به وله)) .
وخرّجه في ((السنن)) مختصراً.
وخرّجه في ((المراسيل)) –أيضاً - من روايةٍ عقيل، عن ابن شهاب، قال: كان صدرخطبة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره)) – فذكره بمثله.

(8/266)


ومن روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغنا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يقول إذا خطب: ((كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله فيعجله أحد، ولا يخف لامر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً، ويريد الله أمراً، ما شاء الله كان، ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل)) .
ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: كان أكثر ما كان رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: ((أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)) .
وفي خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث أخر مرسلة، يطول ذكرها.
فظهر بهذا: أن خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تشتمل على حمد الله والثناء عليه بما هو
أهله، وعلى الشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالرسالة.
وقد خرّج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(8/267)


أنه قال: ((كل خطبة ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء)) .
ورجاله ثقاتٌ.
وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ الناس ويذكرهم بالله وبوحدانيته، وتفرده بالربوبية والمشيئة، ويحثهم على تقواه وطاعته.
وكان - غالباً - يفصل بين التحميد وتوابعه من الشهادتين، وما بعد ذلك من الوعظ والأمر والنهي، بقوله: ((أما بعد)) .
وكان –أيضاً - يتلو من القرآن في خطبته.
وفي ((الصحيحين)) عن يعلى بن أمية، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على المنبر:
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] .
وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ كل جمعةٍ على المنبر، إذا خطب الناس: {ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ} [ق:1] .
وفيه - أيضاً -، عن جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له خطبتان، يجلس
بينهما، يقرأ القرآن، ويذكر الناس.
وخرّجه النسائي، ولفظه: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله)) .
وترجم عليه: ((القراءة في الخطبة الثانية والذكر فيها)) .
وخرّجه ابن ماجه، ولفظه: ((ثم يقوم فيقرأ آياتٍ)) .
فإن كان ذلك

(8/268)


محفوظاً فهو صريح فيما بوب عليه النسائي.
وظاهر كلام الخرقي من أصحابنا يدل على مثله –أيضاً.
وفي القراءة في الخطبة أحاديث كثيرةٌ:
وروى ابن لهيعة: حدثني أبو صخر –وهو: حميد بن زياد -، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يدع قراءة سورة الأعراف في كل جمعةٍ.
خرّجه ابن عدي.
فإن كان هذا محفوظاً فلعله كان يواظب على ذلك؛ لما فيها من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204) فيكون مقصوده: الأمر بالاستماع والانصات للخطبة والموعظة.
وقد قال الإمام أحمد: أجمعوا أن هذه الآية نزلت في الصلاة، وفي الخطبة.
وكان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بالإنصات؛ ولهذا اعتاد الناس في هذه الأزمان أن يذكروا قبل الخطبة بين يدي الخطيب بصوت عال يسمع الناس حديث أبي هريرة في الأمر بالإنصاف، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله سبحانه وتعالى.

(8/269)


وكان مع ذلك مقتصداً في خطبته ولا يطيلها، بل كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً.
خرّجه مسلم من حديث جابر بن سمرة.
وخَّرج –أيضاً - من حديث عمار، عن {النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال} : ((أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة؛ فإن من البيان سحراً)) .
ولم ينقل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي على نفسه في الخطبة، بل كان يشهد لنفسه بالعبودية والرسالة؛ ولكن روي عنه الأمر بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة، وان الصلاة عليه معروضة عليه.

(8/270)


وقد روي في حديث مرسل، رواه ابن إسحاق، عن المغيرة بن عثمان بن محمد بن الاخنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أول خطبة خطبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، أن قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، ايها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله، ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه، ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه –ليس له ترجمانٌ، ولا حاجب يحجبه دونه -: ألم يأتك رسولي، فيبلغك، وآتيتك مالاً، وأفضلت، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالا، فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه، فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يفعل فبكلمة طيبة؟ فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام على رسول الله ورحمته وبركاته)) .
فالصلاة والسلام عليه في الخطبة يوم الجمعة حسنٌ متأكد الاستحباب، لكن لا يظهر أنه تبطل الخطبة بتركه، بل الواجب الشهادتان مع الحمد والموعظة.

(8/271)


وأما القراءة، فالأكثرون على وجوبها في الخطبة، وهو المشهور عن أحمد. وحكي عنه روايةٍ، أنها مستحبةٌ غير واجبةٍ.
واكثر أصحابنا على ايجاب الصلاة علىالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من قال: الواجب الشهادة له بالرسالة والعبودية.
وفي وجوب ذلك كله –في كل واحدة من الخطبتين - نظر، والأشهر عند أصحابنا: وجوبه.
وظاهر كلام الخرقي: أن الموعظة تكون في الخطبة الثانية.
ولأصحابنا وجه في القراءة، أنها تجب في احدى الخطبتين.
والمنصوص عن أحمد: ما نقله عنه محمد بن الحكم، وقد سأله عن الرجل يخطب يوم الجمعة، فيكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحمد الله، تكون خطبةً؟ وقلت له: إن أصحاب ابن مسعودٍ يقولون: إذا كبر، وصلى {على} النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحمد الله، تكون خطبةً؟ قال: لا تكون خطبةً، إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو خطبةً تامةً.
وهذا يدل على أنه لا بد من ذلك من موعظةٍ.
وقد صرح به في روايةٍ حنبل، فقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب وعظ فأنذر وحذر الناس.
فهذا تفسير قوله: لا تكون خطبةً إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومذهب الشافعي وأصحابه: لا يصح

(8/272)


35 - باب
الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة

(8/273)


933 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا الوليد: ثنا أبو عمرو: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: اصابت الناس سنةٌ على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب في يوم جمعةٍ قام أعرابيٌ، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه - وما نرى في السماء قزعة - ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب امثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي –أو قال: غيره -، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم، حوالينا، ولا علينا)) . فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب الا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي –قناة - شهراً، ولم يجئ احد من ناحية الا حدث بالجود)) } .
باهرة من آيات النبوة ومعجزاتها.
و ((لجوبة)) –بفتح الجيم -: الفجوة بين البيوت، والفجوة متسع في الارض –وغيرها –فارغ.
وقال الخطابي: المراد بالجوبة: الترس. قال: وفي حديث أخر: ((فبقيت المدينة كالترس)) ، والمراد: أنها بقيت في استدارتها غير ممطورةٍ.
ورواه بعضهم: ((الجونة) - بالنون -، وهو تصحيفٌ.
والمراد: أن السحاب انكشط عن المدينة وبقي على ما حولها.
وهذا يدل على أن القائم إليه في الجمعة الثانية كان من أهل المدينة، وأنه شكا ضررهم؛ ولذلك لم يدع برفع المطر عن غيرهم.
و ((قناة)) : اسم وادٍ بالمدينة، تجري عند السيول و ((الجود)) –بفتح الجيم -: المطر العظيم.

(8/273)


36 - باب
الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
وإذا قال لصاحبه: ((أنصت)) ، فقد لغا
وقال سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وينصت إذا تكلم الإمام)) .
حديث سلمان، خرّجه البخاري فيما تقدم في موضعين.

(8/274)


934 - حدثنا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني سعيدٍ بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: انصت –والإمام يخطب –فقد لغوت)) .
حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت)) .
هذا الحديث الثاني، يوجد في بعض روايات هذا الكتاب، ولا يوجد في أكثرها.
الفضل في الجمعة، وحصول التكفير بها مشروط بشروط،

(8/274)


منها: أن يدنو من الإمام، ويستمع وينصت، ولا يلغو.
وقد ورد ذلك في أحاديث متعددة، قد ذكرنا بعضها فيما تقدم.
و ((اللغو)) : هو الكلام الباطل المهدر، الذي لا فائدة فيه.
ومنه: لغو اليمين، وهو مالا يعبأ به ولا ينعقد.
ومنه: قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما} (الفرقان:72) ، وقوله {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً?} (النبأ:35) .
وقد جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذ الحديث الأمر بالإنصات في حال الخطبة لغواً، وإن كان أمر بمعروف ونهيا عن منكرٍ، فدل على أن كل كلام يشغل عن الاستماع والإنصات فهو في حكم اللغو، وإنما يسكت المتكلم بالإشارة.
وكان ابن عمر يشير اليه، وتارة يحصبه بالحصى.
وكره علقمة رميه بالحصى.
ولا خلاف في جواز الإشارة اليه بين العلماء، الا ما حكي عن طاوس وحده، ولا يصح؛ لأن الإشارة في الصلاة جائزةٌ، ففي حال الخطبة اولى.

(8/275)


وروى أنس، أن رجلاً دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأشار الناس اليه أن اسكت، فساله ثلاث مراتٍ، كل ذلك يشيرون اليه أن اسكت، فقال له رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ويحك، ما أعددت لها)) –وذكر الحديث.
خرّجه البيهقي وغيره.
ولا يستثنى من ذلك إلا ما لابد منه، مما يجوز قطع الصلاة لأجله، كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ونحوه.
فأما رد السلام وتشميت العاطس، ففيه اختلاف سبقت الإشارة اليه، وكذلك حكم كلام الإمام ومن يكلمه لمصلحةٍ.
وأجمع العلماء على أن الأفضل لمن سمع خطبةً الإمام أن ينصت ويستمع، وانه افضل ممن يشتغل عن ذلك بذكر الله في نفسه، أو تلاوة قرآن أو دعاءٍ.
قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أسبح في يوم الجمعة واهلل، وأنا اعقل الخطيب. قال: لا، إلا الشيء اليسير، واجعله بينك وبين نفسك.
وروى بإسناده، عن طاوسٍ، قال: إذا كان الإمام على المنبر فلا يدع احد بشيء، ولا يذكر الله، إلا أن يذكر الإمام.

(8/276)


وقول مالكٍ كقول عطاءٍ -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وروى حرب بإسناده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: سألت علقمة: متى يكره الكلام يوم الجمعة؟ قال: إذا خَّرج الإمام، وإذا خطب الإمام. قلت: فكيف ترى في رجل يقرأ في نفسه؟ قال: لعل ذلك لا يضره، أن شاء الله.
قال سفيان: ذاك إذا لم يسمع الخطبة.
وروي عن سعيدٍ بن جبير والنخعي: الرخصة في القراءة والإمام يخطب.
ولعله إذا لم يسمع الخطبة أو إذا تكلم الإمام بما لا يجوز استماعه.
وكره الأوزاعي لمن سمع الخطبة أن يتشهد، وقال: قد جهل، ولم تذهب جمعته.
واختلفوا: في الإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة: هل يوافقه المأموم؟
فقالت طائفةٌ: يصلي المأموم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه، وهو قولُ مالكٍ وأبي يوسف وأحمد وإسحاق.
واستدلوا: بأن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خصوصاً يوم الجمعة متأكدة الاستحباب، ومختلف في وجوبها كلما ذكر، فيشرع الاتيان بها في حال الخطبة عند ذكره، لأن سببها

(8/277)


موجود، فهو كالتأمين على دعاء الإمام، وأولى.
وقال بعض الشافعية: إذا قرأ الإمام: {إِنَّ اللَّهَ?وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ} (الأحزاب:56) –الآية، جاز للمأموم أن يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويرفع بها صوته.
وقالت طائفةٌ: بل ينصت، وهو قولُ سفيان وأبي حنيفة ومحمد والليث بن سعدٍ ومالك –في روايةٍ – والشافعي.
وقال الأوزاعي: ينبغي للإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة أن يسكت حتى يصلي الناس، فإن لم يسكت فأنصت، وأمن على دعائه.
واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعده: هل يذكر الله ويقرأ القرآن في نفسه، أو ينصت؟ على قولين:
أحدهما: يذكر الله في نفسه ويقرأ، وهو قولُ علقمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق.
وقولهم هذا شبه قول الأكثرين في قراءة المأموم إذا لم يسمع قراءته.
والثاني: أنه ينصت ولا يتكلم بشيء، وهو قولُ الزهري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة.
واستدلوا: بقول عثمان: إن للمنصت

(8/278)


الذي لا يسمع مثل ما للسامع المنصت.
خرّجه مالكٌ في ((الموطإ)) .
وقالت طائفةٌ: من لا يسمع لا إنصات عليه، بل يباح له الكلام، وهو قولُ عروة بن الزبير، وطائفة من أصحاب الشافعي.
وأومأ إليه أحمد، فإنه قال: يشرب الماء إذا لم يسمع الخطبة.
واختاره القاضي أبو يعلى من أصحابنا.
وقال ابن عقيل منهم: له أن يقرئ القرآن، ويذاكر بالعلم.
وهو بعيدٌ؛ فإن رفع الصوت ربما منع من أقرب منه إلى الإمام ممن يسمع من السماع، بخلاف الذكر في نفسه والقراءة.
واختلفوا: هل انصات من سمع الخطبة واجبٌ، وكلامه في تلك الحال محرم، أو هو مكروه فقط، فلا يأثم به؟ على قولين:
أحدهما: أنه محرم، وهو قول الأكثرين، منهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي –في القديم – وأحمد –في المشهور عنه.
والمنقول عن أكثر السلف يشهد له.
وقال عطاءٌ ومجاهد: الانصات يوم الجمعة واجبٌ.
وقد أمر ابن مسعودٍ بقرع رأس المتكلم بالعصى، وكان ابن عمر يحصبه
بالحصباء.
وروي عنه، أنه قال: المتكلم لا

(8/279)


جمعةٍ له، ولمن أجابه: أنت حمارٌ.
وقال ابن مسعودٍ وغيره لمن تكلم في جمعةٍ: هذا حظك من صلاتك.
ويدل على تحريمه: قولُ الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] ، وقد تقدم قولُ الإمام أحمد: اجمعوا أنها نزلت في الصلاة والخطبة.
ولأن الخطبة وجبت في الجمعة تذكيراً للناس وموعظةً لهم، فاذا لم يجب استماعها لم تبق فائدة في وجوبها في نفسها؛ فإن إيجاب المتكلم بما لا يجب استماعه يصير لغواً لا فائدة له.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، لا جمعةٍ له)) .
وإنما شبهه بالحمار يحمل أسفاراً، لأن الحمار لا ينتفع من حمله الأسفار بشيء، فكذلك من لم يستمع الإمام يوم الجمعة.
وهذا المثل ضربه الله لليهود الذين لم ينتفعوا بشيء من علمهم، وليس لنا مثل بالسوء، ولا التشبه بمن ذمه الله من أهل الكتاب قبلنا، فيما ذموا عليه.
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(8/280)


قال: ((من دنا من الإمام فلغا، ولم يستمع ولم ينصت، كان له كفل من الوزر، ومن قال له: مه فقد لغا، ومن لغا فلا جمعةٍ له)) .
والقول الثاني: أنه مكروه غير محرم، وهو قولُ الشافعي –الجديد – وحكي روايةً عن أحمد.
واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
فحكي عن طائفةٌ أنه تبطل به الجمعة.
قال عطاءٌ الخراساني وعكرمة: من لغا فلا جمعةٍ له.
وقال الأوزاعي: من تكلم عمداً صارت جمعته ظهراً، ومن تكلم ساهياً لم يتره الله فضلها، إن شاء الله تعالى.
وزعم بعضهم أن قولُ الأوزاعي هذا يخالف الإجماع، وليس كذلك، ولم يرد الأوزاعي أنه يصلي ظهراً، إنما أراد أن ثواب جمعته يفوته، ويبقى له فضل صلاة الظهر، وتبرأ ذمته منها.
وكذلك قال فيمن قال كتاباً والإمام يخطب، قال: ذاك حظه من جمعته، ولم يامره باعادة الصلاة. وكذلك قال فيمن شرب الماء والإمام يخطب.
وقد روي في احاديث متعددةٍ مرسلةٍ، وبعضها متصلة الأسانيد، وفيها ضعف، أن من لغا لا جمعةٍ له، وأن ذلك حظه منها.
والمراد: أنه

(8/281)


يفوته ثواب الجمعة، وبذلك فسره عطاءٍ وابن وهبٍ –صاحب
مالكٍ.
وقال إسحاق: يخشى عليه فوات الأجر.
قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: يقال: من تكلم فكلامه حظه من الجمعة –يقول: من أجر الجمعة، فأما أن يوفي أربعاً، فلا.
وقال –أيضاً -: قلت لعطاء: هل تعلم شيئاً يقطع جمعةٍ الإنسان، حتى يجب أن يصلي أربعاً، من كلام أو تخطي رقاب الناس، أو شيء غير ذلك؟ قال: لا.
وكذا قال الحسن والزهري، فيمن تكلم والإمام يخطب: يصلي ركعتين.
وقال الثوري: يستغفر الله، ويصلي.
ولا يصح عن أحدٍ خلاف ذلك. والله أعلم.
واختلفوا: متى يجب الإنصات يوم الجمعة؟
فقال الجمهور: بشروع الإمام في الخطبة، وهو المروي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه -، وكانوا يفعلونه في زمانه، وروي عن سعدٍ بن أبي وقاص وابن عباسٍ.
وقالت طائفةٌ: ينقطع بخروج الإمام، وإن لم يتكلم، كما تنتطع الصلاة
بخروجه، وهو قولُ طائفةٌ من الكوفيين، منهم: الحكم، وحكي عن أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر وابن عباسٍ.

(8/282)


وقد خرّج البخاري حديث سلمان الفارسي في الانصات بلفظين: في أحدهما: ذكر خروج الإمام، وفي الآخر: ذكر كلامه.
فمن الناس من قال: رواية الخروج مطلقة، تحتمل حالة الكلام وغيرها، ورواية الكلام مقيدة فتقضي على المطلقة.
ومنهم من قال: إن الرواية المطلقة إنما دلت على اثبات فضل ترك الكلام
بالخروج، لا على منعه وتحريمه.
واستحب عطاءٌ: أن يتكلم من حضر الجمعة قبل أن يخطب الإمام.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: قال: إذا خرج الإمام يوم الجمعة فافصل بكلام قبل أن يخطب. قلت: سلم الإمام، فرددت عليه أيكون ذلك فصلا؟ قال: إني أحب أن تزيد –أيضاً - بكلام، السلام في القرآن.
يعني: أن السلام لا يكفي في الفصل؛ لأنه مما في القرآن، والمقصود: الفصل بكلام من كلام الآدميين.
وهذا قولُ غريبٌ.
واختلفوا: إلى أي وقتٍ ينتهي النهي عن الكلام؟
فقال الجمهور: ينتهي بفراغ الإمام من الخطبتين، ويجوز الكلام مع نزوله، وبين الصلاة والخطبة.

(8/283)


وقالت طائفةٌ: ينتهي النهي إلى الدخول في الصلاة.
وقد سبق ذكر ذلك عند ذكر الكلام بين الإقامة والصلاة بما يغني عن إعادته
هاهنا.
واتفقوا على أن النهي عن الكلام يستمر ما دام يتكلم بما يشرع التكلم به في الخطبة، من حمد الله والثناء، والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقراءة القرآن، والموعظة وغير ذلك.
وحكى ابن عبد البر عن طائفةٌ، منهم: الشعبي وأبو بردة، أنه لا ينهى عن الكلام إلاّ في حال قراءة القرآن خاصةً، ويجوز في غيرها.
وهذا لا يصح عنهم، وسنذكر وجه ما روي عنهم فيما بعد –أن شاء الله تعالى.
ولو شرع الإمام في خطبته في كلامٍ مباحٍ أو مستحب كالدعاء، فإنه يستمع له وينصت، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم: عطاءٌ وغيره.
ولأصحابنا ثلاثة أوجهٍ: أحدها: تحريم الكلام في الحالين. والثاني: لا يحرم. والثالث: أن كان مستحباً كالدعاء حرم الكلام معه، وإن كان مباحاً لم يحرم.
فأما أن تكلم بكلام محرم، كبدعةٍ أو كسب السلف، كما كان يفعله بنو أمية، سوى عمر بن عبد العزيز –رحمة الله عليه -، فقالت طائفةٌ: يلحق بالخطب وينصت لهُ، روي عن عمرو بن مرة وقتادة.

(8/284)


والأكثرون على خلاف ذلك، منهم: الشعبي وسعيد بن جبيرٍ وأبو بردة وعطاءٌ والنخعي والزهري وعروة والليث ابن سعدٍ.
وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] الآية، وما كانَ محرماً حرم استماعه والانصات إليه، ووجب التشاغل عنه كسماع الغناء والآت اللهو، ونحو ذلك.
ولعل قول عمرو بن مرة وقتادة في كلامٍ مباحٍ لا في محرمٍ.
وفي بطلان الخطبة بالكلام المحرم قبل فراغ أركان الخطبة وجهان لأصحابنا، كالوجهين لهم في بطلان الأذان بالكلام المحرم في أثنائه.
وفي جواز الكلام في جلوس الإمام بين الخطبتين وجهان لأصحابنا والشافعية، ومنعه أصحاب مالكٍ.
وهذا كله في حق الجالس في المسجد من حين خروج الإمام، فأما من دخل المسجد في حال الخطبة، فقال طائفةٌ: إنما يمتنع عليه الكلام إذا جلس وأخذ مجلسه، وما دام يمشي فله أن يتكلم ويكلم من معه، وهذا قولُ الزهري وقتادة والثوري والشافعي.
وعموم قوله: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت - والإمام يخطب – فقد لغوت)) ، ويشمل القائم والقاعد والماشي.
* * *

37 -

(8/285)


باب
الساعة التي في يوم الجمعة

(8/286)


935 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة، فقال: ((فيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، وهو قائمٌ يصلي يسال الله شيئاً، إلا أعطاه إياه)) - وأشار بيده يقللها.
وخرّجه في ((كتاب الطلاق)) في ((باب: الإشارة في الطلاق وغيره)) من طريق آخر، فقال:
نا مسددٌ: نا بشر بن المفضل: نا سلمة بن علقمة، عن محمد

(8/286)


بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((في الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، قائمٌ يصلي، يسأل الله خيراً، إلا أعطاه)) –وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر، قلنا: يزهدها.
وخرّجه في ((الدعوات)) - أيضاً - من روايةٍ أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بمعناه، وقال فيه: وقال بيده. قلنا: يقللها، يزهدها.
قوله: ((في الجمعة)) - وفي الرواية الأخرى: ((في يوم الجمعة –ساعةٌ)) .
يقتضي أنها في كل يوم جمعةٍ: وهذا قولُ جمهور العلماء.
وقد تنازع في ذلك أبو هريرة وكعب، فقال: أبو هريرة في كل يوم جمعةٍ.
وقال كعبٌ: في السنة مرةً، ثم رجع كعب إلى قولُ أبي هريرة، ثم ذكر أبو هريرة لعبد الله بن سلامٍ ما قاله كعبٌ أولاً، فكذبه فقال له: إنه رجع عنه.
وقد زعم قوم أن ساعة الإجابة في الجمعة رفعت.
فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) بإسناده، أن أبا هريرة قيل له: زعموا أن ليلة القدر رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: فهي في كل رمضان نستقبله؟ قال: نعم. فقيل له: إنهم زعموا أن الساعة في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها مسلم إلا استجيب له رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: هي في كل جمعةٍ نستقبلها؟ قال: نعم.

(8/287)


وقوله: ((ساعةٌ)) يحتمل أنه أراد بها الساعة الزمنية من ساعات النهار.
زقال عبد الله بن سلامٍ: النهار اثنا عشرة ساعةً، والساعة التي تذكر من يوم الجمعة آخر ساعات النهار.
خرّجه عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: حدثني موسى بن عقبة، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عبد الله بن سلام يقوله.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وقد رواه الجلاح أبو كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
خرّجه أبو داود والنسائي.
وعندي: أن روايةٍ موسى بن عقبة الموقوفة أصح.
ويعضده: أن جماعةً رووه، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام، ومنهم من قال: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، كما سياتي.
وظاهر هذا: أنها جزء من اثني عشر جزء من النهار، فلا تختلف بطول النهار وقصره، ولكن الإشارة إلى تقليلها يدل على أنها ليست ساعةً زمانيةً، بل هي عبارة عن زمن يسيرٍ.

(8/288)


وقوله –في الرواية الأخرى -: ((يزهدها)) ، معناه: يقللها –أيضاً -، ومنه الزهد في الدنيا، وهو احتقارها وتقليلها وتحقيرها، هو من اعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح.
وقد روي حديث يدل على أنها بعض ساعةٍ:
فروى الضحاك بن عثمان، عن سالمٍ أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ، قال: قلت –ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسٌ -: إنا لنجد في كتاب الله: في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مؤمن يصلي، يسأل الله شيئاً، إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فاشار الي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أو بعض ساعة)) . قلت: صدقت ((أو بعض ساعة)) . قلت: أي ساعة هي؟ قال: ((آخر ساعة من ساعات النهار)) . قلت: إنها ليست ساعة صلاةٍ؟ قال: ((بلى، أن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس، لا يجلسه إلا الصلاة، فهو في صلاة)) .
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.
ورواته كلهم ثقات؛ لكن له علةٌ مؤثرةٌ، وهي أن الحفاظ المتقنين رووا هذا الحديث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في ذكر ساعة الإجابة، وعن عبد الله بن سلامٍ في تعيينها بعد العصر.
كذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
خرّجه من طريقه مالكٍ في ((الموطإ)) ، وأحمد وأبو داود والترمذي، وصححه.
وذكر فيه: ((خيرٌ

(8/289)


يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه ساعة الإجابة)) ورفع ذلك كله.
ثم ذكر أبو هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، أنه قال له: هي بعد، وأنه ناظره في الصلاة فيها.
وكذا رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مختصراً.
ورواه سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
وفي روايةٍ عنه بالشك في رفعه في ساعة الإجابة، وجعل ذكر تعيينها من روايةٍ أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ.
وكذا رواه معمرٌ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.
ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فجعل الحديث كله عن كعب في: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) .
لم يرفع منه شيئاً، وقال: لم اسمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حدثني به كعبٌ.
ورواه حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن كعب، قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم جمعةٍ، فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.

(8/290)


ورواه معاوية بن سلامٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –موقوفاً.
ورواه محمد بن كثير، عن الأوزاعي، فرفعه.
ورفعه خطأٌ.
ورجح هذه الرواية أبو زرعة الدمشقي.
ويعضده –أيضاً -: روايةٍ حماد بن سلمة، عن قيس بن سعدٍ، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فرفع منه ذكر ساعة الإجابة، وجعل باقي الحديث في فضل يوم الجمعة، وما فيه من الخصال، وتعيين ساعة الإجابة كله من قولُ كعب.
ولعل هذا هو الأشبه.
وقد سبق أن موسى بن عقبة روى عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ قوله في تعيين ساعة الإجابة –أيضاً.
وخَّرج الإمام أحمد من روايةٍ فليح بن سليمان، عن سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة يحدث، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ساعة الإجابة.
قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: لو جئت أبا سعيدٍ فسألته عن هذه الساعة.
أن يكون عنده منها علم، فاتيته، فسالته، فقال:

(8/291)


سألنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، فقال: ((إني كنت أعلمتها، ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر)) . قال: ثم خرجت من
عنده، فدخلت على عبد الله بن سلامٍ.
هكذا ساقه الإمام أحمد، ولم يذكر ما قاله ابن سلامٍ.
وقد خرّجه البزار بتمامه، وذكر فيه: أن ابن سلامٍ قال له: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبطه إلى الأرض يوم الجمعة، وتوفاه يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وهي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة. قلت: ألست تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((في صلاةٍ)) ؟ قال: أولست تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من انتظر الصلاة فهو في صلاة)) ؟ .
فهذه الرواية –أيضاً - تدل على أن ذكر فضل يوم الجمعة وما فيه من الخصال إنما هو من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن سلامٍ، ورواية الأوزاعي وغيره تدل على أن هذا القدر كان أبو هريرة يرويه عن كعبٍ.
وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) ، وذكر ما فيه من الخصال من طرق متعددة، وهي معللة بما ذكرناه؛ ولذلك لم يخرّج البخاري منها شيئاً.
وقد خرّجه مسلم من طريق الاعرج، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
وخرّجه ابن حبان من روايةٍ العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة –

(8/292)


مرفوعاً.
وروي عن العلاء، عن إسحاق أبي عبد الله، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
فتحرر من هذا: أن المرفوع عن أبي هريرة من الحديث ذكر ساعة الجمعة.
وزعم ابن خزيمة: أن قوله: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) مرفوع –أيضاً - بغير خلافٍ، وأن الاختلاف عن أبي هريرة فيما بعد ذلك من ذكر الخصال التي في الجمعة.
وحديث أبي سعيدٍ يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنسي معرفة وقتها، كما انسي معرفة ليلة القدر.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعيينها أحاديث متعددةٌ:
ومن أغربها: أن ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كله.
وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ، عن أبي جعفر الرازي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)) .
خرّجه العقيلي.
وقال: هانئ بن خالد حديثه غير محفوظ، وليس بمعروف بالنقل، ولا يتابع
عليه، ولا يعرف إلا به.
ومنها: أنها آخر نهار الجمعة:
روى عبد السلام بن حفص، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة،

(8/293)


عن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن الساعة التي يتحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من
الجمعة)) .
خرّجه ابن عبد البر.
وقال: عبد السلام هذا مدني ثقةٌ.
قلت: رفعه منكرٌ، وعبد السلام هذا وان وثقه ابن معين، فقد قال فيه أبو حاتم الرزاي: ليس بالمعروف.
ولا يقبل تفرده برفع هذا.
وليته يصح موقوفاً، فقد روى شعبة والثوري، عن يونس بن خباب، عن
عطاء، عن أبي هريرة، قال: الساعة التي في الجمعة بعد العصر.
وخرّجه عبد الرزاق، عن الثوري، به، ولفظه: الساعة التي تقوم في يوم الجمعة ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس.
وخرّجه وكيعٌ عن يونس، به.
ويونس بن خباب، شيعيٌ ضعيفٌ.
قال الدارقطني في ((العلل)) : ومن رفعه عن الثوري فقد وهم.

(8/294)


وقال: وفيه نائلٌ: ((عن يونس بن عبيدٍ)) ، ووهم فيه - أيضاً.
وروى إسماعيل بن عياش، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن مسلم بن مسافر، عن أبي رزين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن في الجمعة ساعةً)) –يقللها بيده - ((لا يوافقها عبدٌ مؤمنٌ وهو يصلي، فيسأل الله فيها إلا استجاب له)) . قيل: أي الساعات هي يا رسول الله؟ قال: ((ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) .
خرّجه أبو أحمد الحاكم وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر.
وإسناده

(8/295)


لا يصح، وروايات إسماعيل بن عياش عن الحجازيين رديئةٌ.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريجٍ: حدثني العباس، عن محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن في الجمعة ساعةً، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، يسأل الله عز وجل فيها خيراً، إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر)) .
وخرّجه الإمام أحمد في ((مسنده)) ، عن عبد الرزاق.
وخرّجه العقيلي في ((كتابه)) .
وقال: العباس رجلٌ مجهولٌ، لا نعرفه، ومحمد بنمسلمة –أيضاً - مجهولٌ. وذكر عن البخاري، أنه قال: محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - في ساعة الجمعة -: لا يتابع عليه.
قال العقيلي: الرواية في فضل الساعة التي في يوم الجمعة ثابتهٌ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير هذا الوجه، فأما التوقيت، فالرواية فيه لينةٌ.
يعني بالتوقيت: تعيين ساعة الإجابة.
وروى فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عنابي هريرة، قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأي شيءٍ سمي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي أخر ثلاث ساعاتٍ منها ساعةٌ، من دعا الله فيها استجيب له)) .

(8/296)


خرّجه الإمام أحمد.
وفرج بن فضالة، مختلفٌ فيه، وقد ضعفه ابن معينٍ وغيره.
وعلي بن أبي طلحة، لم يسمع من أبي هريرة.
وروى محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أنسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إلتمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر، إلى غيبوبة الشمس)) .
خرّجه الترمذي.
وقال: غريبٌ.
ومحمد بن أبي حميد، منكر الحديث.
وخرّجه الطبراني من طريق ابن لهيعة، عن موسى بن وردان –بنحوه، وزاد في آخر الحديث: ((وهي قدر هذا)) –يعني: قبضةً.
ويروى من حديث فاطمة –عليها السلام -، عن أبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال في هذه الساعة: ((إذا تدلى نصف الشمس للغروب)) .
وفي إسناده اضطرابٌ وانقطاعٌ وجهالةٌ، ولا يثبت إسناده.

(8/297)


وروى عبد الرزاق، عن عمر بن ذر، عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في صلاة العصر يوم الجمعة، والناس خلفه إذ سنح كلبٌ ليمر بين أيديهم، فخر الكلب فمات قبل أن يمر، فلما أقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه على القوم قال: ((أيكم دعا على هذا الكلب؟)) فقال رجل من القوم: أنا دعوت عليه. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعوت عليه في ساعة يستجاب فيها الدعاء)) .
وهذا مرسلٌ.
ويروى بإسنادٍ منقطعٍ، عن أبي الدرداء –نحوه، إلا أن فيه: أنه دعا الله باسمه الأعظم، ولم يذكر الساعة.
ومنها: أنها الساعة التي تصلى فيها الجمعة:
فخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث ابن وهبٍ، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال عبد الله بن عمر:

(8/298)


أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) .
وروى البيهقي بإسناده، عن مسلمٍ، أنه قال: هذا أجود حديث وأصحه في ساعة الجمعة.
وقال الدارقطني: تفرد به ابن وهبٍ، وهو صحيح عنه. ورواه أبو إسحاق، عن أبي بردة، واختلف عليه، فرواه إسماعيل بن عمرو، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم خرّجه بإسناده من هذه الطريق، ولفظه: ((الساعة التي يرجى فيها يوم الجمعة عند نزول الإمام)) .
وخالفه النعمان بن عبد السلام، فرواه عن الثوري بهذا الإسناد –موقوفاً.
يعني: على أبي موسى.
ثم أسنده من طريقه كذلك، ولفظه: ((الساعة التي تذكر في الجمعة ما بين نزول الإمام عن منبره إلى دخوله في الصلاة)) .
قال: وخالفهما يحيى القطان، فرواه عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.
وكذلك رواه عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.
وكذلك رواه معاوية بن قرة ومجالد، عن أبي بردة – من قوله.

(8/299)


وحديث مخرمة بن بكرٍ أخرجه مسلم في ((الصحيح)) .
والمحفوظ: من روايةٍ الآخرين، عن أبي بردة –قوله، غير مرفوع. انتهى.
وكذلك رواه واصل بن حيانٍ، عن أبي بردة، قال: ذكر عند ابن عمر الساعة التي في الجمعة، فقلت: إني أعلم أي الساعة هي. قال: وما يدريك؟ قلت: هي الساعة التي يخرج فيها الإمام، وهي أفضل الساعات. قال: بارك الله عليك.
وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً ألا آتاه إياه)) . قالوا:
يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: ((حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها)) .
خرّجه ابن ماجه والترمذي.
وقال: حسنٌ غريبٌ.
وكثيرٌ هذا، يحسن البخاري والترمذي وغيرهما أمره. وقال بعضهم: أحاديثه عن أبيه عن جده أحبُ إلينا من مراسيل ابن المسيب. وضعف الأكثرون حديثه. وضرب الإمام أحمد عليه، ولم يخرجه في ((

(8/300)


مسنده)) .
قال أبو بكر الأثرم: إما وجه اختلاف هذه الأحاديث، فلن يخلو من وجهين: إما أن يكون بعضها أصح من بعضٍ، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل في الأوقات، كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر.
قال: وأحسن ما يعمل به في ذلك: أن تلتمس في جميع هذه الأوقات، احتياطاً واستظهاراً. انتهى.
فأما القول بانتقالها فهو غريبٌ.
وقد روي عن كعبٍ، قال: لو قسم إنسان جمعة في جمع أتى علي تلك الساعة.
يعني: أنه يدعو كل جمعةٍ في ساعة ساعة حتى يأتي على جميع ساعات اليوم.
قال الزهري: ما سمعنا فيها بشيء عن احد احدثه الا هذا.
وهذا يدل على أنها لا تنتقل، وهو ظاهر أكثر الأحاديث والآثار.
وأما التماسها في جميع مظانها، فقد روي نحوه عن أبي هريرة.
فحكى ابن المنذر، عنه، أنه قال: هي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

(8/301)


وهذا رواه ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وطاوس، عن أبي هريرة، وفي ليث مقال، لا سيما إذا جمع في الاسناد بين الرجال.
ولم يرد أبو هريرة –والله أعلم – أنها ساعتان: في أول النهار وآخره، إنما أراد أنها تلتمس في هذين الوقتين.
ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: بعد العصر، لا أكاد أشك فيه، وترجى بعد زوال الشمس.
كذا نقله ابن منصورٍ في ((مسائله)) عنه، ونقله الترمذي في ((جامعه)) عن
أحمد.
وإنما نقله ابن منصورٍ عن أحمد، والترمذي إنما ينقل كلام أحمد وإسحاق من ((مسائل ابن منصورٍ، عنهما)) كما ذكر ذلك في آخر ((كتابه)) .
ولا أعلم في التماسها في أول النهار عن أحدٍ من السلف غير هذا.
والمشهور عنهم قولان:
أحدهما: أنها تلتمس بعد العصر إلى غروب الشمس، وقد سبق عن أبي هريرة وعبد الله بن سلامٍ.
وروى سعيدٍ بن منصورٍ بإسناده، عن أبي سلمة، قال: اجتمع ناسٌ من

(8/302)


أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعةٍ من يوم الجمعة.
وروى سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أنه سئل عن تلك الساعة التي في الجمعة، فقال: خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة، وخلقه من أديم الأرض كلها، فأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته فلله ما أمسى ذلك اليوم حتى عصاه، فأخرجه منها.
خرّجه عبد الرزاق وغيره.
وهذا يدل على ترجيح ابن عباسٍ لما بعد العصر في وقت هذه الساعة؛ لخلق آدم فيها، وإدخاله الجنة، وإخراجه منها، وهو يشبه استنباطه في ليلة القدر، أنها ليلة سابعة.
وكذلك كان طاوس يتحرى الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر.
وعنه، أنه قال: الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة، والتي أنزل فيها آدم، والتي لا يدعو الله فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له: من حين تصفر الشمس إلى أن تغرب.
وهذا يشبه قول عبد الله بن سلامٍ، أنها آخر ساعةٍ من نهار الجمعة.
وروي مثله عن كعبٍ –أيضاً.

(8/303)


فأهل هذا القول، منهم من جعل وقت التماسها ما بين العصر وغروب الشمس، ومنهم من خصه بآخر ساعةٍ من الساعات.
وقال أحمد –في روايةٍ ابن منصورٍ -: أكثر الأحاديث بعد العصر.
وقال - في روايةٍ الميموني –كذلك، وزاد: قيل له: قبل أن تطفل.
الشمس للغروب؟ قالَ: لا أدري، إلا أنها بعد العصر.
وظاهر هذا: أن ما بعد العصر إلى غروب الشمس كله في التماسها سواءٌ.
والقول الثاني: أنها بعد زوال الشمس.
وقد تقدم عن ابن عمر وأبي بردة، أنها ساعةٍ صلاة الجمعة.
وروى عبد الله بن حجيرة عن أبي ذر، أنها من حين تزيغ الشمس بشبر إلى
ذراعٍ.
وعن عائشة، أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة.

(8/304)


وقال عوف بن مالكٍ: اطلبوا ساعةٍ الجمعة في إحدى ثلاث ساعات: عند تأذين الجمعة، أو ما دام الإمام على المنبر، أو عند الاقامة.
خرّجه محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) .
وعن الحسن وأبي العالية، قالا: عند زوال الشمس.
وعن الحسن، قال: هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ.
وعن أبي السوار العدوي، قال: كانوا يرون أن الدعاء مستجابٌ ما بين أن تزول الشمس إلى أن تدركك كل صلاة.
وعن ابن سيرين، قال: هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن الشعبي، قال: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل.
وعنه، قال: مابين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة.
وعن الشعبي، عن عوف بن حصيرة، قال: هي من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام.
وروي، أن عمر سأل ابن عباسٍ عنها؟ فقال: أرجو أنها الساعة التي يخرج لها الإمام.

(8/305)


خرّجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) بإسنادٍ ضعيفٍ.
وذكر عن أبي القاسم البغوي، أنه قال: هذا واهٍ، وقد روي عن ابن عباسٍ خلافه.
يشير إلى أن المعروف عنه أنها بعد العصر، كما رواه عنه سعيد بن جبير، وقد تقدم.
فهذه الاقوال متفقة على أنها بعد زوال الشمس، ومختلفة في الظاهر في قدر امتدادها.
فمنهم من يقول: وقت الأذان.
ومنهم من يقول: ما دام الإمام على المنبر.
ومنهم من يقول: عند الاقامة.
ومنهم من يقول: من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام فيها.
ومنهم من يقول: ما بين أن يحرم البيع بالنداء أو تزول الشمس –على اختلاف لهم فيما يحرم به البيع – إلى أن يحل بانقضاء الصلاة.
وهذا القول –أعني: أنها بعد زوال الشمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنها ما بين أن تقام الصلاة إلى أن يفرغ منها –أشبه بظاهر قولُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)) ، فإنه أن أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإن أريد به صلاة التطوع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإن هذا وقت صلاة تطوعٍ، وإن أريد بها أعم من ذلك –وهو الأظهر – دخل فيه صلاة التطوع بعد زوال الشمس، وصلاة الجمعة إلى انقضائها.

(8/306)


وليس في سائر الأوقات التي قالها أهل القول الأول وقت صلاة؛ فإن بعد العصر إلى غروب الشمس، وبعد الفجر إلى طلوع الشمس وقت نهي عن الصلاة فيه، اللهم إلاّ أن يراد بقولهم: بعد العصر: دخول وقت العصر والتطوع قبلها.
ومرسل يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة يشهد له.
من قال: إن منتظر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ، لكن لا يقال فيه قائم.
وقول يصلي؛ فإن ظاهر هذا اللفظ حمله على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية.
وقد روى عبد الرزاق في ((كتابه)) نا يحيى بن زمعة: سمعت عطاءً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((في يوم الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي، أو ينتظر الصلاة، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له)) .
وهذا غريبٌ.
ويحيى بن زمعة هذا، غير مشهورٌ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم باكثر من روايته عن عطاءٍ، ورواية عبد الرزاق عنه.
وهذه الرواية تدل على أن المراد بالصلاة حقيقة الصلاة؛ لأنه فرق بين المصلي ومنتظر الصلاة، وجعلهما قسمين.
وتدل على أن ساعةٍ الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها، وهذا بما بعد الزوال أشبه؛ لأن أول تلك الساعة ينتظر فيها الصَّلاة ويتنفل فيها بالصلاة، وآخرها يصلى فيهِ الجمعة.

(8/307)


وخَّرج ابن أبي شيبة بإسناده، عن هلال بن يساف، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن في الجمعة لساعةً، لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ، يسأل الله فيها خيراً، إلا أعطاه)) فقالَ رجل: يا رسول الله، فماذا اسال؟ فقال: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) .
وهذا مرسلٌ.

* * *

38 -

(8/308)


باب
إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة
فصلاة الإمام ومن بقي تامةٌ

(8/309)


936 - حدثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد: ثنا جابر بن عبد الله، قال: بينما نحن نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذ أقبلت عيرٌ تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وخرّجه في "التفسير " عن حفص بن عمر قالَ: ثنا خالد بن عبد الله: أنبا حصين، عن سالم بن أبي الجعد –وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله –فذكره بمعناه.
وفي هذه الرواية: متابعة أبي سفيان لسالم بن أبي الجعد على روايته عن جابر، وإنما خرّج لأبي سفيان متابعةً.
وقد خرّجه مسلم بالوجهين – أيضاً.
وفي أكثر رواياته: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة.
وفي روايةٍ له: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً يوم الجمعة – فذكره بمعناه.

(8/309)


وفي روايةٍ له: فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، أنا فيهم.
وفي روايةٍ له –أيضاً -: فيهم أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما.
وقوله في الرواية التي خرجها البخاري: ((بينا نحن نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) لم يرد به أنهم انفضوا عنه في نفس الصلاة، إنما أراد –والله أعلم – إنهم كانوا مجتمعين للصلاة، فانفضوا وتركوه.
ويدل عليه: حديث كعب بن عجرة، لما قال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11] .
وكذلك استدلال ابن مسعودٍ وخلق من التابعين بالآية على القيام في الخطبة.
وروى علي بن عاصمٍ هذا الحديث عن حصين، فقال فيه: فلم يبق معه الا أربعون رجلاً، أنا فيهم.
خرّجه الدارقطني والبيهقي.
وعلي بن عاصمٍ، ليس بالحافظ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات.
وقد استدل البخاري وخلقٌ من العلماء على أن الناس إذا نفروا عن الإمام وهو يخطب للجمعة، وصلى الجمعة بمن بقي، جاز ذلك، وصحت جمعتهم.
وهذا يرجع إلى أصلٍ مختلفٍ فيه، وهو: العدد الذي تنعقد به الجمعة، وقد اختلف في ذلك:

(8/310)


فقالت طائفةٌ: لا تنعقد الجمعة بدون أربعين رجلاً، روي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز، وهو قولُ الشافعي وأحمد – في المشهور عنه – وإسحاق ورواية عن مالكٍ.
وقالت طائفةٌ: تنعقد بخمسين، روي عن عمر بن عبد العزيز - أيضاً –وهو روايةٍ عن أحمد.
وقالت طائفةٌ تنعقد بثلاثة، منهم: ابن المبارك والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وروي عن أبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد. وقالت طائفةٌ: تنعقد بأربعةٍ، وهو قولُ أبي حنيفة وصاحبيه –في المشهور عنهما – والأوزاعي ومالك والثوري – في رواية عنهما – والليث بن سعدٍ.
وحكي قولاً قديماً للشافعي، ومنهم من حكاه أنها تنعقد بثلاثةٍ.
وقالت طائفةٌ: يعتبر أربعون في الأمصار وثلاثةٌ في القرى، وحكي روايةً عن أحمد، صححها بعض المتأخرين من أصحابه.
وقالت طائفةٌ: تنعقد بسبعة، وحكي عن عكرمة، ورواية عن أحمد.
وقالت طائفةٌ: تنعقد باثني عشر رجلاً، حكي عن ربيعة.
وقد قام الزهري: أن مصعب بن عمير أول ما جمع بهم بالمدينة كانوا إثنى عشر رجلاً.
وتعلق بعضهم لهذا الحديث بحديث جابر المخرج

(8/311)


في هذا الباب.
وقال طائفةٌ: تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة، وهو رجلان، وهو قولُ الحسن بن صالح وأبي ثور - في روايةٍ – وداود، وحكي عن مكحولٍ.
وتعلق القائلون بالأربعين كعب بن مالكٍ، أن أول جمعةٍ جمع بهم أسعد بن
زرارة، كانوا أربعين، وقد سبق ذكره في أول ((كتاب الجمعة)) .
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره وجه الاستدلال به: أن الجمعة فرضت بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعةٌ وأكثر ممن هاجر إليها وممن أسلم بها، ثم لم يصلوا [ ... ] كذلك حتى كمل العدد أربعين، فدل على أنها لا تجب على أقل منهم، ولم يثب أبو بكر الخلال خلافه عن أحمد في اشتراط الأربعين.
قال: وإنما يحكى عن غيره، أنه قال بثلاثةٍ، وباربعةٍ، وبسبعةٍ، ولم يذهب إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلال هو الأظهر. والله أعلم.
وفي عدد الجمعة أحاديث مرفوعة، لا يصح فيها شيء، فلا معنى لذكرها.

(8/312)


وإذا تقرر هذا الأصل، فمن قال: أن الجمعة تنعقد بإثني عشر رجلاً أو بدونهم، فلا إشكال عنده في معنى حديث جابر؛ فإنه يحمله على أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الجمعة بمن بقي معه، وصحت جمعتهم.
ومن قال: لا تصح الجمعة بدون أربعين، فإنه يشكل عليه حديث جابرٍ.
وقد أجاب بعضهم: بأن الصحيح أنهم انفضوا وهو في الخطبة. قال: فيحتمل أنهم رجعوا قبل الصلاة، أو رجع من تم به الأربعون، فجمع بهم.
قال: والظاهر أنهم انفضوا ابتداءً سوى إثني عشر رجلاً، ثم رجع منهم تمام أربعين، فجمع بهم، وبذلك يجمع بين روايةٍ علي بن عاصم وسائر الروايات.
وهذا الذي قاله بعيدٌ، ورواية علي بن عاصم غلطٌ محضٌ، لا يلتفت إليها.
وسلك طائفةٌ مسلكاً آخر، وظاهر كلام البخاري هاهنا وتبويبه يدل عليه، وهو: أن انفضاضهم عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في نفس الصلاة، وكان قد افتتح بهم الجمعة بالعدد المعتبر، ثم تفرقوا في أثناء الصلاة، فأتم بهم صلاة الجمعة؛ فإن الاستدامة يغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء.
وهذا قولُ جماعة من العلماء، منهم: أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والشافعي – في القديم – وإسحاق، وهو وجه لأصحابنا.
وعلى هذا؛ فمنهم من اعتبر أن يبقى معه واحد فأكثر؛ لأن أصل

(8/313)


الجماعة تنعقد بذلك، ومنهم من شرط أن يبقى معه اثنان، وهو قولُ الثوري وابن المبارك، وحكي قولاً للشافعي.
وقال إسحاق: أن بقي معه اثنا عشر رجلاً جمع بهم وإلاّ فلا؛ لظاهر حديث جابر.
وهو وجهٌ لأصحابنا.
ولأصحابنا وجه أخر: يتمها الإمام جمعة، ولو بقي وحده.
وهذا بعيد جداً.
وفرق مالكٌ بين أن يكون انفضاضهم قبل تمام ركعة فلا تصح جمعتهم ويصلون ظهراً، وبين أن يكون بعد تمام ركعةٍ فيتمونها جمعة.
ووافقه المزني، وهو وجه لأصحابنا.
وقال أبو حنيفة: إن انفضوا قبل أن يسجد في الأولى فلا جمعةٍ لهم، وان كان قد سجد فيها سجدةً أتموها جمعةً.
وقال صاحباه: بل يتمونها جمعةٍ بكل حال، ولو انفضوا عقب تكبيرة الإحرام.
ومذهب الشافعي – في الجديد – وأحمد والحسن بن زياد: أنه لا جمعةٍ لهم، حتى يكمل العدد في مجموع الصلاة.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: لم يختلف قولُ أحمد في ذلك.
وقد وجدت جواباً آخر عن حديث جابر، وهو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد صلى بأصحابه الجمعة، ثم خطبهم فانفضوا عنه في خطبته بعد صلاة الجمعة، ثم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك قدم خطبة الجمعة على صلاتها.
فخرج أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: كان

(8/314)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلى الجمعة قبل الخطبة مثل العيد، حتى إذا كان يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل، فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارته – وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف -، فخرج الناس، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فانزل الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ، فقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطبة يوم الجمعة، وأخر الصلاة.
وهذا الجواب أحسن مما قبله.
ومن ظن بالصحابة أنهم تركوا صلاة الجمعة خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد دخولهم معه
فيها، ثم خرجوا من المسجد حتى لم يبق معه إلاّ إثنا عشر رجلاً، فقد أساء بهم الظن، ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى.
وأصل هذه المسائل: أن الجمعة يشترط لها الجماعة، فلا تصح مع الانفراد، وهذا إجماع لا نعلم فيه خلافاً، إلاّ ما تقدم حكايته عن أبي حنيفة، أنه صلى ركعتين عند تأخير بعض الأمراء للجمعة، وقال: أشهدكم أنها جمعةٌ.
وحكي مثله عن الفاشاني، والفاشاني ليس ممن يعتد بقوله بين الفقهاء.
وذهب عطاءٌ إلى أن من حضر الخطبة فقد أدرك الجمعة، فلو أحدث بعد حضوره الخطبة، فذهب فتوضأ ثم رجع وقد فرغ الإمام من صلاة الجمعة، أنه يصلي ركعتين؛ لأنه قد حضر الخطبة -:

(8/315)


نقله عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.
وخالفه جمهور العلماء، فقالوا: يصلي أربعاً.
وفي مراسيل يحيى بن أبي كثيرٍ: من أدرك الخطبة فقد أدرك الصلاة.
خرّجه عبد الرزاق.
ومراسيل يحيى ضعيفةٌ جداً.
واختلفوا فيمن جاء والإمام يخطب، قد فرغ من الخطبة.
فقالت طائفةٌ: لم يدرك الجمعة، ويصلي أربعاً، روي ذلك عن عمر، وعن طاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ، وقالوا: الخطبة بدلٌ عن الركعتين.
قال عطاءٌ: إن جلس قبل أن ينزل الإمام من المنبر فقد أدرك الخطبة، فيصلي جمعةٍ، وإلا صلى أربعاً.
وظاهر كلام عطاء: أن الجمعة ظهر مقصورة؛ فإنه يقول: إن أدرك الخطبة قصر، وإلا لم يقصر.
وقال سعيد بن جبير: كانت الجمعة أربعا، فجعلت الخطبة مكان الركعتين.
وذهب طائفة: إلى أن من أدركهم في التشهد قبل السلام فقد أدرك

(8/316)


الجمعة، وهو قول الحكم وحماد وأبي حنيفة وأصحابه، وحكي رواية عن النخعي، ورواية عن أحمد، ولا تكاد تصح عنه.
وروي عن ابن مسعود، أنه قال لأصحابه - وقد أدرك الناس جلوسا في الجمعة -: قد أدركتم، إن شاء الله.
قال قتادة إنما أراد: أدركتم الأجر.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة، ويتمها جمعة، وإن فاتته الركعة الثانية صلى أربعا.
وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأنس، وهو قول علقمة والأسود والحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والليث والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
واستدلوا بحديث: " من أدرك ركعة من الصلاة ".
ثم إن أكثرهم قالوا: يصلي من أدرك التشهد مع الإمام الظهر خلفه أربعا.
وهذا يتوجه على قول من يقول: يصح اقتداء من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر. فأما من قال: لا يجوز ذلك، فهو مشكل على أصولهم.
فلهذا قال طائفة: لا يجزئه أن يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة، بل يستأنف الظهر، وهو اختيار بعض أصحابنا في المسبوق، وفيما إذا نقص العدد في أثناء الجمعة.
وهو قول بعض فقهاء أهل المدينة، إلا على قول من يقول: الجمعة ظهر مقصورة، فيكون كمقيم صلى خلف مسافر.
فلهذا قال بعضهم: ينوي في دخوله معه الجمعة، ثم يصلي ظهرا إذا فارقه، وهو

(8/317)


بعيد.
وحكي ذلك عن ابن شاقلا من أصحابنا.
وقد صنف ابن شاقلا في المسألة جزءا مفردا، وقد تأملته، فوجدته يقول: إن من أدرك التشهد خلف الإمام في يوم الجمعة، فإنه يصلي جمعة أربع ركعات. قال: وإنما كانت جمعة هذا أربعا لاتفاق الصحابة عليه، على خلاف القياس، وكان القياس: أن يصلي الركعتين.
وأخذ ذاك من قول أحمد - في رواية حنبل -: لولا الحديث الذي في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا.
حتى قال ابن شاقلا: لو كان الإمام قد صلى الجمعة قبل زوال الشمس، فأدركه في التشهد صلى أربعا، وأجزأه، وكانت جمعة.
وقد قال سفيان الثوري: إذا نوى الجمعة، وصلى أربعا أجزأته جمعته، وإن لم ينو الجمعة فلا أراه يجزئه.
وللشافعية فيما إذا نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر المقصورة: هل تصح جمعته؟ وجهان، على قولهم: إن الجمعة ظهر

(8/318)


مقصورة.
وإن نوى الجمعة، فإن قالوا: هي صلاة مستقلة أجزأه.
وإن قالوا: ظهر مقصورة، فهل تشترط نية القصر فيه وجهان لهم، أصحهما: لا تشترط.
ولو نوى الظهر مطلقا، من غير تعرض للقصر، لم يصح عندهم بغير خلاف.
وقال مالك - فيما نقله عنه ابن عبد الحكم - في الإمام ينزل بقرية لا تقام فيها الجمعة، فيجمع فيها: إنه لا يكون جمعة، بل يكون ظهرا مقصورة، فتصح له ولمن معه من المسافرين، ويتم أهل تلك القرية صلاتهم إذا سلم.
وهو ظاهر ما ذكره في " الموطأ "، ونقله عنه ابن نافع - أيضا.
وظاهر هذا: يدل على صحة صلاة الظهر المقصورة بنية الجمعة.
قال ابن القاسم في " المدونة ": لا جمعة للإمام ولا لمن خلفه، ويعيد ويعيدون؛ لأنه جهر عامدا.
وهذا تعليل عجيب، وهو يقتضي أن من جهر في صلاة السر عمدا بطلت صلاته.
والتعليل: بأنه لا تصح صلاة الظهر بنية الجمعة أظهر.
وذكر ابن المواز، عن ابن القاسم: أما هو فصلاته تامة، وأما هم فعليهم الإعادة.
واختلف السلف في هذه المسألة:
فقال عطاء - فيمن دخل قرية لا ينبغي أن تقام فيها الجمعة، وهي القرية التي ليست جامعة عنده، فأقام

(8/319)


أهلها الجمعة، فجمع معهم: إنه يتم صلاته، فإذا سلم إمامهم أتم صلاته بركعتين، ولا يقصر معهم.
وقال الزهري: يجمع معهم ويقصر.
ومذهب أصحاب الشافعي: أن المسبوق في صلاة الجمعة يتم صلاته - إذا سلم الإمام - ظهرا.
ثم منهم من قطع بذلك، وهم جمهور العراقيين، ومن الخراسانين من بناه على القول في أن الجمعة: هل هي صلاة مستقلة أو ظهر مقصورة.
فإن قيل: هي ظهر مقصورة أتمها ظهرا كالمسافر إذا امتنع عليه القصر لسبب، وإن قيل: هي صلاة مستقلة، فهل يتمها ظهرا؟ فيها وجهان، أصحهما: يتمها ظهرا؛ لأنها بدل منها، أو كالبدل.
فعلى هذا: هل يشترط أن ينوي قبلها ظهرا، أو تنقلب بنفسها؟ فيه وجهان - أيضا.
وهذا كله تفريع على قولهم: ينوي الجمعة موافقة للإمام.
ولهم وجه آخر: ينوي الظهر؛ لأنه لا يصح له غيرها.
وهو قول الخرقي وأكثر أصحابنا.
ومنهم من قال: هو ظاهر كلام أحمد.
وحكاه - أيضا - عن مالك والشافعي، وفي حكايته عن الشافعي نظر.

(8/320)


39 - باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها

(8/321)


937 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين.
وقد خرجه في " أبواب صلاة التطوع " من طرق أخرى عن نافع، ومن طريق سالم، عن أبيه، والمعنى متقارب.
وقد دل هذا الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئا، وأنه كان ينصرف إلى بيته، فيصلي ركعتين.
فتضمن ذلك: استحباب شيئين: أحدهما: صلاة ركعتين بعد الجمعة. والثاني: أن تكون في البيت.
وقد كان ابن عمر يفعله بالمدينة، يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين، وكان ينهى عن صلاتهما في المسجد، ويقول لمن يفعله: صلى الجمعة أربعا، وكان إذا كان بمكة يتقدم من موضع صلاته، فيصلي ركعتين، ثم ينتقل عنه فيصلي أربعا.

(8/321)


وفي " صحيح مسلم " عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا ".
وفي رواية له: قال سهيل: فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت.
وقد وقع في غير مسلم هذا الكلام عن سهيل من قوله.
وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة.
فقالت طائفة: هو مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعا، عملا بكل واحد من الحديثين، وهو قول أحمد - في رواية عنه.
وظاهره: أنه لا فضل لأحدهما على الآخر.
وروي عنه، أنه قال: يصلي ركعتين ولا يعيب على من صلى أربعا؛ لحديث أبي هريرة.
وظاهره: أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه أثبت إسنادا.

(8/322)


وقالت طائفة: يجمع بينهما، فيصلي ستا -: نقله إبراهيم الحربي، عن أحمد، وقال: يجمع بينهما على وجه، بين أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله.
ونقل عنه ابن هانئ، قال: يصلي ستا؛ لأمر علي بن أبي طالب بذلك.
وهذا مأخذ آخر.
وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، فإن صلى في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، وهو قول إسحاق، واستدل - أيضا - بقول عمر وابن مسعود. ولا يصلى ركعتين بعد مكتوبة مثلها.
قال: فإذا صلى في المسجد ركعتين فقد صلى بعد المكتوبة مثلها، فيصلي أربعا، وأما إذا صلى في بيته ركعتين؛ فإن المشي إلى بيته فاصل بين المكتوبة وغيرها.
وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، وهو أن الإمام يصلي في بيته
ركعتين، والمأموم يصلي أربعا في المسجد، وهذا قول أبي خيثمة زهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني. وتبويب النسائي يدل عليه - أيضا.
وكان علي بن أبي طالب يأمر بصلاة ست ركعتات بعد الجمعة.
وكان ابن مسعود يأمر بأربع.
قال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي: علمنا عبد الله بن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعا، ثم جاء علي بن أبي طالب،

(8/323)


فعلمنا أن نصلي ستا.
وكان عمران بن حصين يصلي بعد الجمعة أربعا.
وروي عن علي من وجه آخر منقطع.
وعن أبي موسى الأشعري، أنه كان يصلي ستا.
وكان الحسن يصلي ركعتين، ومسروق يصلي ركعتين، ثم أربعا.
ونص الشافعي في " الأم "، أنه يصلي بعد الجمعة أربعا.
وحكي الترمذي، عنه، أنه يصلي ركعتين.
وقد تقدم عن ابن عمر، أنه كان يصلي في بيته ركعتين وفي المسجد ستا: ركعتين، ثم أربعا، يفصل بينهما.
وقال ابن عيينة: يصلي ركعتين، يسلم فيهما، ثم يصلي أربعا، لا يسلم إلا في آخرهن.
وقال أحمد - في رواية عنه -: إن شاء صلى أربعا، وإن شاء صلى ستا.
ولا يكره ترك الصلاة بعد الجمعة أحيانا -: نص

(8/324)


عليه أحمد، واستدل بأن عمران بن حصين تركها مرة، حيث كان يصلي أربعا بعد صلاة الجمعة خلف
زياد، فقيل عنه: إنه لا يعتد بصلاته خلف زياد، فأنكر ذلك، ثم صلى الجمعة الثانية، ولم يصل شيئا حتى صلى العصر.
وأما مكان الصلاة بعد الجمعة، فالأفضل أن يكون في البيت لمن له بيت يرجع إليه، كما كان ابن عمر يفعله ويأمر به.
فإن صلى في المسجد، فهل يكره، أم لا؟
ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكره، ولكن يؤمر بالفصل بينها وبين صلاة الجمعة.
وقد سبق حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في ذلك.
وقال عكرمة: إذا صليت الجمعة، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحول أو كلام.
وقال قتادة: رأى ابن عمر رجلا يصلي في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: ألا أراك تصلي في مقامك؟ قال: نعم. قال قتادة: فذكرت ذلك لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.
ومذهب مالك: أنه يكره للإمام أن يصلي بعد الجمعة في المسجد، ولا يكره للمأموم، إذا انتقل من موضع مصلاه، وقد روي عن ابن عمر.
قال عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج:

(8/325)


أخبرني عطاء، أن عمرو بن سعيد صلى الجمعة، ثم ركع على إثرها ركعتين في المسجد، فنهاه ابن عمر عن ذلك، وقال: أما الإمام فلا، إذا صليت فانقلب فصل في بيتك ما بدا لك، إلا أن تطوف، وأما الناس، فإنهم يصلون في المسجد.
وفي صلاة الإمام في الجامع بعد الجمعة حديث، من رواية عاصم بن سويد، عن محمد بن موسى بن الحارث، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني عمرو بن عوف يوم الأربعاء، فقال: " لو أنكم إذا جئتم عيدكم هذا صليتم حتى تسمعوا من قولي ". قالوا: نعم، بأبينا أنت يا رسول الله وأمهاتنا. قال: فلما حضروا الجمعة صلى لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة، ثم صلى ركعتين بعد الجمعة في المسجد، ولم ير يصلي بعد الجمعة في المسجد، وكان ينصرف إلى بيته قبل ذلك اليوم.
خرجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم.
وقال: صحيح الإسناد.
وقال بعض المتأخرين: محمد بن موسى بن الحارث لا يعرف.
وخرجه البزار في " مسنده "، وعنده: عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه، عن جابر.
فإن كان ذلك محفوظا، فهو موسى بن

(8/326)


محمد بن إبراهيم التيمي، وهو منكر الحديث جدا.
وخرج النسائي من رواية شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، يطيل فيهما، ويقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
وذكر إطالة الركعتين بعد الجمعة غريب.
وقد روى غير واحد، عن أيوب في هذا الحديث: أن الإطالة إنما كانت في الصلاة قبل الجمعة، كما سنذكره.
وقد بوب البخاري على " الصلاة بعد الجمعة وقبلها "، كما بوب عليه عبد الرزاق والترمذي في " كتابيهما "، إلا أنهما ذكرا في الصلاة قبلها آثارا موقوفة غير مرفوعة، ولم يذكر البخاري فيها شيئا، إما لأن المرفوع فيها ليس على شرطه، وفيها أحاديث مرفوعة في أسانيدها نظر، أو لأن الذي فيها كله موقوف، فلم يذكره لذلك.
أو لأنه اجتزأ عنه بحديث سلمان الذي خرجه فيما تقدم في موضعين؛ فإن فيه: " وصلى ما كتب له، ثم أنصت إذا تكلم الإمام "؛ فإن هذا يدل على فضل الصلاة قبل الجمعة، لا سيما وفيه - في إحدى الروايتين

(8/327)


للبخاري -: " ثم راح "، والرواح حقيقة لا يكون حقيقة إلا بعد الزوال، كما سبق ذكره.
فعلى هذا، يكون ترغيبا في الصلاة بعد زوال الشمس يوم الجمعة من غير تقدير للصلاة، فيكون أقل ذلك ركعتين، والزيادة عليهما بحسب التيسير.
وإن قيل: إن الرواح هنا بمعنى الذهاب، فإنه يدل على استحباب الصلاة يوم الجمعة قبل خروج الإمام من غير تفضيل بين ما قبل زوال الشمس وبعده.
وروى ابن علية، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك.
خرجه أبو داود.
وخرجه الإمام أحمد من طريق وهيب، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام،
فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
وظاهر هذا: يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته؛ فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد، صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين.
وهذا فيما وضع

(8/328)


للإشارة إلى البعيد أظهر، مثل لفظة: " ذلك "؛ فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة.
وعن ابن جريج أنه قال لعطاء: بلغني أنك تركع قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة، فما بلغك في ذلك؟ فذكر له حديث أم حبيبة المرفوع: " من ركع ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة - سوى المكتوبة - بنى الله له بيتا في الجنة ".
وقد تقدم عن ابن مسعود، أنه كان يأمر أن يصلي قبل الجمعة أربعا.
وروى الطحاوي بإسناده عن جبلة بن سحيم قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن بسلام وبعد الجمعة ركعتين ثم أربعا.
وروى ابن سعد في " طبقاته " بإسناده، عن صفية بنت حيي أم المؤمنين، أنها صلت الجمعة مع الإمام، فصلت قبل خروجه أربعا.
وقال النخعي: كانوا يحبون أن يصلوا قبل الجمعة أربعا.
خرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " بإسناد صحيح.

(8/329)


وقد روى ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من طريق الأعمش، عن النخعي، قال: ما قلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه.
وممن ذهب إلى استحباب أربع ركعات قبل الجمعة: حبيب بن أبي ثابت والنخعي والثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وروى حرب بإسناده، عن ابن عباس، أنه كان يصلي يوم الجمعة في بيته أربع ركعات، ثم يأتي المسجد فلا يصلي قبلها ولا بعدها.
وهذا يدل على أن سنة الجمعة عند ابن عباس قبلها لا بعدها.
واعلم؛ أن التطوع بالصلاة يوم الجمعة قبل الجمعة له أربعة أوقات:
أحدها: ما قبل طلوع الشمس لمن بكر إلى الجمعة حينئذ، فهذا الوقت وقت نهي عن التطوع فيه بما لا سبب له، وماله سبب كتحية المسجد فيه اختلاف، سبق ذكره في ذكر أوقات النهي.
إلا من يقول: إن يوم الجمعة كله صلاة ليس فيه وقت ينهى عن الصلاة فيه بالكلية، كما هو ظاهر كلام طاوس؛ فإنه قال: يوم الجمعة كله صلاة.
وقد قيل: إنه إنما أراد به وقت استواء الشمس خاصة.
والثاني: ما بين ارتفاع الشمس واستوائها، فيستحب التطوع فيه بما أمكن، وخصوصا لمن بكر إلى الجمعة.

(8/330)


والثالث: وقت استواء الشمس وقيامها في وسط السماء.
وقد اختلفوا: هل هو وقت نهي عن الصلاة في يوم الجمعة، أم لا؟
فمنهم من قال: هو وقت نهي، كأبي حنيفة وأحمد.
ومنهم من قال: ليس بوقت نهي، وهو مذهب مكحول والأوزاعي والشافعي.
ومن أصحابه من خصه بمن حضر الجمعة دون من هو في بيته. ومنهم من خصه بمن بكر إلى الجمعة، وغلبه النعاس.
ومنهم من قال: هو وقت نهي يوم الجمعة في الصيف دون الشتاء، وهو قول عطاء وقتادة.
ومنهم من لم يره وقت نهي في جميع الأيام، كمالك.
وقد سبق الكلام عليه في ذكر أوقات النهي.
والرابع: بعد زوال الشمس، وقبل خروج الإمام، فهذا الوقت يستحب الصلاة فيه بغير خلاف نعلمه بين العلماء سلفا وخلفا، ولم يقل أحد من المسلمين: إنه يكره الصلاة يوم الجمعة، بل القول بذلك خرق لإجماع المسلمين، إنما اختلفوا في وقت قيام الشمس، كما سبق.
قال مالك: لا أكره الصلاة نصف النهار في جمعة ولا غيرها.
وقد روى في " الموطأ " حديثا مرفوعا في النهي عنه، ثم تركه؛ لأنه رأى عمل العلماء وأهل الفضل على خلافه.
فأما الصلاة بعد زوال الشمس، فلم يزل عمل المسلمين على فعله.

(8/331)


وقد ذكر مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر ويجلس على المنبر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون، فإذا اسكت المؤذن وقام عمر سكتوا ولم يتكلم أحد.
وهذا تصريح باستمرارهم في الصلاة إلى ما بعد زوال الشمس، وهو مما يستدل به على الصلاة وقت استواء الشمس وقيامها يوم الجمعة.
وقد وردت آثار آخر، تدل على أنهم كانوا يتركون الصلاة وقت قيام الشمس
يوم الجمعة، فإذا زالت قاموا إلى الصلاة.
وروى الأثرم بإسناده، عن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: كنت أبقى - يعني: أنتظر - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا.
وبإسناده، عن أبي بكر بن عياش، قال: كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة، فيقول: أزالت الشمس بعد، ويلتفت فينتظر، فإذا زالت الشمس، قام فصلى الأربع قبل الجمعة.
وبإسناده، عن حماد بن زيد، قال: كنت أمر بابن عون يوم الجمعة، فنمضي إلى الجمعة، فيقول لي: الشمس عندكم أبين منها عندنا، فنرى الشمس زالت.
قال حماد: كأنه يكره الصلاة حتى تزول الشمس.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في " مسائله للإمام أحمد ": رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن

(8/332)


المؤذن، فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا، يفصل بينها بالسلام.
وقال - أيضا -: رأيت أبا عبد الله إذا أذن المؤذن يوم الجمعة صلى ركعتين، وربما صلى أربعا على خفة الأذان وطوله.
ومما يدل على استحباب الصلاة في هذا الوقت يوم الجمعة: أنه وقت يرجى فيه ساعة الإجابة، فالمصلي فيه يدخل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئا، إلا أعطاه ".
وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة: هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلها، أم هي مستحبة مرغب فيها كالصلاة قبل العصر؟
وأكثر العلماء على أنها سنة راتبة، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في " شرح المذهب " وابن عقيل، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي.
وقال كثير من متأخري أصحابنا: ليست سنة راتبة، بل مستحبة.
وقد زعم بعضهم: أن حديث ابن عمر المخرج في هذا الباب يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي قبل الجمعة شيئا؛ لأنه ذكر صلاته بعد الجمعة، وذكر صلاته قبل الظهر وبعدها، فدل على الفرق بينهما.
وهذا ليس بشيء؛ فإن ابن عمر قد روي عنه ما يدل على صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الجمعة، كما سبق، ولعله إنما ذكر الركعتين بعد الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليهما في بيته، بخلاف الركعتين قبل الظهر وبعدها؛

(8/333)


فإنه كان أحيانا يصليها في المسجد، فبهذا يظهر الفرق بينهما.
وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عمل عملا داوم عليه، ولم يكن ينقصه يوم الجمعة ولا غيرها، بل كان الناس يتوهمون أنه كان يزيد في صلاته يوم الجمعة بخصوصه، فكانت عائشة تسأل عن ذلك، فتقول: لا، بل كان عمله ديمة.
وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين أو أربعا.
وفي " صحيح ابن حبان "، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج صلى ركعتين.
ورويناه من وجه آخر عن عائشة، قالت: ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عندي قط إلا صلى ركعتين.
وقد كان من هدي المسلمين صلاة ركعتين عند خروجهم من بيوتهم، من الصحابة ومن بعدهم، وخصوصا يوم الجمعة، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن
عباس وطاوس وأبو مجلز، ورغب فيه الزهري.
وقال الأوزاعي: كان ذلك من هدي المسلمين.
وقد سبق في " باب: الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب " ما يدل على ذلك - أيضا.
وحينئذ؛ فلا يستنكر أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في بيته ركعتين قبل خروجه إلى الجمعة.

(8/334)


فإن قيل: فهو كان يخرج إلى الجمعة عقب الزوال من غير فصل؛ بدليل ما سبق من الأحاديث من صلاته الجمعة إذا زالت الشمس.
قيل: هذه دعوى باطلة، لا برهان عليها، ولو كانت حقا لكانت خطبته دائما أو غالبا قبل الزوال، إذا كانت صلاته عقب زوال الشمس من غير فصل، ولم يقل ذلك أحد.
وأيضا؛ فقد روي أنه كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، كما تقدم في " المواقيت " ولم يقل أحد: إنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي قبل الظهر شيئا.
وقد كتبت في هذه المسألة جزءا مفردا، سميته: " نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة "، ثم اعترض عليه بعض الفقهاء المشار إليه في زماننا، فأجبت عما اعترض به في جزء آخر، سميته: " إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة "، فمن أحب الزيادة على ما ذكرناه ها هنا، فليقف عليهما - إن شاء الله تعالى.

(8/335)


40 - باب قول الله عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) [الجمعة: 10] الآية

(8/336)


938 - حدثنا سعيد بن أبي مريم: ثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلف، فتجعله في قدر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فنلعقه، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.

(8/336)


939 - حدثنا عبد الله بن مسلمة: نا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد - بهذا، وقال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
المقصود من هذا الحديث ها هنا: أن الصحابة لم يكونوا يجلسون بعد صلاة الجمعة في المسجد إلى العصر لانتظار الصلاة - كما ورد في الحديث المرفوع أنه يعدل [عمرة] وقد خرجه البيهقي بإسناد ضعيف، وقد سبق ذكره - وإنما كانوا يخرجون من المسجد ينتشرون في الأرض،

(8/336)


فمنهم من كان ينصرف لتجارة، ومنهم من كان يزور أصحابه وإخوانه، وكانوا يجتمعون على ضيافة هذه المرأة.
وقد ذهب بعضهم إلى [أن] الأمر بالانتشار بعد الصلاة للاستحباب، كان عراك بن مالك إذا خرج من المسجد يوم الجمعة [قال] : اللهم، أجبت دعوتك، وقضيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
خرجه ابن أبي حاتم وغيره.
وهذا يدل على أنه رأى قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) [الجمعة: 10] أمرا على ظاهره.
وخرج - أيضا - بإسناده، عن عمران بن قيس، قال: من باع واشترى يوم الجمعة بارك الله له سبعين مرة.
قال بعض رواته: وذهب بعد صلاة الجمعة؛ لهذه الآية.
وذهب الأكثرون إلى أنه ليس بأمر حقيقة، وإنما هو إذن وإباحة، حيث كان بعد النهي عن البيع، فهو إطلاق من محظور، فيفيد الإباحة خاصة.
وكذا قال عطاء ومجاهد والضحاك ومقاتل بن حيان وابن زيد وغيرهم.
وروى أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي " بإسناد لا

(8/337)


يصح، عن أنس - مرفوعا - في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) ، قال: " ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وتشييع جنازة، وزيارة أخ في الله ".
وفي حديث سهل: دليل على زيارة الرجال للمرأة، وإجابتهم لدعوتها، وعلى استحباب الضيافة يوم الجمعة خصوصا لفقراء المسلمين، فإطعام الفقراء فيه حسن مرغب فيه.
وفيه: أن فرح الفقير بوجود ما يأكل وتمنيه لذلك غير قادح في فقره، ولا مناف لصبره، بل ولا لرضاه.
وفي الحديث ألفاظ تستغرب:
ف " الأربعاء ": جداول الماء في الأرض، واحدها: " ربيع ".
وقوله: " فيكون أصول السلق عرقه " - وفي رواية: " عراقه " -، وهو بالعين المهملة والقاف، والعرق والعراق: اللحم.
والمعنى: أن أصول السلق تصير في هذا الطعام كاللحم لما يطبخ باللحم من الأطعمة.
ورواه بعضهم: " غرفه " - بالغين المعجمة والفاء -، وفسر ب " المرقة "؛ فإنها تغرف باليد.
وهذا بعيد؛ فإن أصول السلق لا تصير بغرف.
وقوله: " فنعلقه " أي: نلحسه، وهذا يدل على أنه كان قد ثخن.
وقيل: الفرق بين اللحس واللعق: أن اللحس يختص بالأصبع، واللعق يكون بالأصبع وبآلة يلعق بها كالملعقة.

(8/338)


48 - باب القائلة بعد الجمعة

(8/339)


940 - حدثني محمد بن عقبة الشيباني الكوفي: نا أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قال: كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل.

(8/339)


941 - حدثني سعيد بن أبي مريم: نا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة، ثم تكون القائلة.
هذا من أوضح دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة من أول النهار، فيمنعهم التبكير من القائلة في وقتها، فلا يتمكنون منها إلا بعد الصلاة، ولو كانوا يأتون الجمعة بعد الزوال لم يمتنعوا من القائلة بإتيان الجمعة.
وقد تعلق بذلك مني قول: إن الجمعة كانت تقام قبل زوال الشمس؛ لأنها لا تسمى قائلة إلا قبل الزوال، وكذا الغداء.
وقد مضى في الباب الذي قبله، عن سهل بن سعد، قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
وربما أشار الإمام أحمد إلى ذلك.
وأما الجمهور، فقالوا: سمي نومهم وأكلهم بعد الزوال في الجمعة " قائلة " و" غداء " باعتبار أنه قضاء لما يعتادونه في غير الجمعة من النوم والأكل قبل الزوال، فلما أخروه يوم الجمعة إلى بعد ذلك سمي ذلك باعتبار محله الأصلي الذي أخر عنه.
ويشبهه: تسمية السحور غداء؛ لأنه يقوم مقام الغداء، وإن تقدم عليه في وقته.
ويدل - أيضا - نومهم وغداؤهم بعد الجمعة على أنهم لم يكونوا

(8/339)


كلهم ينتظرون صلاة العصر في المسجد بعد الجمعة؛ فإنهم إن واصلوا الجلوس لانتظار العصر من غير نوم ولا أكل شق عليهم، وحصل لهم ضرر، ويوم الجمعة يوم عيد، فينهي عن إفراده بالصيام، وإن تأخروا لأجل انتظار العصر في المجيء إلى الجمعة فاتهم التبكير إليها، وهو أفضل من انتظار العصر، فكان المحافظة على التبكير إلى الجمعة مع الانصراف عقيب صلاتها أولى.
وكان الإمام أحمد يبكر إلى الجمعة، وينصرف أول الناس -: ذكره الخلال في " الجامع ". والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/340)