كشف المشكل من
حديث الصحيحين (78) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي سعيد بن
مَالك الْخُدْرِيّ
وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْخُدْرِيّ لِأَن فِي آبَائِهِ
الأبجر بن عَوْف، وَكَانَ يُقَال للأبجر: خدرة. وَقَالَ
قوم: خدرة هِيَ أم الأبجر.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ألف حَدِيث وَمِائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا.
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مائَة وَأحد عشر
حَدِيثا.
1430 - / 1733 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
((فيغزو فِئَام من النَّاس)) .
الفئام بِالْهَمْز. الْجَمَاعَة.
والبعث: قوم يبعثون فِي الْغَزْو.
1431 - / 1734 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((يَأْتِي
الدَّجَّال وَهُوَ محرم عَلَيْهِ أَن يدْخل نقاب
الْمَدِينَة)) .
النقاب جمع نقب: وَهُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل.
(3/116)
المسالح: الْجراحَة فِي الجبين.
والشج: الْجراحَة فِي الجبين.
والميشار فِيهِ ثَلَاث لُغَات: ميشار بِإِسْكَان الْيَاء.
ومئشار بِالْهَمْز. ومنشار بالنُّون. وَالْجمع مياشير،
ومآشير، ومناشير. وَقد وشرت الْخَشَبَة وأشرتها ونشرتها
بِمَعْنى.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الدَّجَّال يقتل رجلا ثمَّ
يحييه. وَقد أشكل هَذَا على قوم فَقَالُوا: قد كَانَ
إحْيَاء الْمَوْتَى أكبر معجزات عِيسَى، فَكيف قدر
عَلَيْهِ هَذَا الْكذَّاب؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك وَقع
امتحانا ليَكُون الْعَمَل على الدَّلِيل الدَّافِع
للشُّبْهَة، وَقد ثَبت أَن الدَّجَّال كَاذِب فِي
دَعْوَاهُ، وَكَونه جسما يَكْفِي، ثمَّ قد شين بِالْعَيْبِ
والعور، فَلَو كَانَ رَبًّا لدفع عَن نَفسه النَّقْص،
فَهَذِهِ حجج تدحض شبهه، بِخِلَاف آيَات الْأَنْبِيَاء،
إِذْ لَيْسَ لَهَا داحض. ثمَّ لم تتْرك هَذِه الشُّبْهَة
حَتَّى دفعت فِي الْحَال؛ فَإِن فِي هَذَا الحَدِيث أَنه
يهم بقتْله مرّة أُخْرَى فَلَا يقدر، وَيَأْمُر بقتْله
فَلَا يَصح لَهُ، وَيَأْخُذهُ ليذبحه فَيضْرب على رقبته
نُحَاس فَلَا يُمكنهُ، فَمَا نَفعه الْفِعْل الأول حِين
افتضح فِي الثَّانِي، فَعلم أَن الأول كَانَ من الله عز
وَجل ليقيم الشُّبْهَة بِإِزَاءِ الْحجَّة، ويفرض على
الْعقل دحضها.
1432 - / 1735 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: نهى عَن اختناث
الأسقية.
قَالَ أَبُو عبيد: الاختناث: أَن يثني أفواهها ثمَّ يشرب
مِنْهَا، وأصل الإختناث التكسر والتثني، وَمن هَذَا سمي
المخنث لتكسره.
(3/117)
وَقد ذكرنَا وَجه الْحِكْمَة فِي النَّهْي
عَن ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1433 - / 1736 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((يَمْرُقُونَ
من الدّين مروق السهْم من الرَّمية، فَينْظر الرَّامِي
إِلَى سَهْمه، إِلَى نصله، إِلَى رصافه. فيتمارى فِي
الفوقة: هَل علق بهَا من الدَّم شَيْء؟)) .
قَوْله: ((يَمْرُقُونَ من الدّين مروق السهْم من
الرَّمية)) قد فسرناه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام.
قَوْله: ((ينظر الرَّامِي إِلَى سَهْمه)) السهْم: هُوَ
الَّذِي يرْمى بِهِ. والنصل: حَدِيدَة السهْم. قَالَ أَبُو
عبيد: والرصاف: الْعقب الَّذِي فَوق الرعظ: وَهُوَ مدْخل
سنخ النصل فِي السهْم. وَوَاحِد الرصاف رصفة ورصفة. والفوق
والفوقة: مَوضِع الْوتر. والقدح. السهْم. وَفِي لفظ:
((ينظر إِلَى نضيه، ثمَّ ينظر إِلَى قذذه)) النضي مُخْتَلف
فِيهِ:
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ:
هُوَ نصل السهْم. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْقدح قبل
أَن ينحت، فَإِذا نحت فَهُوَ مخشوب، قَالَ ابْن قُتَيْبَة:
والقذذ: ريش السهْم، كل وَاحِدَة مِنْهُ قُذَّة.
وَقَوله: ((سبق الفرث)) وَهُوَ مَا فِي الكرش.
وَالْمعْنَى: إِن هَذَا السهْم مر مرا سَرِيعا فِي
الرَّمية وَخرج فَلم يعلق بِهِ من الفرث وَالدَّم شَيْء،
فَشبه خُرُوجهمْ من الدّين لم يعلقوا مِنْهُ بِشَيْء
بِخُرُوج ذَلِك السهْم.
(3/118)
وَأما قَول ذِي الْخوَيْصِرَة لرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اعْدِلْ)) فَإِن أصل هَذَا
الضلال أَن يرتضي الْإِنْسَان رَأْي نَفسه، فَلَو أَن
هَذَا الرجل وفْق لعلم أَنه لَا رَأْي فَوق رَأْي رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه وَأَصْحَابه ردوا
على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، وحاربوا عليا
عَلَيْهِ السَّلَام، يَزْعمُونَ أَنه أَخطَأ فِي تحكيمه،
وَإِذا ظن الْإِنْسَان من هَؤُلَاءِ أَنه أتقى من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأعلم من عَليّ ابْن أبي
طَالب لم يبْق مَعَه حَدِيث. وعَلى هَذَا كثير من
الْعَوام، يَعْتَقِدُونَ الشَّيْء الْخَطَأ من الْعلم
الَّذِي لم يتشاغلوا بِهِ، فَلَا يقدر الْعَالم أَن يردهم
عَنهُ، وَسَببه اقتناعهم بآرائهم وإعجابهم بهَا.
فَيَنْبَغِي أَلا ينزعج الْعَالم إِذا ردوا عَلَيْهِ، فقد
جرى لهَذَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا
يسلي.
وَالتَّاء فِي ((خبت وخسرت)) مَفْتُوحَة، وَبَعْضهمْ
يضمها، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
وَقَوله: ((إِن لَهُ أصحابا يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ
صلَاتهم)) يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه نهى عَن قَتله
لِئَلَّا يُقَال: قتل الْمُصَلِّين الْعباد.
وَفِي هَذِه الْقِصَّة تَنْبِيه على شرف الْعلم؛ لِأَن
هَؤُلَاءِ اشتغلوا بالتعبد عَن الْعلم، فضيعوا الْأُصُول.
وَكم من متزهد شغله الصَّلَاة وَالصَّوْم وَهُوَ مفرط فِي
أصُول كَثِيرَة، والشيطان يلْعَب بِهِ لقلَّة علمه، وَأَقل
مَا يصنع بِهِ أَنه يرِيه أَنه خير من غَيره.
وَأما الْبضْعَة فَهِيَ الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: ((تدَرْدر)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تذْهب وتجىء،
وَمثله تدلدل وتذبذب.
(3/119)
وَقَوله: ((يخرجُون على حِين فرقة من
النَّاس)) وَهَذَا من إِخْبَار الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن الغائبات، فَكَانَت كَمَا قَالَ؛ لِأَن
الْخَوَارِج خَرجُوا على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد
افْتِرَاق من النَّاس، وَذَلِكَ بعد تحكيمه الْحكمَيْنِ
وَمَا جرى لَهُ مَعَ مُعَاوِيَة.
وَقَوله: ((بذهيبة)) تَصْغِير ذهب. فِي تربَتهَا. أَي قد
أخرجت من الْمَعْدن وَلم تخلص من ترابها. ويجىء فِي
رِوَايَة أُخْرَى: فِي أَدِيم مقروظ. أَي مدبوغ بالقرظ:
وَهُوَ ورق السّلم.
وَقَوله: ((غائر الْعَينَيْنِ)) يُقَال: غارت الْعين: إِذا
دخلت إِلَى دَاخل الحدقة.
وَقَوله: ((ناتئ الْجَبْهَة)) . يُقَال: نتأ الشَّيْء:
إِذا خرج عَن مَوْضِعه وارتفع عَن مَكَانَهُ من غير أَن
يبين.
وَقَوله: ((كث اللِّحْيَة)) ، واللحية الكثة: المجتمعة.
وَقَوله: ((مشرف)) بِالْفَاءِ يَعْنِي أَنَّهُمَا ناتئتان.
وقفى بِمَعْنى ولى.
والضئضىء هَا هُنَا بِمَعْنى النَّسْل والعقب.
وَقَوله: ((يقتلُون أهل الْإِسْلَام وَيدعونَ أهل
الْأَوْثَان)) هَذَا من تسويل الشَّيْطَان للْقَوْم
وتزيينه لَهُم، فَإِنَّهُ لما أحس بقلة عُقُولهمْ ملكهَا.
وَقَوله: ((لأقتلنهم قتل عَاد)) . أَي أستأصلهم، فَإِن
عادا استؤصلوا.
(3/120)
فَإِن قيل: فقد قَالَ لَهُ عمر، وَفِي
رِوَايَة: خَالِد: أقتل هَذَا؟ فَقَالَ: ((لَا)) .
فَالْجَوَاب أَنه أَرَادَ إِدْرَاك خُرُوجهمْ بِالسِّلَاحِ
على الْأَئِمَّة. وَحِينَئِذٍ يسْتَحقُّونَ الْقَتْل.
والتسبيد مثل التحليق. يُقَال: سبد رَأسه: إِذا حلقه.
وَإِنَّمَا حَلقُوا شُعُورهمْ رفضا لزينة الدُّنْيَا.
وَكثير من جهال المتزهدين لَا يعْرفُونَ مَا يصلح تَركه من
الدُّنْيَا وَمَا لَا يصلح.
والبصيرة: الْقطعَة من الدَّم إِذا وَقعت على الأَرْض
استدارت.
وَقَوله: ((يقرأون كتاب الله رطبا)) فِيهِ ثَلَاثَة
أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الحذق بالتلاوة، وَالْمعْنَى
أَنهم يأْتونَ بِهِ على أحسن أَحْوَاله: وَالثَّانِي:
يواظبون على التِّلَاوَة فَلَا تزَال ألسنتهم رطبَة بِهِ.
وَالثَّالِث: أَن يكون من حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَوله: ((تقتلهم أدنى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحق)) .
أَي أقربهما. وَأَرَادَ بالطائفتين هم ومخاصمهم.
1434 - / 1737 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كُنَّا نرْزق
تمر الْجمع على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -
وَهُوَ الْخَلْط من التَّمْر، فَكُنَّا نبيع صَاعَيْنِ
بِصَاع، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: ((لَا صَاعَيْنِ تَمرا بِصَاع، وَلَا صَاعَيْنِ
حِنْطَة بِصَاع، وَلَا دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ)) .
أما تمر الْجمع فَهُوَ التَّمْر الْمُخْتَلط من كل جنس،
وَيُقَال: مَا أَكثر الْجمع فِي أَرض فلَان، لنخل خرج من
النَّوَى لَا ينْسب إِلَى شَيْء من أَصْنَاف التَّمْر
الْمَعْرُوفَة.
(3/121)
وَقَوله: ((أوه، عين الرِّبَا)) أَي هَذَا
عين الرِّبَا. وَذكر التأوه دَلِيل التألم من هَذَا
الْفِعْل أَو من سوء الْفَهم.
وَقَول بِلَال: بِعْت صَاعَيْنِ بِصَاع لمطعم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. هَذَا دَلِيل على تخير الأجود
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن هَذَا مَا تقدم
فِي حَدِيث أبي بكر: أَنه برد اللَّبن وَطلب لَهُ الظل
وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يتَخَيَّر لنَفسِهِ الأجود،
كَقَوْلِه: ((إِن كَانَ عنْدكُمْ مَاء بَات فِي شن
وَإِلَّا كرعنا)) وكل هَذِه الْأَشْيَاء من الرِّفْق
بِالنَّفسِ لِأَن لَهَا حَقًا. وجهال المتزهدين يحملون على
النُّفُوس مَا لَا تطِيق، جهلا مِنْهُم بالحكمة.
وَقَوله: ((لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب إِلَّا مثلا
بِمثل)) قد ذكرنَا الْأَعْيَان السِّتَّة الَّتِي يجْرِي
فِيهَا الرِّبَا فِي مُسْند عبَادَة.
وَقَوله: ((لَا تشفوا بَعْضهَا على بعض)) أَي لَا تفضلوا
وَلَا تَزِيدُوا.
والشفوف: الزِّيَادَة، يُقَال: شف يشف: إِذا زَاد. وَقد
يُقَال: شف: إِذا نقص، فَهُوَ من الأضداد.
وَقَوله: ((فقد أربى)) أَي دخل فِي الرِّبَا.
وَقَوله: ((وَلَا تَبِيعُوا غَائِبا مِنْهَا بناجز)) هَذَا
نهي عَن رَبًّا النَّسِيئَة.
وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1435 - / 1738 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((إِذا
رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا،
(3/122)
فَمن تبعها فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع)) .
أما الْقيام للجنازة فقد سبق أَنه مَنْسُوخ، فِي مُسْند
عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأما قَوْله: ((حَتَّى تُوضَع)) فَإنَّا كُنَّا نقُول:
تُوضَع عَن أَعْنَاق الرِّجَال، حَتَّى رَأينَا فِي
الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((حَتَّى تُوضَع فِي
اللَّحْد)) . وَفِي لفظ أخرجه مُسلم: ((حَتَّى تُوضَع فِي
الْقَبْر)) وَوجه ذَلِك أَن التَّابِع للشَّيْء يكون
بِحكمِهِ، فَمن قعد قبل وَضعهَا فَمَا تأدب لَهَا، وَلَا
كَأَنَّهُ تبعها، ووضعها على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ
فِي الْقَبْر، فَلَا اعْتِبَار بحطها عَن الرؤوس. ثمَّ
رَأينَا أَبَا بكر الْأَثْرَم وَكَانَ من كبار الْعلمَاء -
يَقُول: إِنَّمَا المُرَاد بِهِ: حَتَّى تُوضَع عَن مناكب
الرِّجَال، وَاحْتج بِحَدِيث الْبَراء: كُنَّا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة،
فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْر وَلما يلْحد، فَجَلَسَ
وَجَلَسْنَا حوله. قَالَ: وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة غلط من
أبي مُعَاوِيَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه
عَن أبي هُرَيْرَة. وَإِنَّمَا رَوَاهُ سُهَيْل عَن أَبِيه
عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ: ((من تبع جَنَازَة فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع))
فغلط أَبُو مُعَاوِيَة فِي إِسْنَاده وَفِي كَلَامه. قلت:
وَيُمكن أَن يُقَال: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا جلس هُنَاكَ لِأَنَّهُ لم يكمل حفر
الْقَبْر فَرَأى الْأَمر يطول، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ
محفورا.
(3/123)
1436 - / 1739 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع:
اعتكفنا الْعشْر الْأَوْسَط، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة
عشْرين نقلنا متاعنا، وهاجت السَّمَاء، وَكَانَ الْمَسْجِد
على عَرِيش، فَرَأَيْت على أرنبته - وَفِي لفظ: رَوْثَة
أَنفه - الطين وَالْمَاء.
الِاعْتِكَاف: اللّّبْث بِالْمَكَانِ.
وَالْمَتَاع: مَا كَانُوا يستعملونه فِي مُدَّة الإعتكاف
من الْآلَات وَغَيرهَا.
وهاجت السَّمَاء: أَي ثارت بالغيم وعلامات الْمَطَر.
والعريش: مَا يستظل بِهِ، وَإِذا جمع قيل عرش.
والأرنبة: مقدم الْأنف. والروثة: طرف الأرنبة.
والقبة التركية: الَّتِي لَهَا بَاب وَاحِد.
والسدة: الْبَاب.
والجريد: سقف النّخل إِذا يبس وجرد مَا عَلَيْهِ من الخوص.
ورطبه يُسمى الشطب، واحدتها شطبة. وَقد يُقَال لَهُ سعف،
على معنى أَنه يؤول إِلَى تِلْكَ الْحَال.
والقزعة وَاحِد القزع: وَهِي قطع السَّحَاب.
وتقويض الْبناء: نقضه من غير هدم.
وأثبتت لَهُ من الْإِثْبَات، هَكَذَا ضَبطه
الْمُحَقِّقُونَ بالثاء. وَبَعض قرأة الحَدِيث يَقُول:
أبينت من الْبَيَان.
ويحتقان: يختصمان، أَي يَدعِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن
الْحق مَعَه.
(3/124)
يُقَال: حاق فلَان فلَانا: إِذا خاصمه
وَادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحق، فَإِذا غَلبه قيل:
حَقه وأحقه.
1437 - / 1741 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: نهى عَن
الْمُلَامسَة، والمنابذة، واشتمال الصماء، وَأَن يحتبي
الرجل بِثَوْب لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء.
قد ذكر أَبُو عبيد فِي الْمُلَامسَة قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا:
أَن يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه: إِذا لمست ثوبي أَو لمست
ثَوْبك فقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا.
وَالثَّانِي: أَن يلمس الْمَتَاع من وَرَاء الثَّوْب وَلَا
ينظر إِلَيْهِ، فَيَقَع البيع على ذَلِك.
وَذكر فِي الْمُنَابذَة قَوْلَيْنِ أَيْضا: أَحدهمَا: أَن
يَقُول لَهُ: انبذ إِلَيّ الثَّوْب، أَو أنبذه إِلَيْك
وَقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا. وَالثَّانِي: أَن يَقُول
إِذا نبذت الْحَصَاة فقد وَجب البيع، وَهُوَ معنى نَهْيه
عَن بيع الْحَصَا.
وَأما اشْتِمَال الصماء فقد فسر فِي الحَدِيث، وَقد زدناه
شرحا فِي مُسْند جَابر، وَذكرنَا هُنَاكَ الإحتباء
بِالثَّوْبِ لَيْسَ على الْفرج مِنْهُ شَيْء.
1438 - / 1743 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن أهل
قُرَيْظَة نزلُوا على حكم سعد بن معَاذ، فَلَمَّا حكم فيهم
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت بِمَا
حكم بِهِ الْملك)) .
لما حاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بني قُرَيْظَة
قيل لَهُم: انزلوا على حكم
(3/125)
رَسُول الله، فَأَبَوا واختاروا أَن
ينزلُوا على حكم سعد بن معَاذ.
وَسبب اختيارهم إِيَّاه أَنهم كَانُوا موَالِيه وحلفاءه
فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا حضر سعد جعلُوا يَقُولُونَ
لَهُ: حلفاؤك ومواليك. فَمَا حاباهم، وَلَا بالى بهم،
وَحكم بِأَن تقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ،
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت
بِمَا حكم بِهِ الْملك)) يَعْنِي الله عز وَجل. وَقَالَ
أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَفِيه وَجه آخر: ((الْملك))
بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الَّذِي نزل بِالْوَحْي فِي
أَمرهم. قلت: وَهَذَا تَأْوِيل مَرْدُود من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه مَا نقل أَن ملكا نزل فِي شَأْنهمْ
بِشَيْء، وَلَو نزل بِشَيْء تبع الْوَحْي لَا اجْتِهَاد
سعد. وَالثَّانِي: أَن فِي بعض أَلْفَاظ ((الصَّحِيح)) :
((قضيت بِحكم الله عز وَجل)) .
1439 - / 1744 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأعرابي: ((هَل
تمنح من إبلك؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((هَل تحلبها يَوْم
وردهَا)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فاعمل من وَرَاء الْبحار،
فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا)) .
قد سبق بَيَان المنحة فِي مُسْند جَابر. وَبينا هُنَاكَ
فَائِدَة حلبها يَوْم وردهَا.
قَوْله: ((لن يتْرك)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي لن ينْقصك
وَلنْ يظلمك يُقَال: وترتني حَقي: أَي بخستنيه.
(3/126)
1440 - / 1745 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
عشر: ((وَمن يستعفف يعفه الله، وَمن يسْتَغْن يغنه الله))
.
الْمَعْنى أَن من يتَكَلَّف فعل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ
اجْتِهَاده ينعم الله عز وَجل عَلَيْهِ بِمَا لَا يدْخل
تَحت وَسعه.
وَاعْلَم أَن مُسْتَعْمل العفاف دَاخل فِي زمرة المعاملين
لله عز وَجل، فَإِن التعفف يُوجب ستر الْحَال عَن الْخلق
وَإِظْهَار الْغنى لَهُم، فَيصير معاملا فِي الْبَاطِن،
وَيَقَع لَهُ من الرِّبْح على قدر صبره وَصدقه. وَإِنَّمَا
جعل الصَّبْر خير الْعَطاء لِأَنَّهُ حبس للنَّفس عَمَّا
تحب مِمَّا يؤذيها، وعَلى مَا تكره مِمَّا يقْصد بِهِ
صَلَاحهَا، وَذَلِكَ خير مَا أَعْطَيْت النَّفس.
1441 - / 1746 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((رجل
معتزل فِي شعب)) .
الشّعب: مَا انخفض بَين الجبلين وَصَارَ كالدرب،
وَالْمَقْصُود الإنفراد.
1442 - / 1747 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ((إِذا
سَمِعْتُمْ النداء فَقولُوا مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن)) .
النداء هَا هُنَا الْأَذَان. وَإِنَّمَا تسن إِجَابَة
الْمُؤَذّن بِمثل قَوْله ليعلم الْمُجيب أَنِّي مقرّ بِمَا
تَدعُونِي إِلَيْهِ، مستجيب لَهُ.
1443 - / 1748 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: سَمِعت
أَبَا سعيد
(3/127)
الْخُدْرِيّ يحدث عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَع فأعجبنني وآنقتني.
المونق: المعجب، تَقول: آنقني الشَّيْء يونقني: إِذا
أعْجبك.
وَالَّذِي ذكره الْحميدِي: وأينقتني. وَقَالَ لنا عبد الله
بن أَحْمد النَّحْوِيّ: لَا يجوز هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ
وآنقتني.
وَقَوله: ((لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا
زَوجهَا)) وَأما سفر الْمَرْأَة، وَالصَّلَاة بعد الصُّبْح
وَبعد الْعَصْر فقد تقدم كُله فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما صَوْم الْعِيد فاتفق الْعلمَاء أَنه لَا يجوز لأحد
أَن يتَطَوَّع بِالصَّوْمِ فِي يومي الْعِيد، وَاخْتلفُوا
فِيمَن نذر صَوْم الْعِيد على مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند
ابْن عمر أَيْضا وَفِي مُسْند جَابر.
فَأَما شدّ الرّحال إِلَى هَذِه الْمَسَاجِد فَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَان: هَذَا لَفظه لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ
الْإِيجَاب فِيمَا ينذره الْإِنْسَان من الصَّلَاة فِي
الْبِقَاع الَّتِي يتبرك بهَا، يُرِيد أَنه لَا يلْزم
الْوَفَاء بِشَيْء من ذَلِك غير هَذِه الْمَسَاجِد.
قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا نذر أَن يُصَلِّي
فِي هَذِه الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة: فمذهب أَحْمد أَنه
يلْزمه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزمه، بل يُصَلِّي
حَيْثُ شَاءَ. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
1444 - / 1750 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((غسل
الْجُمُعَة وَاجِب
(3/128)
على كل محتلم)) قَالَ أَبُو سعيد: وَأَن
يستن، وَأَن يمس طيبا إِن وجد.
الْوَاجِب: اللَّازِم، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا. وَقد ذكر
الْعلمَاء أَن ناسخه حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من
تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن اغْتسل فالغسل أفضل)) وَكثير من
قرأة الحَدِيث يَقُول: ونعمت، بِفَتْح النُّون وَكسر
الْعين، وَالصَّوَاب كسر النُّون وَإِسْكَان الْعين. قَالَ
الْأَصْمَعِي: قَوْله: ((فبها)) أَي فبالسنة أَخذ
((ونعمت)) يُرِيد بِهِ: نعمت الْخصْلَة، وَإِنَّمَا ظَهرت
التَّاء الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث لإضمار السّنة
أَو الْخصْلَة، هَذَا اخْتِيَار الْخطابِيّ. وَقَالَ ابْن
قُتَيْبَة: ((فبها ونعمت)) بِفَتْح النُّون وَالتَّاء
وتسكن الْمِيم، على معنى: ونعمك الله، وَالْوَجْه الأول.
ويستن: يستاك.
وَقد بَينا فِي أول مُسْند عمر أَن عُثْمَان أخبرهُ أَنه
لم يغْتَسل للْجُمُعَة فَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَذَلِكَ
بِمحضر من الصَّحَابَة، فَدلَّ على أَنهم علمُوا بنسخه.
وَالظَّاهِر من عطف الإستنان وَالطّيب عَلَيْهِ الْوُجُوب
أَيْضا، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا، وَقد يجوز أَن يَكُونَا
على سَبِيل الإستحباب وَإِن قرنا
(3/129)
بِوَاجِب، كَقَوْلِه: ((حتيه ثمَّ اقرصيه
ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ)) وَالْغسْل وَاجِب، والحت والقرص
لَا يجب. هَذَا إِن لم يكن الرَّاوِي لذَلِك خلط كَلَام
أبي سعيد بِكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَإنَّا قد ذكرنَا فِي الرِّوَايَة الأولى أَنه من كَلَام
أبي سعيد، وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم من كَلَام رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند
عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم،
فَقيل لَهُم: ((لَو اغتسلتم يَوْم الْجُمُعَة)) وَهَذَا
يدل على أَنهم لم يؤمروا أَمر إِيجَاب. وعَلى هَذَا تكون
لَفْظَة الْوُجُوب مُغيرَة من بعض الروَاة، وَيحْتَمل أَن
تكون صَحِيحَة وَقد نسخت كَمَا بَينا، وَلم يبلغ ذَلِك
عَائِشَة. وَقد حمل الْخطابِيّ الحَدِيث على معنى آخر
فَقَالَ: معنى قَوْله ((وَاجِب)) أَي لَازم فِي بَاب
الإستحباب، كَمَا تَقول: حَقك عَليّ وَاجِب.
1445 - / 1751 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((تكون
الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة خبْزَة وَاحِدَة يتكفأها
الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأ أحدكُم خبزته فِي
السّفر، نزلا لأهل الْجنَّة)) فَأتى رجل من الْيَهُود
فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بلَى)) قَالَ: إدَامهمْ بَالَام
وَنون. قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْر وَنون يَأْكُل
من زَائِدَة كبدهما سَبْعُونَ ألفا. فَضَحِك النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه.
(3/130)
قَوْله: ((يتكفأها)) أَي يقلبها ويميلها،
من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء: إِذا قلبته أَو أملته.
والنزل: مَا يهيأ للنزيل، والنزيل: الضَّيْف.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن اللَّام اسْم للثور.
وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون الْيَهُودِيّ أَرَادَ
أَن يعمي الإسم، وَإِنَّمَا هُوَ لأى على وزن لعا: أَي
ثَوْر. والثور الوحشي اللأى. وَقد صحف فِيهِ الروَاة
فأشكل، إِلَّا أَن يكون ذَلِك بالعبرانية. وَسَنذكر وَجه
الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص أكل أهل الْجنَّة من كبد ثَوْر
وحوت فِي مُسْند أنس، لِأَنَّهُ هَا هُنَا من كَلَام
الْيَهُودِيّ، وَهُوَ هُنَاكَ من قَول رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
والنواجذ مفسرة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1446 - / 1754 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين:
((هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس وَالْقَمَر)) .
قد سبق فِي مُسْند جرير معنى تضَارونَ، وتضامون.
قَوْله: ((وغبر أهل الْكتاب)) الغابر يكون بِمَعْنى
الْبَاقِي وَبِمَعْنى الْمَاضِي، فَهُوَ من الأضداد.
وَالْإِشَارَة إِلَى من لم يُبدل.
(3/131)
وعزير اسْم عبراني وَإِن وَافق لَفظه لفظ
الْعَرَبيَّة.
وتخيل لَهُم جَهَنَّم كالسراب فيظنونه مَاء كَمَا ظنُّوا
جَوَاز وجود الْوَلَد فِي حق من لَا بعض لَهُ.
وَأما الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام،
فَاخْتَلَفُوا لم سمي الْمَسِيح؟ على أَقْوَال ذكرتها فِي
مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((فيأتيهم الله فِي أدنى صُورَة من الَّتِي
رَأَوْهُ فِيهَا، فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك))
وَقَوله بعد هَذَا: ((فيرفعون رؤوسهم وَقد تحول فِي
صُورَة)) وَفِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: ((فيأتيهم فِي غير الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ
فَيَقُول: أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: نَعُوذ بِاللَّه
مِنْك، فيأتيهم فِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول:
أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: أَنْت رَبنَا)) وَهَذَا شَيْء
قد تخبط فِيهِ جمَاعَة، فالمتقدمون من السّلف قرأوه وعبروا
وَلم ينطقوا بِشَيْء، مَعَ علمهمْ واعتقادهم أَن الصُّورَة
الَّتِي هِيَ تخاطيط لَا تجوز على الله عز وَجل، وَلَا
التَّغَيُّر. وَهَذَا أصلان لَا بُد من اعتقادهما:
التخاطيط لَا تكون إِلَّا فِي الْأَجْسَام، والتغير لَا
يصلح أَن يطْرَأ على الْإِلَه، فَإِن الْخَلِيل عَلَيْهِ
السَّلَام عَابَ النَّجْم بالأفول فَقَالَ: {لَا أحب
الآفلين} [الْأَنْعَام: 76] لِأَنَّهُ علم أَن مَا يطرقه
التَّغَيُّر لَا يصلح أَن يكون معبودا، فَإِذا وَقع
اعْتِقَاد هذَيْن الْأَصْلَيْنِ ثمَّ سكت السَّاكِت عَن
تَفْسِير هَذِه الْكَلِمَات فقد سلك مَذْهَب القدماء.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى إتْيَان الله
عز وَجل كشف الْحجاب لَهُم حَتَّى رَأَوْهُ فأثبتوه
عيَانًا كَمَا اعْتَرَفُوا بوحدانيته فِي الدُّنْيَا
اسْتِدْلَالا، فرؤيته بعد أَن لم
(3/132)
يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَنْزِلَة إتْيَان
الْآتِي لم يكن شوهد قبل. قَالَ: وَأما الصُّورَة فتتأول
على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنَّهَا بِمَعْنى الصّفة،
كَقَوْل الْقَائِل: صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا.
وَالثَّانِي: أَن الْمَذْكُور من المعبودات فِي أول
الحَدِيث صور، فَخرج الْكَلَام على نوع من الْمُطَابقَة.
قَالَ: وَقَوله: ((فِي أدني صُورَة رَأَوْهُ فِيهَا))
دَلِيل على أَن المُرَاد بالصورة الصّفة، لأَنهم مَا
رَأَوْهُ قبلهَا، فَعلمت أَن المُرَاد الصّفة الَّتِي
عرفوه بهَا. وَقَالَ غَيره من الْعلمَاء: يَأْتِيهم بأهوال
الْقِيَامَة وصور الْمَلَائِكَة، وَمَا لم يعهدوا مثله فِي
الدُّنْيَا، فيستعيذون من تِلْكَ الْحَال وَيَقُولُونَ:
إِذا جَاءَ رَبنَا - أَي إِذا أَتَانَا بِمَا نعرفه من
لطفه وَهِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ، فَيكْشف عَن
سَاق: أَي عَن شدَّة، كَأَنَّهُ يرفع تِلْكَ الشدائد،
فيسجدون شكرا.
وَقد أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْحَاكِم وَيحيى بن
عَليّ المدير قَالَا: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ: أخبرنَا
ابْن حبابة قَالَ: أَنبأَنَا الْبَغَوِيّ قَالَ: حَدثنَا
هدبة قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد يَعْنِي ابْن سَلمَة، عَن
عَليّ بن زيد عَن عمَارَة الْقرشِي عَن أبي بردة قَالَ:
حَدثنِي أبي قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: ((إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم
مَا كَانُوا يعْبدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيبقى أهل
التَّوْحِيد، فَيُقَال لَهُم: مَا تنتظرون وَقد ذهب
النَّاس؟
(3/133)
فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده
فِي الدُّنْيَا لم نره. قَالَ: وتعرفونه إِذا
رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم، فَيُقَال لَهُم: وَكَيف
تعرفونه وَلم تروه؟ قَالُوا: إِنَّه لَا شبه لَهُ، فَيكْشف
لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله تبَارك
وَتَعَالَى فَيَخِرُّونَ لَهُ سجدا، وَيبقى أَقوام فِي
ظُهُورهمْ مثل صياصي الْبَقر، فيريدون السُّجُود فَلَا
يَسْتَطِيعُونَ، فَذَلِك قَول الله عز وَجل: {يَوْم يكْشف
عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}
[الْقَلَم: 42] فَيَقُول الله عز وَجل: عبَادي، ارْفَعُوا
رؤوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل مِنْكُم رجلا من الْيَهُود
وَالنَّصَارَى فِي النَّار)) .
وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: الصُّورَة على الْحَقِيقَة تقع
على التخاطيط والأشكال، وَذَلِكَ من صِفَات الْأَجْسَام،
وَالَّذِي صرفنَا عَن كَونه جسما من الْأَدِلَّة النطقية
قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] وَمن أَدِلَّة
الْعُقُول أَنه لَو كَانَ جسما لكَانَتْ صورته عرضا، وَلَو
كَانَ جسما حَامِلا للأعراض لجَاز عَلَيْهِ مَا يجوز على
الْأَجْسَام، وَاحْتَاجَ إِلَى مَا احْتَاجَت إِلَيْهِ من
الصَّانِع وَلَو جَازَ قدمه مَعَ كَونه جسما لما امْتنع
قدم أَحَدنَا، فَلَيْسَ لله سُبْحَانَهُ عِنْدهَا، وَلَا
الْقَوْم الَّذِي أَنْكَرُوا فِي الْقِيَامَة صُورَة من
صور الذوات يُنْكِرُونَهَا ويأنسون بِمَا سواهَا، فأحوجتنا
لذَلِك الْأَدِلَّة إِلَى تَأْوِيل صُورَة تلِيق إضافتها
إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَيصِح عَلَيْهَا التَّغَيُّر
والتعريف والتنكير، وَمَا ذَلِك إِلَّا الْحَال الَّتِي
يُوقع عَلَيْهَا أهل اللُّغَة اسْم صُورَة، فَيَقُولُونَ:
كَيفَ صُورَتك مَعَ فلَان، وَفُلَان على صُورَة من الْفقر.
(3/134)
وَالْحَال الَّتِي أنكروها العسف،
وَالَّتِي يعرفونه بهَا هِيَ اللطف وَمَا وعد بِهِ من حسن
الْجَزَاء، وَلذَلِك قَالَ: ((فتجلى لَهُم كاشفا عَن
سَاقه)) يَعْنِي عَن شدَّة الْقيمَة الَّتِي صدرت عَنهُ،
والتغيرات أليق بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ إحالات
الْأَعْيَان وتغييرات الزَّمَان. وَأما ذَاته وَوَصفه
فتعالى عَن ذَلِك. فَيكْشف لَهُم عَمَّا وعدهم بِهِ،
فَيَخِرُّونَ سجدا لنعمته، شاكرين لَهُ على إنجاز وعده،
فَيَقَع الْخَبَر مَقْبُولًا. وَلَو حمل - ونعوذ بِاللَّه
- على مَا قَالَت المجسمة من صُورَة ترجع إِلَى ذَاته
لَكَانَ ذَلِك تجويزا لتغيير صِفَاته وَخُرُوجه فِي
صُورَة. فَإِن كَانَت حَقِيقَة فَهُوَ اسْتِحَالَة، وَإِن
كَانَت تخيلا فَلَيْسَ ذَاك هُوَ، وَإِنَّمَا يُرِيهم
غَيره، فَمَا أشنع مقَالَة من يصدر قَوْله عَن
الْجَهَالَة، وَيتَعَلَّق بالظواهر كَمَا تعلّقت
النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَقَالُوا: هُوَ روحه حَقِيقَة.
وَقَوله: ((حَتَّى كَاد بَعضهم أَن يَنْقَلِب)) . أَي عَن
اعْتِقَاده الصَّحِيح لموْضِع الامتحان الَّذِي وَقع.
وَلَفْظَة ((أَن)) من زيادات بعض الروَاة، لِأَن كَاد لَا
يَقع بعْدهَا ((أَن)) وَإِنَّمَا هُوَ: كَاد يَنْقَلِب.
وَقَوله: ((ثمَّ يضْرب الجسر)) يَعْنِي الصِّرَاط.
وَقَوله: ((دحض مزلة)) أَي زلق لَا تثبت الْأَقْدَام
فِيهِ.
والخطاطيف وَاحِدهَا خطَّاف: وَهِي كالمحجن متعقفة.
والخطف: أَخذ الشَّيْء بِسُرْعَة.
(3/135)
والكلاليب جمع كلاب وكلوب، وَهِي من جنس
الخطاطيف.
والحسك جمع حسكة: وَهِي شَوْكَة حَدِيدَة صلبة.
والركاب: الْإِبِل.
والمخدوش: الَّذِي يخدش جلده بِمَا لَهُ حد. وَالْمعْنَى:
قد نجا بعد خدشه.
وَقَوله: ((مكدوس فِي النَّار)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
أَي مَدْفُوع فِي جَهَنَّم، يُقَال: تكدس الْإِنْسَان على
رَأسه: إِذا دفع من وَرَائه فَقَط.
والتكدس فِي سير الدَّوَابّ: أَن يركب بَعْضهَا بَعْضًا.
وَقَالَ غَيره: هَذَا تَصْحِيف من الروَاة، وَإِنَّمَا
هُوَ مكردس، وَهُوَ الَّذِي قد جمعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي
وُقُوعه.
وَقَوله: ((فِي اسْتِيفَاء الْحق)) أَي فِي استضاءته
واتضاحه. وَمعنى الْكَلَام: أَن الْمُؤمنِينَ يبالغون فِي
سُؤال الله سُبْحَانَهُ فِي إخْوَانهمْ الْمُؤمنِينَ
شَفَاعَة لَهُم. وَقد روينَاهُ من طَرِيق آخر بِلَفْظ آخر:
((فَمَا أحدهم فِي حق يعلم أَنه لَهُ بأشد مناشدة مِنْهُم
فِي إخْوَانهمْ الَّذين سقطوا فِي النَّار، يَقُولُونَ:
أَي رب، كُنَّا نغزو جَمِيعًا، ونحج جَمِيعًا، ونعتمر
جَمِيعًا، فَبِمَ نجونا الْيَوْم وهلكوا؟ فَيَقُول الله
تَعَالَى: انْظُرُوا من فِي قلبه زنة دِينَار من إِيمَان
فأخرجوه)) .
وَقَوله: ((مِثْقَال ذرة)) أَي وَزنه، والذرة: نملة
حَمْرَاء صَغِيرَة.
(3/136)
وَقد دلّ هَذَا على تفاضل النَّاس فِي
الْإِيمَان، وَذكر المثقال تقريب إِلَى الْفَهم، لَا أَن
الْخَيْر وَالْإِيمَان يحضرهما الْوَزْن، غير أَن مَا يشكل
يرد إِلَى الْحس ليفهم. وَمن هَذَا قَوْله: ((من تقرب مني
شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا)) .
والحمم: الفحم.
والحبة بِكَسْر الْحَاء: بزر النَّبَات. وَبِفَتْحِهَا:
الْحبّ الْمَأْكُول.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: الْحبَّة اسْم جَامع لحبوب
الْبُقُول الَّتِي تنتثر إِذا هَاجَتْ، ثمَّ إِذا مطرَت من
قَابل نَبتَت. وَقَالَ الْكسَائي: الْحبَّة من حب
الرياحين. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: هُوَ نبت ينْبت فِي
الْحَشِيش صغَار.
وَقَالَ أَبُو عبيد: كل شَيْء لَهُ حب فاسم الْحبّ مِنْهُ
حَبَّة. فَأَما الْحِنْطَة وَالشعِير فحبة لَا غير.
وحميل السَّيْل: كل مَا حمله. وكل مَحْمُول حميل، قَالَه
الْأَصْمَعِي. وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير: حميل
السَّيْل: مَا جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء، فَإِذا اتّفق
فِيهِ الْحبَّة واستقرت على شط مجْرى السَّيْل فَإِنَّهَا
تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَهِي أسْرع شَيْء نباتا.
وَإِنَّمَا المُرَاد من الحَدِيث سرعَة نجاتهم.
وَقَوله: فِي رقابهم الخواتيم. وَكَأَنَّهَا بقايا من
آثَار النَّار.
(3/137)
وَقَوْلهمْ: أَعطيتنَا مَا لم تعط أحدا من
الْعَالمين. لقَائِل أَن يَقُول: كَيفَ يَقُولُونَ هَذَا
وهم يعلمُونَ أَن من لم يدْخل النَّار فقد أعطي خيرا من
عطائهم؟ فقد ذكرنَا فِي هَذَا جوابين فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود.
وَقَوله: ((امتحشوا)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يَعْنِي
احترقوا.
والحيا: الْمَطَر.
وَقَوله: فأماتتهم إماتة. رُبمَا قَالَ قَائِل: كَيفَ
يموتون فِي النَّار وَقد قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوت
فِيهَا وَلَا يحيى} [الْأَعْلَى: 13] فَالْجَوَاب من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذِه صفة الْمُوَحِّدين وَتلك
صفة الْكَافرين، فَجَائِز أَن تلفح النَّار الْمُؤمن
فَيَمُوت فَلَا يَدُوم عَذَابه إِلَى أَن يحيى فَيخرج.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: أَنهم يغشى عَلَيْهِم
ويغيب إحساسهم، فيعبر بِالْمَوْتِ عَن ذَلِك.
والضبائر: جماعات فِي تَفْرِقَة.
فبثوا: أَي فرقوا.
والحسك قد بَيناهُ آنِفا.
والمفلطحة فِيهَا سَعَة وتدوير.
والعقيفة من التعقف. والمتعقف: المعوج الطّرف.
1447 - / 1755 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
((كَمَا تتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الغابر)) .
(3/138)
قد سبق تَفْسِير هَذَا فِي مُسْند سهل بن
سعد والغابر: الْبَاقِي.
1448 - / 1756 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
((إِن مِمَّا أَخَاف عَلَيْكُم بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم
من زهرَة الدُّنْيَا)) .
زهرَة الدُّنْيَا: حسنها وَنَعِيمهَا.
والرحضاء: الْعرق الْكثير. يُقَال: رحضت الثَّوْب: إِذا
غسلته بِالْمَاءِ.
والحبط: أَن تكْثر الدَّابَّة من أكل المرعى حَتَّى ينتفخ
لذَلِك بَطنهَا، وتمرض عَنهُ، فَلَا تثلط وَلَا تبول،
واحتباس ذَلِك رُبمَا قَتلهَا ((أَو ألم)) بذلك أَي قَارب
ذَلِك. هَذَا مثل لمن يستكثر من جمع الدُّنْيَا من غير
وَجههَا، لِأَن الرّبيع ينْبت جيد المرعى، فتستطيبه
الْمَاشِيَة فتستكثر مِنْهُ فتهلك، فَكَذَلِك جَامع
الدُّنْيَا من غير وَجههَا يستكثر مِنْهَا محبا لذَلِك
بالطبع، فَيهْلك دينه.
وَقَوله: ((إِلَّا آكِلَة الْخضر)) وَالْمعْنَى أَنَّهَا
تنجو إِذا قتل غَيرهَا الحبط. فَهَذَا مثل للمقتصد فِي طلب
الدُّنْيَا، الَّذِي لَا يحملهُ حرصه على أَخذ مَا لَا يحل
لَهُ، فَهُوَ ينجو من وبال الْحساب كَمَا نجت آكِلَة
الْخضر، لِأَن الْخضر لَيْسَ من جيد الْبُقُول، بل هُوَ
نوع من أدناها، يبْقى بعد يبس المرعى، فترعاه الْمَوَاشِي
ضَرُورَة لعدم غَيره، فَإِذا امْتَلَأت خاصرتاها اسْتقْبلت
عين الشَّمْس تستمرئ بذلك مَا أكلت، فتجتر وتثلط، فيزول
عَنْهَا الحبط. وَإِنَّمَا تحبط الْمَاشِيَة إِذا لم تثلط
(3/139)
وَلم تبل. وَمعنى ثَلَطَتْ: أَلْقَت رجيعها
سهلا رَقِيقا. وَذكر الثلط وَالْبَوْل للتشبيه بِمَا
يُخرجهُ المقتصد فِي جمع المَال فِي الْحُقُوق.
قَوْله: ((إِن هَذَا المَال خضر)) قَالَ أَبُو عبيد:
الخضرة: الْحسن الغض، وكل شَيْء غض طري فَهُوَ خضر،
وَأَصله من خضرَة الشّجر.
وَقَوله: ((وَنعم صَاحب الْمَرْء الْمُسلم هُوَ لمن أعْطى
مِنْهُ الْمِسْكِين واليتيم)) . رُبمَا رَأَيْت فِي
الْأَحَادِيث ذمّ المَال ومدحه، فاسمع فصل الْخطاب: المَال
لَا يُرَاد لذاته، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَب للتوصل إِلَى
الْآخِرَة، كَمَا أَن النَّاقة سَبَب للوصول إِلَى
الْكَعْبَة، فَمن لم يحسن إِلَى رَاحِلَته عطبت فافتقر
إِلَى النَّاس أَو تلف، وَمن تشاغل بتسمينها وتزيينها سبقه
الْحَاج. فَكَذَلِك المَال إِنَّمَا يُرَاد للبلاغ إِلَى
الْآخِرَة، فَإِذا تشاغل الْإِنْسَان بجمعه عَمَّا وضع
لَهُ توجه الذَّم إِلَى قبح هَذَا الْفِعْل، كَمَا قَالَ
الشَّاعِر:
(وَمن ينْفق الْأَيَّام فِي حفظ مَاله ... مَخَافَة فقر،
فَالَّذِي فعل الْفقر)
وَلما قصد السّلف المَال للمعنى الممدوح جمعُوا مِنْهُ مَا
يَكفهمْ عَن الطمع، وَيجمع هممهم عَن التشتت، فَكَانَ
أَبُو بكر الصّديق يخرج للتِّجَارَة يقدمهَا على صُحْبَة
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ عمر: لِأَن
أَمُوت بَين
(3/140)
شُعْبَتَيْ رجْلي أطلب كفاف وَجْهي أحب
إِلَى من أَن أَمُوت غازيا فِي سَبِيل الله. وَقد قَالَ
لُقْمَان لِابْنِهِ: يَا بني، مَا افْتقر أحد إِلَّا أصَاب
ثَلَاث خلال مَكْرُوهَة: آفَة فِي دينه، وضعفا فِي عقله،
وَذَهَاب مروءته. وَأعظم من هَذِه الْخلال استخفاف النَّاس
بِهِ. يَا بني، قد ذقت المرارة كلهَا فَلم أر شَيْئا أَمر
من الْفقر. وَقَالَ قيس بن عَاصِم عِنْد الْمَوْت: يَا
بني، عَلَيْكُم باصطناع المَال، فَإِنَّهُ منبهة للكريم،
ويستغنى بِهِ عَن اللَّئِيم. وَكَانَ أحيحة بن الجلاح سيدا
فِي قومه، وَكَانَ يصلح مَاله، وَيُقِيم بذلك مَا ينوبه من
الْحق، وَيَقُول:
(استغن أَو مت وَلَا يغررك ذُو نشب ... من ابْن عَم وَلَا
عَم وَلَا خَال)
(إِنِّي أكب على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الحبيب إِلَى
الإخوان ذُو المَال)
وَمَا جمعه ابْن عَوْف، وَخَلفه طَلْحَة وَالزُّبَيْر من
المَال مَعْلُوم.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا خير فِيمَن لَا يجمع المَال
ليؤدي عَن أَمَانَته، ويكف وَجهه، ويصل رَحمَه. وَكَانَ
يتجر فِي الزَّيْت وَيَقُول لأَصْحَابه: هُوَ خير من
الْحَاجة إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُلُوك. وَترك عِنْد مَوته
أَرْبَعمِائَة دِينَار وَقَالَ: وَالله مَا تركتهَا إِلَّا
لأصون بهَا عرضي ووجهي.
وَسَأَلَ رجل رجلا: من سيد الْبَصْرَة؟ فَقَالَ: الْحسن،
قَالَ: وَبِمَ سادهم؟ قَالَ: اسْتغنى عَن دنياهم وافتقروا
إِلَى علمه. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: من كَانَ مَعَه
شَيْء فَقدر أَن يَجعله فِي قرن ثَوْر فَلْيفْعَل، فَإِن
(3/141)
هَذَا زمَان إِذا احْتَاجَ الرجل كَانَ أول
مَا يبْذل دينه، وَلَوْلَا بضيعتنا تلاعب بِنَا هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ رجل للسري بن يحيى، وَكَانَ يتجر فِي الْبَحْر:
تركب الْبَحْر فِي طلب الدُّنْيَا؟ قَالَ: أحب أَن أستغني
عَن ضربك من النَّاس. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: تثمير
المَال إِلَه المكارم.
وَقَالَ آخر: مقاساة الْفقر الْمَوْت الْأَحْمَر، وسؤال
النَّاس الْعَار الْأَكْبَر، وَكَانَ يُقَال: من حفظ مَاله
فقد حفظ الأكرمين: الدّين وَالْعرض.
1449 - / 1757 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين:
ذكر الْعَزْل، وَقَول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا
عَلَيْكُم أَلا تَفعلُوا، مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة إِلَّا وَهِي كائنة)) .
النَّسمَة: النَّفس.
وَهَذَا الحَدِيث تضمن كَرَاهِيَة الْعَزْل، وَهَذَا
لِأَنَّهُ إِخْرَاج للنِّكَاح عَن وَضعه الْأَصْلِيّ،
لِأَنَّهُ إِنَّمَا وضع للتناسل، وَالْمرَاد تَكْثِير
الْخلق، وَالَّذِي يعْزل يصرفهُ إِلَى أدون الْأَمريْنِ
وَهُوَ قَضَاء الشَّهْوَة، عَن أَعلَى الْحَالين وَهُوَ
التناسل. وَمثل الْآدَمِيّ كَمثل عبد سلم إِلَيْهِ سَيّده
بذرا وأرضا وَأمره بالزرع، ووكل بِهِ مستحثا، فبذر فِي
الْبذر وَلم يزرع، فالبذر المَاء، وَالْأَرْض الْمَرْأَة،
وَالْمُسْتَحب الشَّهْوَة. وَمَعَ هَذَا فقد ترك الشَّرْع
مُرَاده لمراد العَبْد، فأباحه الْعَزْل، وَقد ذكرنَا حكمه
فِي مُسْند جَابر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ردهم إِلَى الْقدر فِي هَذَا
دون غَيره؟ فَإِن
(3/142)
الْمقَاتل لَا يُصِيبهُ إِلَّا مَا قدر
لَهُ، وَقد أَمر بِأخذ الْعدة. وَكَذَلِكَ الرزق لَا
يتَعَدَّى صَاحبه، وَقد أَمر بِالطَّلَبِ، وأبيحت لَهُ
الْأَسْفَار.
فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا ذكر لَهُم الْقدر لَا أَنه
كرهه لَهُم.
1450 - / 1758 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين:
((لَا تخيروني من بَين الْأَنْبِيَاء؛ فَإِن النَّاس
يصعقون يَوْم الْقِيَامَة؛ فَأَكُون أول من يفِيق، فَإِذا
أَنا بمُوسَى أَخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش؛ فَلَا
أَدْرِي: أَفَاق قبلي أَو جوزي بصعقة الطّور)) .
الصَّعق يكون بِمَعْنى الْمَوْت، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:
{فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} [الزمر:
68] . وَيكون بِمَعْنى الغشي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وخر
مُوسَى صعقا} [الْأَعْرَاف: 143] . والصعق فِي هَذَا
الحَدِيث بِالْمَوْتِ أشبه. وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْضِيل
مُوسَى وَذكر شرفه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إشْكَالَانِ: الأول: أَنه قَالَ:
((لَا تخيروني)) وَقد قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم))
وَالثَّانِي: أَنه قَالَ: ((أكون أول من يفِيق)) ثمَّ
قَالَ: ((لَا أَدْرِي أَفَاق قبلي)) .
فَالْجَوَاب عَن الأول من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن يكون
قَالَه قبل علمه بِأَنَّهُ أفضل الْأَنْبِيَاء، فَلَمَّا
أعلم قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
وَالثَّانِي: أَن يكون نَهَاهُم عَن التَّخْيِير، لأَنهم
كَانُوا يخيرون بواقعاتهم وظنونهم، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي
أَن يسند التَّخْيِير إِلَى دَلِيل. وَالثَّالِث: أَن
الْغَالِب فِي الْمُخَير الإزراء بالأنقص رُتْبَة، وَلَا
يجوز الإستنقاص بِأحد
(3/143)
من الْأَنْبِيَاء. وَقد جَاءَ فِي بعض
الْأَلْفَاظ: ((لَا تخيروني بَين الْأَنْبِيَاء)) وَقَالَ
الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ ترك التَّخْيِير بَينهم على وَجه
الإزراء ببعضهم، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد الإعتقاد
فيهم، والإخلال بِوَاجِب حَقهم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن
يعْتَقد التَّسْوِيَة بَينهم، وفقد أخبرنَا الله تَعَالَى
بِأَنَّهُ قد فضل بَعضهم على بعض.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه لما رأى نَفسه عَلَيْهِ
السَّلَام قد أَفَاق وَبَاقِي الْخلق لم يفيقوا علم أَنه
أول مُفِيق: فَلَمَّا رأى مُوسَى عَاد يشك: هَل أَفَاق
قبله أَو لم يصعق؟ ، وَالْمرَاد الْقرب بَين الإفاقتين.
1451 - / 1759 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين:
((لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة)) .
وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1452 - / 1760 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين:
كنت فِي مجْلِس من مجَالِس الْأَنْصَار؛ إِذْ جَاءَ أَبُو
مُوسَى كَأَنَّهُ مذعور، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت على عمر
ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي، فَرَجَعت، فَقَالَ: مَا مَنعك؟
قلت: اسْتَأْذَنت ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي فَرَجَعت،
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِذا
اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع))
فَقَالَ: وَالله لتقيمن عَلَيْهِ بَيِّنَة أَو لأجعلنك
عظة. أمنكم أحد سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم؟
(3/144)
فَقَالَ أبي بن كَعْب: فوَاللَّه لَا يقوم
مَعَك إِلَّا أَصْغَر الْقَوْم، فَكنت أَصْغَر فَقُمْت
مَعَه، فَقَالَ عمر: خَفِي عَليّ هَذَا من أَمر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ألهاني عَنهُ الصفق
بالأسواق.
المذعور: الْخَائِف.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن السّنة الإستئذان ثَلَاث
مَرَّات، وَلَا يُزَاد على ذَلِك، لِأَنَّهُ رُبمَا لَا
يسمع صَاحب الْمنزل فِي الْمرة الأولى وَلَا فِي
الثَّانِيَة، فَإِذا لم يجب فِي الثَّالِثَة فالغالب أَنه
قد سمع وَلَكِن لَهُ عذره.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ عمر يخَاف من مثل أبي مُوسَى، فبمن
يوثق؟ فَالْجَوَاب أَنه مَا اتهمه، وَإِنَّمَا خَافَ أَن
ينْطَلق فِي التحديث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من لَيْسَ من أَهله، فتوعد الثِّقَة ليحذر غَيره.
وَقد قَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: يَا ابْن الْخطاب، أَنا
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ذَلِك،
فَلَا تكونن عذَابا على أَصْحَاب رَسُول الله. فَقَالَ:
سُبْحَانَ الله! إِنَّمَا سَمِعت شَيْئا فَأَحْبَبْت أَن
أتثبت.
وَأما الصفق فِي الْأَسْوَاق فيريد بِهِ عقد الصفقات،
وَكَانُوا يضْربُونَ بِالْيَدِ على الْيَد عِنْد العقد
عَلامَة لتَمام البيع، وَالْمعْنَى فِي ذَلِك: أَنه لما
كَانَت الْأَمْلَاك مُضَافَة إِلَى الْأَيْدِي جعلُوا ضرب
يَد البَائِع على يَد المُشْتَرِي أَمارَة ناقلة،
كَأَنَّهُ يَقُول: قد نقلت مَا فِي يَدي إِلَى مَا فِي
يدك، ثمَّ استمرت التَّسْمِيَة بالصفقة وَإِن لم يَقع صفق.
1453 - / 1761 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((إِن
الله عز وَجل خير عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده،
فَاخْتَارَ
(3/145)
ذَلِك العَبْد مَا عِنْد الله)) فَبكى
أَبُو بكر.
هَذَا الحَدِيث هَذَا قد دلّ على فطنة أبي بكر، إِذْ علم
أَن الْمُخَير هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَبَاقِي الحَدِيث قد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1454 - / 1762 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: قَالَ
النِّسَاء للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: غلبنا
عَلَيْك الرِّجَال، فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا. فوعدهن يَوْمًا
لقيهن فِيهِ، فوعظهن وأمرهن.
كَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الزَّمن يطلبن الْخَيْر ويقصدن
الْأجر، ويصلين مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جمَاعَة، وَكَانَ مثل الرَّسُول واعظهن، فصلح أَن يَجْعَل
لَهُنَّ يَوْمًا.
فَأَما مَا أحدث الْقصاص من جمع النِّسَاء وَالرِّجَال
فَإِنَّهُ من الْبدع الَّتِي تجْرِي فِيهَا الْعَجَائِب،
من اخْتِلَاط النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَرفع النِّسَاء
أصواتهن بالصياح والنواح إِلَى غير ذَلِك. فَأَما إِذا
حضرت امْرَأَة مجْلِس خير فِي خُفْيَة، غير متزينة، وَخرجت
بِإِذن زَوجهَا، وَتَبَاعَدَتْ عَن الرِّجَال، وقصدت
الْعَمَل بِمَا يُقَال لَا التَّنَزُّه، كَانَ الْأَمر
قَرِيبا مَعَ الْخطر، وَإِنَّمَا أجزنا مثل هَذَا لِأَن
الْبعد عَن سَماع التَّذْكِير يُقَوي الْغَفْلَة، فينسي
الْآخِرَة بِمرَّة. وَيَنْبَغِي للمذكر أَن يحث على
الْوَاجِبَات، وَينْهى عَن الْمَحْظُورَات، وَيذكر مَا
ينفع الْعَوام وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجُهَّال فِي
دينهم، وهيهات، مَا أقل هَذَا الْيَوْم، إِنَّمَا شغل
الْقصاص الْيَوْم
(3/146)
ذكر إزليخا ويوسف، ومُوسَى والجبل، وإنشاد
الْغَزل، فَيكون الضَّرَر بذلك أقوى من النَّفْع.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((مَا مِنْكُن امْرَأَة تقدم
ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث)) يُرِيد بُلُوغ الْحلم،
وَكَأَنَّهُ بلغ إِلَى زمَان إِذا حلف فِيهِ حنث.
وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَن الرَّحْمَة للصغار أَكثر،
والمحبة لَهُم أوفر، وشفقة الْأُم أوفى من شَفَقَة الْأَب،
فَذكر للنِّسَاء مَا هُوَ أخص بِهن من فِرَاق المحبوب.
1455 - / 1763 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع
أحدا يمر بَين يَدَيْهِ، وليدرأه مَا اسْتَطَاعَ، فَإِن
أَبى فليقاتله، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) .
الدرء: الدّفع، وَهَذَا يسْتَعْمل فِي أول الْمَنْع. فَإِن
أَبى المجتاز كَانَ للْمُصَلِّي دَفعه بالعنف.
وَقَوله: ((فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) قَالَ أَبُو
سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الشَّيْطَان يحملهُ
على ذَلِك. وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي إِلَى
ستْرَة.
وَفِي اللَّفْظ الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ: ((إِذا صلى
أحدكُم إِلَى شَيْء يستره)) فَأَما إِذا لم يكن ستْرَة
فَلَيْسَ لَهُ دفع الْجَائِز بَين يَدَيْهِ، مَعَ أَن
الْجَائِز مَنْهِيّ عَن الْجَوَاز.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْعَمَل الْقَلِيل لَا
يقطع الصَّلَاة.
(3/147)
1456 - / 1764 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا أعجلت أَو قحطت فَلَا غسل
عَلَيْك، عَلَيْك الْوضُوء)) وَفِي لفظ: ((إِنَّمَا المَاء
من المَاء)) .
أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: أَو قحطت بِفَتْح الْقَاف،
وَقَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد الخشاب: الصَّوَاب ضم الْقَاف،
وَالْمعْنَى: لم ينزل. قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: أقحط
الرجل: إِذا خالط أَهله وَلم ينزل.
والقحط: احتباس الْمَطَر. وَهَذَا كَانَ فِي أول
الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ على مَا بَيناهُ فِي مُسْند
عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ.
1457 - / 1765 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: ((يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش
أَمْلَح فينادي مُنَاد: يَا أهل الْجنَّة،
فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيذْبَح)) .
الْمَوْت حَادث تَزُول مَعَه الْحَيَاة، وَيدل على أَنه
شَيْء قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة}
[الْملك: 2] وَذَلِكَ الْحَادِث يصور فِي هَيْئَة كَبْش،
وَإِنَّمَا صور لَهُم ليعلموا عدم الْمَوْت فِيمَا بعد.
وَقد فسرنا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة.
ويشرئبون: أَي يرفعون رؤوسهم لرُؤْيَته، يُقَال: اشرأب
يشرئب: إِذا ارْتَفع وَعلا.
(3/148)
1458 - / 1766 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((يَقُول الله تَعَالَى يَوْم
الْقِيَامَة: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي:
إِن الله أَمرك أَن تخرج بعثا إِلَى النَّار ...
فَحِينَئِذٍ تضع الْحَامِل حملهَا، ويشيب الْوَلِيد)) .
قَوْله: ((لبيْك وَسَعْديك)) قد تقدم تَفْسِيره فِي مُسْند
عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
والبعث: الَّذين يبعثون.
وَالْحَامِل: الحبلى. وَقد فرقوا بَين حملهَا فِي الْبَطن،
وَحملهَا على الرَّأْس وَالظّهْر، فَقَالُوا هَا هُنَا:
حَامِل، وَهُنَاكَ: حاملة.
فَإِن قيل: فَهَل يبْقى حَامِل يَوْم الْقِيَامَة؟
فَالْجَوَاب: أَنه لَو حضرت حَامِل حِينَئِذٍ لوضعت، وَلَو
حضر مَوْلُود يعقل أهوال الْقِيَامَة لشاب.
وَأما (يَأْجُوج وَمَأْجُوج) فهما اسمان أعجميان. وَقد
قَرَأَ عَاصِم بهمزهما. قَالَ اللَّيْث: الْهَمْز لُغَة
رَدِيئَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: يَأْجُوج رجل، وَمَأْجُوج
رجل، وهما ابْنا يافث بن نوح، فيأجوج وَمَأْجُوج عشرَة
أَجزَاء وَولد آدم كلهم جُزْء، وهم شبر وشبران وَثَلَاثَة
أشبار. وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: مِنْهُم من طوله
شبر، وَمِنْهُم من هُوَ مفرط فِي الطول. وَقَالَ السّديّ:
التّرْك سَرِيَّة من يَأْجُوج وَمَأْجُوج،
(3/149)
خرجت تغير، فجَاء ذُو القرنين فَضرب السد
فَبَقيت خَارجه. وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَا يَمُوت الرجل
مِنْهُم حَتَّى ينظر إِلَى ألف ذكر بَين يَدَيْهِ من صلبه،
كل قد حمل السِّلَاح)) .
وَقَوله: ((كرقمة فِي ذِرَاع الْحمار)) الرَّقْمَة خطوط
مخططة فِي ذراعه.
1459 - / 1767 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا تسبوا أَصْحَابِي، فَإِن أحدكُم
لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا
نصيفه)) .
الْمَدّ: ربع الصَّاع. والنصيف: نصفه. قَالَ أَبُو عبيد:
وَالْعرب تسمي النّصْف النصيف كَمَا قَالُوا فِي الْعشْر
عشير، وَفِي الْخمس خَمِيس، وَفِي الثّمن ثمين، وَفِي
التسع تسيع. وَاخْتلفُوا فِي الرّبع وَالسُّدُس والسبع،
فَمنهمْ من قَالَ: ربيع وسديس وسبيع، وَمِنْهُم من لَا
يَقُول بذلك، وَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول فِي الثُّلُث
شَيْئا من ذَلِك، وأنشدوا:
(لم يغذها مد وَلَا نصيف ... وَلَا تُمَيْرَات وَلَا
تعجيف)
أَرَادَ: أَنَّهَا منعمة، لم تغذ بِمد تمر وَلَا نصيفه،
لَكِن بِاللَّبنِ.
(3/150)
والنصيف فِي غير هَذَا: الْخمار، كَقَوْلِه
عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحور الْعين: ((ولنصيف
إِحْدَاهُنَّ على رَأسهَا خير من الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: لمن خَاطب؟ إِن كَانَ خَاطب أَصْحَابه
فَكيف يَقُول: ((يَا أَصْحَابِي)) ، ((وَلَا تسبوا
أَصْحَابِي)) وَإِن كَانَ خَاطب التَّابِعين فَمَا وجدوا
بعد. فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل الْأَمريْنِ، فَإِن كَانَ
خَاطب أَصْحَابه فالخطاب للمتأخرين مِنْهُم، فأعلمهم أَنهم
لن يبلغُوا مرتبَة الْمُتَقَدِّمين، كَمَا قَالَ فِي حق
أبي بكر: ((قُلْتُمْ: كذبت، وَقَالَ: صدقت، فَهَل أَنْتُم
تاركو صَاحِبي)) . ويكشف هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا
يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح} [الْحَدِيد:
10] وَإِن كَانَ قَالَ لمن سَيَأْتِي فعلى معنى: بلغُوا من
يَأْتِي، ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ}
[الْأَنْعَام: 19] .
1460 - / 1768 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر صَاعا من
طَعَام، أَو صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا
من أقط، أَو صَاعا من زبيب، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة
وَجَاءَت السمراء قَالَ: أرى مدا من هَذَا يعدل مَدين.
وَقد ذكرنَا قدر الصَّاع فِي مُسْند ابْن عمر، وَذكرنَا
هُنَاكَ أَنه لَا يُجزئ أقل من صَاع من أَي الْأَجْنَاس
المخرجة كَانَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُجزئ نصف صَاع بر،
وَهُوَ المُرَاد بقول أبي سعيد: فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة
وَجَاءَت السمراء، يَعْنِي الْحِنْطَة، قَالَ: أرى مدا من
هَذَا - يَعْنِي الْحِنْطَة -
(3/151)
يعدل مَدين - يَعْنِي من التَّمْر.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن ويجفف، وَيجوز إِخْرَاجه
على أَنه أصل. هَذَا قَول أَحْمد وَمَالك، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: يخرج على وَجه الْقيمَة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ.
1461 - / 1769 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ذكر خطْبَة الْعِيد بعد الصَّلَاة، قَالَ
أَبُو سعيد: فَخرجت مخاصرا مَرْوَان، فَإِذا بِهِ يُرِيد
أَن يَبْتَدِئ بِالْخطْبَةِ، فجبذته فَقَالَ: ذهب مَا
تعلم.
أما تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فقد بَينا سَببه فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس.
والمخاصرة: أَن يَأْخُذ الرجل بيد آخر يتماشيان، فيد كل
وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد خصر صَاحبه، وأنشدوا:
(ثمَّ خَاصرتهَا إِلَى الْقبَّة الخضراء ... نمشي فِي مرمر
مسنون)
وجبذته بِمَعْنى جذبته. وَمثله كبكبت الشَّيْء وبكبكته:
إِذا طرحت بعضه على بعض، وهجهجت بالسبع وجهجهت بِهِ، وفثأت
الْقدر وثفأتها: إِذا سكنت غليانها.
وَقَول مَرْوَان: ذهب مَا تعلم: أَي ترك اتِّبَاع السّنة.
وَقَوله: ((يكثرن اللَّعْن ويكفرن العشير)) قد سبق فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس.
(3/152)
وَذكر نُقْصَان عقلهن ودينهن قد تقدم فِي
مُسْند ابْن عمر.
وَأما امْرَأَة ابْن مَسْعُود فاسمها زَيْنَب بنت أبي
مُعَاوِيَة الثقفية. وَقد دلّ حَدِيثهَا على أَن
الصَّدَقَة على الْأَقَارِب أولى من الصَّدَقَة على
الْأَجَانِب.
1462 - / 1770 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: فِي ذكر أبي طَالب: ((لَعَلَّه تَنْفَعهُ
شَفَاعَتِي فَيجْعَل فِي ضحضاح من النَّار يبلغ كعبيه)) .
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الضحضاح: الْقَلِيل من
الْعَذَاب، وَالْعرب تسمى المَاء الْقَلِيل ضحضاحا. قيل
لأعرابي: إِن فلَانا يَدعِي الْفضل عَلَيْك، فَقَالَ: لَو
وَقع فِي ضحضاح مني لغرق: أَي فِي الْقَلِيل من مياهي.
وَقَالَ غَيره: الضحضاح مَا يبلغ الْكَعْبَيْنِ، وكل مَا
رق من المَاء على وَجه الأَرْض فَهُوَ ضحضاح.
1463 - / 1771 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله بعد
الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا)) .
إِذا أطلق ذكر سَبِيل الله كَانَ الْمشَار بِهِ إِلَى
الْجِهَاد.
والخريف زمَان مَعْلُوم من السّنة تخترف فِيهِ الثِّمَار.
المُرَاد بِهِ هَا هُنَا السّنة كلهَا، وَالْمعْنَى:
مسيرَة سبعين سنة.
1464 - / 1772 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: الْجواد
الْمُضمر. وَقد
(3/153)
سبق بَيَانه فِي مُسْند سهل بن سعد.
1465 - / 1773 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن المزانبة والمحاقلة وَقد فسرناه
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1466 - / 1774 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ: كُنَّا فِي مسير لنا، فنزلنا منزلا،
فَجَاءَت جَارِيَة فَقَالَت: إِن سيد الْحَيّ سليم، وَإِن
نفرنا غيب، فَهَل مِنْكُم راق؟ فَقَامَ مَعهَا رجل مَا
كُنَّا نأبنه برقية، فرقاه.
قد سبق ذكر النَّفر فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن وَغَيره.
والغيب: الغائبون.
وَالرجل الَّذِي رقى هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَاوِي
الحَدِيث.
ونأبنه بِضَم الْبَاء، كَذَلِك قَالَه لنا عبد الله بن
أَحْمد النجوي، وَقَالَ: أبنت بِمَعْنى عبت، كَأَنَّهُمْ
مَا علمُوا أَنه يرقى فَكَانَ يعاب بالرقية.
وَقَوله: وشفوا لَهُ بِكُل شَيْء: أَي عالجوه بِكُل شَيْء
طلبا للشفاء، يُقَال: شفى الطَّبِيب للْمَرِيض: إِذا عالجه
بِمَا يشفيه.
والجعل: مَا يعطاه الْإِنْسَان على الْأَمر يَفْعَله،
وَكَذَلِكَ الْجعَالَة والجعيلة.
(3/154)
والقطيع: مَا اقتطع من الْغنم.
وَقَوله: يتفل: التفل: نفخ بِلَا ريق.
وَقَوله: نشط من عقال: هَكَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة،
وَأكْثر اللُّغَة على أَن نشط بِمَعْنى عقل، وَأنْشط
بِمَعْنى حل، وَقد جَاءَ فِي بعض اللُّغَات: نشط بِمَعْنى
حل، وَهُوَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث.
ويستدل بِهَذَا الحَدِيث من يرى جَوَاز الْأُجْرَة على
تَعْلِيم الْقُرْآن وَجَمِيع الْقرب، وَقد بَينا فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد،
واعتذرنا على الْمَنْصُور عندنَا عَن هَذَا الحَدِيث.
1467 - / 1775 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ قبلكُمْ رغسه الله
مَالا، فَقَالَ لِبَنِيهِ: إِذا مت فأحرقوني.
قَوْله: رغسه الله مَالا، قَالَ أَبُو عبيد: أَكثر لَهُ
مِنْهُ وَبَارك لَهُ فِيهِ.
يُقَال: رغسه الله يرغسه رغسا، وَكَذَلِكَ فِي الْحبّ
وَغَيره.
قَالَ العجاج:
(خَليفَة سَاس بِغَيْر تعس ... أَمَام رغس فِي نِصَاب رغس)
(3/155)
وَقَوله: ((فِي يَوْم عاصف)) أَي عاصف
الرّيح.
وَقَوله: لم يبتئر. قَالَ أَبُو عبيد: أَي لم يقدم خيرا،
وَهُوَ من الشَّيْء يخبأ، كَأَنَّهُ لم يقدم لنَفسِهِ
شَيْئا خبأه لَهَا، يُقَال: بأرت الشَّيْء وابتأرته: إِذا
خبأته، وَمِنْه سميت الحفرة البؤرة. وَفِي الابتئار
لُغَتَانِ: ابتأرت الشَّيْء وائتبرته ابتئارا وائتبارا،
قَالَ الْقطَامِي:
(فَإِن لم تأتبر رشدا قُرَيْش ... فَلَيْسَ لسَائِر
النَّاس ائتبار)
وَقَالَ آخر:
(فَإنَّك إِن تبأر لنَفسك بؤرة ... تجدها إِذا مَا
غَيْبَتِك الْمَقَابِر)
ويخلط ابْن جني فِي ((غَرِيب الحَدِيث)) : ابتأرت الشَّيْء
وابترته ابتئارا وابتيارا. وَأما امتار بِالْمِيم
فَإِنَّمَا رويت لنا مَهْمُوزَة، فعلى هَذَا تكون الْمِيم
نائبة عَن الْبَاء، كَقَوْلِهِم: سمد رَأسه وسبد. وَإِن
كَانَت غير مَهْمُوزَة بالإمتيار طلب الْميرَة، فَيكون
الْمَعْنى: مَا حصل خيرا.
وَقد اعْترض على هَذَا الحَدِيث فَقيل: هَذَا رجل كَافِر،
لقَوْله: إِن يقدر الله عَلَيْهِ. وَمن ظن أَن الله
تَعَالَى لَا يقدر عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِر، فَكيف يُقَال:
غفر الله لَهُ، وتلقاه برحمته؟ فَالْجَوَاب من سِتَّة
أوجه: أَحدهَا: أَن هَذَا الرجل مُؤمن، غير أَنه جهل صفة
من صِفَات الله عز وَجل، وَقد يغلط فِي صِفَات الله قوم من
الْمُسلمين وَلَا يحكم لَهُ
(3/156)
بالْكفْر، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. قَالَ
ابْن عقيل: والجهالة من جِهَة الْقُصُور عذر، وَكَذَلِكَ
إِذا لم يُؤْت قوم صِحَة الْعُقُول وسلامتها لم يكلفوا مَا
كلفه أَصْحَاب النّظر الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يكفر من
يسْتَدلّ وَينظر دون من قصر. وَالثَّانِي: أَنه جهل صفة من
صِفَات الله عز وَجل فَكفر بذلك، إِلَّا أَن الْكفْر قد
كَانَ يغْفر فِي ذَلِك الزَّمَان إِلَى أَن نزل قَوْله
تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ}
[النِّسَاء: 48] . وَالثَّالِث: أَن هَذَا رجل غلب
عَلَيْهِ الْخَوْف والجزع، فَقَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ
لَا يدْرِي مَا يَقُول، كَمَا قَالَ ذَلِك الرجل: ((أَنْت
عَبدِي وَأَنا رَبك)) . ذكرهمَا ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي
كتاب ((تَهْذِيب الْآثَار)) . وَالرَّابِع: أَن يكون
بِمَعْنى التَّضْيِيق، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر
عَلَيْهِ رزقه} [الطَّلَاق: 7] أَي ضيق، فَالْمَعْنى: أَن
يضيق عَليّ ويبالغ فِي محاسبتي. وَالْخَامِس: أَن يقدر
خَفِيفَة بِمَعْنى يقدر مُشَدّدَة، يُقَال: قدرت وقدرت
بِمَعْنى، وَالْمرَاد: إِن قدر وَسبق قَضَاؤُهُ أَن يعذب
كل ذِي جرم ليعذبني عذَابا لَا يعذبه أحدا. ذكرهَا أَبُو
عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ. وَالسَّادِس: أَن هَذَا الرجل
كَانَ يثبت الصَّانِع وَلَكِن لم تخاطبه النبوات، وَمن لم
تصله دَعْوَة لَا يُؤَاخذ - عِنْد أهل السّنة - بِمَا
يُخَالف الْعُقُول؛ لِأَن الْمُؤَاخَذَة ببلوغ الدعْوَة
فَقَط، وَمَا لم يسمع الدعْوَة فَلَا مُؤَاخذَة، وعَلى
قَول من يرى أَن الْعقل مُوجب يحمل ذَلِك على أَنه كَانَ
فِي مهلة النّظر لم يتكامل لَهُ النّظر، ذكره ابْن عقيل.
(3/157)
فَإِن قيل: وَكَيف جمعه قبل الْقِيَامَة؟
إِن قُلْتُمْ: خَاطب روحه فَلَيْسَ ذَلِك بِجمع، وَإِن
قُلْتُمْ: جمع أجزاءه فَهُوَ عين الْبَعْث، ثمَّ لَو بَعثه
لم يخاطبه لِأَنَّهُ لَا يكلمهُ فِي الدُّنْيَا.
فَالْجَوَاب أَنه إِخْبَار عَمَّا سيجري، وَأَن الله
تَعَالَى يجمعه فِي الْقِيَامَة فَيَقُول لَهُ هَذَا.
1468 - / 1776 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها.
الْحيَاء: الإنقباض والإحتشام. وَقد بَينا فضل الْحيَاء
فِي مُسْند ابْن عمر عِنْد قَوْله: ((الْحيَاء من
الْإِيمَان)) .
الْعَذْرَاء اسْم مَأْخُوذ من الْعذرَة، وَهُوَ مَا يهتكه
الإفتضاض.
والخدر: مَا تستتر فِيهِ الْمَرْأَة، وَالْأَصْل فِي الخدر
الإستتار، وَلذَلِك قيل: أَسد خادر، كَأَن الأجمة لَهُ خدر
يسْتَتر فِيهَا.
والخداري: اللَّيْل المظلم، لِأَنَّهُ يستر مَا اشْتَمَل
عَلَيْهِ.
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كره شَيْئا
أثر فِيهِ، وَيزِيد التَّأْثِير بكتمانه إِيَّاه عَن
صاحيه.
1469 - / 1777 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: قصَّة الَّذِي قتل تِسْعَة وَتِسْعين
نفسا ثمَّ طلب التَّوْبَة وَخرج فأدركه الْمَوْت، فنَاء
بصدره نَحْو الْقرْيَة الصَّالِحَة.
(3/158)
نأى بِمَعْنى: مَال.
وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنه لما صدق فِي التَّوْبَة
اجْتهد فِي الْقرب إِلَى أهل الْخَيْر فأعين على
اجْتِهَاده بِالْوَحْي إِلَى الأَرْض الصَّالِحَة: أَن
تقربي، وَإِلَى الخبيثة: أَن تباعدي، وَهَذَا من جنس
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك كدنا ليوسف} [يُوسُف: 76] .
1470 - / 1778 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أخي اسْتطْلقَ بَطْنه،
فَقَالَ: ((اسْقِهِ عسلا)) .
قد يشكل هَذَا على قوم: فَيَقُولُونَ: كَيفَ أَمر صَاحب
الإسهال بالعسل؟ وَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأَول الْآيَة،
وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} [النَّحْل:
69] وَلم يلْتَفت إِلَى اخْتِلَاف الْأَمْرَاض.
وَالثَّانِي: أَن مَا كَانَ يذكرهُ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الطِّبّ على مَذَاهِب الْعَرَب وعاداتهم
كَمَا بَينا فِي مُسْند رَافع بن خديج فِي إبراد الْحمى
بِالْمَاءِ. وَالثَّالِث: أَن الْعَسَل كَانَ يُوَافق
ذَلِك الرجل، فَقَالَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ:
كَانَ استطلاقه من الإمتلاء وَسُوء الهضم، وَسَائِر
الْأَطِبَّاء يأمرون صَاحب الهيضة بألا يمسك الطبيعة
ليستفرغ الفضول. وَالرَّابِع: أَن يكون أمره بطبخ الْعَسَل
قبل سقيه، والمطبوخ قد يعقل المبلغمين.
(3/159)
وَقَوله: ((صدق الله وَكذب بطن أَخِيك))
ذكر فِيهِ الْخطابِيّ احْتِمَالَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون
إِخْبَارًا عَن غيب أطلعه الله عَلَيْهِ، وأعلمه
بِالْوَحْي أَن شِفَاء ذَلِك من الْعَسَل، فكرر عَلَيْهِ
الْأَمر بسقي الْعَسَل ليظْهر مَا وعد بِهِ. وَالثَّانِي:
أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ
شِفَاء للنَّاس} وَيكون قد علم أَن ذَلِك النَّوْع من
الْمَرَض يشفيه الْعَسَل.
وَقَوله: عرب بَطْنه: أَي فسد.
1471 - / 1779، 1780 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد
البُخَارِيّ: مشروح فِي مُسْند أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث الثَّانِي: قد سبق مُسْند أبي ذَر.
1472 - / 1781 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((يَجِيء نوح
وَأمته فَيُقَال: من يشْهد لَك؟ فَيَقُول: مُحَمَّد
وَأمته)) .
اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن الشَّهَادَة على
الشَّهَادَة، وَهِي مَقْبُولَة عِنْد عَامَّة الْعلمَاء،
وَأمة مُحَمَّد شهدُوا على شَهَادَة الله عز وَجل عِنْدهم
بالتبليغ.
1473 - / 1782 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مُبين فِي
مُسْند ابْن عمر.
(3/160)
وَالسَّادِس وَالثَّامِن فِي مُسْند أبي
قَتَادَة. وَالسَّابِع فِي مُسْند عبَادَة.
1474 - / 1790 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا يسمع
مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد
لَهُ يَوْم الْقِيَامَة)) .
المدى: الْغَايَة.
1475 - / 1791 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((يُوشك
أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال))
.
يُوشك: أَي يقرب ويشرع. وَقد بَينا هَذِه الْكَلِمَة فِي
مُسْند كَعْب ابْن مَالك.
والشعفة: رَأس الْجَبَل، وَجَمعهَا شعف وشعفات.
1476 - / 1794 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((وَيْح
عمار)) .
وَيْح كلمة رَحْمَة، قَالَ الْخَلِيل: وَلم يسمع على
بنائها إِلَّا وَيس، وويه، وويك، وويب، وويل. قَالَ
الْأَصْمَعِي: وَيْح ترحم، وويس تصغر ذَلِك.
وَقَوله: ((تقتله الفئة الباغية)) الفئة: الْجَمَاعَة.
والباغية:
(3/161)
الظالمة. وَالْبَغي: الظُّلم.
وَقَوله: ((يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة)) أَي إِلَى مَا يحمل
إِلَى الْجنَّة.
1477 - / 1797 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد
مُسلم: ((إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته، فليطرح الشَّك وليبن
على مَا استيقن، ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم)) .
أما سُجُود السَّهْو فَإِنَّهُ عندنَا وَاجِب، ووافقنا
مَالك فِيمَا إِذا كَانَ عَن نُقْصَان. وَقَالَ
الشَّافِعِي: هُوَ مسنون. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن
أَحْمد فِي مَحل سُجُود السَّهْو، فَروِيَ عَنهُ إِن كَانَ
من نُقْصَان فَقبل السَّلَام، وَإِن كَانَ من زِيَادَة
فَبعد السَّلَام، وَهَذَا قَول مَالك. وَرُوِيَ عَنهُ أَن
الْكل قبل السَّلَام، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ
عَنهُ أَن الْكل قبل السَّلَام إِلَّا فِي موضِعين:
أَحدهمَا: أَن يسلم من نُقْصَان. وَالثَّانِي: إِذا شكّ
الإِمَام وَقُلْنَا يتحَرَّى على رِوَايَة فَإِنَّهُ يسْجد
بعد السَّلَام اسْتِحْسَانًا لموْضِع الْأَثر، وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: كُله بعد السَّلَام.
وَقَوله: ((كَانَت ترغيما للشَّيْطَان)) أَي دحرا لَهُ
ورميا لَهُ باالرغام: وَهُوَ التُّرَاب.
1478 - / 1798 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا تكْتبُوا
عني)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا نهى فِي أول الْأَمر،
فَلَمَّا علم أَن السّنَن تكْثر فَيفوت الْحِفْظ أجَاز
الْكِتَابَة. قَالَ: وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا خص
بِإِجَازَة
(3/162)
الْكِتَابَة عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ حِين قَالَ لَهُ: إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء،
وَإِنِّي أَخَاف أَن أَنْسَاهَا، أفتأذن لي أَن أَكتبهَا؟
قَالَ: ((نعم)) لِأَن عبد الله كَانَ كَاتبا قَارِئًا
للكتب الْمُتَقَدّمَة. وَكَانَ غَيره من الصَّحَابَة
أُمِّيين، فخشي عَلَيْهِم فِي كتابتهم الْغَلَط، وَأمن على
هَذَا لمعرفته فَأذن لَهُ.
وَقَوله: ((حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج)) فِيهِ
خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ قد تقدم مِنْهُ مَا
يشبه النَّهْي، إِذْ جَاءَ عمر بِكَلِمَات من التَّوْرَاة
فَقَالَ لَهُ: ((أمطها عَنْك)) فخاف أَن يتَوَهَّم
النَّهْي عَن ذكرهم جملَة فَأجَاز الحَدِيث عَنْهُم.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: وَلَا يضيق صدر السَّامع
من عجائب مَا يسمع عَنْهُم، فقد كَانَ فيهم أَعَاجِيب.
وَالثَّالِث: أَنه لما كَانَ قَوْله: ((حدثوا)) لفظ أَمر
بَين أَنه لَيْسَ على أَمر الْوُجُوب بقوله: ((وَلَا حرج))
أَي: وَلَا حرج إِن لم تحدثُوا.
وَالرَّابِع: أَنه لما كَانَت أفعالهم قد يَقع فِيهَا مَا
يتحرز من ذكره الْمُؤمن أَبَاحَ التحديث بذلك، كَقَوْلِه:
{فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} [الْمَائِدَة: 24]
{وَاجعَل لنا إِلَهًا} [الْأَعْرَاف: 138] ((مُوسَى آدر))
. وَالْخَامِس: أَن يكون أَرَادَ ببني إِسْرَائِيل
أَوْلَاد يَعْقُوب وَمَا فَعَلُوهُ بِيُوسُف.
وَقَوله: ((من كذب عَليّ)) قد سبق فِي مُسْند عَليّ
وَغَيره.
1479 - / 1799 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لقنوا
مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله)) .
(3/163)
فِي تلقين الْمَيِّت هَذِه الْكَلِمَة
سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهَا أول مَا يلْزمه النُّطْق
بِهِ فِي بداية التَّكْلِيف فَأَرَادَ أَن تكون خَاتِمَة
الْأَقْوَال. وَالثَّانِي: أَنه إِن كَانَ قَالَهَا فِي
زمن السَّلامَة شاكا فِي صِحَّتهَا أَو غافلا عَن مضمونها،
فَعِنْدَ الْمَوْت يحضر قلبه فينطق بهَا بِيَقِين.
وَالثَّالِث: أَن الْأَعْمَال بطلت بِقُوَّة الْمَرَض،
فَلم يبْق إِلَّا الْأَقْوَال، وَهِي أفضل الْأَقْوَال.
وَالرَّابِع: أَن الْأَعْمَال بخواتيمها، وَهِي أشرف مَا
ختم بِهِ. وَالْخَامِس: لِيُقِر الْمُؤمن فِي زمن الشدَّة
بِمَا كَانَ مقرا بِهِ فِي زمن السَّلامَة والعافية،
وَمثله ابتلاء مُنكر وَنَكِير. وَالسَّادِس: أَن هَذِه
الْكَلِمَة كَانَت عَاصِمَة فِي الدُّنْيَا من عَذَابهَا،
فَأمر بقولِهَا عِنْد اسْتِقْبَال الْآخِرَة لينجى من
عَذَابهَا. وَيسْتَحب أَن تكون آخر كَلَام الْمَرِيض،
فَإِن لقنها ثمَّ تكلم بعْدهَا أُعِيدَت عَلَيْهِ لتَكون
آخر كَلَامه، وَإِن ثقل عَلَيْهِ النُّطْق فكررت عَلَيْهِ
ثَلَاثًا فَلم يطق النُّطْق لم تكَرر عَلَيْهِ، فَكَانَ
اعْتِقَاده قَائِما مقَام النُّطْق.
1480 - / 1801 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ((مثلي وَمثل
الْأَنْبِيَاء كَمثل رجل بنى دَارا فأتمها إِلَّا لبنة))
قد تقدم بَيَانه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1481 - / 1802 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((احتجت
الْجنَّة وَالنَّار، فَقَالَت النَّار: فِي الجبارون
والمتكبرون. وَقَالَت الْجنَّة: فِي ضِعَاف النَّاس
ومساكينهم)) .
المتكبر: الَّذِي يحتقر النَّاس ويعظم نَفسه.
(3/164)
والضعفاء جمع ضَعِيف: وَهُوَ الْقَلِيل
الْحَظ من الدُّنْيَا.
وَظَاهر هَذِه المحاجة الْمُخَاصمَة فِي الْفَضِيلَة:
وَالْمعْنَى: أظهرتا حجج التَّفْضِيل، فَكل وَاحِدَة
تَدعِي الْفضل على الْأُخْرَى.
وَيحْتَمل مُرَاد النَّار بقولِهَا: ((فِي الجبارون
والمتكبرون)) . وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الجبارين أَعلَى
من الضُّعَفَاء. وَالثَّانِي: أَنِّي أنتقم لله عز وَجل من
الجبارين الَّذين خالفوه، فحالتي عالية.
وَيحْتَمل قَول الْجنَّة: ((فِي الضُّعَفَاء
وَالْمَسَاكِين)) وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الضُّعَفَاء
كَانُوا يَتَّقُونَ الله، فهم أفضل من المتجبرين.
وَالثَّانِي: أَن الضُّعَفَاء مَوضِع الرَّحْمَة واللطف،
وثواب الْمُنعم عَلَيْهِ بعد الْفقر والمسكنة أحسن من
عِقَاب المتجبر. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند
أبي هُرَيْرَة، وَمِنْه: (فَقَالَت الْجنَّة: فَمَالِي لَا
يدخلني إِلَّا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ وغرتهم))
فَيحْتَمل قَوْلهَا هَذَا أَمريْن: أَحدهمَا: الْمَدْح
لحالها، لِأَنَّهَا ذكرت قوما لَيْسَ فيهم خب وَلَا دغل،
شغلتهم التَّقْوَى عَن ذَلِك. وَالثَّانِي: أَن تكون
قَالَت هَذَا كالشكوى إِلَى الله عز وَجل، فَتكون كالمغلوب
فِي المجادلة.
1482 - / 1803 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَصَابَت
النَّاس مجاعَة فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالُوا: لَو أَذِنت
لنا فنحرنا نواضحنا؟ فَقَالَ: ((افعلوا)) فجَاء عمر
فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن فعلت قل الظّهْر، وَلَكِن
ادعهم بِفضل أَزْوَادهم ثمَّ ادْع الله لَهُم فِيهَا
بِالْبركَةِ، فَذكر أَنهم ملأوا أوعيتهم.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن إِنَّمَا أذن لَهُم بِرَأْيهِ
لَا بِالْوَحْي، فَلَمَّا
(3/165)
أَشَارَ عمر بِمَا رَآهُ أصلح مَال
إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا فضل كثير لعمر.
وَقد قَالَ قَائِل: مَا وَجه دُعَائِهِ بالزاد وَالْمَاء
ثمَّ يَدْعُو بِالْبركَةِ فِيهِ، فَهَلا دَعَا ليخرج الله
تَعَالَى لَهُم الزَّاد وَالْمَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن مَا
يَتَوَلَّاهُ الْخلق يَقع بالأسباب، فَلَا يخرج على يَد
مَخْلُوق شَيْء لَا من شَيْء، كَمَا قَالَ عِيسَى: {أخلق
لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير} [آل عمرَان: 49] فَأَما
ابتداع الْأَشْيَاء لَا من شَيْء فَذَاك مِمَّا انْفَرد
الْحق عز وَجل بِهِ.
فَإِن قيل: فقد ركض الأَرْض فنبع المَاء. قُلْنَا: فالأرض
مَحل المَاء.
1483 - / 1804 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((الصَّوْم لي
وَأَنا أجزي بِهِ)) .
الصَّوْم فِي اللُّغَة: الْإِمْسَاك فِي الْجُمْلَة،
يُقَال: صَامت الرّيح: إِذا أَمْسَكت عَن الهبوب.
وَالصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: الْإِمْسَاك عَن الطَّعَام
وَالشرَاب وَالْجِمَاع مَعَ انضمام النِّيَّة إِلَيْهِ.
وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا معنى: إِضَافَة الصَّوْم
إِلَيْهِ بقوله: ((الصَّوْم لي)) وَجَمِيع الْعِبَادَات
لَهُ؟ فَالْجَوَاب عَنهُ من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنه
إِضَافَة تشريف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وطهر بَيْتِي}
[الْحَج: 26] وَقَوله: {نَاقَة الله} [الْأَعْرَاف: 73] .
وَالثَّانِي: أَنه أَضَافَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أحب
الْعِبَادَات إِلَيْهِ، يدل عَلَيْهِ أَن فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم
فَإِنَّهُ لي)) وَكَانَ الْمَعْنى هُوَ الْمُقدم عِنْدِي
على غَيره. وَالثَّالِث: لمضاعفته جزاءه، فَالْمَعْنى: أَن
جَمِيع الْأَعْمَال لَهَا جَزَاء مَعْلُوم إِلَّا الصَّوْم
فَإِنِّي
(3/166)
أضاعف جزاءه إِلَى مَا لَا يُعلمهُ
غَيْرِي، وَيشْهد لَهُ قَوْله: ((وَأَنا أجزي بِهِ))
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم يُضَاعف
الْحَسَنَة عشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، قَالَ
الله تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي، وَأَنا أجزي
بِهِ)) وَالرَّابِع: أَن جَمِيع الْعِبَادَات تظهر، وَقل
أَن يسلم الظَّاهِر من شوب، وَلِهَذَا قَالَ: ((كل عمل
ابْن آدم لَهُ)) وَالْمعْنَى: لنَفسِهِ فِيهِ حَظّ
لظُهُوره، وَالنَّاس يثنون عَلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ
الظَّاهِرَة، وَالصَّوْم بَاطِن فَهُوَ سليم.
وَالْخَامِس: أَن الْمَعْنى أَن الإستغناء عَن الْمطعم
وَالْمشْرَب صِفَتي، فَكَأَن الصَّائِم تقرب إِلَى الله عز
وَجل بِمَا يشبه صفته وَلَا شبه.
وَقَوله: ((إِذا أفطر فَرح)) هَذَا فَرح الطَّبْع، فَأَما
الْعقل فَإِنَّهُ يفرح بِتمَام صَوْمه وسلامته من
الْآفَات.
وَأما الخلوف فَهُوَ تغير ريح الْفَم، يُقَال: خلف فَمه
يخلف خلوفا. وَكثير من أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ:
ولخلوف بِفَتْح الْخَاء؛ وَهُوَ غلط؛ لِأَن الخلوف هُوَ
الَّذِي بعد وتخلف، قَالَ النمر بن تولب:
(جزى الله عني جَمْرَة ابْنة نَوْفَل ... جَزَاء خلوف
بالأمانة كَاذِب)
وَذكر الْمسك تَشْبِيه لنا بِمَا نعقل، فَكَمَا أَن الْمسك
طيب الرّيح
(3/167)
عندنَا، فالخلوف عِنْد الله أطيب.
وَاعْلَم أَن الله عز وَجل ينظر إِلَى قصد الْفَاعِل،
فَإِذا كَانَ صَحِيحا أحب مَا يحدث مِنْهُ وَإِن كَانَ
مَكْرُوها عِنْد الْخلق كالخلوف فِي الصَّوْم، وَالنَّوْم
فِي التَّهَجُّد، وَالدَّم فِي حق الشَّهِيد.
1484 - / 1805 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أُصِيب رجل
فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثمار
ابتاعها، فَكثر دينه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ((تصدقوا عَلَيْهِ)) فَلم يبلغ ذَلِك
وَفَاء دينه، فَقَالَ لغرمائه: ((خُذُوا مَا وجدْتُم،
فَلَيْسَ لكم إِلَّا ذَلِك)) .
رُبمَا توهم متوهم أَن معنى قَوْله: ((لَيْسَ لكم إِلَّا
ذَلِك)) أَن مَا وجدوه وَإِن لم يَفِ بِأَمْوَالِهِمْ هُوَ
قدر مَا يجب لَهُم، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا
الْمَعْنى: لَيْسَ لكم الْآن إِلَّا مَا وجدْتُم وَيبقى من
الدُّيُون فِي ذمَّته إِلَى حِين يسَاره. وَاخْتلفت
الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي الْمُفلس إِذا بَقِي عَلَيْهِ
دين وَكَانَ ذَا صناعَة، هَل يجْبرهُ الْحَاكِم على
إِيجَار نَفسه؟ فَروِيَ عَنهُ: يجْبرهُ، وَرُوِيَ: لَا
يجْبرهُ، كَقَوْل الْأَكْثَرين.
1485 - / 1806 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ذكر
قِرَاءَة أسيد بن حضير، ونزول الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ وَقد
سبق فِي مُسْند أسيد.
والمربد: الْموضع الَّذِي يجمع فِيهِ تمر النّخل عِنْد
الجداد.
(3/168)
والمربد أَيْضا: موقف الْإِبِل، وَقد سبق
هَذَا.
1486 - / 1807 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قد سبق فِي
مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1487 - / 1808 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر آخر من
يدْخل الْجنَّة.
وَفِيه: ((فَأَكُون تَحت نجاف الْجنَّة)) والنجاف: أَعلَى
الْبَاب.
وأصل النجف الإرتفاع، والنجف شبه التل، وَجمع النجف نجاف.
وَقد سبق الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1488 - / 1809 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: لقد كَانَت
صَلَاة الظّهْر تُقَام فَيذْهب الذَّاهِب إِلَى البقيع
فَيَقْضِي حَاجته ثمَّ يتَوَضَّأ ثمَّ يَأْتِي رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرَّكْعَة الأولى، مِمَّا
يطولها.
الْحَاجة هَا هُنَا: الْغَائِط وَالْبَوْل. وَهَذَا يدل
على اسْتِحْبَاب تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة
الأولى من كل صَلَاة. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي
مُسْند أبي قَتَادَة.
1489 - / 1810 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من
الرُّكُوع قَالَ: ((اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء
السَّمَوَات
(3/169)
وَالْأَرْض)) .
قد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن قَوْله: ((ملْء السَّمَاء))
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون ذكر مَا نحس بِهِ
للتقريب إِلَى الْفَهم، فَالْمَعْنى: لَك الْحَمد حمدا
كثيرا. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الصُّحُف
الَّتِي تكْتب فِيهَا المحامد.
وَالثنَاء: الْمَدْح وَالْمجد والشرف.
وَقَوله: ((وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد)) قد فسرناه
فِي مُسْند الْبَراء ابْن عَازِب.
1490 - / 1811 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أتيت أَبَا
سعيد الْخُدْرِيّ وَهُوَ مكثور عَلَيْهِ.
أَي قد كثر النَّاس عَلَيْهِ، فَعدى الْكَثْرَة وَهِي
لَازِمَة، كَمَا يُقَال: مَرْغُوب فِيهِ.
وَقَوله: فَلم يعب الصَّائِم على الْمُفطر. وَقد سبق فِي
مُسْند أبي الدَّرْدَاء بَيَانه، وَذكرنَا جَوَاز الصَّوْم
وَالْفطر فِي السّفر، وَاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأَفْضَل.
1491 - / 1812 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا
نحزر قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الظّهْر.
الحزر: تَقْدِير بِظَنّ.
(3/170)
1492 - / 1813 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
عشر: ((إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود
فَليَتَوَضَّأ)) .
اعْلَم أَن الْوضُوء يجمع بَين تَخْفيف الْحَدث والنظافة،
وَقد علم أَن الْإِنْسَان لَا يتَوَضَّأ بعد الْوَطْء
حَتَّى يغسل ذكره، وَذَلِكَ يُقَوي الْعُضْو، ثمَّ إِن
الْبدن يسكن من الإنزعاج بِتِلْكَ السَّاعَة فَيَعُود
مستريحا. وَلَا يُمكن أَن يحمل قَوْله: ((فَليَتَوَضَّأ))
على غسل الذّكر فَحسب، لِأَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث
((وضوءه للصَّلَاة)) .
1493 - / 1814 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: نهى عَن
الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمزفت. وَقد سبق فِي مُسْند
ابْن عَبَّاس، وَبينا أَنه إِنَّمَا نهى عَن هَذِه
الْأَشْيَاء لِأَنَّهَا تزيد المنبوذ فِيهَا شدَّة.
1494 - / 1815 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين:
نَهَانَا أَن نخلط بسرا بتمرا، أَو زبيبا بِتَمْر.
قد بَينا فِيمَا سبق أَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى
الإنتباذ، وَأَنه إِذا اجْتمع نَوْعَانِ تعاونا على
إِحْدَاث الشدَّة، فكره ذَلِك لِأَنَّهُ يقرب إِلَى
الْمحرم، فَإِن حدثت شدَّة حرم.
1495 - / 1816 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين:
((إِذا تثاءب أحدكُم فليمسك بِيَدِهِ على فَمه)) وَفِي لفظ
((فليكظم)) .
(3/171)
وأصل الكظم إمْسَاك على مَا فِي النَّفس،
فَكَأَنَّهُ أَمر برده مهما أمكن، لِأَنَّهُ يُوجب فتح
الْفَم خَارِجا عَن الْعَادة، وَرُبمَا ظهر مَعَه صَوت
مستنكر، كَقَوْل المتثائب: هاه، هاه.
1496 - / 1817 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
((إِنِّي حرمت مَا بَين لابتي الْمَدِينَة)) . وَكَانَ
أَبُو سعيد يَأْخُذ أَحَدنَا فِي يَده الطَّائِر فيفكه من
يَده ثمَّ يُرْسِلهُ.
هَذَا يدل على أَن صيد الْمَدِينَة محرم. وَقد سبق ذكر
الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام،
وَبينا معنى اللابة.
1497 - / 1818 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
((لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل - وَفِي لفظ - عرية))
.
الْعَوْرَة: كل شَيْء يستحيى مِنْهُ. وَهِي الْعرية
أَيْضا. وحد عَورَة الرجل وَالْأمة من السُّرَّة إِلَى
الرّكْبَة. وَعَن أَحْمد: أَنَّهَا الْقبل والدبر، وَبِه
قَالَ دَاوُد، وركبة الرجل لَيست عَورَة. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: هِيَ عَورَة، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين. وعورة
الْحرَّة جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه، وَفِي
الْكَفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ
قدمهَا وَلَا يَدهَا عَورَة. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن
أَحْمد فِي عَورَة أم الْوَلَد وَالْمُعتق بَعْضهَا،
فَروِيَ عَنهُ أَن عورتهما كعورة الْحرَّة، وَرُوِيَ عَنهُ
كعورة الْأمة. وَاعْلَم
(3/172)
أَن عَورَة الْمَرْأَة فِي حق الْمَرْأَة
كعورة الرجل فِي حق الرجل.
وَأما الْعَوْرَة بِالسِّنِّ فَقَالَ شَيخنَا عَليّ بن عبد
الله: كل من لم يبلغ سبع سِنِين لم يثبت فِي حَقه حكم
الْعَوْرَة، فعلى هَذَا يجوز أَن يغسل الرجل الصبية
وَالْمَرْأَة الصَّبِي إِذا لم يبلغَا سبع سِنِين، ويؤكد
هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل ربيبة
الْحسن.
وَإِنَّمَا فعل هَذَا لارْتِفَاع حُرْمَة الْعَوْرَة فِي
حق الصَّغِير. فَإِذا بلغ الصَّبِي سبعا دخل فِي حد
التَّمْيِيز وَأدْخلهُ الشَّرْع فِي حيّز المتعبدين بقوله:
((مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع)) .
وَأما إفضاء الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد
فَذَاك يُوجب التقاء البشرتين، فَإِن كَانَت الْبشرَة
عَورَة فَذَاك حرَام، وَإِن لم تكن عَورَة خيف من ذَلِك
أَن يكون طَرِيقا إِلَى الإستمتاع، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة
مَعَ الْمَرْأَة.
1498 - / 1819 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين:
أول من بَدَأَ بِالْخطْبَةِ يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة
مَرْوَان.
قد بَينا السَّبَب فِي تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَإِنَّمَا خَافَ مَرْوَان إِن
قدم الصَّلَاة أَلا يسمعوا خطبَته، فَقدم الْخطْبَة،
فَقَالَ لَهُ رجل: الصَّلَاة أَولا فَقَالَ: قد ترك مَا
هُنَالك.
(3/173)
يَعْنِي: تركت السّنة، فَقَالَ أَبُو سعيد:
هَذَا قد قضى مَا عَلَيْهِ، يَعْنِي: فرض الْإِنْكَار.
وحد الإستطاعة فِي الْإِنْكَار أَلا يخَاف الْمُنكر
سَوْطًا وَلَا عَصا، فَحِينَئِذٍ يجب عَلَيْهِ التَّغْيِير
بِالْيَدِ، فَإِن خَافَ السَّوْط فِي تَغْيِيره بِالْيَدِ
وَلم يخفه فِي النُّطْق انْتقل الْوُجُوب إِلَى
الْإِنْكَار بِاللِّسَانِ. فَإِن خَافَ انْتقل إِلَى
الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ. وَالْإِنْكَار بِالْقَلْبِ هُوَ
كَرَاهِيَة ذَلِك الْفِعْل، وَتلك فَرِيضَة لَازِمَة على
كل حَال.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه ضعف الْإِيمَان هَا هُنَا وَمَا
تعدى الْمُنكر بِالْقَلْبِ الشَّرْع؟ فَالْجَوَاب من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِيمَان إِذا قوي فِي
الْبَاطِن حرك الْأَعْضَاء بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ،
فَإِذا ضعف اقْتصر على العقيدة وَالْبَاطِن. وَالثَّانِي:
أَن الإقتصار على الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ رخصَة،
وَالْإِنْكَار بِالْيَدِ عَزِيمَة، وَالْإِيمَان مُشْتَمل
على الْعَزِيمَة والرخصة، والرخص أَضْعَف الْأَمريْنِ
فِيهِ.
1499 - / 1820 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين:
((إِن من شَرّ النَّاس عِنْد الله منزلَة يَوْم
الْقِيَامَة الرجل يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَة وتفضي
إِلَيْهِ ثمَّ ينشر سرها)) .
الْإِفْضَاء: الْمُبَاشرَة. وَالْمرَاد بالسر هَا هُنَا
مَا يكون من عُيُوب الْبدن الْبَاطِنَة، وَذَاكَ كالأمانة
فَلَزِمَ كِتْمَانه.
(3/174)
1500 - / 1821 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْعِشْرين: ((إِن لهَذِهِ الْبيُوت عوامر، فَإِذا
رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فحرجوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا،
فَإِن ذهبت وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِر)) .
المُرَاد بالعوامر الْجِنّ. يُقَال للجن: عوامر الْبَيْت
وعمار الْبَيْت.
وَالْمرَاد أَنَّهُنَّ يطول لبثهن فِي الْبيُوت، وَهُوَ
مَأْخُوذ من الْعُمر: وَهُوَ طول الْبَقَاء.
وَقَوله: ((فحرجوا عَلَيْهَا)) أَي قُولُوا: أَنْت فِي حرج
- أَي فِي ضيق - إِن عدت إِلَيْنَا، فَلَا تلومينا أَن
نضيق عَلَيْك بالطرد والتتبع. وَقد شرحنا الحَدِيث فِي
مُسْند أبي لبَابَة، وَذكرنَا الإستئذان هُنَاكَ.
1501 - / 1822 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين:
بَيْنَمَا نَحن نسير مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بالعرج إِذْ عرض شَاعِر ينشد، فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((خُذُوا الشَّيْطَان)) .
العرج: اسْم مَوضِع.
وَقَوله: ((لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا)) قد
ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند سعد ابْن أبي وَقاص، وَبينا الممدوح
والمذموم من الشّعْر. وَهَذَا الحَدِيث يُوهم أَن من أنْشد
الشّعْر فَهُوَ شَيْطَان، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد تمثل
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشعر، وسَمعه من
جمَاعَة، وتمثل بِهِ الصَّحَابَة
(3/175)
وَمن بعدهمْ على مَا بَينا فِي كتَابنَا
الْمُسَمّى ((الْإِشْعَار بِأَحْكَام الْأَشْعَار))
وَهَذَا الحَدِيث قَضِيَّة فِي عين، فَيحْتَمل أَن ذَاك
المنشد كَانَ يطرب أَو يَقُول مَا لَا يجوز، أَو يُرِيد
أَن يُقَاوم الْمُسلمين أهل الْقُرْآن بإنشاده.
1502 - / 1823 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
ذكر وَفد عبد الْقَيْس. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب: تقذفون فِيهِ من
القطياء. فَقَالَ رجل: فَفِيمَ نشرب؟ قَالَ: ((فِي أسقية
الْأدم الَّتِي يلاث على أفواهها)) وَفِي لفظ: ((عَلَيْكُم
بالموكى)) فَقَالُوا: إِن أَرْضنَا كَثِيرَة الجرذان.
القطياء: ضرب من التَّمْر.
وَقَوله: ((تلاث على أفواهها)) أَي توكى وتشد. والموكى:
المشدود. وأصل اللوث الطي والربط، يُقَال: لثت الْعِمَامَة
ألوثها لوثا.
والجرذان جمع جرذ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
1503 - / 1825 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: ((أحقهم بِالْإِمَامَةِ أقرؤهم)) .
هَذَا يدل على مَذْهَبنَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي
مُسْند أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ.
(3/176)
1504 - / 1828 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله يعرض
بِالْخمرِ، وَلَعَلَّ الله سينزل فِيهَا أمرا، فَمن كَانَ
عِنْده مِنْهَا شَيْء فليبعه ولينتفع بِهِ)) فَمَا لبثنا
إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ: ((إِن الله حرم الْخمر))
فَاسْتَقْبلُوا بِمَا كَانَ عِنْدهم طرق الْمَدِينَة
فسفكوها.
فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان فَضِيلَة الفطنة، لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَام لما رأى التَّعْرِيض بذمها اسْتدلَّ
على قرب التَّصْرِيح. وَفِيه الْحَث على حفظ الْأَمْوَال
وبدارها قبل التّلف.
والسفك: الصب والإراقة، إِلَّا أَنه فِي الْأَغْلَب
يسْتَعْمل فِي الدَّم.
1505 - / 1829 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: ذكر مَاعِز.
وَقد سبق فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة، وَبُرَيْدَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: فَاشْتَدَّ واشتددنا خَلفه.
يَعْنِي: عدا، حَتَّى أَتَى عرض الْحرَّة: أَي جَانبهَا.
فانتصب لنا: أَي وقف. فرميناه بجلاميد الْحرَّة: أَي
بحجارتها، حَتَّى سكت: أَي مَاتَ.
1506 - / 1830 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر، جَاءَ رجل فَجعل يصرف بَصَره
يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ((من كَانَ مَعَه فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا
ظهر لَهُ، وَمن كَانَ مَعَه فضل زَاد فليعد بِهِ على من
لَا زَاد لَهُ)) فَذكر
(3/177)
من أَصْنَاف المَال حَتَّى رَأينَا أَنه
لَا حق لأحد منا فِي فضل.
فِي هَذَا الحَدِيث مدح الفطنة، لِأَنَّهُ لما رأى الرجل
ينظر يَمِينا وَشمَالًا علم أَنه مُحْتَاج.
وَالظّهْر: مَا يركب.
ورأينا: ظننا. وَإِنَّمَا ظنُّوا لأَنهم رجحوا الْوُجُوب
من أمره على النّدب.
1507 - / 1831 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((لكل غادر لِوَاء)) . وَقد سبق فِي
مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَفِي تَمام هَذَا الحَدِيث: ((وَلَا غادر أعظم غدرا من
أَمِير عَامَّة)) أَي من الْغدر بالأمير، وَقد بَينا هَذَا
فِي مُسْند ابْن عمر.
1508 - / 1832 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا
الآخر مِنْهُمَا)) .
إِذا اسْتَقر أَمر الْخَلِيفَة وانعقد الْإِجْمَاع
عَلَيْهِ فبويع لآخر بِنَوْع تَأْوِيل كَانَ بَاغِيا،
وَكَانَ أنصاره بغاة يُقَاتلُون قتال الْبُغَاة.
وَقَوله: ((فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا)) لَيْسَ المُرَاد
بِهِ أَن يقدم فَيقْتل، وَإِنَّمَا المُرَاد قَاتلُوهُ،
فَإِن آل الْأَمر إِلَى قَتله جَازَ.
(3/178)
1509 - / 1833 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ: أَن أَعْرَابِيًا أَتَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي فِي غَائِط
مضبة.
الْغَائِط: المطمئن من الأَرْض.
المضبة بِفَتْح الْمِيم: وَهِي الْكَثِيرَة الضباب،
كَمَا يُقَال: أَرض مسبعَة.
وَقَوله: ((إِن الله غضب على سبط بني إِسْرَائِيل))
قَالَ: الزّجاج: السبط فِي اللُّغَة: الْجَمَاعَة
الَّذين يرجعُونَ إِلَى أَب وَاحِد. والسبط فِي
اللُّغَة: الشّجر، فالسبط الَّذين هم من شَجَرَة
وَاحِدَة. وَقَالَ غَيره: الأسباط من ولد إِسْحَاق
بِمَنْزِلَة الْقَبَائِل من ولد إِسْمَاعِيل.
وَإِسْرَائِيل اسْم أعجمي. قَالَ ابْن عَبَّاس:
مَعْنَاهُ: عبد الله.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: فِي
إِسْرَائِيل لُغَات، قَالُوا: إسرال كَمَا قَالُوا
ميكال، وَقَالَ إِسْرَائِيل، وَقَالُوا: إسرائين
بالنُّون، قَالَ أُميَّة على إسرال:
(إِنَّنِي زارد الْحَدِيد على النَّاس ... دروعا سوابغ
الأذيال)
(لَا أرى من يُعِيننِي فِي حَياتِي ... غير نَفسِي
إِلَّا بني إسرال)
وَقَالَ أَعْرَابِي صَاد صيدا فجَاء بِهِ إِلَى أَهله:
(يَقُول أهل السُّوق لما جينا ... هَذَا - وَرب
الْبَيْت - إسرائينا)
(3/179)
وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس
الْعلَّة فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عاف لحم الضَّب، وَذكرنَا اعتراضا وجوابا فِي قَوْله:
((لَعَلَّه مِمَّا مسخ)) فِي مُسْند جَابر بن عبد
الله.
1510 - / 1834 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين:
النَّهْي عَن أكل لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث.
وَقد بَينا فِي مُسْند جَابر أَنه نهى لسَبَب ثمَّ أذن
فِي ذَلِك بعد.
1511 - / 1837 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: ((كَانَت امْرَأَة من بني
إِسْرَائِيل قَصِيرَة تمشي بَين امْرَأتَيْنِ طويلتين،
فاتخذت رجلَيْنِ من خشب وخاتما من ذهب مطبق ثمَّ حشته
مسكا، والمسك أطيب الطّيب)) .
المُرَاد بِالرجلَيْنِ النَّعْلَانِ، فَكَأَنَّهَا
اتَّخذت نَعْلَيْنِ لَهما كَثَافَة فطالت بهما.
والمطبق: الَّذِي دَاخله فارغ.
والمسك طيب مَعْرُوف، وَمن مَنَافِعه أَنه يذهب
الْحزن، ويفرح الْقلب ويقويه، وَيُقَوِّي الدِّمَاغ
وَالْعين، وينشف رطوباتها، وينفع الْأَمْرَاض
الْبَارِدَة السوداوية والبلغمية، وَيزِيد فِي القوى.
1512 - / 1839 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ: صَحِبت ابْن صياد إِلَى
مَكَّة، فَقَالَ لي: مَا لقِيت من النَّاس، يَزْعمُونَ
أَنِّي
(3/180)
الدَّجَّال، أَلَسْت سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((لَا يدْخل
الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة)) ؟ قلت: بلَى. قَالَ: فقد
ولدت فِي الْمَدِينَة وَهَا أَنا أُرِيد مَكَّة.
ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأعْلم مولده ومكانه وَأَيْنَ
هُوَ، قَالَ: فلبسني وأخذتني مِنْهُ ذمَامَة. وَفِي
لفظ: قيل لِابْنِ صياد: أَيَسُرُّك أَنَّك ذَاك الرجل؟
قَالَ: فَقَالَ: لَو عرض عَليّ مَا كرهت.
من الْجَائِز أَن يكون مُرَاد الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يُولد لَهُ، فِي حَالَة
خُرُوجه، وَلَا يدْخل حِينَئِذٍ الْمَدِينَة وَلَا
مَكَّة. وَمن الْجَائِز أَن يكون ذَلِك على
الْإِطْلَاق، فَلهَذَا قَالَ: فلبسني: أَي الْتبس
عَليّ الْأَمر بِمَا قَالَ.
والذمامة: الْحيَاء. وَقد شرحنا هَذِه الْكَلِمَة فِي
مُسْند أبي ابْن كَعْب.
وَقَوله: لَو عرض عَليّ مَا كرهت. دَلِيل على أَنه
لَيْسَ بِصَحِيح الْإِيمَان، لِأَن الْمُؤمن لَا يرضى
أَن يكون فِي مقَام الدَّجَّال.
1513 - / 1840 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ رَسُول الله لِابْنِ صائد:
((مَا تربة الْجنَّة؟)) قَالَ: درمكة بَيْضَاء مسك
خَالص. قَالَ: ((صدقت)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الدَّرْمَك: الحوارى، وَيُقَال
لَهُ درمق أَيْضا. وَقد سبق فِي مُسْند سهل بن سعد:
((يحْشر النَّاس على أَرض بَيْضَاء كقرصة النقي)) .
(3/181)
1514 - / 1841 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: مَذْكُور فِي مُسْند جَابر.
1515 - / 1842 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا أَتَى أَبَا سعيد فَقَالَ:
أردْت أَن أنقل عيالي إِلَى بعض الرِّيف، فَقَالَ: لَا
تفعل؛ خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ النَّاس: إِن عيالنا لخلوف مَا نَأْمَن
عَلَيْهِم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
((إِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين مأزميها)) .
الرِّيف: الخصب.
والخلوف: الْغَيْب.
وَقَوله: ((مَا بَين مأزميها)) أَي مَا بَين مضيقيها.
وَفِي لفظ: ((لَا يصبر أحد على لأوائها)) اللأواء:
الشدَّة. وَقد بَينا حد حرم الْمَدِينَة وتحريمه فِي
مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1516 - / 1844 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث جَيْشًا فَأَصَابُوا
سَبَايَا، فَكَأَن نَاسا تحرجوا من غشيانهن من أجل
أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله عز وَجل:
{وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت
أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 24] .
المُرَاد بالمحصنات هَا هُنَا ذَوَات الْأزْوَاج.
إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم من السبايا فِي الحروب،
فهن حل لكم إِذا انْقَضتْ عدتهن من
(3/182)
أَزوَاجهنَّ. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على
أَن الزَّوْجَيْنِ إِذا سبيا مَعًا وَقعت الْفرْقَة
بَينهمَا كَمَا لَو سبي أَحدهمَا دون الآخر، وَهُوَ
قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أَمر
أَلا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى
تحيض، وَلم يسْأَل عَن ذَات زوج وَلَا غَيرهَا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا سبيا جَمِيعًا فهما على
نِكَاحهمَا.
1517 - / 1846 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن
الشّرْب قَائِما.
إِن قَالَ قَائِل: فقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام أَنه شرب قَائِما، وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل كَمَا فعلت، فَكيف
الْجمع بَين الْحَدِيثين؟ فَالْجَوَاب: من ثَلَاثَة
أوجه: أَحدهَا: ذكره الْأَثْرَم فَقَالَ: أَحَادِيث
الرُّخْصَة أثبت، قَالَ: ونرى أَنه إِن كَانَت
الْكَرَاهَة بِأَصْل ثَابت أَن الرُّخْصَة جَاءَت
بعْدهَا، لأَنا وجدنَا الْعلمَاء من أَصْحَاب النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الرُّخْصَة: عمر وَعلي
وَسعد وعامر بن ربيعَة وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة
وَعبد الله بن الزبير وَعَائِشَة، ثمَّ أجَازه
التابعون: سَالم بن عبد الله وَطَاوُس وَسَعِيد بن
جُبَير وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم،
وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكره ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ:
أَرَادَ بِالْقيامِ الَّذِي نهى عَن الشّرْب فِيهِ
الإستعجال وَالسَّعْي، كَمَا تَقول الْعَرَب: قُم فِي
حاجتنا، وَأَرَادَ بقوله: شرب قَائِما: غير ماش وَلَا
ساع، بل بطمأنينة كالقاعد.
وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ الَّذِي أرَاهُ: أَن
النَّهْي على وَجه الْكَرَاهَة، لعدم
(3/183)
تمكن الشَّارِب، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي من
حَيْثُ الطِّبّ، فَإِن الْمعدة تكون فِي حَال الْقيام
كالمتقلص. وَمَا رُوِيَ أَنه شرب قَائِما يدل على
الْجَوَاز، وَقد كَانَ لعذر. ثمَّ إِنِّي رَأَيْت
أَبَا سُلَيْمَان قد ذكر نَحْو مَا وَقع لي فَقَالَ:
النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما نهي تَأْدِيب لِأَنَّهُ
أرْفق بالشارب، وَذَلِكَ الطَّعَام وَالشرَاب إِذا
تناولهما الشَّارِب على حَال سُكُون وطمأنينة كَانَا
أنجع فِي الْبدن وأمرأ فِي الْعُرُوق، وَإِذا تناولهما
على حَال حَرَكَة اضطرابا فِي الْمعدة وتخضخضا،
فَكَانَ فِيهِ الْفساد وَسُوء الهضم. وَمَا رُوِيَ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه شرب قَائِما
فَهُوَ متأول على الضَّرُورَة الداعية، وَإِنَّمَا فعل
ذَلِك بِمَكَّة، شرب من مَاء زَمْزَم قَائِما،
وَمَعْلُوم أَن الْقعُود هُنَاكَ والطمأنينة كالمتعذر
لإزدحام النَّاس عَلَيْهِ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويتقدون
بِهِ فِي نسكهم، فَرخص فِي هَذَا للْعُذْر.
(3/184)
(79) كشف الْمُشكل فِي مُسْند أبي حَمْزَة
أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ألفا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وَسِتَّة
وَثَمَانُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
((الصَّحِيحَيْنِ)) ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَثَمَانِية
عشر حَدِيثا.
وَفِي الصَّحَابَة آخر اسْمه أنس بن مَالك، ويكنى
أَبَا أُميَّة الكعبي، وَلم يسند عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم سوى حَدِيث وَاحِد، وَقيل: أسْند
ثَلَاثَة، وَلم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيح شَيْء.
1518 - / 1847 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
((من سره أَن يبسط عَلَيْهِ رزقه أَو ينسأ فِي أَثَره
فَليصل رَحمَه)) .
النسأ: التَّأْخِير. وَالْمرَاد طول عمره.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد فرغ من الرزق وَالْأَجَل؟
فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون
المُرَاد بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمر توسعة الرزق
وَصِحَّة
(3/185)
الْبدن، فَإِن الْغنى يُسمى حَيَاة والفقر
يُسمى موتا.
وَالثَّانِي: أَن يكْتب أجل العَبْد مائَة سنة،
وَيجْعَل تركيبه تعمير ثَمَانِينَ، فَإِذا وصل رَحمَه
زَاده الله فِي تركيبه، فَعَاشَ عشْرين سنة أُخْرَى،
قالهما ابْن قُتَيْبَة.
وَالثَّالِث: أَن هَذَا التَّأْخِير فِي الْأَجَل
مِمَّا قد فرغ مِنْهُ، لكنه علق الإنعام بِهِ بصلَة
الرَّحِم، فَكَأَنَّهُ كتب أَن فلَانا يبْقى خمسين سنة
فَإِن وصل رَحمَه بَقِي سِتِّينَ.
وَالرَّابِع: أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة فِي
الْمَكْتُوب، والمكتوب غير الْمَعْلُوم، فَمَا علمه
الله تَعَالَى من نِهَايَة الْعُمر لَا يتَغَيَّر،
وَمَا كتبه قد يمحى وَيثبت، وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب
يَقُول: إِن كنت كتبتني شقيا فامحني. وَمَا قَالَ: إِن
كنت علمتني، لِأَن مَا علم وُقُوعه لَا بُد أَن يَقع.
وَيبقى على هَذَا الْجَواب إِشْكَال: وَهُوَ أَن
يُقَال: إِذا كَانَ المحتوم وَاقعا، فَمَا الَّذِي
أفادت زِيَادَة الْمَكْتُوب ونقصانه؟
فَالْجَوَاب: أَن الْمُعَامَلَات على الظَّاهِر،
والمعلوم الْبَاطِن خَفِي لَا يعلق عَلَيْهِ حكم،
فَيجوز أَن يكون الْمَكْتُوب يزِيد وَينْقص ويمحى
وَيثبت ليبلغ ذَلِك على لِسَان الشَّرْع إِلَى
الْآدَمِيّ، فَيعلم فَضِيلَة الْبر وَسُوء العقوق.
وَيجوز أَن يكون هَذَا مِمَّا يتَعَلَّق
بِالْمَلَائِكَةِ، فتؤمر بالإثبات
(3/186)
والمحو، وَالْعلم الحتم لَا يطلعون
عَلَيْهِ. وَمن هَذَا إرْسَال الرُّسُل إِلَى من لَا
يُؤمر.
وَالْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ
فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخَيْر وبلوغ الْأَغْرَاض،
فينال فِي قصير الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله.
1519 - / 1848 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((اجْعَل
بِالْمَدِينَةِ ضعْفي مَا جعلت بِمَكَّة من الْبركَة))
وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عبد الله بن زيد
الْأنْصَارِيّ.
1520 - / 1849 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي
مُسْند ابْن عمر.
1521 - / 1850 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا
تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا)) .
قَالَ أَبُو عبيد: التدابر: المصارمة والهجران،
مَأْخُوذ من أَن يولي الرجل صَاحبه دبره ويعرض عَنهُ
بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التقاطع.
(3/187)
فَإِن قَالَ قَائِل: التباغض والتحاسد أَمر
يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ، فَكيف يُؤمر الْإِنْسَان
بإزالته؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه
إِنَّمَا يُؤمر بترك مَا يَأْمر بِهِ التباغض والتحاسد
من الْأَفْعَال القبيحة، والذم للمبغوض والمحسود،
فَإِذا كف الْأَفْعَال والأقوال لم يضرّهُ مَا فِي
بَاطِن قلبه، وَصَارَ هَذَا كمن يحب الْخمر
وَالزِّنَا، فَإنَّا نأمره بهجر ذَلِك، وَلَا تضره
شَهْوَة الْقلب.
وَالثَّانِي: أَن يكون هَذَا تَنْبِيها على رفع مَا
يُوجب التباغض والتحاسد، فَكَأَنَّهُ قيل لهَذَا
الْمُؤمن: أَنْت وَهَذَا الشَّخْص قد اتفقتما فِي
الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالدّين، فأنتما أَخَوان،
وَلَا وَجه للتباغض والتحاسد إِلَّا إِيثَار
الدُّنْيَا، فتفكر تعلم أَن الدُّنْيَا الحقيرة لَا
يجوز أَن تفْسد الدّين الْعَزِيز.
وَقَوله: ((لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ)) قد سبق
فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
1522 - / 1851 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة عَام
الْفَتْح، وعَلى رَأسه مغفر، فَلَمَّا نَزعه جَاءَهُ
رجل فَقَالَ: ابْن خطل متلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة.
فَقَالَ: ((اقْتُلُوهُ)) .
هَذَا يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دخل مَكَّة غير محرم. وَهَذَا يدل على ترك
الْإِحْرَام للخائف على نَفسه إِذا دخل مَكَّة. وَقد
تكلمنا فِي هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند جَابر بن عبد
الله.
(3/188)
وَأما ابْن خطل فَإِن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَعثه فِي وَجه من الْوُجُوه مَعَ رجل
من الْأَنْصَار، فَأمر الْأنْصَارِيّ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وثب على
الْأنْصَارِيّ فَقتله وَذهب بِمَالِه، فَأمر بقتْله
لما جنى.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل يعْصم الْحرم من الْقَتْل
الْوَاجِب وَإِقَامَة الْحَد على الْجَانِي؟ على مَا
ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. فَإِن قُلْنَا: لَا
يعْصم فَلَا إِشْكَال، وَإِن قُلْنَا: يعْصم، كَانَ
قتل ابْن خطل خَاصّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَقَوْلِه: ((وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار))
.
1523 - / 1852 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: دخل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَارنَا فحلبنا لَهُ من
شَاة دَاجِن.
الدَّاجِن: الشَّاة المقيمة فِي الدَّار.
والشوب: الْخَلْط والمزج.
وَقد ذكرنَا أَن السّنة إِعْطَاء الْأَيْمن، فِي
مُسْند سهل بن سعد.
1524 - / 1853 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ
أمهاتي يواظبنني على خدمته، وَنزل الْحجاب فِي مبتنى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَب.
قَوْله: يواظبنني. الْمُوَاظبَة: الْمُلَازمَة،
وَالْمعْنَى: يحثثنني على مُلَازمَة خدمته.
(3/189)
والمبتنى من بِنَاء الرجل على أَهله،
وَكَانُوا إِذا أَرَادوا إِدْخَال الرجل على أَهله
بنوا بنيانا يجْتَمع فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة، فَقيل:
بنى فلَان على أَهله، ثمَّ سمي الدُّخُول بِنَاء وَإِن
لم يكن بِنَاء.
وَقد ذكرنَا أَن الْعَرُوس يَقع على الرجل كَمَا يَقع
على الْمَرْأَة، فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي كَونه عَلَيْهِ السَّلَام خرج ثمَّ عَاد ثمَّ
خرج مَا يصف حسن أخلاقه وَشدَّة حيائه، إِذْ صَبر على
مَا يُؤْذِيه وَلم يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ.
وَقَوله: حَتَّى تَرَكُوهُ: أَي تركُوا فَاضل
الطَّعَام لكثرته.
وأصل الحيس الْخَلْط، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ السّمن
وَالتَّمْر والأقط فيطبخونه.
والبرمة: الْقدر.
والتور: قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وتصدعوا: تفَرقُوا.
والحجرات جمع حجرَة، مثل ظلمَة وظلمات. قَالَ الْفراء:
وَجه الْكَلَام ضم الْحَاء وَالْجِيم، وَبَعض الْعَرَب
يفتح الْجِيم فَيَقُول: الحجرات والركبات، وَرُبمَا
خففوها، وَالتَّخْفِيف فِي تَمِيم والتثقيل فِي أهل
الْحجاز.
وَأما قَول نِسَائِهِ: بَارك الله لَك. فَإِنَّهُ قَول
صادر عَن قُوَّة إِيمَان، وَإِن كَانَت فِي قلوبهن
الْغيرَة.
(3/190)
وأسكفة الْبَاب: عتبته، وَهُوَ مَوضِع
الدُّخُول وَالْخُرُوج.
وَآيَة الْحجاب: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا
تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم}
[الْأَحْزَاب: 53] .
وَقَوله: جَاءَ زيد يشكو. قَالَ مقَاتل: قَالَ زيد:
يَا رَسُول الله، إِن فِيهَا كبرا، فَهِيَ تعظم عَليّ
وتؤذيني بلسانها، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ((أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله))
.
وَأما الَّذِي أخفاه فِي نَفسه فَاخْتَلَفُوا فِيهِ
على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: حبها؛ قَالَه ابْن
عَبَّاس.
وَالثَّانِي: عهد عَهده الله إِلَيْهِ أَن زَيْنَب
سَتَكُون لَهُ زَوْجَة، فَلَمَّا جَاءَ زيد يشكو قَالَ
لَهُ: ((اتَّقِ الله وَأمْسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ
الله)) وأخفى ذَلِك الْعَهْد فِي نَفسه، قَالَه عَليّ
بن الْحُسَيْن.
وَالثَّالِث: إيثاره طَلاقهَا، قَالَه قَتَادَة وَابْن
جريج. قَالَ ابْن عقيل: الَّذِي كتمه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم التَّمَنِّي لفراق زيد إِيَّاهَا
وإخفاؤه فِي نَفسهَا استحسانها، وتمنيه أَن
يَتَزَوَّجهَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة.
وَالرَّابِع: أَن الَّذِي أخفاه: إِن طَلقهَا زيد
تزَوجهَا، قَالَه ابْن زيد.
فَلَمَّا طَلقهَا زيد وَانْقَضَت عدتهَا بعث رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا يخطبها لَهُ،
فَقَالَت: مَا أَنا بِصَانِعَةٍ شَيْئا حَتَّى أؤامر
رَبِّي - يَعْنِي أستخيره، فَقَامَتْ إِلَى
مَسْجِدهَا، وَنزل الْقُرْآن يَعْنِي قَوْله تَعَالَى:
{فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا}
[الْأَحْزَاب: 37] وَجَاء رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر
(3/191)
إِذن، فَلهَذَا كَانَت تَفْخَر على أَزوَاج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: زَوجنِي
الله من فَوق سبع سموات.
1525 - / 1854 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: سقط
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن فرسه فجحش شقَّه
الْأَيْمن، فصلينا وَرَاءه قعُودا.
وَقد أجَاز أَحْمد بن حَنْبَل أَن يُصَلِّي النَّاس
خلف إِمَام الْحَيّ قعُودا إِذا مرض مَرضا يُرْجَى
بُرْؤُهُ، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن
عبد الله.
1526 - / 1855 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ عبد
الله بن حذافة: من أبي؟ وَكَانَ إِذا لاحى يدعى إِلَى
غير أَبِيه، فَقَالَ: ((أَبوك حذافة)) .
الملاحاة: الْمُنَازعَة والمخاصمة.
والإقتراف: الإكتساب، وَالْإِشَارَة إِلَى الزِّنَا.
والخنين بِالْخَاءِ كالبكاء مَعَ مُشَاركَة فِي
الصَّوْت من الْأنف. وَقد صحفه بَعضهم فقرأه
بِالْحَاء. وَإِنَّمَا بَكت الصَّحَابَة لأَنهم لما
أحفوه فِي الْمَسْأَلَة: أَي استقصوا عَلَيْهِ وألحوا
وأسرفوا صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: ((لَا تَسْأَلُونِي
عَن شَيْء إِلَّا بيّنت لكم)) وَإِنَّمَا قَالَه
غَضبا، فبكوا لغضبه.
1527 - / 1856 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَت
الْأَنْصَار أهل الأَرْض وَالْعَقار، وَكَانَت أم أنس
قد أَعْطَتْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عذاقا لَهَا، فَأَعْطَاهَا أم أَيمن، فَلَمَّا فرغ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتال أهل
خَيْبَر رد
(3/192)
الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار منائحهم
الَّتِي كَانُوا منحوهم من ثمارهم، فَرد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أُمِّي عذاقها، وَأعْطى
أم أَيمن مكانهن من حَائِطه.
الْعقار: النّخل.
والعذاق بِكَسْر الْعين جمع عذق بِفَتْحِهَا: وَهِي
النّخل.
والمنحة: الْعَطِيَّة. وَهِي تكون على وَجْهَيْن:
تمْلِيك الأَصْل، أَو منفعَته مُدَّة.
وَإِنَّمَا رد الْمُهَاجِرُونَ المنائح لأَنهم لم
يملكوهم الْأُصُول.
1528 - / 1857 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر:
((إِنَّكُم سَتَجِدُونَ بعدِي أَثَرَة شَدِيدَة
فَاصْبِرُوا)) .
الأثرة: الإستئثار بالشَّيْء.
وَقَوله: ((إِن قُريْشًا حدثاء عهد بجاهلية ومصيبة))
لأَنهم أصيبوا يَوْم بدر وَيَوْم فتح مَكَّة.
والشعب: طَرِيق بَين جبلين، وَهُوَ أضيق من الْوَادي،
فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَو سلك النَّاس طَرِيقا فِيهِ
سَعَة وسلكت الْأَنْصَار طَرِيقا ضيقا لَسَلَكْت
طَرِيق الْأَنْصَار.
فَأَما الطُّلَقَاء فهم من أطلق وَمن عَلَيْهِ من
مسلمة الْفَتْح.
1529 - / 1860 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي
الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة حَيَّة.
(3/193)
حَيَاة الشَّمْس أَن يكون حرهَا غير فاتر،
ولونها غير مصفر.
والإرتقاب: الإنتظار.
وَقد سبق معنى قَوْله: ((بَين قَرْني شَيْطَان)) فِي
مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1530 - / 1861 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قد
تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1531 - / 1862 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَنه
رأى فِي يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خَاتمًا من ورق.
الْوَرق: الْفضة.
والوبيص: اللمعان والبريق.
وراث: أَبْطَأَ.
ونظرنا: بِمَعْنى انتظرنا، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَقُولُوا انظرنا} [الْبَقَرَة: 104] .
وَشطر اللَّيْل: نصفه.
وَقَوله: كَأَنِّي بوميض الْخَاتم أَو بصيصه. يُقَال:
أومض: إِذا أَشَارَ إِشَارَة خُفْيَة، وَمِنْه وميض
الْبَرْق. والبصيص كالوميض.
(3/194)
1532 - / 1863 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
عشر: كشف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّتْر
وَكَأن وَجهه ورقة مصحف.
إِنَّمَا شبهه بِوَرَقَة الْمُصحف لذهاب اللَّحْم ورقة
الْجلد وصفاء الْجِسْم من الدَّم.
وَمعنى نكص: رَجَعَ.
1533 - / 1864 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((لَو
أَن لِابْنِ آدم وَاديا من ذهب أحب أَن يكون لَهُ
واديان)) . قَالَ أنس عَن أبي: كُنَّا نرى هَذَا من
الْقُرْآن حَتَّى نزلت: {أَلْهَاكُم التكاثر}
[التكاثر: 1] يَعْنِي: بَان بنزول هَذِه الْآيَة أَن
مثل هَذَا الْمَعْنى فِي كَلَام الله عز وَجل.
1534 - / 1865 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ذكر
الْحَوْض، وَقد تقدم فِي مُسْند حَارِثَة بن وهب
وَغَيره.
1535 - / 1868 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْعِشْرين: سُئِلَ عَن الْكَبَائِر.
المُرَاد بالكبائر: مَا يكبر أمره ويعظم عِنْد الله.
وَإِنَّمَا ذكر مَا يَقع فِي الْعَرَب كثيرا من الشّرك
وَقتل النَّفس، وَإِلَّا فالزنا عَظِيم وَمَا ذكره.
وَرُبمَا ظن ظان أَن شَهَادَة الزُّور أعظم من
الْقَتْل لِأَنَّهُ جعلهَا أكبر الْكَبَائِر، وَلَيْسَ
كَذَلِك، إِلَّا أَن يُرِيد بِشَهَادَة الزُّور
ادِّعَاء شريك مَعَ الله
(3/195)
سُبْحَانَهُ، فَإِن لم يرد ذَلِك فشهادة
الزُّور فِي بَاب معاملات الْخلق واقتطاع أَمْوَالهم
أكبر كَبِير.
1536 - / 1869 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْعِشْرين: أَن رجلا اطلع من بعض حجر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص - أَو قَالَ: بمشاقص -
وَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يخْتل الرجل ليطعنه.
المشقص: سهم عريض النصل، وَجمعه مشاقص.
ويختله: بِمَعْنى يترقب الفرصة مِنْهُ. وَقد سبق حكم
هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل بن سعد.
1537 - / 1870 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْعِشْرين: ((إِذا سلم عَلَيْكُم أهل الْكتاب
فَقولُوا: وَعَلَيْكُم)) .
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث: أَن أهل الْكتاب كَانُوا
يَقُولُونَ: السام عَلَيْكُم، يعنون بالسام الْمَوْت،
فَلم يصلح أَن يُقَال لَهُم فِي جَوَاب هَذَا:
وَعَلَيْكُم السَّلَام، وَلم يحسن فِي بَاب حسن الْخلق
أَن يُقَال: وَعَلَيْكُم السام، لأَنهم كَانُوا
يمجمجون الْكَلَام بِهِ فَلَا يبين لكل أحد، فَلَا
يصلح أَن يُقَابل الممجمج بالمصرح، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
وَعَلَيْكُم، أَي مَا قُلْتُمْ.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث: ((إِنَّه يُسْتَجَاب لنا فيهم
وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم فِينَا)) .
(3/196)
1538 - / 1871 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْعِشْرين: كَانَ يتنفس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا.
أما التنفس ثَلَاثًا فقد بَيناهُ فِي مُسْند أبي
قَتَادَة.
وَأما كَونه أروى فَإِنَّهُ إِذا جرعت جرعة ثمَّ صَبر
عَلَيْهَا ثمَّ جرعت الْأُخْرَى كَانَ أروى للكبد من
جعل الجرعتين وَاحِدَة، لِأَنَّهَا تشرب الْقَلِيل
الأول بلطف لقوتها على هضمه من أجل قلته، ثمَّ تشرب
الثَّانِي كَذَلِك. وَكَونه أَبْرَأ لهَذَا الْمَعْنى
أَيْضا. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن العب يُورث
الكباد. أَي وجع الكبد؛ وَذَلِكَ أَن المَاء إِذا
تكاثر على الكبد آذاها. وَكَونه أمرأ، فالمريء:
التَّام الإنهضام الْمَحْمُود الْعَاقِبَة.
1539 - / 1872 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْعِشْرين: أنفجنا أرنبا بمر الظهْرَان.
قَوْله: أنفجنا قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي ذعرناها
فعدت، وَهَذَا كَمَا تَقول: أعرق الْفرس: أَي أعده،
لِأَنَّهُ إِذا عدا عرق، فيكتفى بِذكر الْعرق من ذكر
الْعَدو، وَكَذَلِكَ الأرنب إِذا اثيرت انتفجت،
فَاكْتفى بِذكر الإنتفاج من ذكر الْعَدو.
(3/197)
وَمر الظهْرَان مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة.
وَقَوله: فلغبوا من اللغوب: وَهُوَ التَّعَب والإعياء.
1540 - / 1873 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْعِشْرين: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن تصبر الْبَهَائِم.
أَي أَن تحبس للرمي، وَكَانُوا يحبسونها ويرمونها
بِالنَّبلِ كَمَا بَينا فِي مُسْند ابْن عمر.
1541 - / 1874 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيَّة أَتَت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا.
هَذَا كَانَ فِي غزَاة خَيْبَر. وَاسم هَذِه
الْيَهُودِيَّة زَيْنَب بنت الْحَارِث امْرَأَة سَلام
بن مشْكم، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: الثبت عندنَا أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا.
وَقَوله: مَا زلت أعرفهَا فِي لَهَوَات رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. اللهوات جمع لهاة: وَهِي
اللحمة المتدلية من الحنك الْأَعْلَى، فَهِيَ حَمْرَاء
مُتَعَلقَة.
1542 - / 1875 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة على أوضاح
لَهَا.
وَالْمعْنَى: قَتلهَا لأجل أوضاح، والأوضاح: الْحلِيّ
من الْفضة،
(3/198)
وَاحِدهَا وضح. والحلي والحلي: مَا يتحلى
بِهِ: أَي يتزين.
والرمق: بَاقِي النَّفس.
وَقَوله: ((أَقْتلك فلَان؟)) فَأَشَارَتْ: أَن لَا.
الْمَعْنى أَنه كَانَ يذكر لَهَا وَاحِد بعد وَاحِد من
المتهمين إِلَى أَن ذكر الْقَاتِل فَأَشَارَتْ: أَن
نعم، وإشارتها لم توجب عَلَيْهِ الْقَتْل، وَإِنَّمَا
قتل لِأَنَّهُ اعْترف، وَقد ذكر فِي بعض أَلْفَاظ
الحَدِيث: فَأقر، وَإِنَّمَا يحذف ذَلِك بعض الروَاة
اختصارا واعتمادا على فهم السَّامع، لِأَنَّهُ قد ثَبت
فِي أصُول الشَّرِيعَة أَنه لَا يقتل أحد بِدَعْوَى
أحد.
والرضخ: كسر الشَّيْء ودقه. والرض. الدق أَيْضا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب الْقصاص فِي
الْقَتْل بالمثقل خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: لَا
يجب الْقصاص إِلَّا فِيمَا لَهُ حد.
1543 - / 1876 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن أم
أنس حِين ولدت انْطَلقُوا بِالصَّبِيِّ إِلَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحنكه.
التحنيك قد سبق: وَهُوَ أَن يمضغ تَمرا وَغَيره فيدلك
بِهِ حنك الصَّبِي. والحنك الْأَعْلَى: سقف أَعلَى
الْفَم.
والمربد قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
فَأَما وسم الْبَهَائِم فَجَائِز، وَلَيْسَ ذَلِك من
الْمثلَة والتعذيب للحيوان، وَإِنَّمَا جَازَ لموْضِع
الْحَاجة إِلَى معرفَة مَال الرجل من مَال
(3/199)
غَيره، وَقد نهى عَن الوسم فِي الْوَجْه.
والخميصة الْجَوْنِية: كسَاء أسود معلم، فَإِذا لم يكن
معلما فَلَيْسَ بخميصة.
وَقَوله: يهنأ بَعِيرًا لَهُ. يُقَال: هنأت الْبَعِير
أهنؤه، وَهَذِه نَاقَة مهنأة بالهناء: وَهُوَ ضرب من
القطران تداوى بِهِ الْإِبِل من الجرب.
وَقَوْلها: قد هدأت نَفسه. وَهَذَا لِأَن النَّفس
كَانَت قلقة شَدِيدَة الإنزعاج بِالْمرضِ فسكنت
بِالْمَوْتِ، فَلذَلِك قَالَت: أَرْجُو أَن يكون قد
استراح، وَهَذَا من المعاريض، وَإِنَّمَا
يَسْتَعْمِلهُ أَرْبَاب الذكاء والفطنة عِنْد الْحَاجة
إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْمَوْلُود سَمَّاهُ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عبد الله، وجاءه أَوْلَاد. وَقَوله:
فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قَرَأَ الْقُرْآن،
يَعْنِي لهَذَا الْمَوْلُود. وَاسم أَوْلَاد عبد الله:
الْقَاسِم وَعُمَيْر وَزيد وَإِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب
وَإِسْحَاق وَمُحَمّد وَعبد الله وَإِبْرَاهِيم وَعمر
وَمعمر وَعمارَة، وَكَانَ من هَؤُلَاءِ تِسْعَة قد
قرأوا الْقُرْآن، وَكَانَ لَهُ من الْبَنَات عَبدة
وكلثم ورقية وَأم أبان.
والطروق: إتْيَان الْمنَازل لَيْلًا.
والمخاض: تمخض الْوَلَد فِي بطن أمه: أَي تحركه
لِلْخُرُوجِ.
والعجوة: نوع من التَّمْر.
وَقَوله: فلاكها: أَي أدارها فِي فِيهِ بالمضغ.
والتلمظ: إدارة اللِّسَان فِي ذوق مَا يُؤْكَل،
كالإستطابة لَهُ.
(3/200)
وفغرفاه: بِمَعْنى فَتحه. يُقَال: انفغر
النُّور: إِذا تفتح.
والمج: صب المَاء من الْفَم بِقُوَّة.
1544 - / 1878 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأَبا
طَلْحَة وَأبي بن كَعْب من فضيخ زهو وتمر.
الفضيخ: الْبُسْر يفضخ: أَي يشدخ وَيتْرك فِي وعَاء
حَتَّى ينش.
والفضخ: الْكسر.
والزهو: احمرار الْبُسْر واصفراره.
والمهراس كالحوض.
وَقَوله: أهرقها: أَي أرقها.
والقلال جمع قلَّة: وَهِي الْآنِية الَّتِي كَانُوا
يشربون فِيهَا.
واكفأهها: اقلبها.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب قبُول خبر
الْوَاحِد إِذا كَانَ ثِقَة.
وَفِيه دَلِيل أَن الْخمر لَا يجوز استصلاحها بالعلاج
لتصير خلا، إِذْ لَو جَازَ لما أضاعوها. وَفِيه دَلِيل
على أَن النَّبِيذ خمر، لأَنهم أراقوا مَا لَيْسَ
بِمَاء الْعِنَب.
1545 - / 1879 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: أَن جدته مليكَة دعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لطعام، قَالَ: فَقُمْت إِلَى
حَصِير لنا قد اسود من طول مَا لبس - أَي اسْتعْمل.
(3/201)
والنضح: الرش.
وَقد بَين هَذَا الحَدِيث جَوَاز صَلَاة التَّطَوُّع
فِي جمَاعَة. وَبَين موقف الْمَرْأَة وَأَنه خلف
الرِّجَال، فَإِن صلت إِلَى جنب الرجل فقد أساءت
وصلاتها وَصَلَاة من يَليهَا صَحِيحَة وَهَذَا قَول
مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل
صَلَاة من عَن يَمِينهَا وَعَن يسارها وَمن يحاذيها
وَمن خلفهَا. وَقَالَ دَاوُد: تبطل صلَاتهَا وَلَا
تبطل صَلَاة الرجل.
وَقد نبه الحَدِيث على أَن إِمَامَة الْمَرْأَة
للرِّجَال لَا تجوز، لِأَنَّهُ لما لم يجز أَن تساويهم
فِي الصَّفّ كَانَت من أَن تتقدمهم أبعد.
وَفِيه دَلِيل على أَنه يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم فِي
الصَّفّ الأول الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل.
1546 - / 1880 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: التمس النَّاس الْوضُوء، فَأتي بقدح
رحراح.
الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ
بِهِ.
والرحراح: الْوَاسِع.
والمخضب: شبه المركن، نَحْو الإجانة.
والزوراء: مَكَان قد بَين فِي الحَدِيث.
وَقَوله: يَنْبع من بَين أَصَابِعه. أَصْحَاب الحَدِيث
يَقُولُونَ: يَنْبع
(3/202)
بِضَم الْبَاء، وَقَالَ لنا عبد الله بن
أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ يَنْبع بِفَتْح
الْبَاء.
والزهاء فِي الْعدَد مَمْدُود. يُقَال: قوم ذَوُو
زهاء: أَي ذَوُو عدد وَكَثْرَة. وهم زهاء مائَة: أَي
قدر مائَة.
1547 - / 1881 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: عَمَدت أم سليم إِلَى مد من شعير
جشته وَجعلت مِنْهُ خطيفة.
الْمَدّ: ربع الصَّاع.
والجش: الدق.
والخطيفة: أَن يُؤْخَذ لبن ثمَّ يذر عَلَيْهِ
الدَّقِيق يطْبخ فيلعقه النَّاس ويختطفونه بِسُرْعَة.
قَالَ ابْن السّكيت: الخطيفة: الدَّقِيق يذر على
اللَّبن يطْبخ فيلعقه النَّاس.
والوغيرة: اللَّبن الْمَحْض وَحده يسخن حَتَّى ينضج،
وَرُبمَا جعل فِيهِ السّمن.
والبسيسة: سويق أَو دَقِيق يثرى بِزَيْت أَو سمن.
والربيكة: تمر يعجن بِسمن أَو أقط.
والفريقة: التَّمْر والحلبة تجْعَل للنفساء.
والخزيرة: أَن ينصب الْقدر بِلَحْم يقطع قطعا صغَار
على مَاء
(3/203)
كثير، فَإِذا نضج ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق،
فَإِن لم يكن فِيهَا لحم فَهِيَ عصيدة.
واللهيدة: الرخوة من العصائد، لَيست بحساء فتحسى،
وَلَا غَلِيظَة فتلقم، وَهِي الحريرة.
والوكيرة: طَعَام يصنع عِنْد بِنَاء الْبَيْت.
والنقعية: طَعَام القادم من سفرة.
وَطَعَام الْخِتَان الْإِعْذَار.
وَطَعَام النُّفَسَاء: الخرس.
وَالَّذِي يتَّخذ عِنْد بِنَاء الرجل على أَهله:
الْوَلِيمَة.
والمأدبة تجمع هَذَا كُله.
والعكة: زق اللَّبن.
وَقَوله: فأدمته: أَي جعلت لَهُ أدما. وَلَا تمد
قَوْله فأدمته؛ فَإِن بعض قرأة الحَدِيث يمده وَهُوَ
غلط، كَذَلِك قَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد
النَّحْوِيّ.
وَقَوله: هيأها: أَي سوى مَوضِع الْأَصَابِع فِيهَا.
والسؤر بِالْهَمْز: الْبَقِيَّة، يُقَال: أسأر فِي
الْإِنَاء: أَي أبقى.
1548 - / 1882 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ أَبُو طَلْحَة أحب أَمْوَاله
إِلَيْهِ بيرحاء.
الَّذِي سمعناه من أشياخنا بيرحى بِفَتْح الْبَاء.
وَقَالَهَا بعض الْحفاظ بِالْكَسْرِ.
(3/204)
ورابح بِالْبَاء أصح من رَايِح بِالْيَاءِ.
وَقد دلّ الحَدِيث على أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب
أولى من الْأَجَانِب.
وَقَوله: بني حديلة. أَكثر الْمُحدثين يَرْوُونَهُ
بِالْجِيم، وَالصَّوَاب بِالْحَاء المضمومة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة اتِّخَاذ الْبَسَاتِين،
وَإِبَاحَة دُخُول الْعلمَاء والفضلاء الْبَسَاتِين
طلبا للتفرج وَالنَّظَر إِلَى مَا يسلي النَّفس
وَيُوجب شكر الله عز وَجل. وَفِيه إِبَاحَة استعذاب
المَاء وَاخْتِيَار الأجود مِنْهُ.
1549 - / 1883 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ برد نجراني.
النجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان: وَهِي بَلْدَة
بِالْيمن.
وجبذ بِمَعْنى جذب، وهما لُغَتَانِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث بَيَان حلم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وصفحه، وَهُوَ يعلم الْعلمَاء الصفح
عَن الْجُهَّال.
1550 - / 1887 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَا يدْخل على أحد من النِّسَاء إِلَّا على
أَزوَاجه، إِلَّا أم سليم.
أم سليم هِيَ أم أنس، وَكَانَت تقرب إِلَيْهِ من
النّسَب. وَسَنذكر هَذَا فِي مُسْند أم حرَام. وَسمعت
بعض الْحفاظ يَقُول: كَانَت أم سليم
(3/205)
أُخْت آمِنَة من الرضَاعَة.
1551 - / 1888 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ: أَصَابَت النَّاس سنة.
السّنة: الجدب.
والقزعة مَفْتُوحَة الزَّاي: الْقطعَة من السَّحَاب.
وَقَوله: رَأَيْت السَّحَاب يتحادر على لحيته، يَعْنِي
الْمَطَر. وَهَذَا يدل على أَن السّقف وكف عَلَيْهِ.
وَقَوله: مثل الجوبة. يَعْنِي الْمَدِينَة انجاب
السَّحَاب عَنْهَا: أَي انْقَطع وانكشف فَبَقيت
كالجوبة: وَهِي الوهدة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
الجوبة هَاهُنَا: الترس.
والجود بِفَتْح الْجِيم: الْمَطَر الْكثير.
وَقَوله: أمْطرت، يُقَال: مطرَت وأمطرت.
وَقَوله: ((حوالينا)) فِيهِ إِضْمَار، تَقْدِيره: أمطر
حوالينا، أَو اجْعَلْهُ حوالينا.
والآكام جمع أكمة: وَهِي مَا ارْتَفع من الأَرْض
كَالتَّلِّ، وَجمعه أكم، ثمَّ يجمع على الإكام
والآكام.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والظراب دون الْجبَال،
وَاحِدهَا ظرب.
(3/206)
وتكشطت: أَي تكشفت.
والإكليل: الَّذِي يوضع على الرَّأْس، سمي إكليلا
لإحاطته بِالرَّأْسِ، وكل شَيْء دَار بِشَيْء من
جَمِيع جوانبه فَهُوَ إكليل لَهُ. فَكَأَن الْمَطَر
لما أحَاط بجوانب الْمَدِينَة كَانَ كالإكليل لَهَا.
والكراع: اسْم وَاقع على جملَة الْخَيل.
والملاء جمع ملاءة: وَهِي كالرداء.
وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ الصِّحَاح مِمَّا لم
يذكرهُ الْحميدِي: مَا زَالَت تمطر حَتَّى كَانَت
الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَأتى الرجل فَقَالَ: يَا
رَسُول الله: بشق الْمُسَافِر. قَالَ البُخَارِيّ:
بشق: اشْتَدَّ أَي اشْتَدَّ السّفر عَلَيْهِ. وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: بشق وبشك: إِذا أسْرع. وَقَالَ
الْخطابِيّ: بشق لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ لثق
الْمُسَافِر، من اللثق وَهُوَ الْوَصْل، يُقَال: لثق
الطَّرِيق، ولثق الثَّوْب: إِذا أَصَابَهُ ندى
الْمَطَر ولطخ الطين. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مشق
بِالْمِيم، يُرِيد أَن الطَّرِيق صَارَت مزلة زلقا.
وَمِنْه: مشق الْخط. أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز
قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا
أَبُو عمر بن مهْدي قَالَ: أخبرنَا الْحُسَيْن بن
إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب بن
سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر عَن
(3/207)
سُلَيْمَان بن بِلَال قَالَ: قَالَ يحيى بن
سعيد: سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول: أَتَى أَعْرَابِي
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ:
يَا رَسُول الله، هَلَكت الْمَاشِيَة، هَلَكت النَّاس،
فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو
الله، فَمَا خرجنَا من الْمَسْجِد حَتَّى مُطِرْنَا،
فَمَا زلنا نمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى،
فَأتى الرجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله، لثق الْمُسَافِر،
وَمنع الطَّرِيق.
1552 - / 1889 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول
الله، إِنِّي أصبت حدا، فأقمه عَليّ. وَلم يسْأَله،
قَالَ: وَحَضَرت الصَّلَاة، فصلى مَعَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة قَامَ إِلَيْهِ الرجل
فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا فأقم فِي
كتاب الله. قَالَ: ((أَلَيْسَ قد صليت مَعنا؟)) قَالَ:
نعم. قَالَ: ((فَإِن الله قد غفر لَك ذَنْبك، أَو
حدك)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن لَا يكْشف عَن
الْحُدُود، بل تدرأ.
وَهَذَا الرجل لم يفصح بِأَمْر يلْزمه شَيْئا فِي
الحكم، وَلَعَلَّه أصَاب صَغِيرَة فظنها حدا.
1553 - / 1890 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمَدِينَة ((لَيْسَ نقب
من أنقابها إِلَّا عَلَيْهِ مَلَائِكَة)) .
النقب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَجمعه نقاب.
(3/208)
وَقَوله: ((ثمَّ ترجف الْمَدِينَة)) أَي
تضطرب. والرجفة حَرَكَة كالزلزلة.
والرواق كالفسطاط، على عماد وَاحِد فِي وَسطه،
وَالْجمع أروقة.
ورواق الْبَيْت: مَا بَين يَدَيْهِ.
1554 - / 1891 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: رأى أَعْرَابِيًا يَبُول فِي
الْمَسْجِد فَقَالَ: ((دَعوه)) .
إِنَّمَا قَالَ: ((دَعوه)) لِأَنَّهُ قد فَاتَ
الْأَمر، فَلَا ينفع قطع بَوْله عَلَيْهِ، إِذْ
النَّجَاسَة قد حصلت، وَقطع الْبَوْل يُؤْذِيه.
وتزرموه: الزَّاي مُقَدّمَة على الرَّاء، وَالْمعْنَى:
لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله. قَالَ أَبُو عبيد:
الإزرام: الْقطع، وأزرمه غَيره: قطعه، وزرم الْبَوْل
نَفسه: إِذا انْقَطع.
والذنُوب: الدَّلْو الْعَظِيمَة.
وَقَوله: فشنه عَلَيْهِ: أَي فرقه. وَلَو رُوِيَ
بِالسِّين كَانَ لَهُ وَجه؛ لِأَن السن الصب فِي
سهولة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن النَّجَاسَة إِذا
كَانَت على الأَرْض فغمرت بِالْمَاءِ استهلكت وطهر
الْمَكَان. وَلَوْلَا أَنه يطهر لم يَأْمر بذلك،
لِأَنَّهُ قد تكْثر النَّجَاسَة.
وَقد علم هَذَا الحَدِيث كَيْفيَّة الْإِنْكَار على
الْجُهَّال، وَتَعْلِيم من لَا يعلم، والرفق بهم.
(3/209)
1555 - / 1892 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: صليت مَعَ رَسُول الله الظّهْر
بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَصليت مَه الْعَصْر بِذِي
الحليفة رَكْعَتَيْنِ.
معنى هَذَا الحَدِيث أَنه صلى بِالْمَدِينَةِ مُقيما،
فَلَمَّا خرج إِلَى السّفر قصر.
1556 - / 1893 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: ((خير دور الْأَنْصَار بَنو
النجار)) .
يَعْنِي بالدور الْقَبَائِل.
1557 - / 1894 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: مَا صليت وَرَاء إِمَام قطّ أخف
صَلَاة، وَلَا أتم صَلَاة من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ليسمع بكاء الصَّبِي
فيخفف مَخَافَة أَن تفتتن أمه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَعْلِيم الْأَئِمَّة الرِّفْق
بالمأمومين. وَقد سبق ذكر هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند
أبي مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله.
1558 - / 1895 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمِعْرَاج.
قَالَ أنس: جَاءَهُ ثَلَاثَة نفر قبل أَن يُوحى
إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام،
ثمَّ أَتَوْهُ لَيْلَة أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه وتنام
عَيناهُ، فَلم يكلموه
(3/210)
حَتَّى احتملوه فوضعوه عِنْد بِئْر
زَمْزَم، فتولاه مِنْهُم جِبْرِيل، فشق مَا بَين نَحره
إِلَى لبته.
النَّحْر: أول الصَّدْر، وَهُوَ مَوضِع القلادة.
وَقد ذكرنَا اللبة فِي مُسْند مَالك بن صعصعة،
وَذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر، وَذكرنَا هُنَالك
معنى حَشْو صَدره إِيمَانًا وَحِكْمَة.
وَأما اللغاديد فَهِيَ لحمات فِي اللهوات، وَاحِدهَا
لغدود. وَقد ذكرنَا اللهوات فِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْعِشْرين من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: عنصرهما: أَي أَصلهمَا.
وَقَول الرَّاوِي: فأوعيت مِنْهُم: أَي هَذَا الَّذِي
جعلته فِي وعائي الَّذِي كتبته عَن أنس. يُقَال: وعيت
الْعلم، وأوعيت الشَّيْء فِي الْوِعَاء.
والأذفر: الْحَدِيد الرَّائِحَة. يُقَال: مسك أذفر:
أَي حَدِيد الرَّائِحَة. والذفر: حِدة الرَّائِحَة
الطّيبَة والخبيثة.
قَوْله: فَدَنَا الْجَبَّار: أَي قرب. فَتَدَلَّى: أَي
زَاد فِي الْقرب.
وَقَوله: داورت: أَي درت مَعَهم متلطفا بهم.
وَقَوله: راودت: أَي طلبت مِنْهُم مَا أريده.
وَقَوله: ((ثمَّ استيقظت)) دَلِيل على أَنه كَانَ
ذَلِك فِي الْمَنَام. وَلَا يَخْلُو هَذَا الحَدِيث من
شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يكون رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قد رأى فِي الْمَنَام مَا جرى لَهُ
مثله فِي الْيَقَظَة بعد سِنِين؛ فَإِن الْمِعْرَاج
كَانَ بعد
(3/211)
اثْنَتَيْ عشرَة سنة من النُّبُوَّة. أَو
أَن يكون فِي الحَدِيث تَخْلِيط من الروَاة.
وَقد انزعج لهَذَا الحَدِيث أَبُو سُلَيْمَان
الْخطابِيّ وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مَنَام، ثمَّ هُوَ
حِكَايَة يحكيها أنس ويخبر بهَا من تِلْقَاء نَفسه، لم
يعزها إِلَى رَسُول الله وَلم يروها عَنهُ، وَمَا ذكر
فِيهِ من التدلي إِمَّا رَأْي أنس، وَإِمَّا من شريك
بن عبد الله بن أبي نمر، فَإِنَّهُ كثير التفرد
بمناكير الْأَلْفَاظ.
قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أنس من غير
طَرِيق شريك؛ فَلم يذكر فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ
الشنيعة، فَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُقَوي الظَّن أَنَّهَا
صادرة من شريك. قَالَ: وَفِي هَذَا الحَدِيث لَفْظَة
أُخْرَى تفرد بهَا شريك وَلم يذكرهَا غَيره، وَهِي
قَوْله: فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ، وَالْمَكَان لَا
يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ مَكَان
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَكَذَلِكَ قَالَ
القَاضِي أَبُو يعلى فِي ((الْمُعْتَمد)) : إِن الله
لَا يُوصف بِالْمَكَانِ. وَقد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن
حزم الأندلسي: فِي هَذَا الحَدِيث أَلْفَاظ مقحمة،
والآفة فِيهَا من شريك، مِنْهَا قَوْله: قبل أَن يُوحى
إِلَيْهِ، فَإِن الْمِعْرَاج كَانَ بعد الْوَحْي
بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عشرَة سنة. وَمِنْهَا قَوْله: دنا
الْجَبَّار. وَعَائِشَة تروي عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذِي دنا فَتَدَلَّى جِبْرِيل.
قلت: وَمَتى قُلْنَا إِن هَكَذَا كَانَ مناما فَحكم
الْمَنَام غير حكم الْيَقَظَة، فَلَا يُنكر مَا يذكر
فِيهِ.
(3/212)
وَقَوله: ((اخْتَرْت الْفطْرَة)) مَذْكُور
فِي مُسْند مَالك بن صعصعة.
وَقَوله فِي يُوسُف: ((قد أعطي شطر الْحسن)) . قَالَ
ابْن قُتَيْبَة: معنى كَونه أعطي شطر الْحسن أَن الله
تَعَالَى جعل لِلْحسنِ غَايَة وَاحِدًا، وَجعله لمن
شَاءَ من خلقه، إِمَّا للْمَلَائكَة أَو للحور، فَجعل
ليوسف نصف ذَلِك الْحسن، فَكَأَنَّهُ كَانَ حسنا
مقاربا للوجوه الْحَسَنَة، وَلَيْسَ كَمَا يزْعم
النَّاس من أَنه أعطي نصف الْحسن وَأعْطِي النَّاس
كلهم نصف الْحسن.
والفيلة: جمع فيل.
والقلال: الجرار.
1559 - / 1896 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: ((فضل
عَائِشَة)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1560 - / 1897 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين:
ركبت دابتها فوقصت بهَا، فَسَقَطت عَنْهَا فَمَاتَتْ.
معنى فوقصت بهَا: دقَّتْ عُنُقهَا. وَقد رَوَاهُ قوم:
فرقصت بهَا، يُقَال: رقصت النَّاقة: إِذا خبت: وَهُوَ
فَوق الْمَشْي. وَحجَّة من روى هَذَا قَوْله: فَسَقَطت
عَنْهَا فَمَاتَتْ، فَدلَّ على أَن الرقص قبل
السُّقُوط.
(3/213)
1561 - / 1899 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ربعَة من الْقَوْم.
الربعة: بَين الطَّوِيل والقصير.
وَقَوله: أَزْهَر اللَّوْن: أَي بَين اللَّوْن. وَفِي
رِوَايَة: لَيْسَ بالأبيض الأمهق. والأمهق: الَّذِي
يَحْكِي لَونه لون الجص. وَقيل: بل الَّذِي يضْرب
بياضه إِلَى الزرقة.
والآدم: الأسمر.
والجعودة فِي الشّعْر: انثناؤه وانقباضه.
والقطط: الَّذِي قد زَادَت جعودته. والسبط ضد
الْجَعْد: وَهُوَ السهل المسترسل.
وَالرجل مُفَسّر فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: فَلبث بِمَكَّة عشر سِنِين ينزل عَلَيْهِ.
أما لبثه بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة فَثَلَاث عشرَة سنة
بِلَا خلاف. وَإِنَّمَا بَقِي مِنْهَا ثَلَاث سِنِين
مستترا بأَمْره، ثمَّ حمي الْوَحْي بعد ذَلِك وتتابع،
فَإلَى هَذَا يُشِير أنس.
وَأما قَوْله: توفاه الله على رَأس سِتِّينَ. قد بَينا
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَنه توفّي ابْن ثَلَاث
وَسِتِّينَ، وَأَن من قَالَ سِتِّينَ قصد أعشار
السِّتين، كَمَا يَقُول الرجل: سني أَرْبَعُونَ،
وَرُبمَا يكون قد زَاد عَلَيْهَا، إِلَّا أَن
الزِّيَادَة لم تبلغ عشرا.
(3/214)
وَأما قَول ربيعَة: رَأَيْت شعره أَحْمَر،
فَقيل لي: احمر من الطّيب. فِي هَذَا القَوْل بعد؛
وَالظَّاهِر أَنه احمر من الخضاب؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ
عَنهُ أَنه كَانَ يخضب شيبته بِالْحِنَّاءِ على مَا
سَيَأْتِي ذكره بعد أَحَادِيث.
وَقَوله: كَانَ ضخم الرَّأْس: أَي كَبِير الرَّأْس.
وَقَوله: سبط الْكَفَّيْنِ: أَي سهل الْكَفَّيْنِ.
والشثن: الغليظ الْأَصَابِع، وَذَلِكَ أَشد للقبض،
وأصبر عِنْد المراس. والشثونة تعيب النِّسَاء وَلَا
تعيب الرِّجَال.
والديباج قد تقدم ذكره فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَالْعرْف: الطّيب.
والعبير مُخْتَلف فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
هُوَ الزَّعْفَرَان وَحده. وَقَالَ الْأَصْمَعِي:
العبير: أخلاط تجمع بالزعفران.
1562 - / 1900 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين:
كنت أخدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكنت
أسمعهُ يكثر أَن يَقُول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك
من الْهم والحزن)) .
(3/215)
الْهم لما يتَوَقَّع، والحزن لما قد وَقع.
وَالْعجز: أَن لَا يُمكنهُ الْفِعْل. والكسل: أَن يقدر
عَلَيْهِ ويتوانى عَنهُ. وَالْبخل ضد الْكَرم، والجبن
ضد الشجَاعَة.
وضلع الدّين: ثقله.
وأرذل الْعُمر: أردؤه، وَهُوَ آخِره.
وَقَوله: وَأَقْبل بصفية يحوي لَهَا بعباءة. أَي
يُدِير الكساء وَرَاءه.
وَقَوله: فاصطفاها: أَي أَخذهَا صفيا، والصفي: سهم
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمغنم،
كَانَ إِذا غنم الْجَيْش غنيمَة أَخذ لَهُ من رَأس
المَال - قبل أَن يقسم - مَا يختاره من دَابَّة أَو
جَارِيَة أَو غير ذَلِك، فيسمى ذَلِك الصفي.
ويردفها: يركبهَا خَلفه.
والحيس: أخلاط من تمر وأقط وَسمن.
وَقد سبق معنى الْبناء بِالْمَرْأَةِ فِي قصَّة
زَيْنَب من هَذَا الْمسند.
وَقَوله فِي أحد: ((يحبنا ونحبه)) يَعْنِي أهل
الْجَبَل، وهم أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله: ((أحرم مَا بَين جبليها)) قد ذكرنَا تَحْرِيم
الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام،
وَذكرنَا هُنَاكَ معنى الصّرْف وَالْعدْل. وَذكرنَا
الْمَدّ والصاع فِي مُسْند عبد الله بن زيد.
(3/216)
وَقَوله: ((من أحدث فِيهَا حَدثا)) قد سبق
تَفْسِيره فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. هَذَا نَص على
جَوَاز أَن يكون عتق الْأمة صَدَاقهَا وَلَا يجب لَهَا
مهر غَيره، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَابْن الْمسيب
وَأحمد بن حَنْبَل فِي جمَاعَة. وَقَالَ مَالك وَأهل
الرَّأْي: هَذَا لَا يصلح، والْحَدِيث يرد قَوْلهم.
فَإِن قيل: مَعْلُوم ثَوَاب الْعتْق، فَكيف أفات نَفسه
ثَوَابه، وَجعله فِي مُقَابلَة النِّكَاح الَّذِي
يُمكن أَن يكون فِي مُقَابِله دِينَار وَاحِد؟
فَالْجَوَاب: أَن صَفِيَّة كَانَت بنت مَالك، وَمثلهَا
لَا يقنع فِي الْمهْر إِلَّا بالكبير، وَلم يكن بيد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يرضيها، فَلم
ير أَن يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ
عِنْدهَا أشرف من الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
والعنوة: الْقَهْر.
والإغارة: الْإِسْرَاع بِالْخَيْلِ إِلَى الْعَدو على
غَفلَة، وَأَصلهَا الْإِسْرَاع، قَالَ الْكسَائي:
أغار: أسْرع. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أغار الرجل: إِذا
عدا.
والمسحاة: حَدِيدَة يعْمل بهَا فِي الصَّحرَاء.
والمكتل: الزبيل.
وَالْخَمِيس: الْجَيْش. وَفِي تَسْمِيَته بذلك
قَولَانِ:
(3/217)
أَحدهمَا: لِأَنَّهُ مقسوم على خَمْسَة:
الْمُقدمَة والساقة والميمنة والميسرة وَالْقلب.
وَالثَّانِي: لِأَن الْغَنَائِم فِيهِ تخمس.
والرجس: المستقذر، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْمحرم،
وَهَذَا يدل على تَحْرِيم لُحُوم الْحمر
الْأَهْلِيَّة.
وأكفئت: قلبت وصب مَا فِيهَا.
وبزغت: طلعت.
وَقَوله: رفع صَفِيَّة إِلَى أم سليم تصنعها وتهيئها،
وَذَلِكَ بِغسْل جَسدهَا، وتسريح شعرهَا، وَإِصْلَاح
أحوالها.
وَقَوله: وَتعْتَد فِي بَيتهَا: أَي تنْتَظر الْحيض.
وفحصت الأَرْض: حفرت حفرا لَيْسَ ببالغ.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن.
ودفعنا: سرنا. ورفعنا: أَسْرَعنَا.
وندر: وَقع.
وَإِنَّمَا قُلْنَ: أبعد الله الْيَهُودِيَّة،
لِأَنَّهُنَّ مَا علِمْنَ بإسلامها، وَإِنَّمَا قَالَ
هَذَا جواري أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
والشمات: الْفَرح ببلية الْعَدو.
وقصة وَلِيمَة زَيْنَب قد تقدّمت فِي هَذَا الْمسند.
وصرعا: وَقعا.
واقتحم: دخل فِي الْأَمر بِشدَّة. وَكَانَ الْحيَاء
وَالْخَوْف من النّظر
(3/218)
إِلَى الْمَرْأَة قد منعا أَبَا طَلْحَة من
الْإِقْدَام، فاقتحم الْمَانِع لضَرُورَة دفع
الضَّرَر، وَلذَلِك غطى وَجهه عِنْد قربه من
الْمَرْأَة.
1563 - / 1901 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين:
سَأَلت أنس بن مَالك وَنحن غاديان من منى إِلَى
عَرَفَات عَن التَّلْبِيَة: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ
مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كَانَ
يُلَبِّي الملبي فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، وَيكبر المكبر
فَلَا يُنكر عَلَيْهِ.
اعْلَم أَن السّنة فِي هَذَا الْمقَام إِنَّمَا هِيَ
التَّلْبِيَة وَألا تقطع حَتَّى ترمى أول حَصَاة من
جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر.
وَقَول أنس يحْتَمل أَن من كبر كَانَ يدْخل
التَّكْبِير من خلال التَّلْبِيَة.
1564 - / 1902 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين:
دَخَلنَا على الْحسن وَهُوَ مستخف فِي دَار أبي
خَليفَة، فَقَالَ: حَدثنَا أنس وَهُوَ جَمِيع ... .
قَوْله: وَهُوَ مستخف. كَانَ الْحجَّاج قد طلب الْحسن
لِأَنَّهُ كَانَ يُنكر عَلَيْهِ فاختفى.
وَقَوله: وَهُوَ جَمِيع: أَي مُجْتَمع الذِّهْن
وَالْحِفْظ.
وَقَوله: يهتمون بذلك: أَي يَأْخُذهُمْ الْهم لما هم
فِيهِ. وَقد رُوِيَ: فيلهمون ذَلِك: أَي يُلْهمُون طلب
الشَّفَاعَة.
(3/219)
وَقَوله: ((يخرج من النَّار من فِي قلبه من
الْخَيْر مَا يزن ذرة)) الذّرة: النملة الصَّغِيرَة.
وَقَالَ شُعْبَة: ذرة بتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ
تَصْحِيف لَيْسَ بِشَيْء.
وَقَوله: فِي دَاره: أَي فِي الدَّار الَّتِي دورها
لأوليائه وبناها لَهُم، وَهِي الْجنَّة، وأضافها
إِلَيْهِ للتشريف كإضافة الْبَيْت، وَلَيْسَ كَمَا
يتصوره الْحس من سُكْنى الدَّار، فَإِن ذَلِك
يَسْتَحِيل فِي حَقه سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُوصف
بِالْمَكَانِ. وَقد ذكرنَا هَذَا آنِفا فِي حَدِيث
الْمِعْرَاج.
1565 - / 1903 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين:
((من كَانَ ذبح قبل الصَّلَاة فليعد)) فَقَامَ رجل
فَذكر هنة من جِيرَانه - يَعْنِي فقرا وحاجة، وَأَنه
ذبح قبل الصَّلَاة، وَقَالَ: عِنْدِي جَذَعَة.
قد ذكرنَا الْجَذعَة وَالْخلاف فِي وَقت الذّبْح فِي
مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
وَهَذَا الرجل الَّذِي سَأَلَ هُوَ أَبُو بردة بن
نيار، وَأَنه ذبح قبل الصَّلَاة، فَرخص لَهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه الرُّخْصَة
كَانَت لَهُ خَاصَّة لِأَنَّهُ لَا يعلم.
قَوْله: وانكفأ: أَي رَجَعَ.
وَقد ذكرنَا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة. والأقرن:
الوافي الْقرن.
(3/220)
قَوْله: فذبحهما بِيَدِهِ. قد ذكرنَا أَنه
يسْتَحبّ للْإنْسَان أَن يتَوَلَّى ذبح أضحيته
بِيَدِهِ.
والصفحة: جَانب الْعُنُق، وهما صفحتان، وهما اللديدان
والسالفتان.
وتوزعوها: اقتسموها. وتجزعوها كَذَلِك. يُقَال: جزعت
الْوَادي: إِذا قطعته.
1566 - / 1904 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْخَمْسُونَ: قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1567 - / 1905 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق شعره
فرقه بَين النَّاس.
هَذَا دَلِيل على أَن بَين الشّعْر لَا حَيَاة فِيهِ
فَلَا ينجس بِالْمَوْتِ، لِأَن مَا أبين من حَيّ
فَهُوَ ميت، فَلَو مَاتَ فِيهِ حَيَاة كَانَ ينجس
بالإبانة.
1568 - / 1906 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: سَأَلت
أنسا: أخضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
فَقَالَ: لم يبلغ من الشيب إِلَّا قَلِيلا. وَفِي
رِوَايَة: لم يختضب.
أما شيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلا، فَفِي رِوَايَة عَن أنس أَنه
قَالَ: مَا عددت فِي رَأس رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ولحيته إِلَّا أَربع عشرَة شَعْرَة
بَيْضَاء. وَفِي رِوَايَة عَن أنس لم ير من الشيب
إِلَّا نَحوا من سبع
(3/221)
عشرَة أَو عشْرين شَعْرَة فِي مقدم لحيته.
وَفِي رِوَايَة عَن أنس: مَا كَانَ فِي رَأس رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته يَوْم مَاتَ
ثَلَاثُونَ شَعْرَة بَيْضَاء.
وَعَن ابْن عمر: كَانَ شيب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نَحوا من عشْرين شَعْرَة.
فَأَما قَوْله: لم يخضب، فقد اخْتلف عَن أنس، فَروِيَ
عَنهُ: لم يخضب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه سُئِلَ: هَل خضب
رَسُول الله؟ فَقَالَ: مَا أرى. وروى التِّرْمِذِيّ
أَن أنسا قَالَ: رَأَيْت شعر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ
أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يمس شعره بصفرة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: قد
ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخضاب،
فَقيل لَهُ: فَقَوْل أنس؟ قَالَ: غَيره يَقُول: قد
خضب، فَهَذِهِ شَهَادَة على الخضاب. وَالَّذِي شهد على
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِمَنْزِلَة
من لم يشْهد. وَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا
ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر
قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي
قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ:
حَدثنَا سَلام بن أبي مُطِيع عَن عُثْمَان بن عبد الله
بن موهب قَالَ: دَخَلنَا على أم سَلمَة، فأخرجت
إِلَيْنَا شعرًا من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مخضوبا بِالْحِنَّاءِ
(3/222)
والكتم. قَالَ عبد الله بن أَحْمد:
وَحدثنَا مُحَمَّد بن حسان الْأَزْرَق قَالَ: حَدثنَا
أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَرِي قَالَ: حَدثنَا
الضَّحَّاك بن حمرَة عَن غيلَان بن جَامع عَن إياد بن
لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد روى عبد الله بن زيد صَاحب الْأَذَان أَنه قَالَ:
إِن شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عندنَا
مخضوب بِالْحِنَّاءِ والكتم. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر
مُحَمَّد ابْن عَليّ بن الْحُسَيْن: شمط عَارض رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فخضبه بحناء وكتم.
وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد أخبرنَا عَليّ بن عبيد الله قَالَ: أخبرنَا أَبُو
مُحَمَّد الصريفيني قَالَ: أخبرتنا أمة السَّلَام بنت
أَحْمد بن كَامِل قَالَت: أخبرنَا مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل البندار قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد
الله بن عَليّ بن سُوَيْد بن منجوف قَالَ: حَدثنَا عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن إياد
بن لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ورأيته قد لطخ لحيته بِالْحِنَّاءِ.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَأَيْت الشيب
أَحْمَر. وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة: هَل خضب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم. وَقد
ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر
أَنه كَانَ
(3/223)
يصْبغ بالصفرة. قَالَ: وَرَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا، وَأَنا أحب
أَن أصبغ بهَا. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عمر أَنه
كَانَ يصفر لحيته وَيَقُول: إِنِّي رَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصفر لحيته.
وَأما الكتم فنبات يسود الشّعْر. قَالَ الْخطابِيّ:
إِن الكتم الوسمة.
وَيُقَال بل نبت آخر.
وَقَوله: مَا شانه الله ببيضاء: أَي مَا كثر الْبيَاض
فيشان بِهِ.
1569 - / 1907 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالسِّتِّينَ: التَّنَفُّل على الرَّاحِلَة إِلَى غير
الْقبْلَة. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عمر.
1570 - / 1911 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالسِّتِّينَ: أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر
الْإِقَامَة، إِلَّا الْإِقَامَة. أَي إِلَّا قَوْله:
قد قَامَت الصَّلَاة.
وَهَذَا دَلِيل على أَن الْأَفْضَل فِي الْإِقَامَة
الْإِفْرَاد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: السّنة
التَّثْنِيَة، وَاحْتج أَصْحَابه بِأَحَادِيث واهية،
ثمَّ زعم بعض المتفقهة من الَّذين جهلوا النَّقْل أَن
الْآمِر لِبلَال بذلك أَبُو بكر الصّديق، وَهَذَا
بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم ينْقل،
وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد زعم.
وَالثَّانِي: أَن بِلَالًا لم يُؤذن بعد دفن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ خرج إِلَى
(3/224)
الشَّام، واستخلف على الْأَذَان سعد الْقرظ
وَقَالَ بعض الْجُهَّال بِالنَّقْلِ والأثر: إِنَّمَا
كَانَ الْآمِر لِبلَال بعض أُمَرَاء بني أُميَّة،
وَهَذَا بَاطِل من سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنه إِذا
قَالَ الرَّاوِي: أَمر فلَان، أَو أمرنَا فقد صرح
بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَا
أَمر لغيره فِي زَمَانه، وَصَارَ كَمَا يُقَال: تقدم
إِلَى النَّاس بِكَذَا: أَي تقدم من لَهُ التَّقَدُّم،
وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: {أذن للَّذين
يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} [الْحَج: 39] .
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن شرح
ابْتِدَاء الْأَذَان وَالْإِقَامَة، لِأَنَّهُ قَالَ:
ذكرُوا أَن ينوروا نَارا، أَو يضْربُوا ناقوسا، فَأمر
بِلَال، وَالْأَمر فِي الإبتداء لَا يكون إِلَّا
للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: أَن بِلَالًا لم يدْرك خلَافَة بني
أُميَّة وَلم يُؤذن لأحد بعده، وَإِنَّمَا أذن بعد
وَفَاته قبل أَن يقبر، فانتحب النَّاس وَبكوا عِنْد
قَوْله: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا
دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ
أَبُو بكر: أذن، فَقَالَ: إِن كنت أعتقتني لأَكُون
مَعَك فسبيل ذَلِك، وَإِن كنت أعتقتني لله فخلني وَمن
أعتقتني لَهُ. فَقَالَ: مَا أَعتَقتك إِلَّا لله،
قَالَ: فَإِنِّي لَا أؤذن لأحد بعد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فَذَاك إِلَيْك. فَأَقَامَ
بِلَال حَتَّى خرجت بعوث الشَّام، فَسَار مَعَهم
حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَتوفي بِدِمَشْق سنة
عشْرين، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد. وَقَالَ أَبُو
نعيم الْأَصْبَهَانِيّ وَقد قيل: سنة ثَمَانِي عشرَة.
وَالرَّابِع: لَو قَدرنَا أَنه أَمر بذلك فَكيف يظنّ
بِهِ أَن يتْرك مَا يُعلمهُ من سنة رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل مُبْتَدع من بني أُميَّة؟
كَيفَ وَقد ألف ركون
(3/225)
الْعَزْم من يَوْم قَوْله: أحد أحد.
وَالْخَامِس: أَنه لَو فعل ذَلِك لما أقرته
الصَّحَابَة على تَغْيِير مَا كَانَ علما فِي زمَان
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالسَّادِس: أَن الدَّارَقُطْنِيّ روى هَذَا الحَدِيث
فِي ((سنَنه)) من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أنس: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا أَن
يشفع الْأَذَان ويوتر
الْإِقَامَة. فقد زَالَ بِهَذَا التَّصْرِيح كل
إِشْكَال.
وَاعْلَم أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَعْلَام
الدّين، فَيَنْبَغِي أَن يتبع فِي ذَلِك مَا صَحَّ من
النَّقْل وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وأحاديثنا
أصح بِلَا خلاف، وَالْجُمْهُور مَعنا. قَالَ بكير بن
عبد الله الْأَشَج: أدْركْت أهل الْمَدِينَة فِي
الْأَذَان مثنى مثنى، وَفِي الْإِقَامَة مرّة مرّة.
وَبُكَيْر هَذَا من كبار التَّابِعين، وَهُوَ يخبر
بِهَذَا عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي دَار
الْهِجْرَة. ثمَّ مَذْهَبنَا مَرْوِيّ عَن الْخُلَفَاء
الْأَرْبَعَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، كَانَ
يُقَام لَهُم مرّة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر
وَابْن عَبَّاس وَأنس وفقهاء الْمَدِينَة السَّبْعَة:
سعيد بن الْمسيب وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن
وَسليمَان ابْن يسَار وَعُرْوَة وَعبيد الله بن عبد
الله وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد،
وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَسَالم وَأبي قلَابَة وَعمر بن
عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ والقرظي وَالْأَوْزَاعِيّ
فِي خلق كثير، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم لم ينْقل
إِلَّا عَن الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك، وَفِي
الحَدِيث: ((عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم)) .
وَهُوَ مَعنا بِحَمْد الله وَمِنْه.
(3/226)
1571 - / 1912 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي بعض أَسْفَاره، وَغُلَام أسود يُقَال لَهُ
أَنْجَشَة يَحْدُو، وَكَانَ حسن الصَّوْت، فَقَالَ
لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَيحك
يَا أَنْجَشَة، رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ)) قَالَ
أَبُو قلَابَة: يَعْنِي النِّسَاء.
فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن
الْإِبِل: كَانَت كلما سَمِعت الحداء أسرعت، وإسراع
السّير يشق على الرَّاكِب خُصُوصا النِّسَاء، فشبههن
بِالْقَوَارِيرِ لضعف بنيتهن.
وَالثَّانِي: أَن أَنْجَشَة كَانَ حسن الصَّوْت، وَحسن
الصَّوْت بالحداء يشبه الْغناء المحرك للطبع إِلَى
الْهوى، وتأثير ذَلِك فِي النِّسَاء أسْرع من
تَأْثِيره فِي الرِّجَال، وَهَذَا القَوْل قد ذكره
جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة
والخطابي، وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر
يُنكره وَيَقُول: أَو يُقَال هَذَا فِي حق أَزوَاج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فأجبته أَنا
فَقلت: هَذَا الَّذِي يُنكره لَيْسَ بمنكر، لِأَنَّك
تتوهم أَن الَّذِي فسر بِهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ ذكر
الْفَاحِشَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ
ميل الطباع إِلَى تذكر الْهوى وَإِن كَانَ مُبَاحا،
فَإِن الْغناء يحث على حب الدُّنْيَا، وَيذكر
الشَّهَوَات، ويشغل الْقلب عَن وظائفه من الْفِكر
وَالذكر، وَأَزْوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لسن بمعصومات من وساوس الشَّيْطَان وحثه على حب
الدُّنْيَا.
(3/227)
1572 - / 1913 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالسِّتِّينَ: قَالَ أنس: من السّنة إِذا تزوج الْبكر
على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا وَقسم، وَإِذا تزوج
الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا سنة لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما تزوج أم سَلمَة أَقَامَ عِنْدهَا
ثَلَاثًا، وَقَالَ: ((إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت
لَك سبعت لنسائي)) وَفِي لفظ أَنه قَالَ: ((للبكر سبع
وللثيب ثَلَاث)) وَسَيَأْتِي ذكر هَذَا الحَدِيث
وتعليله فِي مُسْند أم سَلمَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
إِذا فضل قضى.
1573 - / 1914 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالسِّتِّينَ: أَن أَبَا قلَابَة أنكر أَن يُقَاد
بالقسامة.
أما حَدِيث الْقسَامَة فقد بَيناهُ وَذكرنَا الْخلاف
فِيهِ فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
وَالظَّاهِر من حَدِيث أبي قلَابَة فِي هَذَا
الْمَقْتُول من الْأَنْصَار أَنه عبد الله بن سهل
الْمَذْكُور فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة، وَإِن كَانَ
يحْتَمل أَن يكون غَيره، إِلَّا أَن فِي مُسْند ابْن
أبي حثْمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ:
(3/228)
((يقسم خَمْسُونَ مِنْكُم على رجل مِنْهُم
فَيدْفَع برمتِهِ)) وَهَذَا دَلِيل على الْقصاص
بالقسامة.
وَقَوله: يَتَشَحَّط فِي دَمه: أَي يضطرب فِيهِ.
وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من
ترَوْنَ - أَو من تظنون؟)) دَلِيل على اعْتِبَار اللوث
كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة.
وَالنَّفْل هُنَا الْأَيْمَان بِالْبَرَاءَةِ من
الْقَتْل: يُقَال: انتفل فلَان من كَذَا: أَي تَبرأ
مِنْهُ، وَسميت نفلا لِأَن الْقصاص ينفى بهَا.
وَقَوله: خلعوا خليعا لَهُم: أَي انتفوا مِنْهُ.
فطرق أهل بَيت: أَي جَاءَهُم لَيْلًا.
وخذفه بِالسَّيْفِ: رَمَاه بِهِ.
واستوخموا الْمَدِينَة: أَي لم توافقهم: وَيَجِيء فِي
بعض الْأَلْفَاظ: اجتووا. قَالَ أَبُو عبيد يُقَال:
اجتويت الْبِلَاد: إِذا كرهتها وَإِن كَانَت مُوَافقَة
لَك فِي بدنك، واستوبلتها: إِذا لم توافقك فِي بدنك
وَإِن كنت محبا لَهَا.
واللقاح: الْإِبِل ذَوَات الدّرّ.
وَأمره بِشرب أبوالها دَلِيل على طَهَارَة بَوْل مَا
يُؤْكَل لَحْمه.
وَقَوله: وأطردوا الْإِبِل: الطَّرْد: الْإِخْرَاج
والإزعاج، يُقَال: طرده السُّلْطَان وأطرده: إِذا
أخرجه عَن مستقره.
والذود من الْإِبِل: من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.
(3/229)
والقائف: الَّذِي يتبع الْآثَار ويعرفها.
وَقَوله: وَسمر أَعينهم فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن
يكون من المسمار، يُرِيد أَنهم كحلوا بأميال قد أحميت
بالنَّار.
وَالثَّانِي: أَن يكون السمر لُغَة فِي السمل، فَيكون
سمر بِمَعْنى سمل، لِأَن الرَّاء وَاللَّام قريبتا
الْمخْرج، ذكرهمَا أَبُو سُلَيْمَان. وَقَالَ أَبُو
عبيد: السمل: أَن تفقأ الْعين بحديدة محماة أَو
بِغَيْر ذَلِك، وَقد يكون السمل بالشوك، قَالَ أَبُو
ذُؤَيْب يرثي بَنِينَ لَهُ:
(فالعين بعدهمْ كَأَن حداقها ... سملت بشوك فَهِيَ عور
تَدْمَع)
والكدم: العض بِأَدْنَى الْفَم.
فَأَما اسْم الرَّاعِي الَّذِي قَتَلُوهُ فيسار.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وَجه هَذَا الْفِعْل بهؤلاء
على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه اقْتصّ مِنْهُم على
مِثَال فعلهم، فَقَالَ أنس: إِنَّمَا سمل أَعينهم
لأَنهم سملوا أعين الرعاء. قَالَ ابْن جرير: وَقد ذهب
بعض الْعلمَاء إِلَى أَن هَذَا الحكم ثَابت فِي
نظرائهم لَهُ ينْسَخ.
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الْفِعْل كَانَ قبل أَن تنزل
الْحُدُود. قَالَ أَبُو الزِّنَاد: لما فعل هَذَا وعظه
الله عز وَجل ونها عَن الْمثلَة وَأنزل الْحُدُود.
وَقَالَ
(3/230)
ابْن سِيرِين: هَذَا قبل أَن تنزل
الْحُدُود. وَقَالَ قَتَادَة: بلغنَا أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نهى بعد ذَلِك عَن الْمثلَة.
وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: قد ذهب بَعضهم إِلَى
أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ بِالنَّهْي عَن الْمثلَة.
قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّمَا نزل قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله}
[الْمَائِدَة: 33] فِيمَا فعل بالعرنيين.
وَأما البرسام فَهُوَ مرض مَعْرُوف يخْتَص بالصدر.
والسرسام يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ.
1574 - / 1915 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالسِّتِّينَ: ((لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب
إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ)) .
اعْلَم أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْمحبَّة الْمحبَّة
الشَّرْعِيَّة، فَإِنَّهُ يجب على الْمُسلمين أَن يقوا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنْفسِهِم
وَأَوْلَادهمْ. وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْمحبَّة
الطبيعية، فَإِنَّهُم قد فروا عَنهُ فِي الْقِتَال
وتركوه، وكل ذَلِك لإيثار حب النَّفس.
1575 - / 1916 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((لَا
يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ))
.
إِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا وكل أحد يقدم نَفسه
فِيمَا يختاره لَهَا،
(3/231)
وَيُحب أَن يسْبق غَيره فِي الْفَضَائِل،
وَقد سَابق عمر أَبَا بكر؟ فَالْجَوَاب: أَن المُرَاد
حُصُول الْخَيْر فِي الْجُمْلَة. واندفاع الشَّرّ فِي
الْجُمْلَة، فَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يحب ذَلِك
لِأَخِيهِ كَمَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، فَأَما مَا هُوَ من
زَوَائِد الْفَضَائِل وعلو المناقب فَلَا جنَاح
عَلَيْهِ أَن يوثر سبق نَفسه لغيره فِي ذَلِك.
1576 - / 1917 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين:
((إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم، وَيظْهر
الْجَهْل)) .
قَالَ أَبُو عبيد: الأشراط: العلامات، وَمِنْه
اشْتِرَاط النَّاس بَعضهم على بعض، إِنَّمَا هِيَ
عَلامَة يجعلونها بَينهم، وَلِهَذَا سميت الشَّرْط
لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلامَة يعْرفُونَ بهَا.
وَأما رفع الْعلم فَيكون بشيئين: أَحدهمَا: بِمَوْت
الْعلمَاء كَمَا قَالَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو:
((وَلَكِن يقبضهُ بِقَبض الْعلمَاء)) .
وَالثَّانِي: بخساسة الهمم واقتناعها باليسير مِنْهُ،
فَإِنَّهَا إِذا دنت قصرت، وكشف هَذَا أَنَّك إِذا
تَأَمَّلت من سبق من الْعلمَاء رَأَيْت كل وَاحِد
مِنْهُم يفتن فِي الْعُلُوم ويرتقي فِي كل فن إِلَى
أقصاه، حَتَّى روينَا عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا
أروي أقل من الشّعْر، وَلَو شِئْت لأنشدتكم شهرا لَا
أُعِيد. أخبرنَا الْقَزاز قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن
عَليّ الْحَافِظ قَالَ:
(3/232)
حَدثنَا الصُّورِي قَالَ: سَمِعت رَجَاء بن
مُحَمَّد بن عِيسَى الْمعدل يَقُول: سَأَلت
الدَّارَقُطْنِيّ فَقلت لَهُ: رأى الشَّيْخ مثل نَفسه؟
فَقَالَ: إِن كَانَ فِي فن وَاحِد فقد رَأَيْت من هُوَ
أفضل مني، وَأما من اجْتمع فِيهِ مَا اجْتمع فِي
فَلَا. ثمَّ إِن الرغبات فترت فِي الْعلم، فَصَارَ
صَاحب الحَدِيث يقْتَصر على مَا علا إِسْنَاده ويعرض
عَن الْفِقْه، فَلَو وَقعت مَسْأَلَة فِي الطَّهَارَة
لم يهتد لجوابها، وَصَارَ الْفَقِيه يقْتَصر على مَا
كتب فِي التعليقة وَلَا يدْرِي هَل الحَدِيث الَّذِي
بنى عَلَيْهِ الحكم صَحِيح أم لَا، وَصَارَ اللّغَوِيّ
يشْتَغل بِحِفْظ أَلْفَاظ الْعَرَب وَلَا يلْتَفت
إِلَى الْفِقْه، فَهَذَا رفع الْعلم. ثمَّ لَهُ رفع من
حَيْثُ الْمَعْنى: وَهُوَ أَنا إِذا وجدنَا الْعَالم
المتقن قد مَال إِلَى الدُّنْيَا وتشاغل بِخِدْمَة
السلاطين، والتردد إِلَيْهِم غير آمُر بِالْمَعْرُوفِ
وَلَا ناه لَهُم عَن مُنكر، وانعكف على اللَّذَّات،
وَرُبمَا مزجها بِحرَام كلبس الْحَرِير، لم يبْق لعلمه
نور عِنْد المقتبس، فَصَارَ كالطبيب المخلط، لَا يكَاد
يقبل قَوْله فِي الحمية، فَمَاتَ الْعلم عِنْده وَهُوَ
مَوْجُود، نسْأَل الله عز وَجل عزما مجدا لَا فتور
فِيهِ، وَعَملا خَالِصا لَا رِيَاء مَعَه.
1577 - / 1918 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين:
((إِن أحدكُم إِذا قَامَ فِي صلَاته فَإِنَّمَا
يُنَاجِي ربه)) .
الْمُنَاجَاة: المحادثة، وَأَصله من النجوة: وَهُوَ
مَا ارْتَفع من الأَرْض، فَكَأَن المناجي يرْتَفع هُوَ
والمناجي منفردين عَن غَيرهمَا.
وَاعْلَم أَن وقُوف الْآدَمِيّ فِي الْعِبَادَة على
نَحْو وقُوف الْخَادِم بَين
(3/233)
يَدي مَالِكه، فَيَنْبَغِي لَهُ أَن
يسْتَعْمل الْأَدَب. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي
سعيد، وَلِهَذَا أَمر بتسوية الصُّفُوف.
وَالْمرَاد بقوله: ((لَا يتفلن)) لَا يبصقن.
وَقَوله: ((لَا يبسط ذِرَاعَيْهِ)) أَي فِي السُّجُود،
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على كفيه وتنبو ذراعاه
عَن الأَرْض.
1578 - / 1921 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين:
((أقِيمُوا صفوفكم؛ فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء
ظَهْري)) .
إِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ يرى من وَرَاء ظَهره
فَمَا الْفَائِدَة فِي أَنه أَجْلِس الشَّاب من وَفد
عبد الْقَيْس وَرَاء ظَهره؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه سنّ للنَّاس، وَالسّنة إِنَّمَا هِيَ
فعل ظَاهر.
وَالثَّانِي: أَن رُؤْيَته من بَين يَدَيْهِ أَمر طبعي
يزاحم فِيهِ الْهوى، وَمن وَرَاء ظَهره مَحْض إنعام قد
زوي فِيهِ عَن تصرفه بِمُقْتَضى الْهوى.
1579 - / 1922 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث السَّادِس
[وَالسبْعين] قبل حديثين.
1580 - / 1923 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف وَعَلِيهِ وضر من صفرَة فَقَالَ:
((مَهيم؟)) .
الوضر: اللطخ من خلوق أَو طيب لَهُ لون، وَكَانَ ذَلِك
من فعل
(3/234)
الْعَرُوس إِذا بنى بأَهْله، وَيكون الوضر
من الصُّفْرَة والحمرة وَالطّيب والزهومة، وأنشدوا:
( ... ... ... أَبَارِيق لم يعلق بهَا وضر الزّبد)
وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو
زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ لي أَبُو
الْعَلَاء المعري: أصل الوضر الْوَسخ، وَأكْثر مَا
يسْتَعْمل ذَلِك فِي اللَّبن وَمَا يحدث مِنْهُ، وَسمي
أثر الصُّفْرَة وضرا لِأَنَّهُ يُغير لون الثَّوْب
والجسد.
وَقَوله: ((مَهيم؟)) قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ كلمة
يَمَانِية مَعْنَاهَا: مَا أَمرك؟ وَمَا هَذَا الَّذِي
أرى بك؟ وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عبد
الرَّحْمَن، لَكنا ذَكرْنَاهُ لهَذِهِ الْأَلْفَاظ
الزَّائِدَة.
1581 - / 1924 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لعبد
الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر فِي لبس الْحَرِير لحكة بهما.
وَفِي رِوَايَة: شكوا إِلَيْهِ الْقمل فَرخص لَهما فِي
قمص الْحَرِير فِي غزَاة لَهما.
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يجوز لبس
الْحَرِير لأجل الْمَرَض والحكة أم لَا؟ على
رِوَايَتَيْنِ، فَإِن قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَلَا
كَلَام، وَإِن قُلْنَا:
(3/235)
لَا يجوز، كَانَ مَا رخص لعبد الرَّحْمَن،
وَالزُّبَيْر خَاصّا لَهما.
1582 - / 1926 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر
كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد لله رب
الْعَالمين} وَفِي رِوَايَة: صليت مَعَ أبي بكر وَعمر
وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يقْرَأ {بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم} .
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه لَا يسن الْجَهْر
بالبسملة، وَهُوَ مَذْهَب أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان
وَعلي وَابْن مَسْعُود وعمار وَعبد الله بن مُغفل
وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأنس، وَقَالَ بِهِ من
فُقَهَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ الْحسن وَسَعِيد بن
جُبَير وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَعمر بن
عبد الْعَزِيز وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي والفزاري
وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَالْأَعْمَش وَحَمَّاد
وَلَيْث بن أبي سليم وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري
وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل وَأَبُو
عبيد وَابْن رَاهَوَيْه فِي خلق يطول إحصاؤهم، وَزَاد
مَالك: لَا يسن قرَاءَتهَا فِي ابْتِدَاء الْفَاتِحَة
أصلا.
وَذهب قوم مِنْهُم مُعَاوِيَة وَعَطَاء وَطَاوُس
وَمُجاهد وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَن الْجَهْر بهَا
مسنون. قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: وَقَول أنس:
كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد} أَي بِهَذِهِ
السُّورَة، قَالُوا: وَقَوله: لم أسمع، شَهَادَة على
نفي، فَيحْتَمل أَنه لم يسمع لبعده عَن الإِمَام،
وَهَذَا الظَّاهِر لِأَن أنسا كَانَ صَبيا حِينَئِذٍ،
وَإِنَّمَا كَانَ يتَقَدَّم الْكَبِير لقَوْله:
((ليلني أولو الأحلام والنهى)) قَالُوا: ثمَّ يحْتَمل
أَنهم مَا كَانُوا يجهرون بهَا كجهرهم
(3/236)
بِبَقِيَّة السُّورَة، وَهَذَا ظَاهر؛
لِأَن الْقَارئ يَبْتَدِئ الْقِرَاءَة ضَعِيف
الصَّوْت.
قَالُوا: وَيدل على هَذَا قَوْله: لم أسمع أحدا
مِنْهُم يجْهر بهَا، وَهَذَا دَلِيل على أَنه سَمعهَا
مِنْهُم.
فَالْجَوَاب: أَنه لَو قصد تَعْرِيفهَا لذكرها بِأحد
الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة لَهَا، كالفاتحة وَأم
الْقُرْآن. ثمَّ قَوْله: لَا يذكرُونَ {بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم} يَكْفِي فِي رد هَذَا
التَّأْوِيل، وَفِي رد قَوْلهم: مَا كَانُوا يجهرون
بهَا كجهرهم بِبَقِيَّة السُّورَة. وَقَوْلهمْ:
شَهَادَة على نفي. قُلْنَا: هِيَ فِي معنى
الْإِثْبَات؛ لِأَن أنسا قد صلى خلف رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين، وَمَات رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن عشْرين سنة،
وَكَانَ يَصْحَبهُ صُحْبَة الخدم الْخَواص سفرا وحضرا،
فَلَو سَمعه يَوْمًا يجْهر لم يَصح لَهُ أَن يُطلق
الْإِخْبَار بِنَفْي الْجَهْر. ثمَّ قدرُوا توهم هَذَا
فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف
وَهُوَ رجل فِي زمن أبي بكر وَعمر، وكهل فِي زمن
عُثْمَان. وَقد احْتَجُّوا لنصرة الْجَهْر بِأَحَادِيث
دخلت فِيهَا العصبية من رواتها ومصنفيها، حَتَّى
احْتَجُّوا بِمَا يعلمُونَ أَنه لَا يَصح الإحتجاج
بِهِ.
وَقد كشف عوار أَحَادِيثهم فِي كتاب ((التَّحْقِيق فِي
أَحَادِيث التَّعْلِيق)) .
1583 - / 1927 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين:
أَنه ركب فرسا يقطف أَو كَانَ فِيهِ قطاف، فَقَالَ:
((قد وجدنَا فرسكم هَذَا بحرا)) .
(3/237)
القطاف فِي الْفرس: البطء، يُقَال: فرس
قطوف: أَي بطىء.
وَالْبَحْر وصف للْفرس بِسُرْعَة الجري. قَالَ أَبُو
سُلَيْمَان: وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة
التَّوَسُّع فِي الْكَلَام من تَشْبِيه الشَّيْء
بالشَّيْء الَّذِي لَهُ تعلق بِبَعْض مَعَانِيه وَإِن
لم يسْتَوْف أَوْصَافه كلهَا.
1584 - / 1929 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين:
((أوصيكم بالأنصار، فَإِنَّهُم كرشي وعيبتي)) .
الكرش: الْجَمَاعَة. يُقَال: على فلَان كرش من
النَّاس: أَي جمَاعَة. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هم جماعتي
وصحابتي الَّذين أَثِق بهم وأعتمد عَلَيْهِم فِي
أموري.
وَقَوله: ((وعيبتي)) أَي مَوضِع سري الَّذِي أَثِق
بِهِ فِي حفظه وكتمانه، وَهَذَا لِأَن الْإِنْسَان يضع
فِي عيبته جيد ثِيَابه وَمَا يُرِيد أَن يحوطه بحفظه.
1585 - / 1930 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين:
ينقلون التُّرَاب على متونهم.
الْمَتْن من الظّهْر: مَا اكتنف على الصلب من العصب
وَاللَّحم، وهما متنان. وَقَالَ بَعضهم: الْمَتْن: وسط
الظّهْر، يُقَال: هَذَا متن السهْم: أَي وَسطه.
وَقَالَ أَبُو عبيد: والإهالة: كل شَيْء من الأدهان
مِمَّا يؤتدم بِهِ خَاصَّة، مثل الزَّيْت ودهن السمسم،
والألية المذابة والشحم الْمُذَاب
(3/238)
إهالة أَيْضا.
وَأما السنخة فَهِيَ المتغيرة. والبشع: الكريه الطّعْم
والرائحة.
1586 - / 1931 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين:
جمع الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَرْبَعَة: أبي ومعاذ وَأَبُو زيد وَزيد بن
ثَابت.
وَفِي لفظ انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: أَبُو
الدَّرْدَاء مَكَان أبي.
أبي هُوَ ابْن كَعْب. ومعاذ هُوَ ابْن جبل. وَأَبُو
زيد اسْمه سعد بن عُمَيْر، وَقيل: ابْن عبيد. وَقد
جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن فِي الْقَوْم عُثْمَان
ابْن عَفَّان وتميما الدَّارِيّ وَعبادَة بن الصَّامِت
وَأَبا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
1587 - / 1932 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين:
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي: ((إِن
الله عز وَجل أَمرنِي أَن أقرا عَلَيْك: {لم يكن
الَّذين كفرُوا} [الْبَيِّنَة] )) . وَفِي لفظ:
((أَمرنِي أَن أقرئك الْقُرْآن)) قَالَ: وسماني؟
قَالَ: ((نعم)) فذرفت عَيناهُ.
أما قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
أبي فلتعليم أبي، وَخَصه بذلك تَشْرِيفًا لَهُ.
وَتَخْصِيص هَذِه السُّورَة يُمكن أَن يكون لِأَنَّهَا
تحتوي على التَّوْحِيد والرسالة وَالْقُرْآن
وَالصَّلَاة. وذرفت: سَالَتْ
1588 - / 1933 - وَقد سبق الحَدِيث السَّابِع
[وَالثَّمَانُونَ] فِي
(3/239)
مُسْند ابْن مَسْعُود.
1589 - / 1934 - وَالثَّامِن [وَالثَّمَانُونَ] : فِي
مُسْند ابْن عمر.
1590 - / 1935 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لأنس
فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكثر مَاله وَولده)) . وَفِي
رِوَايَة: قَالَت أم سليم: إِن لي خويصة - أَي حَاجَة
تخصني بهَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن كَثْرَة المَال
لَا تكره، لِأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
دَعَا بذلك لأنس، وَهَذَا خلاف مَا يَظُنّهُ جهال
المتزهدين.
1591 - / 1936 - والْحَدِيث التِّسْعُونَ قد تقدم فِي
مُسْند سهل بن سعد.
1592 - / 1937 - وَالْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: فِي
مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان.
1593 - / 1938 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين:
((يهرم ابْن آدم ويشب مَعَه اثْنَتَانِ: الْحِرْص على
المَال، والحرص على الْعُمر)) .
(3/240)
لما كَانَ أحب الْأَشْيَاء إِلَى ابْن آدم
نَفسه أحب بقاءها، فَأحب الْعُمر، وَأحب سَبَب
بَقَائِهَا وَهُوَ المَال. والهرم إِنَّمَا يعْمل فِي
بدنه لَا غير، فَإِذا أحس بِقرب التّلف عِنْد الْهَرم
قوي حبه للبقاء لعلمه بِقرب الرحيل وكراهيته لَهُ.
1594 - / 1939 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين:
فِي ذكر الدَّجَّال وَأَنه أَعور، وَقد تكلمنا على
ذَلِك فِي مُسْند ابْن عمر.
1595 - / 1941 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين:
كَانَ أحب الثِّيَاب إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يلبسهَا الْحبرَة.
الْحبرَة: مَا كَانَ من البرود موشيا مخططا. وَلما رأى
أنس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر لبسهَا
ظن أَنه يُحِبهَا، وَلم يرو عَنهُ لفظ يدل على محبتها،
لكنه أخبر عَن ظَنّه. وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
((البسوا الثِّيَاب الْبيض؛ فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب،
وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم)) قَالَ التِّرْمِذِيّ:
حَدِيث ابْن عَبَّاس وَسمرَة صَحِيحَانِ. قَالَ:
وَهَذَا الَّذِي يستحبه أهل الْعلم. قَالَ أَحْمد
وَإِسْحَاق: أحب الثِّيَاب إِلَيْنَا أَن نكفن فِيهَا
الْبيَاض.
(3/241)
1596 - / 1942 - والْحَدِيث السَّادِس
وَالتِّسْعُونَ قد سبق فِي مُسْند معَاذ.
1597 - / 1944 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين:
((إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ
أَصْحَابه حَتَّى إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ)) .
أما قرع النِّعَال وخفقها فَهُوَ ضربهَا للْأَرْض
وصوتها فِي الْمَشْي.
قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذَا يدل على جَوَاز لبس
النَّعْل لزائر الْقُبُور الْمَاشِي بَين ظهرانيها.
فَأَما مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ ((يَا صَاحب
السبتيتين، ألق سبتيتيك)) فَقَالَ الْأَصْمَعِي:
السبتية من النِّعَال مَا كَانَ مدبوغا بالقرظ فَيُشبه
أَن يكون إِنَّمَا حرم ذَلِك لما فِيهَا من
الْخُيَلَاء؛ لِأَن السبت من لِبَاس أهل الترف
والتنعم، فَأحب أَن يكون دُخُوله الْمَقَابِر على زِيّ
التَّوَاضُع ولباس أهل الْخُشُوع. قلت: وَهَذَا تكلّف
من الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر
أَنه كَانَ يلبس النِّعَال السبتية ويتوخى التَّشَبُّه
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نعاله،
إِمَّا لِأَن نعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَت سبتية أَو لِأَن السبتية تشبهها، وَمَا كَانَ
ابْن عمر يقْصد التنعم بل السّنة.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سوى الْحِكَايَة عَمَّن
يدْخل الْمَقَابِر بالنعل، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي
إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيمًا، وَيدل على أَنه أمره
بخلعهما
(3/242)
احتراما للقبور أَنه نهى عَن الإستناد
إِلَى الْقَبْر وَالْقعُود عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس، فَيُقَال
لَهُ: لَا دَريت)) فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم
التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَأَنه يَنْبَغِي
للعاقل أَن يكون عَارِفًا بِمَا يَعْتَقِدهُ، على
يَقِين من ذَلِك لَا يُقَلّد فِيهِ أحدا؛ فَإِن
الْمُقَلّد كالأعمى يتبع الْقَائِد.
وَقَوله: ((وَلَا تليت)) كَذَا رُوِيَ كَذَا رُوِيَ
لنا فِي الحَدِيث: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهُوَ غلط،
قَالَ: وَفِيه قَولَانِ: بَلغنِي عَن يُونُس
الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هُوَ: لَا دَريت [وَلَا]
أتليت سَاكِنة التَّاء، يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن لَا
تتلى إبِله: أَي لَا يكون لَهَا أَوْلَاد تتلوها: أَي
تتبعها، يُقَال للناقة: قد أتلت فَهِيَ متلية، وتلاها
وَلَدهَا: إِذا تبعها. قَالَ: وَقَالَ غَيره: لَا
دَريت وَلَا ائتليت، على وزن: وَلَا اعتليت، إِذا
وصلته، فَإِذا قطعت قلت: ائتليت، على تَقْدِير افتعلت،
من قَوْلك: مَا ألوت هَذَا وَلَا استطعته.
وَيُقَال: لَا آلو كَذَا: أَي لَا أستطيعه، كَأَنَّهُ
قَالَ: لَا دَريت وَلَا اسْتَطَعْت، وَهَذَا أشبه
بِالْمَعْنَى، وَلَفظه أشبه بِاللَّفْظِ فِي الحَدِيث،
أَلا ترى أَنَّك إِذا خففت الْهمزَة وأدرجت الْكَلَام
وَافَقت اللَّفْظَة لَفْظَة الْمُحدث. وَقد قَالَ ابْن
السّكيت: بَعضهم يَقُول: وَلَا تليت، تزويجا
للْكَلَام.
وَأما الثَّقَلَان فهما الْإِنْس وَالْجِنّ، سميا
بالثقلين لِأَنَّهُمَا ثقل الأَرْض تحملهم أَحيَاء
وأمواتا.
وَالْخضر: كل شَيْء ناعم غض طري.
(3/243)
1598 - / 1945 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالتسْعين: ((لَا تزَال جَهَنَّم يلقى فِيهَا وَتقول:
هَل من مزِيد حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه)) .
كَانَ من تقدم من السّلف يسكتون عِنْد سَماع هَذِه
الْأَشْيَاء وَلَا يفسرونها مَعَ علمهمْ أَن ذَات الله
تَعَالَى لَا تتبعض، وَلَا يحويها مَكَان، وَلَا
تُوصَف بالتغير وَلَا بالإنتفال. وَمن صرف عَن نَفسه
مَا يُوجب التَّشْبِيه وَسكت عَن تَفْسِير مَا يُضَاف
إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَشْيَاء فقد سلك
طَرِيق السّلف الصَّالح وَسلم، فَأَما من ادّعى سلوك
طَرِيق السّلف ثمَّ فهم من هَذَا الحَدِيث أَن الْقدَم
صفة ذاتية وَأَنَّهَا تُوضَع فِي جَهَنَّم، فَمَا عرف
مَا يجب لله وَلَا مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ، وَلَا سلك
منهاج السّلف فِي السُّكُوت، وَلَا مَذْهَب المتأولين،
وأخسس بِهِ من مَذْهَب ثَالِث ابتدعه من غضب من
الْبدع. قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: تَعَالَى الله
أَن يكون لَهُ صفة تشغل الْأَمْكِنَة، هَذَا عين
التجسيم، ثمَّ إِنَّه لَا يعْمل فِي النَّار أمره
وتكوينه حَتَّى يَسْتَعِين بِشَيْء من ذَاته، وَهُوَ
الْقَائِل للنار {كوني بردا وَسلَامًا}
[الْأَنْبِيَاء: 69] فَمن أَمر نَارا - أججها غَيره -
بانقلاب طبعها عَن الإحراق، لَا يضع فِي نَار أججها
بِأَن يأمرها بالإنزواء حَتَّى يعالجها بِصفة من
صِفَاته، مَا أسخف هَذَا الإعتقاد وأبعده عَن المكون
للأفلاك والأملاك، وَقد نطق الْقُرْآن بتكذيبهم،
فَقَالَ تَعَالَى: {لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا
وردوها} [الْأَنْبِيَاء: 99] فَكيف يظنّ بِاللَّه
تَعَالَى أَنه وردهَا،
(3/244)
تَعَالَى الله عَن تخاييل المتوهمة
المجسمة.
وَقد حكى أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ عَن الْحسن
الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْقدَم: قوم يقدمهم من شرار
خلقه.
فَإِن قيل: كَأَن من قبل هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا شرارا.
فَالْجَوَاب: أَن الَّذِي يَقع فِي هَذَا أَنه إِذا
رمي فِيهَا الْكفَّار أَولا بادرت إِلَى إحراقهم
عَاجلا، وَسَأَلت الْمَزِيد، فيلقي فِيهَا قوما من
الْمُؤمنِينَ المذنبين، فتحس بِمَا مَعَهم من
الْإِيمَان فتتوقف عَن إحراقهم وَتقول: قطّ قطّ، أَي
حسبي. وَقد ورد فِي ((الصَّحِيح)) أَنَّهَا تحرق
الْمُؤمنِينَ إِلَّا دارات وُجُوههم لأجل السُّجُود.
فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّأْوِيل وَسَيَأْتِي
فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((يضع فِيهَا رجله؟))
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا من تَحْرِيف بعض الروَاة،
لِأَنَّهُ ظن أَن الْقدَم هِيَ الرجل، فروى
بِالْمَعْنَى الَّذِي يَظُنّهُ، وَيُمكن أَن يرجع
هَذَا إِلَى مَا ذكرنَا وَهُوَ أَن الرجل جمَاعَة،
كَمَا يُقَال: رجل من جَراد.
قَوْله: ينزوي: أَي ينقبض، وَمِنْه: ((زويت لي
الأَرْض)) . وَلَا يكون
(3/245)
الإنزواء إِلَّا بانحراف مَعَ تقبض، قَالَ
الْأَعْشَى:
(يزِيد، يغض الطّرف عني كَأَنَّمَا ... زوى بَين
عَيْنَيْهِ عَليّ المحاجم)
(فَلَا ينبسط من بَين عَيْنَيْك مَا انزوى ... وَلَا
تلقني إِلَّا وأنفك راغم)
وَأما قَوْله: ((قطّ قطّ)) فالطاء خَفِيفَة
مَكْسُورَة، وَهِي بِمَعْنى حسب.
والحسب الْكِفَايَة، وَقد رُوِيَ: ((قطني)) وَالْمرَاد
حسبي، وأنشدوا:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد
مَلَأت بَطْني)
وَقد رُوِيَ: قدني، وَهِي بِمَعْنى حسبي.
وَقَوله: ((فينشئ للجنة خلقا)) إِن قيل: هَؤُلَاءِ
الَّذين ينشئهم للجنة، كَيفَ أثيبوا بِلَا عمل؟
فَالْجَوَاب: أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يسكنون فِي فضول
الْجنَّة كالحراس والخدم لأربابها، إِلَّا أَنهم
يضاهون أهل الْجنَّة، بل هم أَتبَاع.
1599 - / 1946 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: ((من نسي
صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فكفارتها أَن يُصليهَا إِذا
ذكرهَا)) .
قد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: ((لَيْسَ
فِي النّوم تَفْرِيط)) فَلم ذكر هَا هُنَا كَفَّارَة؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِنْسَان
قد يُخطئ فَتجب الْكَفَّارَة مثل الْقَاتِل خطأ.
(3/246)
وَالثَّانِي: أَنه لما توهموا فِي هَذَا
الْفِعْل كَفَّارَة بَين لَهُم أَنه لَا كَفَّارَة،
وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فَقَط.
1600 - / 1947 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر
أَربع عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ
حجَّته: عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة - أَو زمن
الْحُدَيْبِيَة، وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي
الْقعدَة، وَعمرَة من جعرانة، وَعمرَة فِي حجَّته.
وَحج حجَّة وَاحِدَة.
وَقد رُوِيَ مثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن
عَائِشَة قَالَت: اعْتَمر ثَلَاثًا، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيح؛ لِأَن أنسا وَابْن عَبَّاس حسبا عمرته
الَّتِي خرج لأَجلهَا ثمَّ حصر وَلم يصل إِلَى
الْكَعْبَة، فَلذَلِك صَارَت أَرْبعا.
وَأما حجَّته فَإِنَّهُ مَا حج بعد الْهِجْرَة سوى
حجَّة الْوَدَاع.
1601 - / 1948 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد
الْمِائَة: كَانَ يضْرب شعره مَنْكِبَيْه.
الْمنْكب: فرع الْكَتف. وَقد سبق بَيَان هَذَا
الحَدِيث فِي مَوَاضِع.
1602 - / 1949 - والْحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة:
قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.
(3/247)
1603 - / 1951 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
بعد الْمِائَة: أهْدى أكيدر دومة الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم جُبَّة سندس.
قد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام ذكر أكيدر
دومة، وهدايا الْكفَّار.
وَأما السندس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: السندس: رَقِيق الديباج، لم يخْتَلف
فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَلم يخْتَلف أهل اللُّغَة فِي
أَنه مُعرب، قَالَ الراجز:
(وَلَيْلَة من اللَّيَالِي حندس ... لون حواشيها كلون
السندس)
وَقَوله: ((لمناديل سعد بن معَاذ)) قد تقدم فِي مُسْند
الْبَراء.
1604 - / 1952، 1953 - والْحَدِيث السَّادِس بعد
الْمِائَة تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله،
وَكَذَلِكَ السَّابِع. 1605 / 1954 - والْحَدِيث
الثَّامِن بعد الْمِائَة: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رأى شَيخا يهادى بَين ابنيه فَقَالَ:
((مَا بَال هَذَا؟)) قَالُوا: نذر أَن يمشي.
(3/248)
قَالَ: ((إِن الله عَن تَعْذِيب هَذَا
نَفسه لَغَنِيّ)) وَأمره أَن يركب.
يهادى بَين ابنيه: أَي يمشي بَينهمَا مُعْتَمدًا
عَلَيْهِمَا لضَعْفه، وَمن فعل ذَلِك بشخص فَهُوَ
يهاديه، فَإِذا فعل ذَلِك الْإِنْسَان نَفسه قيل:
تهادى، قَالَ الْأَعْشَى:
(إِذا مَا تأتى يُرِيد الْقيام ... تهادى كَمَا قد
رَأَيْت البهيرا)
وَهَذَا الرجل كَأَنَّهُ نذر الْمَشْي إِلَى
الْكَعْبَة فعجز، وَمن نذر طَاعَة فعجز عَنْهَا كفر
كَفَّارَة يَمِين.
1606 - / 1955 - والْحَدِيث التَّاسِع [بعد الْمِائَة]
قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((لواصلت وصالا يدع المتعمقون
تعمقهم)) التعمق: طلب عمق الشَّيْء، فَكَأَنَّهُ
أَرَادَ تكلّف مَا لَا يلْزم.
1607 - / 1957 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر [بعد
الْمِائَة] قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1608 - / 1958 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد
الْمِائَة: ((إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى))
.
(3/249)
الصدمة الأولى: فَجْأَة الْمُصِيبَة.
والصدم: ضرب الشَّيْء الشَّديد بِمثلِهِ. وتصادم
الرّجلَانِ: تدافعا بعنف. وَمعنى الحَدِيث: أَن
الصَّبْر الَّذِي هُوَ صَبر حَقِيقَة الَّذِي بِهِ
يعظم الْأجر عِنْد الصدمة الأولى. وَلَفْظَة
((إِنَّمَا)) قد شرحناها فِي مُسْند عمر عِنْد قَوْله:
((إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ)) .
وَهَذَا لِأَن مُرُور الزَّمَان يهون المصائب، لِأَن
النسْيَان يطْرَأ، وَعمل الْقُوَّة الفكرية ينْصَرف
عَمَّا تقادم عَهده إِلَى غَيره فَيَقَع الصَّبْر من
غير تكلّف، وَإِنَّمَا الْقُوَّة فِي مُقَابلَة
الْبلَاء عِنْد مبدأه، وَلَا يقدر على الصَّبْر
حِينَئِذٍ إِلَّا أحد رجلَيْنِ: مُؤمن بِالْأَجْرِ
فَهُوَ يصبر لنيل مَا يرجوه، أَو نَاظر بِعَين الْعقل
إِلَى أَن الْجزع لَا فَائِدَة فِيهِ، قَالَ عَليّ
عَلَيْهِ السَّلَام للأشعث بن قيس: إِنَّك إِن صبرت
إِيمَانًا واحتسابا، وَإِلَّا سلوت كَمَا تسلو
الْبَهَائِم. وأنشدوا:
(يمثل ذُو اللب فِي نَفسه ... مصائبه قبل أَن تنزلا)
(فَإِن نزلت بَغْتَة لم ترعه ... لما كَانَ فِي نَفسه
مثلا)
(رأى الْأَمر يُفْضِي إِلَى آخر ... فصير آخِره أَولا)
(وَذُو الْجَهْل يَأْمَن أَيَّامه ... وينسى مصَارِع
من قد خلا)
(وَإِن بدهته صروف الزَّمَان ... بِبَعْض مصائبه
أعولا)
(وَلَو قدم الحزم فِي أمره ... لعلمه الصَّبْر حسن
البلا)
(3/250)
وَقَالَ آخر:
(إِذا طالعك الكره ... فَكُن بِالصبرِ لِوَاذًا)
(وَإِلَّا ذهب الْأجر ... فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا)
1609 - / 1959 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد
الْمِائَة: إِنِّي لَا آلو أَن أُصَلِّي بكم كَمَا
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي
بِنَا. قَالَ ثَابت: فَكَانَ إِذا رفع رَأسه من
الرُّكُوع انتصب قَائِما.
اعْلَم أَن الإعتدال من الرُّكُوع ركن من أَرْكَان
الصَّلَاة عندنَا، وَكَذَلِكَ الطُّمَأْنِينَة فِي
الْقعُود بَين السَّجْدَتَيْنِ واللبث بِمِقْدَار مَا
يَقُول المنتصب من الرُّكُوع: سمع الله لمن حَمده،
رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَكَذَلِكَ اللّّبْث عِنْد
الرّفْع من السُّجُود بِمِقْدَار مَا يَقُول: رب
اغْفِر لي، وَقَول ذَلِك وَاجِب أَيْضا، وَمَا زَاد
على ذَلِك كَقَوْلِه بعد رَبنَا وَلَك الْحَمد: ملْء
السَّمَوَات وَالْأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد.
وتكرار قَوْله: رب اغْفِر لي، من المسنونات فِي
الصَّلَاة.
1610 - / 1960 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر بعد
الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1611 - / 1961 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد
مائَة: بَيْنَمَا أَنا وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خارجان من الْمَسْجِد لَقينَا رجل
عِنْد سدة الْمَسْجِد
(3/251)
فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَتى السَّاعَة؟
قَالَ: ((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَكَأَن الرجل قد
استكان.
سدة الْمَسْجِد: ظلاله الَّتِي حوله، وفناؤه.
واستكان: بِمَعْنى خضع.
وَأما قصد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله:
((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَيحْتَمل شَيْئَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن ينظر: هَل سُؤَاله سُؤال مكذب بهَا، أَو
خَائِف لَهَا، أَو راج لخيرها؟
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد تهويل أمرهَا، فَكَأَنَّهُ
يَقُول: شَأْنهَا شَدِيد، فَبِمَ تلقاها؟ فَلَمَّا
تكلم بِمَا يَقْتَضِي الْإِيمَان ألحقهُ بِمن يُحِبهُ
لحسن نِيَّته وقصده.
وَقَول أنس: كَانَ من أقراني: أَي فِي السن،
وَكَذَلِكَ: من أترابي، والأتراب: المتساوون فِي السن،
واحدهم ترب.
وَقَوله: ((إِن أخر هَذَا لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى
تقوم السَّاعَة)) اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَكَلَّم بأَشْيَاء على سَبِيل
الظَّن وَالْقِيَاس، وَالظَّن وَالْقِيَاس دَلِيل
مَعْمُول عَلَيْهِ، وَلَا ينْسب إِلَى الْخَطَأ من عمل
على دَلِيل، فَلَمَّا قربت لَهُ السَّاعَة، وَقيل
لَهُ: {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] كَانَ يَظُنهَا
بِتِلْكَ الأمارات قريبَة جدا، وَلِهَذَا قَالَ فِي
الدَّجَّال: ((إِن يخرج وَأَنا فِيكُم فَأَنا حجيجه))
وَقد سبق فِي مُسْند طَلْحَة أَنه قَالَ فِي تلقيح
النّخل: ((مَا أَظن ذَاك يُغني شَيْئا)) ثمَّ قَالَ:
((إِنَّمَا ظَنَنْت، فَلَا تؤاخذوني
(3/252)
بِالظَّنِّ)) وَفِي أَفْرَاد مُسلم من
حَدِيث أنس أَنه قَالَ فِي تلقيح النّخل: ((لَو لم
تَفعلُوا لصلح)) فَخرج شيصا، فَهَذَا يدل على أَنه
قَالَه بِالظَّنِّ، وَلذَلِك اعتذر فِي حَدِيث
طَلْحَة، فَكَانَ هَذَا مِمَّا ظن بدلائل الأمارات لَا
مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ بالتصريح. وَيحْتَمل أَن يكون
أَرَادَ بالساعة موت الكائنين فِي ذَلِك الزَّمَان
كَمَا سبق فِي مُسْند ابْن عمر: أَنه خرج عَلَيْهِم
لَيْلَة فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه، فَإِن
رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر
أحد)) وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند
عَائِشَة: أَن قوما سَأَلُوهُ عَن السَّاعَة، فَنظر
إِلَى أَصْغَرهم فَقَالَ: ((إِن يَعش هَذَا لَا
يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ))
قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: يَعْنِي مَوْتهمْ.
1612 - / 1962 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد
الْمِائَة: خدمت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر
سِنِين، وَالله مَا قَالَ لي أُفٍّ قطّ.
فِي ((أُفٍّ)) عشر لُغَات: إِحْدَاهَا: أُفٍّ
بِالْكَسْرِ من غير تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ أَبُو
عَمْرو.
(3/253)
وَالثَّانيَِة: أُفٍّ بِالْفَتْح من غير
تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ ابْن كثير.
وَالثَّالِثَة: أُفٍّ بِالْكَسْرِ والتنوين، وَبهَا
قَرَأَ نَافِع.
وَالرَّابِعَة: أُفٍّ بِالرَّفْع والتنوين، وَبهَا
قَرَأَ ابْن يعمر.
وَالْخَامِسَة: أُفٍّ بِالرَّفْع من غير تَنْوِين مَعَ
تَشْدِيد الْفَاء، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عمرَان
الْجُوَيْنِيّ.
وَالسَّادِسَة: أفا مثل تعسا، وَبهَا قَرَأَ عَاصِم
الجحدري.
وَالسَّابِعَة: أُفٍّ بِإِسْكَان الْفَاء وتخفيفها،
وَبهَا قَرَأَ عِكْرِمَة.
وَالثَّامِنَة: أَفِي بتَشْديد الْفَاء وَكسرهَا وياء،
وَبهَا قرا أَبُو الْعَالِيَة.
والتاسعة: إف بِكَسْر الْألف وَالْفَاء.
والعاشرة: أفة.
وَفِي معنى أُفٍّ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه وسخ الظفر، قَالَه الْخَلِيل.
وَالثَّانِي: وسخ الْأذن، قَالَه الْأَصْمَعِي.
وَالثَّالِث: قلامة الظفر، قَالَه ثَعْلَب.
وَالرَّابِع: أَن الأف الإحتقار والإستصغار من الأفف،
والأفف عِنْد الْعَرَب الْقلَّة، ذكره ابْن
الْأَنْبَارِي.
وَالْخَامِس: أَن الأف مَا رفعته من الأَرْض من عود
أَو قَصَبَة، حَكَاهُ
(3/254)
ابْن فَارس وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
قَالَ: معنى أُفٍّ: النتن والتضجر، وَأَصلهَا نفخك
الشَّيْء يسْقط عَلَيْك من تُرَاب ورماد، وللمكان
يُرِيد إمَاطَة الْأَذَى عَنهُ، فَقيل لكل مستثقل.
وَقَوله: مَا قَالَ لي: لم فعلت. اعْلَم أَنه اتّفق
فِي هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: كَون أنس
صَبيا، وَالصَّبِيّ يصفح عَن خطئه.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ عَاقِلا، وَلِهَذَا قَالَ
أَبُو طَلْحَة: إِن أنسا غُلَام كيس: أَي عَاقل.
وَلَقَد قَالَت لَهُ أمه: أَيْن تذْهب يَا أنس؟ قَالَ:
فِي حَاجَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَت: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِنَّهَا سر، وَلم يخبرها،
وَمَتى كَانَ الْخَادِم عَاقِلا لم يلم، وَقد أنشدوا:
(إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيما وَلَا
توصه)
وَالثَّالِث: حلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعفوه. فلهذه الْأَشْيَاء امْتنع لوم أنس.
1613 - / 1963 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد
الْمِائَة: حجمه أَبُو طيبَة. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس.
(3/255)
وَفِيه: ((إِن أمثل مَا تداويتم بِهِ
الْحجامَة والقسط البحري)) . وَقَالَ: ((لَا تعذبوا
صِبْيَانكُمْ بالغمز من الْعذرَة)) . الْعذرَة: وجع
الْحلق، يُقَال: عذرت الْمَرْأَة الصَّبِي؛ إِذا
كَانَت بِهِ الْعذرَة: وَهِي وجع الْحلق، فغمزته.
وَسَيَأْتِي هَذَا مشروحا فِي مُسْند أم قيس.
1614 - / 1964 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد
الْمِائَة: نهى عَن بيع الثَّمر حَتَّى يزهو.
فَقُلْنَا لأنس: مَا زهوها؟ قَالَ: تحمر وَتَصْفَر،
قَالَ: ((أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة، بِمَ
تستحل مَال أَخِيك؟)) وَفِي لفظ: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن لم يثمرها الله،
فَبِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) .
وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: أَرَأَيْت إِن من الله الثَّمَرَة، بِمَ
تستحل مَال أَخِيك؟)) ظَاهره أَنه من كَلَام رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك رَوَاهُ مَالك،
وَخَالفهُ الْأَكْثَرُونَ فجعلوه من كَلَام أنس.
أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا
جَعْفَر ابْن أَحْمد قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ
بن ثَابت قَالَ: روى مَالك بن أنس هَذَا الحَدِيث عَن
حميد عَن أنس فرفعه، وَفِيه: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَرَأَيْت إِذا منع الله
الثَّمَرَة، فَبِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟))
وَهَكَذَا رَوَاهُ عَن مَالك أَصْحَابه لم
يَخْتَلِفُوا فِيهِ. وَوهم مَالك فِي هَذَا؛ لِأَن
قَوْله: أَفَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ...
إِلَى آخر الْمَتْن كَلَام أنس، وَقد بَين ذَلِك يزِيد
بن هَارُون وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد
الدَّرَاورْدِي وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر
وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، كلهم فِي روايتهم هَذَا
الحَدِيث عَن
(3/256)
حميد، وفصلوا كَلَام أنس من كَلَام
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: ((بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) دَلِيل على أَن
حكم الثِّمَار - إِذا لم يشْتَرط فِيهَا الْقطع -
التبقية، وَأَن الْعرف فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة
الشَّرْط.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن مَا تهلكه الجوائح من
ضَمَان البَائِع، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1615 - / 1965 - والْحَدِيث التَّاسِع عشر بعد
الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1616 - / 1966 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد
الْمِائَة: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) قد
سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد
الله.
1617 - / 1967 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ركب حمارا وَانْطَلق إِلَى عبد الله بن أبي
فَقَالَ: إِلَيْك عني، وَالله لقد آذَانِي حِمَارك.
كَانَ ابْن أبي يظْهر الْإِسْلَام ثمَّ تظهر مِنْهُ
فلتات تدل على نفَاقه، ثمَّ يتَأَوَّل لما قَالَ مرّة،
وينكر أُخْرَى، فَحَمله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على علاته.
(3/257)
1618 - / 1968 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْعِشْرين: انْطلق ابْن مَسْعُود فَوجدَ أَبَا جهل
قد ضربه ابْنا عفراء حَتَّى برد، فَأخذ بلحيته
فَقَالَ: أَنْت أَبُو جهل؟ وَفِي لفظ: أَنْت أَبَا
جهل؟ وَقَالَ: لَو غير أكار قتلني.
كَذَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث ((ابْنا عفراء)) وَقد
ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف أَن أَبَا جهل قَتله معَاذ بن
عَمْرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء، وَابْن الجموح
لَيْسَ من أَوْلَاد عفراء. وَقد ذكرنَا أولاء عفراء
الَّذين شهدُوا بَدْرًا وهم سَبْعَة، وَذكرنَا
نَسَبهَا أَيْضا فِي مُسْند ابْن عَوْف. ومعاذ بن
عفراء مِمَّن بَاشر قتل أبي جهل، فَلَعَلَّ بعض
إخْوَته أَعَانَهُ أَو حَضَره، أَو أَن يكون الحَدِيث
((ابْن عفراء)) فغلط الرَّاوِي فَقَالَ: ((ابْنا
عفراء)) وَالله أعلم.
وَبرد بِمَعْنى ثَبت، أَي أثبتته الْجراحَة فَلم تمكنه
أَن يبرح. وَفِي بعض الْأَحَادِيث: برك.
وَإِنَّمَا ذكر ابْن مَسْعُود كنيته استهزاء. فَقَالَ:
أَنْت أَبُو جهل؟ كَقَوْلِه: {أَنْت الْعَزِيز
الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] . فَأَما من روى: أَنْت
أَبَا جهل؟ أَرَادَ: أَنْت هَذَا يَا أَبَا جهل.
والأكار: الزراع، سمي بذلك لحفره الأَرْض فِي
الزِّرَاعَة.
والأكرة: الحفرة، وَجَمعهَا أكر.
1619 - / 1970 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
بعد الْمِائَة: قد سبق فِي
(3/258)
مُسْند أبي مُوسَى.
1620 - / 1971 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَنا أول شَفِيع فِي
الْجنَّة. أَي فِي دُخُول الْجنَّة.
1621 - / 1973 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ
بعد الْمِائَة: قد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند
عَليّ.
1622 - / 1975 - وَالتَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد
الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
1623 - / 1976 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد
الْمِائَة: انهزم النَّاس عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَبُو طَلْحَة بَين
يَدَيْهِ مجوب عَلَيْهِ بحجفة.
أَي سَاتِر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاطع
بَينه وَبَين الْعَدو بحجفة: وَهِي ترس صَغِير.
والنزع: مد الْقوس.
والجعبة: خريطة النشاب من جُلُود.
والخدم جمع خدمَة: وَهِي الخلخال، وَقد تسمى الساقان
خدمتين لِأَنَّهُمَا مَوضِع الخدمتين.
والمتون جمع متن، وَقد بَيناهُ فِي الحَدِيث الرَّابِع
والثمانين من هَذَا الْمسند.
(3/259)
وَأما وُقُوع السَّيْف فلأجل مَا ألقِي
عَلَيْهِم يَوْم أحد من النّوم الَّذِي أُشير إِلَيْهِ
بقوله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ}
[الْأَنْفَال: 11] .
وَقد وَقعت كَلِمَات مصحفة فِي هَذَا الحَدِيث من كتاب
البُخَارِيّ إِلَّا أَنه لم يذكرهَا الْحميدِي،
وَذكرهَا أَبُو سُلَيْمَان، مِنْهَا: وَكَانَ راميا
شَدِيد الْقد، بِالْقَافِ، وَقَالَ: أرَاهُ الْمَدّ.
قَالَ: وَيحْتَمل: شَدِيد الْقد بِكَسْر الْقَاف،
يُرِيد بِهِ وتر الْقوس. وَمِنْهَا تنقزان الْقرب.
وَإِنَّمَا هُوَ تزفران.
1624 - / 1977 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((ليردن عَليّ
الْحَوْض رجال مِمَّن صاحبني، إِذا رَأَيْتهمْ
وَرفعُوا لي اختلجوا دوني)) قد سبق هَذَا فِي مُسْند
ابْن مَسْعُود وَغَيره.
1625 - / 1980 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((يَا بني النجار،
ثامنوني بحائطكم هَذَا)) .
قَوْله: ((ثامنوني)) أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم.
قَوْله: وَكَانَ فِيهِ نخل وَخرب. الرِّوَايَة
الْمَعْرُوفَة خرب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
الْمَفْتُوحَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، جمع خربة،
كَمَا يُقَال: كلم وَكلمَة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
حدّثنَاهُ الْخيام بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء،
وَهُوَ جمع الخراب. وَقَالَ اللَّيْث: لُغَة تَمِيم
خرب، والواحدة
(3/260)
خربة، إِلَّا أَن قَوْله: فَأمر بالخرب
فسويت يدل على أَن الصَّوَاب فِيهِ إِمَّا الخرب بِضَم
الْخَاء جمع خربة: وَهِي الخروق الَّتِي فِي الأَرْض،
إِلَّا أَنهم يخصون بِهَذَا الإسم كل ثقبة مستديرة من
جلد كَانَت أَو فِي أَرض أَو جِدَار. وَإِمَّا أَن
تكون الرِّوَايَة الجرف وَجمع الجرفة، وَهِي جمع
الجرف، كَمَا قيل: خرج وخرجة، وترس وترسة، وَأبين
مِنْهَا فِي الصَّوَاب إِن ساعدته الرِّوَايَة: حدب:
وَهُوَ جمع الحدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله:
فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب، أَو
مَوضِع من الأَرْض فِيهِ خروق، فَأَما الخرب فَإِنَّهُ
تعمر وَلَا تسوى.
1626 - / 1981 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَبَا عُمَيْر، مَا
فعل النغير؟)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: النغير: طَائِر صَغِير،
وَيجمع على النغران.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن صيد الْمَدِينَة
مُبَاح، وَفِيه: إِبَاحَة السجع فِي الْكَلَام.
وَفِيه: جَوَاز الدعابة مَا لم يكن إِثْمًا. وَفِيه:
إِبَاحَة تَصْغِير الْأَسْمَاء. وَفِيه: أَنه كناه
وَلم يكن لَهُ ولد، فَلم يدْخل ذَلِك فِي بَاب
الْكَذِب.
1627 - / 1982 - والْحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
بعد الْمِائَة: فِي مُسْند
(3/261)
عُرْوَة الْبَارِقي.
1628 - / 1983 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: أَقَمْنَا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرا - يَعْنِي بِمَكَّة
- نقصر الصَّلَاة.
عندنَا أَنه إِذا نوى الْمُسَافِر إِقَامَة بِبَلَد
يزِيد على أَرْبَعَة أَيَّام أتم، وَعَن أَحْمد: إِذا
نوى إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم. وَلَا
تخْتَلف الرِّوَايَة أَنه يحْتَسب يَوْم الدُّخُول
وَيَوْم الْخُرُوج. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ:
إِذا نوى إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام غير الدُّخُول
وَالْخُرُوج، فنحمل نَحن هَذَا الحَدِيث على أَنه لم
ينْو إِقَامَة هَذِه الْمدَّة، بل كَانَ يَقُول:
الْيَوْم أخرج، وَغدا أخرج. وَمَتى أَقَامَ لقَضَاء
حَاجَة وَلم ينْو الْإِقَامَة قصر أبدا. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: إِذا نوى خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم.
1629 - / 1984 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قيل لأنس: أَكُنْتُم
تَكْرَهُونَ السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة؟ قَالَ:
نعم، لِأَنَّهَا كَانَت من شَعَائِر الْجَاهِلِيَّة،
حَتَّى أنزل الله عز وَجل: {إِن الصَّفَا والمروة من
شَعَائِر الله} [الْبَقَرَة: 158] .
قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ على الصَّفَا وثن يدعى إساف،
وعَلى الْمَرْوَة وثن يدعى نائلة، فَكَانَ أهل
الْجَاهِلِيَّة يسعون بَينهمَا ويمسحونهما، فَلَمَّا
جَاءَ الْإِسْلَام كفوا عَن السَّعْي بَينهمَا، فَنزلت
هَذِه الْآيَة. قَالَ
(3/262)
الزّجاج: الصَّفَا فِي اللُّغَة
الْحِجَارَة الصلبة الصلدة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا،
وَهُوَ جمع واحده صفاة وَصفا، مثل حَصَاة وحصا.
والمروة: الْحِجَارَة اللينة. وَهَذَانِ الموضعان من
شَعَائِر الله: أَي من أَعْلَام متعبداته، وَوَاحِد
الشعائر شعيرَة. والشعائر كل مَا كَانَ من موقف أَو
مسعى أَو ذبح. وَالْحج: الْقَصْد، وكل قَاصد شَيْئا
فقد [حجه، وَكَذَلِكَ كل قَاصد شَيْئا فقد] اعْتَمر.
والجناح: الْإِثْم، أَخذ من جنح: إِذا مَال وَعدل،
وَأَصله من جنَاح الطَّائِر. وَإِنَّمَا اجْتنب
الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لمَكَان الْأَوْثَان،
فَقيل لَهُم: إِن نصب الْأَوْثَان بَينهمَا قبل
الْإِسْلَام لَا يُوجب اجتنابهما.
1630 - / 1985 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قلت لأنس: أبلغك أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((لَا حلف
فِي الْإِسْلَام؟)) قَالَ: قد حَالف النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار فِي دَاري.
الْحلف: العقد والعهد، وَكَانُوا يتحالفون فِي
الْجَاهِلِيَّة على نصر بَعضهم الْبَعْض فِي كل مَا
يَفْعَلُونَهُ، فهدم الْإِسْلَام ذَلِك. وَالْمرَاد
بقوله: حَالف بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار، المؤاخاة،
للإئتلاف على الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا أنس
محالفة لِأَن مَعْنَاهَا معنى المحالفة. وَقد أَشَرنَا
إِلَى المؤاخاة فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
(3/263)
1631 - / 1986 - وَفِي الحَدِيث
الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: قدم عَليّ من الْيمن،
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بِمَ
أَهلَلْت؟)) قَالَ: بإهلال [أَو] كإهلال النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((لَوْلَا أَن معي
الْهَدْي لأحللت)) .
لما خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه
يقصدون الْحَج، ثمَّ أَمر أَصْحَابه أَن يفسخوه إِلَى
الْعمرَة - كَمَا ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس - لم
يُمكنهُ الْفَسْخ لِأَنَّهُ سَاق الْهَدْي. وَهَذَا
الحَدِيث بِعَيْنِه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله،
وَقد بَيناهُ ثمَّ.
1632 - / 1988 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج لِحَاجَتِهِ تَبعته
أَنا وَغُلَام منا، مَعنا إداوة من مَاء يستنجي بِهِ.
الْإِدَاوَة: إِنَاء من جُلُود كالركوة.
وَأما الإستنجاء فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ التمسح
بالأحجار، وَأَصله من النجوة: وَهِي الإرتفاع من
الأَرْض، وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة
تستر بنجوة من الأَرْض فَقَالُوا: ذهب ينجو، كَمَا
قَالُوا: ذهب يتغوط، إِذا أَتَى الْغَائِط: وَهُوَ
المطمئن من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة، ثمَّ سمي
الْحَدث نَجوا، واشتق مِنْهُ: قد استنجى: إِذا مسح
مَوْضِعه أَو غسله.
(3/264)
1633 - / 1989 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو جهل:
اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك
فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا
بِعَذَاب أَلِيم، فَنزلت: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم
وَأَنت فيهم} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ [الْأَنْفَال:
33، 34] .
أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْقَائِل لهَذَا النَّضر
بن الْحَارِث، غير أَن هَذِه الطَّرِيق إِلَى أنس
أثبت.
وَفِي الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: ((هَذَا)) ثَلَاثَة
أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الْقُرْآن.
وَالثَّانِي: كل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: إكرام مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالنُّبُوَّةِ.
وَالْكِنَايَة فِي قَوْله: {ليعذبهم} عَائِدَة إِلَى
أهل مَكَّة.
وَفِي معنى {وَأَنت فيهم} قَولَانِ: أَحدهمَا: وَأَنت
مُقيم بَين أظهرهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: لم تعذب
قَرْيَة حَتَّى يخرج نبيها والمؤمنون مَعَه.
وَالثَّانِي: وَأَنت حَيّ.
وَفِي قَوْله: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم
يَسْتَغْفِرُونَ} أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَا كَانَ معذب الْمُشْركين وَفِيهِمْ من قد
سبق لَهُ يُؤمن، قَالَه
(3/265)
ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: وَمَا كَانَ الله معذب الْمُشْركين وهم -
يَعْنِي الْمُؤمنِينَ الَّذين بَينهم -
يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه الضَّحَّاك. قَالَ ابْن
الْأَنْبَارِي: وصفوا بِصفة بَعضهم لبَعض، لِأَن
الْمُؤمنِينَ بَين أظهرهم، فأوقع الْعُمُوم على
الْخُصُوص، كَمَا يُقَال: قتل أهل الْمَسْجِد رجلا،
وَلَعَلَّه لم يفعل ذَلِك إِلَّا رجل مِنْهُم.
وَالثَّالِث: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم
من يسْتَغْفر، قَالَه مُجَاهِد: قَالَ ابْن
الْأَنْبَارِي: فَمَعْنَى تعذيبهم إهلاكهم، فوصفهم
بِصفة ذَرَارِيهمْ كَمَا فِي الْجَواب الَّذِي قبله.
وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَو اسْتَغْفرُوا لما
عذبهم وَلَكنهُمْ لم يَسْتَغْفِرُوا فاستحقوا
الْعَذَاب، وَهَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب: مَا كنت
لأهينك وَأَنت تكرمني، يُرِيدُونَ: مَا كنت لأهينك لَو
أكرمتني، فَأَما إِذْ لست تكرمني فَأَنت مُسْتَحقّ
لإهانتي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب قَتَادَة
وَالسُّديّ، وَهُوَ اخْتِيَار اللغويين.
وَقَوله: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم} هَذِه الْآيَة
أجازت تعذيبهم، وَالْأولَى نفت ذَلِك، وَهل المُرَاد
بِهَذَا الْعَذَاب الأول أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهَا: أَن الأول امْتنع لشيئين: أَحدهمَا كَون
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم.
وَالثَّانِي: كَون الْمُؤمنِينَ المستغفرين بَينهم،
فَلَمَّا وَقع التَّمْيِيز بِالْهِجْرَةِ وَقع
الْعَذَاب بالباقين يَوْم بدر، وَقيل: بِفَتْح مَكَّة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، ثمَّ فِي
ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن
(3/266)
الْعَذَاب الثَّانِي قتل بَعضهم يَوْم بدر،
وَالْأول استئصال الْكل، فَلم يَقع الأول لما قد علم
من إِيمَان بَعضهم وَإِسْلَام بعض ذَرَارِيهمْ، وَوَقع
الثَّانِي. وَالثَّانِي: أَن الْعَذَاب الأول عَذَاب
الدُّنْيَا، وَالثَّانِي عَذَاب الْآخِرَة.
1634 - / 1990 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وجد تَمْرَة فَقَالَ: ((لَوْلَا
أَن تكون - وَفِي لفظ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون
- من الصَّدَقَة لأكلتها)) .
اللَّفْظ الثَّانِي فسر الأول، وَهُوَ أصل فِي
الْوَرع، وَهُوَ أَيْضا يدل على أَن مَا لَا تتبعه
النَّفس لَا يعرف وَيجوز تنَاوله، وَلَا يجب
التَّصَدُّق بِهِ.
1635 - / 1993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بِخمْس مكاكيك،
وَيتَوَضَّأ بمكوك.
المكوك: إِنَاء يسع نَحْو الْمَدّ، مَعْرُوف عِنْدهم.
1636 - / 1995 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ أَكثر دُعَاء
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اللَّهُمَّ
آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة،
وقنا عَذَاب النَّار)) .
الْحَسَنَة: الشَّيْء الْحسن، وَقد اخْتلف
الْمُفَسِّرُونَ فِي حَسَنَة الدُّنْيَا
(3/267)
على سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا
الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام. وَالثَّانِي: الْعِبَادَة: رَوَاهُ
سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْحسن. وَالثَّالِث: الْعلم
وَالْعِبَادَة، رَوَاهُ هِشَام عَن الْحسن.
وَالرَّابِع: المَال، قَالَه أَبُو وَائِل.
وَالْخَامِس: الْعَافِيَة، قَالَه قَتَادَة.
وَالسَّادِس: الرزق الْوَاسِع، قَالَه مقَاتل.
وَالسَّابِع: النِّعْمَة، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَفِي حَسَنَة الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا:
الْحور الْعين، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَالثَّانِي: الْجنَّة، قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث:
الْعَفو وَالْمَغْفِرَة، قَالَه الثَّوْريّ.
1637 - / 1996 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد
الْمِائَة: ((لن يبرح النَّاس يسْأَلُون حَتَّى
يَقُولُوا: هَذَا الله خَالق كل شَيْء، فَمن خلق
الله؟)) .
اعْلَم أَن الباحث عَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحس،
لِأَن الْحس لم يعرف وجود شَيْء إِلَّا بِشَيْء، وَمن
شَيْء، فَأَما الْعقل الَّذِي هُوَ الْحَاكِم
الْمَقْطُوع بِحكمِهِ، فقد علم أَنه لابد من خَالق غير
مَخْلُوق، إِذْ لَو كَانَ مخلوقا لاحتاج إِلَى خَالق،
ثمَّ بتسلسل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ، والمتسلسل
بَاطِل، وَإِنَّمَا أثبت الْعقل صانعا، لِأَنَّهُ رأى
المحدثات مفتقرة إِلَى مُحدث، فَلَو افْتقر الْمُحدث
إِلَى مُحدث كل مُحدثا.
1638 - / 1997 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين
بعد الْمِائَة: رأى
(3/268)
رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَقَالَ: ((اركبها))
، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد
الله.
1639 - / 1999 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين
بعد الْمِائَة: إِن الرّبيع كسرت ثنية جَارِيَة.
الرّبيع من الصحابيات أَربع: الرّبيع بنت حَارِثَة،
وَالربيع بنت الطُّفَيْل، وَالربيع بنت معوذ، وَالربيع
بنت النَّضر عمَّة أنس، وَهِي صَاحِبَة هَذِه
الْقِصَّة، وكلهن بايعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَلم يرو عَنهُ مِنْهُنَّ غير بنت معوذ، وَقد
أخرج لَهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) على مَا سَيَأْتِي
ذكرهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: لَا وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر
سنّهَا. كَأَنَّهُ حلف: لَا يجْرِي الْقدر بِهَذَا،
طَمَعا فِي فضل الله تَعَالَى أَن يصرف عَنْهَا ذَلِك،
فأبره: أَعَانَهُ على الْبر وَلم يحنثه.
1640 - / 2002 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين
بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يفْطر من الشَّهْر حَتَّى نظن أَنه لَا يَصُوم
مِنْهُ، ويصوم حَتَّى نظن أَلا يفْطر مِنْهُ شَيْئا.
ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام
يَصُوم عدد مَا يفْطر، وَيفْطر عدد مَا يَصُوم، فَيصير
مثل من يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا. وَإِنَّمَا
كَانَ يجمع أَيَّام الْفطر وَأَيَّام الصَّوْم، وَقد
كَانَ ينَام بِقدر مَا يقوم،
(3/269)
وَيقوم بِقدر مَا ينَام.
1641 - / 2003 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين
بعد الْمِائَة: ((تسحرُوا؛ فَإِن فِي السّحُور بركَة))
.
السّحُور بِفَتْح السِّين: اسْم مَا يُؤْكَل فِي ذَلِك
الْوَقْت، وَكَذَلِكَ الفطور والبخور والسفوف واللبوس
والسنون والسعوط وَالْوُضُوء.
1642 - / 2004 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين
بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا دخل الْخَلَاء وَفِي لفظ: الكنيف - قَالَ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث)) .
الْخَلَاء: الْمَكَان الْخَالِي، وَهُوَ هَاهُنَا
كِنَايَة، عَن مَوضِع الْحَدث.
والكنيف: أَصله السَّاتِر - قَالَ ابْن قُتَيْبَة:
وَمِنْه قيل للترس كنيف: أَي سَاتِر. وَكَانُوا قبل
أَن يحدث الكنيف يقضون حوائجهم فِي البراحات والصحاري،
فَلَمَّا حفروا فِي الأَرْض آبارا تسترا للْحَدَث سميت
كنفا.
وَالْبَاء فِي الْخبث سَاكِنة، كَذَلِك ضبطناه عَن
أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره. ثمَّ فِي
مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشَّرّ، قَالَه
أَبُو عبيد. وَالثَّانِي: الْكفْر، قَالَه ابْن
الْأَنْبَارِي. وَزعم أَبُو سُلَيْمَان
(3/270)
الْخطابِيّ أَن تسكين الْبَاء غلط، وَأَن
الصَّوَاب ضمهَا، قَالَ: وَهِي جمع الْخَبيث، والخبائث
جمع الخبيثة، وَالْمرَاد: ذكران الشَّيَاطِين وإناثهم.
وَلَا أَدْرِي من أَيْن لَهُ هَذَا التحكم وَهُوَ يروي
أَن ابْن الْأَعرَابِي كَانَ يَقُول: أصل الْخبث فِي
كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه، فَإِن كَانَ من
الْكَلَام فَهُوَ الشتم، وَإِن كَانَ من الْملَل
فَهُوَ الْكفْر، وَإِن كَانَ من الطَّعَام فَهُوَ
الْحَرَام، وَإِن كَانَ من الشَّرَاب فَهُوَ الضار.
فَإِن صَحَّ التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه فَمَا وَجه
الْإِنْكَار؟ بل مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة أولى؛
لِأَنَّهُ يحصل فائدتين: التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه
فَيدْخل فِي ذَلِك كل شَرّ، والتعوذ من الشَّيَاطِين
وَهُوَ اسْم يعم ذكورها وإناثها، كَذَلِك قَالَ أَبُو
عبيد: الْخَبَائِث: الشَّيَاطِين، وَلم يَجعله اسْما
للإناث دون الذُّكُور.
1643 - / 2005 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ
بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر.
1644 - / 2007 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: نهى أَن يتزعفر الرجل.
التزعفر: التضمخ بالزعفران واستعماله فِيمَا يظْهر على
الرِّجَال.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: ((طيب الرِّجَال مَا خَفِي
لَونه وَظهر رِيحه،
(3/271)
وَطيب النِّسَاء مَا ظهر لَونه وخفي
رِيحه)) .
1645 - / 2008 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَنهم كَانُوا يصلونَ
رَكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب.
وَوجه هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((بَين كل
أذانين صَلَاة لمن شَاءَ)) .
وَإِذا غربت الشَّمْس حل التَّنَفُّل.
1646 - / 2009 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا
مُبينًا} [الْفَتْح: 1] قَالَ: الْحُدَيْبِيَة.
وَقد ذكرنَا وَجه كَونه فتحا فِي مُسْند الْبَراء بن
عَازِب.
1647 - / 2011 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَن أم سليم كَانَت تبسط
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطعا فيقيل
عِنْدهَا، فَإِذا قَامَ أخذت من عرقه وشعره فجمعته فِي
قَارُورَة ثمَّ جعلته فِي سك.
السك: نوع من الطّيب. وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَنه
كَانَ ينبسط فِي بَيت أم سليم لِأَنَّهَا كَانَت ذَات
قرَابَة مِنْهُ.
والعتيدة: شَيْء تخفظ فِيهِ حوائجها كالزنفليجة.
والعتيد: الشَّيْء الْمعد.
(3/272)
والسلت: جرف الْمَائِع بِالْيَدِ باستقصاء.
1648 - / 2012 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دَخَلنَا على أبي سيف
الْقَيْن وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم.
الْقَيْن: الْحداد، وَجمعه قيون.
والظئر: الْمُرضعَة، وَإِنَّمَا كَانَت زَوجته ترْضع،
إِلَّا أَنه لما كَانَ بلبنه سمي ظِئْرًا.
1649 - / 2013 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((من رَآنِي فِي
الْمَنَام فقد رَآنِي، فَإِن الشَّيْطَان لَا يتخيل
بِي: ورؤيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين
جُزْءا من النُّبُوَّة)) .
أما أول الحَدِيث فقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة
وَجَابِر، وَأما آخِره فَفِي مُسْند عبَادَة بن
الصَّامِت.
1650 - / 2014 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دخل رجل فَقَالَ:
أَيّكُم مُحَمَّد؟ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم متكئ بَين ظهرانيهم، فَقُلْنَا: هَذَا
الْأَبْيَض المتكئ. فَقَالَ لَهُ: ابْن عبد الْمطلب.
فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((قد
أَجَبْتُك)) .
الظَّاهِر من الإتكاء الإعتماد على إِحْدَى
الْمرْفقين. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْعَامَّة لَا
تعرف المتكئ إِلَّا من مَال فِي قعوده مُعْتَمدًا على
أحد جَنْبَيْهِ،
(3/273)
وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاء فَهُوَ
متكئ.
وَقَوله: ابْن عبد الْمطلب: أَي: يَا ابْن عبد
الْمطلب، فَرد عَلَيْهِ من جنس كَلَامه فَقَالَ: ((قد
أَجَبْتُك)) .
وَأما قَوْله: أَسأَلك بِاللَّه. إِن قَالَ قَائِل:
يَنْبَغِي أَن يتبعهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْيَمِينِ.
فَالْجَوَاب أَنه عرف الدَّلِيل ثمَّ أكد ذَلِك بِأَن
أحلفه. قَالَ ابْن عقيل: كَانَ الْأَعرَابِي حسن
الثِّقَة بِهِ لِأَنَّهُ لم يجرب عَلَيْهِ إِلَّا
الصدْق فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت عِنْدِي الصَّادِق
فأكد صدقك بِالْيَمِينِ.
وَقَوله: نهينَا فِي الْقُرْآن أَن نسْأَل رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء. كَأَنَّهُ يُشِير
إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن
تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] .
وَقَوله: لَا أَزِيد عَلَيْهِنَّ. رُبمَا ظن ظان أَنه
يَعْنِي لَا أتنفل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا
الْمَعْنى: لَا أَزِيد على المفترض وَلَا أنقص مِنْهُ
كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي فرائضهم.
1651 - / 2015 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد
البُخَارِيّ:
قَالَ الزُّهْرِيّ: دخلت على أنس بِدِمَشْق وَهُوَ
يبكي، فَقلت لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: لَا أعرف
شَيْئا مِمَّا أدْركْت إِلَّا هَذِه الصَّلَاة،
وَهَذِه
(3/274)
الصَّلَاة قد ضيعت.
الظَّاهِر من أنس أَنه يُشِير إِلَى مَا يصنع
الْحجَّاج، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤَخر الصَّلَاة جدا
يَوْم الْجُمُعَة، متشاغلا بمدح عبد الْملك وَمَا
يتَعَلَّق بِهِ.
1652 - / 2016 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لم يكن أحد
أشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحسن
بن عَليّ. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن سِيرِين قَالَ:
أُتِي عبيد الله بن زِيَاد بِرَأْس الْحُسَيْن، فَجعل
فِي طست، فَجعل ينكت وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا، فَقَالَ
أنس: كَانَ أشبههم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة.
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث أَن الْحسن كَانَ يشبه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرَّأْس
إِلَى الصَّدْر، وَكَانَ الْحُسَيْن يُشبههُ فِيمَا
دون ذَلِك.
وَقد ذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر.
وَقَوله: ينكت: أَي يقرعه بِشَيْء يُؤثر فِيهِ.
وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا: أَي فِي وَصفه بالْحسنِ.
والوسمة: خضاب يسود الشّعْر، قيل: إِنَّه ورق النّيل.
وَيُقَال: وسمة بِإِسْكَان السِّين ووسمة بِكَسْرِهَا.
وَأول من خضب بالوسمة من
(3/275)
أهل مَكَّة عبد الْمطلب. أخبرنَا سلمَان بن
مَسْعُود قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك ابْن عبد
الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عَليّ
الْبَيْضَاوِيّ قَالَ أَبُو عمر بن حيويه قَالَ:
حَدثنَا عمر بن سعد قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي
الدُّنْيَا قَالَ: حَدثنَا الْعَبَّاس بن هِشَام بن
مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَن عبد الْمطلب أول من
خضب بالوسمة من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ أَنه قدم الْيمن
فَنظر إِلَيْهِ بعض مُلُوكهَا فَقَالَ: يَا عبد
الْمطلب هَل لَك أَن تغير هَذَا الْبيَاض فتعود
شَابًّا؟ قَالَ: ذَاك إِلَيْك، فخضبه بِالْحِنَّاءِ،
ثمَّ علاهُ بالوسمة، فَلَمَّا أَرَادَ الإنصراف زوده
مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَأَقْبل عبد الْمطلب، فَلَمَّا
دنا من مَكَّة اختضب ثمَّ دخل مَكَّة كَأَن رَأسه
ولحيته حنك الْغُرَاب، فَقَالَت لَهُ نتيلة أم
الْعَبَّاس: يَا شيبَة الْحَمد، مَا أحسن هَذَا الخضاب
لَو دَامَ، فَقَالَ:
(لَو دَامَ لي هَذَا السوَاد حمدته ... وَكَانَ بديلا
من شباب قد انصرم)
(تمتعت مِنْهُ والحياة قَصِيرَة ... وَلَا بُد من موت
- نتيلة - أَو هرم)
(وماذا الَّذِي يجدي على الْمَرْء خفضه ... وَنعمته
يَوْمًا إِذا عَرْشه انْهَدم)
قَالَ: فَخَضَّبَ بعده أهل مَكَّة.
وَكَانَ الْحسن وَالْحُسَيْن جَمِيعًا يخضبان بالوسمة.
وَكَانَ عُثْمَان ابْن عَفَّان يخضب بِالسَّوَادِ
فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة. وَكَذَلِكَ عبد الله
ابْن جَعْفَر بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعقبَة
بن عَامر والمغيرة ابْن شُعْبَة وَجَرِير بن عبد الله
وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَهَؤُلَاء كلهم صحابة. وَمن
التَّابِعين وَمن بعدهمْ عَمْرو بن عُثْمَان بن
عَفَّان ومُوسَى
(3/276)
ابْن طَلْحَة وَعلي بن عبد الله بن عَبَّاس
السَّجَّاد أَبُو الْخُلَفَاء أَبُو سَلمَة ابْن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود
وَإِسْمَاعِيل بن معد يكرب وَالزهْرِيّ وَأَيوب
السّخْتِيَانِيّ ومحارب بن دثار وَيزِيد الرشك
وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَابْن أبي ليلى وَابْن جريج
وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وغيلان بن جَامع القَاضِي
وَنَافِع بن جُبَير وَهِشَام بن عبد الْملك بن
مَرْوَان وَأَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَعبد الله بن
المعتز وَعمر بن عَليّ بن الْمقدمِي وَأَبُو عبيد
الْقَاسِم بن سَلام وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن
عَرَفَة الْمَعْرُوف بنفطويه، فِي آخَرين كلهم كَانُوا
يخضون بِالسَّوَادِ، وَقد ذكرت أَخْبَار هَؤُلَاءِ
بِالْأَسَانِيدِ فِي كتاب ((الشيب والخضاب)) .
1653 - / 2017 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن
رجَالًا من الْأَنْصَار اسْتَأْذنُوا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لنا فلنترك
لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه، فَقَالَ: ((لَا تدعون
مِنْهُ درهما)) .
الْإِشَارَة إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب،
فَإِنَّهُ خرج يَوْم بدر مَعَ الْمُشْركين مكْرها،
فَأسرهُ أَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو، فَقَالَت
الْأَنْصَار هَذَا، وَأَرَادُوا بذلك أَمريْن:
أَحدهمَا: إكرام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّانِي: لقرابة الْعَبَّاس مِنْهُم؛ فَإِن هاشما
كَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني النجار فَولدت لَهُ عبد
الْمطلب، فَلذَلِك قَالُوا: ابْن أُخْتنَا، وَإِنَّمَا
قَالُوا: ابْن أُخْتنَا لتَكون الْمِنَّة عَلَيْهِم
فِي إِطْلَاقه، وَلَو قَالُوا: عمك، لَكَانَ منَّة
عَلَيْهِ، وَهَذَا من قُوَّة الذكاء وَحسن الْأَدَب
فِي الْخطاب. وَقد صحفه بعض قرأة الحَدِيث لجهله
بِالنّسَبِ فَقَالَ: ابْن أخينا.
(3/277)
فَلم يَأْذَن لَهُم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِئَلَّا يكون فِي الدّين نوع
مُحَابَاة، فَأخذ الْفِدَاء من الْعَبَّاس، وكلفه أَن
يفْدي ابْني أَخِيه عقيل بن أبي طَالب وَنَوْفَل بن
الْحَارِث. وَكَانَ الْعَبَّاس يَئِن لَيْلَة قيد،
فَبَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهرا،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: مَالك لَا تنام؟ فَقَالَ:
((سمت أَنِين الْعَبَّاس فِي وثَاقه)) فَقَامَ رجل
مِنْهُم إِلَى الْعَبَّاس فَأرْخى من وثَاقه، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((مَالِي لَا
أسمع أَنِين الْعَبَّاس؟)) فَقَالَ رجل من الْقَوْم:
إِنِّي أرخيت من وثَاقه، قَالَ: ((فافعل ذَلِك
بالأساري كلهم)) .
1654 - / 2018 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أنسا
رأى على أم كُلْثُوم بنت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم برد حَرِير سيراء. قد تقدم تَفْسِير
هَذَا فِي مُسْند عمر.
1655 - / 2019 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((انصر
أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما)) وَفسّر نَصره ظَالِما
بِأَن تَمنعهُ من الظُّلم.
اعْلَم أَن من منع شخصا من الظُّلم فقد نَصره على
هَوَاهُ ونفعه بِالْمَنْعِ كَمَا يَنْفَعهُ بالنصر.
1656 - / 2020 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا
(3/278)
يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل
تمرات، ويأكلهن وترا.
وَأما التبكير بِالْأَكْلِ فللمبادرة إِلَى امْتِثَال
أَمر الله تَعَالَى فِي الْإِفْطَار، كَمَا امتثل أمره
فِي الصَّوْم. وَأما الْوتر فَإِنَّهُ كَانَ يحب
الإيتار فِي كثير من الْأَشْيَاء.
1657 - / 2021 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ
رَسُول الله إِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا
حَتَّى تفهم عَنهُ، وَإِذا أَتَى على قوم فَسلم
عَلَيْهِم سلم عَلَيْهِم ثَلَاثًا.
أما إِعَادَة الْكَلِمَة لتفهم فَلَا تعدو ثَلَاثَة
أَشْيَاء: إِمَّا ليفهم معنى اللَّفْظ بإعادته. أَو
ليتضح اللَّفْظ فَيَنْقَطِع عَنهُ المحتملات، أَو
لتحفظ فَيكون المُرَاد بالفهم الْحِفْظ.
وَأما إِعَادَة السَّلَام فَالْمُرَاد بِهِ الإستئذان
إِذا لم يسمع السَّلَام الأول وَلم يجب، فَأَما إِذا
مر على مجْلِس فعمهم بِالسَّلَامِ، أَو أَتَى دَارا
فَسلم فَأَجَابُوا فَلَا وَجه للإعادة.
1658 - / 2023 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: إِن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حج على رَحل وَكَانَ
زاملته.
الرحل للبعير كالسرج للْفرس. وَأما الزاملة فَقَالَ
ابْن فَارس: الزاملة: بعير يستظهر بِهِ الرجل يحمل
عَلَيْهِ مَتَاعه. وَالْمرَاد أَنه لم يكن فِي هودج
كَمَا يصنع المترفون، وَلَا كَانَ مَعَه غير ذَلِك
الْبَعِير.
(3/279)
1659 - / 2030 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم
تَفْسِيره إِلَى الحَدِيث السَّادِس عشر: وَفِيه: نهى
عَن المحاقلة والمخاضرة وَالْمُلَامَسَة والمنابذة.
قد سبقت هَذِه الْأَشْيَاء، إِلَّا أَنا نشِير
إِلَيْهَا فَنَقُول: المحاقلة: بيع الزَّرْع قبل
إِدْرَاكه. والمخاضرة: اشْتِرَاء الثِّمَار وَهِي
مخضرة وَلم يبد صَلَاحهَا. وَالْمُلَامَسَة: أَن
يَقُول: إِذا لمست ثوبي أَو لمست ثَوْبك فقد وَجب
البيع. والمنابذة: أَن يَقُول: إِذا نبذت إِلَيّ
الثَّوْب أَو نَبَذته إِلَيْك فقد وَجب البيع.
1660 - / 2036 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْعِشْرين: إِبَاحَة الكي.
وَقد سبق فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1661 - / 2039 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْعِشْرين: ((إِذا تقرب العَبْد إِلَيّ شبْرًا
تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا)) .
المُرَاد بتقرب العَبْد: تقربه بِالطَّاعَةِ، وبتقرب
الرب تقربه بالمغفرة.
والهرولة: شدَّة السَّعْي، وَهَذَا ضرب مثل. قَالَ
أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: ويروى عَن الْأَعْمَش فِي
تَفْسِير هَذَا الحَدِيث: ((تقربت مِنْهُ ذِرَاعا))
قَالَ: يَعْنِي بالمغفرة وَالرَّحْمَة، قَالَ:
وَهَكَذَا فسر بعض أهل الْعلم هَذَا الحَدِيث.
قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِذا تقرب إِلَيّ بطاعتي سارعت
إِلَيْهِ بمغفرتي ورحمتي.
(3/280)
1662 - / 2040 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَدُور على نِسَائِهِ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة
من النَّهَار، وَهن إِحْدَى عشرَة.
اعْلَم أَن الْعَرَب كَانَت تعد الْقُوَّة على
النِّكَاح من كَمَال الْخلقَة وَقُوَّة البنية، كَمَا
تعد الشجَاعَة مِنْهَا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أتم النَّاس خلقَة، ثمَّ أعطي قُوَّة
ثَلَاثِينَ، ثمَّ كَانَ فِي فعله ذَلِك رد على
النَّصَارَى فِي التبتل طلبا للنسل.
1663 - / 2042 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْعِشْرين: مشيت إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِخبْز شعير وإهالة سنخة، وسمعته
يَقُول: ((مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع وَلَا
أَمْسَى وَإِنَّهُم لتسعة أَبْيَات)) .
الإهالة: الودك، وَهُوَ الشَّحْم الْمُذَاب. واستأهل
الرجل: أكلهَا: والسنخة المتغيرة، يُقَال: سنخ الدّهن:
إِذْ تغير.
والصاع: خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي.
والأبيات التِّسْعَة هِيَ أَبْيَات أَزوَاجه اللواتي
توفّي عَنْهُن، وَهن عَائِشَة وَحَفْصَة وَسَوْدَة
وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَزَيْنَب بنت
جحش وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة.
وَقَوله: مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع، شرح
للْحَال لَا شكوى، وَفَائِدَة ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: تَعْلِيم الْخلق الصَّبْر، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: أَنا أكْرم الْخلق على الله تَعَالَى وَهَذِه
حَالي، فَإِذا ابتليتم فَاصْبِرُوا. وَالثَّانِي:
إِعْلَام النَّاس بِأَن الْبلَاء يلصق بالأخيار ليفرح
الْمُبْتَلى.
(3/281)
1664 - / 2043 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْعِشْرين: ((ليصيبن أَقْوَامًا سفع من النَّار))
أَي أثر من لهيبها وعذابها.
1664 - / 2050 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى
الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: وَفِيه: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْكُل على
خوان حَتَّى مَاتَ، وَمَا أكل خبْزًا مرققا، وَلَا رأى
شَاة سميطا، وَمَا علمت أَنه أكل على سكرجة.
الخوان: شَيْء ينصب كالمائدة وَيتْرك عَلَيْهِ
الطَّعَام، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَالْخبْز المرقق: الْخَفِيف، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من
المرقاق: وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يرقق بهَا.
والسميط: المسموط الَّذِي جلده عَلَيْهِ، وَهُوَ مآكل
المترفين، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ جلد الشَّاة
يَنْتَفِعُونَ بِهِ ثمَّ يشوونها.
وَأما السكرجة، فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: هِيَ السكرجة بِضَم السِّين
وَالْكَاف وَفتح الرَّاء وتشديدها، قَالَ: وَكَانَ بعض
أهل اللُّغَة يَقُول: الصَّوَاب أسكرجة بِالْألف وَفتح
الرَّاء. وَهِي فارسية معربة، وترجمتها: مقرب الْخلّ،
وَقد تَكَلَّمت بهَا الْعَرَب، قَالَ أَبُو عَليّ:
فَإِن حقرت حذفت الْجِيم وَالرَّاء فَقلت: أسيكره،
وَإِن عوضت عَن
(3/282)
الْمَحْذُوف قلت: أسيكيرة، وَقِيَاس مَا
رَوَاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي بريهم سكيرجة.
1665 - / 2052 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: أَن نعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ لَهَا قبالان.
القبالان: زِمَام النَّعْل.
والجرداوان: لَا شعر عَلَيْهَا.
1666 - / 2055 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن أم حَارِثَة بن سراقَة أَتَت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا نَبِي
الله، أَلا تُحَدِّثنِي عَن حَارِثَة - وَقد قتل يَوْم
بدر، أَصَابَهُ سهم غرب. فَقَالَ: ((إِن ابْنك أصَاب
الفردوس الْأَعْلَى)) .
كَذَا رُوِيَ لنا فِي الحَدِيث: سهم بِالتَّنْوِينِ،
غرب بتسكين الرَّاء مَعَ الرّفْع والتنوين. قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: الْعَامَّة تَقول هَكَذَا، والأجود سهم غرب
بِفَتْح الرَّاء وَإِضَافَة الغرب إِلَى السهْم.
وَقَالَ يَعْقُوب بن السكت: يُقَال: أَصَابَهُ سهم
غرب: إِذا لم يدر من أَي جِهَة رمي بِهِ، قَالَ أَبُو
دؤاد:
(فألحقه وَهُوَ ساط بهَا ... كَمَا يلْحق الْقوس سهم
الغرب)
يصف فرسا يعدو خلف عانة من حمير الْوَحْش ألحقهُ فارسه
الْعَانَة
(3/283)
وَالْفرس ساط بهَا: أَي غَالب.
وَقد رُوِيَ عَن أبي زيد أَنه قَالَ: إِذا جَاءَ من
حَيْثُ لَا يعرف فَهُوَ سهم غرب بِسُكُون الرَّاء،
فَإِن رمي بِهِ إِنْسَان بِعَيْنِه فَأصَاب غَيره
فَهُوَ سهم غرب بِفَتْح الرَّاء: وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: بِفَتْح الرَّاء لَا غير.
وَأما الفردوس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ عَن الزّجاج قَالَ: الفردوس: أَصله رومي
أعرب: وَهُوَ الْبُسْتَان، قَالَ: وَقد قيل: الفردوس
مُذَكّر، وَإِنَّمَا أنث فِي قَوْله تَعَالَى:
{يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ}
[الْمُؤْمِنُونَ: 11] لِأَنَّهُ عَنى بِهِ الْجنَّة،
قَالَ: وَقَالَ الزّجاج: وَقيل: الفردوس: الأودية
الَّتِي تنْبت ضروبا من النبت. وَقيل: هُوَ بالرومية،
مَنْقُول إِلَى لفظ الْعَرَبيَّة. قَالَ: والفردوس
أَيْضا بالسُّرْيَانيَّة كَذَا لَفظه فردوس، قَالَ:
وَلم نجده فِي أشعار الْعَرَب إِلَّا فِي شعر حسان،
وَحَقِيقَته أَنه الْبُسْتَان الَّذِي يجمع كل مَا
يكون فِي الْبَسَاتِين، لِأَنَّهُ عِنْد أهل اللُّغَة
كَذَلِك، وَبَيت حسان:
(وَإِن ثَوَاب الله كل موحد ... جنان من الفردوس
فِيهَا يخلد)
قَالَ: وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ بِإِسْنَادِهِ:
الفردوس: الْبُسْتَان بلغَة الرّوم.
وَقَالَ فردوسا. وَقَالَ السّديّ: الفردوس أَصله
بالنبطية فرداسا. وَقَالَ عبد الله بن الْحَارِث:
الفردوس: الأعناب.
(3/284)
1667 - / 2059 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ غُلَام يَهُودِيّ يخْدم
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَرض
فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ،
فَقعدَ عِنْد رَأسه فَقَالَ لَهُ: ((أسلم)) فَنظر
إِلَى أَبِيه، فَقَالَ: أطع أَبَا الْقَاسِم، فَأسلم.
فِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز اسْتِخْدَام الْيَهُودِيّ،
وَجَوَاز عيادته، وتواضع رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ومبالغته فِي النصح.
1668 - / 2062 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: (( (إِن أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ
مَا سلكنا شعبًا إِلَّا وهم مَعنا)) قد تقدم فِي
مُسْند جَابر بن عبد الله.
1669 - / 2063 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَت العضباء لَا تسبق، فجَاء
أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسبقها، فشق ذَلِك على
الْمُسلمين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ((حق على الله أَلا يرْتَفع شَيْء فِي
الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه)) .
العضب: شقّ الْأذن، وَقد ذكرنَا هَذِه النَّاقة فِيمَا
تقدم فِي مَوَاضِع، وحكينا أَن بَعضهم يَقُول: هُوَ
لقب لَهَا لَا أَنَّهَا كَانَت مشقوقة الْأذن.
وَالْقعُود من الْإِبِل: مَا أعد للرُّكُوب خَاصَّة.
وَأما وضع كل مُرْتَفع من الدُّنْيَا فَلِأَنَّهَا
لَيست بدار بُلُوغ الْأَغْرَاض،
(3/285)
وَإِنَّمَا هِيَ مَحل الْبلَاء والنغص.
1670 - / 2064 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: كَانَ إِذا
قدم من سفر فَنظر إِلَى جدرات الْمَدِينَة أوضع
رَاحِلَته.
الْمَعْنى: سَار سيرا سهلا سَرِيعا. وَوضع الْبَعِير
يضع فِي سيره وضعا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:
{ولأوضعوا خلالكم} [التَّوْبَة: 47] وَقيل: الإيضاع
سير مثل الخبب.
1671 - / 2065 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ:
قد تقدم فِي مَوَاضِع.
1672 - / 2068 - وَمَا بعده قد تقدم إِلَى الحَدِيث
الرَّابِع وَالْخمسين: وَفِيه: كَانَت الرّيح إِذا هبت
عرف ذَلِك فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
وَقد بَين سَبَب هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة، وَأَنه
كَانَ يخَاف أَن يكون عذَابا.
1673 - / 2069 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد بعض
نِسَائِهِ، فَأرْسلت إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ
بصحفة فِيهَا طَعَام، فَضربت الَّتِي النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا يَد الْخَادِم
فَسَقَطت الصحفة فانفلقت، فَجمع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فلق الصحفة ثمَّ جعل يجمع فِيهَا
الطَّعَام الَّذِي كَانَ فِي الصحفة وَيَقُول: ((غارت
أمكُم)) ثمَّ حبس الْخَادِم حَتَّى
(3/286)
أَتَى بصحفة من عِنْد الَّتِي هُوَ فِي
بَيتهَا، فَدفع الصحفة الصَّحِيحَة إِلَى الَّتِي كسرت
صحفتها، وَأمْسك الْمَكْسُورَة فِي بَيت الَّتِي كسرت.
الصحفة: الْقَصعَة. فَإِن قيل: الصحفة من ذَوَات
الْقيم، فَكيف غرمها بِمِثْلِهَا؟ فَالْجَوَاب من
وَجْهَيْن: - أَحدهَا: أَن الظَّاهِر فِيمَا يحويه
بَيته أَنه ملكه، فَنقل من ملكه إِلَى ملكه لَا على
وَجه الغرامة بِالْقيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنه أَخذ
الْقَصعَة من بَيت الكاسرة عُقُوبَة لَهَا، والعقوبة
بالأموال مَشْرُوعَة، من ذَلِك تغريم قيمَة مثلي
الثَّمر الْمُعَلق على سارقه. وَأخذ الزَّكَاة وَشطر
مَال الْمُمْتَنع، وتحريق رَحل الغال، وَعتق العَبْد
الممثل بِهِ، وكل ذَلِك حكم بَاقٍ عندنَا، ذكره ابْن
عقيل.
1674 - / 2070 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين:
بلغ عبد الله ابْن سَلام مقدم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَهُوَ فِي أَرض يخْتَرف،
فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن مسَائِل، فَقَالَ: ((خبرني
بِهن جِبْرِيل آنِفا)) .
يخْتَرف بِمَعْنى يجتني الثَّمَرَة.
وآنفا بِمَعْنى السَّاعَة.
وَقَوْلهمْ عَن جِبْرِيل: ذَلِك عَدو الْيَهُود.
رُبمَا قَالَ قَائِل: مَا وَجه عداوتهم لملك؟
فَالْجَوَاب أَنهم كَانُوا يتعللون للتقاعد عَن
الْإِيمَان بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، كَمَا قَالُوا:
{قُلُوبنَا غلف} [الْبَقَرَة: 88] على أَنهم قد ذكرُوا
وَجه المعاداة بِمَا يبين جهلهم، فَقَالُوا: إِنَّه
ينزل بِالْحَرْبِ والشدة. أفتراهم
(3/287)
لم يعلمُوا أَنه مَأْمُور؟ وَمَا ذَنْب
الْمَأْمُور؟ فالمعاداة للْآمِر.
وَينْزع: يمِيل وَيرجع.
وَقَوله: ((نَار تحْشر النَّاس)) هَذَا هُوَ الْحَشْر
الأول قبل قيام السَّاعَة، تسلط النَّار على النَّاس
فيهربون مِنْهَا، وَذَلِكَ من عَلَامَات الْقِيَامَة،
ثمَّ يموتون، ثمَّ يحشرون إِلَى الْقِيَامَة.
وَأما أكلهم زِيَادَة كبد الْحُوت فَفِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه حوت من الْجنَّة وثور من الْجنَّة،
يتحفون بهما على معنى إتحاف الضَّيْف بِمَا يصنع لَهُ.
وَسَيَأْتِي من مُسْند ثَوْبَان: أَن يَهُودِيّا
سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ:
مَا تحفتهم حِين يدْخلُونَ الْجنَّة؟ قَالَ:
((زِيَادَة كبد الْحُوت)) قَالَ: فَمَا غذاؤهم فِي
أَثَرهَا؟ قَالَ: ((ينْحَر لَهُم ثَوْر الْجنَّة
الَّذِي يَأْكُل من أطرافها)) وَقَالَ كَعْب: يَقُول
الله عز وَجل لأهل الْجنَّة: ((ادخلوها فَإِن لكل ضيف
جزورا، وَإِنِّي أجزركم الْيَوْم، فَيُؤتى بثور وحوت
يجزر لأهل الْجنَّة)) .
وَالثَّانِي: أَن الْحُوت الَّذِي عَلَيْهِ الأَرْض،
فكأنهم أعلمُوا بِأَكْلِهِ أَن الدُّنْيَا ذهبت وَذهب
مَا كَانَ يحملهَا فَلَا رُجُوع إِلَيْهَا، بل هَذِه
الدَّار هِيَ منزل الْإِقَامَة. أَنبأَنَا أَبُو غَالب
بن الْبناء قَالَ: أخبرنَا جَابر بن ياسين قَالَ:
أخبرنَا الْحسن بن عُثْمَان قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو
بكر النجاد قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْقطَّان
قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عِيسَى قَالَ: حَدثنَا
إِسْحَاق بن بشر قَالَ: حَدثنَا جُوَيْبِر عَن
الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
(3/288)
إِذا اجْتمع أهل الْجنَّة تَحت شَجَرَة
((طُوبَى)) أرسل الله عز وَجل إِلَيْهِم الْحُوت
الَّتِي قَرَار الأَرْض عَلَيْهَا والثور الَّذِي تَحت
الْأَرْضين، قَالَ: فينطح الثور الْحُوت بقرنيه فيذكيه
لأهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، فيجدون فِيهِ ريح
كل طيب وَطعم كل ثَمَرَة، ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى
مَنَازِلهمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد
بن الْقَاسِم الْفَارِسِي: الَّذِي يقرب إِلَيْهِم
رَأس الثور الَّذِي كَانَت الأَرْض على قرنه وكبد
الْحُوت الَّتِي كَانَت الأَرْض على ظَهره.
وَقَوله: إِن الْيَهُود قوم بهت. الْهَاء مَضْمُومَة،
وَالْمعْنَى: أَنهم يبهتون بِالْكَذِبِ، فَإِن علمُوا
بِإِسْلَامِي بَهَتُونِي عنْدك: أَي كذبُوا عَليّ مَعَ
حضوري. والبهتان: الْكَذِب الَّذِي تتحير من بُطْلَانه
وتعجب من إفراطه.
وَقَوله: حاشا لله. كلمة مُشْتَقَّة من قَوْلك: كنت
فِي حَشا فلَان: أَي فِي ناحيته، وأنشدوا:
( ... ... ... بِأَيّ الحشا أَمْسَى الخليط المباين)
أَي: بِأَيّ النواحي. فَالْمَعْنى: فِي حَشا من ذَلِك،
يعنون أَنه لَا يسلم.
والمسلحة: الحارس بِالسِّلَاحِ. والمسالح: قوم
يَحْرُسُونَ مَكَان الْخَوْف.
1675 - / 2072 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين:
((أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله،
فَإِذا شهدُوا،
(3/289)
واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا
صَلَاتنَا، حرمت علينا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ
إِلَّا بِحَقِّهَا)) .
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن معاملات النَّاس
إِنَّمَا تحمل على الظَّوَاهِر.
1676 - / 2073 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين:
عَن أنس قَالَ: لم يبْق مِمَّن صلى الْقبْلَتَيْنِ
غَيْرِي.
يَعْنِي قبْلَة بَيت الْمُقَدّس والكعبة. وَأنس هُوَ
آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْبَصْرَةِ، وَآخر من
رأى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موتا أَبُو
الطُّفَيْل، وَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْنده إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
1677 - / 2074 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: رَأَيْت على
أنس برنسا أصفر من خَز.
الْبُرْنُس: كسَاء.
1678 - / 2075 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالسِّتِّينَ: كَانَ قرام لعَائِشَة سترت بِهِ جَانب
بَيتهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ((أميطي عني، فَلَا تزَال تصاويره تعرض لي فِي
صَلَاتي)) .
القرام: السّتْر الرَّقِيق.
(3/290)
والإماطة: الْإِزَالَة.
وَمعنى ((يعرض لي فِي صَلَاتي)) : أَي لما رَأَيْتهَا
صَارَت عِنْد غيبتها تمثل لي.
1679 - / 2076 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالسِّتِّينَ: ((مَذْهَب الباس، شِفَاء لَا يُغَادر
سقما)) .
الباس: الشدَّة. ويغادر بِمَعْنى: يتْرك.
1680 - / 2078 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالسِّتِّينَ: ((مَا من مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة
من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ
الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم)) .
الْحِنْث: الْإِثْم. وَالْمرَاد أَن يبلغ إِلَى الْحَد
الَّذِي يجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ الْقَلَم بالسيئات
والحسنات، وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَنَّهُ أَشد
لمحبة الْآبَاء وشفقتهم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند
أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1681 - / 2079 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالسِّتِّينَ: أَنه أُتِي بِمَال من الْبَحْرين،
فَقَالَ: ((انثروه فِي الْمَسْجِد)) فجَاء الْعَبَّاس
فَقَالَ: أَعْطِنِي، فَقَالَ: ((خُذ)) فَحَثَا فِي
ثَوْبه ثمَّ ذهب يقلهُ فَلم يسْتَطع، فَقَالَ: مر
بَعضهم: يرفعهُ إِلَيّ، قَالَ: ((لَا)) . قَالَ:
فارفعه أَنْت عَليّ، قَالَ: ((لَا)) .
(3/291)
أما كَونه لم يلْتَفت إِلَيْهِ عِنْد
خُرُوجه إِلَى الصَّلَاة فصيانة لتوجهه إِلَى
الْعِبَادَة من شوب الْتِفَات إِلَى الدُّنْيَا.
ويقل بِمَعْنى يحمل. وَإِنَّمَا لم يَأْمر أحدا بإعانة
الْعَبَّاس عَلَيْهِ، وَلم يعنه لينبه على أَنه هُوَ
الْمَسْئُول عَنهُ، وَلَا أحد يحمل عَنهُ ثقل
السُّؤَال.
والكاهل: مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.
1682 - / 2080 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالسِّتِّينَ: ((اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن اسْتعْمل
عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن رَأسه زبيبة)) .
اعْلَم أَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعمَّال
والأمراء دون الْأَئِمَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِن
الْخلَافَة لقريش لَا مدْخل فِيهَا للحبشة، لقَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي
قُرَيْش)) وَإِنَّمَا للأئمة تَوْلِيَة من يرَوْنَ،
فَتجب طَاعَة ولاتهم.
وَصغر الرَّأْس مَعْرُوف فِي الْحَبَشَة، فَلذَلِك
قَالَ: ((كَأَن رَأسه زبيبة)) .
1683 - / 2081 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالسِّتِّينَ: كَانَ قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عِنْد أنس قد انصدع، فسلسله بِفِضَّة، وَهُوَ
قدح عريض من نضار.
انصدع بِمَعْنى انْشَقَّ. وسلسله بِمَعْنى ضببه.
وَاعْلَم أَن التضبيب إِذا كَانَ بِالذَّهَب فَحَرَام،
سَوَاء كَانَ كَانَ كثيرا أَو
(3/292)
قَلِيلا، وَقد ذكر أَبُو بكر عبد الْعَزِيز
من أَصْحَابنَا أَنه يُبَاح يسير الذَّهَب.
وَأما المضبب بِالْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو من أَمريْن:
إِمَّا أَن يكون كثيرا فَهُوَ حرَام، وَكَذَلِكَ إِن
كَانَ يَسِيرا لغير حَاجَة كالحلقة فِي الْإِنَاء.
وَأما إِذا كَانَ الْيَسِير لحَاجَة كتشعيب قدح وقبيعة
سيف وشعيرة سكين فَإِن ذَلِك مُبَاح، لَكِن تكره
مُبَاشرَة مَوضِع الْفضة بالإستعمال، وَقد رُوِيَ عَن
أَحْمد أَن الْيَسِير مُبَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَدَاوُد: لَا يكره المضبب بِحَال.
وَأما النضار فَقيل: هُوَ شَجَرَة الأثل. وَقيل:
النضار: أقداح حمر شبهت بِالذَّهَب. وَقيل: هُوَ
النبع، وَهُوَ شجر مَعْرُوف.
والنضار: الْخَالِص من كل شَيْء.
1684 - / 2083 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالسِّتِّينَ: نظر أنس إِلَى النَّاس يَوْم
الْجُمُعَة فَرَأى طيالسة فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يهود
خَيْبَر.
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ:
الطيلسان أعجمي مُعرب، بِفَتْح اللَّام، وَالْجمع
طيالسة بِالْهَاءِ، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب،
وَأنْشد ثَعْلَب:
(كلهم مبتكر لشانه ... كاعم لحييْهِ بطيلسانه)
(3/293)
(وَآخر يزف فِي أعوانه ... مثل زفيف الهيق
فِي حفانه)
(فَإِن تلقاك بقيراونه ... أَو خفت بعض الْجور من
سُلْطَانه)
(فاسجد لقرد السوء فِي زَمَانه ... )
يزف من الزفيف، من قَوْله: {يزفون} [الصافات: 94] أَي
يسرعون.
والهيق: ذكر النعام. وَفِي حفانه قَولَانِ: أَحدهمَا:
فِي صغاره، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي. وَالثَّانِي:
إناثه، قَالَه الْأَصْمَعِي. والقيروان: الْجَمَاعَة.
وَهَذِه الطيالسة الَّتِي أنكرها أنس لبسة مَا كَانَ
يعهدها.
1685 - / 2085 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ
لكل صَلَاة.
وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِك لموْضِع الْفَضِيلَة.
وَصلى يَوْم الْفَتْح صلوَات بِوضُوء وَاحِد، وَقَالَ:
((عمدا فعلته)) ليعلم أَن الْوضُوء إِنَّمَا يجب لأجل
الْحَدث، وَأَن الْوضُوء من غير حدث فَضِيلَة.
1686 - / 2086 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين:
أَتَيْنَا أنس بن مَالك نشكو إِلَيْهِ مَا نلقى من
الْحجَّاج، فَقَالَ: ((اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا
يَأْتِي عَلَيْكُم زمَان إِلَّا الَّذِي بعده شَرّ
مِنْهُ حَتَّى تلقوا ربكُم)) ، سمعته من نَبِيكُم صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
(3/294)
إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه هَذَا وَنحن
نعلم أَنه جَاءَ بعد الْحجَّاج عمر ابْن عبد
الْعَزِيز، فَبسط الْعدْل وَصلح الزَّمَان؟
فَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام خرج على الْغَالِب، فَكل
عَام تَمُوت سنة وتحيا بِدعَة، ويقل الْعلم، وَيكثر
الْجُهَّال، ويضعف الْيَقِين، وَمَا يَأْتِي من
الزَّمَان الممدوح نَادِر قَلِيل.
1687 - / 2088 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين:
شَهِدنَا بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهِي تدفن فَقَالَ: ((هَل فِيكُم من أحد لم يقارف
اللَّيْلَة؟)) فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: أَنا، فَأنْزل
فِي قبرها.
هَذِه الْبِنْت هِيَ رقية، وَقد أفْصح بذلك أنس فِيمَا
رُوِيَ عَنهُ، وَقد غلط الْخطابِيّ فَقَالَ: يشبه أَن
تكون هَذِه الْميتَة لبَعض بَنَات رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فنسبت إِلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير يقارف عَن بضع الروَاة،
وَهُوَ فليح، فَإِنَّهُ قَالَ: أرَاهُ يَعْنِي
الذَّنب، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَنه قد رُوِيَ مَا يمْنَع هَذَا، فَأخْبرنَا
ابْن الْحصين قَالَ: أَنبأَنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ:
أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله
بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عَفَّان
قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس:
أَن رقية لما مَاتَت قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدْخل الْقَبْر رجل قارف أَهله
اللَّيْلَة)) . وَأخْبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد
السَّمرقَنْدِي
(3/295)
قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن هبة الله
الطَّبَرِيّ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن ابْن
الْفضل قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر بن
درسْتوَيْه قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن سُفْيَان
قَالَ: حَدثنِي مَحْفُوظ بن أبي تَوْبَة قَالَ:
حَدثنَا عَفَّان قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن
ثَابت عَن أنس قَالَ: لما مَاتَت رقية بنت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدخلن الْقَبْر أحد قارف أَهله
البارحة)) قَالَ: فَتنحّى عُثْمَان بن عَفَّان.
وَالثَّانِي: أَنه لَو أَرَادَ الذَّنب كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكبار الْمُهَاجِرين
أَحَق بذلك.
وَالثَّالِث: أَن يكون أَبُو طَلْحَة قد مدح نَفسه
بِهَذَا وَلم يكن ذَلِك من خصالهم، وَإِنَّمَا
المُرَاد الْوَطْء، يُقَال: قارف الرجل امْرَأَته:
إِذا جَامعهَا. والقريب الْعَهْد بالشَّيْء يتذكره،
فَلهَذَا طلب من لم يقرب عَهده بذلك.
1688 - / 2089 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين:
كَانَ يَقُول عِنْد المعتبة: ((مَاله، تربت يَمِينه))
.
المعتبة: العتاب.
وتربت: افْتَقَرت. قَالَ أَبُو عبيد: نرى أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَعَمَّد الدُّعَاء
بالفقر على من خاطبه، وَلكنهَا كلمة جَارِيَة على
أَلْسِنَة الْعَرَب يَقُولُونَهَا، وهم لَا يُرِيدُونَ
وُقُوع الْأَمر. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: تربت يَمِينه
(3/296)
إِن لم يفعل مَا أَمر بِهِ. وَقد سبق هَذَا
فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1689 - / 2093 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين:
إِنَّكُم لتعملون أعمالا هِيَ أدق فِي أعينكُم من
الشّعْر، كُنَّا نعدها على عهد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات.
الْمَعْنى: تَعْمَلُونَ أعمالا لَيْسَ لَهَا عنْدكُمْ
كثير وَقع احتقارا لَهَا، وَهِي من الموبقات أَي
المهلكات، وَهَذِه الْأَعْمَال مثل قَول الرجل للرجل:
قلبِي إِلَيْك، وَكنت على نِيَّة قصدك، وَنَحْو ذَلِك
مِمَّا يكذب فِيهِ، أَو مدح الرجل الرجل بالشَّيْء
الَّذِي لَيْسَ فِيهِ، وَرُبمَا كَانَ ذَلِك لسلطان
جَائِر، وَقد يكون ذَلِك فِي الْمُعَامَلَات بالربا
وعقوق الْوَالِدين، وَقذف المحصنة، وعيبة الْمُسلم،
وَأَشْيَاء يحتقرها الْإِنْسَان وَيجْرِي فِيهَا مَعَ
الْعَادَات وَهِي مهلكة.
1690 - / 2095 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
اشْتَدَّ الْبرد بكر بِالصَّلَاةِ، وَإِذا اشْتَدَّ
الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ.
بكر بِمَعْنى قدم. وَقد ذكرنَا معنى الْإِبْرَاد فِي
مُسْند أبي ذَر.
1691 - / 2096 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين:
قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِي
أَصْحَابه أشمط غير أبي بكر، فغلفها بِالْحِنَّاءِ
والكتم.
(3/297)
قَوْله قدم: يَعْنِي الْمَدِينَة حِين
هَاجر إِلَيْهَا.
والشمط: اخْتِلَاط الشيب بسواد الشّعْر، وَيُسمى
الصَّباح أول مَا يَبْدُو شميطا لإختلاطه بباقي ظلمَة
اللَّيْل.
وَقَوله: فغلفها - يَعْنِي لحيته، أَي عَمها بذلك.
وَمِنْه غلاف الشَّيْء: وَهُوَ مَا أحَاط بِهِ وغطاه.
والكتم: نَبَات يسود الشّعْر، فَإِذا خلط مَعَ
الْحِنَّاء صَار الشّعْر بَين الْحمرَة والسواد.
وَيَجِيء فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: فغلفها
بِالْحِنَّاءِ والكتم حَتَّى قنأ لَوْنهَا. قَالَ
أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: القاني من الألوان:
الشَّدِيدَة الْحمرَة الَّتِي يضْرب إِلَى السوَاد.
وَقد كَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم خلق كثير من
الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. وَقد ذكرتهم فِي كتاب:
((الشيب والخضاب)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا فَائِدَة خضاب الشيب؟ قيل
لَهُ: فِيهِ ثَلَاث فَوَائِد: إِحْدَاهَا: امْتِثَال
أَمر الشَّارِع، فَإِنَّهُ قَالَ: ((غيروا الشيب وَلَا
تشبهوا باليهود)) أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي
عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَيُّوب
قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن بَشرَان
قَالَ: أخبرنَا حَمْزَة بن مُحَمَّد بن الْفضل قَالَ:
أَنبأَنَا عَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري قَالَ: حَدثنَا
مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَسدي قَالَ: حَدثنَا
الْأَوْزَاعِيّ عَن
(3/298)
الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: ((إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يخضبون
فخالفوهم)) . وَقد روينَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
((اختضبوا، فَإِن الْمَلَائِكَة يستبشرون بخضاب
الْمُؤمن)) . قَالَ صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل: لما
مرض أبي دخل عَلَيْهِ رجل من جيراننا قد خضب فَقَالَ:
إِنِّي لأرى الرجل يحيي شَيْئا من السّنة فَأَفْرَح
بِهِ. وَقَالَ الْمروزِي: دخل على أبي عبد الله شيخ
مخضوب فَقَالَ: إِنِّي لأسر أَن أرى الشَّيْخ قد خضب.
فَهَذِهِ فَائِدَة من جِهَة مُوَافقَة الشَّرْع.
والفائدة الثَّانِيَة: تخْتَص الْمَرْأَة، وَالنِّسَاء
يُكْرهن الشيب جدا، فَإِذا غير كَانَ أقرب حَالا
عِنْدهن وَأصْلح لمعاشرتهن.
والفائدة الثَّالِثَة: تخْتَص بِالرجلِ وَهُوَ أَن
الشيب يُؤثر فِيهِ صُورَة وَمعنى، فَأَما الصُّورَة
فيشينه، وَلِهَذَا قَالَ أنس فِي صفة النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شانه الله ببيضاء. فَقيل
لَهُ: أَو شين هُوَ؟ فَقَالَ: كلكُمْ يكرههُ. وَأما
فِي الْمَعْنى فَإِنَّهُ يضعف الأمل، وَيقطع الْقلب،
لعلم الْإِنْسَان بِقرب الْأَجَل.
وَرُبمَا قَالَ قَائِل: فَنحْن إِنَّمَا ندور على مَا
يقصر الأمل وَيذكر بِالآخِرَة، فَكيف نشرع فِيمَا
ينسينا؟ فَالْجَوَاب: أَن النَّاس فِي هَذَا
يَخْتَلِفُونَ، فَمنهمْ الشَّديد الْغَفْلَة عَن
الْآخِرَة فَيحْتَاج إِلَى الموقظات،
(3/299)
وَمِنْهُم الشَّديد الْيَقَظَة فَيحْتَاج
إِلَى التَّعْدِيل بالمباحات. وَمَتى نصب الْإِنْسَان
ذكر الْمَوْت بَين عَيْنَيْهِ وَلم يغالط نَفسه وتبسط
لَهَا فِي أملهَا لم يقدر على نشر علم، وَلم ينْتَفع
بعيش، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْعلمَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي ينفع الْعَالم
الْعَاقِل من تَغْطِيَة شَيْء يعلم بَاطِنه؟
فَالْجَوَاب: أَن النَّفس تقنع بستر الْأَحْوَال، فطبع
البشرية يتشاغل بالظواهر، فَإِن الْإِنْسَان لَو تصور
فِي حَال مضغ الطَّعَام كَيفَ هُوَ وَقد اخْتَلَط
بريقه مَا أمكنه بلعه، وَلِهَذَا لَو أخرج اللُّقْمَة
اللذيذة ثمَّ أَرَادَ إِعَادَتهَا لم يُمكن، وَلَو
تصور نَفسه وَمَا بِهِ من الدِّمَاء والأنجاس مَا
طَابَ عيشه، أَو لَو تصور ذَلِك فِي جَسَد امْرَأَته
لم يقدره على التَّمَتُّع، فتغطية الْحَال مصلحَة
العَبْد، وَالنَّفس تقنع بذلك، وَلِهَذَا اقْتَضَت
الْحِكْمَة تَغْطِيَة أجل الْإِنْسَان عَنهُ لينْتَفع
بعيشه، وَفهم هَذِه الْأَشْيَاء لَا تحصل إِلَّا لذِي
لب.
1592 - / 2099 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد
مُسلم:
خرجت تلوث خمارها: أَي تلويه على رَأسهَا.
1693 - / 2101 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رأى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أم سليم خنجرا،
فَقَالَت: إِن دنا مني أحد من الْمُشْركين بقرت
بَطْنه. أَي: شققته وفتحته.
وَقَوْلها: اقْتُل من بَعدنَا من الطُّلَقَاء.
والطلقاء: من أطلق وَمن
(3/300)
عَلَيْهِ من مسلمة الْفَتْح.
وَقَوْلها: انْهَزمُوا بك: أَي انْهَزمُوا من بَين
يَديك يَوْم هوَازن، تَعْنِي يَوْم حنين. فَقَالَ:
((إِن الله كفى)) لِأَن تِلْكَ الْهَزِيمَة تعقبها
النَّصْر وَالْغنيمَة.
1694 - / 2104 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن فِي
((الْمُلَاعنَة)) : ((إِن جَاءَت بِهِ سبطا قضيء
الْعَينَيْنِ فَهُوَ لهِلَال)) .
السبط: السهل الشّعْر، وَهُوَ ضد الْجَعْد.
وقضيء الْعين: فاسدهما، وَهُوَ مَقْصُور، يُقَال: فِي
عين فلَان قضأة: أَي فَسَاد.
وَقَوله: ((أكحل)) الْكحل: سَواد الْعين خلقَة.
وَقَوله: ((حمش السَّاقَيْن)) أَي: دقيقهما. يُقَال:
رجل حمش السَّاقَيْن، وَامْرَأَة حمشاء السَّاقَيْن.
وَالْمرَاد بذلك الدقة.
1695 - / 2107 - وَقد تكلمنا على الحَدِيث الْحَادِي
عشر فِي مُسْند أبي سعيد.
1696 - / 2108 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَنه
كتب إِلَى النَّجَاشِيّ، وَلَيْسَ بالنجاشي الَّذِي
صلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اعْلَم أَن الْحَبَشَة كَانَ يسمون كل من يملكهم
النَّجَاشِيّ، كَمَا أَن فَارس يسمون ملكهم كسْرَى.
(3/301)
1697 - / 2109 - والْحَدِيث الثَّالِث عشر:
قد تقدم فِي مُسْند جَابر.
1698 - / 2110 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: فِيهِ: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد رجلا قد
خفت: أَي: ذهبت قوته.
1699 - / 2113 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قبر.
هَذَا يدل على جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر على
الْإِطْلَاق. وَقد قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا: يُصَلِّي
عَلَيْهِ إِلَى شهر. قَالَ ابْن عقيل: وَالصَّحِيح
عِنْدِي أَنه يصلى عَلَيْهِ بعد شهر. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: إِذا دفن قبل أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَلِيّ
صلي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاث.
1700 - / 2114 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: شقّ
صدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لأمه.
أَي جمع طرفِي الشق.
قَوْله: وَهُوَ منتفع اللَّوْن: أَي متغير - اللَّوْن.
والمخيط: الإبرة الَّتِي يخاط بهَا. وَمِنْه ((أدو
الْخياط والمخيط)) .
فالخياط: الْخَيط، والمخيط: الإبرة.
فَإِن قيل: قد خلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مختونا مَسْرُورا، فَهَلا ولد مطهر
(3/302)
الْقلب من حَظّ الشَّيْطَان. فَالْجَوَاب:
أَن هَذِه الْأُمُور جعلت لامتحان الْعُقُول، كَمَا
خلق القلفة وَأمر بقطعها، وحول من قبْلَة إِلَى
قبْلَة.
فَمن اعْترض على تصاريف من تصرف اللَّيْل وَالنَّهَار
فَهُوَ سَفِيه، وَإِنَّمَا يَقع الإعتراض لأَنهم
يحملون أمره على الْمشَاهد، وَإِن من بنى ثمَّ هدم
ثمَّ عَاد فَبنى كَانَ مستدركا أمرا لم يكن عمله،
فَمَتَى لم يكن مستدركا كَانَ بالهدم عابثا، والأمران
لَا يجوزان على الله تَعَالَى، وَأما الْمُحَقِّقُونَ
فَإِنَّهُم يسلمُونَ. ثمَّ قد بَان وَجه الْحِكْمَة
فِي هَذَا: أَن وِلَادَته مختونا مَسْرُورا تبين
لِلْخلقِ إنعام الْحق فِي حَقه، وَلَو خلق سليم الْقلب
مِمَّا أخرج فِي بَاطِنه لم يعلم بذلك، فالإعلام
بِإِخْرَاج شَيْء كَانَ بَقَاؤُهُ يُؤْذِي إنعام آخر،
على أَنه خلق طَاهِرا، لكنه زيد تنظيف طَرِيق الْوَحْي
وتأكيد أَمر الْعِصْمَة.
1701 - / 2116 - وَفِي والْحَدِيث الْعشْرين: فَلَمَّا
قفى: أَي ولى وَذهب.
1702 - / 2119 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْعِشْرين: {فلنولينك قبْلَة ترضاها} [الْبَقَرَة:
144] أَي: تحبها.
(والشطر) : النَّحْو.
1703 - / 2120 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْعِشْرين: جَاءَ رجل وَقد حفزه النَّفس. أَي: جهده
من شدَّة السَّعْي. وأصل الحفز الدّفع العنيف.
(3/303)
وأرم الْقَوْم: سكتوا.
1704 - / 2121 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْعِشْرين: كَانَ يَقُول يَوْم أحد: ((اللَّهُمَّ
إِن تشأ لَا تعبد فِي الأَرْض)) .
وَهَذَا غلط؛ إِنَّمَا هُوَ يَوْم بدر. وَقد تقدم
الْكَلَام على هَذَا فِي مُسْند عمر.
1705 - / 2122 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْعِشْرين: وَردت عَلَيْهِم روايا قُرَيْش،
فَقَالَ: ((هَذَا مصرع فلَان)) فَمَا مَاطَ أحد عَن
مَوضِع يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الروايا: الْحَوَامِل للْمَاء، والواحدة راوية.
وماط بِمَعْنى زَالَ، وَمِنْه إمَاطَة الْأَذَى: وَهِي
إِزَالَته.
1706 - / 2123 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْعِشْرين: أَن قُريْشًا صَالحُوا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اكْتُبْ: بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم)) فَقَالَ سُهَيْل: مَا نَدْرِي
مَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، اكْتُبْ:
بِاسْمِك اللَّهُمَّ.
كَانَ الْقَوْم يَقُولُونَ: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن
إِلَّا رحمان الْيَمَامَة، يعنون مُسَيْلمَة، فَلَمَّا
ردوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عَلَيْهِ، لم
ينفذها إِلَيْهِم
(3/304)
حِين أنفذ ((بَرَاءَة)) . وَقد ذكرنَا
هَذَا الصُّلْح وشرحناه فِي مُسْند سهل بن حنيف
والبراء بن عَازِب.
1707 - / 2124 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أفرد يَوْم أحد فِي سَبْعَة من الْأَنْصَار
وَرجلَيْنِ من قُرَيْش، فَلَمَّا رهقوه قَالَ: ((من
يردهم عَنَّا وَله الْجنَّة)) .
رهقوه: قربوا مِنْهُ، وَمِنْه الْمُرَاهق: وَهُوَ
المقارب للحلم.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي عدد من ثَبت مَعَه
يَوْم أحد؛ فَفِي هَذِه الرِّوَايَة تِسْعَة. وَقَالَ
ابْن سعد: أَرْبَعَة عشر فيهم أَبُو بكر. وَقد ذكر
فِيمَن ثَبت مَعَه طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد
الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة، وَكَأَنَّهَا حالات:
يبعد عَنهُ فِيهَا قوم ويرجعون إِلَيْهِ. فَأَما عدد
من قتل يَوْم أحد فَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْتشْهد من
الْمُسلمين يَوْم أحد خَمْسَة وَسِتُّونَ رجلا.
وَقَوله: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا)) فَرُبمَا أشكل
هَذَا على بعض النَّاس فَقَالَ: كَيفَ يَأْمُرهُم
بِالْقِتَالِ ثمَّ يَقُول: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا))
، وَهل عِنْده غير الْإِنْصَاف؟ ! فَالْجَوَاب: أَنه
يجب على النَّاس أَن يقوا رَسُول الله بِأَنْفسِهِم،
فَلَمَّا قَالَ: ((من يردهم عَنَّا)) كَانَ يَنْبَغِي
للْكُلّ أَن يُبَادر، فَتَأَخر بَعضهم لَيْسَ بإنصاف.
وَيحْتَمل أَن يكون إِشَارَته بذلك إِلَى القرشيين،
لِأَنَّهُمَا تركا الْأَنْصَار ينفردون بذلك.
(3/305)
1708 - / 2125 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْعِشْرين: أَنه كسر رباعيته يَوْم أحد وشج فِي
وَجهه، فَجعل يَسْلت الدَّم عَنهُ.
الرباعيات: الْأَسْنَان الَّتِي بعد الثنايا، وهما
رباعيتان من فَوق ورباعيتان من أَسْفَل.
والشج: الْجراحَة فِي الْوَجْه وَالرَّأْس.
والسلت: الْمسْح والإزالة.
1709 - / 2127 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: ((من طلب الشَّهَادَة صَادِقا أعطيها
وَلَو لم تصبه)) .
وَهَذَا لِأَن صدق الطّلب للشَّهَادَة يدل على
تَسْلِيم النَّفس لَهَا ورضى الْقلب بهَا،
فَكَأَنَّهَا وَقعت فَحصل أجرهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{قد صدقت الرءيا} [الصافات: 105] فَإِذا لم يجر الْقدر
بالمطلوب فَذَاك لَيْسَ إِلَى الطَّالِب، فَيعْطى
بِطَلَبِهِ مَا طلب.
1710 - / 2128 - والْحَدِيث الثَّانِي
وَالثَّلَاثُونَ: سبق فِي مُسْند جَابر.
1711 - / 2130 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ، فَمر بِهِ رجل،
فَدَعَاهُ فجَاء، فَقَالَ: ((يَا فلَان، هَذِه
زَوْجَتي)) .
(3/306)
هَذِه الْمَرْأَة صَفِيَّة بنت حييّ.
وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مسندها إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
1712 - / 2131 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: ((رَأَيْت ذَات لَيْلَة كأنا فِي
دَار عقبَة بن رَافع، فأتينا برطب من رطب ابْن طَابَ،
فأولت الرّفْعَة لنا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقبَة فِي
الْأُخْرَى، وَأَن ديننَا قد طَابَ)) .
هَذَا الحَدِيث أصل فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا على
الْأَسْمَاء وَالْأَحْوَال.
1713 - / 2133 - والْحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند طَلْحَة. وَفِيه:
فَخرج شيصا: وَهُوَ أردأ التَّمْر.
1714 - / 2135 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((دخلت الْجنَّة فَسمِعت خشفة، قلت:
من هَذَا؟ قَالُوا: هَذِه الغميصاء بنت ملْحَان)) .
الخشفة: الصَّوْت وَالْحَرَكَة.
وَهَذِه الغميصاء هِيَ أم سليم. وَسَيَأْتِي الْخلاف
فِي اسْمهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1715 - / 2136 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: فأحجم
الْقَوْم أَي توقفوا.
(3/307)
1716 - / 2138 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ: ((جعل إِبْلِيس يطِيف بِآدَم لما
خلق، فَلَمَّا رَآهُ أجوف عرف أَنه خلق لَا
يَتَمَالَك)) .
الأجوف: ضَعِيف الصَّبْر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه
لَا يثبت ثُبُوت مَا لَيْسَ بأجوف. وَالثَّانِي: أَنه
مفتقر إِلَى الْغذَاء لَا يصبر عَنهُ، فيطمع فِيهِ
إِبْلِيس من الْوَجْهَيْنِ.
1717 - / 2139 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: فَأَخذهُم سلما فاستحياهم.
الْمَعْنى: أَخذهم بِلَا قتال مستسلمين. واستحياهم:
استبقاهم.
1718 - / 2140 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: وآوانا: أَي صير لنا مأوى نأوي
إِلَيْهِ. والمأوى: مَوضِع السُّكْنَى وَالْإِقَامَة.
1719 - / 2141 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ يتهم بِأم ولد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اذْهَبْ
فَاضْرب عُنُقه)) .
أم ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ
مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم، أهداها إِلَيْهِ الْمُقَوْقس
صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة فِي سنة سبع من الْهِجْرَة
وَمَعَهَا أُخْتهَا سِيرِين، وَبعث مَعَهُمَا ألف
دِينَار وَعشْرين ثوبا، وَبغلته الدلْدل، وَحِمَاره
يَعْفُور، وَخَصِيًّا يُقَال لَهُ مَأْبُور كَانَ أَخا
مَارِيَة، بعث ذَلِك مَعَ حَاطِب
(3/308)
ابْن أبي بلتعة، فَعرض حَاطِب الْإِسْلَام
على مَارِيَة فَأسْلمت هِيَ وَأُخْتهَا، وَأقَام
الْخصي على دينه حَتَّى أسلم بِالْمَدِينَةِ بعد ذَلِك
على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَنزلت
فِي عالية الْمَدِينَة، وَكَانَ رجل من القبط
يَأْتِيهَا بِالْمَاءِ والحطب ويتردد إِلَيْهَا،
فَقَالَ النَّاس: علج يدْخل على علجة، فَأمر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا بقتْله، فَأَتَاهُ
وَهُوَ فِي ركي - وَهِي الْبِئْر الَّتِي لم تطو،
فَخرج فَإِذا هُوَ مجبوب، وَقيل: بل وجده على نَخْلَة،
فَلَمَّا رأى السَّيْف وَقع فِي نَفسه مَا جَاءَ
لأَجله فَألْقى كساءه، وَتكشف، فَإِذا هُوَ مجبوب:
وَهُوَ الْمَقْطُوع الذّكر.
وعَلى هَذَا الحَدِيث اعْتِرَاض: وَهُوَ أَن يُقَال:
كَيفَ أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل رجل بالتهمة؟
فقد أجَاب عَنهُ ابْن جرير فَقَالَ: جَائِز أَن يكون
قد كَانَ من أهل الْعَهْد، وَقد تقدم إِلَيْهِ
بِالنَّهْي عَن الدُّخُول على مَارِيَة فَعَاد، فَأمر
بقتْله لنقض الْعَهْد.
1720 - / 2142 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: ((يُؤْتى بأنعم أهل الدُّنْيَا من
أهل النَّار، فيصبغ فِي النَّار صبغة، ثمَّ يُقَال
لَهُ: هَل رَأَيْت خيرا قطّ؟ هَل مر بك نعيم قطّ؟
فَيَقُول: لَا وَالله. وَيُؤْتى بأشد النَّاس بؤسا فِي
الدُّنْيَا من أهل الْجنَّة فَيُقَال لَهُ: هَل
رَأَيْت بؤسا قطّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله يَا رب)) .
هَذَا الحَدِيث يحث على مُرَاعَاة العواقب، فَإِن
التَّعَب إِذا أعقب الرَّاحَة هان، والراحة إِذا أثمرت
النصب فَلَيْسَتْ رَاحَة، فالعاقل من
(3/309)
نظر فِي الْمَآل لَا فِي عَاجل الْحَال،
وَقد كشف هَذَا الْمَعْنى الحَدِيث الَّذِي بعده:
((حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات))
وَقد قَالَت الْحُكَمَاء: لَا تنَال الرَّاحَة
بالراحة، وَقل أَن يلمع برق لَذَّة إِلَّا وَتَقَع
صَاعِقَة نَدم.
1721 - / 2145 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ: ((من يدْخل الْجنَّة ينعم، لَا
يبأس)) .
الْبُؤْس: الشَّقَاء وَسُوء الْعَيْش.
1722 - / 2146 - والْحَدِيث الْخَمْسُونَ: فِي مُسْند
عمر.
1723 - / 2148 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْخَمْسُونَ: أَن عَائِشَة وَزَيْنَب تقاولتا
حَتَّى استحثتا أَي: رمت كل وَاحِدَة صاحبتها
بِالتُّرَابِ.
يُقَال: حثا التُّرَاب يحثوه.
وَقد رَوَاهُ قوم: حَتَّى استخبثتا: أَي: قَالَت كل
وَاحِدَة لصاحبتها الهجر والخبيث من القَوْل.
وَرَوَاهُ آخَرُونَ: حَتَّى استخبتا: أَي اصطخبتا.
والصخب: رفع الصَّوْت فِي الْخُصُومَة، وَالسِّين
وَالصَّاد يتعاقبان، وَاللَّفْظ الأول هُوَ
الْمَحْفُوظ.
1724 - / 2149 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين:
بعث رَسُول الله
(3/310)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسيسة عينا.
يُقَال فِي هَذَا: بسيسة وبسبس أَيْضا، وَهُوَ ابْن
عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ.
وَقَوله: ((قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات
وَالْأَرْض)) أَي: كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَالَ
ابْن قُتَيْبَة. لم يرد الْعرض الَّذِي هُوَ خلاف
الطول، وَإِنَّمَا أَرَادَ سعتها، وَالْعرب تَقول:
بِلَاد عريضة: أَي وَاسِعَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَنْتُم تروون أَن أقل أهل
الْجنَّة لَهُ بِقدر الدُّنْيَا عشر مَرَّات، فَكيف
تكون الْجنَّة كلهَا بِعرْض السَّمَاء وَالْأَرْض؟
فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الدُّنْيَا
بِالْإِضَافَة إِلَى السَّمَوَات كالذرة، وكل سَمَاء
هِيَ أعظم من الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذا أضيفت
السَّمَوَات كلهَا كَانَت الدُّنْيَا عِنْدهَا كنطفة.
وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد بذلك صفة الْبُسْتَان
الَّذِي يخْتَص بِكُل مُؤمن لَا صفة جَمِيع الْجنَّة.
وَقَوله: بخ بخ. هِيَ كلمة تقال عِنْد الْمَدْح: قَالَ
ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهَا تَعْظِيم الْأَمر
وتفخيمه، وسكنت الْخَاء كَمَا سكنت اللَّام من هَل
وبل، وَأَصله التَّشْدِيد فَخفف وَيُقَال: بخ بخ منونا
تَشْبِيها بالأصوات كصه ومه. وَقَالَ ابْن السّكيت: بخ
بخ وَبِه بِهِ بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ الآخر: فِي بخ
أَربع لُغَات: الْجَزْم والخفض وَالتَّشْدِيد
وَالتَّخْفِيف، وَأنْشد:
(3/311)
(روافده أكْرم الرافدات ... بخ لَك بخ لبحر
خضم)
وَقَالَ آخر:
( ... . . ... بخ بخ لوالده وللمولود)
واخترج بِمَعْنى أخرج.
والقرن بِفَتْح الرَّاء: جعبة صَغِيرَة تضم إِلَى
الجعبة الْكَبِيرَة.
1725 - / 2150 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى
الْغَدَاة جَاءَ خدم الْمَدِينَة بآنيتهم فِيهَا
المَاء، فَمَا يأْتونَ بِإِنَاء إِلَّا غمس يَده
فِيهِ.
إِنَّمَا كَانُوا يطْلبُونَ بِهَذَا بركته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَيَنْبَغِي للْعَالم إِذا طلب
الْعَوام التَّبَرُّك بِهِ فِي مثل هَذَا أَلا يخيب
ظنونهم، وَأَن يحملهم على مَا هم عَلَيْهِ، وَإِن
كَانَ فِي هَذَا نوع مخاطرة لَهُ؛ إِلَّا أَن الْعَالم
يعتصم من الْخطر بِعِلْمِهِ، وَيعرف نَفسه وَلَا يُؤثر
فِيهِ فعل غَيره، وَإِنَّمَا يَقع الْخطر بالمتزهد
الْقَلِيل الْعلم، فَرُبمَا أفْسدهُ مثل هَذَا، كَمَا
قَالَ: مَا أبقى خَفق النِّعَال وَرَاء الحمقى من
عُقُولهمْ شَيْئا.
(3/312)
1726 - / 2152 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْخمسين: انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى أم أَيمن وَانْطَلَقت مَعَه، فناولته
إِنَاء فِيهِ شراب، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أصادقته
صَائِما أَو لم يردهُ، فَجعلت تصخب عَلَيْهِ وتذمر
عَلَيْهِ.
الصخب: الصَّوْت والجلبة. وَمَاء صخب الموج والجريان:
إِذا كَانَ لَهُ صَوت. وَمعنى تصخب: تصيح. وتذمر:
تغْضب. وَإِنَّمَا انبسطت عَلَيْهِ لِأَنَّهَا كَانَت
حاضنته ومربيته.
1727 - / 2153 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ:
فِي مُسْند عَليّ.
1728 - / 2154 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين:
وَقت لنا فِي قصّ الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف
الْإِبِط وَحلق الْعَانَة أَن لَا نَتْرُك أَكثر من
أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
اعْلَم أَنه مَتى زَاد الزَّمَان على هَذَا
الْمِقْدَار كثرت الأوساخ، وَرُبمَا حصل تَحت الظفر
مَا يمْنَع وُصُول المَاء إِلَيْهِ. ثمَّ إِنَّهَا
تعدم الزِّينَة الَّتِي خصت بالأظفار والشارب.
1729 - / 2157 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالسِّتِّينَ: ((وَيُقَال لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي))
.
(3/313)
الْأَركان: الْأَعْضَاء.
وَقَوله: ((عنكن كنت أُنَاضِل)) المناضلة: الرَّمْي
بِالسِّهَامِ، وَالْمرَاد بهَا هَا هُنَا المدافعة
عَنْهَا والإعتذار.
1730 - / 2158 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالسِّتِّينَ: سُئِلَ عَن الْخمر، أتتخذ خلا؟ قَالَ:
((لَا)) .
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا؛
فَإِنَّهُ عندنَا لَا يجوز تَخْلِيل الْخمر، وَلَا
تطهر إِذا خللت. وَعَن أَحْمد: أَن تخليلها يكره
وتطهر.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز وتطهر. وَعَن مَالك
كالروايتين.
1731 - / 2161 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالسِّتِّينَ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله فَقَالَ:
يَا خير الْبَريَّة. قَالَ: ((ذَاك إِبْرَاهِيم)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْبَريَّة: الْخلق، وَأكْثر
الْعَرَب والقراء على ترك الْهمزَة لِكَثْرَة مَا جرت
على الْأَلْسِنَة، وَهِي ((فعيلة)) بِمَعْنى
((مفعولة)) .
وَمن النَّاس من يزْعم أَنَّهَا مَأْخُوذَة من بريت
الْعود، وَمِنْهُم من يزْعم أَنَّهَا من البرا: وَهُوَ
التُّرَاب: أَي خلق من التُّرَاب، وَقَالُوا: لذَلِك
لَا يهمز. وَقَالَ الزّجاج: لَو كَانَت من البرا
وَهُوَ التُّرَاب لما قُرِئت بِالْهَمْز، وَإِنَّمَا
اشتقاقها من: برأَ الله الْخلق.
فَإِن قيل: كَيفَ شهد لإِبْرَاهِيم أَنه خير
الْبَريَّة وَهُوَ يَقُول: ((أَنا سيد
(3/314)
ولد آدم)) فَالْجَوَاب: أَن هَذَا مَحْمُول
على مَا قَالَه قبل أَن يعلم أَنه خير الْخلق،
فَلَمَّا عرف ذَلِك قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
1732 - / 2163 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالسِّتِّينَ: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِتَمْر، فَجعل يقسمهُ وَهُوَ محتفز، يَأْكُل
مِنْهُ أكلا ذريعا. وَفِي لفظ: رَأَيْته مقعيا يَأْكُل
تَمرا.
المحتفز: المستعجل الَّذِي لَيْسَ يتَمَكَّن. والذريع:
السَّرِيع الحثيث.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: والإقعاء: أَن يجلس على
وركيه، وَهُوَ الإحتفاز. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ أَن
يلصق أليتيه بِالْأَرْضِ وَينصب سَاقيه وَيَضَع يَده
بِالْأَرْضِ.
1733 - / 2164 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالسِّتِّينَ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الرّقية من الْعين والحمة والنملة.
أما الرّقية من الْعين فقد ذكرنَا الْعين وَمَا
يتَعَلَّق بهَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَأما الْحمة
فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْحمة: الْحَيَّات والعقارب
وأشباهها من ذَوَات السمُوم. والنملة: قُرُوح فِي
الْجنب. وَقَالَ
(3/315)
أَبُو عبيد: هِيَ قُرُوح تخرج بالجنب
وَغَيره. قَالَ: ويحكى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز فِي
رقية النملة: الْعَرُوس تحتفل وتقنأ وتكتحل، وكل شَيْء
تفتعل، غير أَن لَا تَعْصِي الرجل. تقنأ: تتزين.
فَأَما النملة بِضَم النُّون فَهِيَ النميمة. يُقَال:
رجل نمل: إِذا كَانَ نماما.
1734 - / 2165 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالسِّتِّينَ: ((إِن لَهُ لظئرين)) .
الظِّئْر: الْمُرضعَة، وَأَصله من الْعَطف، وَقد تقدم
هَذَا الحَدِيث.
1735 - / 2166 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة
ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ صلى
رَكْعَتَيْنِ.
هَذَا شَيْء لَا يَقُول بِهِ أحد من أَرْبَاب
الْمذَاهب الظَّاهِرَة، وَإِن كَانَ هَذَا الحَدِيث
مذهبا لجَماعَة من السّلف، فقد كَانَ أنس يقصر فِيمَا
بَينه وَبَين خَمْسَة فراسخ، وَقَالَ ابْن عمر: إِنِّي
لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر. وَإِنَّمَا يحمل
هَذَا الحَدِيث على أحد شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن
يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بنية
السّفر الطَّوِيل فَلَمَّا سَار ثَلَاثَة أَمْيَال
(3/316)
قصر، ثمَّ عَاد من سَفَره، فَحكى أنس مَا
رأى. وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْسُوخا.
1736 - / 2167 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ:
قد تقدم فِي مُسْند عمر وَغَيره.
(3/317)
(80) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي هُرَيْرَة
الدوسي
وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه على ثَمَانِيَة
عشر قولا قد ذكرتها فِي كتاب ((التلقيح)) ، وأشهرها
عبد شمس. وَكَانَت لَهُ فِي قديم أمره هرة صَغِيرَة
فكني بهَا. وَقدم الْمَدِينَة سنة سبع وَرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر، فَسَار إِلَى
خَيْبَر حَتَّى قدم مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمَا حفظ لأحد من
الصَّحَابَة أَكثر من حَدِيثه؛ فَإِنَّهُ روى عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف
حَدِيث وثلثمائة وَأَرْبَعَة وَسبعين، أخرج لَهُ
مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) سِتّمائَة وَتِسْعَة
أَحَادِيث.
1737 - / 2168 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم
مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن الله كتب على ابْن آدم
حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة)) .
(3/318)
اللمم: مقاربة الْمعْصِيَة من غير مواقعة
لَهَا. وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ أَن النّظر والنطق
وشهوة النَّفس تقَارب الزِّنَا.
وَقَوله: ((أدْرك ذَلِك)) أَي قضي عَلَيْهِ، فَلَا بُد
من إِصَابَة شَيْء من ذَلِك.
وَالزِّنَا مَقْصُور وَقد يمد. وَإِنَّمَا سمي النّظر
زنا لِأَنَّهُ مُقَدّمَة ذَلِك.
وَقَوله: ((والفرج يصدق ذَلِك)) دَلِيل على أَن
المتلوط زَان، وَأَنه يحد حد الزَّانِي.
1738 - / 2169 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ ابْن
عَبَّاس: قدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة، فَجعل يَقُول:
إِن جعل لي مُحَمَّد الْأَمر من بعده تَبعته.
أما مُسَيْلمَة فاسمه ثُمَامَة بن قيس، وَكَانُوا
يَقُولُونَ لَهُ رحمان، يسمونه باسمه الَّذِي يَدعِي
أَنه يَأْتِيهِ. وَكَانَ مُسَيْلمَة قد خاصمه قومه لما
ادّعى النُّبُوَّة، فَقَالَ: أَنا أُؤْمِن بِمُحَمد
وَلَكِنِّي قد أشركت مَعَه فِي النُّبُوَّة، فكاتبه
بَنو حنيفَة وأنزلوه حجرا، فَكتب ثُمَامَة بن أَثَال
يخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
مُسَيْلمَة قد دَعَا إِلَى أمره، وَغلب على حجر، وَشهد
لَهُ الرِّجَال بِأَنَّهُ قد أشرك فِي النُّبُوَّة،
فأضل عَامَّة من كَانَ معي. ثمَّ قدم كتاب مُسَيْلمَة
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ
رجلَيْنِ يُقَال لَهما: عبد الله بن النواح وَعبد الله
بن حُجَيْر، وَكَانَ فِي كِتَابه: أَن الأَرْض نصفهَا
لنا وَنِصْفهَا لقريش، وَلَكِن قُريْشًا قوم لَا
يعدلُونَ، ويدعوه فِي كِتَابه إِلَى الْمُقَاسَمَة
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَوْلَا
أَن الرُّسُل لَا تقتل لقتلتكما)) ثمَّ أجَاب النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من مُحَمَّد إِلَى
مُسَيْلمَة الْكذَّاب، أما بعد فَإِن الأَرْض لله
(3/319)
يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة
لِلْمُتقين. وَقد أهلكت أهل حجر، أقادك الله وَمن صوب
مَعَك)) وَقدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة وَجرى لَهُ مَا
ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ توفّي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وتغوفل عَنهُ، فاستفحل أمره إِلَى
أَن قَتله الله عز وَجل بيد وَحشِي الَّذِي قتل
حَمْزَة.
وَكَانَ من قرآنه الَّذِي يَدعِي أَنه يُوحى إِلَيْهِ:
((وَاللَّيْل الأطخم. وَالذِّئْب الأدلم. والجزع
الأزلم، مَا انتهكت أسيد من محرم)) ((وَاللَّيْل
الدامس. وَالذِّئْب الهامس. مَا قطت أسيد من رطب وَلَا
يَابِس)) ((وَالشَّاء وألوانها. وأعجبها السود
وَأَلْبَانهَا. وَالشَّاة السَّوْدَاء. وَاللَّبن
الْأَبْيَض، إِنَّه لعجب مَحْض. وَقد حرم المذق فَمَا
لكم لَا تمجعون)) ((ضفدع بنت ضفدعين. نقي مَا تنقين.
أعلاك فِي المَاء وأسفلك فِي الطين. لَا الشَّارِب
تمنعين وَلَا المَاء تكدرين)) .
((والمندبات زرعا. والحاصدات حصدا. والذاريات قمحا.
والطاحنات طحنا. والخابزات خبْزًا. والثاردات ثردا.
واللاقمات لقما. إهالة وَسمنًا. لقد فضلْتُمْ على أهل
الْوَبر. وَمَا سبقكم أهل الْمدر)) ، ((الْفِيل وَمَا
أَدْرَاك مَا الْفِيل. لَهُ ذَنْب وثيل. وخرطوم
طَوِيل)) .
وتمضمض يَوْمًا مُسَيْلمَة ورماه فِي بِئْر فغارت،
وَمسح على رَأس صبي فقرع، ودعا لآخر فَعميَ، ودعا لآخر
فَمَاتَ من يَوْمه، وَمسح
(3/320)
ضرع نَاقَة لتدر فيبست أخلافها وَانْقطع
درها.
وَأما الجريد فَهُوَ سعف النّخل، الْوَاحِدَة
جَرِيدَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ قد جرد مِنْهَا
الخوص.
وَقَوله: ((ليَعْقِرنك)) أَي ليهلكنك.
وَقَوله: ((وَهَذَا ثَابت يجيبك عني)) كَانَ ثَابت بن
قيس بن شماس خطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يتَكَلَّم عَنهُ، وَهَذَا لِأَن الْقَوْم ألفوا تشقيق
الْكَلَام وإنشاد الشّعْر، وَكَانَ ثَابت للخطب،
وَحسان للشعر. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على جَوَاز تشقيق
الْكَلَام إِذا كَانَ صدقا وصحيحا.
وَأما الْعَنسِي فَهُوَ الْأسود، واسْمه عبهلة بن
كَعْب، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو الْخمار، يزْعم أَن
الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو خمار. وَأول ردة كَانَت فِي
الْإِسْلَام بِالْيمن، على عهد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على يَدي الْأسود الْعَنسِي، وَكَانَ
الْأسود كَاهِنًا ومشعبذا، وَكَانَ يُرِيهم
الْأَعَاجِيب، وَيَسْبِي الْقُلُوب بمنطقه، فكاتبته
مذْحج، وواعدوه نَجْرَان، فَوَثَبُوا بهَا فأخرجوا
عَمْرو بن حزم وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ، وأنزلوه
منزلهما، وَصفا لَهُ ملك الْيمن، وَلم يقر برَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا طَالبه أَتْبَاعه
بِهَذَا، وَلم يكْتب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَيْرُوز الديلمي فَقتله،
فَأُوحي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بذلك، فَقَالَ: ((قتل الْأسود البارحة، قَتله رجل
مبارك من أهل بَيت مباركين)) قيل: وَمن؟ قَالَ:
(3/321)
((فَيْرُوز، فَازَ فَيْرُوز)) .
وَكَانَ قد ادّعى النُّبُوَّة أَيْضا طليحة بن خويلد
فِي بني أَسد، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو النُّون، بِأَن
الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو النُّون، وَاجْتمعت عَلَيْهِ
الْعَرَب، وَأَرْسلُوا وفودا فعرضوا أَن يقيموا
الصَّلَاة ويعفوا عَن الزَّكَاة، فَصَعدَ أَبُو بكر
الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ:
إِن الله توكل بِهَذَا الْأَمر، فَهُوَ نَاصِر من
لزمَه، وخاذل من تَركه، وَإنَّهُ بَلغنِي أَن وفودا من
وُفُود الْعَرَب قدمُوا يعرضون الصَّلَاة ويأبون
الزَّكَاة. أَلا وَإِنَّهُم لَو مَنَعُونِي عقَالًا
مِمَّا أَعْطوهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَ فرائضهم مَا قبلته مِنْهُم. أَلا بَرِئت
الذِّمَّة من رجل من هَؤُلَاءِ الْوُفُود أَخذ بعد
يَوْمه وَلَيْلَته بِالْمَدِينَةِ. فتواثبوا يتخطون
رِقَاب النَّاس حَتَّى مَا بَقِي فِي الْمَسْجِد
مِنْهُم أحد. ثمَّ دَعَا نَفرا فَأَمرهمْ بأَمْره،
فَأمر عليا بِالْقيامِ على نقب من أنقاب الْمَدِينَة،
وَأمر الزبير بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر طَلْحَة
بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر عبد الله بن مَسْعُود
بعسس مَا وَرَاء ذَلِك بِاللَّيْلِ والإرتباء نَهَارا.
وجد فِي أمره، وَقَامَ على سَاق، وَخرج أَبُو بكر
حَتَّى انْتهى إِلَى الربذَة، فلقي بني عبس وذبيان
فَقَاتلهُمْ، فَهَزَمَهُمْ الله وفلهم، ثمَّ رَجَعَ
إِلَى الْمَدِينَة فَقطع فِيهَا الْجنُود، وَعقد أحد
عشر لِوَاء، [لِوَاء] مِنْهَا لخَالِد ابْن الْوَلِيد،
وَأمره بطليحة بن خويلد فَإِذا فرغ مِنْهُ سَار إِلَى
مَالك بن نُوَيْرَة، ولعكرمة وَأمره بمسيلمة، وللمهاجر
بن أبي أُميَّة فَأمره بِجُنُود
(3/322)
الْعَنسِي، ولخالد بن سعيد بن العَاصِي
إِلَى مَشَارِق الشَّام، فَأَما طليحة فَإِنَّهُ عَاد
إِلَى الْإِسْلَام، وَأما مُسَيْلمَة فَأَقَامَ على
حَاله فَقتله الله تَعَالَى.
1739 - / 2170 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((أَنا
عِنْد ظن عَبدِي بِي)) .
اعْلَم أَن صدق رَجَاء الْمُؤمن لفضل الله عز وَجل
وجوده يُوجب حسن الظَّن بِهِ، وَلَيْسَ حسن الظَّن
بِهِ مَا يَعْتَقِدهُ الْجُهَّال من الرَّجَاء مَعَ
الْإِصْرَار على الْمعاصِي، وَإِنَّمَا مثلهم فِي
ذَلِك كَمثل من رجا حصادا وَمَا زرع، أَو ولدا وَمَا
نكح. وَإِنَّمَا الْعَارِف بِاللَّه عز وَجل يَتُوب
ويرجو الْقبُول، ويطيع ويرجو الثَّوَاب. أخبرنَا
مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد
الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْعَزِيز بن عَليّ
قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد
يَقُول: حَدثنَا الْحسن بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الفِهري عَن أَبِيه عَن
الْحسن قَالَ: إِن قوما ألهتهم أماني الْمَغْفِرَة
حَتَّى خَرجُوا من الدُّنْيَا وَلَيْسَت لَهُم
حَسَنَة، يَقُول: إِنِّي لحسن الظَّن بربي، وَكذب، لَو
أحسن الظَّن بربه لأحسن الْعَمَل.
((وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي)) أَي بِالْحِفْظِ
والحراسة وَحسن الْجَزَاء.
وَقَوله: ((ذكرته فِي ملإ خير مِنْهُم)) الْمَلأ:
الْأَشْرَاف، وَالْمرَاد بهم الْمَلَائِكَة. وَبَاقِي
الحَدِيث قد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.
(3/323)
1740 - / 2171 - والْحَدِيث الرَّابِع: قد
تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1741 - / 2172 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لَا تقوم
السَّاعَة حَتَّى تضطرب أليات نسَاء دوس على ذِي
الخلصة)) .
الأليات جمع ألية: وَهِي الْعَجز.
وَذُو الخلصة: بَيت كَانَ فِيهِ صنم يُقَال لَهُ
الخلصة، وَكَانَ لدوس وخثعم، وَكَانَ يُسمى الْكَعْبَة
اليمانية، فَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جرير بن عبد الله لهدمه، وَعقد لَهُ لِوَاء، فهدمه،
فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن
النَّاس يعودون فِي آخر الزَّمَان إِلَى عبَادَة
الْأَوْثَان. وَإِنَّمَا ذكر اضْطِرَاب الأليات ليصف
قُوَّة الْحِرْص على السَّعْي حول ذَلِك الصَّنَم
الَّذِي كَانَ يعبد حَتَّى حرص النِّسَاء إِلَى أَن
تضطرب أعضاؤهن لشدَّة الْحَرَكَة.
1742 - / 2174 - والْحَدِيث السَّابِع: قد تقدم فِي
مُسْند جَابر بن سَمُرَة.
1743 - / 2715 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((مَا من
مَوْلُود يُولد إِلَّا نخسه الشَّيْطَان، فَيَسْتَهِل
صَارِخًا)) .
الإستهلال: رفع الصَّوْت.
(3/324)
والنخس بالشَّيْء المحدد كرؤوس
الْأَصَابِع.
والحجاب هَاهُنَا المشيمة.
وَقَوله: ((نزغة من الشَّيْطَان)) أَي قصد للْفَسَاد.
1744 - / 2176 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: ((ليوشكن
أَن ينزل ابْن مَرْيَم حكما مقسطا، فيكسر الصَّلِيب،
وَيقتل الْخِنْزِير، وَيَضَع الْجِزْيَة)) .
الوشيك: الْقَرِيب. وَأَرَادَ قرب ذَلِك الْأَمر.
وَالْحكم: الْحَاكِم. والمقسط: الْعَادِل. يُقَال:
أقسط فَهُوَ مقسط: إِذا عدل، وقسط فَهُوَ قاسط: إِذا
جَار.
وَفِي قَوْله: ((وَيَضَع الْجِزْيَة)) قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه يحمل النَّاس على دين الْإِسْلَام،
وَلَا يبْقى أحد تجْرِي عَلَيْهِ الْجِزْيَة.
وَالثَّانِي: أَنه لَا يبْقى فِي النَّاس فَقير
يحْتَاج إِلَى المَال، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة
فتصرف فِي الْمصَالح، فَإِذا لم يبْق للدّين خصم عدمت
الْوُجُوه الَّتِي تصرف فِيهَا الْجِزْيَة فَسَقَطت.
ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ.
وَيحْتَمل وَجها ثَالِثا: وَهُوَ أَنه يضْرب
الْجِزْيَة على من يدين بدين النَّصَارَى كَمَا هِيَ
الْيَوْم، وَذَلِكَ لِأَن شَرعه نسخ، فَلَمَّا نزل
اسْتعْمل شرعنا، وَمن شرعنا ضرب الْجِزْيَة وَقتل
الْخِنْزِير.
وَقَوله: ((حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خيرا
من الدُّنْيَا)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى
(3/325)
صَلَاح النَّاس، وَإِيمَانهمْ، وإقبالهم
على الْخَيْر، فهم لذَلِك يؤثرون الرَّكْعَة على
الدُّنْيَا، وَلذَلِك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة:
اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا
ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته وَيَوْم الْقِيَامَة يكون
عَلَيْهِم شَهِيدا} [النِّسَاء: 159] وَيدل على صَلَاح
النَّاس عِنْد نزُول عِيسَى قَوْله: ((وَتذهب الشحناء
والتباغض)) .
وَأما قَوْله: ((وإمامكم مِنْكُم)) فقد سبق فِي مُسْند
جَابر بن عبد الله أَنه: ((إِذا نزل عِيسَى قَالَ
أَمِير النَّاس: صل لنا، فَيَقُول: لَا، إِن بَعْضكُم
على بعض أُمَرَاء)) . وَهَذَا معنى قَوْله: ((فأمكم
مِنْكُم)) أَي وَاحِد مِنْكُم. وَفِي هَذَا الحَدِيث
عَن ابْن أبي ذِئْب تَفْسِير آخر، فَإِنَّهُ قَالَ:
مَعْنَاهُ: أمكُم بِكِتَاب الله وَسنة نبيه. وَمَا
ذكرنَا فِي حَدِيث جَابر يبطل هَذَا التَّأْوِيل.
والقلاص جمع قلُوص: وَهِي الْأُنْثَى من الْإِبِل،
وَقيل: القلوص: الْبَاقِيَة على السّير من النوق.
وَقَوله: ((لَا يسْعَى عَلَيْهَا)) يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: يسْتَغْنى عَن رعيها لِكَثْرَة المَال.
وَالثَّانِي: لَا يسْعَى عَلَيْهَا إِلَى جِهَاد
لإسلام النَّاس.
1745 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((يتقارب
الزَّمَان، وَينْقص الْعلم)) .
فِي معنى تقَارب الزَّمَان أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة،
(3/326)
وَالْمعْنَى: إِذا قربت الْقِيَامَة كَانَ
من أشراطها الشُّح والهرج. وَالثَّانِي: قصر مُدَّة
الْأَزْمِنَة كَمَا جرت بِهِ الْعَادة، وَلِهَذَا
قَالَ فِي حَدِيث آخر: ((يتقارب الزَّمَان حَتَّى تكون
السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَة
كَالْيَوْمِ)) . وَالثَّالِث: أَنه قصر الْأَعْمَار.
وَالرَّابِع: أَنه تقَارب أَحْوَال النَّاس فِي
غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، فَيكون الْمَعْنى: يتقارب
أهل الزَّمَان: أَي تتقارب صفاتهم فِي القبائح،
وَلِهَذَا ذكر على إثره: الْهَرج وَالشح.
وَأما نقص الْعلم وَقَبضه فقد سبق بَيَانه فِي مُسْند
أنس.
وَقَوله: ((يلقى الشُّح)) على وَجْهَيْن: أَحدهمَا
يلقى من الْقُلُوب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: ((وَيفِيض
المَال)) . وَالثَّانِي: يلقى فِي الْقُلُوب فَيُوضَع
فِي قلب من لَا شح عِنْده، وَيزِيد فِي قلب الشحيح.
وَوجه هَذَا أَن الحَدِيث خَارج مخرج الذَّم، فوقوع
الشُّح فِي الْقُلُوب مَعَ كَثْرَة المَال أبلغ فِي
الذَّم. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: وَقد رَأَيْت
من يمِيل إِلَى أَن لفظ الحَدِيث يلقى بتَشْديد
الْقَاف، وَالْمعْنَى: يتلَقَّى ويتعلم ويتواصى بِهِ.
وَقد سبق تَفْسِير الشُّح فِي مُسْند جَابر بن عبد
الله.
والهرج: الْقَتْل.
والدجال: الْكذَّاب.
(3/327)
وفيض المَال: كثرته.
والأرب: الْحَاجة.
والمروج جمع مرج. قَالَ ابْن فَارس: المرج: أَرض ذَات
نَبَات تمرج فِيهَا الدَّوَابّ.
1746 - / 2178 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر: قد سبق فِي
مُسْند ابْن عمر.
1747 - / 2179 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا
تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا قوما نعَالهمْ
الشّعْر)) .
هَذَا شعار للترك، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن
الْمُنَادِي: هم البربر.
وَأما المجان فَجمع مجن: وَهُوَ الترس. قَالَ أَبُو
عبيد: والمطرقة: الَّتِي أطرقت بالجلود والعقب: أَي
ألبست، وَكَذَلِكَ النَّعْل المطرقة: هِيَ الَّتِي قد
أطبقت عَلَيْهَا أُخْرَى. شبه عرض وُجُوههم ونتو
جباههم بِظُهُور الترسة الَّتِي قد ألبست الأطرقة.
وَقَوله: ((ذلف الأنوف)) : الذلف: قصر الْأنف
وانبطاحه. وَقَالَ الزّجاج: قصر الْأنف وصغره. يُقَال:
امْرَأَة ذلفاء: إِذا كَانَت كَذَلِك. والفطس انفراش
الْأنف وطمأنينة وَسطه.
(3/328)
والبارز: مَوضِع.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ خير النَّاس أَشَّدهم كَرَاهِيَة
لهَذَا الْأَمر)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى الولايات.
وَقَوله: ((النَّاس معادن)) الْإِشَارَة إِلَى أصل
الْموضع، فمعدن الذَّهَب ينْبت الذَّهَب، ومعدن القار
والنفط لَا يَجِيء مِنْهُ إِلَّا ذَلِك، ويوضح هَذَا
قَوْله: ((خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي
الْإِسْلَام)) الْمَعْنى أَن الأَصْل الْجيد فِي
الْجَاهِلِيَّة يزِيدهُ الْإِسْلَام جودة.
وَقَوله: ((وليأتين على أحدكُم زمَان لِأَن يراني))
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون خطابا للصحابة،
يتمنون بعد عَدمه رُؤْيَته، إِمَّا للشوق إِلَيْهِ،
أَو لظُهُور الْفِتَن، وَالثَّانِي: أَن يكون للتابعين
وَمن بعدهمْ، فَيكون قَوْله: ((أحدكُم)) أَي أحد
أمتِي. وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة
أَنه قَالَ: ((من أَشد أمتِي حبا لي نَاس يكونُونَ
بعدِي، يود أحدهم لَو رَآنِي بأَهْله وَمَاله)) .
1748 - / 2180 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((لَا
يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)) .
يرْوى بِضَم الْغَيْن على معنى الْخَبَر، وبكسرها على
معنى الْأَمر.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ لفظ خبر وَمَعْنَاهُ
الْأَمر، يَقُول: ليكن الْمُؤمن
(3/329)
حازما حذرا، لَا يُؤْتى من نَاحيَة
الْغَفْلَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا.
1749 - / 2181 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر:
((أَيّمَا مُؤمن سببته أَو جلدته فَاجْعَلْ ذَلِك لَهُ
قربَة إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة)) .
فَإِن قيل: جَمِيع أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الْغَضَب وَالرِّضَا حق وصواب، فَلم اعتذر
عَن مثل هَذِه الْأَشْيَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا
الإعتذار من فعل شَيْء غَيره أولى مِنْهُ، فَإِن
الْعَفو فِي الْغَالِب أولى من الْعقُوبَة.
1750 - / 2182 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر:
فَقَامَ عكاشة يجر نمرة.
النمرة: كسَاء ملون.
والْحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1751 - / 2183 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِن
لله مائَة رَحْمَة، أنزل مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة
بَين الْجِنّ وَالْإِنْس والبهائم والهوام، فبها
يتعطافون، وَبهَا يتراحمون، وَبهَا تعطف الْوَحْش على
أَوْلَادهَا، وَأخر تسعا وَتِسْعين رَحْمَة يرحم بهَا
عباده يَوْم الْقِيَامَة)) .
اعْلَم أَن رَحْمَة الله عز وَجل صفة من صِفَات ذَاته
وَلَيْسَت على معنى
(3/330)
الرقة كَمَا فِي صِفَات بني آدم،
وَإِنَّمَا ضرب مثلا بِمَا يعقل من ذكر الْأَجْزَاء
أَو رَحْمَة المخلوقين، وَالْمرَاد أَنه أرْحم
الرَّاحِمِينَ.
1752 - / 2184 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ
ابْن الْمسيب: الْبحيرَة الَّتِي يمْنَع درها للطواغيت
فَلَا يحلبها أحد من النَّاس.
والسائبة: مَا يسيبونها لآلهتهم لَا يحمل عَلَيْهَا
شَيْء. قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((رَأَيْت عَمْرو بن
عَامر الْخُزَاعِيّ يجر قصبه فِي النَّار، كَانَ أول
من سيب السوائب)) .
الْبحيرَة: هِيَ الْأُنْثَى تلدها النَّاقة بعد
أَرْبَعَة أبطن. وَقيل: بعد عشرَة أبطن، كَانُوا يشقون
أذنها وتخلى.
وَاخْتلفُوا فِي السائبة، فَقيل: هِيَ النَّاقة،
كَانَت إِذا نتجت عشرَة أبطن كُلهنَّ إناث سيبت فَلم
تركب وَلم يجز لَهَا وبر، وَلم يشرب لَبنهَا إِلَّا
ضيف. وَقيل: السائبة مَا كَانُوا يخرجونه من
أَمْوَالهم فَيَأْتُونَ بِهِ خَزَنَة الْآلهَة فيطعمون
ابْن السَّبِيل من ألبانه ولحومه.
عَمْرو وَهَذَا هُوَ أَبُو خُزَاعَة وَفِي بعض
أَلْفَاظ الصَّحِيح: ((رَأَيْت عَمْرو بن لحي بن قمعة
بن خندف أَخا بني كَعْب وَهُوَ يجر قصبه فِي النَّار))
وَقد روينَا أَنه عَمْرو بن عَامر، فأظن لحيا لقب
لعامر. وقمعة
(3/331)
بِفَتْح الْقَاف وَالْمِيم، كَذَلِك ضبط
فِي نسب الزبير بن بكار.
والقصب: المعى.
وَقَوله: ((كَانَ أول من سيب السوائب)) أَي أول من
ابتدع هَذَا وَجعله دينا.
1753 - / 2185 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((قلب
الشَّيْخ شَاب على حب اثْنَتَيْنِ: طول الْحَيَاة وَحب
المَال)) .
قد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أنس،
وَقُلْنَا: إِن أحب الْأَشْيَاء إِلَى الْإِنْسَان
نَفسه، فَمَا تزَال محبته لَهَا تقوى، خُصُوصا إِذا
أَيقَن بِقرب الرحيل، ثمَّ إِنَّه يحب مَا هُوَ سَبَب
قوامها وَهُوَ المَال، لموْضِع محبته إِيَّاهَا.
1754 - / 2186 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر:
شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خَيْبَر، فَقَالَ لرجل مِمَّن يَدعِي الْإِسْلَام:
((هَذَا من أهل النَّار)) فَذكر مثل حَدِيث سهل بن سعد
الْمُتَقَدّم فِي مُسْنده، وَقَالَ فِيهِ: ((إِن الله
يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر)) .
قد ذكرنَا خبر ذَلِك الرجل فِي مُسْند سهل، وَبينا أَن
اسْم الرجل قزمان، وَأَن ذَلِك كَانَ يَوْم أحد.
وَيُمكن أَن يكون قد جرى مثل هَذَا لآخر يَوْم
خَيْبَر، وَالله أعلم.
(3/332)
1755 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين:
((نعما للمملوك يحسن عبَادَة ربه وصحابة سَيّده)) .
فِي نعم أَربع لُغَات: نعم بِفَتْح النُّون وَكسر
الْعين مثل علم. وَنعم بكسرهما. وَنعم بِفَتْح النُّون
وتسكين الْعين. وَنعم بِكَسْر النُّون وتسكين الْعين.
قَالَ الزّجاج: و ((مَا)) فِي تَأْوِيل الشَّيْء،
وَالْمعْنَى: نعم الشَّيْء.
1756 - / 2188 - وَقد سبق الحَدِيث الْحَادِي
وَالْعشْرُونَ.
1757 - / 2189 - وَالثَّانِي وَالْعشْرُونَ، وَفِيه
فِي صفة مُوسَى: أَنه مُضْطَرب، رجل الرَّأْس. وَقد
ذكرنَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله فِي صفة مُوسَى
أَنه ضرب من الرِّجَال: وَهُوَ الْخَفِيف الْجِسْم،
وَكَأن هَذَا إِشَارَة إِلَى ذَاك.
وَأما الرجل فَهُوَ الَّذِي فِي شعره سهولة.
وَفِي صفة عِيسَى: كَأَنَّمَا خرج من ديماس. وَقد فسر
فِي الحَدِيث أَنه الْحمام. وَقَالَ الْخطابِيّ:
الديماس: السرب. يُقَال: دمست
(3/333)
الرجل: إِذا قبرته، وَأَرَادَ أَنه من
نَضرة وَجهه وَحسنه كَأَنَّهُ خرج من كن.
1758 - / 2190 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
قد سبق فِي مُسْند عمر.
1759 - / 2191 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْعِشْرين: ((قَاتل الله الْيَهُود، اتَّخذُوا
قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد)) .
قَاتل بِمَعْنى لعن، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَة: قَتلهمْ الله.
وَهَذَا قَالَه قبل مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لِئَلَّا يتَّخذ قَبره مَسْجِدا. وَقد تقدم بَيَان مثل
هَذَا، وَأَن الْقُبُور لَا يَنْبَغِي أَن تعظم،
إِنَّمَا تحترم بكف الْأَذَى عَنْهَا.
والعوام الْيَوْم مغرون بتعظيمها وَالصَّلَاة
عِنْدهَا.
1760 - / 2192 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ:
فِيهِ ذكر ذِي السويقتين. وَقد سبق هَذَا، وَبينا أَنه
إِنَّمَا صغرهما لدقتهما، وَفِي سوق الْحَبَشَة دقة.
1761 - / 2193 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْعِشْرين: ((الْحلف منفقة
(3/334)
للسلعة، ممحقة للكسب)) .
المُرَاد بِالْحلف هَا هُنَا الْيَمين الْفَاجِرَة،
فَإِن السّلْعَة تنْفق بهَا: أَي تخرج. وَالْكَسْب
لموْضِع الْغرُور وَالْكذب يمحق.
1762 - / 2194 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْعِشْرين: ((إِنَّمَا يُسَافر إِلَى ثَلَاثَة
مَسَاجِد: الْكَعْبَة، ومسجدي، وَمَسْجِد إيلياء)) .
وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ: إيلياء:
بَيت الْمُقَدّس، وَهُوَ مُعرب، قَالَ الفرزدق:
(وبيتان بَيت الله نَحن ولاته ... وَبَيت بِأَعْلَى
إيلياء مشرف)
1763 - / 2195 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْعِشْرين: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا
الصَّوْم)) .
وَقد شرحناه فِي مُسْند أبي سعيد. إِلَّا أَن فِي
هَذَا الحَدِيث: ((الصَّوْم جنَّة)) وَفِيه وَجْهَان:
أَحدهمَا: جنَّة من الْمعاصِي. وَالثَّانِي: من
النَّار.
وَقَوله: ((فَلَا يرْفث)) الرَّفَث: الْكَلَام
الْقَبِيح، والصخب، وَرفع الصَّوْت عِنْد الْغَضَب
بالْكلَام السيء.
(3/335)
وَفِي قَوْله: ((فَلْيقل إِنِّي صَائِم))
وَجْهَان: أَحدهمَا: فَلْيقل لِسَانه ليمتنع الشاتم من
شَتمه إِذا علم أَنه معتصم بِالصَّوْمِ. وَالثَّانِي:
فَلْيقل لنَفسِهِ أَنا صَائِم فَكيف أُجِيب من يجهل؟
1764 - / 2196 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ الشَّديد بالصرعة)) .
الصرعة بِفَتْح الرَّاء: الَّذِي يصرع الرِّجَال.
وبسكونها: الَّذِي يصرعونه، قَالَه أَبُو عبيد.
فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَيْسَ الْعجب
فِي قُوَّة الْبدن، إِنَّمَا الْعجب فِي قُوَّة
النَّفس، فَاعْتبر قُوَّة الْمَعْنى دون الصُّورَة،
وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى:
(لَيْسَ الشجاع الَّذِي يحمي كتيبته ... يَوْم النزال
ونار الْحَرْب تشتعل)
(لَكِن فَتى غض طرفا أَو ثنى بصرا ... عَن الْحَرَام،
فَذَاك الْفَارِس البطل)
1765 - / 2197 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن
عمر قَالَ: صلى رجل فِي تبان وقباء، فِي تبان ورداء.
التبَّان: سَرَاوِيل إِلَى نصف الْفَخْذ يلبسهَا
الفرسان والمصارعون.
والقباء مَمْدُود: وَهُوَ ثوب مفرج يجمع فرجه بخيط.
وَقد تقدم ذكره فِي مُسْند ابْن عمر. والرداء
مَعْرُوف.
(3/336)
1766 - / 2198 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1767 - / 2200 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا اقْترب الزَّمَان لم تكد
رُؤْيا الْمُؤمن تكذب)) .
فِي اقتراب الزَّمَان ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا:
أَنه قرب الْقِيَامَة.
وَالثَّانِي: أَنه تقَارب زمَان اللَّيْل وَالنَّهَار
وَقت استوائهما أَيَّام الرّبيع أَو الخريف، وَذَلِكَ
وَقت تعتدل فِيهِ الأمزجة، فَحِينَئِذٍ تكون
الرُّؤْيَا سليمَة فِي الْغَالِب من الأخلاط.
وَالثَّالِث: أَنه زمَان التكهل؛ لِأَن الكهل قد بعد
عَنهُ تخايل الظنون الْفَاسِدَة، وركدت عِنْده نوازع
الشَّهَوَات، فَكَانَت نَفسه أقبل لمشاهدة الْغَيْب،
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله: ((أصدقكم رُؤْيا أصدقكم
حَدِيثا)) .
وَقَوله: ((جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا)) قد
تقدم فِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت.
قَوْله: ((حَدِيث النَّفس)) مَعْنَاهُ أَن الْإِنْسَان
يكثر حَدِيث نَفسه بِشَيْء فيراه فِي الْمَنَام، وَقد
يرِيه الشَّيْطَان مَا يحزنهُ كَمَا ذكرنَا أَن رجلا
رأى
(3/337)
كَأَن رَأسه ضرب فَوَقع، فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يحدثن أحدكُم بتلاعب
الشَّيْطَان بِهِ)) وَمثل هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن
يقصه على أحد.
وَقَوله فِي هَذَا الحَدِيث: وَكَانَ يكره الغل فِي
النّوم، وَيُعْجِبهُ الْقَيْد، هَذَا من كَلَام أبي
هُرَيْرَة أدرج فِي الحَدِيث فيتوهم أَنه مَرْفُوع،
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد بَينه معمر بن رَاشد فِي
رِوَايَته عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين. وَبَعْضهمْ
ينْسبهُ إِلَى ابْن سِيرِين.
1768 - / 2201 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا فرع وَلَا عتيرة)) وَقد فسر
فِي الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْفَرْع والفرعة: أول ولد تلده
النَّاقة، وَكَانُوا يذبحونه لآلهتهم فنهوا عَنهُ.
وَأما العتيرة: فَإِنَّهَا الرجبية: وَهِي ذَبِيحَة
كَانَت تذبح فِي رَجَب يتَقرَّب بهَا أهل
الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام، وَكَانَ على
ذَلِك حَتَّى نسخ بعد. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام: ((إِن على كل مُسلم فِي كل عَام أضحاة
وعتيرة)) . يُقَال مِنْهُ: عترت أعتر عترا.
(3/338)
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سميت عتيرة
لِأَنَّهَا تعتر: أَي تذبح.
وَأما الطواغيت فَجمع طاغوت، والطاغوت اسْم مَأْخُوذ
من الطغيان، والطغيان مجاوز الْحَد، وَالْمرَاد
بِالطَّوَاغِيتِ: آلِهَتهم.
1769 - / 2202 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: ((يتركون الْمَدِينَة على خير مَا
كَانَت، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا العوافي)) وَفِي لفظ:
((ليتركنها مذللة للعوافي)) .
العوافي: عوافي الوحوش وَالطير وَالسِّبَاع، اجْتمع
فِيهَا شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا طالبة لأقواتها،
من قَوْلك: عَفَوْت فلَانا أعفوه فَأَنا عاف، وَالْجمع
عفاة: إِذا أَتَوْهُ يطْلبُونَ معروفه. وَالثَّانِي:
طلبَهَا للعفاء: وَهُوَ الْموضع الْخَالِي الَّذِي لَا
أنيس بِهِ وَلَا ملك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((مذللة)) : أَي مُمكنَة للعوافي غير ممتنعة
عَلَيْهَا لخلو الْمَكَان وَذَهَاب أَهله عَنهُ.
وَقَوله: ((راعيان ينعقان)) النعيق: زجر الْغنم،
يُقَال: نعق بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا ونعقانا،
وَكسر الْعين من ينعق مسموع من أَكثر الْعَرَب،
وَمِنْهُم من يفتحها وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم؛ لأَنهم
يَقُولُونَ يَجْعَل ويرغب.
وَقَوله: ((فيجدانها وحوشا)) الْوَاو مَفْتُوحَة،
وَالْمعْنَى أَنَّهَا خَالِيَة.
(3/339)
1770 - / 2203 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: ((لَو رَأَيْت الظباء بِالْمَدِينَةِ
ترتع مَا ذعرتها)) .
الذعر: الْفَزع. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند
عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1771 - / 2204 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: اقْتتلَتْ امْرَأَتَانِ من هُذَيْل،
فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي
بَطنهَا، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن دِيَة جَنِينهَا غرَّة: عبد أَو وليدة، وَقضى بدية
الْمَرْأَة على عاقلتها. فَقَالَ حمل بن النَّابِغَة:
يَا رَسُول الله، كَيفَ أغرم من لَا شرب وَلَا أكل،
وَلَا نطق وَلَا اسْتهلّ، فَمثل ذَلِك يطلّ؟ فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِنَّمَا
هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان)) من أجل سجعه الَّذِي
سجع.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ اسْم إِحْدَى
الْمَرْأَتَيْنِ مليكَة وَالْأُخْرَى عطيف.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْغرَّة: عبد أَو أمة، قَالَ
مهلهل:
(كل قَتِيل فِي كُلَيْب غره ... حَتَّى ينَال الْقَتْل
آل مره)
أَي كلهم لَيْسَ بكفؤ لكليب، إِنَّمَا هم بِمَنْزِلَة
العبيد وَالْإِمَاء إِن
(3/340)
قَتلتهمْ حَتَّى أقتل آل مرّة فَإِنَّهُم
الْأَكفاء.
وَاعْلَم أَنه عَنى بالغرة الْجِسْم كُله، كَمَا
يُقَال رَقَبَة. وَقد أَنبأَنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد
السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ:
أَنبأَنَا المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد
السكرِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو يعلى الْمنْقري قَالَ:
حَدثنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن
الْعَلَاء فِي قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ((فِي الْجَنِين غرَّة عبد أَو أمة)) لَوْلَا
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ
بالغرة معنى لقَالَ: فِي الْجَنِين عبد أَو أمة،
وَلكنه عَنى الْبيَاض، فَلَا يقبل فِي الدِّيَة إِلَّا
غُلَام أَبيض. قلت: وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ لَا
أعرفهُ مذهبا لأحد من الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا قَالَ
بَعضهم: هَذَا مُسْتَحبّ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
فسر الْفُقَهَاء الْغرَّة بالنسمة من الرَّقِيق عبد
أَو أمة، فقوموها نصف عشر دِيَة الْجَنِين.
وَمعنى الإستهلال: رفع الصَّوْت.
ويطل: يهدر، من قَوْلك طل دم الرجل يطلّ طلا. وَقد
رَوَوْهُ: بَطل بِالْبَاء، وَالْأولَى أولى.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَلم يعبه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله لأجل السجع
(3/341)
نَفسه، فقد يُوجد فِي تضاعيف كَلَام رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا يخفى، كَقَوْلِه
للْأَنْصَار: ((إِنَّكُم تقلون عِنْد الطمع، وتكثرون
عِنْد الْفَزع)) وَقَوله: ((خير المَال سكَّة مأبورة
ومهرة مأمورة)) . وَقَوله: ((يَا أَبَا عُمَيْر، مَا
فعل النغير)) وَقَوله: ((أعوذ بك من علم لَا ينفع،
وَقَول لَا يسمع، وقلب لَا يخشع، وَنَفس لَا تشبع،
أعوذ بك من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَع)) وَلكنه إِنَّمَا
عَابَ مِنْهُ رده الحكم وترتيبه القَوْل فِيهِ بالسجع
على مَذْهَب الْكُهَّان، فِي ترويج أباطيلهم بالأساجيع
الَّتِي يولعون بهَا، فيوهمون النَّاس أَن تحتهَا
طائلا.
1772 - / 2205 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا قلت لصاحبك: أنصت، يَوْم
الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت)) .
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يحرم الْكَلَام
حَال سَماع الْخطْبَة على رِوَايَتَيْنِ، وَعَن
الشَّافِعِي قَولَانِ، فَإِن قُلْنَا: يحرم، فلظاهر
هَذَا الحَدِيث، وَإِن قُلْنَا: لَا يحرم حمل هَذَا
على الْأَدَب. واللغو: مَا
(3/342)
لَا فَائِدَة فِيهِ.
1773 - / 2206 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((حج مبرور)) وَقد جَاءَ فِي حَدِيث
آخر أَنه قَالَ: ((الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ ثَوَاب
دون الْجنَّة)) قيل: مَا بره؟ فَقَالَ: ((العج والثج))
والعج: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. والثج: نحر
الْإِبِل وَغَيرهَا، وَأَن يثج دَمهَا: وَهُوَ سيلان
الدَّم، فعلى هَذَا يكون معنى المبرور الَّذِي قد
أُقِيمَت فروضه وسننه.
وَفِي حَدِيث جَابر: قيل: يَا رَسُول الله، مَا بر
الْحَج؟ قَالَ: ((إطْعَام الطَّعَام، وإفشاء
السَّلَام)) فَيكون المُرَاد على هَذَا فعل الْبر فِي
الْحَج.
وَقيل: المبرور: المقبول.
1774 - / 2207 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: ((لَا
يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من الْوَلَد
فَتَمَسهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم)) .
تَحِلَّة الْقسم إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} [مَرْيَم: 71] .
وَقَوله: ((فتحتسبه)) أَي يكون هَذَا فِي حِسَابهَا
الَّذِي ترجوه فِي
(3/343)
ثَوَابهَا، وَهَذَا لَا يكون إِلَّا من
مُؤمن بالجزاء.
والحنث: الْحلم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
والإحتظار: الإمتناع. والحظار: مَا منع من وُصُول
مَكْرُوه إِلَى من فِيهِ، وَأَصله الحظيرة الَّتِي
يحظر بهَا على الْغنم وَغَيرهَا.
والدعاميص جمع دعموص: وَهُوَ دويبة من دَوَاب المَاء
صَغِيرَة تضرب إِلَى السوَاد، كَأَنَّهُ شبههم بهَا
فِي الصغر وَسُرْعَة الْحَرَكَة. وَقَالَ المرزباني:
الدعموص: دويدة صَغِيرَة تكون فِي المَاء، وَأنْشد:
(إِذا التقى البحران عَم الدعموص ... فعي أَن يسبح أَو
يغوص)
وصنفة الثَّوْب: حَاشِيَته الَّتِي فِيهَا الهدب.
1775 - / 2208 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: ((هَل فِي إبلك أَوْرَق؟)) .
الأورق: المغبر الَّذِي لَيْسَ بناصع الْبيَاض كلون
الرماد، وَسميت الْحَمَامَة وَرْقَاء لذَلِك.
وَقَوله: ((عَسى أَن يكون نَزعه عرق)) يُقَال: نزع
إِلَيْهِ فِي الشّبَه: إِذا أشبهه. والعرق: الأَصْل،
كَأَنَّهُ نزع فِي الشّبَه إِلَى أجداده من جِهَة
الْأَب أَو الْأُم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حكم الْفراش على اعْتِبَار
الشّبَه. وَفِيه زجر عَن تَحْقِيق ظن السوء.
1776 - / 2209 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ: ((لَا تسموا الْعِنَب
(3/344)
الْكَرم؛ فَإِن الْكَرم الْمُسلم)) .
قد علم اشتهار الْعِنَب عِنْد الْعَرَب بِهَذَا الإسم،
وَقد أكثرت شعراؤهم فِي هَذَا، فَقَالَ بَعضهم:
(إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة ... تروي عِظَامِي بعد
موتِي عروقها)
وَإِنَّمَا كَانُوا يسمونها كرما لما يدعونَ من
إحداثها فِي قُلُوب شاربيها من الْكَرم، فَنهى
عَلَيْهِ السَّلَام عَن تَسْمِيَتهَا بِهَذَا الإسم
الَّذِي يشيرون إِلَى فَضلهَا، تَأْكِيدًا لتحريمها،
وَقَالَ: ((إِنَّمَا الْكَرم قلب الْمُؤمن)) يُشِير
بذلك إِلَى مَا فِيهِ من نور الْإِيمَان وبركات التقى.
1777 - / 2210 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: مر عمر فِي الْمَسْجِد وَحسان ينشد،
فلحظ إِلَيْهِ: أَي نظر إِلَيْهِ نظر الْمُنكر
عَلَيْهِ.
وروح الْقُدس: جِبْرِيل. وَفِي الْقُدس ثَلَاثَة
أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الله عز وَجل، قَالَه كَعْب
وَالربيع وَابْن زيد والمفضل بن سَلمَة، فَيكون
الْمَعْنى: أَن جِبْرِيل روح الله، كَمَا سمي بذلك
عِيسَى. وَالثَّانِي: أَن الْقُدس الْبركَة، قَالَه
السّديّ. وَالثَّالِث: أَن الْقُدس الطَّهَارَة،
فَكَأَنَّهُ روح الطَّهَارَة وخالصها، فشرف بِهَذَا
الإسم وَإِن كَانَ جَمِيع الْمَلَائِكَة
(3/345)
روحانيين. وَقيل: إِنَّمَا سمي روحا
لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْبَيَانِ عَن الله عز وَجل
فتحيا بِهِ الْأَرْوَاح.
وَقد ذكرنَا حكم الشّعْر فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص
وَابْن عمر وَغَيرهمَا.
1778 - / 2211 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: بَينا الْحَبَشَة يَلْعَبُونَ عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِرَابِهِمْ دخل
عمر فَأَهوى إِلَى الْحَصْبَاء، فحصبهم بهَا، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((دعهم يَا
عمر)) وَإِنَّمَا حصبهم عمر لِأَنَّهُ رأى ذَلِك
عَبَثا. وَإِنَّمَا نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِأَن كل شَيْء يحْتَاج إِلَى المناضلة
بِهِ فِي الْحَرْب يجوز اللّعب بِهِ فِي غير الْحَرْب
ليتمرن عَلَيْهِ ويتدرج إِلَى تعلمه لأجل الْحَرْب،
كالرمي بِالسِّهَامِ والحراب والمسابقة بِالْخَيْلِ.
1779 - / 2212 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: ((قَالَ الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي
ابْن آدم، يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر)) .
كَانَت الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون
الدَّهْر، وَيَقُولُونَ عِنْد ذكر موتاهم. أبادهم
الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ، ويرونه الْفَاعِل
لهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَلَا يرونها من قَضَاء الله عز
وَجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا مَا
هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا
يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} [الجاثية: 24] .
وَقَالَ عَمْرو بن قميئة:
(3/346)
(رمتني بَنَات الدَّهْر من حَيْثُ لَا أرى
... فَكيف بِمن يَرْمِي وَلَيْسَ برامي)
(فَلَو أَنَّهَا نبل إِذن لاتقيتها ... ولكنما أرمى
بِغَيْر سِهَام)
(على الراحتين مرّة وعَلى الْعَصَا ... أنوء ثَلَاثًا
بعدهن قيامي)
وَقَالَ آخر:
(واستأثر الدَّهْر الْغَدَاة بهم ... والدهر يرميني
وَمَا أرمي)
(يَا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت فِي
الْعظم)
(وسلبتنا مَا لست تعقبنا ... يَا دهر مَا أنصفت فِي
الحكم)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا
تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) أَي هُوَ
الَّذِي يُصِيبكُم بِهَذِهِ المصائب، فَإِذا سببتم
فاعلها فكأنكم قصدتم الْخَالِق، وَكَانَ أَبُو بكر بن
دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ يروي هَذَا الحَدِيث:
((وَأَنا الدَّهْر)) مَفْتُوحَة الرَّاء مَنْصُوبَة
على الظَّرْفِيَّة: أَي أَنا طول الدَّهْر بيَدي
الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموما لصار اسْما
من أَسمَاء الله عز وَجل.
وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ بَاطِل من ثَلَاثَة
أوجه: أَحدهَا: أَنه خلاف أهل النَّقْل، فَإِن
الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوا هَذِه اللَّفْظَة
إِلَّا بِضَم الرَّاء، وَلم يكن ابْن دَاوُد من
الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النقلَة. وَالثَّانِي:
(3/347)
أَن هَذَا الحَدِيث قد ورد بِأَلْفَاظ
صِحَاح يبطل تَأْوِيله، فَمن ذَلِك مَا أخرجه
البُخَارِيّ من طَرِيق أبي سَلمَة، وَأخرجه مُسلم من
طَرِيق أبي الزِّنَاد، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
((لَا تَقولُوا يَا خيبة الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ
الدَّهْر)) . وَأخرج مُسلم من طَرِيق ابْن سِيرِين عَن
أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تسبوا الدَّهْر، فَإِن الله
هُوَ الدَّهْر)) وَالثَّالِث: أَن تَأْوِيله يَقْتَضِي
أَن تكون عِلّة النَّهْي لم تذكر؛ لِأَنَّهُ إِذا
قَالَ: ((لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَأَنا الدَّهْر أقلب
اللَّيْل وَالنَّهَار)) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا
الدَّهْر فَأَنا أقلبه. وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل خير
وَشر، وتقليبه للأشياء لَا يمْنَع من ذمها، وَإِنَّمَا
يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: ((يُؤْذِينِي ابْن
آدم)) على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
1780 - / 2214 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: ((الْفطْرَة خمس: الْخِتَان
والإستحداد وقص الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف
الْإِبِط)) .
قد ذكرنَا معنى الْفطْرَة فِي مُسْند ابْن عمر.
فَأَما الْخِتَان فعندنا أَنه وَاجِب على الرجل،
وَلنَا فِي الْمَرْأَة رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يجب على الْكل. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَمَالك: لَيْسَ بِوَاجِب. وَكَانَ بعض
الْعلمَاء يحْتَج على وُجُوبه بِأَن كشف الْعَوْرَة
(3/348)
محرم بِالْإِجْمَاع، فلولا أَنه وَاجِب لم
يجز هتك الْعَوْرَة الْمحرم لفعل سنة.
وَأما الإستحداد فَهُوَ حلق الْعَانَة بالحديدة.
والإستحداد: الإستحلاق بالحديدة.
وقص الشَّارِب قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وتقليم الْأَظْفَار: قصها. والقلم: الْقطع.
والآباط جمع إبط: وَهُوَ مَا تَحت الْيَد. قَالَ
شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: وَبَعض المتحذلقين
يَقُول الْإِبِط بِكَسْر الْبَاء، وَالصَّوَاب سكونها،
وَلم يَأْتِ فِي الْكَلَام شَيْء على ((فعل)) إِلَّا
إبل وإطل وَحبر: وَهِي صفرَة الْأَسْنَان. وَفِي
الصِّفَات: امْرَأَة بلز: وَهِي السمينة. وأتان إبد:
تَلد كل عَام، وَقيل: هِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا
الدَّهْر. وَأما الإطل فَهِيَ الخاصرة.
1781 - / 2215 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: بعثت بجوامع الْكَلم، ونصرت
بِالرُّعْبِ)) .
أما جَوَامِع الْكَلم فَهُوَ جمع الْمعَانِي
الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة.
وَفِي هَذَا حث على التفهم والإستنباط.
والرعب: الْخَوْف والفزع كَانَ يَقع فِي قُلُوب أعدائه
وَبَينه وَبينهمْ
(3/349)
مسيرَة شهر على مَا سبق فِي مُسْند جَابر
بن عبد الله، وَذكرنَا هُنَالك إحلال الْمَغَانِم،
وَجعل الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، وإرساله إِلَى
الْخلق كَافَّة.
وَفِي مَفَاتِيح الخزائن قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا يفتح
لأمته من الْبِلَاد والممالك. وَالثَّانِي: مَا يحصل
بِملكه الأَرْض من الْمَعَادِن.
وتنتثلونها بِمَعْنى تثيرونها من موَاضعهَا
وتستخرجونها، يُقَال: نثلت الْبِئْر وانتثلتها: إِذا
استخرجت ترابها. وتنتقلونها: من نقل الشَّيْء. وَقد
جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: ((وَأَنْتُم ترغثونها))
أَي تستخرجون درها وترتضعونها، يُقَال: نَاقَة رغوث
وشَاة رغوث: أَي كَثِيرَة اللَّبن.
1782 - / 2216 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ: ((أحناه على طِفْل، وأرعاه على
زوج)) .
أحناه من الحنو: وَهُوَ الْعَطف والشفقة. وأرعاه من
الإرعاء: وَهُوَ الْإِبْقَاء.
1783 - / 2217 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: نهى أَن
يَبِيع حَاضر لباد.
قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَكَذَلِكَ
التلقي. وَسبق النجش فِي مُسْند ابْن عمر.
(3/350)
وَقَوله: ((لَا يبع الرجل على بيع أَخِيه))
هَذَا النَّهْي يتَعَلَّق بالحالة الَّتِي يعلم فِيهَا
سُكُون البَائِع إِلَى المُشْتَرِي، وَذَلِكَ يكون
قبيل التواجب، فَأَما فِي حَالَة السّوم قبل ظُهُور
مُوجب الرِّضَا فَجَائِز.
وَكَذَلِكَ قَوْله: ((أَن يستام الرجل على سوم
أَخِيه)) يَعْنِي بِهِ: إِذا سكن البَائِع إِلَى
المُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ الْخطْبَة إِنَّمَا ينْهَى
عَنْهَا عِنْد سُكُون الْمَرْأَة إِلَى الْخَاطِب.
وَقَوله: ((لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا))
قَالَ أَبُو عبيد: تَعْنِي بأختها ضَرَّتهَا. وَقَوله:
((لتكفأ)) مَأْخُوذ من كفأت الْقدر وَغَيرهَا: إِذا
كببتها ففرغت مَا فِيهَا. وَفِي لفظ: ((لتكتفىء))
تفتعل من ذَلِك.
وَقَوله: ((فَإِذا أَتَى سَيّده)) أَي رب الْمَتَاع
السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ.
وَسَيَأْتِي ذكر التصرية فِي هَذَا الْمسند إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
1784 - / 2218 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين:
نعي النَّجَاشِيّ، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقد سبق فِي
مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1785 - / 2219 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع
رَأسه من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قَالَ: ((اللَّهُمَّ
أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام
وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من
الْمُؤمنِينَ بِمَكَّة. اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على
مُضر. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف))
.
(3/351)
أما الْوَلِيد فَهُوَ الْوَلِيد بن
الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله، كَانَ على دين
قومه، وَخرج مَعَهم إِلَى بدر، فَأسرهُ يَوْمئِذٍ عبد
الله بن جحش، وَيُقَال: سليط بن قيس، وَقدم فِي فدائه
أَخَوَاهُ خَالِد وَهِشَام، فافتكاه بأَرْبعَة آلَاف،
فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بلغ ذَا الحليفة، فَأَفلَت
فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم،
فَقَالَ لَهُ خَالِد: هلا كَانَ هَذَا قبل أَن تفتدى؟
فَقَالَ: مَا كنت لأسلم حَتَّى أفتدى بِمثل مَا افتدي
بِهِ قومِي، وَلَا تَقول قُرَيْش: إِنَّمَا تبع
مُحَمَّدًا فِرَارًا من الْفِدَاء، ثمَّ خرجا بِهِ
إِلَى مَكَّة وَقد أمنهما، فحبساه بهَا مَعَ سَلمَة بن
هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ سَلمَة قد
أسلم بِمَكَّة قَدِيما وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة
ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة، فَأَخذه أَبُو جهل فحبسه
وضربه وأجاعه، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يقنت فِي صَلَاة الْفجْر وَيَدْعُو لَهُم. |