مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [بَابُ الْجُمُعَةِ]
(3/1007)
[42] بَابُ الْجُمُعَةِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1354 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ
قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا
فِي يَوْمِهِمُ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ - يَعْنِي
الْجُمُعَةَ - فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ
لَهُ، وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا،
وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ
الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ " وَذَكَرَ
نَحْوَهُ إِلَى آخِرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[42] بَابُ الْجُمُعَةِ
بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى،
وَتُخَفَّفُ الْمِيمُ بِالْإِسْكَانِ، أَيِ الْيَوْمُ
الْمَجْمُوعُ فِيهِ ; لِأَنَّ فُعْلَةً بِالسُّكُونِ
لِلْمَفْعُولِ كَهُمْزَةٍ، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنَى
فَاعِلٍ، أَيِ الْيَوْمُ الْجَامِعُ، فَتَاؤُهَا
لِلْمُبَالَغَةِ كَضُحْكَةٍ لِلْمُكْثِرِ مِنْ ذَلِكَ لَا
لِلتَّأْنِيثِ، وَإِلَّا لَمَا وُصِفَ بِهَا الْيَوْمُ،
قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ جُمِعَ
فِيهَا، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِهِ بِحَوَّاءَ فِي الْأَرْضِ
فِي يَوْمِهَا، وَقِيلَ: لِمَا جُمِعَ فِيهِ مِنَ
الْخَيْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُكِيَ كَسْرُ الْمِيمِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَهَمٌ مِنْهُ،
وَإِنَّمَا هُوَ الْفَتْحُ، فَفِي الْقَامُوسِ،
الْجُمُعَةُ بِضَمَّةٍ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَهُمزَةٍ اهـ.
وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ قِرَاءَتَانِ شَاذَّتَانِ أَيْضًا
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ
الْفَتْحَ، وَحَكَى الْكَسْرَ وَهُوَ فِي صَدَدِ
الِاسْتِيعَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهَمٌ، نَعَمْ لَوْ
حَكَى الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ: وَحُكِيَ الْكَسْرُ
لَاحْتَمَلَ وُقُوعُهُ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ
الْكُتُبِ الصَّرْفِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْوَزْنَ لَيْسَ
مِنَ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ:
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَإِسْكَانِهَا حَكَاهُ
الْفَرَّاءُ، وَجْهُ الْفَتْحِ أَنَّهَا مَجْمَعُ النَّاسِ
وَيَكْثُرُونَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
[الهمزة: 1] وَكَانَتْ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ
بِالْعَرُوبَةِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1354 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ) ،
أَيْ: أَنَا وَأُمَّتِي (الْآخِرُونَ) : فِي الدُّنْيَا
وُجُودًا (السَّابِقُونَ) : شُهُودًا (يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) : أَوْ آخِرُ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فِي
الدُّنْيَا السَّابِقُونَ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ
فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ مِيرَكُ، أَيْ نَحْنُ آخِرُ
الْأَنْبِيَاءِ بَعْثًا أَوْ خُرُوجًا فِي الدُّنْيَا،
السَّابِقُونَ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْأُخْرَى، فَإِنَّ
أُمَّتَهُ تُحْشَرُ قَبْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ وَتَمُرُّ
عَلَى الصِّرَاطِ أَوَّلًا، وَيُقْضَى لَهُمْ قَبْلَ
الْخَلَائِقِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.
(بَيْدَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ
التَّحْتَانِيَّةِ، أَيْ: غَيْرَ (أَنَّهُمْ) ، أَيْ:
غَيْرُنَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ
مِنَ الْمُتَدَيِّنِينَ بِأَدْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ
السَّابِقِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ، أَوْ مَعَ
أَنَّهُمْ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ، قَالَ
الْمَالِكِيُّ: الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُ بِمَعْنَى
لَكِنْ. (أُوتُوا) ، أَيْ: أُعْطُوا (الْكِتَابَ) :
الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (مِنْ قَبْلِنَا) ، أَيْ فِي
الدُّنْيَا (وَأُوتِينَاهُ) ، أَيِ الْكِتَابَ (مِنْ
بَعْدِهِمْ) : فَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَسَاوِيَةُ
الْأَقْدَامِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَدُّمِ
الزَّمَانِيِّ لَا يُوجِبُ فَضْلًا وَلَا شَرَفًا، فَهَذَا
رَدٌّ وَمَنْعٌ لِفَضْلِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى
هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ إِنَّهُ
مِنْ بَابِ: " وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ
سُيُوفَهُمْ "، أَيْ: نَحْنُ السَّابِقُونَ بِمَا
مَنَحَنَا مِنَ الْكِمَالَاتِ غَيْرَ أَنَّهُمْ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ
بَعْدِهِمْ، وَتَأَخَّرَ كِتَابُنَا مِنْ صِفَاتِ
الْمَدْحِ وَالْكَمَالِ ; لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِكِتَابِهِمْ
وَمُعْلِمٌ لِفَضَائِحِهِمْ، فَهُوَ السَّابِقُ فَضْلًا
وَإِنْ سَبَقَ وُجُودًا، قَالَ الْمَوْلَوِيُّ
الرُّومِيُّ: وَمِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ أَنْ
جَعَلَهُمْ عِبْرَةً لَنَا، وَفَضَائِحَهُمْ نَصَائِحَنَا،
وَتَعْذِيبَهُمْ تَأْدِيبَنَا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ
مُنْعَكِسًا، وَالْحَالَ مُلْتَبِسًا، وَأَيْضًا فَنَحْنُ
بِالتَّأْخِيرِ تَخَلَّصْنَا عَنْ الِانْتِظَارِ
الْكَثِيرِ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَيْنَا كَبِيرٌ،
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَنِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
(ثُمَّ) : أَتَى بِهَا إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا
كَالتَّوْطِئَةِ وَالتَّأْسِيسِ لِمَا بَعْدَهَا. (هَذَا)
، أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
(يَوْمِهِمْ) : الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ،
فَإِنَّهُ (الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ) : أَوَّلًا
اسْتِخْرَاجَهُ بِأَفْكَارِهِمْ وَتَعْيِينَهُ
بِاجْتِهَادِهِمْ، (يَعْنِي الْجُمُعَةِ) ، أَيْ:
مُجْمَلًا تَفْسِيرٌ لِلرَّاوِي لِهَذَا يَوْمِهِمْ، وَفِي
نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ "،
أَيْ: يُرِيدُ
(3/1008)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
(فَاخْتَلَفُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ (فِيهِ) ، أَيْ
فِي تَعْيِينِهِ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولِهِ لِلْعِبَادَةِ
وَضَلُّوا عَنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ بِحَمْدِهِ (فَهَدَانَا
اللَّه لَهُ) ، أَيْ: لِهَذَا الْيَوْمِ وَقَبُوِلِهِ
وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
سَبْقِنَا الْمَعْنَوِيِّ كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ
السَّابِقِ: بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ
قَبِلْنَا إِشْعَارًا إِلَى سَبْقِهِمُ الْحِسِّيِّ
وَإِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ
بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ
وَجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا، أَيْ
فَرَضَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمًا
وَيُعَظِّمُوا فِيهِ خَالِقَهُمْ بِالطَّاعَةِ، لَكِنْ
لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْتَخْرِجُوهُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَيُعَيِّنُوهُ
بِاجْتِهَادِهِمْ، وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ أَنْ
يَتْبَعَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ صَوَابًا كَانَ
أَوْ خَطَأً كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ،
فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَوْمُ السَّبْتِ ; لِأَنَّهُ
يَوْمُ فَرَاغٍ وَقَطْعِ عَمَلٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى فَرَغَ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ،
وَيَتَفَرَّغُوا لِعِبَادَةِ مَوْلَاهُمْ، وَزَعَمَتِ
النَّصَارَى: أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْأَحَدِ ;
لِأَنَّهُ يَوْمُ بَدْءِ الْخَلْقِ الْمُوجِبِ لِلشُّكْرِ
وَالْعِبَادَةِ، فَهَدَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ،
وَوَفَّقَهُمْ لِلْإِصَابَةِ حَتَّى عَيَّنُوا
الْجُمُعَةَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الْإِنْسَانَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56] . وَكَانَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ لِفَضْلِهِ
أَوْلَى ; لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ
أَوْجَدَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَفِي
الْجُمُعَةِ أَوْجَدَ نَفْسَ الْإِنْسَانِ، وَالشُّكْرُ
عَلَى نِعْمَةِ الْوُجُودِ أَهَمُّ وَأَحْرَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ
لَنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ وَفَّقَنَا لِلْإِصَابَةِ لِمَا
صَحَّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: جُمِعَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ
تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ
لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ، وَلِلنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، فَلْنَجْعَلْ
يَوْمًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُصَلِّي وَنَشْكُرُ
فِيهِ، فَجَعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَاجْتَمَعُوا
إِلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ
رَكْعَتَيْنِ، وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ:
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}
[الجمعة: 9] اهـ.
وَالْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - وَهُوَ حُجَّةٌ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُطْلَقًا - لَكِنْ مَعَ هَذَا لَهُ
شَاهِدٌ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ
بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ،
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ
اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ
فَأَبَوْا وَقَالُوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا يَوْمَ
السَّبْتِ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ
يُؤَيِّدُ مَا قَالَ شَارِحٌ: إِنَّا اجْتَهَدْنَا
فَأَصَبْنَاهُ وَهُمُ اجْتَهَدُوا فَأَخْطَأُوهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ
وَأَنَّ مَعْنَاهُ: فَهَدَانَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ
نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ
تَوَلَّى تَعْيِينَهُ لَنَا، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى
اجْتِهَادِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ إِلَيْنَا
لَوُفِّقْنَا لِإِصَابَتِهِ بِبِرْكَتِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ
لِلنُّقُولِ الصَّرِيحَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلسِّيَاقِ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُبْقِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ
مَزِيدَ مَزِيَّةٍ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَثْنَوْنَ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ
وَالْخَمِيسِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَسَّسَ
مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ،
فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ
عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ
الْوَادِي، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمَدِينَةِ،
وَهِيَ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (وَالنَّاسُ) ، أَيْ: أَهْلُ
الْكِتَابَيْنِ كُنِّيَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ
(لَنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِـ (تَبَعٌ) قُدِّمَ لِإِفَادَةِ
الْحَصْرِ، أَوْ مُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ
تَعْلِيلِيَّةٌ مُشِيرَةٌ إِلَى النَّفْعِ (فِيهِ) ، أَيْ:
فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْيَوْمِ لِلْعِبَادَةِ (تَبَعٌ) :
فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا هُدُوا لِمَا يَعْقُبُهُ ; لِأَنَّهُ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَبْدَأَ خَلْقِ
الْإِنْسَانِ، وَأَوَّلَ أَيَّامِهِ كَانَ الْمُتَعَبِّدُ
فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَتْبُوعًا،
وَالْمُتَعَبِّدُ فِي الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ
تَابِعًا، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَيَّامَ
الثَّلَاثَةَ بِتَوَالِيهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ
اعْتِبَارِ الْأُسْبُوعِ، لَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ
(3/1009)
وُجُودًا فَضْلًا عَنِ الرُّتْبَةِ،
وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
(الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) ، أَيْ:
نَحْنُ اخْتَرْنَا الْجُمُعَةَ، وَالْيَهُودُ بَعْدَهَا،
وَالنَّصَارَى بَعْدَ يَوْمِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ
إِلَى أَنَّ السَّبْقَ الْمَعْنَوِيَّ لَنَا يَعْنِي:
أَنَّهُمْ مَعَ التَّقَدُّمِ الْخَارِجِيِّ اخْتَارُوا
التَّأَخُّرَ عَنَّا، وَتَرَكُوا لَنَا التَّقَدُّمَ
عَلَيْهِمْ، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] .
وَخَطَرَ لِي نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَحِكْمَةٌ شَرِيفَةٌ
وَهِيَ أَنَّ زِيَادَةَ " لَا " فِي " لِئَلَّا " لِئَلَّا
يَنْسِبَ إِلَيْهِمُ الْعِلْمَ أَصْلًا، وَكَانَ هَذَا
الْإِلْهَامُ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فِي حَالِ وُصُولِ كِتَابَتِي هَذَا
الْمَقَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدَ الْأَيَّامِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالنَّاسُ تَبَعٌ أَنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ أُخِّرَ
فِي الْوُجُودِ وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهُوَ
سَابِقٌ فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ;
لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ غَيْرُ مُؤَخَّرٍ
عَنْهُمَا، بَلْ وَاسِطَةُ عِقْدٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ
مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْأَحَدِ، وَمُتَقَدِّمٌ عَلَى
السَّبْتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَضِيَّةِ عِلَلِهِمْ،
وَكَأَنَّهُ وَهَمٌ، وَاعْتُبِرَ تَأَخُّرُ الْجُمُعَةِ
عَنْهُمَا بِاعْتِبَارِ دَوْرِ الْأُسْبُوعِ بِحَسَبِ
مُتَعَارَفٍ الْآنَ، وَغَفَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْوُجُودِ
الْأَصْلِيِّ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ تَبَعٌ غَدًا بِالدَّلِيلِ
السَّابِقِ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: وَقَعَ ظَرْفُ
الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْجَنَّةِ، فَيُقَدِّرُ مَعْنَى
قَبْلَ الْعَيْنَيْنِ، أَيْ: تَعْبُدُ الْيَهُودُ غَدًا
اهـ. وَلَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، فَالْوَجْهُ هُوَ
الَّذِي نَحْنُ اخْتَرْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:
الْيَهُودُ يُعَظِّمُونَ أَوْ قَالُوا: يَوْمُنَا يَكُونُ
غَدًا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ اهـ. فَأَنْتَ مُخْتَارٌ فِي
قَبُولِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ. (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ)
، أَيْ خِلْقَةً (الْأَوَّلُونَ) : حَيَاةً وَرُتْبَةً
(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَالْعِبْرَةُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ
وَمَوَاقِفِهِ، (وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ) : يَعْنِي نَبِيَّنَا قَبْلَ سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ، وَأُمَّتَهُ قَبْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ
اعْتِبَارًا لِلسَّبْقِ الْمَعْنَوِيَّ، لَا الْوُجُودِ
الْحِسِّيِّ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ
لَمَّا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى
بَابِهِ وَأَرَادُوا الِاجْتِمَاعَ بِجِنَابَةٍ مِنْهُمْ:
الْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ،
وَأَعْلَمُهُ الْخَادِمُ بِحُضُورِهِمْ أَذَنَ لِبِلَالٍ
أَنْ يَدْخُلَ، فَدَخَلَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ
بَعْضُ الْحَمِيَّةِ، وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلًى عَلَيْنَا مُعَاشِرِ أَكَابِرِ
الْعَرَبِ؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: الذَّنْبُ لَنَا فَإِنَّا
تَأَخَّرْنَا فِي دُخُولِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ
بِلَالٌ مُعَانَدَةً وَمُخَالَفَةً لِقَبُولِ
الْأَحْكَامِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12] ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ
قَائِلٍ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] الْآيَةَ.
(بَيْدَ أَنَّهُمْ ". وَذَكَرَ) ، أَيْ مُسْلِمٌ
(نَحْوَهُ) ، أَيْ: مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (إِلَى آخِرِهِ) : يَعْنِي
الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ بِوَضْعِ
الْأَوَّلُونَ مَوْضِعَ السَّابِقُونَ، وَيَكُونُ
أَحَدُهُمَا نَقْلًا بِالْمَعْنَى وَبِزِيَادَةٍ، وَنَحْنُ
أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي رِوَايَةٍ
لِمُسْلِمٍ.
(3/1010)
1355 - وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ، وَعَنْ
حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «نَحْنُ
الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ
الْخَلَائِقِ.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1355 - (وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ) ، أَيْ: وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : عَطْفٌ عَلَى عَنْهُ، أَيْ:
عَنْهُمَا جَمِيعًا (قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: "
نَحْنُ الْآخَرُونَ) ، أَيْ: الَّذِينَ تَأَخَّرُوا
عَنْهُمْ فِي حَالِ كَوْنِنَا وَإِيَّاهُمْ (مَنْ أَهْلِ
الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ:
مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ فِي السَّبْقِ لَهُمْ، قَالَ
الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي الْآخَرِينَ مَوْصُولَةٌ،
وَمَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي
الصِّلَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَا
قَبْلَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الضَّمِيرِ أَوْ هُوَ
صِفَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نَحْنُ النَّاسُ
الْآخِرُونَ الْمَوْجُودُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا.
(الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ) : قَالَ
الطِّيبِيُّ: صِفَةُ الْآخَرُونَ، أَيِ: الَّذِينَ يُقْضَى
لَهُمْ قَبْلَ النَّاسِ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَوَّلًا،
كَأَنَّهُ قِيلَ: الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ اهـ. وَفِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى تَقَدُّمِ رُتْبَتِهِمْ فِي كُلِّ
مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَفِي كُلِّ
مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْحُكُومَةِ، وَفِي قَوْلِهِ
لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ
وَبِشَأْنِهِمْ، وَإِيمَاءٌ إِلَى إِظْهَارِ رِفْعَةِ
مَكَانَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَكَانِهِمْ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ
الْخَلَائِقِ تَبَعٌ لَهُمْ، بَلْ خُلِقُوا لِأَجْلِهِمْ
حَشَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ.
(3/1010)
1356 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ
آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ
مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1356 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ
يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى مَا سَكَنَ
فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ،
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَيْرُ يَوْمٍ ظَهَرَ بِظُهُورِ
الشَّمْسِ إِذِ الْيَوْمُ لُغَةً مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى
غُرُوبِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ هُنَا
النَّهَارُ الشَّرْعِيُّ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ عَلَى
لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ سَاعَتَهَا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ
الشَّارِحِ، ثُمَّ وَجَّهَهُ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ،
وَالْحَالُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَصْدِ الشَّارِحِ فِي
مُعَالَجَةِ تَصْحِيحِ " عَلَى " لِيَكُونَ عَلَى بَابِهِ،
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ " عَلَى " لِلظَّرْفِيَّةِ،
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15] كَمَا صَرَّحَ بِهِ
صَاحِبُ الْقَامُوسِ، وَتَبِعَهُ الْمُغْنِيُّ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ: طَلَعَتْ فِيهِ.
(الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) :
الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ جِنْسِ الْعَالَمِ وَزَادَ بَعْضُ
الْحُفَّاظِ: وَحَوَّاءُ. (وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ) :
أَوَّلًا لِلْفَضْلِ السَّابِقِ (وَفِيهِ أُخْرِجَ
مِنْهَا) : لِتَلَاحُقِ اللَّاحِقِ وَظُهُورِ حَالِ
أَوْلَادِهِ مِنَ الْمُبْطِلِ وَالْمُحِقِّ، قَالَ
بَعْضُهُمْ: وَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا لِمَا كَانَ
لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ
الشَّرِيفَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ يَصْلُحُ
دَلَالَةً لِفَضِيلَةِ هَذَا الْيَوْمِ اهـ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ إِخْرَاجَهُ مَا كَانَ لِلْإِهَانَةِ،
بَلْ لِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ فَهُوَ لِلْإِكْمَالِ لَا
لِلْإِذْلَالِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لِمَا
وَقَعَ مِنْهُ الْجَرِيمَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ
الْمَوْصُوفِ بِالْعَظَمَةِ اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ
عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ، وَإِيمَاءٌ
نَبِيهٍ إِلَى تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ بِالْمُحَافَظَةِ
عَنِ السَّيِّئَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تَحْصِيلِ
الْحَسَنَةِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ خَلْقَهُ
وَإِدْخَالَهُ كَانَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ خُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أُمْهِلَ إِلَى
يَوْمِ جُمُعَةٍ أُخْرَى، فَأُدْخِلُ فِيهِ الْجَنَّةَ،
وَكَذَا الِاحْتِمَالُ فِي يَوْمِ الْإِخْرَاجِ، قَالَ
بَعْضُ الشُّرَّاحِ: لَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ لِتَكْثِيرِ
النَّسْلِ وَبَثِّ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
الْأَرَضِينَ وَإِظْهَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي خَلَقَ
الْخَلْقَ لِأَجْلِهَا، وَمَا أُقِيمَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا لَهَا، وَكَانَ لَا يَسْتَتِبُّ ذَلِكَ
إِلَّا بِخُرُوجِهِ مِنْهَا، فَكَانَ أَحْرَى بِالْفَضْلِ
مِنِ اسْتِمْرَارِهِ فِيهَا.
وَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضَايَا
الْمَعْدُودَةَ لَيْسَتْ لِذِكْرِ فَضِيلَتِهِ ; لِأَنَّ
إِخْرَاجَ آدَمَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ لَا يُعَدُّ
فَضِيلَةً، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ
مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَمَا سَيَقَعُ لِيَتَأَهَّبَ
فِيهِ الْعَبْدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِنَيْلِ
رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفْعِ نَقْمِهِ اهـ.
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مَا بَعْدَهُ ;
لِأَنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالشَّارِحُ
أَوَّلُ وَالتَّأْوِيلُ إِنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ
الظَّاهِرِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ قَوْلَ عِيَاضٍ
بِكَلَامِ الشَّارِحِ مَرْدُودٌ، مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ لَا
يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
وَمِمَّا صَرَّحَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي فِي
الْحَدِيثِ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
جَعَلَ هَذَا الْإِخْرَاجَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ مِنْ
جُمْلَةِ خِلَالِ الْخَيْرِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ عِيَاضًا مَا عَدَّهُ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ
وَلَمْ يَنْفِ كَوْنَهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ،
وَإِنَّمَا نَفَى عَدَّهُ فَضِيلَةً عَلَى مِنْوَالِ
بَقِيَّةِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَا
تَقُومُ السَّاعَةُ) ، أَيِ: الْقِيَامَةُ وَهِيَ مَا
بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، (إِلَّا فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ) . وَهُوَ الْمَجْمَعُ الْأَعْظَمُ
وَالْمَوْقِفُ الْأَفْخَمُ، وَالْمَظْهَرُ لِمَنْ هُوَ
بَيْنَ الْخَلَائِقِ أَفْضَلُ وَأَكْرَمُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَجْهُ عَدِّهِ أَنَّهُ يُوصِّلُ
أَرْبَابَ الْكَمَالِ إِلَى مَا أُعِدِّ لَهُمْ مِنَ
النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قُلْتُ: وَلِمَا يَرَوْا
أَعْدَاءَهُمْ فِي الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ، قَالَ
الطِّيبِيُّ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ قِيلَ عَرَفَةُ،
وَقِيلَ: الْجُمُعَةُ هَذَا إِذَا أُطْلِقَ، وَأَمَّا
إِذَا قِيلَ: أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ فَهُوَ
عَرَفَةُ، وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فَهُوَ
الْجُمُعَةِ تَمَّ كَلَامُهُ. وَإِذَا وَافَقَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ يَكُونُ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ
مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَأَبَرَّ،
وَمِنْهُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، وَقَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ: الْجُمُعَةُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «الْجُمُعَةُ حَجُّ
الْمَسَاكِينِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " حَجُّ الْفُقَرَاءِ
". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(3/1011)
1357 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي
الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ
يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ
إِيَّاهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ:
قَالَ: " وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ ".
وَفِي رِوَايَةِ لَهُمَا، قَالَ: " «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ
لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي
يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1357 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً) ، أَيْ شَرِيفَةً
عَظِيمَةً، وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهَا لِيَشْتَغِلَ
النَّاسُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ
نَهَارِهَا، رَجَاءَ أَنْ يُوَافِقَ دُعَاؤُهُمْ
وَعِبَادَتُهُمْ إِيَّاهَا (لَا يُوَافِقُهَا) ، أَيْ: لَا
يُصَادِفُهَا (مُسْلِمٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ:
عَبْدٌ مُسْلِمٌ (يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا) ، أَيْ:
بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ (خَيْرًا) ،
أَيْ: يَلِيقُ السُّؤَالُ فِيهِ (إِلَّا أَعْطَاهُ) ،
أَيْ: ذَلِكَ الْمُسْلِمَ (إِيَّاهُ) ، أَيْ: ذَلِكَ
الْخَيْرُ يَعْنِي: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهُ لَهُ،
وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهُ لَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ)
، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ
قَوْلَهُ: خَفِيفَةٌ وَإِشَارَةُ يَدِهِ إِلَى الْقِلَّةِ
فِي حَدِيثٍ بَيَانٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُمْتَدَّةً
كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَلَا يُنَافِي خَبَرًا صَحَّ
عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ
اثْنَا عَشَرَ سَاعَةً فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا
عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا
كَلَامًا طَوِيلًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مَعَ مَا فِيهِ
مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ فَتَأَمَّلْ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) ، أَيْ لِلْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ، (قَالَ: " إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً) :
قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَهِيَ أَرْجَى أَوْقَاتِ
الْإِجَابَةِ (لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ) ، أَيْ:
مُلَازِمٌ مُوَاظِبٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وَفِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ: وَهُوَ قَائِمٌ، وَحَمَلُوهُ بِنَاءً
عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ
الْغَالِبِ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ لِيُلَائِمَ
عُمُومَ قَوْلِهِ: (يُصَلِّي) : أَوِ الْمُرَادُ لَهُ
يَدْعُو وَيَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا
هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لِيَتَوَافِقَ جَمِيعَ
الرِّوَايَاتِ. (يَسْأَلُ اللَّهُ خَيْرًا) : قَالَ ابْنُ
حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ
الْمُبَاحَ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُوصَفُ
بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ، غَايَتَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ
تَعَالَى يُعْطِي الْخَيْرَ فَلَا يَمْنَعُ الْمُبَاحَ
(إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ:
قَوْلُهُ: قَائِمٌ يُصَلِّي. . . . . إِلَخْ. كُلُّهَا
صِفَاتٌ لِمُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي
حَالًا لِاتِّصَافِهِ بِقَائِمٍ وَيَسْأَلُ إِمَّا حَالٌ
مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ. زَادَ النَّوَوِيُّ:
إِذْ مَعْنَى يُصَلِّي يَدْعُو.
(3/1012)
1358 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي
مُوسَى، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي
شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ: " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ
يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1358 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي شَأْنِ سَاعَةِ
الْجُمُعَةِ) ، أَيْ فِي بَيَانِ وَقْتِهَا. (هِيَ مَا
بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ) ، أَيْ: بَيْنَ
الْخُطْبَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجُلُوسِ
عَقِبَ صُعُودِ الْإِمَامِ الْمِنْبَرَ. (إِلَى أَنْ
تُقْضَى) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (الصَّلَاةُ) ،
أَيْ يُفْرَغُ مِنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ
أَنْ يُقَالَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ وَبَيْنَ أَنْ
يَقْضِيَ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِإِلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ
جَمِيعَ الزَّمَانِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُلُوسِ إِلَى
انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ تِلْكَ السُّوَيْعَةُ، وَإِلَى
هَذِهِ نَظِيرُهُ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ
بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ، فَدَلَّتْ
عَلَى اسْتِيعَابِ الْحِجَابِ لِلْمَسَافَةِ
الْمُتَوَسِّطَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يُفْهَمْ. (رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، ذَكَرَهُ فِي
الْحِصْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ
إِلَى السَّلَامِ مِنْهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ،
وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزْنِيِّ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَقَالَ: " «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا
عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ
شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ
يُقَلِّلُهَا، وَقِيلَ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ،
وَقِيلَ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ بَعْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ
إِلَى أَنَّهَا بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ بِيَسِيرٍ إِلَى
ذِرَاعٍ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْهُ، قَالَهُ مِيرَكُ.
وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهَا عِنْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: مِنِ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ
إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَهَذَا مُخْتَارُ
(3/1012)
فَاطِمَةَ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ذِكْرِ
الِاخْتِلَافَاتِ مُرَاعَاةُ خُصُوصِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ،
قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّهَا
وَقْتُ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَقُولَ آمِينَ جَمْعًا بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ:
وَالصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَيِ الْمُتَقَدَّمِ
ذِكْرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ
مُسْلِمٍ: أَنَّ هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ وَأَصَحَّهُ فِي
سَاعَةِ الْإِجَابَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ
مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُهُ جَمِيعَ
الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا
تَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي
آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَفِي
مُسْلِمٍ هِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُخْتَارَ النَّوَوِيِّ
وَالْجَزَرِيِّ لَا يُفِيدُ تَعْيِينَ السَّاعَةِ
لِاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْخُطْبَةِ، وَأَزْمِنَةِ
الصَّلَاةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَا
قَالَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْإِجَابَةِ لَا مِنْ
أَوْقَاتِهَا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ السَّاعَةَ
تَدُورُ مَعَ تِلْكَ الْحَالَةِ، أَوْ يَكُونُ وَقْتُ
خُطْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
مَضْبُوطًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ،
لَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُ فِي الْبَرْدِ،
وَيُؤَخِّرُ فِي الْحَرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ اعْتَرَضَ عَلَى تَصْوِيبِ النَّوَوِيِّ،
وَقَالَ: أَمَّا خَبَرُ أَنَّهَا مِنَ الْعَصْرِ إِلَى
الْغُرُوبِ فَضَعِيفٌ، وَخَبَرُ أَنَّهَا مِنْ حِينَ
تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الِانْصِرَافِ ضَعِيفٌ أَيْضًا،
وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي
حَدِيثِ: مِنِ الْتِمَاسِهَا آخرَ سَاعَةٍ بَعْدَ
الْعَصْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ هَذِهِ السَّاعَةً
مُنْتَقِلَةٌ تَكُونُ يَوْمًا فِي وَقْتٍ وَيَوْمًا فِي
آخِرَ، كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ
أَنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْأَحَادِيثِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ، فَيَوْمًا تَكُونُ
بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ،
وَيَوْمًا مِنْ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى
السَّلَامِ، وَيَوْمًا مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ،
وَيَوْمًا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ. وَرَجَّحَ
الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ الْقَوْلَ بِالِانْتِقَالِ،
وَلِصِحَّةِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ
الْعَصْرِ حَكَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ،
وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَنَقَلَ
عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ
تَبْلَغُ الْخَمْسِينَ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ،
لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَا عَدَّا الْقَوْلَ
بِأَنَّهَا مَا بَيْنَ جُلُوسِ الْإِمَامِ وَسَلَامِهِ،
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِهَا
إِمَّا ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، أَوْ مَوْقُوفٌ اسْتَنَدَ
قَائِلُهُ إِلَى اجْتِهَادٍ دُونَ تَوْقِيفٍ، وَطَرِيقُ
تَحْصِيلهَا بِيَقِينٍ أَنْ يَنْقَسِمَ جَمَاعَةٌ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ حِصَّةً مِنْهُ
يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، أَوْ بِأَنْ
يُلْزِمَ قَلْبَهُ اسْتِحْضَارَ الدُّعَاءِ مِنْ فَجْرِهَا
إِلَى غُرُوبِ شَمْسِهَا، وَقَدْ سُئِلَ الْبَلْقِينِيُّ:
كَيْفَ يَدْعُو حَالَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ مَأْمُورٌ
بِالْإِنْصَاتِ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّعَاءِ
التَّلَفُّظُ، بَلِ اسْتِحْضَارُهُ لِقَلْبِهِ كَافٍ،
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الدُّعَاءَ
يُسْتَجَابُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(3/1013)
الفصلُ الثَّانِي
1359 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: «خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ
الْأَحْبَارِ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ
التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ
أَنْ قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ،
وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفَيْهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ
مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ
تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنَ
السَّاعَةِ، إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ
لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي
يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ،
قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ فَقُلْتُ:
بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ،
فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقِيتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ:
كَذَبَ كَعْبٌ، فَقُلْتُ لَهُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ
التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: صَدَقَ كَعْبٌ.
ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ
أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ:
أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضِنَّ عَلَيَّ، فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ
تَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي
فِيهَا "؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ
يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ
الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ "؟ قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَلِكَ»
. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ إِلَى قَوْلِهِ: صَدَقَ
كَعْبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1359 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى
الطُّورِ) : مَحَلٌّ مَعْرُوفٌ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ
طُورُ سَيْنَاءَ، (فَلَقَيْتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) :
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَحْبَارُ جَمْعٌ بِالْفَتْحِ
وَالْكَسْرِ، وَالْإِضَافَةُ كَمَا فِي زَيْدِ الْخَيْلِ،
وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، كَعْبُ بْنُ مَاتِعٍ مِنْ
حِمْيَرَ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَأَسْلَمَ زَمَنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَجَلَسْتُ مَعَهُ،
فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: عَنْ أَحَادِيثِهِ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ)
: خَبَرُ كَانَ (أَنْ قُلْتُ) : اسْمُ كَانَ، قَالَهُ
الطِّيبِيُّ، أَيْ: مَعَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ. (قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
خَيْرُ يَوْمٍ) ، أَيْ نَهَارٍ (طَلَعَتْ عَلَيْهِ) ،
أَيْ: عَلَى مَا فِيهِ (الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ،
فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) : الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْعَالَمِ
(وَفِيهِ أُهْبِطَ) ، أَيْ: أُنْزِلَ مِنَ الْجَنَّةِ
إِلَى الْأَرْضِ، لِعَدَمِ تَعْظِيمِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الزَّلَّةِ لِيَتَدَارَكَهُ بَعْدَ
النُّزُولِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَيَرْتَقِي
إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَلِيَعْلَمَ قَدْرَ
النِّعْمَةِ ; لِأَنَّ الْمِنْحَةَ تَتَبَيَّنُ عِنْدَ
الْمِحْنَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ أُهْبِطَ هُنَا بِمَعْنَى
أُخْرِجَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ:
(3/1013)
كَانَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى
السَّمَاءِ، وَالْإِهْبَاطُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ،
فَيُفِيدُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ إِمَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا فِي
يَوْمَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَفِيهِ) ، أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِخُصُوصِهِ (تِيبَ عَلَيْهِ)
: وَهُوَ مَاضٍ مَجْهُولٌ منْ تَابَ، أَيْ: وُفِّقَ
لِلتَّوْبَةِ وَقُبِلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَهِيَ
أَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ
اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] .
(وَفِيهِ) ، أَيْ: فِي نَحْوِهِ مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ
(مَاتَ) : وَالْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ. كَمَا وَرَدَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. رَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْقَاضِي: لَا
شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ فِيهِ يُوجِبُ لَهُ شَرَفًا،
وَكَذَا وَفَاتَهُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُصُولِهِ إِلَى
الْجَنَابِ الْأَقْدَسِ، وَالْخَلَاصِ عَنِ النَّكَبَاتِ.
(وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ) : وَفِيهَا نِعْمَتَانِ
عَظِيمَتَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وُصُولُهُمْ إِلَى
النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَحُصُولُ أَعْدَائِهِمْ فِي
عَذَابِ الْجَحِيمِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ) : زِيَادَةُ
مِنْ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ (إِلَّا
وَهِيَ مُصِيخَةٌ) ، أَيْ: مُنْتَظِرَةٌ لِقِيَامِ
السَّاعَةِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ
الْمَصَابِيحِ بِالسِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ مُصْغِيَةٌ مُسْتَمِعَةٌ،
وَيُرْوَى مُسِيخَةٌ بِالسِّين بِإِبْدَالِ الصَّادِ
سِينًا، وَوَجْهُ إِصَاخَةِ كُلِّ دَابَّةٍ وَهِيَ مَا لَا
يَعْقِلُ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُهَا
مُلْهَمَةً بِذَلِكَ مُسْتَشْعِرَةً عَنْهُ، فَلَا عَجَبَ
فِي ذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ
الْحِكْمَةَ فِي الْإِخْفَاءِ عَنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ،
أَنَّهُمْ لَوْ كُشِفُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتَلَّتْ
قَاعِدَةُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ وَحَقَّ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ
وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوْ أُلْهِمُوا بِمَا أُلْهِمَتِ
الدَّوَابُّ وَانْتَظَرُوا وُقُوعَ الْقِيَامَةِ لَا
يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ قَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ، وَلَا
وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فَتَدَبَّرْ. (مِنْ حِينَ تُصْبِحُ)
: قَالَ الطِّيبِيُّ: بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ
لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ
إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْفَتْحِ، (حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ) ; لِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَظْهَرُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَيْنَ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ.
(شَفَقًا) ، أَيْ خَوْفًا (مِنَ السَّاعَةِ) ، أَيْ: مِنْ
قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِوُقُوعِهَا
فِي سَاعَةٍ.
قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَأْخَذَ مَنْ قَالَ:
إِنَّ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ بَيْنَ ظُهُورِ الصُّبُحِ
وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ
إِذَا كَانَتْ ذَاكِرَاتٍ حَاضِرَاتٍ خَائِفَاتٍ فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْكَامِلَ
يَنْبَغِي بِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ
الْمَوْلَى، وَخَائِفًا عَمَّا وَقَعَ لَهُ فِي الْحَالَةِ
الْأُولَى ; إِذْ خَوْفُ الدَّوَابِّ مِنْ تَصْيِيرِ
التُّرَابِ، وَخَوْفِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ رَدِّ
الْبَابِ، وَعَظِيمِ الْعِقَابِ، وَسُخْطِ الْحِجَابِ،
فَخَوْفُهُنَّ أَهْوَنُ مَآبًا، وَلِذَا يَقُولُ
الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]
. (إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:
فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ اهـ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُلْهَمُونَ بِأَنَّ هَذَا
يَوْمٌ يُحْتَمَلُ وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فِيهِ،
وَالْمَعْنَى أَنَّ غَالِبَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ،
لَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ
ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مُصِيخَةٌ)
وَإِخْفَاؤُهَا عَنْهُمَا لِيَتَحَقَّقَ لَهُمُ
الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوهَا
لَتَنَغَّصَ عَلَيْهِمْ عَيْشُهُمْ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا
بِتَحْصِيلِ كَفَافِهِمْ مِنَ الْقُوتِ خَوْفًا مِنْ
ذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. (وَفِيهِ) ، أَيْ: فِي جِنْسِ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ (سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا) ، أَيْ:
لَا يُوَافِقُهَا (عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي) :
حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِالِانْتِظَارِ، أَوْ مَعْنَاهُ
يَدْعُو (يَسْأَلُ اللَّهَ) : حَالٌ أَوْ بَدَلٌ (شَيْئًا)
: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (إِلَّا أَعْطَاهُ
إِيَّاهُ) : بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي آدَابِ
الدُّعَاءِ.
(قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ (كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشَارَةُ
إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تِلْكَ
السَّاعَةِ الشَّرِيفَةِ وَيَوْمٌ خَبَرُهُ، (فَقُلْتُ:
بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ هِيَ
فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمٌ اهـ،
أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَا ذُكِرَ
كَائِنٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ
مُطَابَقَةً لِلْجَوَابِ،
(3/1014)
وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ.
(فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ) : بِالْحِفْظِ أَوْ
بِالنَّظَرِ (فَقَالَ) ، أَيْ كَعْبٌ (صَدَقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي هَذَا
مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ
حَيْثُ أَخْبَرَ بِمَا خَفِيَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ
الْكِتَابِ. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقِيتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ) : وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ
مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ.
(فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي) ، أَيْ بِجُلُوسِي (مَعَ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ) ، أَيْ:
وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثْتُهُ (فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهِ (فَقُلْتُ لَهُ) ، أَيْ
لِعَبْدِ اللَّهِ (قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ
يَوْمٌ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبَ
كَعْبٌ) ، أَيْ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا فُتِحَ
لِعَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي
هُوَ لِكَعْبٍ مِنَ الْأَمْرِ النَّظَرِيِّ بِبَرَكَةِ
الصُّحْبَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَسَبْقِ السَّعَادَةِ
الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ:
قَوْلُهُ: كَذَبَ كَعْبٌ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ كَعْبًا
مُخْبِرٌ بِذَلِكَ لَا مُسْتَفْهِمٌ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ;
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَفْهِمًا لَمَا أَجَابَهُ أَبُو
هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ،
فَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي إِخْبَارِهِ، فَصَدَقَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ كَذَبَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ
الِاسْتِدْلَالُ هَذَا عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْعَالِمِ
عَلَى مَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ الْخَطَأُ فِي الْإِفْتَاءِ،
كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
(فَقُلْتُ لَهُ) ، أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ (ثُمَّ قَرَأَ
كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ) ، أَيْ: سَاعَةُ
الْجُمُعَةِ، (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : وَأَمَّا قَوْلُ
ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ،
فَهُوَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، (فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: صَدَقَ كَعْبٌ) ، أَيِ: الْآنَ
(ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ
أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ؟) : بِنَصْبٍ أَيَّةَ، أَيْ:
عَرَفْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ: وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهَا،
وَبَنَى عَلَيْهَا ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هِيَ هُنَا
كَهِيَ فِي: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12]
. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ) ، أَيْ: لِعَبْدِ
اللَّهِ (أَخْبِرْنِي بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ السَّاعَةِ
(وَلَا تَضِنَّ) : بِكَسْرِ الضَّادِ وَتُفْتَحُ
وَبِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: لَا تَبْخَلْ
بِهَا (عَلَيَّ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ: بِالرَّفْعِ
عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَوْ عَلَى
أَنَّهُ حَالٌ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ
آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : قَالَ
الْأَشْرَفُ: يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ حَدِيثُ: "
الْتَمِسُوا السَّاعَةَ " كَمَا سَيَأْتِي.
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ تَكُونُ؟) ،
أَيْ: تِلْكَ السَّاعَةُ (آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) ، أَيْ
وَالْحَالُ أَنَّهُ قَالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهَا (لَا يُصَادِفُهَا
عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهَا؟) : وَفِي
نُسْخَةٍ: وَهُوَ يُصَلِّي وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا
يُصَلَّى فِيهَا، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي
رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ (فَقَالَ) : وَفِي
نُسْخَةٍ قَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ
يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا) ، أَيْ جُلُوسًا أَوْ
مَكَانَ جُلُوسٍ (يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: فِيهِ
(فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) ، أَيْ حُكْمًا (حَتَّى يُصَلِّيَ؟)
، أَيْ: حَقِيقَةً (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ:
بَلَى) ، أَيْ: بَلَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ. (قَالَ) ، أَيْ عَبْدُ اللَّهِ،
وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ، أَيْ: كَعْبٌ
(فَهُوَ) ، أَيِ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ (ذَلِكَ) ، أَيْ:
الِانْتِظَارُ، وَقِيلَ، أَيِ: السَّاعَةُ الْخَفِيفَةُ
آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَتَذْكِيرُ
الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ (رَوَاهُ مَالِكٌ،
وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) ،
أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. (وَرَوَى أَحْمَدُ إِلَى
قَوْلِهِ: صَدَقَ كَعْبٌ) .
(3/1015)
1360 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي
تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى
غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1360 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْتَمِسُوا) ،
أَيْ: اطْلُبُوا (السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى) : بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ، أَيْ: تُطْمَعُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ فِيهَا
(فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى
غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا
يُؤَيِّدُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. (رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَزَادَ
فِي آخِرِهِ: وَهِيَ قَدْرُ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى
قَبْضَتِهِ، وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ مِنْ إِسْنَادِ
التِّرْمِذِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ
الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَرُوِيَ
هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
فِي الْجُمُعَةِ سَاعَاتٌ لِلْإِجَابَةِ، وَالسَّاعَةُ
الْعُظْمَى مِنْهَا مُهِمَّةٌ، أَوْ تَدُورُ فِي أَيَّامِ
الْجُمُعَةِ كَمَا قِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهَذِهِ
السَّاعَاتُ أَرْجَى الْبَقِيَّةِ كَالْأَوْتَارِ فِي
الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.
(3/1016)
1361 - وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ
أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ،
وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ
الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ،
فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ "، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تُعْرَضُ صِلَاتُنَا عَلَيْكَ
وَقَدْ أَرَمْتَ؟ قال: يَقُولُونَ بَلِيتَ، قَالَ: " إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ
الْأَنْبِيَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ،
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1361 - (وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
أَفْضَلَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) : وَفِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَوْ
مُسَاوٍ (فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) ، أَيْ طِينَتُهُ كَمَا
سَبَقَ، (وَفِيهِ) ، أَيْ فِي جِنْسِهِ (قُبِضَ) ، أَيْ
رُوحُهُ (وَفِيهِ النَّفْخَةُ) ، أَيِ النَّفْخَةُ
الثَّانِيَةُ الَّتِي تُوَصِّلُ الْأَبْرَارَ إِلَى
النِّعَمِ الْبَاقِيَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَبِعَهُ
ابْنُ حَجَرٍ، أَيِ النَّفْخَةُ الْأُولَى فَإِنَّهَا
مَبْدَأُ قِيَامِ السَّاعَةِ وَمَقْدَمُ النَّشْأَةِ
الثَّانِيَةِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (وَفِيهِ
الصَّعْقَةُ) ، أَيِ الصَّيْحَةُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ،
وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّوْتُ الْهَائِلُ الَّذِي يَمُوتُ
الْإِنْسَانُ مِنْ هَوْلِهِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ
الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، فَالتَّكْرَارُ
بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِ الْوَصْفَيْنِ وَالْأَوْلَى مَا
اخْتَرْنَاهُ مِنَ التَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا
سُمِّيَتِ النَّفْخَةُ الْأُولَى بِالصَّعْقَةِ ;
لِأَنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا الْوَصْفِ
تَتَمَيَّزُ عَنِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى
صَعْقَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ مَا
حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الَّذِي عَجَزَ
عَنْهُ الْجَبَلُ الْقَوِيُّ، فَصَارَ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا، أَيْ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] (فَأَكْثِرُوا
عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ) ، أَيْ: فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَفْضَلِ
الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ فِيهَا أَفْضَلُ مَنْ غَيْرِهَا
لِاخْتِصَاصِهَا بِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ إِلَى سَبْعِينَ
عَلَى سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلِكَوْنِ إِشْغَالِ
الْوَقْتِ الْأَفْضَلِ بِالْعَمَلِ الْأَفْضَلِ هُوَ
الْأَكْمَلُ وَالْأَجْمَلُ، وَلِكَوْنِهِ سَيِّدَ
الْأَيَّامِ فَيُصْرَفُ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ إِذَا
عَرَفْتُمْ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ. (فَإِنَّ
صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) : يَعْنِي عَلَى وَجْهِ
الْقَبُولِ فِيهِ، وَإِلَّا فَهِيَ دَائِمًا تُعْرَضُ
عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا عِنْدَ
رَوْضَتِهِ، فَيَسْمَعُهَا بِحَضْرَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَلَيْلَهَا، وَفَضِيلَةِ الْإِكْثَارِ
مِنْهَا عَلَى سَيِّدِ الْأَبْرَارِ، وَالْأَلْفُ أَكْثَرُ
مَا وَرَدَ مِنَ الْمِقْدَارِ، فَاجْعَلْهُ وِرْدَكَ مِنَ
الْأَذْكَارِ.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تُعْرَضُ
صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟) : جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ
التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الرَّاءِ،
أَيْ بَلِيتَ، وَقِيلَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ
مِنَ الْأَرْمِ وَهُوَ الْأَكْلُ، أَيْ: صِرْتَ مَأْكُولًا
لِلْأَرْضِ، وَقِيلَ: أَرَمَّتْ بِالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ
وَالتَّاءِ السَّاكِنَةِ، أَيْ: أَرَمَّتِ الْعِظَامُ
وَصَارَتْ رَمِيمًا كَذَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ،
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُرْوَى أَرْمَمْتَ بِالْمِيمَيْنِ،
أَيْ صِرْتَ رَمِيمًا. قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ أَرَمْتَ بِحَذْفِ إِحْدَى الْمِيمَيْنِ كَظَلْتَ،
ثُمَّ كُسِرَتِ الرَّاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ
يَعْنِي: أَوْ فُتِحَتْ بِالْأَخَفِّيَّةِ أَوْ
بِالنَّقْلِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُهُ أَرْمَمْتَ فَحَذَفُوا إِحْدَى
الْمِيمَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، وَقَالَ
غَيْرُهُ: هُوَ أَرَمَّتْ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمِيمِ
الْمُشَدَّدَةِ، وَإِسْكَانِ التَّاءِ، أَيْ: أَرَمَّتِ
الْعِظَامُ، وَقِيلَ: فِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ كَذَا فِي
كِتَابِ الْأَذْكَارِ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ نَقَلَهُ
السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.
(3/1016)
(قَالَ) ، أَيْ: أَوْسٌ الرَّاوِي
(يَقُولُونَ) ، أَيِ: الصَّحَابَةُ، أَيْ يُرِيدُونَ
بِهَذَا الْقَوْلِ (بَلِيتَ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ
فِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ (يَقُولُ: بَلِيتَ) فَلَا
يُعَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي
الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَمْتَ، يَقُولُ:
بَلِيتَ، وَأَمَّا فِي الْمِشْكَاةِ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ
هَكَذَا قَالَ: يَقُولُونَ: بَلِيتَ، فَهُوَ ظَاهِرٌ ;
لِأَنَّ الْقَائِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ اسْتِبْعَادًا، تَأَمَّلْ.
ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَوَجْهُ
التَّأَمُّلِ أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْغَيْبَةُ فِي
يَقُولُونَ، وَتَكْرَارُ قَالَ، وَيُنَافِيهِ مَا فِي
الْمَصَابِيحِ، وَقَدْ أَرَمْتَ يَقُولُ: قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ قَالَ الرَّاوِي: بَلِيتَ مِنْ
أَرِمَ الْمَالُ وَالنَّاسُ، أَيْ: فَنُوا، وَأَرْضٌ
أَرِمَةٌ لَا تَنْبُتُ شَيْئًا فَمَعْنَى مَا فِي
الْمِشْكَاةِ قَالَ الرَّاوِي: يَقُولُونَ، أَيْ يَعْنُونَ
بِأَرَمْتَ بَلِيتَ، أَيْ: مَعْنَاهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا
غُبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ
مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ مُشْكِلِ الْحَدِيثِ بَيْنَ
السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَعْنِي. (قَالَ) ، أَيْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ) ، أَيْ: مَنَعَهَا
وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَطِيفَةٌ (أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ)
، أَيْ: مِنْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ
فِي قُبُورِهِمْ أَحْيَاءٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْجَوَابِ
بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ
أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنَ
الْعَرْضِ وَالسَّمَاعِ هُوَ الْمَوْتُ وَهُوَ قَائِمٌ؟
قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ أَجْسَادِهِمْ مِنْ أَنْ
تَرِمَ خَرْقٌ لِلْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، فَكَمَا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُهَا، فَكَذَلِكَ يُمَكِّنُ
مِنَ الْعَرْضِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ الِاسْتِمَاعِ مِنْهُمْ
صَلَوَاتِ الْأمَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَرِدُ فِي
الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ،
فَنَبِيُّ اللَّهِ حَيٌّ يُرْزَقُ اهـ.
قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: لَا حَاجَةَ فِي
وَجْهِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ إِلَى هَذَا التَّطْوِيلِ،
فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ. . . إِلَخْ.
مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَقَدَ أَرَمْتَ، وَأَيْضًا
فَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ
فِي قُبُورِهِمْ، فَيُمْكِنُ لَهُمْ سَمَاعُ صَلَاةِ مَنْ
صَلَّى عَلَيْهِمْ، تَأَمَّلْ. تَمَّ كَلَامُهُ،
فَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ
أَنَّهُ مُحَصِّلُ الْجَوَابِ هُوَ خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ
الطِّيبِيُّ مِنَ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ غَايَتُهُ
أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْضِيحِ وَالْإِطْنَابِ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ، مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَرَمْتَ كَلَامٌ
حَسَنٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ
الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَأَلُوا بَيَانَ
كَيْفِيَّةِ الْعَرْضِ بَعْدَ اعْتِقَادِ جَوَازِ أَنَّ
الْعَرْضَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِ الصَّادِقِ: "
«فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» " لَكِنْ
حَصَلَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ أَنَّ الْعَرْضَ هَلْ هُوَ
عَلَى الرُّوحِ الْمُجَرَّدِ أَوْ عَلَى الْمُتَّصِلِ
بِالْجَسَدِ؟ وَحَسِبُوا أَنَّ جَسَدَ النَّبِيِّ كَجَسَدِ
كُلِّ أَحَدٍ، فَكَفَى فِي الْجَوَابِ مَا قَالَهُ عَلَى
وَجْهِ الصَّوَابِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمَهُ
الطِّيبِيُّ فَإِنَّمَا يُفِيدُ حَصْرَ الْعَرْضِ،
وَالسَّمَاعِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ أَيْضًا
يَسْمَعُونَ السَّلَامَ وَالْكَلَامَ، وَتُعْرَضُ
عَلَيْهِمْ أَعْمَالُ أَقَارِبِهِمْ فِي بَعْضِ
الْأَيَّامِ، نَعَمْ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكُونُ
حَيَاتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَحْصُلُ
لِبَعْضِ وُرَّاثِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ الْحَظُّ الْأَوْفَى بِحِفْظِ
أَبْدَانِهِمُ الظَّاهِرَةِ، بَلْ بِالتَّلَذُّذِ
بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهِمَا فِي
قُبُورِهِمُ الطَّاهِرَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا ذَكَرَهَا
السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الصُّدُورِ فِي
أَحْوَالِ الْقُبُورِ، بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ،
وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا
أَفَادَهُ مِنْ ثُبُوتِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ حَيَاةً
بِهَا يَتَعَبَّدُونَ، وَيُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، مَعَ
اسْتِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
كَالْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَقَدْ
صَنَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ،
وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ،
وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي
صَحِيحِهِ. (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ
الْكَبِيرِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ،
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَهُ عِلَّةٌ دَقِيقَةٌ أَشَارَ
إِلَيْهَا الْبُخَارِيُّ نَقَلَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ
دِحْيَةَ إِنَّهُ صَحِيحٌ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ
الْعَدْلِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ
لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ بِهِ، فَقَدِ اسْتَرْوَحَ ; لِأَنَّ
الدَّارَقُطْنِيَّ رَدَّهَا.
(3/1017)
1362 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ
يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ
عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وما طَلَعَتِ
الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ،
فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو
اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا
يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ» ".
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى
بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ يُضَعَّفُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1362 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَوْمُ
الْمَوْعُودُ) ، أَيِ: الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي
سُورَةِ الْبُرُوجِ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) : وَوَقَعَ فِي
أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهُوَ غَلَطٌ
فَاحِشٌ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي
يَتَوَاعَدُونَ لِحُضُورِهِ فِي الْمِصْرِ. (وَالْيَوْمُ
الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ) ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُهُ
أَهْلُ الدِّينِ غَالِبًا (وَالشَّاهِدُ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ) : وَلَعَلَّ فِي
(3/1017)
تَقْدِيمِ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ مَعَ
أَنَّ فِي الْقُرْآنِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]
إِشَارَةً إِلَى أَعَظْمِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ
وَأَفْضَلِيَّتِهِ، أَوْ إِلَى أَكْثَرِيَّةِ
جَمْعِيَّتِهِ فَتُشَابِهُ الْقِيَامَةَ بِالْجَمْعِيَّةِ
وَالْهَيْئَةِ الْإِحْرَامِيَّةِ، فَكَأَنَّهَا قِيَامَةٌ
صُغْرَى، وَهُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ
كَالْعَرْضَةِ الْكُبْرَى، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ الْآيَةِ
فِي تَقْدِيمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ مُرَاعَاةُ
الْفَوَاصِلِ كَالْأُخْدُودِ، أَوْ لِأَجْلِ تَقَدُّمِهِ
غَالِبًا فِي الْوُجُودِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ
شَأْنَهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، حَيْثُ أَقْسَمَ بِهِ،
وَأَوْقَعَهُ وَاسِطَةَ الْعِقْدِ لِقِلَادَةِ
الْيَوْمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَنَكَّرَهُ تَفْخِيمًا،
وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ الشَّهَادَةَ مَجَازًا ; لِأَنَّهُ
مَشْهُودٌ فِيهِ نَحْوَ: نَهَارُهُ صَائِمٌ يَعْنِي:
وَشَاهِدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الشَّرِيفِ الْخَلَائِقُ
لِتَحْصِيلِ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ، وَالذَّاكِرِينَ، وَالدَّاعِينَ،
وَسَيَأْتِي أَنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ
فَهُوَ شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ، كَمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ
تَعَالَى: هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ. (وَمَا
طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ) : فِي الثَّانِي
زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ (عَلَى يَوْمٍ) ، أَيْ
عَلَى مَوْجُودِ يَوْمٍ وَسَاكِنِهِ، أَوْ فِي يَوْمٍ
(أَفْضَلَ مِنْهُ) ، أَيْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (فِيهِ
سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ) : مِنْ بَابِ
التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَبِالْحَدِيثَيْنِ عُلِمَ
أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْمُسْلِمَ وَاحِدٌ فِي
الشَّرِيعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ
كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35
- 36] . (يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ) : فِيهِ تَفْسِيرٌ
لِقَوْلِهِ: يُصَلِّي مَعَ زِيَادَةِ التَّقْيِيدِ
بِالْخَيْرِ، ثُمَّ الدُّعَاءُ يَشْمَلُ الثَّنَاءَ،
وَهُمَا يُكُونَانِ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَقْتَصِرَانِ
عَلَى الْجِنَانِ. (إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) ،
أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْإِجَابَةِ (وَلَا يَسْتَعِيذُ) :
لَفْظًا أَوْ قَلْبًا (مِنْ شَيْءٍ) ، أَيْ: مِنْ شَرِّ
نَفْسٍ أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ
أَوْ بَلِيَّةٍ أَوْ عَارٍ أَوْ نَارٍ. (إِلَّا أَعَاذَهُ)
، أَيْ: أَجَارَهُ (مِنْهُ) : بِقِسْمٍ مِنَ الْإِعَادَةِ.
(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ، إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى
بْنِ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ) ، أَيْ مُوسَى (يُضَعَّفُ) :
أَقُولُ: لَكِنْ يُقَوِّيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ مِنَ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَغَيْرُهَا.
(3/1018)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1363 - عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ
أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ
الْفِطْرِ، فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ
آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمُ إِلَى الْأَرْضِ،
وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا
يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، مَا
لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا
مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا
رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا هُوَ مُشْفِقٌ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1363 - عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ
الْأَيَّامِ) ، أَيْ: أَفْضَلُهَا، أَوْ أُرِيدَ
بِالسَّيِّدِ الْمَتْبُوعُ، كَمَا قَالَ: " وَالنَّاسُ
لَنَا تَبَعٌ ". (وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) :
وَالظَّاهِرُ شُمُولُ يَوْمِ عَرَفَةَ، لَكِنْ قَوْلُهُ:
(وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى
وَيَوْمِ الْفِطْرِ) : يُفِيدُ التَّسَاوِيَ، أَوْ
أَفْضَلِيَّةَ عَرَفَةَ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ رَزِينٍ:
أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَإِنْ وَافَقَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حجَّةً
فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُ أَخَذَ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ
مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيَوْمهَا أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ
عَرَفَةَ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ صَرِيحَةٌ
بِأَفْضَلِيَّةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ
اللَّيَالِي، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهِ كَذَلِكَ، هَذَا
وَيُحْتَمَلُ أَعَظْمِيَّةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى
يَوْمِ الْعِيدَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ يَوْمَ
عِبَادَةٍ صِرْفٍ، وَهُمَا يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ.
(فِيهِ) ، أَيْ فِي نَفْسِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (خَمْسُ
خِلَالٍ) ، أَيْ: خِصَالٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ (خَلَقَ
اللَّهُ فِيهِ آدَمَ) ، أَيْ: طِينَتَهُ (وَأَهْبَطَ
اللَّهُ) :
(3/1018)
أَيْ: أُنْزِلَ (" فِيهِ آدَمُ إِلَى
الْأَرْضِ ") : لِإِظْهَارِ ذُرِّيَّتِهِ وَأَحْكَامِ
بَشَرِيَّتِهِ، (" وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ ") :
لِلرُّجُوعِ إِلَى حَضْرَتِهِ (" وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا
يَسْأَلُ الْعَبْدُ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيِ:
الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ (" فِيهَا شَيْئًا ") ، أَيْ: مِنَ
الْأَشْيَاءِ (" إِلَّا أَعْطَاهُ ") ، أَيِ: اللَّهُ
إِيَّاهُ (" مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا ") ، أَيْ: مَا
لَمْ يَكُنْ مَسْئُولُهُ حَرَامًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:
يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْخَيْرِ مَا يَشْمَلُ الْمُبَاحَ، بَلْ هَذَا يَشْمَلُ
الْمَكْرُوهَ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفِيدُ الْعُمُومَ،
وَهُوَ لَا يُنَافِي تَقْيِيدَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ
بِخُصُوصِ الْخَيْرِ تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ أَنَّهُ لَا
يَسْأَلُ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ كَمَا أَشَرْنَا
إِلَيْهِ سَابِقًا، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ لَا
يَنْبَغِي سُؤَالُهُ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا هُوَ
مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ:
حَرَامًا بِمَعْنَى مَمْنُوعًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95]
الْآيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" وَفِيهِ تَقُومُ
السَّاعَةُ ") : وَفِيهَا عِيدُ أَهْلِ الطَّاعَةِ،
وَلِذَا يُسَمَّى يَوْمُ الْجُمُعَةِ عِيدَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَسَاكِينِ. (" مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا
سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا
بَحْرٍ ") ، أَيْ: وَلَا مِنْ دَابَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ،
(" إِلَّا هُوَ مُشْفِقٌ ") ، أَيْ: خَائِفٌ (" مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ ") ، أَيْ: خَوْفًا مِنْ فَجْأَةِ
السَّاعَةِ وَعَظَمَةِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَتَجَلَّى بِصِفَةِ الْغَضَبِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ الْعَظِيمِ تَجَلِّيًا مَا تَجَلَّى قَبْلَهُ
وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
(3/1019)
1364 - وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَاذَا فِيهِ مِنَ
الْخَيْرِ؟ قَالَ: " فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ» وَسَاقَ إِلَى
آخِرِ الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1364 - (وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: عَنْ خَوَاصِّهِ (مَاذَا
فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ؟ قَالَ: " فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ ") :
قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ
خَيْرَاتٌ تُوجِبُ فَضِيلَةُ الْيَوْمِ، قَالَ الْقَاضِي:
خَلْقُ آدَمَ يُوجِبُ لَهُ شَرَفًا وَمَزِيَّةٍ، وَكَذَا
وَفَاتُهُ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَنَابِ
الْأَقْدَسِ، وَالْخَلَاصِ عَنِ النَّكَبَاتِ، وَكَذَا
قِيَامُ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُصُولِ أَرْبَابِ
الْكَمَالِ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ
الْمُقِيمِ. (وَسَاقَ) ، أَيْ: ذَكَرَهَا مُرَتَّبًا
(إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِخَمْسِ خِلَالٍ
الْحَصْرَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ جِبْرِيلَ
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
هُوَ عِنْدَنَا يَوْمَ الْمَزِيدِ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ
عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ، يَجْلِسُ فِيهِ سَائِرُ
الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءِ،
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ
صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ،
فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ،
فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا
تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ
مِنَ الْخَيْرِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْآجُرِّيِّ: (أَنَّهُمْ يَمْكُثُونَ
فِي جُلُوسِهِمْ هَذَا إِلَى مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنَ
الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى غُرُفِهِمْ، وَفِي
أُخْرَى لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا
نَزَلُوا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فِي
مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا،
فَيَزُورُونَ اللَّهَ فَيَبْرُزُ لَهُمْ عَرْشُهُ فِي
رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَيُوضَعُ لَهُمْ
مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ،
وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ،
وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ، وَمَا
فِيهِمْ أَدْنَى عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ،
وَمَا يَرَوْنَ أَصْحَابَ الْكُرْسِيِّ بِأَفْضَلَ
مِنْهِمْ مَجْلِسًا) الْحَدِيثَ. وَفِي أُخْرَى لَهُ
أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَزُورُونَ رَبَّهُمْ
فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فِي رِمَالِ الْكَافُورِ،
وَأَقْرَبُهُمْ مِنِّي مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إِلَيْهِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا اهـ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَسَافَةِ
وَالْجِهَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ
الْمَكَانَةِ وَالْقُرْبَةِ.
(3/1019)
1365 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ؟ قَالَ ; لِأَنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ
أَبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ،
وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ
مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ
لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1365 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَيِّ شَيْءٍ
سُمِّيَ) ، أَيْ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِالرَّفْعِ
(3/1019)
(يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى
أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (قَالَ: " لِأَنَّ فِيهَا ") :
أَنَّثَهُ نَظَرًا لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ (" طُبِعَتْ ") ،
أَيْ: خُمِّرَتْ وَجُمِعَتْ (" طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ ") ،
أَيِ: الَّذِي هُوَ مَجْمُوعَةُ الْعَالَمِ، وَالْخِطَابُ
لِلْقَائِلِ السَّائِلِ، (" وَفِيهَا الصَّعْقَةُ ") ،
أَيِ: الصَّيْحَةُ الْأُولَى الَّتِي بِهَا يَمُوتُ
جَمِيعُ أَهْلِ الدُّنْيَا (" وَالْبَعْثَةُ ") : بِكَسْرِ
الْبَاءِ وَتُفْتَحُ، أَيِ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
الَّتِي بِهَا تَحْيَا جَمِيعُ الْأَجْسَادِ الْفَانِيَةِ
(" وَفِيهَا الْبَطْشَةُ ") ، أَيِ: الْأَخْذَةُ
الشَّدِيدَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الطَّامَّةُ الَّتِي
لِلْخَلَائِقِ عَامَّةً، وَمَا قِيلَ أَنَّهَا
الْقِيَامَةُ فَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ
أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سُئِلَ
عَنْ سَبَبِ التَّسْمِيَةِ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا
سُمِّيَ بِهَا لِاجْتِمَاعِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِيهَا
اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ إِشَارَةً إِلَى
أَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنَ
الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ
الْهَيْئَةِ الْمَجْمُوعِيَّةِ. (" وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ
سَاعَاتٍ مِنْهَا ") ؟ ، أَيْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ("
سَاعَةٌ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: (فِي) هَذِهِ
تَجْرِيدِيَّةٌ إِذِ السَّاعَةُ هِيَ نَفْسُ آخِرِ ثَلَاثِ
سَاعَاتٍ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ
مَنًّا مِنْ حَدِيدٍ، وَالْبَيْضَةُ نَفْسُ الْأَرْطَالِ
اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ
تَحْتَهُ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَفِي
آخِرِهَا سَاعَةٌ (" مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ
لَهُ ") : إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى
السَّاعَتَيْنِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيْ: مِنْ
رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ
بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، عَنِ
الْمُنْذِرِيِّ.
(3/1020)
1366 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ
الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ
إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ
مِنْهَا "، قَالَ: قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: "
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ
أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَبِيُّ اللَّهِ حَيٌّ
يُرْزَقُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1366 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْثِرُوا
الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ ") ،
أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ (" مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ
الْمَلَائِكَةُ ") : بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. هَذَا
الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ
الْمَشْهُودَ هُوَ الْجُمُعَةُ كَمَا أَنَّ الْحَدِيثَ
السَّابِقَ يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ عَلِيٍّ بِأَنَّ
الشَّاهِدَ هُوَ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ
الْمُوَافِقُ لِتَفْسِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا، وَلَا يُنَافِيهِ
إِطْلَاقُ الْمَشْهُودِ هُنَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ
فَتَدَبَّرْ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
ضَمِيرًا، فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إِلَى
إِكْثَارِ الصَّلَاةِ الْمَفْهُومِ مِنْ (أَكْثِرُوا) ،
وَيُؤَيِّدُهُ السِّيَاقُ الْمُكْتَنَفُ بِالسِّبَاقِ
وَاللَّحَاقِ. (" وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ")
: يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ (" إِلَّا
عُرِضَتْ عَلَيَّ ") : إِمَّا بِالْمُكَاشَفَةِ أَوْ
بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ (" صِلَاتُهُ ") ، أَيْ:
وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ مِنِ ابْتِدَاءِ شُرُوعِهِ ("
حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ") ، أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ
يَعْنِي: الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ.
(قَالَ) ، أَيْ أَبُو الدَّرْدَاءِ ظَنَّا أَنَّ هَذَا
مُخْتَصٌّ بِحَالِ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ (قُلْتُ:
وَبَعْدَ الْمَوْتِ) ، أَيْ: أَيْضًا، وَالِاسْتِفْهَامُ
مُقَدَّرٌ وَيَبْعُدُ الْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ
لِمُخَالَفَتِهِ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ، أَوْ وَبَعْدَ
الْمَوْتِ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ (قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ ") ، أَيْ مَنَعَهَا مَنْعًا
كُلِّيًّا (" أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ ") ،
أَيْ: جَمِيعَ أَجْزَائِهِمْ، فَلَا فَرْقَ لَهُمْ فِي
الْحَالَيْنِ، وَلِذَا قِيلَ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا
يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى
دَارٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى
مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ مِنْهُمْ بِخِلَافِ
غَيْرِهِمْ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّ عَرْضَ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةَ
الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِأَرْوَاحِهِمْ مَعَ
أَجْسَادِهِمْ (" فَنَبِيُّ اللَّهِ ") : يَحْتَمِلُ
الْجِنْسَ وَالِاخْتِصَاصَ بِالْفَرْدِ الْأَكْمَلِ،
وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ رَأَى مُوسَى
قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ
كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَصَحَّ خَبَرُ:
الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ،
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَحُلُولُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ جَائِزٌ
عَقْلًا، كَمَا وَرَدَ بِهِ خَبَرُ الصَّادِقِ: (" حَيٌّ
") ، أَيْ دَائِمًا (" يُرْزَقُ ") : رِزْقًا مَعْنَوِيًّا
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الشُّهَدَاءِ
مِنْ أُمَّتِهِ {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فَكَيْفَ سَيِّدُهُمُ بَلْ
رَئِيسُهُمْ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَيْضًا مَرْتَبَةُ
الشَّهَادَةِ مَعَ مَزِيدِ السَّعَادَةِ بِأَكْلِ الشَّاةِ
الْمَسْمُومَةِ وَعُودِ سُمِّهَا الْمَغْمُومَةِ،
وَإِنَّمَا عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّهَادَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ لِلْبَشَاعَةِ الصُّورِيَّةِ،
وَلِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ بِحِفْظِ فَرْدٍ
مِنْ بَيْنِ أَعْدَائِهِ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ، وَلَا
يُنَافِيهِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رِزْقٌ حِسِّيٌّ أَيْضًا،
وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ
أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ
تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ،
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: «أَرْوَاحُ
الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي
الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا،
ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ» ،
ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَتِيجَةً لِلْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ
قَوْلِ الرَّاوِي اسْتِفَادَةً مِنْ كَلَامِهِ
وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ
نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ، وَلَهُ طُرُقٌ
كَثِيرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ.
(3/1020)
1367 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ
يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» ") . رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1367 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا
مِنْ مُسْلِمٍ ") : زِيَادَةُ (مِنْ) لِإِفَادَةِ
الْعُمُومِ فَيَشْمَلُ الْفَاسِقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّعْظِيمِ (" يَمُوتُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ") : الظَّاهِرُ
أَنَّ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (" إِلَّا
وَقَاهُ اللَّهُ ") ، أَيْ: حَفِظَهُ (" فِتْنَةَ
الْقَبْرِ ") ، أَيْ: عَذَابَهُ وَسُؤَالَهُ، وَهُوَ
يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ، وَالْأَوَّلُ
هُوَ الْأَوْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَضْلِ الْمَوْلَى،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرَفَ الزَّمَانِ لَهُ
تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ، كَمَا أَنَّ فَضْلَ الْمَكَانِ لَهُ
أَثَرٌ جَسِيمٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ
بِمُتَّصِلٍ) .
قُلْتُ: ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي بَابِ مَنْ لَا
يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا،
عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ
وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ بِلَفْظِهِ: " إِلَّا بَرِئَ مِنْ
فِتْنَةِ الْقَبْرِ "، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا
بِلَفْظِ: " وُقِيَ الْفَتَّانَ "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ
سُؤَالِ الْقَبْرِ لَا تُعَارِضُ أَحَادِيثَ السُّؤَالِ
السَّابِقَةِ، أَيْ: لَا تُعَارِضُهَا بَلْ تَخُصُّهَا
وَتُبَيِّنُ مَنْ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ وَلَا
يُفْتَنُ فِيهِ مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّؤَالُ
وَيُقَاسِي تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ
فِيهِ مُدْخَلٌ لِلْقِيَاسِ وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ
فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ
لِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالَ الْحَكِيمُ
التِّرْمِذِيُّ: وَمَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدِ
انْكَشَفَ لَهُ الْغِطَاءُ عَمَّا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ;
لِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا تُسْجَرُ فِيهِ جَهَنَّمُ
وَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا وَلَا يَعْمَلُ سُلْطَانُ
النَّارِ فِيهِ مَا يَعْمَلُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ،
فَإِذَا قَبَضَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، فَوَافَقَ
قَبْضُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا
لِسَعَادَتِهِ وَحُسْنِ مَآبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَضُ
فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَّا مَنْ كُتِبَ لَهُ السَّعَادَةُ
عِنْدَهُ، فَلِذَلِكَ يَقِيهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ ;
لِأَنَّ سَبَبَهَا إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمُنَافِقِ
مِنَ الْمُؤْمِنِ.
قُلْتُ: وَمِنْ تَتِمَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، فَكَانَ عَلَى قَاعِدَةِ
الشُّهَدَاءِ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ، كَمَا أَخْرَجَهُ
أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
«مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
أُجِيرَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَجَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ» ".
وَأَخْرَجَ حُمَيْدٌ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ
بُكَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَوُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ»
". وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ يَمُوتُ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا
وُقِيَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَلَقِيَ
اللَّهَ وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ شُهُودٌ يَشْهَدُونَ لَهُ أَوْ
طَابَعٌ» " وَهَذَا الْحَدِيثُ لَطِيفٌ صَرَّحَ فِيهِ
بِنَفْيِ الْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ مَعًا. اهـ كَلَامُ
السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(3/1021)
1368 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَرَأَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ، وَعِنْدَهُ
يَهُودِيٌّ. فَقَالَ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَاهَا عِيدًا. فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ، فِي
يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ. رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1368 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ) :
قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: كَفَيْتُكُمْ شَرَّ عَدُوِّكُمْ
وَجَعَلْتُ لَكُمُ الْيَدَ الْعُلْيَا، كَمَا تَقُولُ
الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ، إِذَا
كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ، وَوَصَلُوا إِلَى
أَغْرَاضِهِمْ، وَمَبَاغِيهِمْ، أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكْلِيفِكُمْ مِنْ
تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقَوَانِينِ
الْقِيَاسِ وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ اهـ.
وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَوَّلِ الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ
أَنْسَبُ لِبَقِيَّتِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] )
فَالْمَعْنَى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ أَرْكَانَ دِينِكُمْ،
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ أُمُورَ دُنْيَاكُمُ الَّتِي
تَتَضَمَّنُ لِنِعَمِ عُقْبَاكُمْ وَتُوصِلُكُمْ إِلَى
رِضَا مَوْلَاكُمْ، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا} [المائدة: 3] ، أَيِ: اخْتَرْتُ أَنْ يَكُونَ
الْإِسْلَامُ وَهُوَ الِانْقِيَادُ التَّامُّ دِينًا
لَكُمْ فَإِنَّ الدِّينَ
(3/1021)
التَّامَّ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الْإِنْعَامِ
(وَعِنْدَهُ) : أَيْ: وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ
(يَهُودِيٌّ) ، أَيْ: حَاضِرٌ (فَقَالَ) ، أَيِ:
الْيَهُودِيُّ (لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا
لَاتَّخَذَنَاهَا) ، أَيْ: جَعَلْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا
(عِيدًا) ، أَيْ: سُرُورًا عَظِيمًا وَفَرَحًا، وَسِيمَا
فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، أَوْ جَعَلْنَا وَقْتَ
نُزُولِهَا يَوْمَ عِيدٍ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَإِنَّهَا) ، أَيِ: الْآيَةَ (نَزَلَتْ) ، أَيْ:
عَلَيْنَا (فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ) ، أَيْ: وَقْتِ
عِيدَيْنِ لَنَا أَوْ فِي يَوْمَيْ عِيدٍ، وَإِنَّمَا
عَدَلَ عَنْهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعِيدَ
اجْتِمَاعُهُمَا دُونَ انْفِرَادِهِمَا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. (فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ) :
بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ يَعْنِي
أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي يَوْمَيْ عِيدٍ لَنَا فَضْلًا
وَإِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَجْعَلَهُمَا عِيدَيْنِ
بِأَنْفُسِنَا، أَوْ قَدْ تَضَاعَفَ السُّرُورُ لَنَا
بِإِنْزَالِهَا فَإِنَّا نُعَظِّمُ الْوَقْتَ الَّذِي
نَزَلَتْ فِيهِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي
الْوَقْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ، فَإِنَّهَا
نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلِذَا
يُسَمَّى الْحَجَّ الْأَكْبَرَ عَلَى الَّذِي اشْتُهِرَ،
ثُمَّ فِي تَقْدِيمِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
عَلَى عَرَفَةَ، إِمَّا لِكَوْنِ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ،
أَوْ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِيَوْمِ عَرَفَةَ
وَالتَّعَبُّدَ فِيهِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمَيْنِ،
وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ
لِلْيَهُودِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي
الْجَوَابِ، يَعْنِي مَا اتَّخَذْنَاهُ عِيدًا وَاحِدًا
بَلْ عِيدَيْنِ، وَتَكْرِيرُ الْيَوْمِ تَقْرِيرٌ
لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ يَوْمٍ بِمَا سُمِّيَ بِهِ،
وَإِضَافَةُ يَوْمٍ إِلَى عِيدَيْنِ كَإِضَافَةِ الْيَوْمِ
إِلَى الْجُمْعَةِ، أَيْ يَوْمُ الْفَرَحِ الْمَجْمُوعِ،
وَالْمَعْنَى يَوْمُ الْفَرَحِ الَّذِي يَعُودُونَ مَرَّةً
بَعْدَ أُخْرَى فِيهِ إِلَى السُّرُورِ، قَالَ الرَّاغِبُ:
الْعِيدُ مَا يُعَاوِدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَخُصَّ
فِي الشَّرِيعَةِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ،
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مَجْعُولًا لِلسُّرُورِ
فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " أَيَّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ " صَارَ يُسْتَعْمَلُ الْعِيدُ فِي
كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ مَسَرَّةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ طَارِقِ
بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ:
إِنَّكُمْ تَقْرَأُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا
لَاتَّخَذَنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي
لَأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ،
وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَإِنَّا
وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ) : الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ
مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ
تَقْرَأُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ
نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ:
أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، فَقَالَ
عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ
الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي
تَفْسِيرِهِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ قَبِيصَةَ
نَزَلَتْ يَوْمَ جُمْعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا
بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ
فِي الْأَوْسَطِ: وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ، وَالرَّجُلُ
الْمُبْهَمُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ
لِلْبُخَارِيِّ هُوَ: كَعْبُ الْأَحْبَارِ، كَذَا جَاءَ
مُسَمًّى فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ،
وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ تَارِيخِ
دِمَشْقَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ فِي الْمُعْجَمِ
الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَكَانَ سُؤَالُهُ لِعُمَرَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُسْلِمَ، وَلَعَلَّ سُؤَالَهُ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْهُمْ، وَلِذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى
قَالَتِ الْيَهُودُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/1022)
1369 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: "
«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ
وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» "، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: "
«لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ لَيْلَةٌ أَغَرُّ، وَيَوْمُ
الْجُمُعَةِ يَوْمٌ أَزْهَرُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1369 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ) :
مُنَوَّنٌ وَقِيلَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (قَالَ: " اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَنَا ") ، أَيْ: فِي طَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا
(" فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ ") ،
أَيْ: إِدْرَاكَهُ بِتَمَامِهِ، وَالتَّوْفِيقَ
(3/1022)
لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ. (قَالَ) ، أَيْ:
أَنَسٌ (وَكَانَ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ لَيْلَةٌ أَغَرُّ ") :
قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ أَنْوَرُ مِنَ الْغُرَّةِ اهـ.
نَزَّلَ لَيْلَتَهُ مَنْزِلَةَ يَوْمِهِ، فَوُصِفَ
بِأَغَرَّ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ ذَكَرَهُ
بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَيْلَةً بِمَعْنَى لَيْلٍ ; إِذِ
التَّاءُ لِوِحْدَةِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّأْنِيثِ. ("
وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ أَزْهَرُ ") : قَالَ
الطِّيبِيُّ: الْأَزْهَرُ الْأَبْيَضُ، وَمِنْهُ:
أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ
الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ، أَيْ: لَيْلَةِ
الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا اهـ. وَالنُّورَانِيَّةُ فِيهِمَا
مَعْنَوِيَّةٌ لِذَاتِهِمَا، فَالنِّسْبَةُ حَقِيقِيَّةٌ
أَوْ لِلْعِبَادَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِمَا، فَالنِّسْبَةُ
مَجَازِيَّةٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ
الْكَبِيرِ) .
(3/1023)
|