مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]
(3/1155)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
1598 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا
يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) ، إِمَّا مُحْسِنًا
فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا
فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ
أَيْ: حُكْمِ تَمَنِّيهِ. (وَذِكْرِهِ) أَيْ: فَضْلُ
ذِكْرِ الْمَوْتِ.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
1598 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا
يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ» ) نَهْيٌ فِي صُورَةِ
النَّفْيِ مُبَالَغَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَاءُ فِي
قَوْلِهِ لَا يَتَمَنَّى مُثْبَتَةٌ فِي رَسْمِ الْخَطِّ
فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّهُ نَهْيٌ وَرَدَ عَلَى
صِيغَةِ الْخَبَرِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَتَمَنَّى
فَأُجْرِيَ مُجْرَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ
بِالرَّفْعِ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَهُوَ
خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَهْوُ
قَلَمٍ وَصَوَابُهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَقُولُهُ كَ
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]
أَيْ: عَلَى قَوْلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ كَالزَّانِي لَا
يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً بِالرَّفْعِ
فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ
بِنُونِ التَّأْكِيدِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِهَا
وَدُونَ الْيَاءِ وَبِالْيَاءِ أَيْضًا، نَهْيًا عَلَى
صِيغَةِ الْخَبَرِ أَيْ: لَا يَتَّمَنَّى أَحَدُكُمُ
الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ ; وَهَذَا لِأَنَّ
الْحَيَاةَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَطَلَبُ
زَوَالِ الْحَيَاةِ عَدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ اهـ.
وَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَبْلَغُ لِإِفَادَتِهِ
أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ
وَعَدَمَ وُقُوعِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ لِمَا
نَهَى عَنْهُ يَنْتَهِي، فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالنَّفْيِ،
وَأَمَّا مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ عَلَى
الْإِخْبَارِ الْمَحْضِ لَكَانَ أَوْلَى فَغَيْرُ صَحِيحٍ
مِنْ جِهَةِ إِيهَامِ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ ; إِذْ
كَثِيرًا مَا وُجِدَ التَّمَنِّي وَغَيْرُهُ ; وَلِأَنَّهُ
حِينَئِذٍ لَا يَصْلُحُ اسْتِدْلَالُ الْأَئِمَّةِ بِهِ
عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّهْيُ
عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنَّ
الْمُرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدُ لِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ:
«لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ
أَصَابَهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: " «وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ
خَيْرًا لِي» ". فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ تَمَنِّي
الْمَوْتِ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ
; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّمِ مِنْ قَضَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُكْرَهُ التَّمَنِّي لِخَوْفِ
فَسَادٍ فِي دِينِهِ. (إِمَّا مُحْسِنًا) قَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَصْلُهُ أَنَّ مَا
فَأُدْغِمَتْ، وَمَا زَائِدَةٌ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ
الْمَحْذُوفِ أَيْ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا. وَقَالَ
الْمَالِكِيُّ: تَقْدِيرُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُحْسِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسِيئًا، فَحَذَفَ
يَكُونُ مَعَ اسْمِهَا مَرَّتَيْنِ، وَأَبْقَى الْخَبَرَ
وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِنَّ، وَلَوْ
قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ: " النَّاسُ
مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ،
وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ". (فَلَعَلَّهُ) جَوَابُ إِنِ
الشَّرْطِيَّةِ. (أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا) وَقَدْ وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ: " «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ،
وَحَسُنَ عَمَلُهُ» ". وَفِي لَفْظِ: " «خِيَارُكُمْ
أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا» ".
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو
نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالثَّانِي رَوَاهُ
الْحَاكِمُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِلَفْظِ:
" «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»
". فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُلَفَّقٌ مِنَ
الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى عَسَى. وَقَالَ بَعْضُ
شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا
كَسْرُ الْهَمْزَةِ فِي إِمَّا، وَنَصْبُ مُحْسِنًا،
وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَفْعِ مُحْسِنٍ
بِكَوْنِهِ صِفَةً لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا بَعْدَهُ
خَبَرُهُ. (وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ
يَسْتَعْتِبَ) أَيْ: يَسْتَرْضِيَ يَعْنِي يَطْلُبُ رِضَا
اللَّهِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ. قَالَ الْقَاضِي:
الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعُتْبَى، وَهُوَ الْإِرْضَاءُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْإِرْضَاءُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
(3/1156)
1599 - وَعَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّى
أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَهُ ; إِنَّهُ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ أَمَلُهُ،
وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا
خَيْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1599 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ» ) أَيْ:
بِقَلْبِهِ. (وَلَا يَدَعُ) أَيْ: بِاللِّسَانِ. (بِهِ)
أَيْ: بِالْمَوْتِ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ) قَالَ
ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ " لَا يَدْعُ " فِي أَكْثَرِ
النُّسَخِ بِحَذْفِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ) نَهْيٌ. قَالَ
الزَّيْنُ: وَجْهُ صِحَّةِ عَطْفِهِ عَلَى النَّفْيِ مِنْ
حَيْثُ أَنَّهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقَالَ ابْنُ
حَجَرٍ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ نَهْيٌ
عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ لُغَتَيْ
حَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَإِثْبَاتِهِ. (إِنَّهُ
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَهُوَ
اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلُ، وَأَمَّا قَوْلُ
ابْنِ حَجَرٍ: يَصِحُّ فَتْحُهَا تَعْلِيلًا، وَكَسْرُهَا
اسْتِئْنَافًا، فَمَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِ لَفْظِ
الْحَدِيثِ عِنْدَهُ. (إِذَا مَاتَ) أَيْ: أَحَدُكُمْ.
(انْقَطَعَ أَمَلُهُ) أَيْ: رَجَاؤُهُ مِنْ زِيَادَةِ
الْخَيْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالْهَمْزَةِ فِي
الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي شَرْحِ
السُّنَّةِ بِالْعَيْنِ اهـ. وَاعْتِرَاضٌ عَلَى
الْبَغَوِيِّ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي
رِوَايَةٍ عَمَلُهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ مُتَقَارِبَانِ فِي
غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ ; فَإِنَّمَا مُتَبَايِنَانِ.
(وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ
عُمُرُهُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: طُولُ
عُمُرِهِ. (إِلَّا خَيْرًا) لِصَبْرِهِ عَلَى الْبَلَاءِ،
وَشُكْرِهِ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَرِضَاهُ بِالْقَضَاءِ،
وَامْتِثَالِهِ أَمْرَ الْمَوْلَى فِي دَارِ الْبَلْوَى.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(3/1156)
1600 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا
يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ)
أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ:
اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي،
وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» ".
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1600 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَمَنَّيَنَّ
أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ» بِضَمِّ الضَّادِ
وَتُفْتَحُ أَيْ: مِنْ أَجْلِ ضَرَرٍ مَالِيٍّ أَوْ
بَدَنِيٍّ. (أَصَابَهُ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَزَعِ
فِي الْبَلَاءِ، وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. (فَإِنْ
كَانَ) أَيْ: أَحَدُكُمْ. (لَا بُدَّ) أَيْ: أَلْبَتَّةَ
وَلَا مَحَالَةَ، وَلَا فِرَاقَ. (فَاعِلًا) أَيْ:
مُرِيدًا أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَلَا يَطْلُبِ
الْمَوْتَ مُطْلَقًا، بَلْ لِيُقَيِّدَهُ تَفْوِيضًا
وَتَسْلِيمًا. (فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا
كَانَتِ الْحَيَاةُ) مُدَّةَ بَقَائِهَا. (خَيْرًا لِي)
أَيْ: مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ
غَالِبَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْأَزْمِنَةُ خَالِيَةً
عَنِ الْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ. (وَتَوَفَّنِي) أَيْ:
أَمِتْنِي. (إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ) وَفِي نُسْخَةٍ
صَحِيحَةٍ: إِذَا كَانَ الْوَفَاةَ أَيِ: الْمَمَاتُ.
(خَيْرًا لِي) أَيْ: مِنَ الْحَيَاةِ بِأَنْ يَكُونَ
الْأَمْرُ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: «وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً
لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي
مِنْ كُلِّ شَرٍّ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ:
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ أَفْتَى النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ
لَا يُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ
دِينِيَّةٍ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَنُقِلَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَا يُنْدَبُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ
وَغَيْرِهِ، بَلْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ تَمَنَّاهُ
فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ تَمَنِّي
الشَّهَادَةِ وَلَوْ بِنَحْوِ طَاعُونٍ. وَفِي مُسْلِمٍ:
«مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ
لَمْ تُصِبْهُ» . وَيُنْدَبُ أَيْضًا تَمَنِّي الْمَوْتِ
بِبَلَدٍ شَرِيفٍ لِمَا فِي الْبُخَارِيُّ: أَنَّ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي
شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ
رَسُولِكَ. فَقَالَتْ بِنْتُهُ حَفْصَةُ: أَنَّى يَكُونُ
هَذَا؟ فَقَالَ: يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَيْ:
وَقَدْ فَعَلَ فَإِنَّ قَاتِلَهُ كَافِرٌ مَجُوسِيٌّ.
(3/1157)
1601 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ
اللَّهُ لِقَاءَهُ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ
أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: "
لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ،
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ
فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ،
وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حَضَرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ
اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌأَكْرَهُ إِلَيْهِ
مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ
اللَّهُ لِقَاءَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1601 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْحُبُّ
هُنَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ،
وَالثِّقَةُ بِوَعْدِهِ، دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ
الْجِبِلَّةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُرَادُ
بِاللِّقَاءِ الْمَصِيرُ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَطَلَبُ
مَا عِنْدَ اللَّهِ. (أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ) ، وَمَنْ
كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَ
الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِلِقَاءِ الْمَوْتِ ;
لِأَنَّ كُلًّا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا
وَأَبْغَضَهَا أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَمَنْ آثَرَهَا
وَرَكَنَ إِلَيْهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ
يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ
اللَّهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ
اللِّقَاءِ لَكِنَّهُ مُعْتَرِضٌ دُونَ الْغَرَضِ
الْمَطْلُوبِ فَيَجِبُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ،
وَيَتَحَمَّلَ مَشَاقَّهُ ; لِيَصِلَ بَعْدَهُ بِالْفَوْرِ
إِلَى اللِّقَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا عَلَى
أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرَى فِي الدَّلِيلِ الْيَقَظَةَ
عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا قَبْلَهُ، وَعَلَيْهِ
الْإِجْمَاعُ. (فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ
أَزْوَاجِهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (إِنَّا) أَيْ:
كُلُّنَا مَعْشَرَ بَنِي آدَمَ. (لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ)
أَيْ: بِحَسَبِ الطَّبْعِ، وَخَوْفًا مِمَّا بَعْدَهُ.
(قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفِي نُسْخَةٌ
بِفَتْحِهَا، أَيْ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْتِ يَا
عَائِشَةُ، إِذْ لَيْسَ كَرَاهَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتَ
لِخَوْفِ شِدَّتِهِ كَرَاهَةَ لِقَاءِ اللَّهِ، بَلْ
تِلْكَ الْكَرَاهَةُ هِيَ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ الْإِيثَارُ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالرُّكُونُ إِلَى
الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ
وَعُقُوبَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. (وَلَكِنَّ
الْمُؤْمِنَ) بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ. (إِذَا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ) أَيْ: عَلَامَتُهُ، أَوْ وَقْتُهُ، أَوْ
مَلَائِكَتُهُ. (بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ) بِكَسْرِ
الرَّاءِ وَضَمِّهَا. (وَكَرَامَتِهِ) قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. (فَلَيْسَ
شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا زِينَتُهَا حِينَئِذٍ.
(أَحَبُّ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى الْمُؤْمِنِ. (مِمَّا
أَمَامَهُ) أَيْ: قُدَّامَهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ
وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. (فَأَحَبَّ لِقَاءَ
اللَّهِ) أَيْ: بِالضَّرُورَةِ، أَيْ: طَمَعًا لِلْحُسْنَى
وَزِيَادَةً. (وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ)
بِالْمَحَبَّةِ السَّابِقَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي
أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لَهُ تَعَالَى كَمَا
قَالَ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] .
(وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ) عَلَى بِنَاءِ
الْمَفْعُولِ أَيْ: حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَوْ مَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ، وَأَنْوَاعُهُ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ
الْبَنَّاءِ لِلْمَجْهُولِ هُنَا زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ
بِحَذْفِ الْفَاعِلِ ; لِيَشْمَلَ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ
وَغَيْرَهُ. (بُشِّرَ) فِيهِ تَهَكُّمٌ نَحْوُ
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، أَوْ
مُشَاكَلَةٌ لِلْمُقَابَلَةِ، أَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيُّ أَيْ: أَخْبِرْ. (بِعَذَابِ اللَّهِ) لَهُ
فِي الْقَبْرِ. (وَعُقُوبَتِهِ) وَهِيَ أَشَدُّ الْعَذَابِ
فِي النَّارِ. وَأَبْعَدُ
(3/1157)
ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: إِطْنَابٌ لِمَزِيدِ
التَّهْوِيلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْغَضَبُ،
وَبِالْآخَرِ الْعَذَابُ. (فَلَيْسَ شَيْءٌ) أَيْ:
يَوْمَئِذٍ. (أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ) أَيْ:
قُدَّامَهُ. (فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ
لِقَاءَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَاهُ يَبْعُدُ
عَنْ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدِ نِعْمَتِهِ. (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: الْقِطْعَةُ الْأُولَى مِنَ
الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: " كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ "
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَرَوَاهَا
التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَمِنْ
قَوْلِهِ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ مِنْ أَفْرَادِ
الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، نَعَمْ أَخْرَجَ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ
مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ
اللَّهُ لِقَاءَهُ " فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ.
قَالَ: " لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ» "
فَذِكْرُهُ بِأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ فِي
أَوَّلِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ حَتَّى يَحْسُنَ فِي
آخِرِهِ قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(3/1158)
1602 - وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ:
«وَالْمَوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ اللَّهِ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1602 - (وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ: " «وَالْمَوْتَ قَبْلَ
لِقَاءِ اللَّهِ» ) يَعْنِي لَا تُمْكِنُ رُؤْيَةُ اللَّهِ
قَبْلَ الْمَوْتِ بَلْ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ
مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ الْمَوْتَ ;
لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى لِقَائِهِ، وَلَا
يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى
أَنَّ اللِّقَاءَ غَيْرُ الْمَوْتِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ
مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ
أَيْ: قَبْلَ اللِّقَاءِ فَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ
لِلْأُصُولِ.
(3/1158)
1603 - وَعَنِ ابْنِ قَتَادَةَ: أَنَّهُ
كَانَ يُحَدِّثُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ:
مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ؟ وَمَا
الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ
يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ
مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ،
وَالدَّوَابُّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1603 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مُرَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (عَلَيْهِ
بِجِنَازَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْكَسْرُ
أَفْصَحُ. (فَقَالَ: " مُسْتَرِيحٌ) أَيْ: هُوَ
مُسْتَرِيحٌ. (أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ) أَوْ
لِلتَّنْوِيعِ، أَوْ لِلتَّرْدِيدِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ
حَجْرٍ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ: لَا يَخْلُو الْمَيِّتُ
عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ
فَعَلَى الْأَوَّلِ، يُرَادُ بِالْمَيِّتِ الْجِنْسُ
اسْتِطْرَادًا، وَعَلَى الثَّانِي الْحَاضِرُ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: اسْتَرَاحَ الرَّجُلُ وَأَرَاحَ إِذَا
رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ بَعْدَ الْإِعْيَاءِ. (
«فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ؟
وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ» ) ؟ أَيْ: مَا مَعْنَاهَا
أَوْ مَا بِمَعْنَى مَنْ. (فَقَالَ: " الْعَبْدُ
الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ) أَيْ: يَجِدُ الرَّاحَةَ
بِالْمَوْتِ. (مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا) أَيْ: تَعَبِهَا
بِالْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ
الْكَوْنِيَّةِ التَّقْدِيرِيَّةِ. (وَأَذَاهَا) أَيْ:
مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَوْ أَذَى أَهْلِهَا. (إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: ذَاهِبًا وَاصِلًا إِلَيْهَا،
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا غَبَطْتُ شَيْئًا
بِشَيْءٍ كَمُؤْمِنٍ فِي لَحْدِهِ ; أَمِنَ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، وَاسْتَرَاحَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ: أُحِبُّ الْمَوْتَ اشْتِيَاقًا إِلَى
رَبِّي، وَأُحِبُّ الْمَرَضَ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَتِي،
وَأُحِبُّ الْفَقْرَ تَوَاضُعًا لِرَبِّي. (وَالْعَبْدُ
الْفَاجِرُ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكَافِرِ. (يَسْتَرِيحُ
مِنْهُ) أَيْ: مِنْ شَرِّهِ. (الْعِبَادُ) مِنْ جِهَةِ
أَنَّهُ حِينَ فَعَلَ مُنْكَرًا إِنْ مَنَعُوهُ آذَاهُمْ
وَعَادَاهُمْ إِنْ سَكَتُوا عَنْهُ، أَضَرَّ بِدِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ. (وَالْبِلَادُ) مِنَ الْعِمَارَاتِ
وَالْفَلَوَاتِ. (وَالشَّجَرُ) أَيِ: النَّبَاتَاتُ.
(وَالدَّوَابُّ) أَيِ: الْحَيَوَانَاتُ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: اسْتَرَاحَ الْبِلَادُ وَالْأَشْجَارُ ;
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَقْدِهِ يُرْسِلُ السَّمَاءَ
مِدْرَارًا، وَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَا حَبَسَ
لِشُؤْمِهِ الْأَمْطَارَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ
الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هَزَلًا بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ» ،
وَخَصَّ الْحُبَارَى ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الطَّيْرِ
نُجْعَةً أَيْ: طَلَبًا لِلرِّزْقِ، وَإِنَّمَا تُذْبَحُ
بِالْبَصْرَةِ، وَتُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ
الْخَضْرَاءِ، وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا
مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، وَجَاءَ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ
تَلْعَنُ الْمُذْنِبِينَ بِسَبَبِ حَبْسِ الْقَطْرِ
عَنْهَا بِذُنُوبِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ
مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
(3/1158)
1604 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا
كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ
الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ
الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ
حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1604 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِمَنْكِبِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ،
وَأَخْذُ الْمَنْكِبِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ.
(فَقَالَ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» )
أَيْ: لَا تَمِلْ إِلَيْهَا ; فَإِنَّكَ مُسَافِرٌ عَنْهَا
إِلَى الْآخِرَةِ ; فَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلَا
تَأْلَفْ مُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَاعْتَزِلْ عَنِ النَّاسِ
وَمُخَالَتَطِهِمْ ; فَإِنَّكَ تُفَارِقُهُمْ، وَأَلْزِمْ
يَدَكَ اللَّازِمَ، وَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ
الْبَقَاءِ فِيهَا، وَلَا تَتَعَلَّقْ بِمَا لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلَا
تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْغَرِيبُ
الَّذِي يُرِيدُ الذِّهَابَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ،
وَأَمَّا حَدِيثُ «حُبِّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ»
فَمَوْضُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ
(3/1158)
صَحِيحًا، لَا سِيَّمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَطَنِ الْجَنَّةُ، فَإِنَّهَا
الْمَسْكَنُ الْأَوَّلُ. (أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) أَوْ
فِيهِ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ
تَكُونَ بِمَعْنَى بَلْ، شَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسِكَ السَّالِكَ بِالْغَرِيبِ
الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ يَأْوِيهِ، ثُمَّ تَرَقَّى
وَأَضْرَبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ "
لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْكُنُ فِي بِلَادِ
الْغُرْبَةِ، وَيُقِيمُ فِيهَا بِخِلَافِ عَابِرِ
السَّبِيلِ الْقَاصِدِ لِلْبَلَدِ الشَّاسِعِ. (وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ) مُخَاطَبَةً لِنَفْسِهِ أَوْ
لِغَيْرِهِ. (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ
الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ
الْمَسَاءَ) أَيْ: لِيَكُنِ الْمَوْتُ فِي إِمْسَائِكَ
وَإِصْبَاحِكَ نُصْبَ عَيْنِكَ، مُقَصِّرًا لِلْأَمَلِ،
مُبَادِرًا لِلْعَمَلِ، غَيْرَ مُؤَخِّرِ عَمَلَ اللَّيْلِ
إِلَى النَّهَارِ، وَعَمَلَ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ
ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، لَكِنْ ذَكَرَهُ فِي
الْإِحْيَاءِ مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «وَعُدَّ
نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» اهـ. وَظَاهِرُ
كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَعُدَّ مِنْ كَلَامِهِ
مَوْقُوفًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّيُوطِيَّ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا
كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ". رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: " وَعُدَّ نَفْسَكَ
مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ. (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ
لِمَرَضِكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: عُمْرُكَ لَا
يَخْلُو مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، فَفِي الصِّحَّةِ سَيْرُكَ
الْقَصْدُ، بَلْ لَا تَقْنَعْ بِهِ وَزِدْ عَلَيْهِ مَا
عَسَى أَنْ يَحْصُلَ لَكَ الْفُتُورُ عَنْهُ، بِسَبَبِ
الْمَرَضِ وَفِي قَوْلِهِ: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)
إِشَارَةٌ إِلَى أَخْذِ نَصِيبِ الْمَوْتِ، وَمَا يَحْصُلُ
فِيهِ مِنَ الْفُتُورِ مِنَ السُّقْمِ يَعْنِي لَا
تَقْعُدُ فِي الْمَرَضِ عَنِ السَّيْرِ كُلَّ الْقُعُودِ،
بَلْ مَا أَمْكَنَكَ مِنْهُ فَاجْتَهِدْ فِيهِ حَتَّى
تَنْتَهِيَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ.
(3/1159)
1605 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: " لَا
يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ
بِاللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1605 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ
بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) يُفِيدُ كَمَالَ ضَبْطِ الرَّاوِي
وَإِحْكَامِ الْمَرْوِيِّ. (يَقُولُ: " «لَا يَمُوتَنَّ
أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» )
أَيْ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ فِي حَالٍ مِنَ
الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ حُسْنُ
الظَّنِّ بِاللَّهِ، بِأَنْ يُغْفَرَ لَهُ، فَالنَّهْيُ
وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عَنِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ
إِلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ لَكِنْ فِي
الْحَقِيقَةِ عَنْ حَالَةٍ يَنْقَطِعُ عِنْدَهَا
الرَّجَاءُ لِسُوءِ الْعَمَلِ كَيْلَا يُصَادِفَهُ
الْمَوْتُ عَلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الظَّنِّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ
عَلَى تَأْمِيلِ الْعَفْوِ، وَتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ فِي
رَوْحِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «أَنَا
عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلَا يَظُنَّ بِيَ إِلَّا
خَيْرًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَلْيَظُنَّ بِي مَا
شَاءَ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَتَبَّعْتُ
الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ
فَوَجَدْتُ أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ أَحَادِيثِ
الْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا قُلْتُ: لَوْ
لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَهُوَ سَبَقَتْ أَوْ
غَلَبَتْ رَحْمَتِي عَلَى غَضَبِي لَكَفَى دَلِيلًا عَلَى
تَرْجِيحِ الرَّجَاءِ وَيُعَضِّدُهُ آيَةُ: {وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] بَلْ هُوَ أَمْرٌ
مُشَاهَدٌ فِي عَالَمِ الْوُجُودِ مِنْ غَلَبَةِ آثَارِ
الرَّجَاءِ عَلَى آثَارِ الْخَوْفِ، وَاتَّفَقَ
الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِ
الرَّجَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ
الْخَوْفِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ،
وَالثَّانِي طَاعَةُ الْعَبِيدِ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا
شَكُورًا» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَحْسِنُوا
أَعْمَالَكُمُ الْآنَ حَتَّى يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ
عِنْدَ الْمَوْتِ ; فَإِنَّ مَنْ سَاءَ عَمَلُهُ قَبْلَ
الْمَوْتِ يَسُوءُ ظَنُّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ
الْأَشْرَفُ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَالْجَنَاحَيْنِ
لِلسَّائِرِ إِلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
لَكِنْ فِي الصِّحَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الْخَوْفُ
لِيَجْتَهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا
جَاءَ الْمَوْتُ وَانْقَطَعَ الْعَمَلُ يَنْبَغِي أَنْ
يَغْلِبَ الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ ;
لِأَنَّ الْوِفَادَةَ حِينَئِذٍ إِلَى مَلِكٍ كَرِيمٍ
رءُوفٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(3/1159)
الْفَصْلُ الثَّانِي
1606 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنْ
شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَوَّلُ مَا
يَقُولُونَ لَهُ، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ
أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ يَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا.
فَيَقُولُ: لِمَ؟ فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَكَ
وَمَغْفِرَتَكَ. فَيَقُولُ: قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ
مَغْفِرَتِي» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَبُو
نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
1606 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ
شِئْتُمْ أَنْبَأَتْكُمْ) أَخْبَرَتْكُمْ، وَعَلَّقَهُ
بِمَشِيئَتِهِمْ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ،
وَلِحَثِّهِمْ عَلَى التَّفَرُّغِ لِسَمَاعِهِ. (مَا
أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ) مَا الْأُولَى
اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ.
(لِلْمُؤْمِنِينَ) بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ
مَلَكٍ أَوْ رَسُولٍ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ
مَا يَقُولُونَ) أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ. (لَهُ؟)
(3/1159)
أَيِ: اللَّهِ تَعَالَى. (قُلْنَا: نَعَمْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ) ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِلتَّهَيُّؤِ
بِالْإِصْغَاءِ لِلْكَلَامِ ; لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ
عَلَى الْوَجْهِ التَّامِّ. (قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟) مُحْتَمَلٌ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْمَصِيرَ إِلَى
دَارِ الْآخِرَةِ أَوْ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ،
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِي
الثَّانِي نَظَرٌ. (فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا)
اسْتِعْطَافًا لِمَزِيدِ عَطَائِهِ وَرِضْوَانِهُ.
(فَيَقُولُ: لِمَ؟) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لِأَيِّ
سَهْوٍ أَذْنَبْتُمْ؟ وَالصَّحِيحُ لِمَ أَحْبَبْتُمْ
لِقَائِي؟ . (فَيَقُولُونَ؟ رَجَوْنَا عَفْوَكَ
وَمَغْفِرَتَكَ) وَفِيهِ أَنَّ مِنْ حَسَّنَ الظَّنَّ
بِاللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ
الِاسْتِفْهَامِ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِبَوَاطِنِهِمْ
إِعْلَامُ السَّامِعِينَ بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِمْ
لِلِقَائِهِ عَلَى حَدِّ: {أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى} [البقرة: 260] أَوِ الْمُرَادُ زِيَادَةُ
الِانْبِسَاطِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِمْ لِسَمَاعِ كَلَامِ
الرَّبِّ عَلَى الْبِسَاطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] ، فَيَقُولُ:
(قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ) لِي تَثَبَّتْتُ، فَفِي الْحَدِيثِ
الْقُدْسِيِّ: " «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي
فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ عَنْ وَاثِلَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: «إِذَا
أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا
كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ» . رَوَاهُ مَالِكٌ
وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَحَبَّةَ لِقَائِهِ تَعَالَى عَلَامَةُ
مَحَبَّةِ اللَّهِ لِقَاءَهُ ; لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِهَذِهِ
فَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ، وَكَذَا
حُكْمُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى عَدَمِ
الرِّضَا، فَفِي التَّنْزِيلِ: {يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] . (رَوَاهُ فِي شَرْحِ
السُّنَّةِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) وَقَالَ
الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.
(3/1160)
1607 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ
الْمَوْتِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،
وَابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1607 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ) وَبِالذَّالِ
الْمُعْجَمَةِ أَيْ: قَاطِعِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ
بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَاسِرِهَا قَالَ مِيرَكُ: صَحَّحَ
الشَّارِحُ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ
قَالَ: شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ، وَالشَّهَوَاتِ
الْعَاجِلَةَ، ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ
يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ
الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا
يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا يَشْتَغِلُ عَمَّا
يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ.
(وَأَنْشَدَ) زَيْنُ الْعَابِدِينَ:
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا
آمِنًا مِنْ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ
أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ غَفَلْتَ تُخَاطِرُ ... فَلَا
ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلَا ذَاكَ غَامِرُ.
اهـ كَلَامُهُ. لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي
الْمَهَمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ
الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَهُوَ
الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ صَرَّحَ السُّهَيْلِيُّ فِي
الرَّوْضِ الْأُنُفِ بِأَنَّ الرَّاوِيَةَ بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَةِ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي
الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ وَحْشِيٍّ لِحَمْزَةَ. وَقَالَ
الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: هَادِمٌ يُرْوَى بِالدَّالِ
الْمُهْمَلَةِ أَيْ: دَافِعُهَا أَوْ مُخَرِّبُهَا
وَبِالْمُعْجَمَةِ أَيْ: قَاطِعُهَا، وَاخْتَارَ بَعْضٌ
مِنْ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُصَحِّحِ
الْخِطَابَ غَيْرُهُ وَجَعَلَ الْأَوَّلَ مِنْ غَلَطِ
الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَوْتِ) بِالْجَرِّ
عَطْفُ بَيَانٍ، وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ
مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ
أَعْنِي يَعْنِي اذْكُرُوهُ وَلَا تَنْسَوْهُ حَتَّى لَا
تَغْفُلُوا عَنِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَتْرُكُوا
تَهْيِئَةَ زَادِ الْآخِرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ) وَزَادَ: فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ فِي
كَثِيرٍ إِلَّا قَلَّلَهُ وَلَا فِي قَلِيلٍ إِلَّا
كَثَّرَهُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ، زَادَ: فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضَيْقٍ
إِلَّا وَسِعَهُ، وَلَا ذَكَرَهُ فِي سِعَةٍ إِلَّا
ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَقَدْ جَاءَ فِي
الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ
أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: "
أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَاسْتِعْدَادًا
لِلْمَوْتِ، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ
الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ.»
(3/1160)
1608 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : «أَنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ) (لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنَ
اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي
مِنَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ
اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا
وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ
الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ
زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحْيَى مِنَ
اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) » . (رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1608 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ:
إِنَّ. (نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمِ) قِيلَ: (ذَاتَ) مُقْحَمٌ،
وَقِيلَ: صِفَةٌ لِمُدَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ كَذَاتِ زَيْدٍ
لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ بِإِرَادَةِ مُطْلَقِ
الزَّمَانِ. ( «لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ
حَقَّ الْحَيَاءِ» ) أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ. ( «قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ»
) لَمْ يَقُولُوا: حَقَّ الْحَيَاءِ اعْتِرَافًا
بِالْعَجْزِ عَنْهُ. (يَا نَبِيَّ اللَّهِ) يَعْنِي
وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ)
أَيْ: عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ. (قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ)
أَيْ: لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ) أَنْ تَقُولُوا: إِنَّا
نَسْتَحْيِي وَكَانَ الْقِيَاسُ ذَلِكُمْ وَكَأَنَّهُ
نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ فِيمَا يَنْبَغِي
لَهُمْ مِنَ التَّعَاضُدِ وَالِاتِّحَادِ وَلَكِنْ. (
«مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَا» ) أَصْلُهُ
الْهَمْزَةُ وَلَكِنْ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِحَذْفِهَا
وَقْفًا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا رِعَايَةً لِلسَّجْعِ.
(فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ) أَيْ: عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي
غَيْرِ خِدْمَةِ اللَّهِ بِأَنْ لَا يَسْجُدَ لِصَنَمٍ
أَوْ لِأَحَدٍ تَعْظِيمًا لَهُ وَلَا يُصَلِّيَ
لِلرِّيَاءِ، وَلَا يَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا
يَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا. (وَمَا وَعَى) أَيْ: «وَمَا حَوَى،
وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ
الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ»
. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ، جَمْعُهُ الرَّأْسَ مِنَ اللِّسَانِ
وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ
اسْتِعْمَالُهُ. ( «وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ» ) أَيْ:
أَكْلَ الْحَرَامِ. (وَمَا حَوَى) أَيْ: مَا اتَّصَلَ
اجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنَ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ
وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ
مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا
يَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ
اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَيْسَ حَقُّ
الْحَيَاةِ مِنَ اللَّهِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ
يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَقَوْلُهُ:
عَمَّا لَا يَرْضَاهُ فَلْيَحْفَظْ رَأْسَهُ وَمَا وَعَاهُ
مِنَ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ،
وَاللِّسَانِ وَالْبَطْنِ، وَمَا حَوَى أَيْ: لَا يَجْمَعُ
فِيهِ إِلَّا الْحَلَالَ. ( «وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ
وَالْبِلَى» ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلَى الشَّيْءُ
إِذَا صَارَ خَلِقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي وَلْيَذْكُرْ
صَيْرُورَتَهُ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بَالِيَةً. (
«وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا» )
فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ
حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ. (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ:
جَمِيعَ مَا ذُكِرَ. ( «فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ
حَقَّ الْحَيَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ
نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ
الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، قُلْتُ:
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ
حَسَنٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَبْصَرَ جَمَاعَةً يَحْفِرُونَ قَبْرًا فَبَكَى حَتَّى
بَلَّ التُّرَابَ بِدُمُوعِهِ، وَقَالَ إِخْوَانِي
لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» .
(3/1161)
1609 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» . رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1609 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» )
لِأَنَّهُ وَسِيلَةُ السَّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ،
وَذَرِيعَةُ الْوُصُولِ إِلَى مَحْضَرِ الْقُدْسِ،
وَمَحْفَلِ الْأُنْسِ فَالنَّظَرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى
غَايَتِهِ، مُعْرِضٌ عَنْ بِدَايَتِهِ مِنَ الْفَنَاءِ
وَالزَّوَالِ وَالتَّمَزُّقِ وَالِاضْمِحْلَالِ، أَوْ
لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِرُوحِ الرُّوحِ، وَالْقَالَبُ
إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَفَصِ وَفِي النِّهَايَةِ
التُّحْفَةُ طُرْفَةُ الْفَاكِهَةِ، وَقَدْ تُفْتَحُ
الْحَاءُ ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفَاكِهَةِ مِنَ
الْأَلْطَافِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُهَا وَحْفَةٌ
فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي
الْقَامُوسِ التُّحْفَةُ بِالضَّمِّ الطُّرْفَةُ جَمْعُ
تُحَفٍ وَقَدْ أَتْحَفَهُ تُحْفَةً أَوْ أَصْلُهَا
وَحْفَةً. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ
الْإِيمَانِ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ
الْمُنْذِرِيِّ.
(3/1161)
1610 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» . رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1610 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُؤْمِنُ
يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» ) قِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَامَةُ
الْخَيْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ:
يَعْنِي يَشْتَدُّ الْمَوْتُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِحَيْثُ
يَعْرَقُ جَبِينُهُ مِنَ الشِّدَّةِ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ
أَوْ لِتَزِيدَ دَرَجَتُهُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ:
فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُكَابِدُهُ مِنْ
شِدَّةِ السِّيَاقِ الَّتِي يَعْرَقُ دُونَهَا الْجَبِينُ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَدِّ الْمُؤْمِنِ
فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى نَفْسِهُ
بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ
تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.
(وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ: وَرَوَاهُ
الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ
الذَّهَبِيُّ.
(3/1162)
1611 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ
الْأَسَفِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ
الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: وَرَزِينٌ فِي
كِتَابِهِ «أَخْذَةُ الْأَسَفِ لِلْكَافِرِ، وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِ» ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1611 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ فِي
النُّسْخَةِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَبْدِ
اللَّهِ. (ابْنِ خَالِدٍ) وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ
كِتَابِهِ صَوَابُهُ عَبِيدُ بْنُ خَالِدٍ، وَذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
خَالِدٍ السُّلَمِيَّ الْمُهَاجِرِيَّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ،
رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينِ، وَفِي
الْمَعْنَى: عَبِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى الصَّوَابِ
وَقِيلَ: هُوَ عَبْدَةُ بْنُ خَالِدٍ. (قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَوْتُ الْفُجْأَةِ) بِضَمِّ الْفَاءِ مَدًّا وَفَتْحِهَا
وَسُكُونِ الْجِيمِ قَصْرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ:
بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَصْدَرُ فَجَأَهُ الْأَمْرُ إِذَا
جَاءَ بَغْتَةً، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ فِعْلٌ بِالْفَتْحِ.
وَفِي النِّهَايَةِ: فَجَأَهُ الْأَمْرُ فُجَاءَةً
بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَفَجْأَةً بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ
الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ فَجَأَ مُفَاجَأَةً إِذَا
جَاءَهُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ. وَفِي
الْقَامُوسِ: فَجَأَهُ كَسَمِعَهُ وَمَنَعَهُ فَجَأَ
وَفُجَاءَةً هَجَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
حَجَرٍ: بِضَمِّ الْفَاءِ مَعَ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهُ
أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَةِ
ثُمَّ الْمَوْتُ شَامِلٌ لِلْقَتْلِ أَيْضًا إِلَّا
الشَّهَادَةَ. (أَخْذَةُ الْأَسَفِ) بِفَتْحِ السِّينِ
وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا وَالْقَامُوسُ الْأَسَفُ مُحَرَّكَةً
أَشَدُّ الْحُزْنِ أَسِفَ كَ فَرِحَ وَعَلَيْهِ غَضَبٌ،
«وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
مَوْتِ الْفُجْأَةِ فَقَالَ: " رَاحَةُ الْمُؤْمِنِ
وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ» . وَيُرْوَى أَسِفٌ كَ
(كَتِفٍ) أَيْ: أَخْذَةُ سُخْطِ أَوْ سَاخِطًا اهـ.
فِي الْفَائِقِ أَيْ: أَخْذَةُ سُخْطٍ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أَيْ:
أَغْضَبُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ; لِأَنَّ
الْغَضْبَانَ لَا يَخْلُو عَنْ حُزْنٍ وَلَهَفٍ فَقِيلَ
لَهُ: آسِفٌ حَتَّى كَثُرَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي
مَوْضِعٍ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْحُزْنِ، وَهَذَا
بِالْإِضَافَةِ فِيهِ بِمَعْنًى مِنْ نَحْوِ خَاتَمِ
فِضَّةٍ. قَالَ الزَّيْنُ: لِأَنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ
عَلَى الْأَخْذَةِ وُقُوعَ اسْمِ الْفِضَّةِ عَلَى
الْخَاتَمِ. قَالُوا: رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْأَسِفُ
بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، فَالْكَسْرُ الْغَضْبَانُ،
وَالْفَتْحُ الْغَضَبُ أَيْ: مَوْتُ الْفُجْأَةِ أَثَرٌ
مِنْ آثَارِ غَضَبِ اللَّهِ فَلَا يَتْرُكُهُ
لِيَسْتَعِدَّ لِمَعَادِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَإِعْدَادِ
زَادِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يُمْرِضْهُ لِيَكُونَ كَفَّارَةً
لِذُنُوبِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَالَ تَعَالَى:
{أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وَهُوَ خَاصٌّ
بِالْكُفَّارِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَوْتُ الْفُجْأَةِ
رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ» .
وَقَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: رُوِيَ آسِفٌ بِوَزْنِ
فَاعِلٍ، وَهُوَ الْغَضْبَانُ كَذَا ذَكَرَهُ
الْجَزَرِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ
فَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ثُمَّ قَالَ مَرَّةً عَنْ عُبَيْدٍ يَعْنِي وَقَفَهُ،
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَحَدِيثُ عُبَيْدٍ رِجَالُ
إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَالْوَقْفُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ
فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ، كَيْفَ وَقَدْ
أَسْنَدَهُ الرَّاوِي مَرَّةً؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ:
وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ أَخْذَةُ أَسَفٍ) وَفِي صَحِيحِهِ
أَخْذَةُ الْأَسَفِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا.
(لِلْكَافِرِ وَرَحْمَةٌ) بِالرَّفْعِ. (لِلْمُؤْمِنِ)
(3/1162)
1612 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟
قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنِّي
أَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَجْتَمِعَانِ فِي
قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا
أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ»
. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1612 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي
الْمَوْتِ) أَيْ: فِي سَكَرَاتِهِ. (فَقَالَ: كَيْفَ
تَجِدُكَ؟) أَيْ: أَطَيِّبًا أَمْ مَغْمُومًا؟ قَالَهُ
الزَّيْنُ: وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: كَيْفَ تَجِدُ
قَلْبَكَ أَوْ نَفْسَكَ فِي التَّنْقَالِ مِنَ الدُّنْيَا
إِلَى الْآخِرَةِ، أَرَاجِيًا رَحْمَةَ اللَّهِ أَوْ
خَائِفًا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ؟ . (قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ)
أَيْ: أَجِدُنِي أَرْجُو رَحْمَتَهُ. (يَا رَسُولَ
اللَّهِ، وَإِنِّي) أَيْ: مَعَ هَذَا. (أَخَافَ ذُنُوبِي)
قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَّقَ الرَّجَاءَ بِاللَّهِ
وَالْخَوْفَ بِالذَّنْبِ وَأَشَارَ بِالْفِعْلِيَّةِ إِلَى
أَنَّ الرَّجَاءَ حَدَثَ عِنْدَ السِّيَاقِ،
وَبِالِاسْمِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ إِلَى أَنَّ خَوْفَهُ
كَانَ مُسْتَمِرًّا مُحَقَّقًا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا
يَجْتَمِعَانِ) بِالتَّذْكِيرِ. أَيِ: الرَّجَاءُ
وَالْخَوْفُ عَلَى مَا فِي الْمَفَاتِيحِ وَغَيْرِهِ،
وَبِالتَّأْنِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: أَيْ:
هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ. (فِي قَلْبِ
عَبْدٍ) أَيْ: مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. (فِي مِثْلِ هَذَا
الْمَوْطِنِ) أَيْ: فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ زَمَانُ
سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَمِثْلُهُ كَانَ زَمَانٌ يُشْرِفُ
عَلَى الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا: كَوَقْتِ
الْمُبَارَزَةِ، وَزَمَانِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهِمَا،
فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الْمِثْلِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مِثْلُ زَائِدَةٌ، وَالْمَوْطِنُ
إِمَّا مَكَانٌ أَوْ زَمَانٌ كَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ،
لَكِنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا مَكَانٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ
كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ جَعْلُ ابْنِ
حَجَرٍ مِثْلَ هَذَا الْمَوْطِنِ كَمِثْلِكَ لَا يَبْخَلُ
وَكَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمِثْلَ فِي
الْمِثَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ زَائِدٍ ; لِأَنَّهُ أُرِيدَ
بِهِ الْمُبَالَغَةُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ
فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ لَا تَبْخَلَ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ
النَّفْيُ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ كَمَا هُوَ أَحَدُ
الْأَجْوِبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَهُوَ مَسْلَكٌ دَقِيقٌ،
وَبِالتَّأْوِيلِ حَقِيقٌ، وَقَدْ حَرَّرْنَاهُ مَعَ
سَائِرِ الْأَجْوِبَةِ فِي الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ
بِهِ. (إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو) أَيْ: مِنَ
الرَّحْمَةِ. (وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ) أَيْ: مِنَ
الْعُقُوبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. (رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ
الْمُنْذِرِيِّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا أَيْضًا.
(3/1163)
1613 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا
تَمَنَّوُا الْمَوْتَ ; فَإِنَّ هَوْلَ الْمُطَّلَعِ
شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ
الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
الْإِنَابَةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
1613 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمَنَّوُا
الْمَوْتَ» ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. (فَإِنَّ
هَوْلَ الْمُطَّلَعِ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحٍ اسْمُ
مَكَانِ الِاطِّلَاعِ أَوْ زَمَانِهِ، أَوْ مَصْدَرٌ
مِيمِيٌّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَلْقَاهُ الْمَرِيضُ
عِنْدَ النَّزْعِ وَيُشْرِفُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ.
(شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ) أَيِ: الْعُظْمَى.
(أَنْ يَطُولَ عُمُرُ الْعَبْدِ) بِضَمِّ الْمِيمِ
وَيُسَكَّنُ. (وَيَرْزُقُهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
الْإِنَابَةَ) أَيِ: الرُّجُوعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَدَوَامَ الْحُضُورِ بِالْعِصْمَةِ أَوَّلًا
أَوْ بِالتَّوْبَةِ آخِرًا فِي النِّهَايَةِ الْمُطَّلَعُ
مَكَانُ الِاطِّلَاعِ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ يُقَالُ:
مُطَّلَعُ هَذَا الْجَبَلِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا أَيْ:
مَأْتَاهُ وَمَصْعَدُهُ يُرِيدُ لَهُ مَا يُشْرِفُ
عَلَيْهِ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِهِ،
فَشَبَّهَهُ بِالْمُطَّلَعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَيْهِ
مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ أَقُولُ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ
تَمَنِّي الْمَوْتِ أَوَّلًا بِشِدَّةِ الْمُطَّلَعِ ;
لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَنَّاهُ قِلَّةَ صَبْرٍ وَضَجَرٍ
فَإِذَا جَاءَ مُتَمَنَّاهُ يَزْدَادُ ضَجَرًا عَلَى
ضَجَرٍ فَيَسْتَحِقُّ مَزِيدَ سُخْطٍ، وَثَانِيًا
بِحُصُولِ السَّعَادَةِ فِي طُولِ الْعُمْرِ ; لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِاكْتِسَابِ السَّعَادَةِ
السَّرْمَدِيَّةِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الْعُمْرُ، وَهَلْ
رَأَيْتَ تَاجِرًا يُضَيِّعُ رَأْسَ مَالِهِ؟ ! فَإِذًا
بِمَ يَرْبَحُ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُطَّلَعِ
زَمَانَ اطِّلَاعِ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَوِ الْمُنْكَرِ
وَالنَّكِيرِ، أَوْ زَمَانَ اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى
بِصِفَةِ الْغَضَبِ فِي الْقِيَامَةِ، أَوْ زَمَانَ
الِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَوْتِ،
وَلَعَلَّهُ أَوْجَهُ وَأَقْرَبُ، وَبِالْمَقَامِ
أَنْسَبُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا.
(3/1163)
1614 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
«جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا فَبَكَى
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ،
فَقَالَ يَا لَيْتَنِي مِتُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي
تَتَمَنَّى الْمَوْتَ " فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: " يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ
خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ فَمَا طَالَ عُمْرُكَ وَحَسُنَ مِنْ
عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1614 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ. (فَذَكَّرَنَا)
بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: الْعَوَاقِبَ أَوْ وَعَظَنَا.
(وَرَقَّقَنَا) أَيْ: زَهَّدَنَا فِي الدُّنْيَا،
وَرَغَّبَنَا فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ:
رَقَّقَ أَفْئِدَتَنَا بِالتَّذْكِيرِ. (فَبَكَى سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: يَا
لَيْتَنِي مِتُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا أَيْ: فِي
الصِّغَرِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ مُطْلَقًا حَتَّى
أَسْتَرِيحَ مِمَّا اقْتَرَفْتُ، وَفِي نُسْخَةٍ
صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي) بِهَمْزَةِ
الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ. (تَتَمَنَّى الْمَوْتَ؟)
يَعْنِي لِتَمَنِّيهِ بَعْدِي وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ،
وَأَمَّا مَعَ وُجُودِي فَكَيْفَ يُطْلَبُ الْعَدَمُ؟
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَقَدْ
نُهِيتَ عَنْ تَمَنِّيهِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ
وَعَدَمِ الرِّضَا، وَفِيهِ أَنَّ تَمَنِّيَهُ لَمْ يَكُنْ
مُبَيِّنًا عَلَى عَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بَلْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نُقْصَانٍ فِي
دِينِهِ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْعُلَمَاءُ. (فَرَدَّدَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَلِكَ) أَيْ: يَا سَعْدُ
إِلَخْ. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) لِتَأْكِيدِ الْإِنْكَارِ،
أَوْ لِحَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا
سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ) أَيْ لَا وَجْهَ لِتَمَنِّي
الْمَوْتِ فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ. (خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ
فَمَا طَالَ عُمْرُكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا
مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيِ:
الزَّمَانُ الَّذِي طَالَ فِيهِ عُمْرُكَ اهـ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. (وَحَسُنَ مِنْ
عَمَلِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ مِنْ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ
أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: حَسُنَ بَعْضُ عَمَلِكَ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً مِنْ ضَمِيرِ
حَسُنَ. (فَهُوَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ طُولِ الْعُمْرِ
وَحُسْنِ الْعَمَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ
دَاخِلَةٌ عَلَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ
مَعْنَى الشَّرْطِ. (خَيْرٌ لَكَ) وَحُذِفَ الشِّقُّ
الْآخَرُ مِنَ التَّرْدِيدِ، وَهُوَ وَإِنْ كُنْتَ
خُلِقْتَ لِلنَّارِ فَلَا خَيْرَ فِي مَوْتِكَ، وَلَا
يَحْسُنُ الْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي
الْحَذْفِ مِنَ اللُّطْفِ، وَالْجُمْلَةُ جَزَاءٌ
لِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ:
فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ
فَكَيْفَ قَالَ: إِنْ كُنْتَ، أُجِيبُ بِأَنَّ
الْمَقْصُودَ التَّعْلِيلُ لَا الشَّكُّ أَيْ: كَيْفَ
تَتَمَنَّى الْمَوْتَ عِنْدِي وَأَنَا بَشَّرْتُكَ
بِالْجَنَّةِ؟ أَيْ: لَا تَتَمَنَّ لِأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، وَكُلَّمَا طَالَ عُمْرُكَ زَادَتْ
دَرَجَتُكَ، وَنَظِيرُهُ فِي التَّعْلِيلِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]
فَقِيلَ لَهُ: الشَّهَادَةُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَبْتَ،
وَهِيَ إِمَّا تَحْصُلُ بِالْجِهَادِ وَيُعَضِّدُهُ مَا
وَرَدَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ
قَالَ: أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ
فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا
ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ
تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ لَكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ
بِكَ آخَرُونَ» اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّرْدِيدَ
فَرْضِيٌّ، وَتَقْدِيرِيٌّ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ
الْبِشَارَةَ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى
حَالٍ وَقْتَ الْبِشَارَةِ ; وَلِهَذَا مَا أَزَالَتْ
عَنْهُمُ الْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَمِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَسَبْقِ عَذَابِ النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ مَعَ جَوَازِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ لَهُ
قَبْلَ الْبِشَارَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
(3/1164)
1615 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَّبٍ
قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا
; فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا
يَتَمَنَّ) أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) لَتَمَنَّيْتُهُ،
وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمْلِكُ دِرْهَمًا،
وَإِنَّ فِي جَانِبِ بَيْتِيَ الْآنَ لَأَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ
بَكَى وَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ
إِلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، إِذَا جُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ
قَلَصَتْ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى
قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ، حَتَّى مُدَّتْ عَلَى
رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ» .
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ إِلَى آخِرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1615 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَّبٍ) اسْمُ مَفْعُولٍ
مِنَ التَّضْرِيبِ الْعَبْدِيِّ الْكُوفِيِّ، تَابِعِيٌّ
مَشْهُورٌ سَمِعَ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ
وَغَيْرَهُمَا، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى خَبَّابٍ) بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: ابْنِ الْأَرَتِّ
بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، تَمِيمِيٌّ سُبِيَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَبِيعَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ حَالَفَ بَنِي
زُهْرَةَ، وَأَسْلَمَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ فَعُذِّبَ عَذَابًا
شَدِيدًا لِذَلِكَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ
كُلَّهَا، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ مُنْصَرَفَ
عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مِنْ صِفِّينَ
فَمَرَّ بِقَبْرِهِ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابًا ;
أَسْلَمَ رَاغِبًا، وَهَاجَرَ طَائِعًا، وَعَاشَ
مُجَاهِدًا، وَابْتُلِيَ فِي جِسْمِهِ أَحْوَالًا، وَلَنْ
يُضَيِّعَ اللَّهُ أَجَرَهُ. (وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا)
أَيْ: فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: الْكَيُّ عِلَاجٌ مَعْرُوفٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرَاضِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ
فَقِيلَ: النَّهْيُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ
أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا اعْتُقِدَ
أَنَّهُ سَبَبٌ وَأَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ فَلَا
بَأْسَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنْ
قِبَلِ التَّوَكُّلِ وَهُوَ دَرَجَةٌ أُخْرَى غَيْرُ
الْجَوَازِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ «لَا يَسْتَرْقُونَ،
وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ
(3/1164)
يَتَوَكَّلُونَ» . (فَقَالَ: لَوْلَا
أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّ بِصِيغَةِ
النَّهْيِ. (أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ أَيْ: لِضُرٍّ نَزَلَ
بِهِ. (لِتَمَنِّيهِ) أَيْ: لِأَسْتَرِيحَ مِنْ شِدَّةِ
الْمَرَضِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ الْجِبِلَّةِ
الْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَنْفِرَ مِنْهُ وَلَا تَصْبِرَ
عَلَيْهِ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمْلِكُ
دِرْهَمًا) كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ
الْفُتُوحَاتِ الْعَظِيمَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَى بَعْدُ،
أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ
لَمَّا افْتَتَحَ أَفْرِيقِيَّةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ
بَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ
دِينَارٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ قَسَمِيَّةٌ،
وَاللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَقُولُ: لَمْ يَظْهَرْ
وَجْهُ كَوْنِهَا قَسَمِيَّةٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عُلِّمْتُمْ} [البقرة: 65]
اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ قَالَهُ الشَّيْخُ
زَكَرِيَّا فِي حَاشِيَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ
لِلِابْتِدَاءِ، وَقَالَ عِصَامُ الدِّينِ: لَعَلَّ قَوْلَ
الْبَيْضَاوِيِّ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَالصَّوَابُ
وَاللَّامُ بِتَقْدِيرِ الْقَسَمِ أَيْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ
عُلِّمْتُمْ ; إِذِ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ مَا تُدْخِلُ
شَرْطًا نَازَعَهُ الْقَسَمُ فِي جَزَائِهِ جَوَابًا اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 15]
يُقَدَّرُ لِذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ الْقَسَمُ، وَمِمَّا
يُحْتَمَلُ جَوَابُ الْقَسَمِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وَارِدُهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَدَّرَ الْوَاوُ عَاطِفَةً
عَلَى ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ
أَجْوِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] وَهَذَا مُرَادُ ابْنِ
عَطِيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ قَسَمٌ وَالْوَاوُ
تَقْتَضِيهِ أَيْ: هُوَ جَوَابُ قَسَمٍ، وَالْوَاوُ هِيَ
الْمُحَصِّلَةُ لِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ وَتَوَهَّمَ
أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ مَالَا يُتَوَهَّمُ عَلَى صِغَارِ
الطَّلَبَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ جَوَابُ قَسَمٍ
فَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ
الْمَجْرُورِ، وَبَقَاءُ الْجَارِّ وَحَذْفُ الْقَسَمِ
مَعَ كَوْنِ الْجَوَابِ مَنْفِيًّا بِأَنْ. (وَإِنَّ فِي
جَانِبِ بَيْتِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا. (الْآنَ
لَأَرْبَعِينَ) اللَّامُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. (أَلْفَ
دِرْهَمٍ قَالَ) أَيْ: حَارِثَةُ. (ثُمَّ أُتِيَ) عَلَى
بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. (بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ) أَيْ:
مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ. (بَكَى)
قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى تَمَنِّي
الْمَوْتِ، إِمَّا مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ اكْتَوَى
بِسَبَبِهِ، أَوْ غِنًى خَافَ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ
الثَّانِي، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِالْجُمْلَةِ
الْقَسَمِيَّةِ، وَبَيَّنَ فِيهَا تَغَيُّرَ حَالَتَيْهِ
حَالَةِ صُحْبَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَالَتِهِ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَاسَ
حَالَهُ فِي جَوْدَةِ الْكَفَنِ عَلَى حَالِ عَمِّ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
تَكْفِينِهِ. (وَقَالَ: لَكِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ:
وَلَكِنْ. (حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا
بُرْدَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. (مَلْحَاءُ)
أَيْ: فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ. (إِذَا جُعِلَتْ)
أَيِ: الْبُرْدَةُ. (عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ)
بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَصُرَتْ وَانْكَشَفَتْ. (عَنْ
قَدَمَيْهِ وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ)
أَيِ: اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ
فِيمَا يَكُونُ إِلَى فَوْقٍ. (عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى
مُدَّتْ) أَيْ: وُضِعَتْ مَمْدُودَةً. (عَلَى رَأْسِهِ،
وَجُعِلَ عَلَى قَدَمِهِ الْإِذْخِرُ) وَهُوَ حَشِيشَةٌ
طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ يُسْقَفُ بِهَا الْبُيُوتُ فَوْقَ
الْخَشَبِ، وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ:
فَإِنْ قُلْتَ لَكِنْ تَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ
بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَفْظًا
أَوْ مَعْنًى فَأَيْنَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا؟
قُلْتُ: الْمَعْنَى إِنْ تَرَكْتُ مُتَابَعَةَ أُولَئِكَ
السَّادَةِ الْكِرَامِ، وَمَا اقْتَفَيْتُ أَثَرَهُمْ
حَيْثُ هَيَّأْتُ لِكَفَنِي مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ،
لَكِنَّ حَمْزَةَ سَارَ بِسَيْرِهِمْ فَمَا وَجَدَ مَا
يُوَارِيهِ حَيْثُ جُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ
اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ
أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، حَيْثُ تَأَسَّفَ
سَعْدٌ مَعَ كَمَالِ سَعَادَتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَخْرَ
إِلَّا فِي الْفَقْرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْقُوتِ
وَالسُّتْرَةِ بِالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ لَا غَيْرَ
وَإِنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كَحَالَتِهِ الْآنَ غَيْرُ كَامِلٍ
عِنْدَهُمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَّا
أَنَّهُ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ. (لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ
أُتِيَ بِكَفَنِهِ إِلَى آخِرِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ
صَحِيحَةٍ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
(3/1165)
|