مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [كِتَابُ الصَّوْمِ]
(4/1359)
كِتَابُ الصَّوْمِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1956 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا
دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» " وَفِي
رِوَايَةٍ: " «فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ
أَبْوَابُ جَهَنَّمَ
وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: "
«فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الصَّوْمِ
هُوَ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ -
تَعَالَى - {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:
26] أَيْ إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ، وَشَرْعًا:
إِمْسَاكٌ عَنِ الْجُوعِ وَعَنْ إِدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا
لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ
عَنْ نِيَّةٍ، كَذَا عَرَّفَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ
قَالَ: وَهَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، شَرَعَهُ
- سُبْحَانَهُ - لِفَوَائِدَ، أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ
مُوجِبًا لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَاشِئٌ عَنِ
الْآخَرِ؛ سُكُونُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَسْرُ
شَهْوَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ
الْجَوَارِحِ، مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ
وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي
مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا جَاعَتِ النَّفْسُ
شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ
كُلُّهَا، وَالنَّاشِئُ عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ عَنِ
الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَتِهِ فُضُولُ
اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ، وَبَاقِيهِمَا، وَبِصَفَائِهِ
تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ
مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ،
فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي عُمُومِ
السَّاعَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ.
وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ
أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عِنْدَ
الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَيَنَالُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ
الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا،
وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا حُكِيَ
عَنْ بِشْرٍ الْحَافِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ
فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعَدُ وَثَوْبُهُ
مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ
هَذَا الْوَقْتِ تَنْزِعُ الثَّوْبَ: أَوْ مَعْنَاهُ،
فَقَالَ: يَا أَخِي، الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ وَلَيْسَ لِي
طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ
بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ، كَمَا يَتَحَمَّلُونَ اهـ
وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ
الْعَارِفِينَ عِنْدَ كُلِّ أَكْلَةٍ: اللَّهُمَّ لَا
تُؤَاخِذْنِي بِحَقِّ الْجَائِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
سَيِّدَنَا يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانَ
يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَةِ الْقَحْطِ مَعَ
كَثْرَةِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ،
لِئَلَّا يَنْسَى أَهْلَ الْجُوعِ وَالْفَاقَةِ،
وَلِيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي الْخَاصَّةِ وَالْحَاجَةِ.
ثُمَّ كَانَتْ فَرْضِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَمَا
صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِشَهْرٍ فِي
شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنِ
الْهِجْرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَقِيلَ: لَمْ
يُفْرَضْ قَبْلَهُ صَوْمٌ، وَقِيلَ: كَانَ ثُمَّ نُسِخَ،
فَقِيلَ: عَاشُورَاءُ، وَقِيلَ: الْأَيَّامُ الْبِيضُ،
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ
اسْتَنْكَرُوهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَخُيِّرُوا بَيْنَ
الصَّوْمِ وَإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا
فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:
185] وَلَمَّا فُرِضَ كَانَ يُبَاحُ بَعْدَ الْغُرُوبِ
تَعَاطِي الْمُفْطِرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْمٌ أَوْ
يَدْخُلْ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَإِلَّا حُرِّمَ ثُمَّ
نُسِخَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ تَعَاطِيهِ إِلَى طُلُوعِ
الْفَجْرِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1956 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا
دَخَلَ رَمَضَانُ» ") أَيْ وَقْتُ شَهْرِهِ، وَهُوَ
مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ، فِي الْقَامُوسِ: رَمِضَ
يَوْمُنَا كَفَرِحَ: اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَقَدَمُهُ
احْتَرَقَتْ مِنَ الرَّمْضَاءِ لِلْأَرْضِ الشَّدِيدَةِ
الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِهِ
لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ
اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ
الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَرَافَقَ زَمَنَ الْحَرِّ، أَوْ
مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ: اشْتَدَّ حَرُّ جَوْفِهِ، أَوْ
لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ، وَرَمَضَانُ إِنْ صَحَّ
أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَغَيْرُ
مُشْتَقٍّ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْغَافِرِ، أَيْ
يَمْحُو الذُّنُوبَ وَيَمْحَقُهَا " فُتِحَتْ "
بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَمَا فِي التَّنْزِيلِ،
وَبِالتَّشْدِيدِ لِتَكْثِيرِ الْمَفْعُولِ " أَبْوَابُ
السَّمَاءِ " قِيلَ: فَتْحُهَا كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ
نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَتَوَالِي طُلُوعِ الطَّاعَةِ،
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ، قَالَ
الزَّرْكَشِيُّ: إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ
مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ
عَلَى الْحَقِيقَةِ لِمَنْ مَاتَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ
عَمَلًا لَا يَفْسُدُ عَلَيْهِ، (وَفِي رِوَايَةٍ: "
«فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» ") ، وَهُوَ كِنَايَةٌ
عَنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَى دُخُولِهَا " وَغُلِّقَتْ
" بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ " أَبْوَابُ جَهَنَّمَ " وَهُوَ
كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ مَا يَدْخُلُ إِلَيْهَا،
لِأَنَّ الصَّائِمَ يَتَنَزَّهُ عَنِ الْكَبَائِرِ،
وَيُغْفَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصِّيَامِ الصَّغَائِرُ،
وَقَدْ وَرَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ: فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ كِنَايَةٌ
عَنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ، وَإِزَالَةِ الْغَلْقِ عَنْ
مَصَاعِدِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَارَةً بِبَذْلِ
التَّوْفِيقِ، وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَوْلِ، وَغَلْقُ
أَبْوَابِ جَهَنَّمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَزُّهِ أَنْفُسِ
الصَّائِمِ عَنْ رِجْسِ الْفَوَاحِشِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ
الْبَوَاعِثِ عَلَى الْمَعَاصِي بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ،
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى
ظَاهِرِ
(4/1360)
الْمَعْنَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ ذُكِرَ
عَلَى سَبِيلِ الْمَنِّ عَلَى الصُّوَّامِ وَإِتْمَامِ
النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا
إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَ الْجِنَانُ فِي هَذَا الشَّهْرِ
كَأَنَّ أَبْوَابَهَا فُتِحَتْ، وَنَعِيمَهَا أُبِيحَتْ،
وَالنِّيرَانَ كَأَنَّ أَبَوَابَهَا غُلِّقَتْ
وَأَنْكَالَهَا عُطِّلَتْ، وَإِذَا ذَهَبْنَا فِيهِ إِلَى
الظَّاهِرِ لَمْ يَقَعِ الْمَنُّ مَوْقِعَهُ، وَيَخْلُو
عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُيَسَّرٍ لِدُخُولِ
إِحْدَى الدَّارَيْنِ، وَجَوَّزَ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَيْنِ
فِي فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، وَتَغْلِيقِ أَبْوَابِ
جَهَنَّمَ، أَعْنِي الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، أَقُولُ:
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ الْفَتْحِ تَوْفِيقَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى اسْتِحْمَادِ فِعْلِ الصَّائِمِينَ،
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ،
وَأَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ الْمُعْتَقِدُ ذَلِكَ
بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ يَزِيدُ فِي نَشَاطٍ
وَيَتَلَقَّاهُ بِأَرْيَحِيَّتِهِ، وَيَنْصُرُهُ حَدِيثُ
عُمَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ
تَزَخْرَفَتْ لِرَمَضَانَ» . الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ
الطِّيبِيُّ " «وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» " أَيْ
قُيِّدَتْ بِالسَّلَاسِلِ مَرَدَتُهُمْ، وَقِيلَ:
كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ تَسْوِيلِ النُّفُوسِ،
وَاسْتِعْصَائِهَا عَنْ قَبُولِ وَسَاوِسِهِمْ، إِذْ
بِالصَّوْمِ تَنْكَسِرُ الْقُوَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ
الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْغَضَبِ وَالشَّهَوَاتِ
الدَّاعِيَيْنِ إِلَى أَنْوَاعِ السَّيِّئَاتِ،
وَتَنْبَعِثُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَائِلَةُ
إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ أَنَّ رَمَضَانَ
أَقَلُّ الشُّهُورِ مَعْصِيَةً، وَأَكْثَرُهَا عِبَادَةً
(وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» ")
أَيْ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ إِلَى آخِرِهِ؛
قَالَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ:
إِلَّا رِوَايَةَ " أَبْوَابُ السَّمَاءِ " فَإِنَّهَا
مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَإِلَّا رِوَايَةَ "
أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ " فَإِنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ
مُسْلِمٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ;
فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَرَوَاهَا النَّسَائِيُّ
اهـ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ: الْأَصْلُ أَبْوَابُ
الْجَنَّةِ، وَالرِّوَايَتَانِ الْأُخْرَيَانِ مِنْ
تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، تَمَّ كَلَامُهُ، فَكَانَ حَقُّ
الْمُصَنِّفِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ
عَلَيْهَا أَصْلًا، ثُمَّ يَقُولَ: وَفِي رِوَايَةٍ:
فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فُتِحَتْ
أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ يَذْكُرَ: «وَغُلِّقَتْ
أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» .
(4/1361)
1957 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ،
مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا
الصَّائِمُونَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1957 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ السَّاعِدِيِّ
الْأَنْصَارِيِّ كَانَ اسْمُهُ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَهْلًا، ذَكَرَهُ
الْمُؤَلِّفُ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ (قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ» ") أَيْ طَبَقَاتٍ
عَلَى طِبْقِ عِبَادَاتٍ، وَيَمْنَعُ الْجَارُّ حَمْلَ
الْبَابِ عَلَى بَابِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ:
التَّقْدِيرُ فِي سُورِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ
لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْأَعْمَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ
عِنْدَهُ - تَعَالَى - مَعْلُومٌ " مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى
الرَّيَّانَ " إِمَّا لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ رَيَّانٌ
لِكَثْرَةِ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ إِلَيْهِ
وَالْأَزْهَارِ وَالْأَثْمَارِ الطَّرِيَّةِ لَدَيْهِ،
أَوْ لِأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ يَزُولُ عَنْهُ عَطَشُ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَدُومُ لَهُ الطَّرَاوَةُ
وَالنَّظَافَةُ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ، قَالَ
الطَّيِّبِيُّ الزَّرْكَشِيُّ: الرَّيَّانُ: فَعْلَانُ
كَثِيرُ الرِّيِّ، نَقِيضُ الْعَطَشِ، سُمِّيَ بِهِ
لِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّائِمِينَ عَلَى عَطَشِهِمْ
وَجُوعِهِمْ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنِ الشِّبَعِ
لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ
يَسْتَلْزِمُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَشَقُّ مَا فِيهِ
عَطَشُ الْكَبِدِ، لَا سِيَّمَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ،
إِذْ كَثِيرًا مَا يُصْبَرُ عَلَى الْجُوعِ دُونَ
الْعَطَشِ، ثُمَّ قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ
الْمُقْتَصِرَ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ، بَلْ مُلَازَمَةُ
النَّوَافِلِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَثْرَتُهَا (لَا يَدْخُلُهُ)
أَيْ لَا يَدْخُلُ بَابَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ، أَوْ لَا
يَدْخُلُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ (إِلَّا
الصَّائِمُونَ) وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ ;
فَإِنَّهُ بِعَدَمِ دُخُولِ تِلْكَ الطَّبَقَةِ يَكُونُ
نَاقِصَ الْمَرْتَبَةِ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الثَّانِي
فَإِنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) .
(4/1361)
1958 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،
وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1958 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ
صَامَ رَمَضَانَ» ") أَيْ أَيَّامَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا
يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: رَمَضَانُ بِدُونِ شَهْرٍ،
وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِخَبَرِ أَنَّهُ مِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ شَاذٌّ، لِأَنَّ الْخَبَرَ
الضَّعِيفَ لَا يُثْبِتُ اسْمَ اللَّهِ " إِيمَانًا "
نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لِلْإِيمَانِ،
وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاعْتِقَادُ بِفَرْضِيَّةِ
الصَّوْمِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: تَصْدِيقًا
لِثَوَابِهِ، وَقِيلَ: نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ
مُصَدِّقًا لَهُ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيْ صَوْمَ
إِيمَانٍ أَوْ صَوْمَ مُؤْمِنٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ "
وَاحْتِسَابًا " أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنْهُ -
تَعَالَى - أَوْ إِخْلَاصًا أَيْ بَاعِثُهُ عَلَى
الصَّوْمِ مَا ذُكِرَ، لَا الْخَوْفُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا
الِاسْتِحْيَاءُ مِنْهُمْ، وَلَا قَصْدُ السُّمْعَةِ
وَالرِّيَاءِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى احْتِسَابًا
اعْتِدَادُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَأْمُورِيَّةِ مِنَ
الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ
الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهِ، طَيِّبَةً نَفْسُهُ
بِهِ، غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهُ، وَلَا مُسْتَثْقِلَةٍ
لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلَةٍ لِأَيَّامِهِ " غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "
(4/1361)
أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى لَهُ
عَفْوُ الْكَبَائِرِ " «وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ» " أَيْ
لَيَالِيَهُ أَوْ مُعْظَمَهَا، أَوْ بَعْضَ كُلِّ لَيْلَةٍ
بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهَا، مِنَ التِّلَاوَةِ
وَالذِّكْرِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: غَيْرَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، تَقْدِيرًا، أَيْ
لِمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهَا تَحْرِيرًا، أَوْ
مَعْنَاهُ أَدَّى التَّرَاوِيحَ فِيهَا " «إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،
وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» " سَوَاءٌ عَلِمَ بِهَا
أَوْ لَا " إِيمَانًا " أَيْ بِوُجُودِهَا " وَاحْتِسَابًا
" لِثَوَابِهَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - " غُفِرَ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ
النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إِنْ صَادَفَتِ
السَّيِّئَاتِ تَمْحُوهَا إِذَا كَانَتْ صَغَائِرَ،
وَتُخَفِّفُهَا إِذَا كَانَتْ كَبَائِرَ، وَإِلَّا تَكُونُ
مُوجِبَةً لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّاتِ، وَقَالَ
الطِّيبِيُّ: رَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأُمُورِ
الثَّلَاثَةِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْغُفْرَانُ
تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفُتُوحَاتِ
الْإِلَهِيَّةِ وَمُسْتَتْبَعٌ لِلْعَوَاطِفِ
الرَّبَّانِيَّةِ قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّا فَتَحْنَا
لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح:
1 - 2] الْآيَةَ، وَفَى أَصْلِ الْمَالِكِيِّ: مَنْ
يَقُمْ، قَالَ: وَقَعَ الشَّرْطُ مُضَارِعًا وَالْجَوَابُ
مَاضِيًا لَفْظًا لَا مَعْنًى، وَنَحْوُهُ قَوْلُ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ أَسِيفٌ، مَتَى يَقُمْ
مَقَامَكَ رَقَّ، وَالنَّحْوِيُّونَ يَسْتَضْعِفُونَ
ذَلِكَ وَيَرَاهُ بَعْضُهُمْ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ،
وَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا،
لِثُبُوتِهِ فِي كَلَامِ أَفْصَحِ الْفُصَحَاءِ،
وَكَثْرَةِ صُدُورِهِ عَنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، أَقُولُ:
نَحْوُهُ فِي التَّنْزِيلِ {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] وَ {مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]
وَ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي
الْأَمَالِي: جَوَابُ الشَّرْطِ " فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا " مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارُ، كَقَوْلِهِمْ:
إِنْ تُكْرِمْنِي الْيَوْمَ فَقَدْ أَكْرَمْتُكَ أَمْسِ،
فَالْإِكْرَامُ الْمَذْكُورُ شَرْطٌ وَسَبَبٌ
لِلْإِخْبَارِ بِالْإِكْرَامِ الْوَاقِعِ مِنَ
الْمُتَكَلِّمِ، لَا نَفْسُ الْإِكْرَامِ، فَعَلَى هَذَا
يُحْمَلُ الْجَوَابُ فِي الْآيَةِ أَيْ: إِنْ تَتُوبَا
إِلَى اللَّهِ يَكُنْ سَبَبًا لِذِكْرِ هَذَا الْخَبَرِ،
وَهُوَ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، وَصَاحِبُ
الْمِفْتَاحِ أَوَّلَ الْمِثَالَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ
تَعْتَدَّ بِإِكْرَامِكَ لِيَ الْآنَ فَأَعْتَدَّ
بِإِكْرَامِي إِيَّاكَ أَمْسِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ:
مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلْيَحْتَسِبْ قِيَامَهُ،
وَلِيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِغُفْرَانِهِ
قَبْلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(4/1362)
1959 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ
عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " قَالَ اللَّهُ
- تَعَالَى - " إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا
أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ
أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ عِنْدَ
فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفِ
فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ
الْمِسْكِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ
صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ
سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي
امْرُؤٌ صَائِمٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1959 - (وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ ") أَيْ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ
لِابْنِ آدَمَ " يُضَاعَفُ " أَيْ ثَوَابُهُ فَضْلًا
مِنْهُ - تَعَالَى - " الْحَسَنَةُ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ
أَيْ جِنْسُ الْحَسَنَاتِ الشَّامِلُ لِأَنْوَاعِ
الطَّاعَاتِ مُضَاعَفٌ وَمُقَابَلٌ " بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا " لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]
وَهَذَا أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ، وَإِلَّا فَقَدَ
يَزْدَادُ " إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " بِكَسْرِ
الضَّادِ أَيْ مِثْلٍ، بَلْ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ،
كَمَا فِي التَّأْوِيلِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً
وَقَوْلِهِ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:
261] وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّقْدِيرُ حَسَنَتُهُ،
وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْعَائِدِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ
وَهُوَ كُلُّ، أَوِ الْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَسَنَةُ
مِنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِـ " كُلُّ عَمَلِ "
الْحَسَنَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلِذَلِكَ وَضَعَ
الْحَسَنَةَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى
الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، أَيِ الْحَسَنَاتُ يُضَاعَفُ
أَجْرُهَا مِنْ عَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ
ضِعْفٍ " قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: إِلَّا الصَّوْمَ "
فَإِنَّ ثَوَابَهُ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يُحْصِي
حَصْرَهُ إِلَّا اللَّهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى
خُصُوصِيَّاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ
يَتَوَلَّى جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكِلُهُ إِلَى
مَلَائِكَةِ قُدُسِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ
مُسْتَثْنًى عَنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ، دَلَّ
عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ
الْكَلَامِ حِكَايَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ
بِذَلِكَ فِي صَدْرِهِ، بَلْ فِي وَسَطِهِ اهـ. وَهُوَ
أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَفَادَ الْجُمْلَةَ
الْمُتَقَدِّمَةَ أَتَاهُ الْوَحْيُ أَوِ الْإِلْهَامُ
مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالِاسْتِثْنَاءِ فَحَكَاهُ
بِأَلْفَاظِهِ الْمُنَزَّلَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاخْتُصَّ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ
لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ سِرٌّ لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ الْعِبَادُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ،
فَيَكُونُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى،
وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - " فَإِنَّهُ
لِي " لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا صُورَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ،
بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، إِذْ كَثِيرًا مَا
يُوجَدُ الْإِمْسَاكُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الصَّوْمِ، فَلَا
مُقَوِّمَ لَهُ إِلَّا النِّيَّةُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهَا غَيْرُهُ - تَعَالَى، وَلَوْ أَظْهَرَ
بِقَوْلِهِ: أَنَا صَائِمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى
حَقِيقَتِهِ وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ " وَأَنَا أَجْزِي بِهِ
" أَيْ وَأَنَا الْعَالِمُ بِجَزَائِهِ، وَإِلَيَّ
أَمْرُهُ، وَلَا أَكِلُهُ إِلَى غَيْرِي، وَالثَّانِي
أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ
الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ
عَلَى الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ
رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ وَاشْتِغَالِ الْبَدَنِ
بِمَا فِيهِ رِضَاهُ، فَبَيْنَهُ
(4/1362)
وَبَيْنَهَا أَمَدٌ بَعِيدٌ، وَإِلَيْهِ
يُشِيرُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - " يَدَعُ شَهْوَتَهُ "
أَيْ يَتْرُكُ مَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ
الصَّوْمِ " وَطَعَامَهُ " تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ،
أَوِ الشَّهْوَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالطَّعَامُ
عِبَارَةٌ عَنْ سَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ، وَقَدَّمَ
الْجِمَاعَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ أَقْبَحُ
مُفْسِدَاتِهِ (مِنْ أَجْلِي) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَمْرِي
وَقَصْدِ رِضَائِي، وَأَجْرِي، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى
اعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الصَّوْمِ،
وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّوْمَ لَا رِيَاءَ فِيهِ أَصْلًا
; لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْمُرَائِي: أَنَا
صَائِمٌ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ رِيَاءً فِي أَصْلِ
الصَّوْمِ، إِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ بِهِ الرِّيَاءُ
الْإِخْبَارُ عَنِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: قَوْلُهُ " فَإِنَّهُ لِي " أَيْ لَمْ
يُشَارِكْنِي فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا عُبِدَ بِهِ غَيْرِي،
وَهَذَا لِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي
يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَدْ عَبَدَ
بِهَا الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّ
طَائِفَةً مِنْهُمْ عَبَدَتْ آلِهَتَهَا بِالصَّوْمِ،
وَلَا تَقَرَّبَتْ بِهِ إِلَيْهَا فِي عَصْرٍ مِنَ
الْأَعْصَارِ اهـ وَصَوْمُ الْمُسْتَخْدِمِينَ لِنَحْوِ
الْجِنِّ أَوِ النُّجُومِ لَيْسَ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ
لِيَتَخَلَّوْا عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ
حَتَّى يَقْدِرُوا عَلَى مُلَاقَاةِ الصُّوَرِ
الرُّوحَانِيَّةِ " «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ» " أَيْ
مَرَّتَانِ مِنَ الْفَرَحِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي
الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ " «فَرْحَةٌ
عِنْدَ فِطْرِهِ» " أَيْ إِفْطَارِهِ بِالْخُرُوجِ عَنْ
عُهْدَةِ الْمَأْمُورِ، أَوْ بِوِجْدَانِ التَّوْفِيقِ
لِإِتْمَامِ الصَّوْمِ، أَوْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
بَعْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ
حُصُولِ الثَّوَابِ، وَقَدْ وَرَدَ: " «ذَهَبَ الظَّمَأُ
وَثَبَتَ الْأَجْرُ» "، أَوْ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
مِنْ أَنَّ «لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةً
مُسْتَجَابَةً» " «وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» "
أَيْ بِنَيْلِ الْجَزَاءِ أَوْ حُصُولِ الثَّنَاءِ أَوِ
الْفَوْزِ بِاللِّقَاءِ " «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» "
بِفَتْحِ لَامِ الِابْتِدَاءِ تَأْكِيدًا، وَبِضَمِّ
الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ خَلُفَ فَمُهُ إِذَا
تَغَيَّرَ رَائِحَةُ فَمِهِ، خُلُوفًا بِالضَّمِّ لَا
غَيْرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ
الْخَاءَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ، أَيْ مَا
يُخَلَّفُ بَعْدَ الطَّعَامِ فِي فَمِ الصَّائِمِ مِنْ
رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ " أَطْيَبُ "
أَيْ أَفْضَلُ وَأَرْضَى وَأَحَبُّ " عِنْدَ اللَّهِ مِنْ
رِيحِ الْمِسْكِ " عِنْدَكُمْ لِأَنَّ رَائِحَةَ فَمِ
الصَّائِمِ مِنْ أَثَرِ الصِّيَامِ وَهُوَ عِبَادَةٌ
يَجْزِي بِهَا اللَّهُ - تَعَالَى - بِنَفَسِهِ
صَاحِبَهَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ
بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فُضِّلَ مَا يُنْكَرُ مِنَ
الصِّيَامِ عَلَى أَطْيَبِ مَا يُسْتَلَذُّ بِهِ مِنْ
جِنْسِهِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ مَا فَوْقَهُ مِنْ آثَارِ
الصَّوْمِ وَنَتَائِجِهِ اهـ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عَدَمُ
إِزَالَةِ الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ، كَمَا
اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ
السِّوَاكَ بَعْدَ الزَّوَالِ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ
نَظِيرَهُ قَوْلُ الْوَالِدَةِ: لَبَوْلُ وَلَدِي أَطْيَبُ
مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ عِنْدِي، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ
عَدَمَ غَسْلِ الْبَوْلِ، فَكَذَا هَذَا، وَسَيَأْتِي
بَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ -
تَعَالَى - فِي أَثْنَاءِ بَابِ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ "
«وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ» " بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ وِقَايَةٌ
كَالْقَوْسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حِجَابٌ وَحِصْنٌ
لِلصَّائِمِ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا وَمِنَ
النَّارِ فِي الْعُقْبَى " وَإِذَا " وَفِي نُسْخَةٍ
صَحِيحَةٍ: فَإِذَا أَيْ إِذَا عَرَفْتَ مَا فِي الصَّوْمِ
مِنَ الْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ وَالْفَوَائِدِ
الشَّامِلَةِ " كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ " بِرَفْعِ
يَوْمٍ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ،
فَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ يَوْمَ صَوْمِ
أَحَدِكُمْ " فَلَا يَرْفُثْ " بِضَمِّ الْفَاءِ
وَيُكْسَرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ
وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ " وَلَا يَصْخَبْ "
بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا يَرْفَعْ
صَوْتَهُ بِالْهَذَيَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا
لِيَكُونَ صَوْمُهُ كَامِلًا، فَالْمَعْنَى لِيَكُنِ
الصَّائِمُ صَائِمًا عَنْ جَمِيعِ الْمَنَاهِي
وَالْمَلَاهِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَلَا
يَجْهَلْ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الْعَمَلُ
بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ اهـ فَهُوَ تَعْمِيمٌ
بَعْدَ تَخْصِيصٍ " فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ " أَيِ
ابْتَدَأَهُ بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ " أَوْ قَاتَلَهُ " أَيْ
أَرَادَ قَتْلَهُ بِحَرْبٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ مُخَاصَمَةٍ
وَمُجَادَلَةٍ " فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ "
وَهُوَ إِمَّا بِاللِّسَانِ لِيَنْزَجِرَ خَصْمُهُ
فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتُ صَائِمًا لَا
يَجُوزُ لِي أَنْ أُخَاصِمَكَ بِالشَّتْمِ وَالْهَذَيَانِ،
فَلَا يَلِيقُ بِكَ أَنْ تُعَارِضَنِي فِي هَذَا
الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرُوءَةِ عَادَةً،
فَيَنْدَفِعُ خَصْمُهُ، أَوْ مَعْنَاهُ: فَلَا يَنْبَغِي
مِنْكَ التَّطَاوُلُ عَلَيَّ بِلِسَانِكَ، أَوْ بِيَدِكَ
لِأَنِّي فِي ذِمَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَمَنْ يَخْفِرِ
اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ يُهْلِكْهُ، وَلَا مِنِّي بِأَنْ
أَغْضَبَ وَأُجَازِيَكَ، أَوْ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ
لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفُحْشُ
وَالْغَضَبُ اهـ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:
فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، قَالَ
الزَّرْكَشِيُّ: أَيْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، لِتَكُونَ
فَائِدَةُ ذِكْرِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ نَفْسِهِ عَنْ
مُقَاتَلَتِهِ خَصْمَهُ، وَذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ كَفًّا
لِخَصْمِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ
الشَّرِيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(4/1363)
الْفَصْلُ الثَّانِي
1960 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا
كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ
الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ
النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ،
وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ،
وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ
مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» " رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1960 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا
كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ»
") بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ قُيِّدَتِ "
الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ " جَمْعُ مَارِدٍ
كَطَلَبَةٍ وَجَهَلَةٍ وَهُوَ الْمُتَجَرِّدُ لِلشَّرِّ،
وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الشَّعَرِ،
وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ
وَبَيَانٍ كَالتَّتْمِيمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ:
الْمَارِدُ هُوَ الْعَاتِيُّ الشَّدِيدُ، وَتَصْفِيدُ
الشَّيَاطِينِ إِمَّا فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ خَاصَّةً،
وَإِمَّا فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَيَّامِ اهـ
كَلَامُ الْمُخْتَصَرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ
بِالْأَيَّامِ ضِدَّ اللَّيَالِي فَيَرُدُّهُ هَذَا
الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ، حَيْثُ قَالَ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ
لَيْلَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْأَوْقَاتَ فَهُوَ
صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَإِمَّا فِيهَا
إِلَخْ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ ذَكَرَ فِي
الشَّرْحِ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامُهُ خَاصَّةً، وَأَرَادَ
الشَّيَاطِينَ الَّتِي هِيَ مُسْتَرِقَةُ السَّمْعِ، أَلَا
تَرَاهُ قَالَ: مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ شَهْرَ
رَمَضَانَ كَانَ وَقْتًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ إِلَى
سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الْحِرَاسَةُ قَدْ وَقَعَتْ
بِالشُّهُبِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - وَحَفِظْنَاهَا
الْآيَةَ، وَالتَّصْفِيدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
مُبَالَغَةٌ لِلْحِفْظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَهُ وَبَعَّدَهُ، وَالْمَعْنَى
أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَتَخَلَّصُونَ فِيهِ مِنْ
إِفْسَادِ النَّاسِ مَا يَتَخَلَّصُونَ إِلَيْهِ فِي
غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ
بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ،
وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ اهـ
وَيَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ مَا تَقَدَّمَ،
وَأَيْضًا يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْوَصْفِ
بِأَيَّامِ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَهُوَ زَمَنُ حَيَاتِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَعَ بُعْدِهِ
وَكَوْنِهِ خِلَافَ ظَاهِرِ التَّصْفِيدِ يُنَافِي
الْإِطْلَاقَ، وَلَا يُلَائِمُهُ بَقِيَّةُ الْأَوْصَافِ
الْآتِيَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقِيلَ:
الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الشَّيَاطِينِ وَتَصْفِيدِهِمْ
كَيْلَا يُوَسْوِسُوا فِي الصَّائِمِينَ، وَأَمَارَةُ
ذَلِكَ تَنَزُّهُ أَكْثَرِ الْمُنْهَمِكِينَ فِي
الطُّغْيَانِ عَنِ الْمَعَاصِي وَرُجُوعُهُمْ
بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى، وَأَمَّا مَا
يُوجَدُ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِمْ فَإِنَّهَا
تَأْثِيرَاتٌ مِنْ تَسْوِيلَاتِ الشَّيَاطِينِ أُغْرِقَتْ
فِي عُمْقِ تِلْكَ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ، وَبَاضَتْ
فِي رُءُوسِهَا، وَقِيلَ: قَدْ خُصَّ مِنْ عُمُومِ "
«صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» " زَعِيمُ زُمْرَتِهِمْ،
وَصَاحِبُ دَعْوَتِهِمْ لِمَكَانِ الْإِنْظَارِ الَّذِي
سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ، فَأُجِيبَ إِلَيْهِ، فَيَقَعُ مَا
يَقَعُ مِنَ الْمَعَاصِي بِتَسْوِيلِهِ وَإِغْوَائِهِ،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ كِنَايَةً عَنْ
ضَعْفِهِمْ فِي الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ "
«وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا
بَابٌ» " كَالتَّأْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ " «وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ» "
وَلَعَلَّهَا أَبْوَابٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمَا، أَوْ
أَبْوَابُهُمَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، قَدْ تُفْتَحُ
وَتُغْلَقُ، بِخِلَافِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ
الْمُبَارَكِ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّ الْأَزْمِنَةَ الشَّرِيفَةَ وَالْأَمْكِنَةَ
اللَّطِيفَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي كَثْرَةِ الطَّاعَةِ
وَقِلَّةِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ
وَالْمُشَاهَدَةُ، فَلْتُغْتَنَمِ الْفُرْصَةُ، وَيُشِيرُ
إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ " وَيُنَادِي مُنَادٍ "
أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْمَقَالِ مِنْ
عِنْدِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ " يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ "
أَيْ طَالِبَ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ " أَقْبِلْ " أَيْ
إِلَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي
عِبَادَتِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنِ الْإِقْبَالِ أَيْ
تَعَالَ فَإِنَّ هَذَا أَوَانُكَ، فَإِنَّكَ تُعْطَى
الثَّوَابَ الْجَزِيلَ بِالْعَمَلِ الْقَلِيلِ، أَوْ
مَعْنَاهُ يَا طَالِبَ الْخَيْرِ الْمُعْرِضَ عَنَّا
وَعَنْ طَاعَتِنَا أَقْبِلْ إِلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادَتِنَا، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ تَحْتَ
قُدْرَتِنَا وَإِرَادَتِنَا " وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ "
أَيْ يَا مُرِيدَ الْمَعْصِيَةِ " أَقْصِرْ " بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ أَمْسِكْ عَنِ
الْمَعَاصِي وَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَهَذَا
أَوَانُ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَزَمَانُ الِاسْتِعْدَادِ
لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَعَلَّ طَاعَةَ الْمُطِيعِينَ
وَتَوْبَةَ الْمُذْنِبِينَ وَرُجُوعَ الْمُقَصِّرِينَ فِي
رَمَضَانَ مِنْ أَثَرِ النِّدَاءَيْنِ، وَنَتِيجَةُ
إِقْبَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الطَّالِبِينَ،
وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ صَائِمِينَ
حَتَّى الصِّغَارَ وَالْجَوَارِ، بَلْ غَالِبُهُمُ
الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ
مُصَلِّيِنَ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ أَصْعَبُ مِنَ
الصَّلَاةِ، وَهُوَ يُوجِبُ ضَعْفَ الْبَدَنِ الَّذِي
يَقْتَضِي الْكَسَلَ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَكَثْرَةَ
النَّوْمِ عَادَةً، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَى الْمَسَاجِدَ
مَعْمُورَةً، وَبِإِحْيَاءِ اللَّيَالِي مَغْمُورَةً،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ " وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ " أَيْ كَثِيرُونَ " مِنَ
النَّارِ " فَلَعَلَّكَ تَكُونُ مِنْهُمْ " وَذَلِكَ "
قَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَارَ بُقُولِهِ ذَلِكَ إِمَّا
لِلْبَعِيدِ وَهُوَ النِّدَاءُ، وَإِمَّا لِلْقَرِيبِ
وَهُوَ لِلَّهِ عُتَقَاءُ " كُلَّ لَيْلَةٍ " أَيْ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ
(4/1364)
مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ " رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ " قَالَ الْجَزَرِيُّ:
كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَا
يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ
عَيَّاشٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ
كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْأَعْمَشِ،
وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ
إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ
بْنَ إِسْمَاعِيلَ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا
الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ
عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ
قَوْلَهُ: قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ
أَبِي بَكْرٍ، يَعْنِي قَوْلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى
مُجَاهِدٍ اهـ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، لَكِنْ يُفْهَمُ
مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ
أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ أَخْرَجَهُ ابْنُ
خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: وَاللَّفْظُ لِابْنِ
خُزَيْمَةَ، وَنَحْوَهُ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ فِيهِ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ
الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ بَابٌ مِنْهَا الشَّهْرَ
كُلَّهُ» " اهـ. كَلَامُهُ، وَيُقَوِّي رَفْعَ الْحَدِيثِ
أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَهُوَ
مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، تَمَّ كَلَامُ
مِيرَكَ، وَفِيهِ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَيَّاشٍ وَلَوْ
كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ضَابِطٌ
عِنْدَ الْأَقَلِّ وَمِنْهُمُ الْجَزَرِيُّ، وَلِذَا
قَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ
ضَعِيفٌ عَنِ الْأَعْمَشِ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَرَابَةٍ،
لِأَنَّ الضَّعِيفَ ضَعِيفٌ سَوَاءٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَوْ
غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ
غَرِيبٌ إِلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ، بَلْ عَلَى
غَرَابَتِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ أَوْرَدَهُ مَرْفُوعًا
مُخَالِفًا لِمَنْ أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا، وَالْغَرَابَةُ
لَا تُنَافِي الْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ، كَمَا هُوَ
مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَلِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ:
وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَصَحُّ
أَيْ مِنْ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا، مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ
مِنَ النِّزَاعِ، وَتَحَصَّلَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنَّ
كَوْنَهُ مَرْفُوعًا أَصَحُّ، هَذَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ
عَيَّاشٍ هُوَ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ عَاصِمٍ أَحَدِ
الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ
شُعْبَةَ، وَيُقَدَّمُ عَلَى حَفْصٍ فِي الْقِرَاءَةِ،
وَقَدْ فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي الْفَضَائِلِ، لَكِنِ
اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ ضَعِيفًا لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ
الْحَدِيثُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(4/1365)
1961 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ،
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1961 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ) إِشَارَةً إِلَى
ضَعْفِهِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ
أَنَّهُ صَحَّ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى فَلَا يَضُرُّ (وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ إِسْنَادًا
كَمَا ذُكِرَ.
(4/1365)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1962 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ
السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ،
وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ
لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ
خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1962 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "
أَتَاكُمْ ") أَيْ جَاءَكُمْ " رَمَضَانُ " أَيْ زَمَانُهُ
أَوْ أَيَّامُهُ " شَهْرٌ مُبَارَكٌ " بَدَلٌ أَوْ
بَيَانٌ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ،
وَظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ أَيْ كَثُرَ خَيْرُهُ
الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ
فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً أَيْ جَعَلَهُ
اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ، وَهُوَ أَصْلٌ
فِي التَّهْنِئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَوَّلِ
الشُّهُورِ بِالْمُبَارَكَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ
وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» "، إِذْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى
أَنَّ رَمَضَانَ مِنْ أَصْلِهِ مُبَارَكٌ فَلَا يَحْتَاجُ
إِلَى الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، لَكِنْ
قَدْ يُقَالُ: لَا مَانِعَ مِنْ قَبُولِ زِيَادَةِ
الْبَرَكَةِ " «فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ» "
أَيْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ "
تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ " اسْتِئْنَافُ
بَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَهُوَ
بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَبِالتَّأْنِيثِ فِي الْأَفْعَالِ
الثَّلَاثَةِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهَا وَبِتَخْفِيفِ
الْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَيُشَدَّدَانِ "
«وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ» " وَفِي
نُسْخَةٍ: " الْحَمِيمِ " وَهُوَ تَصْحِيفٌ " وَتُغَلُّ "
بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنِ الْإِغْلَالِ " فِيهِ مَرَدَةُ
الشَّيَاطِينِ " يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
الْمُقَيَّدِينَ هُمُ الْمَرَدَةُ فَقَطْ، وَهُوَ مَعْنًى
لَطِيفٌ يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ، فَيَكُونُ
عَطْفُ الْمَرَدَةِ عَلَى الشَّيَاطِينِ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ عَامَّةِ الشَّيَاطِينِ بِغَيْرِ
الْأَغْلَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ "
لِلَّهِ فِيهِ " أَيْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى حَذْفِ
مُضَافٍ أَوْ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْهُ يَعْنِي
غَالِبًا، وَإِلَّا فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِي جَمِيعِ
رَمَضَانَ أَوْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَمَا هُوَ
مَذْهَبُنَا، وَلِذَا لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِامْرَأَتِهِ:
أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا تُطَلَّقُ
حَتَّى
(4/1365)
يَمْضِيَ عَلَيْهَا السَّنَةُ كُلُّهَا "
«لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» " أَيِ الْعَمَلُ
فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ
فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ " وَمَنْ حُرِمَ " بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ " خَيْرَهَا " بِالنَّصْبِ، قَالَ
الطِّيبِيُّ: يُقَالُ حَرَمَهُ الشَّيْءَ يَحْرِمُهُ
حِرْمَانًا وَأَحْرَمَهُ أَيْضًا أَيْ مَنَعَهُ إِيَّاهُ
اهـ وَفِي الْقَامُوسِ: أَحْرِمُهُ لِغَيِّهِ أَيْ مَنْ
مُنِعَ خَيْرَهَا بِأَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِإِحْيَائِهَا
وَلَوْ بِالطَّاعَةِ فِي طَرَفَيْهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ
مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ
أَدْرَكَ حَظَّهُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَمَّا مَا
وَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنَالُ
فَضْلَهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا
فَالْمُرَادُ مِنْهُ فَضْلُهَا الْكَامِلُ " فَقَدْ حُرِمَ
" أَيْ مُنِعَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، كَمَا سَيَجِيءُ
صَرِيحًا فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمُرَادُ
حِرْمَانُ الثَّوَابِ الْكَامِلِ أَوِ الْغُفْرَانِ
الشَّامِلِ الَّذِي يَفُوزُ بِهِ الْقَائِمُ فِي إِحْيَاءِ
لَيْلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: اتَّحَدَ الشَّرْطُ
وَالْجَزَاءُ دَلَالَةً عَلَى فَخَامَةِ الْجَزَاءِ، أَيْ
فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ (رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فِيمَا
أَعْلَمُ؛ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.
(4/1366)
1963 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ
يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ
إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ
فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ
النُّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ،
فَيُشَفَّعَانِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ
الْإِيمَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1963 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الصِّيَامُ
") أَيْ صِيَامُ رَمَضَانَ " وَالْقُرْآنُ " أَيْ
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقُرْآنُ
هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّهَجُّدِ وَالْقِيَامِ
بِاللَّيْلِ كَمَا عُبِّرَ بِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي
قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:
78] وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ " وَيَقُولُ
الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ " اهـ
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ "
يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ " وَتَتَجَسَّدُ الْمَعَانِي
وَالْأَعْمَالُ وَيُحْتَمَلُ بِبَيَانِ الْحَالِ. "
«يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ " أَيْ: يَا رَبِّ "
إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ» " مِنْ
عَطْفِ الْأَعَمِّ " بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي "
بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: اقْبَلْ شَفَاعَتِي " فِيهِ " أَيْ
فِي حَقِّهِ " وَيَقُولُ الْقُرْآنُ " لَمَّا كَانَ
الْقُرْآنُ كَلَامُهُ - تَعَالَى - غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَمْ
يَقُلْ أَيْ رَبِّ، وَأَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ خَطَأً
فَاحِشًا، حَيْثُ قَدَّرَ هُنَا أَيْ رَبِّ فَإِنَّهُ
مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ، لَا يُقَالُ: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ
الْمَقْرُوءِ فَإِنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ التَّقْدِيرُ
الْمُوهِمُ لِلتَّضْلِيلِ الْمُحْوِجُ إِلَى التَّفْسِيرِ
وَالتَّأْوِيلِ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَاعِدَةِ
الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ
الْإِيرَادَ، وَكَلَامُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا
يُؤَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعَوَّلُ،
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا بِهِ اللَّفْظِيُّ،
فَالْجَوَابُ: لَا، لِمَا فِيهِ مِنِ الْإِيهَامِ
الْمُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى
صَحِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَنَّ الْجَبَّارَ
فِي أَصْلِ اللُّغَةِ النَّخْلَةُ الطَّوِيلَةُ،
وَيُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ الْجَبَّارُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا
بِهِ النَّخْلَةُ لِلْإِيهَامِ اهـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا رَبَّ
الْقُرْآنِ، فَقَالَ: مَهْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
الْقُرْآنَ مِنْهُ، أَيْ أَنَّهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ
الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ
بِالْمَرْبُوبِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِهِ
وَانْفِصَالِهِ عَنِ الذَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ
ذَلِكَ اهـ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمُدَّعَى، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى، وَهُوَ لَهُ أَوْلَى فِي
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى " «مَنَعْتُهُ النَّوْمَ
بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ» "
بِالتَّشْدِيدِ مَجْهُولًا أَيْ يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمَا،
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِمَا، وَلَعَلَّ شَفَاعَةَ
رَمَضَانَ فِي مَحْوِ السَّيِّئَاتِ وَشَفَاعَةَ
الْقُرْآنِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ:
الشَّفَاعَةُ وَالْقَوْلُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقُرْآنِ
إِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ أَوْ يَجْرِيَ عَلَى مَا عَلَيْهِ
النَّصُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الْعُقُولَ
الْبَشَرِيَّةَ تَتَلَاشَى وَتَضْمَحِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ
الْعَوَالِمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَّا
الْإِذْعَانُ وَالْقَبُولُ، وَمَنْ أَوَّلَ قَالَ:
اسْتُعِيرَتِ الشَّفَاعَةُ وَالْقَبُولُ لِلصِّيَامِ
وَالْقُرْآنِ لِإِطْفَاءِ غَضَبِ اللَّهِ وَإِعْطَاءِ
الْكَرَامَةِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ
اللَّهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ)
قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي
الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ،
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْجُوعِ،
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ:
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ
الْمُنْذِرِيُّ.
(4/1366)
1964 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ
قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ
شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ،
وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا كُلُّ مَحْرُومٍ» ".
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1964 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ
رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ ")
الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ
مَحْسُوسٌ عِنْدَ أَرْبَابِ التَّكْرِيمِ كَمَا نُقِلَ
عَنْ سَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ - رَوَّحَ اللَّهُ
رُوحَهُ الْكَرِيمَ - " قَدْ حَضَرَكُمْ " أَيْ
فَاغْتَنِمُوا حُضُورَهُ بِالصِّيَامِ فِي نَهَارِهِ
وَالْقِيَامِ فِي لَيْلِهِ " وَفِيهِ لَيْلَةٌ " أَيْ
وَاحِدَةٌ مُبْهَمَةٌ مِنْ لَيَالِيهِ " خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ " أَيْ فَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
رَجَاءَ أَنْ تُدْرِكُوهَا " مَنْ حُرِمَهَا " أَيْ
خَيْرَهَا وَتَوْفِيقَ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَمُنِعَ عَنِ
الْقِيَامِ بِبَعْضِهَا " فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ
كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا " أَيْ حَتَّى
يَتَخَلَّفَ عَنْهَا " إِلَّا كُلُّ مَحْرُومٍ " بِرَفْعِ
" كُلُّ " عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى
الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ كُلَّ مَمْنُوعٍ مِنَ الْخَيْرِ لَا
حَظَّ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَلَا ذَوْقَ لَهُ مِنِ
الْعِبَادَةِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ
الْمُنْذِرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
- تَعَالَى، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ
عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «هَذَا
رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ
الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ،
وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فَبُعْدًا لِمَنْ
أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، إِذَا لَمْ
يُغْفَرْ لَهُ فَمَتَى؟» " نَقَلَهُ مِيرَكُ.
(4/1367)
1965 - وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ
قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ
فَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ
شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ
خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ
فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ
فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ
أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً
فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا
سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ
الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ
فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا
كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ
مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ "، قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا نُفَطِّرُ
بِهِ الصَّائِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُعْطَى هَذَا الثَّوَابَ
مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ، أَوْ
تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ
صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا
يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ
أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ
عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ
فِيهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ»
".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1965 - (عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ
(قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ يَحْتَمِلُ خُطْبَةَ
الْجُمْعَةِ وَخُطْبَةَ الْمَوْعِظَةِ (فِي آخِرِ يَوْمٍ
مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ) أَيْ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ
فِي خُطَبِهِ، وَكَأَنَّ سَلْمَانَ حَذَفَ ذَلِكَ
اخْتِصَارًا، قُلْتُ: مَا اخْتَصَرَهُ بَلِ اقْتَصَرَهُ
وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ بِقَوْلِهِ خَطَبَنَا، فَإِنَّ
الْخُطْبَةَ هِيَ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ كَمَا هُوَ
مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ " أَيُّهَا
" وَفَى نُسْخَةٍ: يَا أَيُّهَا " النَّاسُ قَدْ
أَظَلَّكُمْ " بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَيْ أَشْرَفَ
عَلَيْكُمْ وَقَرُبَ مِنْكُمْ " شَهْرٌ عَظِيمٌ " أَيْ
قَدْرُهُ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الشُّهُورِ كَمَا فِي حَدِيثٍ،
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ شَارَفَكُمْ وَأَلْقَى ظِلَّهُ
عَلَيْكُمْ، وَنُقِلَ عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنَّهُ
بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ أَطَلَّ
عَلَيْنَا بِالْمُهْمَلَةِ أَشْرَفَ، وَأَظَلَّكُمْ
رَمَضَانُ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ
وَدَنَا مِنْكُمْ كَأَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْكُمْ ظِلَّهُ
اهـ وَعِبَارَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ عِبَارَةِ الطَّيِّبِيِّ
كَمَا لَا يَخْفَى " شَهَرٌ مُبَارَكٌ " أَيْ عَلَى مَنْ
يَعْرِفُ قَدْرَهُ " «شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ» " أَيْ
عَظِيمَةٌ، وَفَى أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ
وَهُوَ سَهْوٌ " خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ
اللَّهُ صِيَامَهُ " أَيْ صِيَامَ نَهَارِهِ (فَرِيضَةً)
أَيْ فَرْضًا قَطْعِيًّا (وَقِيَامَ لَيْلِهِ) أَيْ
إِحْيَاءَهُ بِالتَّرَاوِيحِ وَنَحْوِهَا (تَطَوُّعًا)
أَيْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، فَمَنْ فَعَلَهُ فَازَ
بِعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَمَنْ تَرَكَهُ حُرِمَ الْخَيْرَ
وَعُوقِبَ بِعِتَابِهِ " مَنْ تَقَرَّبَ " أَيْ إِلَى
اللَّهِ
(4/1367)
" فِيهِ " أَيْ فِي نَهَارِهِ أَوْ
لَيْلِهِ " بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ " أَيْ مِنْ
أَنْوَاعِ النَّفْلِ " كَانَ كَمَنْ " أَيْ ثَوَابُهُ
كَثَوَابِ مَنْ " أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ
أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ " بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً "
كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ)
أَيْ مِنَ الْأَشْهُرِ، وَهَذَا فِيمَا سِوَى الْحَرَمِ،
إِذْ حَسَنَاتُهُ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي غَيْرِهِ "
وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ " لِأَنَّ صِيَامَهُ بِالصَّبْرِ
عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَنَحْوِهَا،
وَقِيَامَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ السَّهَرِ
وَسُنَّةِ السَّحُورِ عِنْدَ السَّحَرِ، وَلِذَا أُطْلِقَ
الصَّبْرُ عَلَى الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]
وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بِأَنَّ بَاقِيَ الْأَشْهُرِ
شُهُورُ الشُّكْرِ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ -
تَعَالَى - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا
تَسْهِيلًا لِلصَّائِمِينَ وَتَسْلِيَةً لِلْقَائِمِينَ "
وَالصَّبْرُ " أَيْ كَمَالُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِلشُّكْرِ،
كَمَا حَرَّرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّ وُجُودَهُمَا
عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مُتَلَازِمَانِ، وَفَى
التَّحْقِيقِ مُتَعَانِقَانِ وَبِكُلِّ طَاعَةٍ وَخَصْلَةٍ
حَمِيدَةٍ مُتَعَلِّقَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ:
نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، فَتَرْكُ
الْمَعْصِيَةِ صَبْرٌ، وَامْتِثَالُ الطَّاعَةِ شُكْرٌ "
ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ " أَوْ يُقَالُ: الصَّبْرُ عَلَى
الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ جَزَاؤُهُ الْجَنَّةُ
لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعَ النَّاجِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ
ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ مُقَاسَاةٍ لِشَدَائِدِ
الْمَوْقِفِ فَأَمْرٌ رَاشِدٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ
الْحَدِيثِ فَلَا يَنْبَغِي الْجَرَاءَةُ عَلَيْهِ "
وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ " أَيِ الْمُسَاهَمَةِ
وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ، وَأَصْلُهُ
الْهَمْزَةُ فَقُلِبَتْ وَاوًا تَخْفِيفًا، قَالَهُ
الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْجُودِ
وَالْإِحْسَانِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، لَا
سِيَّمَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْجِيرَانِ " وَشَهْرٌ
يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ " وَفِي نُسْخَةٍ
صَحِيحَةٍ: " يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ سَوَاءٌ
كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا "، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ
فِيهِ وَيُحْتَمَلُ تَعْمِيمُ الرِّزْقِ بِالْحِسِّيِّ
وَالْمَعْنَوِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْجِيعٌ عَلَى
الْكَرَمِ وَتَحْضِيضٌ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ " مَنْ فَطَّرَ " بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ " فِيهِ
صَائِمًا " أَيْ أَطْعَمَهُ أَوْ سَقَاهُ عِنْدَ
إِفْطَارِهِ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ
الْآتِيَةِ " كَانَ " أَيِ التَّفْطِيرُ " لَهُ " أَيْ
لِلْمُفَطِّرِ " مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ
رَقَبَتِهِ " أَيِ الْمُفَطِّرُ " مِنَ النَّارِ " أَيْ
سَبَبًا لِحُصُولِهِمَا، وَفَى نُسْخَةٍ بِرَفْعِ
الْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ، فَالْمَعْنَى: حَصَلَ لَهُ
مَغْفِرَةٌ وَعِتْقٌ " وَكَانَ لَهُ " أَيْ وَحَصَلَ
لِلْمُفَطِّرِ " مِثْلُ أَجْرِهِ " أَيْ مِثْلُ ثَوَابِ
الصَّائِمِ " مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ " مِنْ بَابِ
الِافْتِعَالِ " مِنْ أَجْرِهِ " أَيْ مِنْ أَجْرِ
الصَّائِمِ " شَيْءٌ " وَهُوَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ
وَإِفَادَةُ تَأْكِيدٍ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ النَّقْصِ مِنْ
لَفْظِ " مِثْلُ أَجْرِهِ " أَوَّلًا،
(4/1368)
" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ
كُلُّنَا نَجِدُ مَا نُفَطِّرُ بِهِ الصَّائِمَ "
بِالتَّكَلُّمِ بِالْفِعْلَيْنِ، وَفَى نُسْخَةٍ
بِالْغَيْبَةِ فِيهِمَا أَيْ لَا يَجِدُ كُلُّنَا مَا
يُشْبِعُهُ وَإِنَّمَا الَّذِي يَجِدُ ذَلِكَ بَعْضُنَا
فَمَا حُكْمُ مَنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ؟ (فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُعْطِي
اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ ") أَيْ مِنْ جِنْسِ هَذَا
الثَّوَابِ أَوْ هَذَا الثَّوَابَ كَامِلًا عِنْدَ
الْعَجْزِ عَنِ الْإِشْبَاعِ " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا
عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ» " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ
الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ شَرْبَةِ لَبَنٍ يُخْلَطُ
بِالْمَاءِ " أَوْ تَمْرَةٍ " وَفِي تَقْدِيمِ الْمَذْقَةِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرَةِ
إِمَّا لِفَضِيلَةِ اللَّبَنِ أَوْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ
النِّعْمَتَيْنِ " أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ " وَأَوْ
لِلتَّنْوِيعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ
حَجَرٍ: وَكُلُّكُمْ يَقْدِرُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقِهِ " «وَمَنْ
أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ» " وَلَعَلَّ
الِاكْتِفَاءَ بِالْإِشْبَاعِ فِي الشَّرْطِ لِأَنَّهُ
أَفْضَلُ أَوْ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الدُّنْيَا،
وَبِالْإِسْقَاءِ فِي الْجَزَاءِ لِكَوْنِ الِاحْتِيَاجِ
إِلَيْهِ أَكْثَرَ، بَلْ لَا احْتِيَاجَ إِلَّا إِلَيْهِ
فِي الْعُقْبَى " مِنْ حَوْضِي " أَيِ الْكَوْثَرِ فِي
الْقِيَامَةِ " شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ " أَيْ بَعْدَهَا "
حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ " أَيْ إِلَى أَنْ
يَدْخُلَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا ظَمَأَ فِي
الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنَّكَ لَا
تَظْمَأُ فِيهَا} [طه: 119] فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا
يَظْمَأُ أَبَدًا " وَهُوَ " أَيْ رَمَضَانُ " شَهْرٌ
أَوَّلَهُ رَحْمَةٌ " أَيْ وَقْتُ رَحْمَةٍ نَازِلَةٍ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ عَامَّةٍ، وَلَوْلَا حُصُولُ رَحْمَتِهِ
مَا صَامَ وَلَا قَامَ أَحَدٌ مِنْ خَلِيقَتِهِ، لَوْلَا
اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا
صَلَّيْنَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا
وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
" وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ " أَيْ زَمَانُ مَغْفِرَتِهِ
الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى رَحْمَتِهِ، فَإِنَّ الْأَجِيرَ
قَدْ يَتَعَجَّلُ بَعْضَ أَجْرِهِ قُرْبَ فَرَاغِهِ مِنْهُ
" وَآخِرُهُ " وَهُوَ وَقْتُ الْأَجْرِ الْكَامِلِ "
عِتْقٌ " أَيْ لِرِقَابِهِمْ " مِنَ النَّارِ " وَالْكُلُّ
بِفَضْلِ الْجَبَّارِ وَتَوْفِيقِ الْغَفَّارِ
لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارِ لِلْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ
لِلرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ "
وَمَنْ خَفَّفَ " أَيْ فِي الْخِدْمَةِ " عَنْ مَمْلُوكِهِ
فِيهِ " أَيْ فِي رَمَضَانَ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَإِعَانَةً
لَهُ بِتَيْسِيرِ الصِّيَامِ إِلَيْهِ " غَفَرَ اللَّهُ
لَهُ " أَيْ لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ
الْأَوْزَارِ " وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ " جَزَاءً
لِإِعْتَاقِهِ الْمَمْلُوكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَمَلِ، قَالَ
مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ،
وَقَالَ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ
الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ
فِي الثَّوَابِ بِاقْتِصَارٍ عَنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ
لِأَبِي الشَّيْخِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ صَلَّتْ
عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ لَيَالِيَ رَمَضَانَ كُلَّهَا،
وَصَافَحَهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمَنْ
صَافَحَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرِقُّ
قَلْبُهُ وَتَكْثُرُ دُمُوعُهُ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ: "
فَقَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ "، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ
لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لُقْمَةُ خُبْزٍ؟ قَالَ: "
فَمَذْقَةُ لَبَنٍ "، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ: " فَشَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ» "،
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِي أَسَانِيدِهِمْ عَلِيُّ بْنُ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ عَنْهُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ
زَيْدٍ.
(4/1369)
1966 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطْلَقَ كُلَّ
أَسِيرٍ وَأَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1966 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا
دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطْلَقَ كُلَّ أَسِيرٍ» ) أَيْ
مَحْبُوسٍ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَبْسَ لِحَقِّ اللَّهِ
أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ بِتَلْخِيصِهِ مِنْهُ تَخْلِيقًا
بِأَخْلَاقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ
فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ:
أَيْ مَحْبُوسٍ عَلَى كُفْرِهِ بَعْدَ أَسْرِهِ
لِيَخْتَارَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنَّ أَوِ الْقَتْلَ مَثَلًا
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ
الذَّكَرَ الْحُرَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أُسِرَ تَخَيَّرَ
الْإِمَامُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ
وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ أَوْ مَخْصُوصٌ بِحَرْبِ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ الْقَتْلُ أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ عِنْدَهُمْ،
هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ، وَقَالَ صَاحِبُ
الْمَدَارِكِ: وَحُكْمُ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ عِنْدَنَا
الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ، وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ
الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ فَمَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ -
تَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةٌ
" مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ أَنْ
يُمَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا
أَوْ يُمَنَّ عَلَيْهِمْ فَيُخَلُّوا بِقَبُولِهِمُ
الْجِزْيَةَ، وَبِالْفِدَاءِ أَنْ يُفَادَى بِأَسَارِيهِمْ
أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ
مَذْهَبًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَهُوَ قَوْلُهُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرَى
فِدَائَهُمْ لَا بِمَالٍ وَلَا بِغَيْرِهِ لِئَلَّا
يَعُودُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ
الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ
وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ اهـ،
فَاللَّائِقُ بِالْمُتَكَلِّمِ فِي الْحَدِيثِ أَنْ
يَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ وَهُوَ
الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا عَلَى احْتِمَالٍ يُخَالِفُهُ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمُومِ فَضْلًا
عَنْ خُصُوصِ رَمَضَانَ أَنَّهُ أَعْتَقَ كَافِرًا
وَأَرْسَلَهُ قَطُّ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا
الْمَعْنَى اسْتِمْرَارُهُ الْحَقِيقِيُّ أَوِ
الْعُرْفِيُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَوْنِ الْمَفْهُومِ
أَنَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ رَمَضَانَ ; وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ " وَأَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ " أَيْ
زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِهِ وَإِلَّا فَلَا كَانَ
عِنْدَهُ لَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَيْضًا، فَقَدْ جَاءَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَا سُئِلَ شَيْئًا إِلَّا
أَعْطَاهُ، «فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ
جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ
أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا
يَخْشَى الْفَقْرَ» ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا،
وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْ مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ
مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَمَنَعَهُ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ لَوْلَا
التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمُ
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ لَمْ يَقُلْ لَا مَنْعًا
لِلْعَطَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا
يَقُولَهَا اعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -
{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:
92] وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ لَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ وَبَيْنَ لَا أَحْمِلُكُمُ اهـ وَفِي حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ قَالَ: «كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ،
فَالرَّسُولُ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ
الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا
سُؤَالًا وَجَوَابًا بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ يُنَاقِضُ
صَوَابًا.
(4/1370)
1967 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
" «إِنَّ الْجَنَّةَ تُزَخْرَفُ لِرَمَضَانَ مِنْ رَأْسِ
الْحَوْلِ إِلَى حَوْلِ قَابِلٍ " قَالَ: " فَإِذَا كَانَ
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ تَحْتَ
الْعَرْشِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ
فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ
أَزْوَاجًا تَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا وَتَقَرَّ
أَعْيُنُهُمْ بِنَا» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ
الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1967 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ
تُزَخْرَفُ» ") أَيْ تُزَيَّنُ بِالذَّهَبِ وَنَحْوِهِ "
لِرَمَضَانَ " أَيْ لِأَجْلِ قُدُومِهِ " مِنْ رَأَسِ
الْحَوْلِ إِلَى حَوْلِ قَابِلٍ " أَيْ يُبْتَدَأُ
التَّزْيِينُ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ مُنْتَهِيًا إِلَى
سَنَةٍ آتِيَةٍ أَوَّلَ الْحَوْلِ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ،
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مِنْ
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُزَيَّنَةٌ لِأَجْلِ
رَمَضَانَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ
الْغُفْرَانِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ، مَا قَبْلَهُ
وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ
يُجْعَلَ رَأْسُ الْحَوْلِ مِمَّا بَعْدَ رَمَضَانَ،
وَلَعَلَّهُ اصْطِلَاحُ أَهْلِ الْجِنَانِ وَيُنَاسِبُهُ
كَوْنُهُ يَوْمَ عِيدٍ وَسُرُورٍ، وَوَقْتَ زِينَةٍ
وَحُبُورٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: لَعَلَّ
الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَوْلِ بِأَنْ تَبْتَدِئَ
الْمَلَائِكَةُ فِي تَزْيِنِهَا أَوَّلَ شَوَّالٍ
وَتَسْتَمِرَّ إِلَى أَوَّلِ رَمَضَانَ، فَتُفْتَحُ
أَبَوَابُهَا حِينَئِذٍ لِيَطَّلِعَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى
مَا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ قَبْلُ، إِعْلَامًا لَهُمْ
بِعِظَمِ شَرَفِ رَمَضَانَ وَشَرَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ،
وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَى صَوْمِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا
النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الظَّاهِرِ الْبَاهِرِ اهـ
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الزِّينَةِ مِنْ أَوَّلِ
رَمَضَانَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: فُتِحَتْ
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ إِلَخْ، لِأَنَّ الزِّينَةَ
الْمُتَعَارَفَةَ تَكُونُ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْفَرَحِ،
وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ الْفَرَحِ، وَالْمُنَاسِبُ هُنَا
الْأَوَّلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّامِ فِي
قَوْلِهِ
(4/1370)
رَمَضَانَ وَقْتُهُ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ تُرْفَعُ أَعْمَالُ
السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، ثُمَّ مَا بِهِ التَّمْيِيزُ
بَيْنَ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِأُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى
الزِّينَةِ فِي خُصُوصِهِ مِنْ فَتْحِ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ وَغَلْقِ أَبْوَابِ النِّيرَانِ،
وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ،
وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ (قَالَ)
أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِنَّمَا أَعَادَ قَالَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ
مَقُولُ ابْنِ عُمَرَ فَتَدَبَّرْ " «فَإِذَا كَانَ
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ تَحْتَ
الْعَرْشِ» " أَيْ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ
فَنَثَرَتْ رَائِحَةً عَطِرَةً طَيِّبَةً، قَالَ ابْنُ
حَجَرٍ: تَحْتَ الْعَرْشِ أَيْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ
سَقْفَ الْجَنَّةِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَمَا فِي
الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ
سَقْفًا بِمَعْنَى أَعْلَاهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَاصِلٌ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَكُونَ هُبُوبُ الرِّيحِ فِي
الْجَنَّةِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الرِّيحَ تَنْزِلُ مِنْ
تَحْتِ الْعَرْشِ مُبْتَدَأً بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا فِي
الْجَنَّةِ " مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ " أَيْ مِنْ وَرَقِ
شَجَرِهَا مُبْتَدَأً " عَلَى الْحُورِ الْعِينِ " أَيْ
مُنْتَثِرَةٌ عَلَى رَأْسِهِنَّ، وَلَعَلَّهَا أَثَرُ
خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ
أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ " فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ
لَنَا مِنْ عِبَادِكَ " أَيِ الصَّالِحِينَ الصَّائِمِينَ
الْقَائِمِينَ " أَزْوَاجًا تَقَرُّ " بِفَتْحِ الْقَافِ
وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ تَتَلَذَّذُ " بِهِمْ " أَيْ
بِطَلْعَتِهِمْ وَصُحْبَتِهِمْ " أَعْيُنُنَا " أَيْ
أَبْصَارُنَا أَوْ ذَوَاتُنَا " وَتَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ
بِنَا " قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْقَرِّ بِمَعْنَى
الْبِرِّ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِكَ قَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْهِ
جَعَلَ دَمْعَ عَيْنَيْهِ بَارِدًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ
السُّرُورِ، فَإِنَّ دَمْعَتَهُ بَارِدَةٌ أَوْ مِنَ
الْقَرَارِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْفَوْزِ
بِالْبُغْيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَازَ بِهَا قَرَّ نَفْسَهُ،
وَلَا يَسْتَشْرِفُ عَيْنَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ
لِحُصُولِهِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ
الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ مِيرَكُ:
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ الْغِفَارِيِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُرَيْمَةَ فِي
صَحِيحِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَبُو
الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ذَاتَ يَوْمٍ وَأَهَلَّ رَمَضَانُ، فَقَالَ: " «لَوْ
يَعْلَمُ الْعِبَادُ مَا رَمَضَانُ لَتَمَنَّتْ أُمَّتِي
أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ كُلُّهَا رَمَضَانَ» "، فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَدِّثْنَا،
فَقَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُزَيَّنُ لِرَمَضَانَ
مِنْ رَأْسِ الْحَوَلِ إِلَى الْحَوَلِ، فَإِذَا كَانَ
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ
الْعَرْشِ فَصَفَّقَتْ وَرَقَ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ،
فَيَنْظُرُ الْحُورُ الْعِينُ إِلَى ذَلِكَ فَيَقُلْنَ:
يَا رَبِّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ فِي هَذَا
الشَّهْرِ أَزْوَاجًا، تَقَرُّ أَعْيُنُنَا بِهِمْ
وَأَعْيُنُهُمْ بِنَا "، قَالَ: " فَمَا مِنْ عَبْدٍ
يَصُومُ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا زُوِّجَ زَوْجَةً
مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي خَيْمَةٍ مِنْ دُرَّةٍ "
كَمَا نَعَتَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حُورٌ
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ» قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي
الْقَلْبِ مِنْ جَرِيرِ بْنِ أَيُّوبَ - يَعْنِي أَحَدَ
رُوَاتِهِ - شَيْءٌ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَجَرِيرُ بْنُ
أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ اهـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَقُولُ:
وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ،
وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَيْسَ
فِي إِسْنَادِهِ مِمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى ضَعْفِهِ،
فَاخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ
أَصْلًا.
(4/1371)
1968 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «يُغْفَرُ لِأُمَّتِهِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فِي
رَمَضَانَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ
الْقَدْرِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا
يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ» ". رَوَاهُ
أَحْمَدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1968 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " يُغْفَرُ
لِأُمَّتِهِ ") أَيْ لِكُلِّ الصَّائِمِينَ مِنْهُمْ،
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا حِكَايَةُ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ
بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لَفْظُهُ،
أَيِ الَّذِي هُوَ يُغْفَرُ لِأُمَّتِي " فِي آخِرِ
لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ " وَالْمُرَادُ مَغْفِرَتُهُ
الْكَامِلَةُ وَرَحْمَتُهُ الشَّامِلَةُ فَلَا يُنَافِي
مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَوْسَطَهُ مَغْفِرَةٌ " «قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ:
لَا» " هَذَا بِظَاهِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اخْتَارَ أَنَّ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ،
إِذْ قَدْ تَكُونُ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ
تَأْوِيلُهُ بِأَنْ يُقَالَ: لَا، أَيْ لَيْسَ سَبَبُ
الْمَغْفِرَةِ كَوْنَهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بَلْ
سَبَبُهَا كَوْنُهَا آخِرَ لَيْلَةٍ وَيُمْكِنُ أَنْ
تَكُونَ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنْ تَكُونَ
غَيْرَهَا مِنْ بَقِيَّةِ لَيَالِي عَشْرٍ الْأَخِيرِ،
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ " وَلَكِنَّ " بِالتَّشْدِيدِ
وَيُخَفَّفُ " الْعَامِلَ " أَيْ وَلَكِنَّ سَبَبَهَا
أَنَّ الْعَامِلَ " إِنَّمَا يُوَفَّى " أَيْ يُعْطَى
وَافِيًا " أَجْرَهُ " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ
مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى
أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي
مُقَدَّرٌ أَيْ إِيَّاهُ " إِذَا قَضَى عَمَلَهُ " أَيْ
أَحْكَمَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ:
اسْتِدْرَاكٌ لِسُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ
كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ
لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِسَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَبَيَّنَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ سَبَبَهَا هُوَ
إِفْرَاغُ الْعَبْدِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي
كُلِّ عَمَلٍ اهـ وَالْأَظْهَرُ وَضْعُ الزَّمَانِ
مَوْضِعَ السَّبَبِ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ نَفْسَهَا
لَيْسَتْ سَبَبًا بَلْ هِيَ زَمَانُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ
سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَفَى قَضَى بِمَعْنَى فَرَغَ
مَجَازُ الْمُشَارَفَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَى
حِينَئِذٍ صَوْمَ الْيَوْمِ الْآتِي فَكَأَنَّهُ صَامَ،
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِآخِرِ لَيْلَةٍ فِي
رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْعِيدِ وَالنِّسْبَةُ بِأَدْنَى
مَلَابَسَةٍ كَمَا فِي عِيدِ رَمَضَانَ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
(4/1371)
|