مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح

 [كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

(4/1522)


[9]- كِتَابُ الدَّعَوَاتِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلِ
2223 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي إِلَى يَوْمِ الْقَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ أَقْصَرُ مِنْهُ) . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[9] كِتَابُ الدَّعَوَاتِ
جَمْعُ الدَّعْوَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَدْنَى بِالْقَوْلِ مِنَ الْأَعْلَى شَيْئًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِكَانَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الزُّهَّادِ، وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ إِلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ اسْتِسْلَامًا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ خَصَّ نَفْسَهُ فَلَا. وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَ بَاعِثًا لِلدُّعَاءِ اسْتُحِبَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2223 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» ) أَيْ: فِي حَقِّ مُخَالِفِي أُمَّتِهِ جَمِيعِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، (فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ) : أَيِ: اسْتَعْجَلَ فِي دَعْوَتِهِ، كَمَا أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ بِالْهَلَاكِ، حَتَّى غَرِقُوا بِالطُّوفَانِ، وَصَالِحًا دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ، حَتَّى هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُتَيَقَّنَةَ الْإِجَابَةِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ دَعَوَاتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى طَمَعِ الْإِجَابَةِ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ لِنَفْسِهِ، (وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي) : أَيِ: ادَّخَرْتُهَا وَجَعَلْتُهَا خَبِيئَةً مِنَ الِاخْتِبَاءِ، وَهُوَ الِاخْتِفَاءُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ؛ لِأَنِّي بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي) : أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، يَعْنِي: لِأَجْلِ أَنْ أَصْرِفَهَا لَهُمْ خَاصَّةً بَعْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي جِهَةِ الشَّفَاعَةِ أَوْ حَالَ كَوْنِهَا شَفَاعَةً (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: مُؤَخَّرَةً إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلشَّفَاعَةِ (فَهِيَ) : أَيِ: الشَّفَاعَةُ (نَائِلَةٌ) : أَيْ: وَاصِلَةٌ حَاصِلَةٌ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعَ حُصُولِهَا لَا مَحَالَةَ أَدَبًا وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ لِلتَّبَرُّكِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي الدُّنْيَا، لَا الْأَخْبَارُ الْكَائِنَةُ فِي الْعُقْبَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: (مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي) : إِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ خِلَافُهُ لَفْظِيٌّ، فَمَنْ نَوَى التَّعْلِيقَ فِي الْحَالِ كَفَرَ اتِّفَاقًا، أَوِ التَّبَرُّكَ الْمَحْضَ، أَوْ نَصًّا لِلْمَآلِ فَلَا اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْإِيهَامِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِنَائِلَةٍ، وَمِنْ بَيَانِ (مِنْ) وَقَوْلُهُ: (لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَاتَ (شَيْئًا) : أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوْ مِنَ الْإِشْرَاكِ. وَهِيَ أَقْسَامٌ: عَدَمُ دُخُولِ قَوْمٍ النَّارَ، وَتَخْفِيفُ لُبْثِهِمْ فِيهَا، وَتَعْجِيلُ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ فِيهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ أَقْصَرَ مِنْهُ) .

(4/1523)


2224 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2224 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا ": أَيْ: أَخَذْتُ مِنْكَ وَعْدًا أَوْ أَمَانًا (لَنْ تُخْلِفَنِيهِ) : مِنَ الْإِخْلَافِ؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، قِيلَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِنِّي طَلَبْتُ مِنْكَ حَاجَةً أَسْعِفْنِي بِهَا وَلَا تُخَيِّبْنِي فِيهَا، فَوَضَعَ الْعَهْدَ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَقْضِيَّةً، وَوَضَعَ لَنْ تُخْلِفَنِيهِ مَوْضِعَ لَا تُخَيِّبْنِي، وَقِيلَ: مَوْضِعُ الْعَهْدِ مَوْضِعُ الْوَعْدِ مُبَالَغَةً وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعْدٌ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْخُلْفُ

(4/1523)


كَالْعَهْدِ، وَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الْخُلْفَ لَا النَّقْضَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَهْدِ الْأَمَانَ أَيْ: أَسْأَلُكَ أَمَانًا لَنْ تَجْعَلَهُ خِلَافَ مَا أَتَرَقَّبُهُ وَأَرْتَجِيهِ، أَيْ: لَا تَرُدَّنِي بِهِ فَإِنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُرَدُّ، وَوَضَعَ الِاتِّخَاذَ مَوْضِعَ السُّؤَالِ تَحْقِيقًا لِلرَّجَاءِ بِأَنَّهُ حَاصِلٌ، أَوْ كَانَ مَوْعُودًا بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَحَلَّ الْمَسْئُولَ الْمَعْهُودَ مَحَلَّ الشَّيْءِ الْمَوْعُودِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخُلْفُ بِقَوْلِهِ: لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) : أَيْ: مِثْلُهُمْ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ تَمْهِيدًا لِمَعْذِرَتِهِ فِيمَا يَنْدُرُ عَنْهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ، فَإِنَّ الْغَضَبَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى ظَلُومِيَّةِ الْبَشَرِ وَجَهُولِيَّتِهِ اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ، لَا يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ: " «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ» " ثُمَّ يَطْلُبُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنَّهُ إِنْ صَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يَلِيقُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَنْ يُعَوِّضَ مِنْ خُصَمَائِهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرْبَةِ (فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ) : بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ، لِمَا كَانَ يَلْتَمِسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا (آذَيْتُهُ) : أَيْ: بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى (شَتَمْتُهُ) : بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: آذَيْتُهُ، وَلِذَا لَمْ يَعْطِفْ (لَعَنْتُهُ) : أَيْ: سَبَبْتُهُ (جَلَدْتُهُ) : أَيْ: ضَرَبْتُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ بِلَا تَنْسِيقٍ، وَقَابَلَهَا بِأَنْوَاعِ الْأَلْطَافِ مُتَنَاسِقَةً لِيَجْمَعَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ (فَاجْعَلْهَا) : أَيْ: تِلْكَ الْأَذِيَّةَ الَّتِي صَدَرَتْ بِمُقْتَضَى ضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ لَهُ أَيْ: لِمَنْ آذَيْتُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (صَلَاةً) أَيْ: رَحْمَةً وَتَلَطُّفًا وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَعَطُّفًا، تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، (وَزَكَاةً) : أَيْ: طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمَعَائِبِ، وَنَمَاءَ بِرْكَةٍ فِي الْأَعْمَالِ وَالْمَنَاقِبِ (وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ) : أَيْ: تَجْعَلُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مُقَرَّبًا (بِهَا) : أَيْ: لِتِلْكَ الْقُرْبَةِ، أَوْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَأُخْتَيْهَا (إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جُمْلَةُ تُقَرِّبُهُ بِهَا صِفَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأُخْتَيْهِ أَيْ: تُقَرِّبُهُ بِتِلْكَ الْأَذِيَّةِ، رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا مِنْ حُجْرَتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَجَذَبَتْ ذَيْلَهُ فَقَالَ لَهَا: " قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ " فَتَرَكَتْهُ، وَجَلَسَتْ فِي حُجْرَتِهَا مُغْضَبَةً ضَيِّقَةَ الصَّدْرِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا وَرَآهَا كَذَلِكَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا " إِلَخْ. تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، فَالسُّنَةُ لِمَنْ دَعَا عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ جَبْرًا لِفِعْلِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(4/1524)


2225 - وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَلِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا مُكْرِهَ لَهُ» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2225 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ» ": قِيلَ: مَنَعَ عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ شِئْتَ؛ لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي الْقَبُولِ، وَاللَّهُ تَعَالَى كَرِيمٌ لَا بُخْلَ عِنْدَهُ، فَلْيَسْتَيْقِنْ بِالْقَوْلِ، (وَلِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ) : أَيْ: لِيَطْلُبْ جَازِمًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ (إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَفْعُولًا لَهُ لِلْعَزْمِ أَيْ: لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، أَوْ مَفْعُولًا بِهِ لِلْمَسْأَلَةِ أَيْ لِيَجْزِمْ مَسْأَلَتَهُ فَعَلَ مَا شَاءَ اهـ. وَكَوْنُهُ مَفْعُولًا بِهِ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى فَتَأَمَّلْ (لَا مُكْرِهَ لَهُ) : أَيْ: لِلَّهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى فِعْلٍ أَرَادَ تَرْكَهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ مُوهِمٌ لِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ لِاسْتِعْظَامِهِ عَلَى الْفَاعِلِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

(4/1524)


2226 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2226 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ» ": أَيْ: مَثَلًا (وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ) : أَيْ: لِيَجْزِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ (وَلْيُعَظِّمْ) : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى (الرَّغْبَةَ) : أَيِ: الْمَيْلَ فِيهِ بِالْإِلْحَاحِ وَالْوَسَائِلِ. (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ) : يُقَالُ: تَعَاظَمَ زَيْدٌ هَذَا الْأَمْرَ أَيْ: كَبُرَ عَلَيْهِ وَعَسُرَ، أَيْ: لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ إِعْطَاءُ شَيْءٍ، بَلْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرِهِ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «لَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلٌّ مَسْأَلَتَهُ وَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(4/1524)


2227 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2227 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ ": أَيْ: بَعْدَ شُرُوطِ الْإِجَابَةِ " مَا ": ظَرْفُ يُسْتَجَابُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ أَيْ: مُدَّةَ كَوْنِهِ " لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ ": مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ قَدِّرْنِي عَلَى قَتْلِ فُلَانٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، أَوِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي الْخَمْرَ، أَوِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلَانٍ وَهُوَ مَاتَ كَافِرًا يَقِينًا، أَوِ اللَّهُمَّ خَلِّدْ فُلَانًا الْمُؤْمِنَ فِي النَّارِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ، كَرُؤْيَةِ اللَّهِ يَقَظَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فِي تَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِ وَالرُّؤْيَةِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ شَهِيرٌ فِي ذِي الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ مُصِرًّا، وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَطْلُبْهَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَرْدُودٌ، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا، وَطَلَبُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا، فَلَمَّا أَفَاقَ وَعَلِمَ بِاسْتِحَالَتِهِ شَرْعًا قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. أَيْ: بِأَنْ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: وَمِنْهُ أَخْفِ زَلَلَنَا عَنِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، نَعَمْ إِنْ قَصَدَ التَّوْفِيقَ لِلتَّوْبَةِ عَقِبَ الزَّلَّةِ حَتَّى لَا يَكْتُبَهَا الْمَلَكُ جَازَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَسَاكِرَ: «إِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَنْسَى اللَّهُ تَعَالَى الْحَفَظَةَ ذُنُوبَهُ، وَأَنْسَى ذَلِكَ جَوَارِحَهُ وَمَعَالِمَهُ مِنَ الْأَرْضِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ بِذَنْبٍ» ، وَمِنْهُ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْأُحَادِيُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، كَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ النَّارَ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا أَرَادَ مُطْلَقَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ عُمُومَ الْمَغْفِرَةِ لَهُ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُكَذِّبٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ جَهِلَ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ لَمْ يَظْلِمْهُ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَزْيَدَ مِمَّا ظَلَمَهُ، وَلَا يُنَافِيهِ قِصَّةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، حَيْثُ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَكْثَرَ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَمَعَ حِلِّهِ يَذْهَبُ أَجْرُهُ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: " «مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ» ". وَاخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَنَحْوِهِ فَقِيلَ: يُبَاحُ كَمَا قَالَ نُوحٌ: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح: 24] وَقَالَ مُوسَى: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، «وَدَعَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجَّ وَجْهَهُ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا فَكَانَ كَذَلِكَ» "، وَقِيلَ يُمْنَعُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مُتَمَرِّدٍ عَمَّ ظُلْمُهُ، وَالثَّانِي عَلَى غَيْرِهِ، وَأَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَافِرِ وَالثَّانِي عَلَى الْمُسْلِمِ.
" أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ": نَحْوَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ " مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ": قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ ذِكْرُ الْعَاطِفِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، لَكِنَّهُ تُرِكَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الْقَيْدَيْنِ أَيْ: يُسْتَجَابُ مَا لَمْ يَدَعْ، يُسْتَجَابُ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ) : أَيِ: الدَّاعِي (قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ) : أَيْ: مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى يَعْنِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، أَوْ طَلَبْتُ شَيْئًا وَطَلَبْتُ آخَرَ (فَلَمْ أَرَ) : أَيْ: فَلَمْ أَعْلَمْ أَوْ أَظُنَّ دُعَائِي وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُسْتَجَابَ بِتَقْدِيرِ أَنْ أَوْ بِدُونِ أَنْ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَرَ آثَارَ اسْتِجَابَةِ دُعَائِي " يُسْتَجَابُ لِي ": وَهُوَ إِمَّا اسْتِبْطَاءٌ أَوْ إِظْهَارُ يَأْسٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ بَيْنَ دُعَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَمَّا الْقُنُوطُ، فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، مَعَ أَنَّ الْإِجَابَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا تَحْصِيلُ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهَا: وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ، وَمِنْهَا: دَفْعُ شَرٍّ بَدَلَهُ، أَوْ إِعْطَاءُ خَيْرٍ آخَرَ خَيْرٍ مِنْ مَطْلُوبِهِ. وَمِنْهَا: ادِّخَارُهُ لِيَوْمٍ يَكُونُ أَحْوَجَ إِلَى ثَوَابِهِ، " فَيَسْتَحْسِرُ ": أَيْ: يَنْقَطِعُ وَيَمِيلُ وَيَفْتُرُ، اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَسَرَ إِذَا عَيِيَ وَتَعِبَ " عِنْدَ ذَلِكَ ": أَيْ: عِنْدَ رُؤْيَتِهِ عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَالَةِ " وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ": أَيْ: يَتْرُكُهُ مُطْلَقًا، أَوْ ذَلِكَ الدُّعَاءَ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَتَأْخِيرُ الْإِجَابَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ وَقْتُهُ ; لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتًا مُقَدَّرًا فِي الْأَزَلِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ فِي الْأَزَلِ قَبُولُ دُعَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَيُعْطَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ عِوَضَهُ، أَوْ يُؤَخَّرُ دُعَاؤُهُ لِيُلِحَّ وَيُبَالِغَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَعَلَّ عَدَمَ قَبُولِ دُعَائِهِ بِالْمَطْلُوبِ الْمُخَصَّصِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(4/1525)


2228 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2228 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ": أَيِ: الشَّخْصِ الشَّامِلِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ " لِأَخِيهِ ": أَيِ: الْمُؤْمِنِ " بِظَهْرِ الْغَيْبِ ": الظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: فِي غَيْبَةِ الْمَدْعُوِّ لَهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِقَلْبِهِ حِينَئِذٍ أَوْ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ " مُسْتَجَابَةٌ ": لِخُلُوصِ دُعَائِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَوْضِعُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ مُسْتَجَابَةٌ خَبَرٌ لَهَا " عِنْدَ رَأْسِهِ ": أَيِ: الدَّاعِي " مَلَكٌ " جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِجَابَةِ " مُوَكَّلٌ " أَيْ: بِالدُّعَاءِ لَهُ عِنْدَ دُعَائِهِ لِأَخِيهِ " كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ ": أَيْ: أَوْ دَفْعِ شَرٍّ " قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ ": أَيِ: اسْتَجِبْ لَهُ يَا رَبِّ دُعَاءَهُ لِأَخِيهِ فَقَوْلُهُ: " وَلَكَ ": فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ فِي حَقِّ أَخِيكَ وَلَكَ " بِمِثْلٍ ": بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحُكِيَ فَتْحُهُمَا فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ أَيْ: وَلَكَ مُشَابِهُ هَذَا الدُّعَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ كَمَا فِي: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، قِيلَ: كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِهَا، فَيَكُونَ أَعْوَنَ لِلِاسْتِجَابَةِ. قُلْتُ: لَكِنْ هَذَا بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لِمَا سَيَأْتِي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(4/1526)


2229 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ " فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2229 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَدْعُوا ": أَيْ: دُعَاءَ سُوءٍ " عَلَى أَنْفُسِكُمْ ": أَيْ: بِالْهَلَاكِ، وَمِثْلُهُ " «وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ» ": أَيْ: بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ، " «وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ» ": أَيْ: مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ " لَا تُوَافِقُوا ": نَهْيٌ لِلدَّاعِي، وَعِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ: لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا " مِنَ اللَّهِ سَاعَةً ": أَيْ: سَاعَةَ إِجَابَةٍ " يُسْأَلُ ": أَيِ: اللَّهُ " فِيهَا عَطَاءً ": بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِيُسْأَلَ، أَيْ: مَا يُعْطَى مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ " فَيَسْتَجِيبُ ": بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُسْأَلُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَسْتَجِيبُ " لَكُمْ ": أَيْ: فَتَنْدَمُوا بِخَطِّ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِالرَّفْعِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ: لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ فَتُسْتَجَابُ دَعْوَتُكُمُ السُّوءُ، وَفِي يُسْأَلُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ صِفَةُ سَاعَةٍ، وَكَذَا فَيَسْتَجِيبَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ جَوَابُ لَا تُوَافِقُوا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ النَّهْيِ مِنْ قَبِيلِ: لَا تَدْنُ مِنَ الْأَسَدِ فَيَأْكُلَكَ عَلَى مَذْهَبٍ أَيْ: مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَيْ: فَهُوَ يَسْتَجِيبُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اتَّقِ ": أَيِ: احْذَرْ " دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ": أَيْ: لَا تَظْلِمْ أَحَدًا بِأَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ظُلْمًا، أَوْ تَمْنَعَ أَحَدًا حَقَّهُ تَعَدِّيًا، أَوْ تَتَكَلَّمَ فِي عِرْضِهِ افْتِرَاءً حَتَّى لَا يَدْعُوَ عَلَيْكَ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: " فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ " أَيْ: إِذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ يَقْرُبُ مِنَ الْإِجَابَةِ (وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ) : لِكَوْنِهِ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُنَاكَ، فَأَسْقَطَهُ لِلتَّكْرَارِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ لَا لِكَوْنِ الْحَدِيثِ أَنْسَبَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، حَتَّى يَرِدَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(4/1526)


(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2230 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] » ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2230 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» أَيْ: هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، بِحَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ قَائِمًا بِوُجُوبِ الْعُبُودِيَّةِ، مُعْتَرِفًا بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، عَالِمًا بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، طَالِبًا لِمَدَدِ الْإِمْدَادِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، وَتَوْفِيقِ الْإِسْعَادِ. " ثُمَّ قَرَأَ ": {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] : قِيلَ: اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: اسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَيَكُونُ أَتَمَّ الْعِبَادَاتِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ " مُخُّ الْعِبَادَةِ " أَيْ: خَالِصُهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعُبُودِيَّةُ: إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ، وَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَايَةُ التَّذَلُّلِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ لَهُ غَايَةُ الْإِفْضَالِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْعِبَادَةُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ وَالِاسْتِكَانَةِ، وَمَا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِئِ، وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا بَعْدَ الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الِافْتِقَارِ وَالتَّذَلُّلِ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَوَضَعَ عِبَادَتِي مَوْضِعَ دُعَائِي، وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ الْهَوَانَ وَالصَّغَارَ. وَقَالَ مِيرَكُ: أَتَى بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، لِيَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ فِي أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ الدُّعَاءِ مُبَالَغَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُعْظَمُ الْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " أَيْ: مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، سَوَاءٌ اسْتُجِيبَ أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ؛ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالِاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِجَابَتِهِ، كَرِيمٌ لَا بُخْلَ لَهُ وَلَا فَقْرَ، وَلَا احْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْعِبَادَةُ بَلْ مُخُّهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ شَارِحٌ: الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ غَيْرَ الدُّعَاءِ مَقْلُوبٌ، وَصَوَابُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ غَيْرَ الْعِبَادَةِ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِطَرِيقِ الْحَصْرِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَإِتْيَانِ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ) : وَاللَّفْظُ لَهُ (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ.

(4/1527)


2231 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2231 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» ) : أَيْ: لُبُّهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ وُجُودِهَا. قِيلَ: مُخُّ الشَّيْءِ خَالِصُهُ وَمَا يَقُومُ بِهِ، كَمُخِّ الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ نَقِيُّهُ، وَمُخُّ الْعَيْنِ، وَمُخُّ الْعَظْمِ شَحْمُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالدُّعَاءِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْمُخِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(4/1527)


2232 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2232 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ شَيْءٌ ": أَيْ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْعِبَادَاتِ، فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] حَتَّى يُتَكَلَّفَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ، وَإِنْ كَانَ مَآلُ جَوَابِهِ إِلَى مَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَتَشَرَّفُ فِي بَابِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ هُنَا بَعْضُهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَبَعْضُهُ لَا يُطَابِقُ مَا نَحْنُ فِيهِ اهـ. وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَعَلَى عَدَمِ فَهْمِ كَلَامِهِ مَحْمُولٌ. " أَكْرَمَ ": خَبَرُ لَيْسَ " عَلَى اللَّهِ ":

(4/1527)


أَيْ: أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ " مِنَ الدُّعَاءِ " أَيْ: مِنْ حُسْنِ السُّؤَالِ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ، وَالِاعْتِرَافِ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَغِنَاهُ وَإِغْنَائِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَجَبْرِ كَسْرِ خَوَاطِرِ أَعْدَائِهِ، فَضْلًا عَنْ فُضَلَاءِ أَحْبَابِهِ وَأَوْلِيَائِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

(4/1528)


2233 - وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2233 - (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتُسَكَّنُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ» ": الْقَضَاءُ: هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَضَاءِ مَا يَخَافُهُ الْعَبْدُ مِنْ نُزُولِ الْمَكْرُوهِ بِهِ وَيَتَوَقَّاهُ، فَإِذَا وُفِّقَ لِلدُّعَاءِ دَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَسْمِيَتُهُ قَضَاءً مَجَازٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُتَوَقِّي عَنْهُ، يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّقْيِ: هُوَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالتَّدَاوِي وَالدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لِخَفَائِهِ عَلَى النَّاسِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ الشَّامَ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بِهَا طَاعُونًا رَجَعَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَتَفِرُّ مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ، أَوْ أَرَادَ بِرَدِّ الْقَضَاءِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ تَهْوِينَهُ وَتَيْسِيرَ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ. يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ كَالتُّرْسِ، وَالْبَلَاءُ كَالسَّهْمِ، وَالْقَضَاءُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَزَلِ " وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ": بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ " إِلَّا الْبِرُّ ": بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ. قِيلَ: يُزَادُ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وَقَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] .
وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهُ لَا يَطُولُ عُمْرُ إِنْسَانٍ وَلَا يَقْصُرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ إِنْ لَمْ يَحُجَّ فُلَانٌ أَوْ يَغْزُ فَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَإِنْ حَجَّ وَغَزَا فَعُمْرُهُ سِتُّونَ سَنَةً، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَبَلَغَ السِتِّينَ فَقَدْ عُمِّرَ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِهِ الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ وَهُوَ السِتُّونَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا بَرَّ لَا يَضِيعُ عُمْرُهُ فَكَأَنَّهُ زَادَ، وَقِيلَ: قَدَّرَ أَعْمَالَ الْبِرِّ سَبَبًا لِطُولِ الْعُمْرِ، كَمَا قَدَّرَ الدُّعَاءَ سَبَبًا لِرَدِّ الْبَلَاءِ، فَالدُّعَاءُ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُبَارِكُ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَيُيَسِّرُ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ، فَالزِّيَادَةُ مَجَازِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي الْآجَالِ الزِّيَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ اسْتَحَالَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَاسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ الْآجَالُ الَّتِي عَلَيْهَا عِلْمُ اللَّهِ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ وُكِّلَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ آجَالٍ مَحْدُودَةٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ أَوْ يُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُصُ مِنْهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَى مَا سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَعَلَى مَا ذُكِرَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] فَالْإِشَارَةُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا عِنْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ، وَبِالْأَجَلِ الثَّانِي إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَضَاءَ الْمُعَلَّقَ يَتَغَيَّرُ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ فَلَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ، وَفِي رِوَايَتَيْهِمَا: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُذْنِبُهُ» .

(4/1528)


2234 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2234 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ» ": أَيْ مِنْ بَلَاءٍ نَزَلَ بِالرَّفْعِ إِنْ كَانَ مُعَلَّقًا، وَبِالصَّبْرِ إِنْ كَانَ مُحْكَمًا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ فَيُصَبِّرُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يُرْضِيهِ بِهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي نُزُولِهِ مُتَمَنِّيًا خِلَافَ مَا كَانَ، بَلْ يَتَلَذَّذُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَلَذَّذُ أَهْلُ الدُّنْيَا بِالنَّعْمَاءِ " وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ " بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ وَيَدْفَعَهُ مِنْهُ، أَوْ يَمُدَّهُ قَبْلَ النُّزُولِ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَخِفُّ مَعَهُ أَعْبَاءُ ذَلِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا مَرَدَّ لَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ رَدُّ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِرَدِّ الْبَلَاءِ وَوُجُودِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ التُّرْسَ سَبَبٌ لِدَفْعِ السِّلَاحِ، وَالْمَاءَ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَمَا أَنَّ التُّرْسَ يَدْفَعُ السَّهْمَ فَيَتَدَافَعَانِ، كَذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالْبَلَاءُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَضَاءِ أَنْ لَا يَحْمِلَ السِّلَاحَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فَقَدَّرَ اللَّهُ الْأَمْرَ وَقَدَّرَ سَبَبَهُ وَفِي الدُّعَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ وَالِافْتِقَارِ، وَهُمَا نِهَايَةُ الْعِبَادَةِ وَغَايَةُ الْمَعْرِفَةِ " فَعَلَيْكُمْ ": أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الدُّعَاءِ فَالْزَمُوا عِبَادَ اللَّهِ: أَيْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ " بِالدُّعَاءِ ": لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

(4/1529)


2235 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2235 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

(4/1529)


2236 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
2237 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2236 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ» ": أَيْ: إِنْ جَرَى فِي الْأَزَلِ تَقْدِيرُ إِعْطَائِهِ مَا سَأَلَ. " أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ " أَيْ: دَفَعَ عَنْهُ مِنَ الْبَلَاءِ عِوَضًا مِمَّا مَنَعَ قَدْرَ مَسْئُولِهِ إِنْ لَمْ يَجْرِ التَّقْدِيرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَثَّلَ جَلْبَ النَّفْعِ بِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ؟ قُلْتُ: الْوَجْهُ مَا هُوَ السَّائِلُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ سُوءًا تَكُونُ الرَّاحَةُ فِي دَفْعِهِ بِقَدْرِ الرَّاحَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ لَوْ أُعْطِيَ ذَلِكَ الْمَسْئُولَ، فَالْمِثْلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الرَّاحَةِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ وَجَلْبِ هَذَا، ثُمَّ تَبَجَّحَ، وَقَالَ: وَمَنْ ذَكَرْتُهُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ أَوْضَحُ، بَلْ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ، قُلْتُ: إِطْلَاقُ الْأَصْوَبِيَّةِ خَطَأٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْمِثْلِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ دِينَارٌ مَثَلًا مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دِينَارًا زَائِدًا عَلَى مَا لَهُ، فَإِمَّا أَنَّهُ تَعَالَى يَزِيدُ مِنْ فَضْلِهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ السَّارِقَ، أَوِ الظَّالِمَ عَنْهُ حَتَّى لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الدِّينَارَ، وَالرَّاحَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ، مَعَ أَنَّ الرَّاحَةَ فِي دَفْعِ السُّوءِ مَجَازِيَّةٌ، وَلِذَا قِيلَ: الْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ. " مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ ": أَيْ: بِمَعْصِيَةٍ " أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ": تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2237 - وَهَّابٌ، مُعْطٍ، غَنِيٌّ، مُغْنٍ، بَاسِطٌ " يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ " أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَدْلِهِ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ ": أَيِ: ارْتِقَابُ ذَهَابِ الْبَلَاءِ وَالْحَزَنِ بِتَرْكِ الشِّكَايَةِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ فِي الْبَلَاءِ انْقِيَادٌ لِلْقَضَاءِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

(4/1529)


2238 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2238 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ": لِأَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ تَكَبُّرٌ وَاسْتِغْنَاءٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعُقُوبَةِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ:
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَبْغَضُهُ، وَالْمَبْغُوضُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» " وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ". وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ بِلِسَانِ الْحَالِ أَدْعَى إِلَى وُصُولِ الْكَمَالِ مِنْ بَيَانِ الْمَقَالِ، وَلِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.

(4/1530)


2239 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا - يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ - مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2239 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ» ": أَيْ بِأَنْ وُفِّقَ لِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ كَثِيرًا مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَحُصُولِ آدَابِهِ " فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا، وَعَلَى الثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي جَزَاءً لِلْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَلَامَةً لِلثَّانِي، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُجَابَ لِمَسْئُولِهِ تَارَةً، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِثْلُهُ مِنَ السُّوءِ أُخْرَى، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْإِجَابَةِ. وَفِي بَعْضِهَا: فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، أَيْ: نِعَمُهَا الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ. " وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا - يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ - " قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَحَبَّ إِلَيْهِ " تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِـ " يَعْنِي "، وَفِي الْحَقِيقَةِ صِفَةُ " شَيْئًا " ا. هـ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ (يَعْنِي) هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي كَلَامٍ تَامٍّ مُفِيدٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، أَوْ تَفْسِيرٍ فِي الْمَعْنَى، وَهُنَا لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِمَا بَعْدَهُ: وَهُوَ أَحَبَّ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا أَنَّ لَفْظَ (يَعْنِي) غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، كَالْحِصْنِ وَغَيْرِهِ، فَقِيلَ: " شَيْئًا " مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، " وَأَحَبَّ إِلَيْهِ " صِفَتُهُ وَأَنْ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ " مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مَا سُئِلَ اللَّهُ سُؤَالًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " شَيْئًا " مَفْعُولًا بِهِ أَيْ: مَا سُئِلَ اللَّهُ مَسْئُولًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَزِيدَ أَنْ يُسْأَلَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَسْئُولِ وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْأَحَبَّ إِلَيْهِ سُؤَالُ الْعَافِيَةِ لَا ذَاتُهَا، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.
وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّؤَالَ أَحَبُّ، فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلِافْتِقَارِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَظُهُورِ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْمِحَنَ وَالْبَلَايَا الظَّاهِرِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ، وَلَوْ كَانَتِ الْعَافِيَةُ نَفْسُهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ لَمَا خَلَقَ أَضْدَادَهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، فَأَقْحَمَ الْمُفَسِّرُ لَفْظَ أَنْ يُسْأَلَ اعْتِنَاءً اهـ. وَقَوْلُهُ: فَأَقْحَمَ الْمُفَسِّرُ، فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ يُسْأَلَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَغَايَةُ تَوْجِيهِهِ أَنَّ مَا بَعْدَ يَعْنِي يَكُونُ نَقْلًا بِالْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدَّمَ (يَعْنِي) عَلَى مَحَلِّهَا فَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ " شَيْئًا " وَصِفَتِهِ، وَالْأَصْلُ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ. يَعْنِي مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ، لِمَا يَصْلُحُ لِلتَّفْسِيرِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي خَبَرِهَا

(4/1530)


قُلْتُ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُنَاقَشَةِ فِي الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ) لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِدُونِهِ لَا يَتِمُّ وَلَا يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الشُّرَّاحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ الصِّحَّةُ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ الطِّيبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَافِيَةُ أَحَبَّ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ مِنَ الصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَةَ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَهِيَ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مَعَهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ أَمْ لَا.
قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: دَخَلَ عَلَيَّ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ، وَكَانَ بِهِ أَلَمٌ فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَيِّدِي فَسَكَتَ وَلَمْ يُجَاوِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: أَنَا مَا سَأَلْتُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، قَدْ سَأَلْتُهُ الْعَافِيَةَ، وَالَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ الْعَافِيَةُ، وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَافِيَةَ وَقَالَ: " «مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَالْآنَ قَطَعَتْ أَبْهَرِي» "، وَأَبُو بَكْرٍ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَسْمُومًا، وَعُمَرُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَطْعُونًا، وَعُثْمَانُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَذْبُوحًا، وَعَلِيٌّ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَقْتُولًا، فَإِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَكَ عَافِيَةٌ اهـ.
وَنُقِلَ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ مَتَى رَأَى وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْعَافِيَةُ دَفْعُ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ كَفَافٌ مِنَ الْقُوتِ، وَقُرَّةٌ لِلْبَدَنِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَاشْتِغَالٌ بِأَمْرِ الدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَرْكُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا كَلِمَةَ أَجْمَعُ لِذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْعَافِيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ الْعَبَّاسُ أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ اخْتَارَ لَفْظَهَا فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أُحِبُّكَ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(4/1531)


2240 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2240 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَرَّهُ ": أَيْ: أَعْجَبَهُ، وَفَرَّحَ قَلْبَهُ وَجَعَلَهُ مَسْرُورًا " أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ": جَمْعُ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ الْحَادِثَةُ الشَّاقَّةُ، وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةُ: وَالْكَرْبُ جَمْعُ الْكُرْبَةِ، وَهِيَ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ " فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ ": بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ فِي حَالَةِ السِّعَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ وَالْعَافِيَةِ. قِيلَ: مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الشَّاكِرِ الْحَازِمِ أَنْ يَرِيشَ لِلسَّهْمِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَلْتَجِئَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ مَسِّ الِاضْطِرَارِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْغَبِيِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

(4/1531)


2241 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2241 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ ": أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ " مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ ": أَيْ: كُونُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْإِجَابَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ، وَرِعَايَةِ شُرُوطِ الدُّعَاءِ كَحُضُورِ الْقَلْبِ، وَتَرَصُّدِ الْأَزْمِنَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْأَمْكِنَةِ الْمَنِيفَةِ، وَاغْتِنَامِ الْأَحْوَالِ اللَّطِيفَةِ، كَالسُّجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَكُونَ الْإِجَابَةُ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَغْلَبَ مِنَ الرَّدِّ، أَوْ أَرَادَ وَأَنْتُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُكُمْ لِسِعَةِ كَرَمِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، لِتَحَقُّقِ صِدْقِ الرَّجَاءِ وَخُلُوصِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ مَا لَمْ يَكُنْ رَجَاؤُهُ وَاثِقًا لَمْ يَكُنْ دُعَاؤُهُ صَادِقًا. " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً ": أَيْ غَالِبًا، أَوِ اسْتِجَابَةً كَامِلَةً " مِنْ قَلْبِ غَافِلٍ ": بِالْإِضَافَةِ، وَتَرْكِهَا، أَيْ: مُعْرِضٍ عَنِ اللَّهِ أَوْ عَمَّا سَأَلَهُ " لَاهٍ ": مِنَ اللَّهْوِ، أَيْ: لَاعَبٍ. مِمَّا سَأَلَهُ أَوْ مُشْتَغِلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عُمْدَةُ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَلِذَا خُصَّ بِالذِّكْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

(4/1531)


2242 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ يَسَارٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2242 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ": أَيْ: شَيْئًا مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ " فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ ": جَمْعُ الْكَفِّ أَيْ: مَعَ رَفْعِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. وَقِيلَ: لِلْمُصَاحَبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ هَيْئَةُ السَّائِلِ الطَّالِبِ الْمُنْتَظِرِ لِلْأَخْذِ فَيُرَاعَى مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ يَجْعَلُ ظَهْرَ الْكَفِّ فَوْقَ بَطْنِهَا تَفَاؤُلًا وَلِرِعَايَةِ صُورَةِ الدَّفْعِ اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ، سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ: " وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا ": قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشَارَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا بَلِيغًا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ إِبِطِهِ، وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ مُلْتَمِسًا أَنْ يَغْمُرَهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ.

(4/1532)


2243 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " «سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2243 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا» ": قَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالطَّلَبِ لِشَيْءٍ يَنَالُهُ أَنْ يَمُدَّ كَفَّهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَيَبْسُطَهَا مُتَضَرِّعًا لِيَمْلَأَهَا مِنْ عَطَائِهِ الْكَثِيرِ الْمُؤْذِنِ بِهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَيْهِ جَمِيعًا، أَمَّا مَنْ سَأَلَ رَفْعَ شَيْءٍ وَقَعَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ ظَهْرَ كَفَّيْهِ اتِّبَاعًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَحِكْمَتُهُ التَّفَاؤُلُ فِي الْأَوَّلِ بِحُصُولِ الْمَأْمُولِ، وَفِي الثَّانِي بِدَفْعِ الْمَحْذُورِ، وَعَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ حَيْثُ أَوَّلَ هَذَا بِمَا يُخَالِفُ كَلَامَ أَئِمَّتِهِ، وَتَفْصِيلَهُمُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ إِمْعَانِهِ النَّظَرَ فِي كَلَامِهِمْ اهـ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا مَخْصُوصَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، كَقَلْبِ الرِّدَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مُئَوَّلٌ أَيْضًا، وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ بِظُهُورِ الْأَصَابِعِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَلَا بِدْعَ مِنَ الْمُحَقِّقِ الْمُنْصِفِ أَنْ يَذْكُرَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَيَخْرُجَ عَنْ دَائِرَةِ التَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعَلِيلِ، فَلَا يُنَاسِبُ نِسْبَتَهُ وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ذُهُولِهِ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ نَادِرَةٍ إِلَى التَّجْهِيلِ. " فَإِذَا فَرَغْتُمْ ": أَيْ مِنَ الدُّعَاءِ " فَامْسَحُوا ": أَيْ: بِأَكُفِّكُمْ (وُجُوهَكُمْ) فَإِنَّهَا تَنْزِلُ عَلَيْهَا آثَارُ الرَّحْمَةِ فَتَصِلُ بَرَكَتُهَا إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَهُوَ، الْإِفَاضَةُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى تَفَاؤُلًا بِتَحَقُّقِ الْإِجَابَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا يُسَنُّ مَسْحُ الْوَجْهِ بِهِمَا ضَعِيفٌ، إِذْ ضَعْفُ حَدِيثِ الْمَسْحِ لَا يُؤَثِّرُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الضَّعِيفَ حُجَّةٌ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَزَرِيَّ عَدَّ فِي الْحِصْنِ مِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ مَسْحَ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: اسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَى السَّمَاءِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ وَصَحَّتْ بِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَنِ ادْعِي حَصْرَهَا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لِكَوْنِهَا مُثْبِتَةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْإِيصَالُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِغُ فِي رَفْعِ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا الِاسْتِسْقَاءَ اهـ. وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: مِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، نَعَمْ حَدِيثُ عُمَرَ الْآتِي صَرِيحٌ فِي الْمَدَّعَى، وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي كُلِّ دُعَاءٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَمِنْهَا: أَنَّ تَخْطِئَةَ قَائِلِ الْحَصْرِ مُجَازَفَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْإِفَادَةِ، كَيْفَ تُقَدَّمُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ أُصُولِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّفْعِ.

(4/1532)


2244 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2244 - (وَعَنْ سَلْمَانَ) : أَيِ الْفَارِسِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ ": فَعِيلٌ أَيْ: مُبَالِغٌ فِي الْحَيَاءِ، وَفُسِّرَ فِي حَقِّ اللَّهِ بِمَا هُوَ الْغَرَضُ وَالْغَايَةُ وَعَرْضُ الْحَيِيِّ مِنَ الشَّيْءِ تَرْكُهُ، وَالْإِبَاءُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَابُ وَيُذَمُّ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ غَايَتُهُ فِعْلُ مَا يَسُرُّ وَتَرْكُ مَا يَضُرُّ، أَوْ مَعْنَاهُ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَحْيِي. " كَرِيمٌ ": وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فَكَيْفَ بَعْدَهُ؟ " يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ " أَيِ: الْمُؤْمِنِ " إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ": بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: فَارِغَتَيْنِ خَالِيَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

(4/1533)


2245 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2245 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ) قِيلَ: حِكْمَةُ الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ أَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، وَمَهْبِطُ الرِّزْقِ، وَالْوَحْيِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْبَرَكَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِخَبَرٍ فِيهِ وَسَاقَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ لَهُ لِأَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ الرَّفْعِ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّجَهَ تَرْجِيحُ ابْنِ الْعِمَادِ سَنَّ الرَّفْعِ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ يَكْفِي لِلْغَزَالِيِّ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِيهَامُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَكَانًا وَجِهَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَاخِلِ الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا، ثُمَّ الْعَجِيبُ تَرْجِيحُ سَنِّ الرَّفْعِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي حَدِيثٍ. وَقَدْ عَدَّ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ: أَنْ لَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ مَحَلَّ سَنِّ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِنْ كَانَتَا ظَاهِرَتَيْنِ وَإِلَّا فَإِنَّ رَفْعَهُمَا بِلَا حَائِلٍ كُرِهَ أَوْ بِهِ فَلَا عَلَى الْأَوْجَهِ، وَهُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُنَاقَشَةِ التَّفْصِيلِيَّةِ خِلَافَ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " لَمْ يَحُطَّهُمَا ": أَيْ: لَمْ يَضَعْهُمَا " حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، فَكَأَنَّ كَفَّيْهِ قَدْ مُلِئَتَا مِنَ الْبَرَكَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِكَأَنَّ لَا يُلَائِمُ إِلَّا فِي حَقِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا التَّفَاؤُلُ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ فِي حَقِّهِ مِنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَنُزُولِ الْبَرَكَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(4/1533)


2246 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2246 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ» ": وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَغْرَاضَ الصَّالِحَةَ، أَوْ تَجْمَعُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآدَابَ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هِيَ مَا لَفْظُهُ قَلِيلٌ، وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ، شَامِلٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قِيلَ: مِثْلَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وَنَحْوَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَكَذَا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» ، وَنَحْوَ سُؤَالِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ. " وَيَدَعُ ": أَيْ يَتْرُكُ " مَا سِوَى ذَلِكَ ": أَيْ: مِمَّا لَا يَكُونُ جَامِعًا بِأَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِطَلَبِ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، كَارْزُقْنِي زَوْجَةً حَسَنَةً، فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى مِنْهُ ارْزُقْنِي الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ ; فَإِنَّهُ يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(4/1533)


2247 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2247 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً: تَمْيِيزٌ " دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ " لِخُلُوصِهِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

(4/1534)


2248 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: " «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لِي، وَقَالَ: أَشْرِكْنَا يَا أُخَيُّ فِي دُعَائِكَ وَلَا تَنْسَنَا " فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِيَ بِهَا الدُّنْيَا» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ " وَلَا تَنْسَنَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2248 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ) : أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي قَضَاءِ عُمْرَةٍ كَانَ نَذَرَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، (فَأَذِنَ لِي) : أَيْ: فِيهَا. (وَقَالَ: " أَشْرِكْنَا ": يَحْتَمِلُ نُونُ الْعَظَمَةِ وَأَنْ يُرِيدَ نَحْنُ وَأَتْبَاعَنَا (يَا أُخَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ تَلْطِيفٍ وَتَعَطُّفٍ لَا تَحْقِيرٍ، وَيُرْوَى بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ (فِي دُعَائِكَ) : فِيهِ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِمَّنْ عُرِفَ لَهُ الْهِدَايَةُ، وَحَثٌّ لِلْأُمَّةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِينَ، وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَخُصُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يُشَارِكُوا فِيهِ أَقَارِبَهُمْ وَأَحِبَّاءَهُمْ، لَا سِيَّمَا فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِ عُمَرَ، وَإِرْشَادٌ إِلَى مَا يَحْمِي دُعَاءَهُ مِنَ الرَّدِّ (وَلَا تَنْسَنَا) : تَأْكِيدٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى قَالَ: أَشْرِكْنَا التَّعْقِيبُ الْمُبَيَّنُ بِالْمُبَيِّنِ أَيْ قَالَ عُمَرُ: فَقَالَ: بِمَعْنَى تَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً) : وَهِيَ أَشْرِكْنَا، أَوْ يَا أُخَيُّ، أَوْ لَا تَنْسَنَا، أَوْ غَيْرُ مَا ذَكَرَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَوَقِّيًا عَنِ التَّفَاخُرِ، أَوْ نَحْوِهِ مِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ (مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا) : الْبَاءُ لِلْبَدَلِيَّةِ وَمَا نَافِيَةٌ وَإِنَّ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا فَاعِلُ يَسُرُّنِي، أَيْ: لَا يُعْجِبُنِي وَلَا يُفْرِحُنِي كَوْنُ جَمِيعِ الدُّنْيَا لِي بَدَلَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) : أَيِ التِّرْمِذِيِّ (عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا تَنْسَنَا) : وَلَعَلَّهُ نَسِيَ.

(4/1534)


2249 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2249 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ: أَيْ أَشْخَاصٍ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنَ الرِّجَالِ، وَذَكَرَهُمْ لِلْغَالِبِ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: قِيلَ: سُرْعَةُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ لِصَلَاحِ الدَّاعِي، أَوْ لِتَضَرُّعِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى: (الصَّائِمُ) أَيْ: مِنْهُمْ، أَوْ أَحَدُهُمُ الصَّائِمُ (حِينَ يُفْطِرُ) : لِأَنَّهُ بَعْدَ عِبَادَةٍ وَحَالِ تَضَرُّعٍ وَمَسْكَنَةٍ (وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ) : إِذْ عَدْلُ سَاعَةٍ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَاعَةً كَمَا فِي حَدِيثِ (وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) : كَانَ حَالٌ كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَيْ: يَرْفَعُهَا خَبَرًا لِقَوْلِهِ: وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَقَطَعَ هَذَا الْقَسَمَ عَنْ أَخَوَيْهِ لِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَلَوْ فَاجِرًا أَوْ كَافِرًا وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الرَّبُّ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَفْتَحُ فَإِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ ضَمِيرَ يَرْفَعُهَا لِلدَّعْوَةِ حِينَئِذٍ، لَا لِدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَإِنَّمَا بُولِغَ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَتْهُ نَارُ الظَّالِمِ وَاحْتَرَقَتْ أَحْشَاؤُهُ، خَرَجَ مِنْهُ الدُّعَاءُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِانْكِسَارِ، وَحَصَلَ لَهُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ، فَيُقْبَلُ دُعَاؤُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ، وَمَعْنَى (يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ) : أَيْ: تُجَاوِزُ الْغَمَامَ أَيِ: السَّحَابَ (وَيَفْتَحُ) : أَيِ اللَّهُ لَهَا) : أَيْ لِدَعْوَتِهِ (أَبْوَابَ السَّمَاءِ) : وَرُوِيَ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَالرَّفْعِ وَالْفَتْحِ كِنَايَتَانِ عَنْ سُرْعَةِ الْقَبُولِ وَالْحُصُولِ إِلَى الْوُصُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَرَفْعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ، وَفَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ لَهَا، مَجَازٌ عَلَى إِثَارَةِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَجَمْعِ الْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَى انْتِصَارِهِ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ وَإِنْزَالِ الْبَأْسِ

(4/1534)


عَلَيْهِ (وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ) بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ: أَيُّهَا الْمَظْلُومُ، وَبِكَسْرِهَا أَيْ: أَيَّتُهَا الدَّعْوَةُ. (وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) : وَالْحِينُ يُسْتَعْمَلُ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى لَا أُضَيِّعُ حَقَّكَ وَلَا أَرُدُّ دُعَاءَكَ، وَلَوْ مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ لِأَنِّي حَلِيمٌ لَا أُعَجِّلُ عُقُوبَةَ الْعِبَادِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ وَالذُّنُوبِ إِلَى إِرْضَاءِ الْخُصُومِ وَالتَّوْبَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ وَلَا يُهْمِلُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(4/1535)


2250 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2250 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مُسْتَجَابَاتٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ ثَلَاثَةٌ، وَفِي هَذَا ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي شَأْنِ الدَّاعِي، وَتَحَرِّيهِ فِي طَرِيقِ الِاسْتِجَابَةِ، وَمَا هِيَ مَنُوطَةٌ بِهِ مِنَ الصَّوْمِ وَالْعَدْلِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ وَالْمُسَافِرِ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ اهـ. وَهُوَ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَحِكْمَةٌ شَرِيفَةٌ وَصَلَتْ بَلَاغَتُهَا الْغَايَةَ، وَفَصَاحَتُهَا النِّهَايَةَ. وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ذَكَرَ هُنَا " ثَلَاثٌ " وَأَنَّثَهُ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ ثَمَّةَ عَلَى مُذَكَّرٍ، وَهُنَا عَلَى مُؤَنَّثٍ، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ فَرَّقَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ وَالتَّكَلُّفِ. قُلْتُ: أَمَّا الْخَفَاءُ فَكَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْبُلَغَاءِ وَالْفُصَحَاءِ، وَأَمَّا زَعْمُ أَنَّ الطِّيبِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثَةٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْدُودِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ إِمَامٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجَبَلٌ فِي حَلِّ الْعِبَارَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ، وَمَا يَضُرُّهُ عَدَمُ اشْتِهَارِهِ بِالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ (لَا شَكَّ فِيهِنَّ) : أَيْ فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ حَدِيثِ: لَا تُرَدُّ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِهِ لِالْتِجَاءِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ، (دَعْوَةُ الْوَالِدِ) : أَيْ لِوَلَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَالِدَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا أَكْثَرُ، فَدُعَاؤُهَا أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ، أَوْ لِأَنَّ دَعْوَتَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَجَابَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَرْحَمُهُ وَلَا تُرِيدُ بِدُعَائِهَا عَلَيْهِ وُقُوعَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَالِدَ كَذَلِكَ لَا يَدْعُو لَهُ عَلَى نَعْتِ الشَّفَقَةِ وَالرِّقَّةِ التَّامَّةِ، وَكَذَا دَعْوَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى نَعْتِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ إِسَاءَتِهِ عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْقَاسَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْوَالِدَةِ بِالْأَوْلَى، كَمَا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ: إِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ وَلَهُ ثُلُثَهُ لِأَنَّ مَا تُقَاسِيهِ مِنْ تَعَبِ الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ، فَوْقَ مَا يُقَاسِيهِ الْوَالِدُ مِنْ تَعَبِ تَحْصِيلِ مُؤْنَتِهِ وَكُسْوَتِهِ بِنَحْوِ الضَّعْفِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] حَيْثُ أَوْقَعَ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ أَعْنِي: (أَنِ اشْكُرْ لِي) ، وَالْمُفَسَّرِ أَعْنِي: (وَصَّيْنَا) ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّوْكِيدُ فِي الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّهِمَا خُصُوصًا فِي حَقِّ الْوَالِدَةِ، لِمَا تُكَابِدُ مِنْ مَشَاقِّ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعَةِ، وَلِأَنَّ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبِالشَّرِّ لِمَنْ آذَاهُ وَأَسَاءَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ لَا يَخْلُو مِنَ الرِّقَّةِ. (وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) : أَيْ: لِمَنْ يُعِينُهُ وَيَنْصُرُهُ أَوْ يُسَلِّيهِ وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

(4/1535)


الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2251 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2251 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ» ": مَفْعُولٌ ثَانٍ (كُلَّهَا) : تَأْكِيدٌ لَهَا أَيْ: جَمِيعَ مَقْصُودَاتِهِ إِشْعَارًا بِالِافْتِقَارِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ (حَتَّى يَسْأَلَ) : أَيِ: اللَّهَ وَفِي

(4/1535)


نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، حَتَّى يَسْأَلَ بِلَا ضَمِيرٍ (شِسْعَ نَعْلِهِ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: شِرَاكَهَا لَا إِذَا انْقَطَعَ: قَالَ الطِّيبِيُّ: الشِّسْعُ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ جِيءَ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَمَا بَعْدَهُ الْمُتَمِّمَاتُ.

(4/1536)


2252 - زَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ مُرْسَلًا: " «حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَهُ إِذَا انْقَطَعَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2252 - (زَادَ فِي رِوَايَةٍ) : حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَفِي رِوَايَةٍ، أَوْ يَقُولَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: (عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مُرْسَلًا) : أَيْ: مَرْفُوعًا بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ) : وَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يَسْأَلَهُ) : كَرَّرَهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى لَا مَنْعَ هُنَاكَ وَلَا رَدَّ لِلسَّائِلِ عَمَّا طَلَبَ، لِكَمَالِ تَلَطُّفِ الْمَسْئُولِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَأْمُولِ، حَتَّى لَا يَلْتَجِئَ الْعَبْدُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِدَ إِلَّا عَلَيْهِ (شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ) : فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى مَوْضِعِ الزَّائِدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(4/1536)


2253 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2253 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، لِئَلَّا يُوهِمَ رَجْعَ الضَّمِيرِ إِلَى ثَابِتٍ. (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ» ) : يَعْنِي: فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ (حَتَّى يَرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُبْصِرَ (بَيَاضَ إِبِطِهِ) : لَعَلَّ الْمُرَادَ: بَيَاضُ طَرَفَيْ إِبِطَيْهِ، وَلَا يُنَافِيهِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ: الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حُدُودَ مَنْكِبَيْكَ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ فِي الرَّفْعِ، أَوْ عَلَى أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّعَاءِ.

(4/1536)


2254 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ: " «كَانَ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ حِذَاءَ مِنْكِبَيْهِ، وَيَدْعُو» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2254 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : أَيِ: ابْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجَيِّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَانَ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ ": أَيْ: رُءُوسَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ مُرْتَفِعَةً (حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ) : دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْقَصْدِ وَالتَّوَسُّطِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمُبَالَغَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ. (وَيَدْعُو) : أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ.

(4/1536)


2255 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا دَعَا، رَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2255 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا دَعَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ» ) : عَطْفًا عَلَى دَعَا (مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جَوَابُ إِذَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَإِذَا ظَرْفٌ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَمْسَحْ، وَهُوَ قَيْدٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو كَثِيرًا، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ، وَبَعْدَ الْأَكْلِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، لَمْ يَمْسَحْ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا دَعَا وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لَمْ يَمْسَحْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ

(4/1536)


بِهِمَا فِي كُلِّ دُعَاءٍ، فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ أَصْلًا، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
(رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

(4/1537)


2256 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا.
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2256 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السُّؤَالِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ أَيْ: آدَابُهُمَا (أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا) : أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُمَا، لَكِنْ إِلَى مَا فَوْقَ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، (وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَدَبُ الِاسْتِغْفَارِ الْإِشَارَةُ بِالسَّبَّابَةِ سَبًّا لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَالشَّيْطَانِ، وَالتَّعَوُّذُ مِنْهُمَا، وَقَيَّدَهُ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِشَارَةُ بِأُصْبُعَيْنِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا يُشِيرُ بِهِمَا فَقَالَ لَهُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، (وَالِابْتِهَالُ) : أَيِ: التَّضَرُّعُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الدُّعَاءِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنِ النَّفْسِ، أَدَبُهُ (أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا) : أَيْ: حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْكَ. (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا) : تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ، وَتَفْسِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ) : أَيْ: رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا كُلِّيًّا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ الْإِبِطَيْنِ جَمِيعًا وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالِابْتِهَالِ دَفْعَ مَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْعَذَابِ، فَيَجْعَلُ يَدَيْهِ التُّرْسَ لِيَسْتُرَهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(4/1537)


2257 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَفْعَكُمْ أَيْدِيَكُمْ بِدْعَةٌ، مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا - يَعْنِي إِلَى الصَّدْرِ - (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2257 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَقُولُ: (إِنَّ رَفْعَكُمْ أَيْدِيَكُمْ) : أَيْ: مُبَالَغَتُكُمْ فِي الرَّفْعِ (بِدْعَةٌ، مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: غَالِبًا (عَلَى هَذَا - يَعْنِي) : أَيْ: يُرِيدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ (إِلَى الصَّدْرِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: تَفْسِيرٌ لِمَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ غَالِبَ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّعَاءِ، وَعَدَمَ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ الْحَالَاتِ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الصَّدْرِ لِأَمْرٍ، وَفَوْقَهُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَفَوْقَهُمَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا جَمْعٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، فَبَطَلَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَنَدَ فِي قَوْلِهِ: مَا زَادَ إِلَى عِلْمِهِ فَهُوَ نَافٍ، وَغَيْرُهُ أَثْبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّفْعَ إِلَى حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنَ تَارَةً وَإِلَى أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أُخْرَى، وَالْحُجَّةُ لِلْمُثْبِتِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ قَالَ مُتَبَجِّحًا بِكَلَامِهِ: وَقَرَّرَ شَارِحُ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ وَإِبْهَامٌ فَاجْتَنِبْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ، وَجَعَلَهُمَا مُقَابِلَ صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ.

(4/1537)


2258 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2258 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ) : عَطْفٌ عَلَى ذَكَرَ أَيْ: فَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ (بَدَأَ بِنَفْسِهِ) : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ أَحَدٌ، وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُبِلَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يُرَدُّ دُعَاؤُهُ لِغَيْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) .

(4/1537)


2259 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا " قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: " اللَّهُ أَكْثَرُ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2259 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ» ": أَيْ: مَعْصِيَةٌ قَاصِرَةٌ (وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ) : أَيْ: سَيِّئَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ (إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ

(4/1537)


(إِحْدَى ثَلَاثٍ) : أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ) أَيْ: بِخُصُوصِهَا، أَوْ مِنْ جِنْسِهَا فِي الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ أَرَادَهُ إِنْ قَدَّرَ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا (وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا) : أَيْ: تِلْكَ الْمَطْلُوبَةَ، أَوْ مِثْلَهَا، أَوْ أَحْسَنَ مِنْهَا، أَوْ ثَوَابَهَا وَبَدَّلَهَا لَهُ: أَيْ: لِلدَّاعِي فِي الْآخِرَةِ أَيْ: إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا (وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ) : أَيْ: يَدْفَعَ (عَنْهُ مِنَ السُّوءِ) : أَيْ: الْبَلَاءِ النَّازِلِ أَوْ غَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ بَدَنِهِ (مِثْلَهَا) : أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفَيَّةً إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الثَّوَابُ الْمُدَّخَرُ، وَإِمَّا دَفْعُ قَدْرِهَا مِنَ السُّوءِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدَّرْ يُدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلُهُ (قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (إِذَا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُخَيَّبُ الدَّاعِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ (نُكْثِرُ) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ فَوَائِدُهُ. أَقُولُ: كَانَ ظَاهِرُهُ النَّصْبَ، لَكِنْ ضُبِطَ بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُقَابَلَةِ مِنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّفْعِ إِرَادَةُ مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الْفِعْلِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إِذًا، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ: (نُكْثِرُ) أَيِ: الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ جَعَلَ الِاسْتِقْبَالَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِعْجَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِتَحْقِيقِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَا ذَكَرَهُ حَسَن حَلَبِي فِي حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ، أَنَّ الْحَالَ هُوَ أَجْزَاءٌ مِنْ أَوَاخِرِ الْمَاضِي، وَأَوَائِلِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَعْيِينُ مِقْدَارِ الْحَالِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَوْدِ بِحَسَبِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: زَيْدٌ يَأْكُلُ وَيَمْشِي وَيَحُجُّ وَيَكْتُبُ الْقُرْآنَ، وَيُعَدُّ كُلُّ ذَلِكَ حَالًا، وَلَا يُشَكُّ فِي اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا اهـ.
وَلَا يَخْفَى بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ حَالَ التَّكَلُّمِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُوجَدُ مُبَاشَرَةُ الدُّعَاءِ فَضْلًا عَنِ الْإِكْثَارِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُعْتَبَرَ نِيَّةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْفِعْلِ نَفْسِهِ. (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللَّهُ أَكْثَرُ) : بِالْمُثَلَّثَةِ فِي الْأَكْثَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ، فَمَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَكْثَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ، أَيْ: مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسِعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ، أَوِ اللَّهُ أَغْلَبُ فِي الْكَثْرَةِ يَعْنِي فَلَا تُعْجِزُونَهُ فِي الِاسْتِكْثَارِ، فَإِنَّ خَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ، وَعَطَايَاهُ لَا تَفْنَى. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي لِبَعْضِ الْمُوَافَقَةِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ: اللَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَعَطَاءً مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ، فَأَكْثِرُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُقَابِلُ أَدْعِيَتَكُمْ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَجَلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَبِمَا قَرَّرْتُهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِقَوْلِ الشَّارِحِ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِهَا أَكْثَرُ وَأَبْلَغُ مِنْ دُعَائِكُمْ فِي بَابِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِأَكْثَرِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ (نُكْثِرُ) اهـ. فَقَوْلِي: مِمَّا فِي نُفُوسِكُمُ انْدَفَعَ بِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ. قُلْتُ: فِيهِ إِيهَامَانِ لَا يُلَائِمَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي نُفُوسِهِمْ عَدَمَ إِكْثَارِ اللَّهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَكْثَرِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ، وَالْحَالُ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

(4/1538)


2260 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِرَ، وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ حَتَّى يَصْدُرَ، وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ حَتَّى يَقْعُدَ، وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ " ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً دَعْوَةُ الْأَخِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ» " (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2260 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ» " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِرَ ": أَيْ: إِلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنَ الظَّالِمِ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ، لِأَنَّهُ إِنِ انْتَقَمَ بِمِثْلِ حَقِّهِ شَرْعًا، فَقَدِ اسْتَوْفَى، أَوْ أَنْقَصَ فَوَاضِحٌ، أَوَّلًا بِمِثْلِهِ شَرْعًا أَوْ بِأَزْيَدَ صَارَ ظَالِمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: (حَتَّى) فِي الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ. بِمَعْنَى (إِلَى) كَقَوْلِكَ: سَرْتُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا قَبْلَهَا.

(4/1538)


(وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ) : أَيِ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ أَوِ الْأَصْغَرُ (حَتَّى يَصْدُرَ) : بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ: إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ، أَوْ يَنْصَرِفَ وَيَفْرُغَ عَنْ حَجِّهِ وَعَمَلِهِ، (وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ) : أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، (حَتَّى يَقْعُدَ) : بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْعَيْنِ. أَيْ: عَنِ الْجِهَادِ أَوِ الْمُجَاهَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: " يَفْقِدَ " مَا يَسْتَتِبُّ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَتِهِ، أَيْ: حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا اهـ. وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ أَيْ: تَهَيَّأَ وَاسْتَقَامَ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الثَّانِي، وَقَالَ: هُوَ مِنْ: فَقَدَ يَفْقِدُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ أَيْ: إِلَى أَنْ يَجِدَ أُهْبَةَ جِهَادِهِ لِفَرَاغِهَا، أَوْ سَرِقَتِهَا، أَوْ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ جِهَادِهِ اهـ.
فَحِينَئِذٍ الصَّحِيحُ الْآخَرُ ; إِذِ الْأَوَّلَانِ لَا يَمْنَعَانِ الْإِجَابَةَ، بَلْ يُقَوِّيَانِهَا، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ الْمِشْكَاةِ: حَتَّى يَقْفُلَ بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ بِمَعْنَى: يَرْجِعَ، وَمِنْهُ الْقَافِلَةُ تَفَاؤُلًا، وَرَمَزَ عَلَيْهِ بِالظَّاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّاهِرِ، سِيَّمَا وَالرِّوَايَتَانِ ثَابِتَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا ظَاهِرَانِ (وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ) : أَيْ: يَتَعَافَى أَوْ يَمُوتَ (وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : أَيْ: فِي غَيْبَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَلْقَاهُ (ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً دَعْوَةُ الْأَخِ) : أَيْ: لِأَخِيهِ (بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : لِدَلَالَتِهَا عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَصَفَاءِ الطَّوِيَّةِ، وَالْبَقِيَّةُ لَا تَخْلُو دَعْوَتُهُمْ عَنْ حُظُوظِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَأَغْرَاضِهِمُ الطَّبِيعِيَّةِ، وَلِذَا وَرَدَ: إِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

(4/1539)