مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4576 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا طِيَرَةَ،
وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ " قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ:
(الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ) » .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ
الْفَأْلُ: بِالْهَمْزِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ
بِالْإِبْدَالِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَأْلُ مَهْمُوزٌ
فِيمَا يَسُرُّ وَيَسُوءُ، وَالطِّيَرَةُ بِكَسْرِ
الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَقَدْ تَسْكُنُ لَا تَكُونُ
إِلَّا فِيمَا يَسُوءُ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا
يَسُرُّ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيَرَةِ
كَأَنْ يَسْمَعَ مَرِيضٌ يَا سَالِمُ، أَوْ طَالِبٌ يَا
وَاجِدُ، أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،
وَالطِّيَرَةُ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ
الرَّدِيءِ. قُلْتُ: الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ
أَنَّ الْفَأْلَ مُخْتَصٌّ بِالْخَيْرِ، وَقَدْ
يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَالطِّيَرَةُ لَا
تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ فَهُمَا ضِدَّانِ فِي
أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ النِّهَايَةِ أَنَّ
الْفَأْلَ أَعَمٌّ مِنَ الطِّيَرَةِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ،
وَمُتَرَادِفَانِ فِي بَعْضِ الِاسْتِعْمَالِ،
وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الطِّيَرَةَ
أَعَمٌّ مِنَ الْفَأْلِ، مِنْهَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي: "
«لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ» " وَمِمَّا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهَا أَعَمُّ أَيْضًا مَأْخَذُ اشْتِقَاقِهِ
مِنْ أَنَّ الطِّيَرَةَ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ، يُقَالُ:
تَطَيَّرَ طِيَرَةً وَتَخَيَّرَ خِيَرَةً، وَلَمْ يَجِئْ
مِنَ الْمَصَادِرِ، هَكَذَا غَيْرُهُمَا، وَأَصْلُهُ
فِيمَا يُقَالُ: التَّطَيُّرُ بِالسَّوَانِحِ
وَالْبَوَارِحِ مِنَ الطَّيْرِ وَالظِّبَاءِ
وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ
مَقَاصِدِهِمْ، فَنَفَاهُ الشَّرْعُ وَأَبْطَلَهُ
وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
تَأْثِيرٌ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، كَذَا
ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ.
وَقَالَ شَارِحٌ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالطِّيَرَةِ
وَهِيَ التَّفَاؤُلُ بِالطَّيْرِ وَالتَّشَاؤُمُ بِهَا،
قَالُوا يَجْعَلُونَ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ تَارَةً
بِالْأَسْمَاءِ، وَتَارَةً بِالْأَصْوَاتِ، وَتَارَةً
بِالسُّفُوحِ وَالْبُرُوحُ، وَكَانُوا يُهَيِّجُونَهَا
مِنْ أَمَاكِنِهَا لِذَلِكَ، ثُمَّ الْبَارِحُ هُوَ
الصَّيْدُ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى مَيَامِنِكَ إِلَى
مَيَاسِرِكَ، وَالسَّانِحُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا
ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّحْقِيقِ
وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ:
الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ يُفْهَمُ مِمَّا
رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: " «لَا عَدْوَى
وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ " قَالُوا: وَمَا
الْفَأْلُ؟ قَالَ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» قُلْتُ: وَمَا
أَحْسَنَ هَذَا الْمَقَالَ حَيْثُ نَفَى الطِّيَرَةَ
بِعُمُومِهَا، وَاخْتَارَ فَرْدًا خَاصًّا مِنْ أَحَدِ
نَوْعَيْهَا وَهِيَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4576 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
(لَا طِيَرَةَ) أَيْ لَا عِبْرَةَ بِالتَّطَيُّرِ
تَشَاؤُمًا وَتَفَاؤُلًا (وَخَيْرُهَا) : أَيْ خَيْرُ
أَنْوَاعِ الطِّيَرَةِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الْأَعَمِّ مِنَ الْمَأْخَذِ الْأَصْلِيِّ. (الْفَأْلُ) :
أَيِ الْفَأْلُ الْحَسَنُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ لَا
الْمَأْخُوذُ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَلَعَلَّ شَارِحًا
أَرَادَ دَفْعَ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: أَيِ
الْفَأْلُ خَيْرٌ مِنَ الطِّيَرَةِ اهـ.
(7/2892)
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَأْلَ مَحْضُ
خَيْرٍ، كَمَا أَنَّ الطِّيَرَةَ مَحْضُ شَرٍّ،
فَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ الْعَسَلِ أَحْلَى مِنَ
الْخَلِّ، وَالشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنَ الصَّيْفِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ رَاجِعٌ إِلَى
الطِّيَرَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهَا
فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] أَوْ هَذَا
مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ
قَوْلِهِمْ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ أَيِ
الْفَأْلُ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنَ الطِّيَرَةِ فِي
بَابِهَا. (قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ) ؟ وَإِنَّمَا نَشَأَ
هَذَا السُّؤَالُ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ عُمُومِ
الطِّيَرَةِ الشَّامِلِ لِلتَّشَاؤُمِ وَالتَّفَاؤُلِ
الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (قَالَ) : إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّهُ فَرْدٌ خَاصٌّ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ
الْعَامِّ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأَنَامِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ) : أَيِ الطِّيبَةُ
الصَّالِحَةُ، لِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا الْفَأْلُ
الْحَسَنُ (يَسْمَعُهَا) : أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ
(أَحَدُكُمْ) . أَيْ عَلَى قَصْدِ التَّفَاؤُلِ كَطَالِبِ
ضَالَّةٍ يَا وَاجِدٌ، وَكَتَاجِرٍ يَا رَزَاقٌ،
وَكَمُسَافِرٍ يَا سَالِمٌ، وَكَخَارِجٍ لِحَاجَةٍ يَا
نَجِيحٌ، وَكَغَازٍ يَا مَنْصُورٌ، وَكَحَاجٍّ يَا
مَبْرُورٌ، وَكَزَائِرٍ يَا مَقْبُولٌ، وَأَمْثَالُ
ذَلِكَ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى التَّرَخُّصِ فِي الْفَأْلِ
وَالْمَنْعِ مِنَ الطِّيَرَةِ، هُوَ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ
رَأَى شَيْئًا وَظَنَّهُ حَسَنًا وَحَرَّضَهُ عَلَى طَلَبِ
حَاجَتِهِ، فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَى مَا
بَعْدَهُ مَشْؤُمًا وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى
حَاجَتِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُهُ، بَلْ يَمْضِي
لِسَبِيلِهِ، فَإِذَا قَبَلَ وَانْتَهَى عَنِ الْمُضِيِّ
فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ فَهُوَ الطِّيَرَةُ لِأَنَّهَا
اخْتَصَّتْ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الشُّؤْمِ. قَالَ
تَعَالَى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] أَيْ:
تَشَاءَمْنَا. وَقَالَ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19]
أَيْ: سَبَبُ شُؤْمِكُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
(7/2893)
4577 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا
عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ،
وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ»
. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4577 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا عَدْوَى) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ. وَفِي
الْقَامُوسِ: إِنَّهُ الْفَسَادُ، وَقَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ: الْعَدْوَى هُنَا مُجَاوَزَةُ
الْعِلَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ:
أَعْدَى فُلَانٌ فُلَانًا مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ مِنْ
غُرَّتِهِ. وَذَلِكَ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ
الْمُتَطَبِّبَةُ فِي عِلَلٍ سَبْعٍ: الْجُذَامُ،
وَالْجَرَبُ، وَالْجُدَرِيُّ، وَالْحَصْبَةُ، وَالْبَخْرُ،
وَالرَّمَدُ، وَالْأَمْرَاضُ الْوَبَائِيَّةُ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ
عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ
وَالْقَرَائِنُ الْمَنْسُوقَةِ عَلَى الْعَدْوَى، وَهُمُ
الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَمْ
يُرِدْ إِبْطَالَهَا، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ
مِنَ الْأَسَدِ» ". وَقَالَ: " «لَا يُورِدَنَّ ذُو
عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ» " وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ
نَفْيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ،
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعِلَلَ الْمُعْدِيَةَ
مُؤَثِّرَةً لَا مَحَالَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ بِقَوْلِهِ
هَذَا أَنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُونَ،
بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ إِنْ شَاءَ كَانَ،
وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا
الْمَعْنَى قَوْلُهُ: " «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» ".
أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ
الْعَدْوَى لَا غَيْرَ، فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟
وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: " «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ» "
وَبِقَوْلِهِ ( «لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى
مُصِحٍّ» ) أَنَّ مُدَانَاةَ ذَلِكَ يُسَبِّبُ الْعِلَّةَ،
فَلْيَتَّقِهِ اتِّقَاءَهُ مِنَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ
وَالسَّفِينَةِ الْمَعْيُوبَةِ. وَقَدْ رَدَّ: الْفِرْقَةُ
الْأَوْلَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ
بِالْحَدِيثِينَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا إِنَّمَا جَاءَ
شَفَقًا عَلَى مُبَاشَرَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ،
فَتُصِيبُهُ عِلَّةٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَاهَةٌ فِي
إِبِلِهِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَدْوَى حَقٌّ.
قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ
النُّخْبَةِ، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فِي شَرْحِ
الشَّرْحِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ
اجْتِنَابَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنِ الْمَجْذُومِ
عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَايَعَةِ، مَعَ أَنَّ مَنْصِبَ
النُّبُوَّةِ بَعِيدٌ مِنْ أَنْ يُورِدَ - لِحَسْمِ
مَادَّةِ ظَنِّ الْعَدْوَى - كَلَامًا يَكُونُ مَادَّةً
لِظَنِّهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّجَنُّبِ
أَظْهَرُ مِنْ فَتْحِ مَادَّةٍ فِي ظَنِّ الْعَدْوَى لَهَا
تَأْثِيرٌ بِالطَّبْعِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا
دَلَالَةَ أَصْلًا عَلَى نَفْيِ الْعَدْوَى مُبَيَّنًا
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَرَى الْقَوْلَ
الثَّانِيَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ
التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ،
ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يُفْضِي إِلَى
تَعَطُّلِ الْأُصُولِ الطِّبِّيَّةِ، وَلَمْ يَرِدِ
الشَّرْعُ بِتَعْطِيلِهَا، بَلْ وَرَدَ بِإِثْبَاتِهَا
وَالْعِبْرَةُ بِهَا عَلَى
(7/2893)
الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا
اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَرَائِنِ الْمَنْسُوقَةِ
عَلَيْهَا، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا الشَّارِعَ يَجْمَعُ
فِي النَّهْيِ بَيْنَ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَبَيْنَ مَا هُوَ
مَكْرُوهٌ، وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعْنًى،
وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ،
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْذُومِ الْمُبَايِعِ:
" «قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» " فِي حَدِيثِ الشَّرِيدِ
بْنِ سُوِيدٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ بَعْدُ،
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِلْمَجْذُومِ الَّذِي أَخَذَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا مَعَهُ
فِي الْقَصْعَةِ: " «كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا
عَلَيْهِ» " وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ
هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ:
بَيَّنَ بِالْأَوَّلِ التَّوَقِّيَ مِنْ أَسْبَابِ
التَّلَفِ، وَبِالثَّانِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ فِي مُتَارَكَةِ
الْأَسْبَابِ وَهُوَ حَالُهُ اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ
فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ
التَّوْفِيقِ.
(وَلَا طِيَرَةَ) : نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]
عَلَى وَجْهٍ (وَلَا هَامَةَ) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فِي
الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ،
وَهِيَ اسْمُ طَيْرٍ يَتَشَاءَمُ بِهِ النَّاسُ وَهِيَ
الصَّدَى، وَهُوَ طَيْرٌ كَبِيرٌ يَضْعُفُ بَصَرُهُ
بِالنَّهَارِ، وَيَطِيرُ بِاللَّيْلِ، وَيُصَوِّتُ
وَيَسْكُنُ الْخَرَابَ، وَيُقَالُ لَهُ: بُومٌ، وَقِيلَ:
كَوْفٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ
الْمَيِّتِ إِذَا بَلِيَتْ وَعَدِمَتْ تَصِيرُ هَامَةً،
وَتَخْرُجُ مِنَ الْقَبْرِ وَتَتَرَدَّدُ وَتَأْتِي
بِأَخْبَارِ أَهْلِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ
رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ
هَامَةً فَتَقُولُ: اسْقُونِي اسْقُونِي، فَإِنْ أُدْرِكَ
بِثَأْرِهِ طَارَتْ، فَأَبْطَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - هَذَا الِاعْتِقَادَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي
سُنَنِهِ، قَالَ بَقِيَّةُ: سَأَلْتُ ابْنَ رَاشِدٍ عَنْ
قَوْلِهِ: " لَا هَامَةَ " فَقَالَ: كَانَ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ
فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا وَفِيهَا
تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ
تَتَشَاءَمُ بِهَا وَهِيَ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ:
هِيَ الْبُومَةُ. قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى
دَارِ أَحَدِهِمْ يَرَاهَا نَاعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ أَوْ
بَعْضَ أَهْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
وَثَانِيهُمَا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ
الْمَيِّتِ، وَقِيلَ رُوحُهُ تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيرُ،
وَهَذَا تَفْسِيرُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
النَّوْعَيْنِ مَعًا، فَإِنَّهُمَا بَاطِلَانِ. (وَلَا
صَفَرَ) قَالَ شَارِحٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُ حَيَّةٌ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّدْغُ الَّذِي
يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ جُوعِهِ مِنْ عَضِّهِ. قَالَ
أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ بَقَيَّةُ: سَأَلْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ عَنْهُ؟ قَالَ: كَانُوا
يَتَشَاءَمُونَ بِدُخُولِ صَفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَفَرَ» "
قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَجْهٌ يَأْخُذُ فِي
الْبَطْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعْدِي. قَالَ أَبُو
دَاوُدَ، وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ
يُحِلُّونَ صَفَرًا عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا،
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا
صَفَرَ» ".
قَالَ النَّوَوِيُّ، قِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ
أَنَّ فِي الْبَطْنِ دَابَّةً تَهِيجُ عِنْدَ الْجُوعِ،
وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبَهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ
تَرَاهَا أَعْدَى مِنَ الْحَرْبِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ
هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ
عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ،
فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ الْجَمْعُ
بَيْنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا
سَبَقَ نَظِيرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ نَفْيًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ شَهْرَ صَفَرَ
تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَاهِي وَالْفِتَنُ. (وَفِرَّ) :
بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ
وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ: اشْرُدْ وَبَالِغْ فِي
الِاجْتِنَابِ وَالِاحْتِرَازِ (مِنَ الْمَجْذُومِ) : أَيِ
الَّذِي بِهِ جُذَامٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ تَشَقُّقُ
الْجِلْدِ، وَتَقَطُّعُ اللَّحْمِ وَتَسَاقُطُهُ،
وَالْفِعْلُ مِنْهُ جُذِمَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ،
(كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
هَذَا رُخْصَةٌ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَرْكُهُ جَائِزٌ
لِلْأَقْوِيَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُذَامَ مِنَ
الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فَيُعْدِي بِإِذْنِ اللَّهِ،
فَيَحْصُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَمَعْنَى لَا عَدْوَى نَفْيُ
مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي
بِطَبْعِهِ لَا بِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَعَلَّ
تَخْصِيصَ الْمَجْذُومِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ
الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ
عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِنْ كَانَ
شَيْءٌ مِنَ الدَّاءِ يُعْدِي فَهُوَ هَذَا " يَعْنِي
الْجُذَامَ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ
بِكَمَالِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلَهُ: ( «لَا عَدْوَى وَلَا
صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ.
(7/2894)
4578 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا
عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ " فَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا بَالُ الْإِبِلِ
تَكُونُ فِي الرَّمْلِ لَكَأَنَّهَا الظِّبَاءُ
فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجَرِّبُهَا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4578 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ
وَلَا صَفَرَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فَمَا بَالُ الْإِبِلِ) : أَيْ مَا شَأْنُ جَمَاعَةٍ
مِنْهَا (تَكُونُ فِي الرَّمْلِ) : هُوَ خَبَرُ تَكُونُ،
وَقَوْلُهُ: (لَكَأَنَّهَا) : أَيِ الْإِبِلُ (الظِّبَاءُ)
: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الظَّبْيِ حَالٌ مِنَ
الْمُسْتَكِنِ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى
النَّقَاوَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي التُّرَابِ
رُبَّمَا يُلْصَقُ بِهِ شَيْءٌ (فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ
الْأَجْرَبُ) : أَيِ الَّذِي فِيهِ جَرَبٌ وَحَكَّةٌ
(فَيُجَرِّبُهَا) ؟ مِنَ الْإِجْرَابِ أَيْ يَجْعَلُهَا
جَرِبَةً بِإِعْدَائِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ أَعْدَى
الْأَوَّلَ) ؟ أَيْ إِنْ كَانَ جَرَبُهَا حَصَلَ
بِالْإِعْدَاءِ فَمَنْ أَعْدَى الْبَعِيرَ الْأَوَّلَ؟
وَالْمَعْنَى مَنْ أَوْصَلَ الْجَرَبَ إِلَيْهِ يَبْنِي
بِنَاءَ الْإِعْدَاءِ عَلَيْهِ: بَلِ الْكُلُّ بِقَضَائِهِ
وَقَدَرِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَتَى بِمَنْ، وَالظَّاهِرُ أَنْ
يُقَالَ: فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ ; لِيُجَابَ
بِقَوْلِهِ: اللَّهُ تَعَالَى أَيِ اللَّهُ أَعْدَى لَا
غَيْرُهُ، وَذَكَرَ أَعْدَى لِلْمُشَاكَلَةِ
وَالِازْدِوَاجِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: " كَمَا تَدِينُ
تُدَانُ " يَعْنِي، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ:
فَمَنْ أَعْطَى تِلْكَ الْعِلَّةَ؟ (رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ أَنَّ قَوْلَهُ:
(فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ.
(7/2895)
4579 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا
عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ» ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4579 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ
وَلَا نَوْءَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: طُلُوعُ نَجْمٍ
وَغُرُوبُ مَا يُقَابِلُهُ. أَحَدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ
وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ
أَنَّهُ لَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ
يَنْسُبُونَهُ إِلَى الطَّالِعِ أَوِ الْغَارِبِ، فَنَفَى
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِحَّةَ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَارِحٌ: النَّوْءُ سُقُوطُ نَجْمٍ مِنْ مَنَازِلِ
الْقَمَرِ مَعَ طُلُوعِ الصُّبْحِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ
وَعِشْرُونَ نَجْمًا يَسْقُطُ فِي كُلِّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً نَجْمٌ مِنْهَا فِي الْمَغْرِبِ مَعَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، وَيَطْلُعُ آخَرُ مُقَابِلُهُ فِي الْمَشْرِقِ
مِنْ سَاعَتِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الْأَنْوَاءُ مَنَازِلُ
الْقَمَرِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَ
كُلِّ نَوْءٍ مَطَرًا وَيَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ
فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَإِنَّمَا
سُمِّيَ نَوْءًا لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقِطُ
مِنْهَا بِالْمَغْرِبِ، فَالطَّالِعُ بِالْمَشْرِقِ
يَنُوءُ نَوْءًا أَيْ يَنْهَضُ وَيَطْلَعُ، وَقِيلَ:
أَرَادَ بِالنَّوْءِ الْغُرُوبَ، وَهُوَ مِنَ
الْأَضْدَادِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يُسْمَعْ فِي النَّوْءِ
أَنَّهُ السُّقُوطُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،
وَإِنَّمَا غَلَّظَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ لِأَنَّ الْعَرَبَ
كَانَتْ تَنْسُبُ الْمَطَرَ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ
جَعَلَ الْمَطَرَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا أَيْ فِي وَقْتِ
كَذَا، وَهُوَ هَذَا النَّوْءُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّ
ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى
الْعَادَةَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَطَرُ فِي هَذِهِ
الْأَوْقَاتِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ
النَّهْيَ عَلَى إِطْلَاقِهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ فَسَادِ
الِاعْتِقَادِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى
جَوَازِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَقُولُوا: مُطِرْنَا
بِنَوْءِ كَذَا، بَلْ قُولُوا: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ
تَعَالَى. (وَلَا صَفَرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(7/2895)
4580 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا عَدْوَى وَلَا
صَفَرَ وَلَا غُولَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4580 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يَقُولُ: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ) .
بِالضَّمِّ قَالَ شَارِحٌ: الْغَوْلُ بِالْفَتْحِ
الْمَصْدَرُ وَمَعْنَاهُ الْبُعْدُ وَالْأِهْلَاكُ،
وَبِضَمِّ الْغَيْنِ الِاسْمُ مِنْهُ وَهُوَ مِنَ
السَّعَالِي، وَفِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الْغُولَ أَحَدُ
الْغِيلَانِ وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ،
كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغُولَ فِي الْفَلَاةِ
تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ أَيْ: فَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا أَيْ
تَتَلَوَّنُ فِي صُوَرٍ شَتَّى، وَتَغُولُهُمْ أَيْ
تُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ وَتُهْلِكُهُمْ، فَنَفَاهُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ
قَوْلُهُ: " لَا غُولَ " لَيْسَ نَفْيًا لِعَيْنِ الْغُولِ
وَوُجُودِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إِبْطَالُ زَعْمِ الْعَرَبِ
فِي تَلَوُّنِهِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَاغْتِيَالِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لَا
غُولَ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضِلَّ أَحَدًا،
وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: " لَا غُولَ
وَلَكِنَّ السَّعَالِي " وَالسَّعَالِي سَحَرَةُ الْجِنِّ
أَيْ: وَلَكِنْ فِي الْجِنَّةِ سَحَرَةٌ لَهُمْ تَلْبِيسٌ
وَتَخَيُّلٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «إِذَا تَغَوَّلَتِ
الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ» " أَيِ ادْفَعُوا
شَرَّهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى ثُبُوتِهَا لَا عَدَمِهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي
أَيُّوبَ: كَانَ لِي ثَمَرَةٌ فِي سَهْوَةٍ، فَكَانَتِ
الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْخُذُهُ، وَفِي شَرْحِ
التُّورِبِشْتِيِّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ
الْغُولَ قَدْ كَانَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْ عِبَادِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هَذَا لَيْسَ
بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ
بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَنَظِيرُهُ مَنْعُ الشَّيَاطِينَ مِنِ اسْتِرَاقِ
السَّمْعِ بِالشِّهَابِ الثَّاقِبِ. قُلْتُ: ثَبِّتِ
الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَثْبُتُ
بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالْحَالِ.
(7/2895)
قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ " لَا " ـ
وَالَّتِي لِنَفِيِ الْجِنْسِ دَخَلَتْ عَلَى
الْمَذْكُورَاتِ وَنَفَتْ ذَوَاتَهَا وَهِيَ غَيْرُ
مَنْفِيَّةٍ، فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى أَوْصَافِهَا
وَأَحْوَالِهَا الَّتِي هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ،
فَإِنَّ الْعَدْوَى وَصَفَرَ وَالْهَامَةَ وَالنَّوْءَ
مَوْجُودَةٌ، وَالْمَنْفِيُّ هُوَ مَا زَعَمَتِ
الْجَاهِلِيَّةُ إِثْبَاتَهَا، فَإِنَّ نَفْيَ الذَّاتِ
لِإِرَادَةِ نَفْيِ الصِّفَاتِ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ مِنْ
بَابِ الْكِنَايَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
[البقرة: 132] فَنَهَاهُمْ عَنِ الْمَوْتِ، وَهُوَ لَيْسَ
بِمَقْدُرِهِمْ، فَالْمَنْهِيُّ هُوَ حَالَةُ إِذَا
أَدْرَكَهُمُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ
أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ،
فَالْوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ
مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ
التُّورِبِشْتِيُّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا
أَحْمَدُ.
(7/2896)
4581 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ
مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ
فَارْجِعْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4581 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ. ثَقَفِيٌّ
تَابِعِيٌّ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ، سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَاهُ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى
عَنْهُ صَالِحُ بْنُ دِينَارٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مَيْسَرَةَ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ
شَرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
مِنْ حَضْرَمَوْتٍ، وَعِدَادُهُ فِي ثَقِيفٍ، وَقِيلَ:
يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ، وَحَدِيثُهُ فِي
الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (قَالَ: كَانَ فِي
وَفْدِ ثَقِيفٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَبِيلَةٌ
مَشْهُورَةٌ (رَجُلٌ مَجْذُومٌ) أَيْ: وَأَرَادَ أَنْ
يَأْتِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لِيُبَايِعَهُ (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا) أَيْ: بِأَنَّا أَوْ
قَائِلًا إِنَّا (قَدْ بَايَعْنَاكَ) : أَيْ بِالْقَوْلِ
مِنْ غَيْرِ أَخْذِ الْيَدِ فِي الْعَهْدِ (فَارْجِعْ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى رُخْصَةٍ مِنَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَجَةُ التَّوَكُّلِ أَنْ يُرَاعِيَ
الْأَسْبَابَ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ، مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ خَاصِّيَّةً وَأَثَرًا أَوْدَعَهَا فِيهِ
الْحَكِيمُ جَلَّ وَعَلَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(7/2896)
الْفَصْلُ الثَّانِي
4582 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ
يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ» رَوَاهُ فِي " شَرْحِ
السُّنَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
4582 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَتَفَاءَلُ) : مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ وَفِي
نُسْخَةٍ: مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيْ يَطْلُبُ
الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَيَتَّبِعُهُ (وَلَا يَتَطَيَّرُ)
أَيْ لَا يَتَشَاءَمُ بِشَيْءٍ (وَكَانَ يُحِبُّ الِاسْمَ
الْحَسَنَ) . أَيْ وَيَتَفَاءَلُ بِهِ، وَمَفْهُومُهُ
أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ وَيَتَشَاءَمُ
بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: " وَلَا
يَتَطَيَّرُ "، نَعَمْ كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ
الْقَبِيحَ وَيُبَدِّلُهُ بَاسِمٍ حَسَنٍ، كَمَا وَقَعَ
لَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ
وَجْهُ ضَعَفِ قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ بَيَانٌ
لِتَفَاؤُلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَبُرَيْدَةَ كَمَا سَيَجِيءُ،
قُلْتُ: وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا سَيَجِيءُ
(رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغْوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .
وَكَأَنَّ الْمُؤَلِّفَ مَا بَلَغَهُ أَنَّ الْإِمَامَ
أَحْمَدَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ.
(7/2896)
4583 - وَعَنْ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ
أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِيَافَةُ
وَالطَّرْقُ وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ» . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4583 - (وَعَنْ قَطَنٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (ابْنِ قَبِيصَةَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِلَالِيٌّ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ
الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ حِبَّانُ بْنُ
عَلَاءَ، وَكَانَ قَطَنُ شَرِيفًا وَوُلِّيَ سِجِسْتَانَ
(عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ قَبِيصَةُ بْنُ
مُخَارِقٍ الْهِلَالِيُّ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَادُهُ فِي أَهْلِ
الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَطَنٌ، وَأَبُو
عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. (أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
الْعِيَافَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ زَجْرُ
الطَّيْرِ وَالتَّفَاؤُلُ وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ
بِأَسْمَائِهَا، كَمَا يُتَفَاؤَلُ بِالْعُقَابِ عَلَى
الْعِقَابِ، وَبِالْغُرَابِ عَلَى الْغُرْبَةِ،
وَبِالْهُدْهُدِ عَلَى الْهُدَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَبَيْنَ الطِّيَرَةِ أَنَّ الطِّيَرَةَ هِيَ التَّشَاؤُمُ
بِهَا، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّشَاؤُمِ بِغَيْرِ
الطَّيْرِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ:
الْعِيَافَةُ زَجْرٌ.
(7/2896)
التَّطَيُّرُ وَالتَّفَاؤُلُ
بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا. وَهُوَ مِنْ
عَادَةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ،
وَبَنُو أَسَدٍ يُذْكَرُونَ بِالْعِيَافَةِ وَيُوصَفُونَ
بِهَا. (وَالطَّرْقُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الضَّرْبُ
بِالْحَصَى الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ
الْخَطُّ فِي الرَّمْلِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ،
وَاقْتَصَرَ الْفَائِقُ عَلَى الْأَوَّلِ وَأَنْشَدَ
قَوْلَ لَبِيَدٍ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَى ... وَلَا
زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّكَهُّنِ
(وَالطِّيَرَةُ) : أَيْ ثَلَاثَتُهَا (مِنَ الْجِبْتِ) .
وَهُوَ السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ عَلَى مَا فِي
الْفَائِقِ. وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنَ الشِّرْكِ،
وَقِيلَ: هُوَ السَّاحِرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ
الشَّيْطَانُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ
الْجِبْتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
(7/2897)
4584 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "
«الطِّيَرَةُ شِرْكٌ " قَالَهُ ثَلَاثًا " وَمَا مِنَّا
إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
«وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ
بِالتَّوَكُّلِ» . هَذَا عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4584 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) : أَيْ
لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الطِّيَرَةَ تَجْلِبُ لَهُمْ
نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا، فَإِذَا عَمِلُوا
بِمُوجِبِهَا فَكَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فِي
ذَلِكَ وَيُسَمَّى شِرْكًا خَفِيًّا. وَقَالَ شَارِحٌ:
يَعْنِي مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ
يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ فَقَدْ أَشْرَكَ
أَيْ شِرْكًا جَلِيًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا
سَمَّاهَا شِرْكًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مَا
يَتَشَاءَمُونَ بِهِ سَبَبًا مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ
الْمَكْرُوهِ، وَمُلَاحَظَةُ الْأَسْبَابِ فِي الْجُمْلَةِ
شِرْكٌ خَفِيٌّ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا
جَهَالَةٌ وَسُوءُ اعْتِقَادٍ. (قَالَهُ ثَلَاثًا)
مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهَا (وَمَا مِنَّا) : أَيْ
أَحَدٌ (إِلَّا) . أَيْ إِلَّا مَنْ يَخْطُرُ لَهُ مِنْ
جِهَةِ الطِّيَرَةِ شَيْءٌ مَا لِتَعَوُّدِ النُّفُوسِ
بِهَا، فَحَذَفَ الْمُسْتَثْنَى كَرَاهَةَ أَنْ
يَتَفَوَّهَ بِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ إِلَّا
مَنْ يَعْرِضُ لَهُ الْوَهْمُ مِنْ قِبَلِ الطِّيَرَةِ،
وَكَرِهَ أَنْ يُتِمَّ كَلَامَهُ ذَلِكَ لِمَا
يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهَذَا
نَوْعٌ مِنْ أَدَبِ الْكَلَامِ يَكْتَفِي دُونَ
الْمَكْرُوهِ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَضْرِبُ
لِنَفْسِهِ مَثَلَ السَّوْءِ. (وَلَكِنَّ اللَّهَ) :
الرِّوَايَةُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ لَفْظِ
الْجَلَالَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ وَرَفْعُهَا
(يُذْهِبُهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ عَلَى
مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ
الْمُصَحَّحَةِ أَيْ يُزِيلُ ذَلِكَ الْوَهْمَ
الْمَكْرُوهَ. (بِالتَّوَكُّلِ) : أَيْ بِسَبَبِ
الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ
سُبْحَانَهُ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْخَطْرَةَ لَيْسَ بِهَا عِبْرَةٌ،
فَإِنْ وَقَعَتْ غَفْلَةً لَا بُدَّ مِنْ رَجْعَةٍ
وَأَوْبَةٍ مِنْ حَوْبَةٍ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ
وَلَفْظُهُ: " «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ
فَقَدْ أَشْرَكَ، وَكَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ:
اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ
إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» ". وَسَيَأْتِي
فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَا يَنْصُرُهُ، وَأَغْرَبَ
الطِّيبِيُّ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْمَبْنَى وَغَفْلَتِهِ
عَنِ الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: " يُذْهِبُهُ
بِالتَّوَكُّلِ " جَاءَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا،
وَعَلَى الثَّانِي اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ
لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ
فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ
الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ اهـ.
وَفِيهِ أَبْحَاثٌ ثَلَاثَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ،
فَقَوْلُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ
يَصِيرُ فِعْلًا لَازِمًا، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ النُّسَخُ
عَلَى وُجُودِ الضَّمِيرِ الْبَارِزِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ
عَدَمِهِ يَخْتَلُّ الْمَعْنَى، إِذْ يَصِيرُ
التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُ. وَفَسَادُهُ
لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ بِضَمِّ
الْيَاءِ أَيْ مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ صَحِيحٌ، لَكِنَّ
قَوْلَهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ
لِلتَّأْكِيدِ غَلَطٌ صَرِيحٌ، فَإِنَّ الْبَاءَ
لِلسَّبَبِيَّةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِلَّا لَفَسَدَ
الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَآلُ الْكَلَامِ لَكِنَّ
اللَّهَ يُزِيلُ التَّوَكُّلَ. وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، لَا
سِيَّمَا مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ، فَإِنَّهُ وَهْمٌ بَاهِرٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ
بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ
لَمَّةِ الْمَلَكِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ،
فَإِنَّهُ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ وَكَوْنِهِ
مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ السَّابِقِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ
أَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ الْمُذْهَبُ بِسَبَبِ
الْهَمْزَةِ، وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مَقْلُوبُ الْمَعْنَى
هُنَا، لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ
بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ أَوْ بِالْمُذْهَبِ مَا يَخْطُرُ
فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ
الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الْمَلَكِ، لِأَنَّهُمَا لَا
يَجْتَمِعَانِ كَمَا تَحَقَّقَ بَحْثُهُمَا فِي أَوَّلِ
الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ
بِكَمَالِهِ مَرْفُوعًا، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ
لِلْمُحْدَثِينَ.
(7/2897)
(وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) : أَيِ الْبُخَارِيُّ
(يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) : أَيِ
الْبَصْرِيُّ قَاضِيَ مَكَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ
الْبَصْرِيِّينَ وَعُلَمَائِهِمْ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
هُوَ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ قَدْ ظَهَرَ مِنْ
حَدِيثِهِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ، وَمَا رَأَيْتُ
فِي يَدِهِ كِتَابًا قَطُّ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ مَجْلِسَهُ
بِبَغْدَادَ، فَحَرَزُوا مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ
أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، وُلِدَ فِي صَفَرَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَطَلَبَ الْحَدِيثَ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَلَزِمَ حَمَّادَ بْنَ
زَيْدٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَتَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ
التَّابِعِينَ.
(يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) : أَيْ فِي تَحْقِيقِ
شَأْنِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا مَنَّا
إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ.
هَذَا) : أَيْ قَوْلُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَخْ. (عِنْدِي
قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ) . أَيْ فِي ظَنِّي أَنَّهُ
مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَرْفُوعُ
قَوْلُهُ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ
هَذَا الْمِقْدَارَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
رَوَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا،
بِدُونِ الزِّيَادَةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي
مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَصْحَابِ
السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/2898)
4585 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا
مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، وَقَالَ: " كُلْ ثِقَةً
بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4585 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا
مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ فَفِيهِ
غَايَةُ التَّوَكُّلِ، وَنِهَايَةُ التَّجَمُّلِ مِنْ
جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: الْأَخْذُ بِيَدِهِ،
وَثَانِيهِمَا الْأَكْلُ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ: كُلْ مَعَ
صَاحِبِ الْبَلَاءِ تَوَاضُعًا لِرَبِّكَ وَإِيمَانًا.
رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. (وَقَالَ: كُلْ
ثِقَةً بِاللَّهِ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ مَصْدَرٌ
بِمَعْنَى الْوُثُوقِ كَالْعِدَةِ وَالْوَعْدِ، وَهُوَ
مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ كُلْ مَعِي أَثِقُ ثِقَةً
بِاللَّهِ أَيِ اعْتِمَادًا بِهِ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ
إِلَيْهِ (وَتَوَكُّلًا) : أَيْ وَأَتَوَكَّلُ تَوَكُّلًا
(عَلَيْهِ) . وَالْجُمْلَتَانِ حَالَانِ ثَانِيَتُهُمَا
مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ
الْأُولَى نَاظِرَةً إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّقْدِيرِ،
وَالثَّانِيَةُ إِلَى مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ
التَّغْيِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْسِيسَ
بِالتَّقْيِيدِ أَوْلَى مِنْ مُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ،
وَحَاصِلُهُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَمَحَطُّ
الْبَصَرِ عَلَى مُشَاهَدَةِ أَفْعَالِ رَبِّ
الْأَرْبَابِ، فَإِنَّ الْعِلَلَ الْمُعْدِيَةَ لَهَا
تَأْثِيرٌ عِنْدَ النُّفُوسِ الرَّدِيَّةِ، مَعَ أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
مَعْصُومُونَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُنَفِّرَةِ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هَذَا دَرَجَةُ الْمُتَوَكِّلِ فِي
مُتَارَكَةِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا حَالُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاحْتِرَازُ عَنِ
الْمَجْذُومِ رُخْصَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ هُوَ مَنْصُوبٌ
عَلَى الْحَالِ وَصَاحِبُهَا مَحْذُوفٌ؛ أَيْ كُلْ مَعِي
وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَيْ حَالُ كَوْنِي وَاثِقًا
بِاللَّهِ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مِنْ
كَلَامِ الرَّاوِي حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ. قَالَ: وَأَنْ
يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْ كُلْ، مَنِ اسْتَأْنَفَ
بِقَوْلِهِ: أَثِقُ بِاللَّهِ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ
الْأَوَّلُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ دِرَايَةً لِأَنَّهُ يُوهِمُ
أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالًا
خِلَافَ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِي خِلَافِهِ، فَيَحْتَاجُ
إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، فَلَوْ
قَالَ نَصَبَهُمَا عَلَى الْعِلَّةِ لَكَانَ أَوْلَى،
كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ
رِوَايَةً لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ
كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا
قَوْلُهُ الثَّانِي، فَفِيهِ انْفِكَاكُ الْكَلَامِ وَهُوَ
غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
وَفِي الْحِصْنِ: «وَإِنْ أَكَلَ مَعَ مَجْذُومٍ أَوْ ذِي
عَاهَةٍ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ
وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو
دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
وَابْنُ السُّنِّيِّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «كُلْ
بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى
اللَّهِ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْفُوعِ
خِلَافًا لِمَا جَعَلَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ التَّرْكِيبِ
الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا تَرْكُ الْمُؤَلِّفِ الْبَسْمَلَةَ
مَعَ وُجُودِهَا فِي الْأُصُولِ، فَإِمَّا مَحْمُولَةٌ
عَلَى رِوَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ غَرِيبَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ،
أَوْ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ أَوِ
الْمَصَابِيحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(7/2898)
4586 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا هَامَةَ وَلَا
عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ. وَإِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ فِي
شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ» "
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4586 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا هَامَةَ وَلَا عَدْوَى وَلَا
طِيَرَةَ، وَإِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ) : أَيْ صَحِيحَةٌ
أَوْ أَنْ تَقَعَ وَتُوجَدَ (فِي شَيْءٍ) : أَيْ مِنَ
الْأَشْيَاءِ (فَفِي الدَّارِ) : أَيْ فَهِيَ فِي الدَّارِ
الضَّيِّقَةِ (وَالْفَرَسِ) : أَيِ الْجَمُوحُ
(وَالْمَرْأَةِ) : أَيِ السَّلِيطَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ
فَرْضَ وَجُودِهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: "
«إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ
وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» "، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ
نَفْيُ صِحَّةِ الطِّيَرَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ
فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ( «لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ
لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ) فَلَا يُنَافِيهُ حِينَئِذٍ
عُمُومُ نَفْيِ الطِّيَرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ
الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ لَا تَكُونُ الطِّيَرَةُ إِلَّا فِي
هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ غَالِبِ
وُقُوعِهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَقَعَ مِنَ
النَّهْيِ عَنْهَا، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّ فِي هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ مَا يَقَعُ عَنِ الْيَمَنِ بِمَعْزِلٍ فَلَا
يُبَارَكُ لِصَاحِبِهِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ذَرُوهَا
ذَمِيمَةً» ". وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا
مَخْفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا
بِالتَّخْمِينِ وَالظَّنِّ أَتَى فِيهِ بِصِيغَةِ
التَّرَدُّدِ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى الْقَوْلِ
فِيهِ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَقِيلَ: أَرَادَ
بِالطِّيَرَةِ الْكَرَاهَةَ الطَّبِيعِيَّةَ لَا
التَّشَاؤُمَ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَرِهْتُمْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ فَأَبْدِلُوهَا بِالْأُخْرَى. قُلْتُ:
وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ وَمَقْصِدٌ مُسْتَحْسَنٌ لَوْلَا
أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ يَكُنِ الشُّؤْمُ
فِي شَيْءٍ " إِلَخْ. هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ
لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَكَثِيرُونَ: هُوَ
فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الطِّيَرَةِ أَيِ
الطِّيَرَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا إِلَّا فِي هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى
الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ
الْأَشْيَاءُ خَارِجَةً مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ
أَيِ الشُّؤْمُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ
إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي
ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالْفَرَسُ وَالدَّارُ» "، وَفِي
رِوَايَةٍ: " «الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ
وَالْفَرَسِ» "، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: " «ذَرُوهَا
ذَمِيمَةً» ". قُلْتُ: وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ
الْجُمْهُورِ مَآلًا، وَإِنَّمَا قَالُوا فِي مَعْنَى
الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مِنَ
الْأَدَاءِ شَيْءٌ، بَلْ وَقَعَتْ بَعْدَ نَفْيِ
الطِّيَرَةِ وَنَهْيِهَا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ قَدْ
يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى بَابِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] قُلْتُ:
عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ كَوْنِ الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ
الْآيَةِ فَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ. فَقِيلَ اسْتِثْنَاءٌ
مِنَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِلنَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
تَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِنِكَاحِ مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، أَوْ مِنْ لَفْظِ مَا
نَكَحَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّعْمِيمِ،
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
وَيَسُدُّ الطَّرِيقَ فِي إِبَاحَتِهِ كَمَا تَعَلَّقَ
بِالْمُحَالِ فِي التَّأْيِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: 40] وَالْمَعْنَى،
وَلَا تَنْكِحُوا حَلَائِلَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُ، وَذَلِكَ
غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ،
وَمَعْنَاهُ لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ، فَإِنَّهُ لَا
مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُقَرَّرٌ، وَلَا يَخْفَى
أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُلَائِمُ
الْمَقَامَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ، نَعَمْ
بِحَسَبِ الْمَعْنَى يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى
الْأَوْسَطِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ عَطْفًا
عَلَى بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ
الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ) وَقَدْ سَبَقَ
تَقْرِيرُهُ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ:
وَوَجْهُ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: وَلَا طِيَرَةَ بِهَذِهِ
الشَّرْطِيَّةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّؤْمَ
أَيْضًا مَنْفِيٌّ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشُّؤْمَ
لَوْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي شَيْءٍ لَكَانَ فِي هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهَا أَقْبَلُ الْأَشْيَاءَ لَهَا،
لَكِنْ لَا وُجُودَ لَهُ فِيهَا فَلَا وُجُودَ لَهُ
أَصْلًا اهـ. كَلَامُهُ.
فَعَلَى هَذَا الشُّؤْمُ فِي الْأَحَادِيثِ
الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ
الَّتِي سَبَبُهَا مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ
الشَّرْعِ أَوِ الطَّبْعِ، كَمَا قِيلَ: شُؤْمُ الدَّارِ
ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا، وَكَذَا شُبْهَةٌ فِي
سُكْنَاهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ
تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ، وَشُؤْمُ
الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا
وَغَلَاءُ مَهْرِهَا، وَنَحْوُهَا مَنْ حَمَلَهَا
الزَّوْجُ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِأَرْبَابِ التَّقْوَى،
وَشُؤْمُ الْفُرْسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا أَوْ
يُرْكَبَ عَلَيْهَا افْتِخَارًا وَخُيَلَاءَ، وَقِيلَ:
حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ
فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
(7/2899)
كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ
لِأَحَدِكُمْ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا، أَوِ امْرَأَةٌ
يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا، أَوْ فَرَسٌ لَا تُعْجِبُهُ،
فَلْيُفَارِقْهَا بِأَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الدَّارِ،
وَيُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ، وَيَبِيعَ الْفَرَسَ حَتَّى
يَزُولَ عَنْهُ مَا عَدَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ
الْكَرَاهَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ فِيهِ عَدَدُنَا إِلَخْ. "
ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» فَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا عَلَى اسْتِثْقَالٍ لِظِلِّهَا
وَاسْتِيحَاشٍ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا لِيَزُولَ
عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهَا
سَبَبٌ فِي ذَلِكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَغْيِيرَ
هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ
الْمَنْهِيَّةِ، بَلْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي
الظَّاهِرِ تَشَبُّهٌ بِالتَّطَيُّرِ، وَلَعَلَّ هَذَا
وَجْهُ قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْجَامِعِ:
" «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ،
وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ، وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
(7/2900)
4587 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ
يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ، يَا نَجِيحُ» . رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4587 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
يُعْجِبُهُ) : أَيْ يَسْتَحْسِنُهُ وَيَتَفَاءَلُ بِهِ
(إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ) أَيْ
وَاجِدُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ (يَا نَجِيحُ) . أَيْ
مَنْ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ، وَالْمُرَادُ هَذَا
وَأَمْثَالُهُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ
الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ عَلَى مَا
فِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ. (رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ) .
(7/2900)
4588 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، فَإِذَا
بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ
اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي
وَجْهِهِ. وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ
ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ
اسْمِهَا، فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بِهِ
وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ
اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4588 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنْ
جِهَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَرَادَ فِعْلَهُ،
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " مُرَادِفَةً لِلْبَاءِ،
فَالْمَعْنَى مَا كَانَ يَتَطَيَّرُ بِشَيْءٍ مِمَّا
يَتَطَيَّرُ بِهِ النَّاسُ، (فَإِذَا بَعَثَ عَامِلًا) :
أَيْ أَرَادَ إِرْسَالَ عَامِلٍ (سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ،
إِذَا أَعْجَبَهُ اسْمَهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ) : أَيْ
وَظَهَرَ (بِشْرُ ذَلِكَ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ:
أَثَرُ بَشَاشَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ (فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ
كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ) : أَيْ ذَلِكَ
الِاسْمُ الْمَكْرُوهُ (فِي وَجْهِهِ) : أَيْ: وَغَيَّرَ
ذَلِكَ الِاسْمَ إِلَى اسْمٍ حَسَنٍ، فَفِي رِوَايَةِ
الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا بَعَثْتُمْ إِلَيَّ رَجُلًا
فَابْعَثُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ» . قَالَ
ابْنُ الْمَلَكِ: فَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْتَارَ
الْإِنْسَانَ لِوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ
الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ قَدْ
تُوَافِقُ الْقَدَرَ كَمَا لَوْ سُمِّيَ أَحَدٌ ابْنَهُ
بِخَسَارٍ، فَرُبَّمَا جَرَى قَضَاءُ اللَّهِ لِأَنْ
يَلْحَقَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ ابْنِهِ خَسَارٌ،
فَيَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ
اسْمِهِ، فَيَتَشَاءَمُونَ وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ
مُجَالَسَتِهِ وَمُوَاصَلَتِهِ.
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَخْتَارَ لِوَلَدِهِ وَخَدَمِهِ الْأَسْمَاءَ
الْحَسَنَةَ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ قَدْ
تُوَافِقُ الْقَدَرَ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: جَمْرَةٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ
شِهَابٍ. قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنَ الْحِرَاقَةِ.
قَالَ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: بِحُرَّةِ النَّارِ.
قَالَ: بِأَيِّهَا؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظًى، فَقَالَ عُمَرُ:
أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدِ احْتَرَقُوا، فَكَانَ كَمَا
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، اهـ.
وَلَعَلَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قِيلَ: إِنَّ
الْأَسْمَاءَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَالْحَدِيثُ فِي
الْجُمْلَةِ يَرُدُّ عَلَى مَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ
تَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِأَسْمَاءٍ قَبِيحَةٍ،
كَكَلْبٍ، وَأَسَدٍ، وَذِئْبٍ. وَعَبِيدِهِمْ، بِرَاشِدٍ
وَنَجِيحٍ وَنَحْوِهِمَا. مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ
أَبْنَاءَنَا لِأَعْدَائِنَا وَخَدَمِنَا لِأَنْفُسِنَا.
(وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا، فَإِنْ
أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ) : أَيْ بِهِ كَمَا فِي
الْأَصْلِ الْأَصَحِّ أَيْ بِاسْمِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ
بِهَا أَيْ بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ، أَوْ بِاسْمِهَا عَلَى
تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوِ اكْتَسَبَ تَأْنِيثٌ مِنَ
الْمُضَافِ إِلَيْهِ. (وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي
وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ
ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ) . لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ
كَانَ يَتَطَيَّرُ بِالْأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ كَمَا
يُوهِمُهُ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ
مَحَلَّهُ بَابُ الْأَسْمَاءِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ
رَاعَى صَدْرَ الْحَدِيثِ، فَأَوْرَدَهُ اعْتِمَادًا عَلَى
دَلَالَتِهِ؛ نَفْيُ التَّطَيُّرِ مُطْلَقًا.
(7/2900)
(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيِ: الْحَدِيثُ
بِكَمَالِهِ، وَلَعَلَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ
كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْجَامِعِ، مِنْ أَنَّ
الْحَكِيمَ التِّرْمِذِيَّ، وَالْبَغَوِيَّ، رَوَيَا عَنْ
بُرَيْدَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ، وَلَكِنْ يَتَفَاءَلُ» .
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ «يَتَفَاءَلُ وَلَا
يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ» .
(7/2901)
4589 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا
وَأَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ قَلَّ فِيهَا
عَدَدُنَا وَأَمْوَالُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَرُوهَا ذَمِيمَةً»
. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4589 - (وَعَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
- (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا
كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ -
(فِيهَا عَدَدُنَا) أَيْ: أَهْلُونَا (وَأَمْوَالُنَا،
فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ قَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا،
وَأَمْوَالُنَا) . وَالْمَعْنَى أَنَتْرُكْهَا
وَنَتَحَوَّلُ إِلَى غَيْرِهَا؟ أَوْ هَذَا مِنْ بَابِ
الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؟ (فَقَالَ) أَيْ:
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَمَا فِي نُسْخَةٍ: (ذَرُوهَا ذَمِيمَةً) . أَيِ:
اتْرُكُوهَا مَذْمُومَةً، " فَعِيلَةٌ " بِمَعْنَى: "
مَفْعُولَةٍ " كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى:
اتْرُكُوهَا بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا حَالَ كَوْنِهَا
مَذْمُومَةً ; لِأَنَّ هَوَاءَهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ
لَكُمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ
بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِبْطَالًا لِمَا وَقَعَ فِي
نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ، إِنَّمَا
أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ السَّكَنِ، فَإِذَا تَحَوَّلُوا
عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ، وَزَالَ
عَنْهُمْ مَا خَامَرَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ. (رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ) .
(7/2901)
4590 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بَحِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ
بْنَ مُسَيْكٍ يَقُولُ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
عِنْدَنَا أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا أَبْيَنُ، وَهِيَ أَرْضُ
رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا، وَإِنَّ وَبَاءَهَا شَدِيدٌ،
فَقَالَ: " دَعْهَا عَنْكَ فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ
التَّلَفَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4590 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ
وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: صَنْعَانِيٌّ، رَوَى عَمَّنْ سَمِعَ
فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ، وَعَنْهُ مَعْمَرٌ. (قَالَ) أَيْ:
يَحْيَى (أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ) : بِفَتْحِ
فَاءٍ وَسُكُونِ رَاءٍ (ابْنَ مُسَيْكٍ) : تَصْغِيرٌ
مِسْكٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ:
مُرَادِيٌّ غُطَيْفِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَدِمَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ فَأَسْلَمَ وَانْتَقَلَ إِلَى
الْكُوفَةِ زَمَنَ عُمَرَ وَسَكَنَهَا، رَوَى عَنْهُ
الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ
وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا. (يَقُولُ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عِنْدَنَا أَرْضٌ يُقَالُ
لَهَا أَبْيَنُ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَسُكُونِ
مُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَنُونٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ
اسْمُ رَجُلٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَدَنٌ، وَيُقَالُ: عَدَنٌ
أَبْيَنُ فِي النِّهَايَةِ، هُوَ بِوَزْنِ أَحْمَرَ
قَرْيَةٌ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْيَمَنِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَدِينَةِ عَدَنٍ (وَهِيَ
أَرْضُ رِيفِنَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ
التَّحْتِيَّةِ فَفَاءٍ، وَهُوَ الْأَرْضُ ذَاتُ الزَّرْعِ
وَالْخِصْبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُ
شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، قَوْلُهُ: رِيفُنَا أَيْ:
يَحْصُلُ لَنَا فِيهَا الثِّمَارُ، وَالنَّبَاتُ،
وَالرِّيعُ الزِّيَادَةُ (وَمِيرَتِنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ
وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى رِيفِنَا أَيْ: طَعَامُنَا
الْمَجْلُوبُ، أَوِ الْمَنْقُولُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ
(وَإِنَّ وَبَاءَهَا) أَيْ: وَخْمُهَا النَّاشِئُ عَنْ
كَثَافَةِ هَوَائِهَا (شَدِيدٌ) أَيْ: قَوِيٌّ كَثِيرٌ،
وَقِيلَ: أَرَادَ بِوَبَائِهَا شُؤْمُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا
سَبَبُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَقَالَ: دَعْهَا عَنْكَ) أَيْ:
اتْرُكْهَا عَنْ دُخُولِكَ فِيهَا، وَالتَّرَدُّدِ
إِلَيْهَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَلَدِ الطَّاعُونِ
(فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ) بِفَتْحَتَيْنِ
فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدُّخُولَ فِي أَرْضٍ
بِهَا وَبَاءٌ مِنْ مُدَانَاةِ الْمَرَضِ، وَفِي
النِّهَايَةِ: الْقَرَفُ " مُلَابَسَةُ الدَّاءِ
وَمُدَانَاةُ الْمَرَضِ " وَالتَّلَفُ " الْهَلَاكُ ".
قِيلَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْوَى، وَإِنَّمَا
هُوَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ، فَإِنَّ اسْتِصْلَاحَ
الْأَهْوَاءِ مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ
الْأَبْدَانِ، وَفَسَادَ الْهَوَاءِ، مِنْ أَسْرَعِ
الْأَشْيَاءِ إِلَى الْأَسْقَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)
.
(7/2901)
االْفَصْلُ الثَّالِثُ
4591 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: «ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: "
أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا
رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا
يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ
السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
4591 - (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ تَابِعِيٌّ سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ، رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، أَخْرَجَ
حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الطِّيَرَةِ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
(قَالَ) أَيْ: عُرْوَةُ (ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ) :
بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحْسَنُهَا
الْفَأْلُ) سَبَقَ نَظِيرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْرُهَا
الْفَأْلُ، وَتَقَدَّمَ تَأْوِيلُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ.
(وَلَا تَرُدُّ) أَيِ: الطِّيَرَةُ (مُسْلِمًا)
وَالْجُمْلَةُ عَاطِفَةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى
أَنَّ أَحْسَنَ الطِّيَرَةِ مَا يُشَابِهُ الْفَأْلَ
الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَمْنَعُ
الطِّيَرَةُ مُسْلِمًا عَنِ الْمُضِيِّ فِي حَاجَتِهِ،
فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ
الْكَامِلِ، بَلْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ
فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيَمْضِي فِي سَبِيلِهِ بِنُورِهِ
عَلَى غَايَةِ حُضُورِهِ، وَنِهَايَةِ سُرُورِهِ. (فَإِذَا
رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ) أَيْ: إِذَا رَأَى مِنَ
الطِّيَرَةِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ. (فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا
يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ) أَيْ: بِالْأُمُورِ الْحَسَنَةِ
الشَّامِلَةِ لِلنَّعْمَةِ وَالطَّاعَةِ (إِلَّا أَنْتَ،
وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ) أَيِ: الْأُمُورُ
الْمَكْرُوهَةُ الْكَافِلَةُ لِلنِّقْمَةِ وَالْمَعْصِيَةِ
(إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ) أَيْ: عَلَى دَفْعِ
السَّيِّئَةِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِ
الْحَسَنَةِ (إِلَّا بِاللَّهِ) . هُوَ فِي أَصْلِ
الْحِصْنِ: إِلَّا بِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ،
وَفِي الْحَاشِيَةِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَعَلَيْهِ رَمْزُ
(مص) إِشَارَةٌ إِلَى مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
فَإِنَّهُ مُشَارِكٌ لِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ هَذَا
الْحَدِيثِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
مُرْسَلًا) أَيْ: لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ،
لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ
التَّابِعِينَ، وَكَذَا فِي التَّقْرِيبِ أَيْضًا، وَعَلَى
هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/2902)
|