مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ
اللَّهِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5003 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا
تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا
اخْتَلَفَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[16] بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ
الْحُبُّ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجِهَتِهِ
لَا يَشُوبُهُ الرِّيَاءُ وَالْهَوَى، وَمِنَ اللَّهِ
أَيْ: مِنْ جِهَةِ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا
أَحَبَّهُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَسَبَبِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
[المائدة: 83] وَفِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] وَهُوَ
أَبْلَغُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ مَظْرُوفًا،
كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ مَآلَهُمَا
إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ
عُنْوَانُ الْبَابِ فَضِيلَةُ الْحُبِّ لِلَّهِ، وَمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُبِّ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ،
كَمَا سَيُصَرِّحُ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بِهَذَا
الْمَعْنَى، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ (فِي)
تَعْلِيلِيَّةٌ وَ (مِنَ) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى
حُبُّ الْعَبْدِ الْعَبْدَ لِأَجْلِ رِضَا الرَّبِّ،
وَالْحُبُّ الْكَائِنُ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ،
وَالثَّانِي نَتِيجَةُ الْأَوَّلِ، كَمَا فِي
الشَّرِيعَةِ، أَوْ مُقَدِّمَةٌ لَهُ كَمَا فِي
الطَّرِيقَةِ، أَوْ هُوَ مَحْفُوفٌ بِهِمَا، كَمَا فِي
الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5003 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَرْوَاحُ» ) أَيْ:
أَرْوَاحُ الْإِنْسَانِ (جُنُودٌ) : جَمْعُ جُنْدٍ أَيْ:
جُمُوعٌ (مُجَنَّدَةٌ) : بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ
أَيْ: مُجْتَمِعَةٌ مُتَقَابِلَةٌ، أَوْ مُخْتَلِطَةٌ
مِنْهَا: حِزْبُ اللَّهِ " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] " وَمِنْهَا حِزْبُ
الشَّيْطَانِ " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] " وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4]
إِشَارَةٌ إِلَى الْجُنْدَيْنِ حَيْثُ أَحَدُهُمَا
عُلْوِيُّ الْهِمَّةِ، وَالْآخَرُ سُفْلِيُّ الْهِمَّةِ.
(فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا) : التَّعَارُفُ جَرَيَانُ
الْمَعْرِفَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالتَّنَاكُرُ ضِدُّهُ
أَيْ: فَمَا تَعْرِفُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قَبْلَ
حُلُولِهَا فِي الْأَبْدَانِ (ائْتَلَفَ) : بِهَمْزَةِ
وَصْلٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ تُبْدَلُ أَلِفًا فِي
الْوَصْلِ جَوَازًا، وَتُبَدَلُ يَاءً حَالَ الِابْتِدَاءِ
وُجُوبًا أَيْ: حَصَلَ بَيْنَهُمَا الْأُلْفَةُ
وَالرَّأْفَةُ حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْأَجْسَادِ فِي
الدُّنْيَا (وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا) أَيْ: فِي عَالَمِ
الْأَرْوَاحِ (اخْتَلَفَ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْأَشْبَاحِ،
وَالْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ فِي الْفِعْلَيْنِ
بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بِطَرِيقِ
الْإِجْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ
أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي هِيَ
النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَرَاتِبَ
مُخْتَلِفَةٍ وَشَوَاكِلَ مُتَبَايِنَةٍ، وَكُلُّ مَا
شَاكَلَ مِنْهَا فِي عَالَمِ الْأَمْرِ
(8/3131)
فِي شَاكِلَتِهِ تَعَارَفَتْ فِي عَالَمِ
الْخَلْقِ وَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ، وَكُلُّ مَا كَانَ
عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي عَالَمِ الْأَمْرِ تَنَاكَرَتْ
فِي عَالَمِ الْخَلْقِ فَاخْتَلَفَتْ وَافْتَرَقَتْ،
فَالْمُرَادُ بِالتَّعَارُفِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ
التَّنَاسُبِ وَالتَّشَابُهِ، وَبِالتَّنَاكُرِ مَا
بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّبَايُنِ، فَتَارَةً
عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَتَارَةً عَلَى وَجْهِ
النُّقْصَانِ، إِذْ قَدْ يُوجَدُ كُلٌّ مِنَ التَّعَارُفِ
وَالتَّنَاكُرِ بِأَدْنَى مُشَاكَلَةٍ بَيْنَهُمَا إِمَّا
ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا، وَبِحَقِيقَةٍ يَطُولُ
وَتَخَافُ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُلُولِ وَاعْتِرَاضِ
الْفُضُولِ، هَذَا وَقِيلَ: هَذَا الِاجْتِمَاعُ كَانَ
يَوْمِ الْمِيثَاقِ فَمَنْ تَقَابَلَ مِنْهُمُ اثْنَانِ
يَوْمَئِذٍ يَأْتَلِفَانِ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ
الْمُؤَالَفَةِ، وَمَنْ تَدَابَرَ مِنْهُمْ شَخْصَانِ
يَخْتَلِفَانِ فِي نِهَايَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَنْ
وَقَعَ فِي الِاجْتِنَابِ لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْ
مُشَاكَلَةِ كُلِّ بَابٍ كَالْمُنَافِقِينَ،
وَأَشْبَاهِهِمْ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ مِنْ
هَذَا التَّعَارُفِ وَالتَّنَاكُرِ وَصْلَةُ الْأَجَانِبِ
وَشَجْنَةُ الْأَقَارِبِ.
كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا ... وَلَمْ
يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمٌ
وَلَا يَدْفَعُهُ بُعْدُ الدَّارِ وَلَا يَجْمَعُهُ قُرْبُ
الْمَزَارِ.
مُنَاسَبَةُ الْأَرْوَاحِ بَيْنَ وَبَيْنَهَا ... وَإِلَّا
فَأَيْنَ التُّرْكُ مِنْ سَاكِنِي نَجْدٍ
قَالَ حَكِيمٌ: أَقْرَبُ الْقُرْبِ مَوَدَّةُ الْقَلْبِ
وَإِنْ تَبَاعَدَ جِسْمُ أَحَدِهَا مِنَ الثَّانِي،
وَأَبْعَدُ الْبُعْدِ تَنَافُرُ التَّدَانِي.
وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ أَيْ:
مَجْمُوعَةٌ كَمَا يُقَالُ: أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ
وَقَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ
مَبْدَأِ كَوْنِ الْأَرْوَاحِ وَتَقْدُمُهَا الْأَجْسَادُ
أَيْ: إِنَّهَا خُلِقَتْ أَوَّلَ خِلْقَتِهَا عَلَى
قِسْمَيْنِ مِنِ ائْتِلَافٍ وَاخْتِلَافٍ، كَالْجُنُودِ
الْمُجَنَّدَةِ الْمَجْمُوعَةِ إِذَا تَقَابَلَتْ
وَتَوَاجَهَتْ، وَمَعْنَى تَقَابُلِ الْأَرْوَاحِ مَا
جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ السَّعَادَةِ
وَالشَّقَاوَةِ وَالْأَخْلَاقِ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ
يَقُولُ: إِنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي فِيهَا الْأَرْوَاحُ
تَلْتَقِي فِي الدُّنْيَا فَتَأْتَلِفُ وَتَخْتَلِفُ عَلَى
حَسَبِ مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَرَى الْخَيِّرَ
يُحِبُّ الْأَخْيَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمْ،
وَالشِّرِّيرُ يُحِبُّ الْأَشْرَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمُ
اهـ. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ
الْحَدِيثِ وَعُنْوَانِ الْبَابِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ
صَدْرُ الْخِطَابِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ
وَعَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَجْسَادِ
فِي الْخِلْقَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَنْ
عَائِشَةَ.
(8/3132)
5004 - وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5004 - (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) :
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ
عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو
دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ
أَبِي مَسْعُودٍ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَزَادَ
فِيهِ: «تَلْتَقِي فَتُشَامُ كَمَا تُشَامُ الْخَيْلُ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: سَأَلْتُ الْحَاكِمَ عَنْ
مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ لَا
يَسْكُنُ قَلْبُهُ إِلَّا إِلَى شَكْلِهِ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: "
«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ
مِنْهَا فِي اللَّهِ ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا
فِي اللَّهِ اخْتَلَفَ» ".
(8/3132)
5005 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ إِذَا
أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ
فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ،
ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ
السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ،
وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ:
إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. فَيُبْغِضُهُ
جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ
اللَّهَ يُبْغِضُ فَلَانَا فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ:
فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي
الْأَرْضِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5005 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ
اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا» ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ
إِظْهَارَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ وَهِيَ
إِمَّا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَمَعْنَاهَا إِرَادَةُ
الْخَيْرِ، أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَهِيَ
بِمَعْنَى إِكْرَامِهِ لَهُ وَإِحْسَانِهِ لَهُ
وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ (دَعَا جِبْرِيلَ) : يَدُلُّ عَلَى
جَلَالَتِهِ مِنْ حَيْثُ خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِ
الْمَلَائِكَةِ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إِسْرَافِيلَ
وَمِيكَائِيلَ، وَسَائِرِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ
وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ وَجْهُ تَخْصِيصِهِ لِكَوْنِهِ سَفِيرًا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ
(فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ (إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا) :
وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ سَبَبٍ لِمَحَبَّتِهِ مِنْ أَوْصَافِ
عَبْدِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى
مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْعِلَلِ، بَلْ
يَتَرَتَّبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ تَعَالَى مَحَبَّةُ
الْعَبْدِ إِيَّاهُ بِسُلُوكِ سَبِيلِهِ وَاتِّبَاعِ
رُسُلِهِ، وَدَوَامِ اشْتِغَالِهِ بِذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ
وَثَنَائِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى رِضَائِهِ وَلِقَائِهِ.
(فَأَحِبَّهُ) أَيْ: أَنْتَ أَيْضًا زِيَادَةً لِإِكْرَامِ
الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَكَفَى بِاللَّهِ مُحِبًّا
وَمَحْبُوبًا وَطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَحَامِدًا
وَمَحْمُودًا.
(قَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ) أَيْ: ضَرُورَةُ
عَدَمِ عِصْيَانِهِ أَمْرَ رَبِّهِ فَيُحِبُّهُ لِحُبِّهِ،
وَهَذَا مِنَ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ أَيْ: لَا
يُحِبُّهُ لِغَرَضٍ سِوَى مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ،
وَمَحَبَّةُ جِبْرِيلَ دُعَاؤُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُ،
وَالْمَيْلُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(ثُمَّ يُنَادِي) أَيْ: جِبْرِيلُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ
الْجَلِيلِ (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: فِي أَهْلِ السَّمَاءِ
كَمَا فِي قَرِينَتِهِ الْآتِيَةِ،
(8/3132)
وَالْمَعْنَى بِحَيْثُ يَصِلُ بِسَمَاعِ
كَلَامِهِ إِلَى أَهْلِهَا كُلِّهَا ( «فَيَقُولُ: إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ
أَهْلُ السَّمَاءِ» ) أَيْ: جَمِيعُهُمْ (ثُمَّ يُوضَعُ
لَهُ الْقَبُولُ) : وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ،
ثُمَّ هَذَا الْوَضْعُ ابْتِدَاءً مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ
غَيْرِهِ. (فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا
مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ كَثِيرًا
مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَيْسَ لَهُمْ قَبُولٌ عِنْدَ أَهْلِ
الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِخَوَاصِّ الْأَنَامِ
لَا بِالْعَوَامِّ كَالْأَنْعَامِ. ( «وَإِذَا أَبْغَضَ
عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ
فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ» ) .
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَبَّةُ اللَّهِ الْعَبْدَ هِيَ
إِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ
عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ، وَبُغْضُهُ إِرَادَةُ عُقُوبَتِهِ
وَشَقَاوَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَحُبُّ جِبْرِيلَ
وَالْمَلَائِكَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحُدُهَا:
اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ
وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ
عَلَى ظَاهِرِهَا الْمَعْرُوفَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ،
وَهُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَاشْتِيَاقُهُ إِلَى
لِقَائِهِ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ
مَتَى صَحَّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ
الْحَقِيقِيِّ فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى
الْمَجَازِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مُتَفَرِّعٌ
عَلَى الثَّانِي. قَالَ: وَسَبَبُ حُبِّهِمْ إِيَّاهُ
كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ مَحْبُوبًا لَهُ. قُلْتُ:
مُطِيعًا إِمَّا سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا، كَمَا حُقِّقَ
فِي مَرْتَبَتَيِ السَّالِكِ وَالْمَجْذُوبِ وَالْمُرِيدِ
وَالْمُرَادِ. قَالَ: وَمَعْنَى يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ
فِي الْأَرْضِ الْحُبُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَرِضَاهُمْ
عَنْهُ، فَتَمِيلُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ وَتَرْضَى عَنْهُ،
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَتُوضَعُ لَهُ الْمَحَبَّةُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي الْمَحَبَّةِ
وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهَا مَضَى مُسْتَوْفًى فِي أَسْمَاءِ
اللَّهِ الْحُسْنَى، قُلْتُ: وَبَقِيَ كَثِيرٌ مَحَلُّهُ
كِتَابُ الْإِحْيَاءِ. (ثُمَّ يُنَادِي) أَيْ: جِبْرِيلُ
(فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ) : بِالْكَسْرِ
عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ
وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، عَلَى أَنَّ فِي النِّدَاءِ
مَعْنَى الْقَوْلِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ بِالْفَتْحِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ
عَلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ}
[آل عمران: 39] فَإِنَّ جُمْهُورَ الْقُرَّاءِ فِيهِ عَلَى
الْفَتْحِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ (إِنْ)
إِذَا كَانَتْ مَكْسُورَةً تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمُنَادَى، بِخِلَافِ (مَا) إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً
وَأَصْلُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ (يُبْغِضُ فُلَانًا
فَأَبْغِضُوهُ) : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَلَأَ
الْأَعْلَى لَيْسَ لَهُمْ شُعُورٌ بِمَحْبُوبِهِ تَعَالَى
وَمَبْغُوضِهِ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ
مِثْلَ هَذَا الْمَحْبُوبِ وَالْمَبْغُوضِ لَا يَنْقَلِبُ
حُكْمُهُ، لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلْفٌ فِي إِخْبَارِهِ
تَعَالَى (قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ
الْبُغْضُ فِي الْأَرْضِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ،
أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ: {سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] مَا هُوَ؟ قَالَ: "
الْمَحَبَّةَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَالْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَا عَلِيٌّ! إِنَّ
اللَّهَ أَعْطَى الْمَقْتَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْحَلَاوَةَ
وَالْمَهَابَةَ فِي صُدُورِ الصَّالِحِينَ» ". وَأَخْرَجَ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ،
وَهَنَّادٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ
وُدًّا} [مريم: 96] قَالَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: ( «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبَدًا نَادَى جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا
فَأَحِبَّهُ، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ
لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}
[مريم: 96] وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى
جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَبْغَضْتُ فُلَانًا فَيُنَادِي
فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءَ
فِي الْأَرْضِ» اهـ. فَحَدِيثُ الْمِشْكَاةِ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى.
(8/3133)
5006 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ
الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي
ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» ". رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5006 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
أَيْ: عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ تَعْظِيمًا لِبَعْضِ
الْعِبَادِ مِنَ الْعِبَادِ ( «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ
بِجَلَالِي؟» ) أَيْ: بِسَبَبِ عَظَمَتِي وَلِأَجْلِ
تَعْظِيمِي، أَوِ الَّذِينَ يَكُونُ التَّحَابُبُ
بَيْنَهُمْ ; لِأَجْلِ رِضَا جَنَابِي وَجَزَاءِ ثَوَابِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ فِيهِ. بِمَعْنَى " فِي "
وَفِيهِ مَا فِيهِ. قَالَ: وَخُصَّ الْجَلَالُ بِالذِّكْرِ
; لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْهَيْبَةِ وَالسَّطْوَةِ أَيِ:
الْمُنَزَّهُونَ عَنْ شَائِبَةِ الْهَوَى وَالنَّفْسِ
وَالشَّيْطَانِ فِي
(8/3133)
الْمَحَبَّةِ، فَلَا يَتَحَابُّونَ إِلَّا
لِأَجْلِي وَلِوَجْهِي. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَالتَّقْدِيرِ بِجَلَالِي
وَجَمَالِي أَيِ: الْمُتَحَابُّونَ لِي أَيْ: فِي
حَالَتَيِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَالْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ، وَالْمِحْنَةِ وَالْمِنْحَةِ، فَيُفِيدُ
دَوَامَ تَحَابِيهِمْ (الْيَوْمَ) : قَالَ شَارِحٌ: ظَرْفٌ
مُتَعَلِّقٌ بِأَيْنَ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ
لِقَوْلِهِ: (أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي) أَيْ: أُدْخِلُهُمْ
فِي ظِلِّ حِمَايَتِي، أَوْ أُرِيحُهُمْ مِنْ حَرَارَةِ
الْمَوْقِفِ رَاحَةَ مَنِ اسْتَظَلَّ أَوْ أُظِلُّهُمْ فِي
ظِلِّ عَرْشِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: " «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ
عَلَى كَرَاسِيٍّ مِنْ يَاقُوتٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» "
وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) : بَدَلٌ
مِنَ الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ،
أَوْ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي ظِلِّ اللَّهِ عَنِ الْحَرِّ
وَوَهَجِ الْمَوْقِفِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: هُوَ
كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي كَنَفِهِ وَسِتْرِهِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي
الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ
الرَّاحَةِ وَالتَّنْعِيمِ يُقَالُ: هُوَ فِي عَيْشٍ
ظَلِيلٍ أَيْ: طَيِّبٍ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَوْسَطُ
الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوْسَطُ، إِذْ لَا يَصِحُّ
إِسْنَادُ الظِّلِّ حَقِيقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،
فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِارْتِكَابِ الْمَجَازِ أَوْ
بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَمَا أَبْعَدَ الِاحْتِمَالَ
الْأَخِيرَ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ أُنْعِمُهُمْ فِي
نِعْمَتِي، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ مُتَغَلِّبٌ عَلَى
الْأُمِّيِّ وَحُبُّ الشَّيْءِ يُصِمُّ وَيُعْمِي.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.
(8/3134)
5007 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا
لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى
مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ:
أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ
لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُّبُّهَا؟ قَالَ: لَا
غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ
كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5007 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ
رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ) أَيْ: أَرَادَ زِيَارَةَ
أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُتَوَاخِيهِ فِي اللَّهِ وَهُوَ
أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ حَقِيقَةً أَوْ
مَجَازًا (فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى) أَيْ: غَيْرِ مَكَانِ
الزَّائِرِ (فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ)
أَيْ: أَعَدَّ وَهَيَّأَ أَوْ أَقْعَدَ فِي طَرِيقِهِ
(مَلَكًا) : وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: وَكَّلَهُ بِحِفْظِ
مَدْرَجَتِهِ يُقَالُ: رَصَدْتُهُ إِذْ قَعَدْتَ لَهُ
عَلَى طَرِيقِهِ تَتَرَقَّبُهُ اهـ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] فِيهِ
تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُرَاقِبٌ لِلْعِبَادِ،
قَالَ: الْمَدْرَجَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ هِيَ
الطَّرِيقُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّاسَ
يُدْرَجُونَ عَلَيْهَا أَيْ: يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَدْرَجَةَ مِنَ الطَّرِيقِ
مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ يَمْشِي فِيهِ دَرَجَةً دَرَجَةً فِي
الطُّلُوعِ وَالنُّزُولِ، وَمِنْهُ مَدْرَجَةُ مِنًى
الَّتِي هِيَ وَصْلَةٌ إِلَى مِنًى يَعْرِفُهَا مَنْ
ذَهَبَ فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى عَرَفَاتِ
الْهَنَا مِنْ هُنَا. (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ
لِمَنْ قَالَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَيِ: الْمَلَكُ
لِلزَّائِرِ. (أَيْنَ تُرِيدُ؟) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا
مِنْ بَابِ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ
النُّورِيَّةِ حَيْثُ إِنَّ مَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ مَنْ
تُرِيدُ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ
أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ
وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (قَالَ) : أَيِ:
الزَّائِرُ (أُرِيدَ أَخًا) أَيْ: زِيَارَةَ أَخٍ (لِي)
أَيْ: مُخْتَصًّا لِي (فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ) :
وَلَعَلَّ تَعْيِينَهَا عُلِمَ بِالْإِشَارَةِ. وَأَطْنَبَ
فِي الْكَلَامِ ; لِيَتَضَمَّنَ الْمَرَامَ عَلَى نَوْعٍ
مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا
تَسْأَلْ عَنِ الْمَحَلِّ وَاكْتَفِ بِالسُّؤَالِ عَنِ
الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا طَرِيقُ أَرْبَابِ الْحَالِ بِلَا
مُحَالٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا
سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ
إِنَّ السُّؤَالَ مُتَضَمِّنٌ لِقَوْلِهِ أَيْنَ
تَتَوَجَّهُ وَمَنْ تَقْصِدُ، وَلَمَّا كَانَ قَصْدُهُ
الْأَوْلَى الزِّيَارَةَ ذَكَرَهُ وَتَرَكَ مَا لَا
يُهِمُّهُ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ
يَقُلْ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: "
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ
أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضَى} [طه: 83] " لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ
السُّؤَالِ فِي اسْتِعْجَالِهِ إِنْكَارَ تَرْكِهِ
الْقَوْمَ وَرَاءَهُ وَتَقَدُّمَهُ عَلَيْهِمْ قَدَّمَهُ
فِي الْجَوَابِ، وَأَخَّرَ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ.
قُلْتُ: فِي كَوْنِهِ نَظِيرًا لَهُ نَظَرٌ، بَلْ مِثَالٌ
لَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ
الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا
أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} [طه: 83] سُؤَالٌ
عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَهَا مِنْ
حَيْثُ إِنَّهَا نَقِيصَةٌ فِي نَفْسِهَا انْضَمَّ
إِلَيْهَا إِغْفَالُ الْقَوْمِ وَإِبْهَامُ التَّعْظِيمِ
عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَنِ
الْأَمْرَيْنِ، وَقَدَّمَ جَوَابَ الْإِنْكَارِ ;
لِأَنَّهُ أَهَمُّ {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}
[طه: 84] أَيْ: مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ إِلَّا بِخُطًا
يَسِيرَةٍ لَا يُعْتَدُّ بِهَا عَادَةً، وَلَيْسَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ إِلَّا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ يَتَقَدَّمُ
بِهَا الرُّفْقَةُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا {وَعَجِلْتُ
إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] ، فَإِنَّ
الْمُسَارَعَةَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِكَ وَالْوَفَاءِ
بِوَعْدِكَ يُوجِبُ مَرْضَاتَكَ اهـ.
(8/3134)
(قَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ لِلزَّائِرِ (هَلْ
لَكَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَزُورِ (مِنْ نِعْمَةٍ
تَرُّبُّهَا؟) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ
الْمُشَدِّدَةِ أَيْ: تَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا
وَإِتْمَامِهَا أَيْ: هَلْ هُوَ مَمْلُوكُكَ أَوْ وَلَدُكَ
أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ هُوَ فِي نَفَقَتِكَ
وَشَفَقَتِكَ ; لِتُحْسِنَ إِلَيْهِ مِنْ رَبَّ فُلَانٌ
الضَّيْعَةَ أَيْ: أَصْلَحَهَا وَأَتَمَّهَا. وَفِي بَعْضِ
النُّسَخِ: هَلْ لَهُ عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا
أَيْ: تَقُومُ لِشُكْرِهَا؟ ثُمَّ قِيلَ: نِعْمَةٌ:
مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، وَلَكَ خَبَرُهُ،
وَعَلَيْهِ، مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَلْ
لَكَ نِعْمَةٌ دَاعِيَةٌ عَلَى زِيَارَتِهِ تَرُبُّهَا
أَيْ: تَحْفَظُهَا وَتَتَزَيَّدُهَا بِالْقِيَامِ عَلَى
شُكْرِهَا؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: هَلْ أَوْجَبْتَ
عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ
تَذْهَبُ إِلَيْهَا فَتَرُبُّهَا أَيْ: تَمْلِكُهَا مِنْهُ
وَتَسْتَوْفِيَهَا؟ (قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي
أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ) أَيْ: لَيْسَ لِي دَاعِيَةٌ
إِلَى زِيَارَتِهِ إِلَّا مَحَبَّتِي إِيَّاهُ فِي طَلَبِ
مَرْضَاةِ اللَّهِ (قَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ (فَإِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ
كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) : وَلَعَلَّ وَجْهَ
التَّشْبِيهِ أَنَّهُ كَمَا أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ
دُنْيَوِيٍّ، كَذَلِكَ الْحَقُّ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ
بَاعِثٍ آخَرَ مِنْ عَمَلٍ أُخْرَوِيٍّ، وَيُمْكِنُ أَنْ
تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] قَالَ
النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ،
وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِحُبِّ اللَّهِ وَفَضِيلَةِ زِيَارَةِ
الصَّالِحِينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى
الْمَلَائِكَةَ. قُلْتُ: رُؤْيَةُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى
صُوَرِ الْبَشَرِ أَمْرٌ وَاضِحٌ ثَبَتَ فِي صَدْرِ
الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا
يُقَالُ هُنَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ اللَّهِ
الْمَلَائِكَةَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَمُخَاطَبَتِهِ
إِيَّاهُمْ بِتَبْلِيغِ الْمَرَامِ زِيَادَةً عَلَى
مَرْتَبَةِ الْإِلْهَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ
خَصَائِصِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ تَحْقِيقًا لَخَتْمِ
النُّبُوَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) .
(8/3135)
5008 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا
وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ: " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ
أَحَبَّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5008 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ
أَحَبَّ قَوْمًا» ) أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوِ
الصُّلَحَاءِ (وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟) أَيْ:
بِالصُّحْبَةِ أَوِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ
بِمَجْمُوعِهِمَا أَيْ: لَمْ يُصَاحِبْهُمْ، وَلَمْ
يُعَامَلْ مُعَامَلَتَهُمْ وَقِيلَ أَيْ: لَمْ يَرَهُمْ
(فَقَالَ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ) أَيْ:
يُحْشَرُ مَعَ مَحْبُوبِهِ، وَيَكُونُ رَفِيقًا
لِمَطْلُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الْآيَةَ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ
الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلصَّالِحِ وَالطَّالِحِ،
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ
خَلِيلِهِ» " كَمَا سَيَأْتِي، فَفِيهِ تَرْغِيبٌ
وَتَرْهِيبٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) :
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ
أَحَبَّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ،
وَالشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ: " «الْمَرْءُ مَعَ
مَنْ أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ".
(8/3135)
5009 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ
لَهَا؟ ". قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي
أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ
أَحْبَبْتَ " قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ
فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَا»
. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5009 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟» ) أَيْ: وَقْتُ قِيَامِ
الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا
لِأَنَّ يَكُونَ تَعَنُّتًا وَإِنْكَارًا لَهَا، وَأَنْ
يَكُونَ تَصْدِيقًا بِهَا وَإِشْفَاقًا مِنْهَا
وَاشْتِيَاقًا لِلِقَاءِ رَبِّهَا. (قَالَ) : امْتِحَانًا
لَهُ (وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) : وَإِلَّا لَوْ
تَحَقَّقَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِيمَانُهُ بِهَا وَإِيقَانُهُ إِلَّا لَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ بَدَلَ وَيْلَكَ. (قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا
إِلَّا أَنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) : وَلَمْ
يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ
وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ ; لِأَنَّهَا كُلُّهَا
فُرُوعٌ لِلْمَحَبَّةِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ
الْمَحَبَّةَ هِيَ أَعْلَمُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ،
وَأَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّائِرِينَ، فَإِنَّهَا بَاعِثَةٌ
لِمَحَبَّةِ اللَّهِ أَوْ نَتِيجَةٌ لَهَا. قَالَ
تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]
وَقَالَ: " {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] "
فَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ الْوَاضِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْمَحَبَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَابَعَةِ
لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا كَبِيرُ عَائِدَةٍ،
(قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ: مُلْحَقٌ
بِمَنْ غَلَبَ مَحَبَّتُهُ عَلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ مِنَ
النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَمُدْخَلٌ فِي
زُمْرَتِهِ، وَمِنْ عَلَامَةِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ
أَنْ يَخْتَارَ أَمْرَ الْمَحْبُوبِ وَفِيهِ عَلَى مُرَادِ
غَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا
لَعَمْرُكَ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ
الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.
(8/3135)
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَلَكَ مَعَ
السَّائِلِ طَرِيقَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; لِأَنَّهُ
سَأَلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، فَقِيلَ لَهُ: فِيمَ
أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا؟ وَإِنَّمَا يَهُمُّكَ أَنْ
تَهْتَمَّ بِأُهُبَّتِهَا، وَتَعْتَنِي بِمَا يَنْفَعُكَ
عِنْدَ إِرْسَالِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ
وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: مَا
أَعْدَدْتَ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ اهـ. وَبَعْدَهُ مِنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى
لَا يَخْفَى. (قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ
الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ)
أَيْ: بَعْدَ فَرَحِهِمْ بِهِ أَوْ دُخُولِهِمْ فِيهِ
(فَرَحَهُمْ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: كَفَرَحِهِمْ (بِهَا)
أَيْ: بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَهِيَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ
أَحْبَبْتَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَلْحَقَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ
عَمَلٍ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اهـ. وَلَا
يَخْلُو عَنْ إِيهَامٍ وَإِبْهَامٍ، وَالتَّحْقِيقُ
أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ لَا تَحْصُلَ الْمَعِيَّةُ
بِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُتَابَعَةِ،
بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ،
وَزِيَادَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ
فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ:
«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ
لِأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي
لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ
حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ
مَوْتِيَ وَمَوْتَكَ عَرَفْتَ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ
الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنْ دَخَلْتُ
الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- حَتَّى نَزَلَتْ: " {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:
69] » " فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ أَنْ
تَحْصُلَ فِيهَا الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْمُحِبِّ
وَالْمَحْبُوبِ، لَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي دَرَجَةٍ
وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "
«إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْجَنَّةِ
كَمَا تَرَاءَوْنَ أَوْ تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ
الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ الطَّالِعِ فِي تُفَاضُلِ
الدَّرَجَاتِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُولَئِكَ
النَّبِيُّونُ. قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
أَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»
" يَعْنِي وَأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ
وَتَصْدِيقِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيقَانِهِمْ
وَتَحْقِيقِهِمْ.
ثُمَّ جَاءَ فِي حَدِيثِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ
الْمُلَاقَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا
الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ
أَبِيهِ، «عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] الْآيَةَ قَالَ:
إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فِي دَرَجَاتِ
الْجَنَّاتِ، وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ،
وَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْجَنَّةِ أَنْ
يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ
يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: يَعْنِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْأَعَلِّينَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ
مِنْهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضِهَا فَيَذْكُرُونَ
مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ
وَيَنْزِلُ لَهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ فَيَسْعَوْنَ
عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ،
فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ» ".
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ
وَالْمُوَاجَهَةَ وَالْمُجَامَلَةَ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(8/3136)
5010 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ
الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ
الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ
وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ
مَهْ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ
يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا
خَبِيثَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5010 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ)
أَيِ: الْمُجَالِسِ (الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ) : بِفَتْحِ
السِّينِ وَبِضَمٍّ أَيِ: وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ
(كَحَامِلِ الْمِسْكِ) : نَاظِرًا إِلَى الْأَوَّلِ
(وَنَافِخِ الْكِيرِ) بِكَسْرِ الْكَافِ زِقٌّ يَنْفُخُ
فِيهِ الْحِدَادُّ، وَأَمَّا الْمَبْنِيُّ مِنَ الطِّينِ
فَكُوَرُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَحَامِلُ الْمِسْكِ
إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ) : مِنَ الْإِحْذَاءِ أَيْ
يُعْطِيَكَ مَجَّانًا (وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ) ،
أَيْ: تَشْتَرِيَ (وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةً
طَيِّبَةً) وَهَذَا بَيَانُ أَقَلِّ الْمَنْفَعَةِ (
«وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ» ) :
مِنَ الْإِحْرَاقِ أَيْ: يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ،
أَوِ التَّقْدِيرِ يُحْرِقَ بِنَارِهِ ثِيَابَكَ،
وَلَعَلَّهُ وَقَعَ اخْتِصَارًا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ:
إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ أَعْضَاءَكَ أَوْ ثِيَابَكَ (
«وَإِمَّا أَنْ تَجِدَّ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ) .
أَيْ: دُخَّانُهُ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمَضَرَّةِ،
وَالْمَعْنَى فَعَلَيْكَ بِمَحَبَّةِ الْأَوَّلِ
وَمُصَاحَبَتِهِ، وَإِيَّاكَ وَمَوَدَّةَ الثَّانِي
وَمُرَافَقَتَهُ. قِيلَ: فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى
الرَّغْبَةِ فِي صُحْبَةِ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ
وَمُجَالَسَتِهِمْ ; فَإِنَّهَا تَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَإِلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ صُحْبَةِ
الْأَشْرَارِ وَالْفُسَّاقِ ; فَإِنَّهَا تَضُرُّ دِينًا
وَدُنْيَا. قِيلَ: مُصَاحَبَةُ الْأَخْيَارِ تُورِثُ
الْخَيْرَ وَمُصَاحَبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ الشَّرَّ
كَالرِّيحِ إِذَا هَبَّتْ عَلَى الطِّيبِ عَبِقَتْ طِيبًا،
وَإِنْ مَرَّتْ عَلَى النَّتْنِ حَمَلَتْ نَتْنًا.
وَقِيلَ: إِذَا جَالَسْتَ الْحَمْقَى عُلِّقَ بِكَ مِنْ
حَمَاقَتِهِمْ مَا لَا يَعَلَقُ لَكَ مِنَ الْعَقْلِ إِذَا
جَالَسْتَ الْعُقَلَاءَ ; لِأَنَّ الْفَسَادَ أَسْرَعُ
إِلَى النَّاسِ
(8/3136)
وَأَشَدُّ اقْتِحَامَ مَا فِي
الطَّبَائِعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّحْبَةَ تُؤَثِّرُ،
وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:
119] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كُونُوا مَعَ
اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا أَنَّ تَكُونُوا مَعَ
اللَّهِ، فَكُونُوا مَعَ مَنْ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ،
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلُ الْخُلْطَةِ
وَالْعُزْلَةِ فِي الْأَحْيَاءِ بِطَرِيقِ
الِاسْتِقْصَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ
الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ
الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ لَا يُعْدِيكَ مِنْ صَاحِبِ
الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ،
وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقَ بَيْتَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ
تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
عَنْ أَبِي مُوسَى: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ
مَثَلُ الْعَطَّارِ إِنْ لَمْ يُعْطِكَ مِنْ عِطْرِهِ
أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ: " مَثَلُ «الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ
الْعَطَّارِ إِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ
مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ» ".
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(8/3137)
الْفَصْلُ الثَّانِي
5011 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ،
وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ،
وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي
رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ، قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ
مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5011 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ أَوْ
تَقَدَّمَتْ (مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ) ،
بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لِأَجْلِيَ
(وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي) أَيْ: فِي حُبِّيَ أَوْ
سَبِيلِي (وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ) : بِأَنْ يَزُورَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا ; لِعِيَادَةٍ وَنَحْوِهَا
(وَالْمُتَبَاذِلِينَ) أَيْ: بِأَنْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضِهِمُ الْمَالَ (فِي) . أَيْ: فِي رِضَائِي.
(رَوَاهُ مَالِكٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ
عَنْ مُعَاذٍ. (فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ) ،
بِالْإِضَافَةِ (قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي) أَيْ: لِأَجْلِ إِجْلَالِي
وَتَعْظِيمِي أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَمَا
سَبَقَ ( «لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ
النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» ) . بِكَسْرِ
الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْغِبْطَةِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ
تَمَنِّي نِعْمَةً عَلَى أَنْ لَا تَتَحَوَّلَ عَنْ
صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الْحَسَدِ، فَإِنَّهُ تَمَنَّى
زَوَالَهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَالْغِبْطَةُ فِي
الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ الْحَالِ كَذَا قِيلَ.
وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبْطَةُ حُسْنُ الْحَالِ
وَالْمَسَرَّةُ، فَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ مُطَابِقٌ
لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ
يَسْتَحْسِنُ أَحْوَالَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ
وَالشُّهَدَاءُ، وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي
تَحَيَّرَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَفِي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ: " «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى
كَرَاسِيٍّ مِنْ يَاقُوتٍ حَوْلَ الْعَرْشِ» ". رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يَتَحَلَّى بِهِ
الْإِنْسَانُ أَوْ يَتَعَاطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ،
فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً لَا يُشَارِكُهُ
فِيهِ صَاحِبُهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ، وَإِنْ
كَانَ لَهُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَا هُوَ أَرْفَعُ قَدْرًا
وَأَعَزُّ ذُخْرًا، فَيَغْبِطُهُ بِأَنْ يَتَمَنَّى،
وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ مَضْمُومًا
إِلَى مَا لَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ
وَالْمَنَازِلِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، فَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ قَدِ اسْتَغْرَقُوا فِيمَا هُوَ أَعْلَى
مِنْ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَةِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ
وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَإِرْشَادِ الْعَامَّةِ،
وَالْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّيَّاتٍ
أَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْعُكُوفِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ
الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا،
وَالشُّهَدَاءُ وَإِنْ نَالُوا رُتْبَةَ الشُّهَدَاءِ
وَفَازُوا بِالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ، فَعَلَّهُمْ لَمْ
يُعَامَلُوا مَعَ اللَّهِ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا
رَأَوْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ،
وَشَاهَدُوا قُرْبَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ،
وَدُّوا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ
الْغِبْطَةِ لَهُمْ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ، بَلْ بَيَانِ
فَضْلِهِمْ، وَعُلُوِّ شَأْنِهِمْ، وَارْتِفَاعِ
مَكَانِهِمْ وَتَقْرِيرِهَا عَلَى آكَدِ وَجْهٍ
وَأَبْلَغِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَثَابَةِ لَوْ غَبَطَ
النَّبِيُّونُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَئِذٍ مَعَ جَلَالَةِ
قَدْرِهِمْ وَنَبَاهَةِ أَمْرِهِمْ حَالَ غَيْرِهِمْ
لِغُبُوطِهِمْ.
(8/3137)
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ
تُحْمَلَ الْغِبْطَةُ هُنَا عَلَى اسْتِحْسَانِ الْأَمْرِ
الْمَرَضِيِّ الْمَحْمُودِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُغْبَطُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَرَضِيِّ،
كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَحْمَدُونَ
إِلَيْهِمُ، الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ «غَزَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بِتَبُوكَ قَالَ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ
لِلْوُضُوءِ، وَحُمِلَتْ مَعَ إِدَاوَةٍ، ثُمَّ
أَقْبَلْنَا حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ قَدَّمُوا عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ
رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى
الرَّكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ
الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ
عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: (أَحْسَنْتُمْ) أَوْ قَالَ:
(أَصَبْتُمْ) يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ
لِوَقْتِهَا» ، فَقَوْلُهُ: يَغْبِطُهُمُ إِلَخْ. كَلَامُ
الرَّاوِي تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَحْسَنْتُمْ أَوْ
أَصَبْتُمْ» " قَالَ: وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذِهِ
الْحَالَةَ فِي الْمَحْشَرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّاسِ فِي
الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، لِقَوْلِهِ يَعْنِي فِي
الْحَدِيثِ الْآتِي: لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ،
وَالتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ
الْأَمْنُ وَالْفَرَاغُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَا لَا
يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِحَالِ
أَنْفُسِهِمْ، أَوْ حَالِ أُمَّتِهِمْ، فَيَغْبِطُونَهُمْ
لِذَلِكَ اهـ.
وَقَوْلُهُ: فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَمْنِ مَا
لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}
[الأنعام: 82] . وَأَيْضًا تَصَوُّرُ أَمْنِ
الْمُتَحَابِّينَ وَخَوْفِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ
تَفْضِيلُ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا
يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَالْعُلَمَاءُ
عَامِلُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِ
الشُّرَّاحِ: يَغْبِطُهُمْ وَقْتَ الْحِسَابِ قَبْلَ
دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يَعْنِي هُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ
وَالْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ اهـ. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ
عُدُولٌ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ.
(8/3138)
5012 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءٍ وَلَا شُهَدَاءَ،
يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ
الْقِيَامِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ " قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ! تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " هُمْ
قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ، عَلَى غَيْرِ
أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا،
فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ
لَعَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ،
وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزَنَ النَّاسُ " وَقَرَأَ
الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] » .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5012 - (وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ عِبَادِ
اللَّهِ) أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ
الْعَامِلِينَ بِالْإِحْسَانِ (لَأُنَاسًا) أَيْ:
جَمَاعَةً عَظِيمَةً مِنَ الْأَوْلِيَاءِ (مَا هُمْ
بِأَنْبِيَاءٍ وَلَا شُهَدَاءٍ يَغْبِطُهُمُ
الْأَنْبِيَاءُ) أَيْ: مِمَّنْ فَاتَهُمُ التَّزَاوُرُ،
وَإِلَّا فَالتَّحَابُبُ وَالتَّجَالُسُ لِلَّهِ بَيْنَ
كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ حَاصِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّحَابُبِ وَنَحْوِهِ
وُجُودُ الْفِعْلِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنَ
(وَالشُّهَدَاءُ) أَيْ: مِمَّنْ فَاتَهُمُ الْمُجَالَسَةُ
وَنَحْوُهَا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ) أَيْ:
بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَحَابِّينَ
وَمَكَانَتِهِمْ وَمَرْتَبَتِهِمُ الزَّائِدَةِ عَلَى
غَيْرِ (مِنَ اللَّهِ) . أَيْ: مِنْ قُرْبِهِ سُبْحَانَهُ
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُخْبِرُنَا) : بِهَمْزَةٍ
مُقَدَّرَةٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ أَوْ خَبَرٌ
مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ، أَيْ:
أَخْبِرْنَا (مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا) :
اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ التَّجَالُسِ
وَالتَّزَاوُرِ وَالتَّبَادُلِ فَرْعُ التَّحَابُبِ،
وَالْمَعْنَى تَحَابَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (بِرُوحِ
اللَّهِ) ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ مَا يَحْيَا بِهِ
الْخَلْقُ، وَيَكُونُ حَيَاةً لَهُمْ، وَفِي بَعْضِ
النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، فَفِي النِّهَايَةِ: الرَّوْحُ
بِفَتْحِ الرَّاءِ نَسِيمُ الرِّيحِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ
بِإِذْنِ اللَّهِ أَوْ بِنَفْخَةٍ مِنْ نَفَخَاتِهِ،
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَيْ: لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ
مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، وَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ
دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَفِيهِ
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَمْ تَحْصُلْ
لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا تُوجَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ;
لِأَنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى جَذْبَةٍ مِنْ جَذَبَاتِ
الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ، وَالتَّحَابُبُ
سَبَبُ التَّجَاذُبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الضَّمِّ فَقَالَ
الْقَاضِي: الرُّوحُ بِضَمِّ الرَّاءِ، قِيلَ أَرَادَ بِهِ
هُنَا الْقُرْآنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]
سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الْقَلْبُ، كَمَا
يَحْيَا بِالرُّوحِ الْبَدَنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ
يَتَحَابُّونَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ وَمُتَابِعَةِ
الْقُرْآنِ، وَمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَالَاةِ
الْمُسْلِمِينَ وَمُصَادَقَتِهِمُ اهـ.
وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ النَّسَبَ الدَّاعِيَ إِلَى
تَحَابُبِهِمْ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ الْهَادِي
إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا شَيْءَ آخَرَ مِنَ
الْأَغْرَاضِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّوحِ
الْمَحَبَّةُ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَنْتَ رُوحِي أَيْ:
مَحْبُوبِي كَالرُّوحِ أَيْ: تَحَابُّوا بِمَا أَلْقَى
اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
رُوحَنَا} [مريم: 17] فَبَعِيدٌ جِدًّا إِذِ الْمُرَادُ
بِهِ جِبْرِيلُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّي
رُوحًا ; لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ وَوَحْيُهُ.
(8/3138)
(عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ) أَيْ: حَالِ
كَوْنِ تَحَابُبِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ (بَيْنَهُمْ)
أَيْ: بِغَيْرِ نَسَبٍ صُورِيٍّ، بَلْ لِأَجْلِ قُرْبٍ
مَعْنَوِيٍّ (وَلَا أَمْوَالٍ) أَيْ: وَلَا اشْتِرَاكِ
أَمْوَالٍ (يَتَعَاطَوْنَهَا) ، أَيْ: بِالْمُعَامَلَةِ
أَوِ الْمُجَامَلَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَغْرَاضُ
الْفَاسِدَةُ فِي الْمَحَبَّةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَنَّهَا
إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْقُرَابَةِ عَلَى مَا هُوَ
مَرْكُوزٌ فِي الطَّبَائِعِ، أَوْ لِلْمَالِ مِنْ حَيْثُ
إِنَّهُ مَطْمَحُ الْأَطْمَاعِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا،
وَالْمَقْصُودُ تَحْسِينُ النِّيَّةِ تَزْيِينُ
الطَّوِيَّةِ (فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ)
أَيْ: مُنَوَّرَةٌ أَوْ ذَاتُ نُورٍ، أَوْ هِيَ نَفْسُ
النُّورِ مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ (وَإِنَّهُمْ
لَعَلَى نُورٍ) أَيْ: عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ
تَمْثِيلٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ، وَمَحَلُّهُمْ مِثْلُهَا
بِمَا هُوَ أَعْلَى مَا يُجْلَسُ عَلَيْهِ فِي
الْمَجَالِسِ وَالْمَحَافِلِ عَلَى أَعَزِّ الْأَوْضَاعِ
وَأَشْرَفِهَا، مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ أَبْهَى وَأَحْسَنِ
مَا يُشَاهَدُ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ رُتْبَتَهُمْ فِي
الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْعَلَاءِ وَالشَّرَفِ
وَالْبَهَاءِ اهـ. وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالنُّورِ
مُبَالَغَةً، فَهُمْ نُورٌ عَلَى نُورٍ فِي غَايَةٍ مِنَ
الظُّهُورِ، وَلَهُمْ سُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ. (لَا
يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا
حَزِنَ النَّاسُ) بِكَسْرِ الزَّايِ (وَقَرَأَ) أَيِ:
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اسْتِشْهَادًا لِلْفِقْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْحَدِيثِ،
أَوْ قَرَأَ الصَّحَابِيُّ اعْتِضَادًا (هَذِهِ الْآيَةَ:
أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ) أَيِ:
الْمُتَّقُونَ الْأَعَمُّ مِنَ الْمُتَحَابِّينَ (لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ
لُحُوقِ عِقَابٍ (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) : مِنْ فَوْتِ
ثَوَابٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: عَنْ عُمَرَ
بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ.
(8/3139)
5013 - وَرَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ
" عَنْ أَبِي مَالِكٍ بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ " مَعَ
زَوَائِدَ وَكَذَا فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5013 - (وَرَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ
السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (عَنْ أَبِي مَالِكٍ) :
قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ كَعْبُ
بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ كَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ
فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ،
مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ (بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ مَعَ
زَوَائِدَ) أَيْ: مَعَ كَلِمَاتٍ زَائِدَةٍ أَوْ مَعَ
زَوَائِدَ فَوَائِدَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ
(وَكَذَا) أَيْ: مِثْلُ حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ (فِي شُعَبِ
الْإِيمَانِ) أَيْ: لِلْبَيْهَقِيِّ، وَلَفْظُ
الْمَصَابِيحِ هَكَذَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ،
أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا
شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ
بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ". فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: حَدِّثْنَا مَنْ
هُمْ؟ فَقَالَ: " هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ
بُلْدَانٍ شَتَّى وَقَبَائِلَ شَتَّى لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ، وَلَا دُنْيَا
يَتَبَاذَلُونَ بِهَا يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ
يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَيَجْعَلُ لَهُمْ
مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ» "
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِهِ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ
قُرْبِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ
شَارِحٌ آخَرُ، قَوْلُهُ: قُدَّامَ الرَّحْمَنُ أَيْ:
قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا
يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ. قَالَ
ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ
أَنَّ الْفَزَعَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ، وَقِيلَ:
الْفَزَعُ خَوْفٌ مَعَ جُبْنٍ وَالْخَوْفُ غَمٌّ يَلْحَقُ
الْإِنْسَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ سَيَقَعُ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَزَعِ
هُنَا الِاسْتِغَاثَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَهِيَ
تَنْشَأُ مِنْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ
طَمَعِ تَعْلِيَةِ الدَّرَجَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا
وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُصَدِّرَ الْحَدِيثَ
بِقَوْلِهِ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، وَيَأْتِي بِالْحَدِيثِ
عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ بِمُقْتَضَى أَصْلِهِ
فَيَقُولُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَكَذَا
رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ وَنَحْوَهُ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ، لَكِنَّ
مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ ; لِأَنَّ التَّصْنِيفَ مَهْمَا
أَمْكَنَ حَقُّهُ أَنْ لَا يُغَيَّرَ.
(8/3139)
5014 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ: يَا
أَبَا ذَرٍّ! أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ " قَالَ:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " الْمُوَالَاةُ فِي
اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ
". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5014 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي
ذَرٍّ: يَا أَبَا ذَرٍّ! أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ» ) :
بِضَمِّ عَيْنٍ وَفَتْحِ رَاءٍ جَمْعُ عُرْوَةٍ وَهِيَ فِي
الْأَصْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ طَرَفِ الدَّلْوِ
وَالْكُوزِ وَنَحْوِهِمَا فَاسْتُعِيرَ لِمَا يُتَمَسَّكُ
بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ شُعَبِ
الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: (أَوْثَقُ؟) أَيْ: أَحْكَمُ
(قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : وَلَعَلَّ
الْحِكْمَةَ فِي السُّؤَالِ بِأَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ فِي
حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَإِقْبَالِ الْفِكْرِ
عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لَدَيْهِ
(قَالَ: الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ) أَيِ: الْمُعَاوَنَةُ
وَالْمُحَابَبَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ (وَالْحُبُّ فِي
اللَّهِ) أَيْ: لِأَجْلِهِ وَلَوْ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ
كَحُبِّنَا لِبَعْضِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ
يَرَنَا وَلَا نَرَاهُ، (وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) : أَيْ:
فِي سَبِيلِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]
الْآيَةَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ
الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «أَوْثَقُ عُرَى
الْإِيمَانِ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ
فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ
وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ
أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ
وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» " وَفِي
رِوَايَةٍ: «فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ» .
(8/3140)
5015 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ
أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: طِبْتَ
وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ
مَنْزِلًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5015 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا عَادَ
الْمُسْلِمُ أَخَاهُ» ) أَيْ: مَرِيضًا (أَوْ زَارَهُ)
أَيْ: صَحِيحًا فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ بِنَاءً عَلَى تَغْلِيبِ
أَحَدِهِمَا أَوْ نَظَرًا لِأَصْلِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ الْعِيَادَةَ وَالزِّيَارَةَ
مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ الْعِيَادَةَ
تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْمَرَضِ، وَالزِّيَارَةَ فِي
الصِّحَّةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الزِّيَارَةَ أَعَمُّ
مِنَ الْعِيَادَةِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَخَصُّ
مِنَ الْعِبَادَةِ. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: بِلَا
وَاسِطَةٍ أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ
(طِبْتَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: صِرْتَ طَيِّبَ
الْعَيْشِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ حَصَلَ لَكَ طِيبُ عَيْشٍ
فِيهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ الدُّعَاءُ
(وَطَابَ مَمْشَاكَ) أَيْ: صَارَ مَشْيُكَ سَبَبَ طِيبِ
عَيْشِكَ فِيهَا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ،
وَلَا يُعَدُّ فِي تَعْمِيمِ طِيبِ الْعَيْشِ لِيَشْمَلَ
طِيبَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَنَاعَةِ
وَالرِّضَاءِ وَبَرَكَةِ الرِّزْقِ وَسَعَةِ الْقَلْبِ
وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَتَوْفِيقِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كِنَايَةً عَنْ قَبُولِ
نِيَّتِهِ وَشُكْرِ سَعْيِهِ. (وَتَبَوَّأْتَ مِنَ
الْجَنَّةِ مَنْزِلًا) أَيْ: هُيِّأْتَ مِنْهَا بِهَذِهِ
الْعِيَادَةِ مَنْزِلَةً عَظِيمَةً وَمَرْتَبَةً
جَسِيمَةً، فَإِنَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِ
الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ،
لَاسِيَّمَا وَالْعِيَادَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفِيهَا
مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ وَتَذْكِرَةٌ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى
اسْتِغْنَامِ الصِّحَّةِ وَالْحَيَاةِ وَرَفْعِ الْهُمُومِ
الزَّائِدَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
(8/3140)
5016 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي
كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا
أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ
يُحِبُّهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5016 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ) : مَرَّ
ذِكْرُهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ
فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» ) أَيْ: لِيُحِبَّهُ
أَيْضًا، أَوْ لِيَدْعُوهُ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ كَمَا
سَيَأْتِي، فَيَكُونَا مِنَ الْمُتَحَابِّينَ. قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الْحَثُّ عَلَى التَّوَدُّدِ
وَالتَّأَلُّفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ
يُحِبُّهُ اسْتَمَالَ قَلْبَهُ وَاجْتَلَبَ بِهِ وُدَّهُ،
وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُحِبٌّ لَهُ قَبْلَ
نُصْحِهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِي عَيْبٍ
إِنْ أَخْبَرَهُ بِهِ نَفْسَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ
مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ اهـ.
(8/3140)
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِذَا
أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ
يُحِبُّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي
تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْمِقْدَامِ، وَابْنُ
حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ
وَالضِّيَاءِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: " «إِذَا أَحَبَّ
أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيَأْتِهِ فِي مَنْزِلِهِ
فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ» ". وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ " «إِذَا
أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تُشَارِهِ وَلَا
تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا فَعَسَى أَنْ تُوَافِيَ لَهُ
عَدُوًّا فَيُخْبِرُكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيُفَرِّقَ مَا
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ» ".
(8/3141)
5017 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نَاسٌ. فَقَالَ
رَجُلٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ: إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا لِلَّهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
أَعْلَمْتَهُ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: " قُمْ إِلَيْهِ
فَأَعْلِمْهُ ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ:
أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. قَالَ: ثُمَّ
رَجَعَ. فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ
أَحْبَبْتَ، وَلَكَ مَا احْتَسَبْتَ» ". رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَفِي
رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ
وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5017 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نَاسٌ) :
جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ( «فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ:
إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا لِلَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمْتَهُ» ؟) :
بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ مُحَقَّقَةٍ أَوْ مُسَهَّلَةٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى
أَنَّ الثَّانِيَةَ مُنْقَلِبَةٌ (قَالَ: لَا. قَالَ: قُمْ
إِلَيْهِ) أَيْ: مُبَادَرَةً (فَأَعْلِمْهُ فَقَامَ
إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ) أَيِ:
الرَّجُلُ الْأَوَّلُ (أَحَبَّكَ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي
نُسْخَةٍ (الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. قَالَ) أَيِ:
الرَّاوِي (ثُمَّ رَجَعَ) : أَيِ: الرَّجُلُ الثَّانِي
(فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) أَيْ: عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمَا أَوْ عَمَّا
أَجَابَ لَهُ (فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ
مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ: دُنْيَا وَأُخْرَى (وَلَكَ
مَا احْتَسَبْتَ) : أَيْ: أَجْرُ مَا احْتَسَبْتَ،
وَالِاحْتِسَابُ طَلَبُ الثَّوَابِ، وَأَصْلُ
الِاحْتِسَابِ بِالشَّيْءِ الِاعْتِدَادُ بِهِ،
وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسَابِ أَوِ الْحَسَبِ،
وَاحْتَسَبَ بِالْعَمَلِ إِذَا قَصَدَ بِهِ مَرْضَاةَ
رَبِّهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ،
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ. «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ
أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ) .
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ قَرِيبٌ
مِنَ الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى مَا اكْتَسَبَ
كَسَبَ كَسْبًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ
سَبَبُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى
الِاحْتِسَابِ، لِأَنَّ الِافْتِعَالَ لِلِاعْتِمَالِ. فِي
النِّهَايَةِ: الِاحْتِسَابُ مِنَ الْحَسَبِ
كَالِاعْتِدَادِ مِنَ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ
يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ، لِأَنَّ
لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ، فَجُعِلَ فِي
مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ،
وَالْحِسْبَةُ اسْمٌ مِنَ الِاحْتِسَابِ كَالْعِدَّةِ مِنَ
الِاعْتِدَادِ، هَذَا وَفِي حِصْنِ الْجَزَرِيِّ، وَإِذَا
قَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فِي
اللَّهِ. قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ،
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ
وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
(8/3141)
5018 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تُصَاحِبْ
إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا
تَقِيٌّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ،
وَالدَّارِمِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5018 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ
(أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُصَاحِبْ) أَيْ: لَا تَقْصِدْ فِي
الْمُصَاحَبَةِ (إِلَّا مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا بَلْ
مُكَمَّلًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ
مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ
مُصَاحَبَتَهُمْ مُضِرَّةٌ فِي الدِّينِ، فَالْمُرَادُ
بِالْمُؤْمِنِ جِنْسُ الْمُؤْمِنِينَ. (وَلَا يَأْكُلُ
طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) أَيْ: مُؤْمِنٌ أَوْ
مُتَوَرِّعٌ يَصْرِفُ قُوَّةَ الطَّعَامِ إِلَى عِبَادَةِ
اللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ وَالنَّهْيُ وَإِنْ نُسِبَ
إِلَى التَّقِيِّ، فَفِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدٌ إِلَى
صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ لَا أَرَيَنَّكَ
هَهُنَا، فَالْمَعْنَى لَا تُطْعِمْ طَعَامَكَ إِلَّا
تَقِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ: وَلَا تَأْكُلْ
إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ، فَإِنَّ طَعَامَهُ غَالِبًا
يَكُونُ حَلَالًا مُؤَثِّرًا فِي تَحْصِيلِ الْعِبَادَةِ،
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا إِنَّمَا جَاءَ فِي طَعَامِ
الدَّعْوَةِ دُونَ طَعَامِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
تَعَالَى قَالَ: " {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] "
وَمَعْلُومٌ أَنْ أُسَرَاءَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا غَيْرَ
مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا حُذِّرَ مِنْ صُحْبَةِ مَنْ
لَيْسَ يَتَّقِي وَزُجِرَ عَنْ مُخَالَطَتِهِ
وَمُؤَاكَلَتِهِ، لِأَنَّ الْمَطَاعِمَ تُوقِعُ
الْأُلْفَةَ وَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُلُوبِ.
(8/3141)
قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتُ:
الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَامَّ وَأَنْ
يُرَادَ بِهِ الْخَاصَّ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْفَاسِقُ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ
كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا
تُصَاحِبْ إِلَّا صَالِحًا. قُلْتُ: الْمُرَادُ
بِالْفَاسِقِ الْكَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ،
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا
فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ
يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 18] قَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ خُلُودِهِمْ. وَفِي
تَفْسِيرِ السَّيِّدِ مَعِينِ الدِّينِ الصَّفَوِيِّ:
نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ
بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ، فَقَالَ لَعَلِيٍّ: إِنَّكَ
صَبِيٌّ وَأَنَا وَاللَّهِ أَبْسَطُ لِسَانًا، وَأَحَدُّ
سِنَانًا، وَأَشْجَعُ مِنْكَ جَنَانًا، فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ فَاسِقٌ، هَكَذَا قَالَهُ
عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا،
فَالْفَاسِقُ هَهُنَا مَعْنَاهُ الْخَارِجُ عَنِ
الْإِيمَانِ، الثَّابِتُ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَا يُشْكَلُ
بِأَنَّ الْوَلِيدَ أَسْلَمَ آخِرَ عُمُرِهِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ: (وَلَا يَأْكُلُ) نَهْيٌ لِغَيْرِ التَّقِيِّ
أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَهُ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ أَنْ
يَتَعَرَّضَ لِمَا لَا يَأْكُلُ التَّقِيُّ طَعَامَهُ مِنْ
كَسْبِ الْحَرَامِ، وَتَعَاطِي مَا يَنْفِرُ عَنْهُ
التَّقِيُّ، فَالْمَعْنَى لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُطِيعًا،
وَلَا تُخَالِلْ إِلَّا تَقِيًّا اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةٍ
مِنَ الْبَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ
وَجْهُ الْحَصْرِ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو
دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ
حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.
(8/3142)
5019 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ
خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» ".
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ،
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ
النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5019 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ
عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» ) أَيْ: غَالِبًا، وَالْخُلَّةُ
الْحَقِيقِيَّةُ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي
الْمُوَافَقَةِ الدِّينِيَّةِ، أَوِ الْخُلَّةُ
الظَّاهِرَةُ قَدْ تُفْضِي إِلَى حُصُولِ مَا غَلَبَ عَلَى
خَلِيلِهِ مِنَ الْخَصْلَةِ الدِّينِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ: (فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) :
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ
وَمُخَالَطَتُهُ تُحَرِّكُ الْحِرْصَ، وَمُجَالَسَةُ
الزَّاهِدِ وَمُخَالَلَتُهُ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا،
لِأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ
وَالِاقْتِدَاءِ، بَلِ الطَّبْعُ يُسْرَقُ مِنَ الطَّبْعِ
مِنْ حَيْثُ لَا يُدْرَى، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ:
الْخَلِيلُ الصَّدِيقُ فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقَدْ
يَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْخُلَّةَ بِالضَّمِّ
الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ
الْقَلْبَ فَصَارَتْ خِلَالَهُ أَيْ فِي بَاطِنِهِ اهـ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَوْلَى أَوِ
الْخُلَّةَ أَعْلَى، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَبَسْطُهُ
يَطُولُ فَيَتَعَيَّنُ الْعُدُولُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي
شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ
بِزِيَادَةِ أَلِفٍ (إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ) : قَالَ
الطِّيبِيُّ: ذَكَرَهُ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ،
وَغَرَضُ الْمُؤَلِّفِ مِنْ إِيرَادِهِ وَالْإِطْنَابِ
فِيهِ دَفْعُ الطَّعْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَفْعُ
تَوَهُّمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. قَالَ
السُّيُوطِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ
الَّتِي انْتَقَدَهَا الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ عَلَى الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ: إِنَّهُ
مَوْضُوعٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي
الْعَسْقَلَانِيَّ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ قَدْ حَسَّنَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
(8/3142)
5020 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ -
رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا آخَى
الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَلْيَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ
أَبِيهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ
لِلْمَوَدَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5020 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ) : بِفَتْحِ
النُّونِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ضَبِّيٌّ، رَوَى
عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ
حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ
الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي فِي
آخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ صُحْبَتَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ) : بِمَدِّ
الْهَمْزَةِ مِنَ الْمُؤَاخَاةِ أَيْ: إِذَا اتَّخَذَهُ
أَخًا فِي اللَّهِ (فَلْيُسَائِلْهُ) : مِنْ بَابِ
الْمُفَاعَلَةِ. وَفِي نَسْحَةٍ فَصِيحَةٍ فَلْيَسْأَلْهُ
(عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؟) أَيْ:
وَيَسْأَلُهُ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ وَقَوْمٍ وَهُوَ
(فَإِنَّهُ) أَيِ: السُّؤَالُ عَمَّا ذُكِرَ
(8/3142)
(أَوْصَلَ) أَيْ: أَكْثَرُ وَصْلَةً
(لِلْمَوَدَّةِ) أَيْ: لِلْمَحَبَّةِ فِي الْأُخُوَّةِ.
وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: أَوْصَلُ أَيْ: لِلْمَوَدَّةِ
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا ابْنُ سَعْدٍ،
وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُ لِيَزِيدَ سَمَاعًا
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مُوَثَّقُونَ وَيَزِيدُ بْنُ
نَعَامَةَ بِفَتْحِ النُّونِ أَبُو مَرْدُودٍ الضَّبِّيُّ
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ،
وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لَهُ
صُحْبَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: شَهِدَ
حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ اهـ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. قَالَ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَسُئِلَ أَبِي
عَنْهُ فَقَالَ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي
تَهْذِيبِ الْكَمَالِ الصَّوَابُ أَنَّهُ يُرْسِلُ وَهُوَ
صَدُوقٌ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو
خَلْدَةَ وَسَلَامُ بْنُ مِسْكِينٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ
التَّصْحِيحِ، وَخُلَاصَةُ الْخِلَافِ أَنَّ الصُّحْبَةَ
السَّابِقَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ هَلْ هِيَ مُعْتَدَّةٌ
أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي مَعَ اتِّفَاقِهِمْ
عَلَى جَوَازِ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ فِي حَالِ الْكُفْرِ
وَتَأْدِيَتِهِ حَالَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ صَحَّتْ لَهُ
الصُّحْبَةُ وَالسَّمَاعُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ
ثَبَتَتِ الصُّحْبَةُ وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ
فَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ
حُجَّةٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ مِنْ
مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ لِأَنَّهُ
حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ مَذْهَبُنَا
الْمَنْصُورُ، هَذَا وَقَدِ اعْتَضَدَ الْحَدِيثُ
بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلَفْظُهُ: إِذَا
أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَاسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ
أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا حَفِظْتَهُ، وَإِنْ كَانَ
مَرِيضًا عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَهِدْتَهُ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ كَالتَّفْسِيرِ لِلسَّابِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالْحَقَائِقِ.
(8/3143)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5021 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
«خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَتَدْرُونَ أَيُّ
الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ " قَالَ
قَائِلٌ؟ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ. وَقَالَ قَائِلٌ
الْجِهَادُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ»
". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ
الْأَخِيرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5021 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنَ
الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ
جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (أَتَدْرُونَ أَيُّ
الْأَعْمَالِ) أَيْ: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا
(أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) أَيْ: أَفْضَلُ، وَأَمَّا مَا
قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ
الْأَفْضَلِيَّةَ، فَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ
مُسْتَقِيمَةٍ، نَعَمْ يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَخْلُوقِ، لِأَنَّ وَلَدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ،
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ
عَلِيٌّ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - أَحَبُّ إِلَى
السَّيِّدِ السُّنِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ
الشَّيْخَيْنِ، وَكَذَا قَدْ تَكُونُ مُطَالَعَةُ عِلْمٍ
أَوْ مُبَاشَرَةُ عَمَلٍ أَحَبُّ عِنْدَ أَحَدٍ، مَعَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ عِنْدَهُ أَيْضًا. (قَالَ
قَائِلٌ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ) الظَّاهِرُ أَنَّ
الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " وَالتَّقْدِيرُ وَقَالَ
قَائِلٌ الزَّكَاةُ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ
(قَائِلٌ: الْجِهَادُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى
اللَّهِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ)
وَيُؤَيِّدُهُ غِبْطَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ،
وَلَعَلَّ وَجْهَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ أَرْكَانِ
الْإِسْلَامِ، وَعَمُودِهِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ
بَعْدَ حُصُولِ الْفَرَائِضِ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ
يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ
كَذَلِكَ. وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ
بَعْدَ ارْتِكَابِ الْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ،
وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّةِ الْحُبُّ فِي
اللَّهِ وَالْبُغْضُ لِلَّهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ
وَأَكْمَلُ الطَّاعَاتِ، فَعَلَيْكُمْ بِهِمَا. وَمِنَ
الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ
أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
بِمَعْنَى أَنَّهُمَا يُخْتَارَانِ عَلَيْهِمَا. أَوْ
ثَوَابُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهِمَا مُطْلَقًا،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ
الْفَرَائِضِ إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِ
الْمُؤْمِنِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَكِيمِ بْنِ
عُمَيْرٍ بِلَفْظِ: أَحُبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ
مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا مَنْ جُوعٍ أَوْ دَفَعَ عَنْهُ
مَغْرَمًا أَوْ كَشَفَ عَنْهُ كَرْبًا اهـ. وَالْكُلُّ
مِنْ بَابِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَافِلِ
الْقَاصِرَةِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ
الْحُبُّ فِي اللَّهِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ؟ قُلْتُ: مَنْ
أَحَبَّ فِي اللَّهِ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ
وَأَوْلِيَاءَهُ، وَمِنْ شَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ أَنْ
يَقْفُوَ أَثَرَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ فِي
اللَّهِ أَبْغَضَ أَعْدَاءَهُ، وَبَذَلَ جُهْدَهُ فِي
الْمُجَاهَدَةِ مَعَهُمْ بِالسِّنَانِ وَاللِّسَانِ اهـ.
وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ شَافٍ، كَمَا لَا يَخْفَى وَلَا
مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى.
(رَوَاهُ) أَيْ: مَجْمُوعَ الْحَدِيثِ (أَحْمَدُ، وَرَوَى
أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) أَيْ: قَوْلَهُ:
إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَخْ. وَفِي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ:
" «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ
فِي اللَّهِ» ".
(8/3143)
5022 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَحَبَّ عَبْدٌ
عَبْدًا لِلَّهِ إِلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»
". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5022 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : أَيِ: الْبَاهِلِيِّ
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا لِلَّهِ) أَيْ:
لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ (إِلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ) أَيْ:
عَظَّمَهُ (عَزَّ) أَيْ: بَهَاؤُهُ (وَجَلَّ) أَيْ:
ثَنَاؤُهُ أَوْ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَوْ عَزِيزٌ
وَجَلِيلٌ بِغَيْرِ إِعْزَازٍ وَإِجْلَالٍ وَإِكْرَامٍ
مِنْ مَخْلُوقٍ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْعِزِّ: "
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}
[الإسراء: 111] " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
(8/3144)
5023 - وَعَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ! قَالَ: " خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا
ذُكِرَ اللَّهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5023 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ
السَّكَنِ (أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ) : جَمْعُ خَيْرٍ بِمَعْنَى
أَخْيَرَ أَيْ أَفَاضِلِكُمْ (قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ
اللَّهِ! قَالَ: خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا) :
بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (ذُكِرَ اللَّهُ
رَوَاهُ أَحْمَدُ) : سَبَقَ الْحَدِيثُ مُسْتَوْفًى
بِطَرِيقِ مَبَانِيهِ وَبَيَانِ مَعَانِيهِ فِي أَوَاخِرِ
الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ حِفْظِ اللِّسَانِ. وَفِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ
بِخِيَارِكُمْ؟ خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ
اللَّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهَا.
(8/3144)
5024 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ
تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاحِدٌ فِي
الْمَشْرِقِ وَآخَرُ فِي الْمَغْرِبِ ; لَجَمَعَ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ: هَذَا الَّذِي
كُنْتَ تُحِبُّهُ فِيَّ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5024 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ
عَبْدَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ» ) أَيْ: تَحَابَبَا
لِلَّهِ (عَزَّ) أَيْ: عَدْلُهُ (وَجَلَّ) : بِكَسْرِ
الْحَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَفِي نُسْخَةٍ
(وَاحِدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ وَآخَرُ فِي الْمَغْرِبِ)
أَيْ: مَثَلًا (لَجَمْعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) أَيْ: لِشَفَاعَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ،
أَوْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَاحَبَةِ
وَالْمُزَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ. (يَقُولُ) أَيْ:
سَيَقُولُ، أَوْ يُقَالُ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ صَبَاحٌ
وَلَا مَسَاءٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ
الْفَاعِلِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ عَلَى لِسَانِ
مَلَكٍ أَوْ وَاسِطَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (هَذَا
الَّذِي كُنْتَ تُحِبُّهُ فِيَّ) أَيْ: لِأَجْلِيَ.
(8/3144)
5025 - وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى
مِلَاكِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تُصِيبُ بِهِ خَيْرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ عَلَيْكَ بِمَجَالِسِ أَهْلِ
الذِّكْرِ، وَإِذَا خَلَوْتَ فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَا
اسْتَطَعْتَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَحِبَّ فِي اللَّهِ
وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، يَا أَبَا رَزِينٍ! هَلْ شَعَرْتَ
أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ زَائِرًا
أَخَاهُ، شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ
يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّهُ
وَصَلَ فِيكَ، فَصِلْهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُعْمِلَ
جَسَدَكَ فِي ذَلِكَ فَافْعَلْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5025 - (وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَكَسْرِ الزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَقِيطُ بْنُ
عَامِرِ بْنِ صَبْرَةَ الْعَقِيلِيُّ صَحَابِيٌّ
مَشْهُورٌ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَاصِمٌ وَابْنُ عُمَرَ
وَغَيْرُهُمَا. (أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا) :
لِلتَّنْبِيهِ أَوِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ
الْإِنْكَارِيِّ وَلَا لِلنَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ
إِثْبَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مَا أَتَى بِبَلَى فِي
جَوَابِهِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَعَلَى كُلٍّ فَفِي
الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّنْبِيهِ فَالْمَعْنَى
تَنَبَّهْ لِقَوْلِي: أَلَا (أَدُلُّكَ عَلَى مِلَاكِ
هَذَا الْأَمْرِ) : الْمِلَاكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا
يَتَقَوَّمُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا فِي
الذِّهْنِ وَهُوَ مُبْهَمٌ بَيَّنَهُ وَصْفُهُ بِقَوْلِهِ:
(الَّذِي تُصِيبُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟
عَلَيْكَ بِمَجَالِسِ أَهْلِ الذِّكْرِ) أَيِ: الْزَمْهَا
جَمِيعَهَا لِأَنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا "
«إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا "
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: " الذِّكْرُ» " وَالْمَعْنَى إِذَا مَرَرْتُمْ
بِجَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاذْكُرُوا
اللَّهَ أَنْتُمْ أَيْضًا مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ
فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «إِذَا
مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قُلْتُ:
وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " الْمَسَاجِدُ "
قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا
(8/3144)
رَسُولَ اللَّهِ: " سُبْحَانَ اللَّهِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ". قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ:
الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فِي الْمَكَانِ وَالذِّكْرِ،
فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ذَكَرَهُ
مِيرَكُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْأَذْكَارَ
الْمَذْكُورَةَ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ،
نَعَمِ الْمَسَاجِدُ خَيْرُ الْمَجَالِسِ، فَيُحْمَلُ
عَلَى أَنَّهُ خَصَّهَا لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ
وَالْأَذْكَارُ هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ،
وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِذَا نَصَّ عَلَيْهَا،
وَإِلَّا فَمَجَالِسُ الذِّكْرِ تَشْمَلُ مَجَالِسَ
الْعُلَمَاءِ وَمَحَافِلَ الْوُعَّاظِ وَالْأَوْلِيَاءِ
مِمَّنْ تَكُونُ مَجَالِسُهُمْ مَشْحُونَةً بِذِكْرِ
اللَّهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ
الْعَقَائِدِ الْحَقِّيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الدِّينِيَّةِ
مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالتَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَإِذَا خَلَوْتَ فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَا اسْتَطَعْتَ
بِذِكْرِ اللَّهِ) : وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ لَا تَغْفُلُ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا فِي الْمَلَأِ وَلَا فِي
الْخَلَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: " «قَالَ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا
ذَكَرْتَنِي خَالِيًا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا، وَإِذَا
ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنَ
الَّذِي ذَكَرْتَنِي فِيهِمْ» " وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ: " «يَقُولُ اللَّهُ
أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا
ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي
نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي
مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» " فَقَوْلُهُ (فِي نَفْسِهِ)
ظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ
لِمُقَابَلَتِهِ بِالذِّكَرِ النَّفْسِيِّ، الَّذِي هُوَ
مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ
إِلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ نَوْعَيِ الذِّكْرِ
الْخَفِيِّ، وَقَوْلُهُ: فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَحْمُولٌ
عَلَى الْمُبْتَدِئِ حَيْثُ احْتَاجَ إِلَى أَنَّهُ
يَذْكُرُ اللَّهَ بِجَنَانِهِ بِاسْتِعَانَةِ لِسَانِهِ،
كَمَا حَقَّقَ فِي بَحْثِ النِّيَّةِ، أَوْ إِشَارَةٍ
إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَكْمَلُ، وَإِنْ كَانَ
أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ لِمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِفَضْلِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ
الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا
إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَمَعَ اللَّهُ
الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا
حَفِظُوا وَكَتَبُوا قَالَ لَهُمْ: أَنْظِرُوا هَلْ بَقِيَ
لَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا
مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ
أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ
لَكَ عِنْدِي حُسْنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنَا أَجْزِيكَ
بِهِ وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " اهـ. وَفِي قَوْلِهِ:
لَا تَعْلَمُهُ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى مَا قَالَتِ
الصُّوفِيَّةُ مِنْ فَنَاءِ الذَّاكِرِ فِي الذِّكْرِ،
وَبَقَائِهِ بِالْمَذْكُورِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] أَيْ:
نَسِيَتْ نَفْسُكُ أَوْ ذَكِّرْهَا أَيْضًا، بَلِ
الشُّعُورُ عَنْهَا، وَالشُّعُورُ عَنْ عَدَمِ الشُّعُورِ
هُوَ الْمَقَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِفَنَاءٍ
وَالْفَنَاءُ رَزَقَنَا اللَّهُ الْبَقَاءُ وَاللِّقَاءُ.
(وَأَحِبَّ فِي اللَّهِ) أَيْ: مَنْ يُعِينُكَ عَلَى
ذِكْرِ اللَّهِ (وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ) أَيْ: مَنْ
يُشْغِلُكَ عَنِ اللَّهِ (يَا أَبَا رَزِينٍ) : تَكْرَارُ
النِّدَاءِ الْمُسْتَطَابِ لِزِيَادَةِ الِاقْتِرَابِ
وَرَفْعِ الْحِجَابِ (هَلْ شَعَرْتَ) : بِفَتْحِ
الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ. فَفِي الْقَامُوسِ: شَعَرَ
بِهِ كَنَصَرَ وَكَرُمَ. عِلْمُهُ بِهِ وَفَطِنَ،
وَالْمَعْنَى هَلْ عَلِمْتَ (أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ
مِنْ بَيْتِهِ زَائِرًا أَخَاهُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ
مُرِيدًا زِيَارَةَ أَخِيهِ فِي اللَّهِ (شَيَّعَهُ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ)
أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ أَوْ يُثْنُونَ
عَلَيْهِ (وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّهُ وَصَلَ) : أَيْ:
أَخَاهُ (فِيكَ) أَيْ: لِأَجْلِكَ (فَصِلْهُ) أَيْ:
بِوَصْلِكَ الْمُعَبِّرِ عَنْ قُرْبِكَ جَزَاءً وِفَاقًا،
أَوْ صِلْهُ بِصِلَةٍ مِنْ عِنْدِكَ (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ)
أَيْ: دَائِمًا (أَنْ تُعْمِلَ جَسَدَكَ) : مِنَ
الْأَعْمَالِ أَيْ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَبْذُلَ جُهْدَكَ
وَتَسْتَفْرِغَ طَاقَتَكَ (فِي ذَلِكَ) أَيْ: فِي
مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ أَوْ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ،
أَوْ فِي زِيَارَةِ الْأَخِ لِلَّهِ. (فَافْعَلْ) : أَيْ:
وَلَا تَمَلَّ فِي حُصُولِ الْعَمَلِ رَجَاءً لِوُصُولِ
الْأَمَلِ.
(8/3145)
5026 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ لَعُمُدًا مِنْ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا غُرَفٌ مِنْ
زَبَرْجَدٍ، لَهَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ تُضِيءُ كَمَا
يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ ". فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَسْكُنُهَا؟ قَالَ: "
الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي
اللَّهِ، وَالْمُتَلَاقُونَ فِي اللَّهِ» " رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ
الْإِيمَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5026 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ:
وَحْدِي لِيَتَرَتَّبَ فَائِدَةً عَلَى ذِكْرِ الْجُمْلَةِ
الْكَوْنِيَّةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَعُمُدًا) :
بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَمُودٍ بِمَعْنَى الِأُسْطُوَانَةِ،
وَفِي نُسْخَةٍ
(8/3145)
بِفَتْحِهِمَا وَقُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ: "
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ " وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَمُودُ
مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَعْمِدَةٍ وَعُمُدٌ وَعُمْدٌ.
(مِنْ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْعُمُدِ (غُرَفٌ)
: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ غُرْفَةٍ (مِنْ زَبَرْجَدٍ) :
بِفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (لَهَا) أَيْ:
لِلْغُرَفِ (أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ) : إِشَارَةٌ إِلَى
كَمَالِ الْأَمْنِ أَوْ إِيمَانٌ إِلَى انْتِظَارِ
مَقْدِمِ صَاحِبِهَا (تُضِيءُ) أَيِ: الْأَبْوَابُ أَوِ
الْغُرَفُ بِمَا فِيهَا وَأَضَاءَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.
(كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ) : بِضَمِّ
الدَّالِ وَبِكَسْرٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ
وَالتَّحْتِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ يُثَلَّثُ قَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] أَيْ: مُضِيءٌ
مُتَلَأْلِئٌ كَالزَّهْرَةِ فِي صَفَائِهِ، وَزَهْرَتُهُ
مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ أَوْ فَعِيلٍ كَمَرِيقٍ أَيِ
الْمُعَصْفَرِ مِنَ الدَّرْءِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ
الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ أَوْ بَعْضِ ضَوْئِهِ بَعْضًا مِنْ
لَمَعَانِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَلَبَ هَمْزَتَهُ يَاءً،
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَأَبِي بَكْرٍ
عَلَى الْأَصْلِ، وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو
وَالْكِسَائِيِّ دَرِّيٌّ كَشَرِّيبٍ أَيْ كَثِيرِ
الشُّرْبِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ مَقْلُوبًا أَيْ: بِكَسْرِ
الدَّالِّ، وَقَلْبِ هَمْزَتِهِ يَاءً لَكِنَّهُ شَاذٌّ
قَرَأَ بِهِ الزُّهْرِيُّ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ! مَنْ يَسْكُنُهَا؟) أَيْ: هَذِهِ الْغُرَفَ
(قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ،
وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَلَاقُونَ)
أَيِ: الْمُتَزَاوِرُونَ أَوِ الْمُتَصَافِحُونَ (فِي
اللَّهِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ
فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَرَوَى الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْإِخْوَانِ.
(8/3146)
|