|
مرقاة المفاتيح
شرح مشكاة المصابيح [بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]
(8/3448)
بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5464 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اطَّلَعَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا وَنَحْنُ
نَتَذَاكَرُ. فَقَالَ: " مَا تَذْكُرُونَ؟ ". قَالُوا:
نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: " إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ
حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ
الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ
الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى بْنِ
مَرْيَمَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ:
خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ
بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ
مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ،
وَفِي رِوَايَةٍ: " نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ
تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ
فِي الْعَاشِرَةِ: " «وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي
الْبَحْرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[3] بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ
وَذِكْرِ الدَّجَّالِ
وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ عَلَامَاتِ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ
يَدَيِ السَّاعَةِ أَيْ: قُدَّامَهَا، وَأَصْلُهُ أَنْ
يُسْتَعْمَلَ فِي مَكَانٍ يُقَابِلُ صَدْرَ الشَّخْصِ
مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الزَّمَانِ،
ثُمَّ قَوْلُهُ: وَذِكْرِ الدَّجَّالِ مِنْ بَابِ
التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، وَهُوَ مِنْ دَجَلَ
إِذَا سَاحَ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: دَجَلَ فُلَانٌ
الْحَقَّ إِذَا أَعْطَاهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَصْلُ
الدَّجَّالِ الْخَلْطُ، يُقَالُ: دَجَلَ إِذَا لَبَّسَ
وَمَوَّهَ، وَالدَّجَّالُ فَعَّالٌ مِنْ أَبْنِيَةِ
الْمُبَالَغَةِ، أَيْ: يَكْثُرُ مِنْهُ الْكَذِبُ
وَالتَّلْبِيسُ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5464 - (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) : بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمَلَكِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي
أَسْمَائِهِ، (الْغِفَارِيِّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ
الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ أَبُو
ذَرٍّ، (قَالَ: اطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ:
أَشْرَفَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا) أَيْ: وَشَرَّفَنَا بِطَلْعَةِ
وَجْهِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخَدَّيْنِ الْغَالِبِ
نُورُهُمَا عَلَى طُلُوعِ الْقَمَرَيْنِ ; حَيْثُ
يُسْتَفَادُ مِنْهُ ضِيَاءُ الدَّارَيْنِ، (وَنَحْنُ
نَتَذَاكَرُ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، (فَقَالَ: " مَا
تَذْكُرُونَ؟ ") أَيْ: بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ، (قَالُوا)
، وَفِي نُسْخَةٍ قُلْنَا (نَذْكُرُ السَّاعَةَ) أَيْ:
أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَاحْتِمَالَ قِيَامِهَا فِي كُلِّ
سَاعَةٍ، (قَالَ: " إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا
قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ") أَيْ: عَلَامَاتٍ (" فَذَكَرَ
") أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِلْعَشْرِ (" الدُّخَانَ ") : قَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ
مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، وَذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ
عِبَارَةٌ عَمَّا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ،
حَتَّى يُرَى الْهَوَاءُ لَهُمْ كَالدُّخَانِ، لَكِنْ
قَالَ حُذَيْفَةُ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّهُ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ
عَنْهُ فَقَالَ: " «يَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً،
وَالْمُؤْمِنُ يَصِيرُ كَالزُّكَامِ، وَالْكَافِرُ
كَالسَّكْرَانِ» "، فَقَوْلُهُ: يَصِيرُ كَالزُّكَامِ
أَيْ: كَصَاحِبِ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ
أَيْ: كَالْمَزْكُومِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ
الْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، (" وَالدَّجَّالَ،
وَالدَّابَّةَ ") : وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82] ، (" وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ
مَغْرِبِهَا ") ، قِيلَ: لِلدَّابَّةِ ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ،
أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ، ثُمَّ أَيَّامَ عِيسَى، ثُمَّ
بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمَلَكِ. (" «وَنُزُولَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ") أَيِ: الْمُنْضَمِّ
إِلَى ظُهُورِهِ الْمَهْدِيُّ الْأَعْظَمُ، فَهُوَ مِنْ
بَابِ الِاكْتِفَاءِ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَوْسٍ مَرْفُوعًا "
«يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ
الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ» ". وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ مَرْفُوعًا:
" «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ» ":
فِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ
بِفَلَسْطِينَ، كَذَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ
لِلسُّيُوطِيِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: لُدٌّ بِالضَّمِّ
قَرْيَةٌ بِفَلَسْطِينَ، يَقْتُلُ عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الدَّجَّالَ عِنْدَ بَابِهَا،
هَذَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ الدُّخَانُ،
ثُمَّ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، ثُمَّ نُزُولُ عِيسَى -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ خُرُوجُ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ خُرُوجُ الدَّابَّةِ، ثُمَّ
طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنَّ الْكُفَّارَ
يُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
حَتَّى تَكُونَ الدَّعْوَةُ وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَتِ
الشَّمْسُ طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا قَبْلَ خُرُوجِ
الدَّجَّالِ وَنُزُولِهِ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ
مَقْبُولًا مِنَ الْكُفَّارِ، قَالُوا وَلِمُطْلَقِ
الْجَمْعِ فَلَا يُرَدُّ أَنَّ نُزُولَهُ قَبْلَ
طُلُوعِهَا، وَلَا مَا سَيَأْتِي أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ
أَوَّلُ الْآيَاتِ. (" وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ") :
بِأَلِفٍ فِيهِمَا وَيُهْمَزُ أَيْ: خُرُوجَهُمَا، ("
وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ ") :
(8/3449)
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَدْ وُجِدَ
الْخَسْفُ فِي مَوَاضِعَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِالْخُسُوفِ الثَّلَاثَةِ قَدْرًا زَائِدًا
عَلَى مَا وُجِدَ، كَأَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مَكَانًا
وَقَدْرًا (" خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ
بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ") :
بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَحَدِهَا
أَوْ مِنْهَا، وَلَوْ رُوِيَ بِالْجَرِّ لَكَانَ لَهُ
وَجْهٌ مِنَ الْبِدَايَةِ، (" وَآخِرُ ذَلِكَ ") أَيْ: مَا
ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ (نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ) ،
وَفِي رِوَايَةٍ: تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَعَلَّهَا نَارَانِ
تَجْتَمِعَانِ تَحْشُرَانِ النَّاسَ، أَوْ يَكُونُ
ابْتِدَاءُ خُرُوجِهَا مِنَ الْيَمَنِ، وَظُهُورُهَا مِنَ
الْحِجَازِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ:
أَنَّ أَوَّلَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ
الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، بِأَنَّ آخِرِيَّتَهَا
بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ،
وَأَوَّلِيَّتَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَوَّلُ
الْآيَاتِ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا مِنْ أَمْرِ
الدُّنْيَا أَصْلًا، بَلْ يَقَعُ بِانْتِهَائِهَا
النَّفْخُ فِي الصُّورِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مَعَهَا،
فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا أَشْيَاءُ
مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ
الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُوَفَّقِينَ. ("
تَطْرُدُ ") أَيْ: تَسُوقُ تِلْكَ النَّارُ (النَّاسَ
إِلَى مَحْشَرِهِمْ) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ أَيْ:
إِلَى مَجْمَعِهِمْ، وَمَوْقِفِهِمْ، قِيلَ: الْمُرَادُ
مِنَ الْمَحْشَرِ أَرْضُ الشَّامِ، إِذْ صَحَّ فِي
الْخَبَرِ: إِنَّ الْحَشْرَ يَكُونُ فِي أَرْضِ الشَّامِ،
لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ
مُبْتَدَؤُهُ مِنْهَا، أَوْ تُجْعَلَ وَاسِعَةً تَسَعُ
خَلْقَ الْعَالَمِ فِيهَا.
(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ ("
نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ ") أَيْ: أَقْصَى
أَرْضِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَقِيلَ مُنْصَرِفٌ
بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ وَالْمَوْضِعِ، فَفِي
الْمَشَارِقِ عَدَنُ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالْيَمَنِ،
وَفِي الْقَامُوسِ عَدَنُ مُحَرَّكَةً جَزِيرَةٌ
بِالْيَمَنِ، (" تَسُوقُ ") أَيْ: تَطْرُدُ النَّارُ ("
النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي
الْعَاشِرَةِ) أَيْ: فِي بَيَانِهَا وَبَدَلًا عَمَّا
ذُكِرَ فِيهَا مِنَ النَّارِ (" وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ
فِي الْبَحْرِ ") ، وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَنَّ
الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْكُفَّارُ، وَأَنَّ نَارَهُمْ
تَكُونُ مُنْضَمَّةً إِلَى رِيحٍ شَدِيدَةِ الْجَرْيِ،
سَرِيعَةِ التَّأْثِيرِ فِي إِلْقَائِهَا إِيَّاهُمْ فِي
الْبَحْرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَشْرِ الْكُفَّارِ، أَوْ
مُسْتَقَرُّ الْفُجَّارِ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ الْبَحْرَ
يَصِيرُ نَارًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] ، بِخِلَافِ نَارِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ التَّخْوِيفِ
بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ مَهَابَةً ; لِتَحْصِيلِ السَّوْقِ
إِلَى الْمَحْشَرِ وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَبُو
دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
(8/3450)
5465 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ
سِتًّا الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ،
وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ
الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ» ". رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5465 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
بَادِرُوا ") أَيْ: أَسْرِعُوا وَسَابِقُوا ("
بِالْأَعْمَالِ ") أَيِ: الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ فِي
الْآخِرَةِ (" سِتًّا ") أَيْ: سِتَّةَ آيَاتٍ، أَيْ:
عَلَامَاتٍ لِوُجُودِ السَّاعَةِ ; إِذْ يَعْسُرُ
الْعَمَلُ وَيَصْعُبُ فِيمَا بَعْدَهَا، أَوْ لَمْ
يُقْبَلْ وَلَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا، ("
الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ،
وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ
الْعَامَّةِ ") أَيِ: الْفِتْنَةَ الَّتِي تَعُمُّ
النَّاسَ، أَوِ الْأَمْرَ الَّذِي يَسْتَبِدُّ بِهِ
الْعَوَامُّ، وَيَكُونُ مِنْ قِبَلِهِمْ دُونَ الْخَوَاصِّ
مِنْ تَأْمِيرِ الْأُمَّةِ، (" وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ
") : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَتَشْدِيدٍ، وَهُوَ
تَصْغِيرُ خَاصَّةٍ أَيِ: الْوَقْعَةَ الَّتِي تَخُصُّ
أَحَدَكُمْ، قِيلَ: يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقِيلَ: هِيَ مَا
يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّوَاغِلِ
الْمُتَعَلِّقَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَمَا يَهْتَمُّ
بِهِ، وَصُغِّرَتْ لِاسْتِصْغَارِهَا فِي جَنْبِ سَائِرِ
الْحَوَادِثِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَسَبِ مَا
حَرَّرْنَاهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ بِعَيْنِ مَا
ذَكَرْنَاهُ، أَيْ: قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ السِّتِّ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ ظُهُورَهَا
يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ إِيمَانِ الْيَأْسِ ; لِكَوْنِهَا
مُلْجِئَةً إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَا ثَوَابَ
لِلْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ عَلَى عَمَلِهِ،
فَإِذَا انْقَطَعَ الثَّوَابُ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَادِرُوا
بِالْأَعْمَالِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ،
فَإِنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ دَهَشَتْهُمْ وَشَغَلَتْهُمْ
عَنِ الْأَعْمَالِ، أَوْ سُدَّ عَلَيْهِمْ بَابُ
التَّوْبَةِ وَقَبُولِ الْأَعْمَالِ. وَفِي الْفَائِقِ:
مَعْنَى مُبَادَرَةِ السِّتِّ بِالْأَعْمَالِ:
الِانْكِمَاشُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،
وَالِاهْتِمَامُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَتَأْنِيثُ
السِّتِّ لِأَنَّهَا دَوَاءٌ وَمَصَائِبُ. (رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
(8/3450)
5466 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "
«إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ
مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى،
وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا ;
فَالْأُخْرَى عَلَى أَثَرِهَا قَرِيبًا» ". رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5466 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ
(قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ
الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ")
، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ:
طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَيْسَ أَوَّلَ
الْآيَاتِ ; لِأَنَّ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ قَبْلَهُ،
قُلْنَا الْآيَاتُ إِمَّا أَمَارَاتٌ لِقُرْبِ قِيَامِ
السَّاعَةِ، وَإِمَّا أَمَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ
قِيَامِ السَّاعَةِ وَحُصُولِهَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ
الدُّخَانُ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ وَنَحْوُهُمَا، وَمِنَ
الثَّانِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ
مَغْرِبِهَا، وَالرَّجْفَةِ، وَخُرُوجِ النَّارِ
وَطَرْدِهَا النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَإِنَّمَا
سُمِّيَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ مُبْتَدَأُ الْقِسْمِ
الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
بَعْدَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. (" وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ ")
: هُوَ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَهُوَ خَبَرُ أَوَّلَ ; فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ
الْأَوَّلُ مُتَعَدِّدًا ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: أَوْ خُرُوجُ
الدَّابَّةِ، (" عَلَى النَّاسِ ضُحًى ") بِالتَّنْوِينِ
أَيْ: وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ
أَنَّ نِسْبَةَ الْأَوَّلِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ
إِلَيْهِمَا مُبْهَمَةٌ، وَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
أَحَدِهِمَا مَجَازِيَّةٌ ; وَلِذَا قَالَ: ("
وَأَيُّهُمَا ") ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فَأَيَّتُهُمَا
بِالْفَاءِ وَالتَّأْنِيثِ، (" مَا كَانَتْ ") : " مَا "
زَائِدَةٌ، أَيْ: وَأَيُّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ
وَقَعَتْ (" قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى
أَثَرِهَا ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ،
أَيْ: تَحْصُلُ عَقِبَهَا (" قَرِيبًا ") أَيْ: حُصُولًا
أَوْ وُقُوعًا قَرِيبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِتَحْقِيقِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا
لَيْسَ بِأَوَّلِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ
وَقَعَ قَبْلَهُمَا، قُلْنَا: الْآيَاتُ إِمَّا أَمَارَاتٌ
دَالَّةٌ عَلَى قُرْبِهَا، فَأَوَّلُهَا بَعْثَةُ
نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَوْ أَمَارَاتٌ مُتَوَالِيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
وُقُوعِهَا قَرِيبًا، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا، وَأَمَّا
حَدِيثُ: إِنَّ أَوَّلَهَا خُرُوجُ الدَّجَّالِ فَلَا
صِحَّةَ لَهُ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. (رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ
مَاجَهْ.
(8/3451)
5467 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا
يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:
158] : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا،
وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ» ". رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5467 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
ثَلَاثٌ ") أَيْ: آيَاتٌ (" إِذَا خَرَجْنَ ") : فِيهِ
تَغْلِيبٌ أَوْ مَعْنَاهُ ظَهَرَتْ، وَالْمُرَادُ هَذِهِ
الثَّلَاثُ بِأَسْرِهَا {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] طُلُوعُ الشَّمْسِ
مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ ")
، وَقَدَّمَ الطُّلُوعَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي
الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ مَدَارَ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ
عَلَيْهِ، وَإِنْ ضُمَّ خُرُوجُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.
(8/3451)
5468 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "
أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ
حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ
فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، وَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا،
وَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ
مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، قَالَ: "
مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5468 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ
غَرَبَتِ الشَّمْسُ: " أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ
") ؟ أَيِ الشَّمْسُ وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ،
(قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "
فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ ")
، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لَا يُخَالِفُ هَذَا
قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ
مُدْرَكِ الْبَصَرِ، وَسُجُودُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ
إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ
عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا
غَايَةُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الِارْتِفَاعِ،
وَذَلِكَ يَوْمٌ فِي السَّنَةِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهَا
عِنْدَ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَسْتَقِرُّ
تَحْتَهُ اسْتِقْرَارًا عِلْمُنَا لَا يُحِيطُ بِهِ، ("
فَتَسْتَأْذِنُ ") : بِالرَّفْعِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ
وَبَعْضِ
(8/3451)
النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَذَا
قَوْلُهُ: (فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ،
وَلَا يُقْبَلُ ") : بِالتَّذْكِيرِ أَيِ السُّجُودُ،
وَالظَّرْفُ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَيُؤَنَّثُ، أَيِ:
السَّجْدَةُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ
مَرْفُوعٌ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ("
وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَيُقَالُ: ارْجِعِي
مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا
تَحْتَ الْعَرْشِ ") ، وَقَوْلُهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ:
مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي لِأَجَدِّ قَدْرٍ
لَهَا، يَعْنِي إِلَى انْقِطَاعِ مُدَّةِ بَقَاءِ
الْعَالَمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُسْتَقَرُّهَا غَايَةُ
مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا
لِأَطْوَلِ يَوْمٍ مِنَ الصَّيْفِ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي
النُّزُولِ فِي أَقْصَى مَشَارِقِ الشِّتَاءِ لِأَقْصَرِ
يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُسْتَقَرُّهَا
تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَهَا
اسْتِقْرَارٌ تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ حَيْثُ لَا
نُدْرِكُهُ، وَلَا نُشَاهِدُهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ
غَيْبٍ فَلَا نُكَذِّبُهُ وَلَا نُكَيِّفُهُ ; لِأَنَّ
عِلْمَنَا لَا يُحِيطُ بِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ.
(8/3452)
5469 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "
«مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ
أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5469 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى
قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ ") : مَا: نَافِيَةٌ،
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِتْنَةٌ ("
أَكْبَرُ ") أَيْ: أَعْظَمُ (" مِنَ الدَّجَّالِ ") ;
لِعِظَمِ فِتْنَتِهِ وَبَلِيَّتِهِ ; وَلِشِدَّةِ
تَلْبِيسِهِ وَمِحْنَتِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِي
الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عَامِرٍ. فَلْيُنْظَرْ فِي الْأُصُولِ لِيَتَحَقَّقَ
النُّقُولَ.
(8/3452)
5470 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ
وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ
الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ» ".
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5470 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْكُمْ ") أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى نُعُوتِهِ
الثُّبُوتِيَّةِ، وَصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ،
وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَسَائِرِ
الْحُدُوثَاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ،
فَالْجُمْلَةُ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: (" إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") ، وَمَفْهُومُهُ لَا
يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ النَّقْصِ
وَالْعَيْبِ لَا إِثْبَاتُ الْجَارِحَةِ بِصِفَةِ
الْكَمَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ
لِلتَّنْزِيهِ كَمَا وَسَّطَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ:
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ
مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] ، (" وَإِنَّ الْمَسِيحَ)
بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ
فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ
جَمِيعَهَا بِسُرْعَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ;
فَإِنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ. قَالَ
السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَقْلًا عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ شَدَّدَ سِينَهُ
أَوْ أَعْجَمَ حَاءَهُ فَقَدْ حَرَّفَ، انْتَهَى. وَهُوَ
لَقَبٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنَّهُ يُطْلَقُ
عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَاسِحِ ; لِحُصُولِ الْبُرْءِ
بِبَرَكَةِ مَسْحِهِ، وَبِمَعْنَى الْمَمْسُوحِ ;
لِنُزُولِهِ نَظِيفًا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. وَفِي
الْقَامُوسِ: الْمَسِيحُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِبَرَكَتِهِ، وَذَكَرْتُ فِي اشْتِقَاقِهِ
خَمْسِينَ قَوْلًا فِي شَرْحِي لِمَشَارِقِ الْأَنْوَارِ
وَغَيْرِهِ، وَالدَّجَّالُ لِشُؤْمِهِ، أَوْ هُوَ
كَسِكِّينٍ، وَالْمَمْسُوحُ بِالشُّؤْمِ وَالْكَثِيرُ
السِّيَاحَةِ كَالْمِسِّيحِ كَسِكِّينٍ، وَالْمَمْسُوحُ
الْوَجْهِ وَالْكَذَّابُ، (" الدَّجَّالُ ") : تَقَدَّمَ
مَعْنَاهُ، (" أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى ") : مِنْ بَابِ
إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ " إِلَى الصِّفَةِ، وَمَنْ لَمْ
يُجَوِّزْهُ كَالطِّيبِيِّ قَالَ أَيْ: عَيْنِ الْجُثَّةِ
أَوِ الْجِهَةِ الْيُمْنَى (" كَأَنَّ ") : بِتَشْدِيدِ
النُّونِ (" عَيْنَهُ) أَيِ: الْعَوْرَاءَ أَوِ الْأُخْرَى
(" عِنَبَةٌ ") أَيْ: شَبِيهَةٌ بِهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ
بَلِيغٌ (" طَافِيَةٌ ") : بِالْيَاءِ وَيُهْمَزُ أَيْ
مُرْتَفِعَةٌ. قَالَ مِيرَكُ: رُوِيَتْ بِهَمْزٍ
وَتَرْكِهِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِيَ النَّائِبَةُ عَنْ أَحَدِ
أَخَوَاتِهَا مِنَ الطَّفْوِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلُوَ
الشَّيْءُ عَلَى الْمَاءِ، انْتَهَى. وَمِنْهُ الطَّافِي
مِنَ السَّمَكِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، أَيْ: لَا طَافِئَةٍ
مُرْتَفِعَةٍ وَلَا غَائِرَةٍ مُتَحَجِّرَةٍ ; لِإِمْكَانِ
اجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ.
(8/3452)
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ
الْمَشَارِقِ: طَافِئَةٌ بِالْهَمْزَةِ ذَهَبَ ضَوْءُهَا،
وَرُوِيَ بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي
الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي وَصْفِ الدَّجَّالِ،
وَمَا يَكُونُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مُتَنَافِرَةٌ يُشْكِلُ
التَّوْفِيقُ بَيْنَهَا، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ
التَّوْفِيقَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهَا، وَسَنُبَيِّنُ
كُلًّا مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي
ذُكِرَ فِيهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّهَا طَافِيَةٌ، وَفِي آخَرَ أَنَّهُ جَاحِظُ
الْعَيْنِ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ، وَفِي آخَرَ أَنَّهَا
لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، وَالسَّبِيلُ فِي
التَّوْفِيقِ بَيْنَهَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا اخْتَلَفَ
الْوَصْفَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ،
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، هَذَا:
أَنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، وَفِي حَدِيثِ
حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا
ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ
أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُسْرَى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ
هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُتَنَافِرَةِ أَنْ يُقَدَّرَ
فِيهَا أَنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى
مَعِيبَةٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ
عَوْرَاءُ ; إِذِ الْأَصْلُ فِي الْعَوَرِ الْعَيْبُ،
وَذَكَرَ نَحْوَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ، كَذَا فِي
شَرْحِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) .
(8/3453)
5471 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ
أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، أَلَا إِنَّهُ
أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ: ك ف ر» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5471 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ
نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ
الْكَذَّابَ ") أَيْ: خَوَّفَهُمْ بِهِ، وَلَا يُشْكِلُ
هَذَا بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ عِيسَى بْنُ
مَرْيَمَ بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَحْكُمُ بِالشَّرِيعَةِ
الْمُحَمَّدِيَّةِ ; لِأَنَّ تَعْيِينَ وَقْتِ خُرُوجِهِ
غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ حِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ،
وَأَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ:
إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، عَلَى
مَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ
يَتَبَيَّنَ لَهُ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَعَلَامَاتُهُ، ثُمَّ
تَبَيَّنَ لَهُ وَقْتُ خُرُوجِهِ، فَأَخْبَرَ بِهِ عَلَى
أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِبْهَامَ إِنَّمَا وَقَعَ
بِسَبَبِ أَنَّ الْعَلَامَاتِ قَدْ يَكُونُ وُجُودُهَا
مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، فَإِذَا فُقِدَ يُتَصَوَّرُ
خُرُوجُهُ بِعَدَمِ ظُهُورِهَا، وَنَظِيرُهُ خَوْفُ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ
تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مَعَ
تَحَقُّقِ عِصْمَتِهِمْ، وَثُبُوتِ أَمْنِهِمْ مِنَ
الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَكَذَلِكَ خَشْيَةُ الْعَشَرَةِ
الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِ
الْمُرْسَلِينَ ; أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى شَيْءٌ، وَأَفْعَالُهُ لَا تُعَلَّلُ
وَالْأَسْبَابُ لَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهَا، وَلَا
تَأْثِيرَ لَهَا أَيْضًا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَلَعَلَّ
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي السِّرِّ إِلَيْهِمْ، حَتَّى
ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الدِّينِ الْأَقْوَمِ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. أَوْ يُقَالُ:
إِنَّ الْمُرَادَ بِالدَّجَّالِ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي
الْأُلُوهِيَّةَ مِنَ الرِّجَالِ، كَفِرْعَوْنَ،
وَشَدَّادٍ، وَنُمْرُوذَ، وَسَائِرِ الْأَبْطَالِ، وَلَا
يَخْلُو كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ نُقْصَانِ الْعَوَرِ، سَوَاءٌ
مِمَّا بَطَنَ فِيهِ أَوْ ظَهَرَ، عِنْدَ أَهْلِ
النَّظَرِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ
الْبَصَرُ، وَبَطَلَ الْحَذَرُ، وَيَكُونُ الدَّجَّالُ
الْمَوْعُودُ أَشَرَّ وَفِتْنَةً وَبَلِيَّةً عَلَى
الْعَامَّةِ أَظْهَرَ، وَكِبْرِيَاءُ رَبِّنَا
وَعَظَمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُهُ أَوْ
يُقَدَّرَ، وَمَظَاهِرُ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَمَالِيَّةِ
وَالْجَلَالِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَتُحْصَرَ،
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيُّ:
لَا تُنْكِرِ الْبَاطِلَ فِي طَوْرِهِ فَإِنَّهُ بَعْضُ
ظُهُورَاتِهِ
فَيَنْبَغِي لِلسَّالِكِ أَنْ يَقُولَ دَائِمًا بَعْدَ
امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي:
إِلَهِي أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ، وَأَرِنَا
الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ،
وَأَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ
وَارْتِكَابَهُ. (" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ
") أَيِ: الدَّجَّالَ (" أَعْوَرُ ") أَيْ: وَهُوَ
الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِلشَّرِّ، (" وَإِنَّ
رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") ، أَيْ: تَنَزَّهَ أَنْ
يَكُونَ نَاقِصًا وَمَعِيبًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ،
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - مِنْ بَابِ التَّنَزُّلِ إِلَى عَقْلِ
الْعَوَامِّ وَفُهُومِهِمْ، كَمَا وَرَدَ: كَلِّمِ
النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي
التَّنْزِيلِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ -
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ
يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194 -
195] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَصْنَامَ مَعَ كَمَالِ
عَجْزِهِنَّ وَنُقْصَانِ آلَاتِهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْعَابِدِينَ، كَيْفَ يَصْلُحْنَ أَنْ يَكُنَّ فِي
مَرْتَبَةِ الْمَعْبُودِينَ؟ وَلَيْسَ الْقَصْدُ
أَنَّهُنَّ لَوْ فُرِضَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ
ثَابِتَةً لَهُنَّ، لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ
(8/3453)
يُعْبَدْنَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ
لِأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ: أَنَا، فَقَالَ: مَنْ
رَبُّكِ؟ قَالَتْ: أَبُوكَ، قَالَ: مَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ:
نُمْرُوذُ، قَالَ: مَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ هُوَ الرَّبُّ
الْأَكْبَرُ ; لِأَنَّ جُنْدَهُ أَكْثَرُ، فَقَالَ
لِأُمِّهِ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِأَيِّ
شَيْءٍ صُورَتُهُ قَبِيحَةٌ وَصُورَةُ غِلْمَانِهِ
مَلِيحَةٌ؟ وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ ذَلِكَ الْعَيْبَ
الْأَكْبَرَ، وَالنُّقْصَانَ الْأَظْهَرَ عَلَامَةَ
كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ ; لِئَلَّا يَبْقَى لِلنَّاسِ عُذْرٌ
فِي قَبُولِ تَلْبِيسِهِ وَمَكْرِهِ، مَعَ أَنَّ
الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَرَاهِينَ
النَّقْلِيَّةَ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ الْجِسْمَ لَا
يَكُونُ إِلَهًا، وَأَنَّ الْحَادِثَ الْمَعْيُوبَ لَا
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا. (" مَكْتُوبٌ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ ك ف ر ") ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ
دَاعٍ إِلَى الْكُفْرِ، لَا إِلَى الرُّشْدِ، فَيَجِبُ
اجْتِنَابُهُ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ
فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ ظَهَرَ رَقْمُ
الْكُفْرِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ
الْمُرَادَ بِالتَّنْصِيصِ أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ فِيهِ
السَّمَاحَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ
- رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بَيَانُ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى
كَذِبِ الدَّجَّالِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً بَدِيهِيَّةً
يُدْرِكُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى
لُحُوقِهَا جِسْمًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ
الْقَطْعِيَّةِ ; لِكَوْنِ بَعْضِ الْعُقُولِ لَا
يَهْتَدِي إِلَيْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(8/3454)
5472 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ
حَدِيثًا عَنِ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ
قَوْمَهُ؟ : إِنَّهُ أَعْوَرُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثْلِ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا
الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا
أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5472 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنِ
الدَّجَّالِ، مَا حَدَّثَ) أَيْ: حَدِيثًا لَمْ يُحَدِّثْ
(" بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ ") ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ
الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَ (لَا) لِلنَّفْيِ، بِلَا
مَقْدِرَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَوْ بَادَرَ جَوَابَهُمْ
بِقَوْلِهِ: (" إِنَّهُ أَعْوَرُ ") ، أَيْ مُصَوَّرٌ
بِصُورَةٍ كَرِيهَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَمُزَوَّرٍ بِسِيرَةٍ
مُمَوَّهَةٍ بَاهِرَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الطَّائِفَةِ
السَّاحِرَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" وَإِنَّهُ ")
أَيِ: الشَّأْنَ (" يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثْلِ الْجَنَّةِ ")
، وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِثَالِ الْجَنَّةِ (" وَالنَّارِ ")
، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ
يَأْتِي بِصُورَتِهِمَا مَعَهُ فِي نَظَرِ النَّاسِ مِمَّا
يَقْلِبُ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَتَهُمَا فِي حَقِّ
الْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ يَسِيرُ مَعَهُ
مِثْلُهُمَا، وَيَصْحَبُ لَهُ شَكْلُهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ
مَا فِي رِوَايَةِ: يَجِيءُ مَعَهُ تِمْثَالٌ، بِكَسْرِ
الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بَدَلَ الْجَارِّ أَيْ:
صُورَتُهُمَا، (" فَالَّتِي ") أَيْ: فَالصُّورَةُ الَّتِي
(" يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ ") أَيْ: وَيُظْهِرُ
بَادِئَ الرَّأْيِ أَنَّهَا النِّعْمَةُ (" هِيَ النَّارُ
") أَيْ: ذَاتُ النِّقْمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا
مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ
الَّذِي يَلِيهِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَالَّتِي يَقُولُ
إِنَّهَا النَّارُ هِيَ الْجَنَّةُ، وَنَظِيرُهُ:
الدُّنْيَا فِي نَظَرِ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّ
نِقْمَتَهَا نِعْمَةٌ وَنِعْمَتَهَا نِقْمَةٌ،
وَمِحْنَتَهَا مِنْحَةٌ وَمِنْحَتَهَا مِحْنَةٌ،
وَحُسْنَهَا وَقُبْحَهَا مُخْتَلِفَةٌ، كَالنِّيلِ مَاءً
لِلْمَحْبُوبِينَ وَدَمًا لِلْمَحْجُوبِينَ {وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . قَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي
مَنْ دَخَلَ جَنَّتَهُ اسْتَحَقَّ النَّارَ ; لِأَنَّهُ
صَدَّقَهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى
الْمُسَبِّبِ.
أَقُولُ: وَكَذَا مَنْ لَمْ يُطِعْهُ وَرَمَاهُ فِي
النَّارِ اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ
كَذَّبَهُ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا يَنْقَلِبَانِ
وَيَنْعَكِسَانِ بِالْفِعْلِ عَلَيْهِمَا، كَمَا وَرَدَ
فِي: «أَنَّ الْقَبْرَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ
أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» ، وَمِنْهُ:
{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
[الأنبياء: 69] ، وَكَذَا الدُّنْيَا الْمُكَدَّرَةُ
الْمُسَمَّاةُ بِالسِّجْنِ، تَصِيرُ جَنَّةً
لِلْعَارِفِينَ الْوَاقِفِينَ فِي مَقَامِ الرِّضَا، كَمَا
قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا
وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى، وَكَذَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِهَا ; لِعَدَمِ حُضُورِهِمْ
مَعَ رَبِّهَا، كَالسُّمِّ فِي الدَّسَمِ، وَالْهَمِّ فِي
الدِّرْهَمِ، وَالنَّارِ فِي الدِّينَارِ، وَرُبَّمَا لَا
يُحِسُّونَ بِهَا كَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْرُوحِ فِي حَالِ
ابْتِدَاءِ الْجِرَاحَةِ، وَكَالْمَصْرُوعِ ; وَلِذَا
قِيلَ:
سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ أَفَرَسٌ تَحْتَكَ
أَمْ حِمَارُ وَقَضِيَّةُ وَلَدِ السُّلْطَانِ حَالَ
كَوْنِهِ سَكْرَانَ وَعِنَاقِهِ لِلْمَيِّتَةِ الْعَجُوزِ
الْمُعَطَّرَةِ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ
الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ فِي
صِحَّةِ وَجُودِهِ، وَأَنَّهُ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ ابْتَلَى
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ
(8/3454)
وَأَقْدَرَهُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ
مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ
الَّذِي يَقْتُلُهُ وَظُهُورِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا
وَالْخِصْبِ مَعَهُ، وَاتِّبَاعِ كُنُوزِ الْأَرْضِ لَهُ،
وَأَمْرِ السَّمَاءِ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَالْأَرْضِ
أَنْ تُنْبِتَ، فَيَقَعُ كُلُّ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، ثُمَّ يُعْجِزُهُ اللَّهُ
تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَتْلِ
ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا غَيْرِهِ، وَيَقْتُلُهُ عِيسَى
بْنُ مَرْيَمَ، وَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا،
وَقِصَّتُهُ عَظِيمَةٌ جِدًّا تُدْهِشُ الْعُقُولَ
وَتُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ، مَعَ سُرْعَةِ مُرُورِهِ فِي
الْأَرْضِ، وَلَا يَمْكُثُ بِحَيْثُ يَتَأَمَّلُ
الضُّعَفَاءُ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ،
فَيُصَدِّقُهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ;
وَلِهَذَا حَذَّرَتِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ فِتْنَتِهِ، وَنَبَّهُوا
عَلَى نَقْصِهِ وَدَلَائِلِ إِبْطَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ
التَّوْفِيقِ، فَلَا يَغْتَرُّونَ وَلَا يَنْخَدِعُونَ
بِمَا فِيهِ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ
الْمُكَذِّبَةِ لَهُ، مَعَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ بِحَالِهِ. (" وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا
أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ ") .
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ نُوحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بِالذِّكْرِ؟ قُلْتُ: فَإِنَّ نُوحًا -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَقَدَّمَ
الْمَشَاهِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا خَصَّهُ
بِالتَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] ،
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ
أَنَّهُ إِنَّمَا يُتِمُّ هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ مَنْ
سَبَقَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، وَإِلَّا
فَيُتْرَكُ عَلَى حَقِيقَةِ أَوَّلِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ
نُوحٍ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ،
وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي الْآيَةِ ; فَلِكَوْنِهِ
مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
بِحَسَبِ الْوُجُودِ ; وَلِذَا قُدِّمَ نَبِيُّنَا -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَةٍ
أُخْرَى عَلَى أُولِي الْعَزْمِ ; لِكَوْنِ تَقَدُّمِهِ
وُجُودًا وَرُتْبَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ
جَلَالُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ،
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَمْسَةَ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ، وَاجْتَمَعَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ
الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(8/3455)
5473 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وَإِنَّ
مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ
مَاءً فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ
النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ
ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا ;
فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
وَزَادَ مُسْلِمٌ: " «وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ
الْعَيْنِ، عَلَيْهِ ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ
وَغَيْرِ كَاتِبٍ» ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5473 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ
الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً) أَيْ: وَمَا
يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، بِحَسَبِ
الظَّاهِرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجَنَّةِ فِيمَا
تَقَدَّمَ، يُرَغِّبُ إِلَيْهِ مَنْ أَطَاعَهُ، (وَنَارًا)
أَيْ: مَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ
وَالْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ ; يُخَوِّفُ بِهِ مَنْ
عَصَاهُ، (" فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً
فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ
نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ ") أَيْ: حُلْوٌ يَكْسِرُ
الْعَطَشَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ
نَارَهُ مَاءً بَارِدًا عَذْبًا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ
وَأَلْقَاهُ فِيهَا غَيْظًا، كَمَا جَعَلَ نَارَ نُمْرُوذَ
بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَجْعَلُ مَاءَهُ الَّذِي
أَعْطَاهُ مَنْ صَدَّقَهُ نَارًا مُحْرِقَةً دَائِمَةً،
وَمُجْمَلُهُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ فِتْنَتِهِ لَيْسَ
لَهُ حَقِيقَةٌ، بَلْ تَخَيُّلٌ مِنْهُ وَشَعْبَذَةٌ،
كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ وَالْمُشَعْبِذُونَ، مَعَ
احْتِمَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُ نَارَهُ
وَمَاءَهُ الْحَقِيقِيَّانِ ; فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٍ. (فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ ") أَيِ:
الدَّجَّالَ أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ تَلْبِيسِهِ (مِنْكُمْ
فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا ") أَيْ:
فَلْيَخْتَرْ تَكْذِيبَهُ، وَلَا يُبَالِي بِإِيقَاعِهِ
فِيمَا يَرَاهُ نَارًا ; (فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ
") أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ بِالْقَلْبِ، أَوْ
بِحَسَبِ الْمَآلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالْحَالِ، وَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ،
فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يُصَدِّقْهُ مُغْتَرًّا بِمَا
يَرَاهُ مَعَهُ مَاءً ; فَإِنَّهُ نَارٌ وَعَذَابٌ
وَحِجَابٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: "
وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ ") ، أَيْ:
إِحْدَى مَوْضِعِ عَيْنَيْهِ مَمْسُوحٌ مِثْلَ جَبْهَتِهِ
لَيْسَ لَهُ أَثَرُ الْعَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ
اللَّهُ: أَيْ مَمْسُوحُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ وَنَظَائِرِهِ، (عَلَيْهَا ") أَيْ: عَلَى
الْعَيْنِ الْأُخْرَى ; بِحَيْثُ لَا تُوَارِي الْحَدَقَةَ
بِأَسْرِهَا لِتَعْمِيهَا (ظَفَرَةٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ،
أَيْ: لَحْمَةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ جِلْدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ
الْمَمْسُوحَةِ ظَفَرَةٌ، (مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ
كَافِرٌ) كَمَا سَبَقَ، (" يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ
كَاتِبٍ ") : بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ مُؤْمِنٍ، وَفِي
نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، (وَغَيْرِ
كَاتِبٍ ") ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ
مَرْفُوعًا: " «الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ،
مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ
مُسْلِمٍ» ".
(8/3455)
5474 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "
الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ
الشَّعَرِ، مَعَهُ جَنَّتُهُ وَنَارُهُ، فَنَارُهُ
جِنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5474 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى ")
، قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى،
وَأَنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَالْجَمْعُ أَنْ
يُقَالَ: إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى
مَعِيبَةٌ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ
عَوْرَاءُ، إِذِ الْعَوَرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْعَيْبُ،
وَقِيلَ إِنَّ الْأَعْوَرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى أَشْخَاصٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَقَوْمٌ يَرَوْنَهُ
أَعْوَرَ الْيُسْرَى، وَقَوْمٌ يَرَوْنَهُ أَعْوَرَ
الْيُمْنَى ; لِيَدُلَّ عَلَى بُطْلَانِ أَمْرِهِ ;
لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُرَى خِلْقَتُهُ كَمَا هِيَ
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.
قَالَ شَارِحٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا
مِنْ سَهْوِ الرَّاوِي، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى
الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا: " الدَّجَّالُ عَيْنُهُ خَضْرَاءُ " انْتَهَى.
فَهُوَ كَالْحِرْبَاءِ وَالْغُولِ، مُتَلَوِّنٌ
بِأَلْوَانٍ شَتَّى. (" جُفَالُ الشَّعَرِ ") : بِضَمِّ
الْجِيمِ أَيْ: كَثِيرُ الشَّعَرِ الْمُجْتَمِعَةِ، كَذَا
فِي الْفَائِقِ مُكَسَّرٌ، (" مَعَهُ جَنَّتُهُ وَنَارُهُ،
فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ ". رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
(8/3456)
5475 - «وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ
فَقَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا
حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ
فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ
طَافِيَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ
قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ
فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَفِي رِوَايَةٍ: "
فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْكَهْفِ،
فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ، إِنَّهُ خَارِجٌ
خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا،
وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا.
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا لَبْثُهُ فِي
الْأَرْضِ؟ قَالَ: " أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ
كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ،
وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ. قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ
أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا
لَهُ قَدْرَهُ. وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ:
كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى
الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَيَأْمُرُ
السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ
عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى،
وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ
يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ
قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ
مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا:
أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا
كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا
مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ
فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ
يَدْعُوهُ ; فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ،
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ
بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ
الْبَيْضَاءِ، شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ،
وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا
طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ
مِنْهُ مِثْلُ جُمَانٍ كَاللُّؤْلُؤِ ; فَلَا يَحِلُّ
لِكَافِرٍ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ،
وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ،
فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ
فَيَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى قَوْمٌ قَدْ
عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ،
وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ،
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ
لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِيَ إِلَى
الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] ،
فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ،
فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ:
لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، ثُمَّ يَسِيرُونَ
حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمَرِ، وَهُوَ جَبَلُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ
فِي الْأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ،
فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا،
وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ
رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ
دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ
اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ
فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ
نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ،
فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا
مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ
اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ ; فَيُرْسِلُ
اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ
فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ،
وَيَسْتَوْقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّهِمْ
وَنُشَّابِهِمْ وَجِعَابِهِمْ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ
يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا
وَبَرٍ ; فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا
كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي
ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ
الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ
بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ
اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ
النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي
الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ
لَتَكْفِي الْفَخْذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً
فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ
مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ
يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ
تَقُومُ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ إِلَّا
الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: "
تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ " إِلَى قَوْلِهِ: " سَبْعَ
سِنِينَ ". رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5475 - (وَعَنِ النَّوَّاسِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (بْنِ
سَمْعَانَ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَتُفْتَحُ، (قَالَ:
ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ) أَيْ: خُرُوجَهُ
وَسَائِرَ أُمُورِهِ وَابْتِلَاءَ النَّاسِ بِهِ،
(فَقَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ ") أَيْ:
مَوْجُودٌ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا
(فَأَنَا حَجِيجُهُ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، مِنَ
الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبُرْهَانُ أَيْ: غَالِبٌ عَلَيْهِ
بِالْحُجَّةِ، (دُونَكُمْ ") أَيْ: قُدَّامَكُمْ،
وَدَافِعُهُ عَنْكُمْ وَأَنَا إِمَامُكُمْ وَأَمَامَكُمْ،
وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الْمُحَاجَّةِ
مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ مُعَاوِنٍ مِنْ
أُمَّتِهِ فِي غَلَبَتِهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، كَذَا
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ
أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَدْفَعُهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَيَدْفَعُ خَارِقَ
عَادَتِهِ الْبَاطِلَ بِمُعْجِزَاتِهِ الْمَقْرُونَةِ
بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ ; لِأَنَّ
بُطْلَانَهُ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ عِنْدَ أَرْبَابِ
الْعِرْفَانِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنَ الْمُصَمِّمِينَ عَلَى
الْبَاطِلِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى
الْمُجَادَلَةِ وَإِثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ، وَإِلَّا
فَيَحْمَدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنْ يُوجَدُ فِي
الْأُمَّةِ مَنْ يُحَقِّقُ الْمِلَّةَ بِالْحُجَّةِ، لَا
سِيَّمَا خَاتِمَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ
وَزُبْدَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا
يَنْفَعُ مَعَهُ الْكَلَامُ، فَدَفْعُهُ إِمَّا
بِإِعْدَامِهِ مَعَ وُجُودِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، أَوْ
بِذَوَبَانِهِ، وَقَتْلِهِ عَلَى يَدِ عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا
الْمَقَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
بِالْمَرَامِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنْ قِيلَ:
أَوَ لَيْسَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ
أَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّ
عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْتُلُهُ،
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الدَّالَّةِ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ وَنَبِيُّ اللَّهِ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ، بَلْ لَا تَرَاهُ الْقُرُونُ الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: إِنْ يَخْرُجْ
وَأَنَا فِيكُمْ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا سَلَكَ هَذَا
الْمَسْلَكَ مِنَ التَّوْرِيَةِ ; لِإِبْقَاءِ الْخَوْفِ
عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ فِتَنِهِ وَاللَّجَأِ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِ ; لِيَنَالُوا بِذَلِكَ
مِنَ اللَّهِ ; وَيَتَحَقَّقُوا بِالشُّحِّ عَلَى
دِينِهِمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ
تَحَقُّقَ خُرُوجِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَشُكُّوا فِي
خُرُوجِهِ، فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ لَا مَحَالَةَ، وَأَنْ
يُرِيدَ بِهِ عَدَمَ عِلْمِهِ بِوَقْتِ خُرُوجِهِ، كَمَا
أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْرِي مَتَى السَّاعَةُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَجْهُ
الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا قَبْلَ عِلْمِهِ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ.
أَقُولُ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ الظَّاهِرُ ;
لِيُطَابِقَ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يُمْكِنُ،
إِذْ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا يُقَالُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا
هُوَ الصَّوَابُ ; لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ، وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى: أَنِّي إِنْ كُنْتُ
فِيكُمْ فَأَكْفِيكُمْ شَرَّهُ وَقْتَ خُرُوجِهِ، (وَإِنْ
يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ")
: بِالرَّفْعِ أَيْ: فَكَلُّ امْرِئٍ يُحَاجُّهُ
وَيُحَاوِرُهُ وَيُغَالِبُهُ لِنَفْسِهِ، كَذَا قَالَهُ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: لِيَدْفَعْ
شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْحُجَّةِ،
كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى
تَقْدِيرِ أَنَّهُ يَسْمَعُ الْحُجَّةَ، وَإِلَّا
فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَدْفَعُ عَنْ
(8/3456)
نَفْسِهِ شَرَّهُ بِتَكْذِيبِهِ
وَاخْتِيَارِ صُورَةِ تَعْذِيبِهِ، (وَاللَّهُ خَلِيفَتِي
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) ، يَعْنِي: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَحَافِظُهُ،
فَيُعِينُهُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ لَا يَزَالُ
مَنْصُورًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَبِيٌّ، وَلَا
إِمَامٌ ; فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ مِنَ
الشِّيعَةِ، (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ، وَهُوَ
اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِبَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَتِبْيَانٌ
لِبَعْضِ مَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ شَرِّ أَفْعَالِهِ، ("
شَابٌّ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ ابْنِ
الصَّيَّادِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَحْرُومٌ مِنْ
بَيَاضِ الْوَقَارِ، وَثَابِتٌ عَلَى اشْتِدَادِ
السَّوَادِ فِي الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ
الْبَاطِنِ مِنْ سَوَادِ الْفُؤَادِ، (" قَطَطٌ ") :
بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ، أَيْ: شَدِيدُ جُعُودَةِ
الشَّعَرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ
الشَّعَرِ دَفْعًا لِلْمُشَابَهَةِ بِالْهَيْئَةِ
الْبَشِيعَةِ، (" عَيْنُهُ طَافِيَةٌ ") بِالْيَاءِ
وَيُهْمَزُ أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ، (كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ) :
بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: أُمَثِّلُهُ ("
بِعَبْدِ الْعُزَّى ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ
الزَّايِ، (بْنِ قَطَنٍ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ
يَهُودِيٌّ، قَالَهُ شَارِحٌ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: إِنَّهُ
كَانَ يَهُودِيًّا، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ
; لِأَنَّ الْعُزَّى اسْمُ صَنَمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي: هُوَ رَجُلٌ مِنْ
خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ
عَبْدُ الْعُزَّى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازِمًا فِي
تَشْبِيهِهِ بِهِ، قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي تَشْبِيهِهِ
بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ
الْمُشَبَّهِ فِي عَالَمِ الْكَشْفِ أَوِ الْمَنَامِ
عَبَّرَ عَنْهُ بِكَأَنِي كَمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي
تَعْبِيرِ حِكَايَةِ الرُّؤْيَا، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا لَمْ يُوجَدْ
فِي الْكَوْنِ أَقْبَحُ صُورَةً مِنْهُ، فَلَا يَتِمُّ
التَّشْبِيهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ وَلَا مِنْ
وَجْهٍ وَاحِدٍ ; عَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَزْمِ،
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ فِي صِيغَةِ
الْحَالِ إِشْعَارٌ بِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْمَآلِ.
(فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ
فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ) أَيْ: أَوَائِلَهَا إِلَى
(كَذِبًا) ; لِدَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى
مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، لَكِنَّ لَفْظَهُ:
«مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ
خَوَاتِمَهَا ; فَإِنَّهَا جِوَارٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ
هَبَاءً مَنْثُورًا، وَأَنَّ تَابِعَهُ يَدْعُو هَلَاكًا
وَثُبُورًا» .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَعْنَى أَنَّ
قِرَاءَتَهُ أَمَانٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ، كَمَا أَمِنَ
تِلْكَ الْفِتْيَةُ مِنْ فِتْنَةِ دِقْيَانُوسَ
الْجَبَّارِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ أَيْضًا ("
فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْكَهْفِ ;
فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ ") أَيْ:
بَلِيَّةِ (الدَّجَّالِ) : وَالْجِوَارُ بِكَسْرِ
الْجِيمِ، وَفِي آخِرِهِ رَاءٌ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ
السَّيِّدِ وَالشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ
النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ
الْجِيمِ وَزَايٍ فِي آخِرِهِ، وَهُوَ الصَّكُّ الَّذِي
يَأْخُذُهُ الْمُسَافِرُ مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ
نُوَّابِهِ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُمُ
الْمُتَرَصِّدَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ
شَارِحُ الْمَصَابِيحِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ ثُمَّ
قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْجِيمِ
وَبِالرَّاءِ، فَمَعْنَاهُ حَافِظُكُمْ، انْتَهَى.
وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْبُرْدَةِ: الْجِوَارُ:
بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ هُوَ
الْأَمَانُ، هَذَا وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ
الْمُؤَلِّفِ أَنَّهَا رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ، لَكِنْ
صَرَّحَ الْجَزَرِيُّ فِي حِصْنِهِ بِأَنَّهَا رِوَايَةُ
أَبِي دَاوُدَ عَنِ النَّوَّاسِ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: «مَنْ
أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَهَا،
فَإِنَّهَا جِوَارٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ» ، ثُمَّ اعْلَمْ
أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحِصْنِ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي
هَذَا الْمَعْنَى ; حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا، أَيِ
الْكَهْفَ، كَمَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ
مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ
مِنْ آخِرِهَا فَخَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ
عَلَيْهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَفْعُهُ خَطَأٌ،
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَأَخْرَجَ
الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ
أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ
كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ
إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ
آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» ،
وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ
مِنْ أَوَّلِهَا عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» "، وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ: " مِنْ
فِتْنَةِ الدَّجَّالِ "، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
(8/3457)
وَأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: " مَنْ حَفِظَ
عَشْرَ آيَاتٍ "، وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ: " «مَنْ قَرَأَ
الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنَ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ
فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ
عَنْهُ: مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ
الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ". وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةِ عَنِ النَّوَّاسِ
بْنِ سَمْعَانَ: " مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ
عَلَيْهِ فَوَاتِحَهَا " الْحَدِيثَ. قِيلَ: وَجْهُ
الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَفِظَ
عَشْرَ آيَاتٍ " ; أَنَّ حَدِيثَ الْعَشْرِ مُتَأَخِّرٌ،
وَمَنْ عَمِلَ بِالْعَشْرِ فَقَدْ عَمِلَ بِالثَّلَاثِ،
وَقِيلَ: حَدِيثُ الثَّلَاثِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عُصِمَ
بِثَلَاثٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَشْرِ، وَهَذَا
أَقْرَبُ إِلَى أَحْكَامِ النَّسْخِ.
أَقُولُ ". بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ لَا يُحْكَمُ
بِالنَّسْخِ، مَعَ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي
الْإِنْشَاءِ لَا فِي الْإِخْبَارِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ
أَقَلَّ مَا يُحْفَظُ بِهِ مِنْ شَرِّهِ قِرَاءَةُ
الثَّلَاثِ، وَحِفْظُهَا أَوْلَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي
الزِّيَادَةَ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: حَدِيثُ
الْعَشْرِ فِي الْحِفْظِ، وَحَدِيثُ الثَّلَاثِ فِي
الْقِرَاءَةِ، فَمَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ وَقَرَأَ
الثَّلَاثَ كُفِيَ وَعُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ،
وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ عُصِمَ مِنْ أَنْ
لَقِيَهُ، وَمَنْ قَرَأَ الثَّلَاثَ عُصِمَ مِنْ
فِتْنَتِهِ إِنْ لَمْ يَلْقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ
الْحِفْظِ الْقِرَاءَةُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَمِنَ
الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ مِنْ آفَاتِ الدَّجَّالِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ.
(" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ (خَارِجٌ خَلَّةً ") :
بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ أَيْ: طَرِيقًا
وَاقِعًا، (" بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ) ، وَأَصْلُهُ
الطَّرِيقُ فِي الرَّمْلِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ مِنْ
سَبِيلٍ بَيْنَهُمَا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا
مَنْصُوبَةٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي
النِّهَايَةِ، أَيْ: فِي طَرِيقٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ
النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ
بِلَادِنَا، خَلَّةً بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ
وَتَنْوِينِ التَّاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ
اللَّهُ: الْمَشْهُورُ فِيهِ حَلَّةَ بِالْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ وَنَصْبِ التَّاءِ يَعْنِي غَيْرَ
مُنَوَّنَةٍ، وَمَعْنَاهُ: سَمْتُ ذَلِكَ وَقُبَالَتُهُ.
قُلْتُ: الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هِيَ الْحَلَّةَ
قَرْيَةً بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مِنْ بَغْدَادَ، أَهْلُهَا
شَرُّ مَنْ فِي الْبِلَادِ مِنَ الْعِمَادِ. قَالَ:
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ حُلَّهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَبِهَاءِ
الضَّمِيرِ، أَيْ: نُزُولُهُ وَحُلُولُهُ. قَالَ: وَكَذَا
ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ
الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا بِبِلَادِنَا، وَقَوْلُهُ: ("
فَعَاثَ) : هُوَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ
مَاضٍ مِنَ الْعَيْثِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ
وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ. وَحَكَى الْقَاضِي - رَحِمَهُ
اللَّهُ: إِنَّهُ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَعَاثَ، عَلَى
صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: قِيلَ
الصَّوَابُ فِيهِ فَعَاثَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ;
لِكَوْنِهِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ فَاعِلٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ
خَارِجٌ. قُلْتُ: أَكْثَرُ النُّسَخِ، وَمِنْهَا أَصْلُ
السَّيِّدِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعَيْثِ،
وَفِي بَعْضِهَا عَاثٍ كَقَاضٍ مِنَ الْعَثْيِ بِمَعْنَى
الْعَيْثِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي
التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، وَلَكِنَّ
الْقَوْلَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ خَطَأٌ ; إِذْ هُمَا
لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْإِفْسَادِ عَلَى مَا هُوَ
مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ
الدَّجَّالَ فَسَدَ أَوْ مُفْسِدٌ. (يَمِينًا، وَعَاثَ
شِمَالًا ") ، وَهُمَا ظَرْفَا عَاثَ، وَالْمَعْنَى:
يَبْعَثُ سَرَايَاهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَكْتَفِي
بِالْإِفْسَادِ فِيمَا يَطَؤُهُ مِنَ الْبِلَادِ
وَيَتَوَجَّهُ لَهُ مِنَ الْأَغْوَارِ وَالْأَنْجَادِ،
فَلَا يَأْمَنُ مِنْ شَرِّهِ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَخْلُو مِنْ
فِتْنَتِهِ مَوْطِنٌ وَلَا مَأْمَنٌ، (" يَا عِبَادَ
اللَّهِ ") أَيْ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْجُودُونَ
فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ أَنْتُمْ أَيُّهَا
الْمُخَاطَبُونَ عَلَى فَرْضِ أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ
ذَلِكَ الْأَوَانَ، (" فَاثْبُتُوا) أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ
وَإِنْ عَاقَبَكُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مِنَ
الْخِطَابِ الْعَامِّ أَرَادَ بِهِ مَنْ يُدْرِكُ
الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِهِ، ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ
مِنْهُ اسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِ أُمَّتِهِ وَتَثْبِيتُهُمْ
عَلَى مَا يُعَايِنُونَهُ مِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ،
وَتَوْطِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ
بِاللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِقَادِهِ وَتَصْدِيقِ مَا جَاءَ
بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا لَبْثُهُ) :
بِفَتْحِ لَامٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: مَا قَدْرُ
مُكْثِهِ وَتَوَقُّفِهِ (فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ:
أَرْبَعُونَ يَوْمًا ") ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: يَمْكُثُ
الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ
كَالشَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ. لَكِنَّهُ
(8/3458)
نَقَلَ الْبَغَوَيُّ فِي شَرْحِ
السُّنَّةِ: وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا
لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ
لَعَلَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِ الْمُكْثَيْنِ مُكْثٌ خَاصٌّ
عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَ الْعَالِمِ بِهِ،
(" يَوْمٌ) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ (كَسَنَةٍ)
أَيْ: مِقْدَارَ عَامٍ فِي طُولِ الزَّمَانِ، أَوْ فِي
كَثْرَةِ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، (وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ،
وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ
") .
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ:
الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ
غُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَشِدَّةِ بَلَاءِ اللَّعِينِ
يُرَى لَهُمْ كَسَنَةٍ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَهُونُ
كَيْدُهُ وَيَضْعُفُ أَمْرُهُ ; فَيُرَى كَشَهْرٍ،
وَالثَّالِثُ يُرَى كَجُمُعَةٍ ; لِأَنَّ الْحَقَّ فِي
كُلِّ وَقْتٍ يَزِيدُ قَدْرًا، وَالْبَاطِلَ يَنْقُصُ
حَتَّى يَنْمَحِقَ أَثَرًا، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ
كُلَّمَا اعْتَادُوا بِالْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ يَهُونُ
عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ تَضْمَحِلَّ شِدَّتُهَا، وَلَكِنَّ
هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ
لِمَا ذَكَرَ الرَّاوِي.
(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كَسَنَةٍ) أَيْ: مَثَلًا (أَتَكْفِينَا فِيهِ
صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ ") ،
بَلْ هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا امْتِنَاعَ
فِيهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَزِيدَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ، حَتَّى يَصِيرَ مِقْدَارَ سَنَةٍ خَارِقًا
لِلْعَادَةِ، كَمَا يَزِيدُ فِي أَجْزَاءِ سَاعَةٍ مِنْ
سَاعَاتِ الْيَوْمِ. انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ عَلَى الْمِنْوَالِ الَّذِي
حَرَّرَهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا بَسْطَ الزَّمَانِ، كَمَا
وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَى
الْمَكَانِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ
كُلِّ صَلَاةٍ إِنَّمَا هُوَ وَقْتُهُ الْمُقَدَّرُ مِنْ
طُلُوعِ صُبْحٍ وَزَوَالِ شَمْسٍ وَغُرُوبِهَا
وَغَيْبُوبَةِ شَفَقِهَا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا
بِتَحَقُّقِ تَعَدُّدِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَى
وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، فَالتَّحْقِيقُ
مَا قَالَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَنَّهُ يُشْكِلُ مِنْ هَذَا
الْفَصْلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ
كَجُمُعَةٍ "، مَعَ قَوْلِهِ: وَسَائِرُ أَيَّامِهِ
كَأَيَّامِكُمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَأْوِيلِ امْتِدَادِ
تِلْكَ الْأَيَّامِ عَلَى أَنَّهَا وُصِفَتْ بِالطُّولِ
وَالِامْتِدَادِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ
وَتَفَاقُمِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ; لِأَنَّهُمْ
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: " لَا
". الْحَدِيثَ.
فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ
الْمَعُونَةُ فِي التَّحْقِيقِ: قَدْ تَبَيَّنَ لَنَا
بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ
تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أَنَّ الدَّجَّالَ
يُبْعَثُ مَعَهُ مِنَ الْمُشَبَّهَاتِ، وَيَفِيضُ عَلَى
يَدَيْهِ مِنَ التَّمْوِيهَاتِ مَا يَسْلِبُ عَنْ ذَوِي
الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ، وَيَخْطِفُ مِنْ ذَوِي
الْأَبْصَارِ أَبْصَارَهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْخِيرُ
الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَمَجِيئُهُ بِجَنَّةٍ وَنَارٍ،
وَإِحْيَاءُ الْمَيِّتِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ،
وَتَقْوِيَتُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ إِضْلَالَهُ، تَارَةً
بِالْمَطَرِ وَالْعُشْبِ، وَتَارَةً بِالْأَزْمَةِ
وَالْجَدْبِ، ثُمَّ لَا خَفَاءَ بِأَنَّهُ أَسْحَرُ
النَّاسِ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَنَا تَأْوِيلُ هَذَا
الْقَوْلِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ
بِأَسْمَاعِ النَّاسِ وَأَبْصَارِهِمْ، حَتَّى يُخَيِّلَ
إِلَيْهِمْ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى
حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِسْفَارٍ بِلَا ظَلَامٍ، وَصَبَاحٍ
بِلَا مَسَاءٍ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَمُدُّ
عَلَيْهِمْ رِوَاقَهُ، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْوِي
عَنْهُمْ ضِيَاءَهَا، فَيَبْقُونَ فِي حَيْرَةٍ
وَالْتِبَاسٍ مِنِ امْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَيُدْخِلَ
عَلَيْهِمْ دَوَاخِلَ بِاخْتِفَاءِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ
فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَجْتَهِدُوا عِنْدَ مُصَادَمَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ،
وَيُقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ قَدْرَهَا إِلَى أَنْ
يَكْشِفَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْغُمَّةَ، هَذَا
الَّذِي اهْتَدَيْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ،
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُوَ
حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قَالُوا: هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ
الثَّلَاثَةُ طَوِيلَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ
الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
" وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ".
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ " فَقَالَ الْقَاضِي
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ: هَذَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ
بِذَلِكَ، شَرَعَهُ لَنَا صَاحِبُ الشَّرْعِ، قَالُوا:
وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ، لَوُكِّلْنَا إِلَى
اجْتِهَادِنَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ
الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ
الْأَيَّامِ، وَمَعْنَاهُ: إِذَا بَعُدَ طُلُوعُ الْفَجْرِ
قَدْرَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ فِي كُلِّ
يَوْمٍ ; فَصَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ إِذَا مَضَى بَعْدَهُ
قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ ;
فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهَا قَدْرُ مَا
يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ ; فَصَلُّوا
الْمَغْرِبَ، وَكَذَا الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ
الظَّهْرُ ثُمَّ الْعَصْرُ ثُمَّ الْمَغْرِبُ، وَكَذَا
حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ
صَلَاةُ السَّنَةِ فَرَائِضَ مُؤَدَّاةً فِي وَقْتِهَا،
وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَشَهْرٍ، وَالثَّالِثُ
الَّذِي كَجُمُعَةٍ، فَيُقَاسُ عَلَى
(8/3459)
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ
يُقَدَّرُ لَهُ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَوْقَاتَ
لِلصَّلَاةِ أَسْبَابٌ، وَتَقَدُّمُ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى
الْأَسْبَابِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا بِشَرْعٍ مَخْصُوصٍ،
كَمَا يُقَدَّمُ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ بِعَرَفَاتَ،
فَمَعْنَى اقْدُرُوا أَيْ: قَدِّرُوا وَخَمِّنُوا لَهُ،
أَيْ: لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، قَدْرَهُ أَيْ:
قَدْرَ يَوْمِ كَذَا. قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ
شَارِحٌ أَيْ: قَدِّرُوا لِوَقْتِ الصَّلَاةِ يَوْمًا فِي
يَوْمٍ كَسَنَةٍ مَثَلًا قَدْرَهُ، أَيْ: قَدْرَهُ الَّذِي
كَانَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَمَحْبُوسٍ اشْتَبَهَ
عَلَيْهِ الْوَقْتُ.
(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا إِسْرَاعُهُ) أَيْ:
مَا قَدْرُ إِسْرَاعِهِ أَوْ كَيْفِيَّةُ إِعْجَالِهِ (فِي
الْأَرْضِ) ؟ أَيْ: فِي سَيْرِهَا وَطَيِّ سَاحَتِهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُمْ
عَلِمُوا أَنَّ لَهُ إِسْرَاعًا فِي الْأَرْضِ ;
فَسَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ، كَمَا كَانُوا عَالِمِينَ
بِلَبْثِهِ ; فَسَأَلُوا عَنْ كَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِمْ:
مَا لَبْثُهُ؟ أَيْ مَا مُدَّةُ لَبْثِهِ؟ (قَالَ:
كَالْغَيْثِ) : الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْغَيْمُ
إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، أَيْ: يُسْرِعُ
فِي الْأَرْضِ إِسْرَاعَ الْغَيْمِ (اسْتَدْبَرَتْهُ
الرِّيحُ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَةُ حَالٌ
أَوْ صِفَةٌ لِلْغَيْثِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ
الذِّهْنِيِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مِثَالٌ لَا
يُدْرَكُ كَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ
كَمِّيَّتِهِ، (فَيَأْتِي) أَيْ: فَيَمُرُّ الدَّجَّالُ ("
عَلَى الْقَوْمِ ") أَيْ: عَلَى جِنْسٍ مِنَ النَّاسِ ("
فَيَدْعُوهُمْ ") أَيْ: إِلَى بَاطِلِهِ (" فَيُؤْمِنُونَ
بِهِ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ ") أَيِ: السَّحَابَ ("
فَتُمْطِرُ ") : مِنَ الْإِمْطَارِ حَتَّى تَجْرِيَ
الْأَنْهَارُ، (" وَالْأَرْضَ ") أَيْ: وَيَأْمُرُهَا ("
فَتُنْبِتُ ") : مِنَ الْإِنْبَاتِ حَتَّى تَظْهَرَ
الْأَزْهَارُ اسْتِدْرَاجًا مِنَ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ،
(" فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ ") أَيْ:
فَتَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَيْهِمْ
مَاشِيَتُهُمُ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْغَدْوَةِ إِلَى
مَرَاعِيهَا (" أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ") أَيِ:
السَّارِحَةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَنَصْبُ أَطْوَلَ عَلَى
الْحَالِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: (" ذُرًى ") : بِضَمِّ
الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَفَتْحِ
الرَّاءِ مُنَوَّنًا جَمْعُ ذِرْوَةٍ مُثَلَّثَةٍ، وَهِيَ
أَعْلَى السَّنَامِ، وَذِرْوَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ،
وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ السِّمَنِ، (وَأَسْبَغَهُ)
أَيْ: وَأَتَمَّ مَا كَانَتْ (ضُرُوعًا ") : بِضَمِّ
أَوَّلِهِ جَمْعُ ضَرْعٍ، وَهُوَ الثَّدْيُ كِنَايَةً عَنْ
كَثْرَةِ اللَّبَنِ، (وَأَمَدَّهُ) أَيْ: وَأَمَدَّ مَا
كَانَتْ وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْمَدِّ ("
خَوَاصِرَ ") : جَمْعُ خَاصِرَةٍ، وَهِيَ مَا تَحْتَ
الْجَنْبِ وَمَدُّهَا كِنَايَةً عَنِ الِامْتِلَاكِ
وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ، (" ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ) أَيْ:
قَوْمًا آخَرِينَ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: عَلَى،
بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ إِتْيَانَهُ
عَلَى الْأَوَّلِينَ ضَرَرٌ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ
الْآخَرِينَ (" فَيَدْعُوهُمْ ") أَيْ: بِدَعْوَى
أُلُوهِيَّتِهِ (" فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ) أَيْ:
لَا يَقْبَلُونَهُ أَوْ يُبْطِلُونَهُ بِالْحُجَّةِ، ("
فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ ") ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُ قُدْرَةُ الْإِجْبَارِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ
جَلَالُهُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}
[الحجر: 42] ، وَالْمَعْنَى فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ
عَنْهُمْ، (" فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ) : بِضَمِّ
الْمِيمِ وَبِالْحَاءِ أَيْ: دَاخِلِينَ الْمَحْلَ. قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمْحَلَ الْقَوْمُ
أَصَابَهُمُ الْمَحْلُ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ
وَيُبْسُ الْأَرْضِ مِنَ الْكَلَأِ، (" لَيْسَ
بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ") ،
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ صَارُوا بِهِ
مُبْتَلِينَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ
وَالضَّرَّاءِ، وَلَكِنَّهُمْ صَابِرُونَ وَرَاضُونَ
وَشَاكِرُونَ ; لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِ
الْأَوْلِيَاءِ ; بِبَرَكَةِ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ
وَسَيِّدِ الْأَصْفِيَاءِ، (" وَيَمُرُّ عَلَى الْخَرِبَةِ
") : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَمُرُّ الدَّجَّالُ
بِالْأَرْضِ الْخَرِبَةِ وَبِالْبِقَاعِ الْخَرِبَةِ، ("
فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ) أَيْ: مَدْفُونَكِ
أَوْ مَعَادِنَكِ، (فَتَتْبَعُهُ ") : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ
أَيْ: فَتَخْرُجُ فَتَعْقُبُ الدَّجَّالَ (" كُنُوزُهَا
كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ) أَيْ: كَمَا يَتْبَعُ النَّحْلُ
الْيَعْسُوبَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْيَعَاسِيبُ
ذُكُورُ النَّحْلِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ
وَآخَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْمُرَادُ جَمَاعَةُ النَّحْلِ لَا ذُكُورُهَا خَاصَّةً،
لَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالْيَعْسُوبِ،
وَهُوَ أَمِيرُهَا ; لِأَنَّهُ مَتَى طَارَ تَبِعَتْهُ
جَمَاعَتُهُ،
(8/3460)
وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ يَعْسُوبٌ.
وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «عَلِيٌّ يَعْسُوبُ
الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَالُ يَعْسُوبُ الْمُنَافِقِينَ» ،
فَفِي الْكَلَامِ نَوْعُ قَلْبٍ ; إِذْ حَقُّ الْكَلَامِ
كَنَحْلِ الْيَعَاسِيبِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي جَمْعِ
الْيَعَاسِيبِ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى كَثْرَةِ الْكُنُوزِ
التَّابِعَةِ، وَأَنَّهُ قُدِّرَ كَأَنَّهُ جَمْعٌ
بِاعْتِبَارِ جَوَانِبِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَالْمُرَادُ
جَمْعٌ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُكَلَائِهِ. وَقَالَ
الْأَشْرَفُ، وَقَوْلُهُ: كَالْيَعَاسِيبِ كِنَايَةً عَنْ
سُرْعَةِ اتِّبَاعِهِ، أَيْ: تَتْبَعُهُ الْكُنُوزُ
بِالسُّرْعَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: كَالْيَعَاسِيبِ حَالًا مِنَ
الدَّجَّالِ، فَالْخَرِبَةُ صِفَةُ الْبِقَاعِ، وَإِذَا
كَانَ حَالًا مِنَ الْكُنُوزِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَوْصُوفُ جَمْعًا أَوْ مُفْرَدًا.
(" ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا) أَيْ: يَطْلُبُهُ حَالَ
كَوْنِهِ (" مُمْتَلِئًا ") أَيْ: تَامًّا كَامِلًا
قَوِيًّا (" شَابًّا) ، تَمْيِيزٌ عَنِ النِّسْبَةِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُمْتَلِئُ شَبَابًا
هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الشَّبَابِ، ("
فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ) أَيْ: غَضَبًا عَلَيْهِ ;
لِإِبَائِهِ قَبُولَ دَعْوَتِهِ الْأُلُوهِيَّةَ، أَوْ
إِظْهَارًا لِلْقُدْرَةِ وَتَوْطِئَةً لِخَرْقِ
الْعَادَةِ، (فَقَطَعَهُ جَزْلَتَيْنِ ") : بِفَتْحِ
الْجِيمِ وَتُكْسَرُ أَيْ: قِطْعَتَيْنِ تَتَبَاعَدَانِ،
(رَمْيَةَ الْغَرَضِ) أَيْ: قَدْرَ حَذْفِ الْهَدَفِ
فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِمُقَدَّرٍ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ
بِهِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ هَلَاكٌ بِلَا
شُبْهَةٍ، كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ
وَالْمُشَعْبِذَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ كَسْرَهَا، وَمَعْنَى رَمْيَةَ
الْغَرَضِ أَنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَ الْجَزْلَتَيْنِ
مِقْدَارَ رَمْيَةِ الْغَرَضِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ
الْمَشْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:
وَعِنْدِي أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا،
وَتَقْدِيرُهُ: فَيُصِيبُهُ إِصَابَةَ رَمْيَةِ الْغَرَضِ،
فَيَقْطَعُهُنَّ جَزْلَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ
بِرَمْيَةِ الْغَرَضِ إِمَّا سُرْعَةَ نُفُوذِ السَّيْفِ،
وَإِمَّا إِصَابَةَ الْمَحَزِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ النَّوَوِيِّ
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ يَمْشِي
الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ.
(ثُمَّ يَدْعُوهُ، فَيُقْبِلُ) أَيِ: الرَّجُلُ الشَّابُّ
عَلَى الدَّجَّالِ، (" وَيَتَهَلَّلُ ") أَيْ:
يَتَلَأْلَأُ وَيُضِيءُ، (" وَجْهُهُ يَضْحَكُ ") : حَالٌ
مِنْ فَاعِلِ يُقْبِلُ، أَيْ: يُقْبِلُ ضَاحِكًا بَشَّاشًا
; فَيَقُولُ: هَذَا كَيْفَ يَصْلُحُ إِلَهًا؟ ("
فَبَيْنَمَا ") : بِالْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ (" هُوَ)
أَيِ: الرَّجُلُ (كَذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْحَالِ
وَذَلِكَ الْمِنْوَالِ (" إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ
بْنَ مَرْيَمَ ") ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
فَسُبْحَانَ مَنْ يَدْفَعُ الْمَسِيحُ بِالْمَسِيحِ! قَالَ
تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:
18] ، (" فَيَنْزِلُ) أَيْ: عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ (" عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ
شَرْقِيَّ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُضَافًا
إِلَى قَوْلِهِ: (" دِمَشْقَ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ
وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتُكْسَرُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْآنَ
بِالشَّامِ، فَإِنَّهُ تَحْتَ مُلْكِهِ.
وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَوْسِ بْنِ
أَوْسٍ: يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ
الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، ذَكَرَ
السُّيُوطِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ
أَنَّهُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ:
إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
يَنْزِلُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي رِوَايَةٍ:
بِالْأُرْدُنِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِمُعَسْكَرِ
الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: حَدِيثُ نُزُولِهِ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ عِنْدِي
أَرْجَحُ، وَلَا يُنَافِي سَائِرَ الرِّوَايَاتِ ; لِأَنَّ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَهُوَ مُعَسْكَرُ
الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ، وَالْأُرْدُنَّ اسْمُ
الْكُورَةِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ
دَاخِلٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ
الْآنَ مَنَارَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَحْدُثَ قَبْلَ
نُزُولِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (" بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ ") : بِالدَّالِ
الْمُهْمَلَةِ وَيُعْجَمُ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ عِيسَى
بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى لَابِسِ حُلَّتَيْنِ
مَصْبُوغَتَيْنِ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. قَالَ
النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالدَّالِ
الْمُهْمَلَةِ، وَالذَّالُ الْمُعْجَمَةُ أَكْثَرُ،
وَالْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ
وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي النُّسَخِ
بِالْمُهْمَلَةِ، وَمَعْنَاهُ لَابِسُ ثَوْبَيْنِ
مَصْبُوغَيْنِ بِالْوَرْسِ ثُمَّ
(8/3461)
الزَّعْفَرَانِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: يُرْوَى بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ
وَمُعْجَمَةٍ، أَيْ: بَيْنَ مُخَصَّرَتَيْنِ عَلَى مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا نَسْمَعُهُ إِلَّا فِيهِ،
وَكَذَلِكَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا فِي
الْحَدِيثِ، وَالْمُخَصَّرَةُ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي
فِيهَا صُفْرَةٌ خَفِيفَةٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ("
وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ") :
حَالٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ، كَمَا أَنَّ مَا
قَبْلَهُ حَالٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ لُبْسِهِ
وَجَمَالِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ حَالَةً أُخْرَى
بِقَوْلِهِ: (" إِذَا طَأْطَأَ ") بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ:
خَفَضَ، (" رَأَسَهُ قَطَرَ ") أَيْ: عَرِقَ (" وَإِذَا
رَفَعَهُ ") أَيْ: رَأَسَهُ (" تَحَدَّرَ ") : بِتَشْدِيدِ
الدَّالِ أَيْ: نَزَلَ (" مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ شَعَرِهِ
قَطَرَاتٌ نُورَانِيَّةٌ (" مِثْلُ الْجُمَانِ ") :
بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَتُشَدَّدُ، حَبٌّ
يُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ، (" كَاللُّؤْلُؤِ ") أَيْ: فِي
الصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْجُمَانُ
بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ يُتَّخَذُ مِنَ
الْفِضَّةِ عَلَى هَيْئَةِ اللَّآلِئِ الْكِبَارِ. قَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: شَبَّهَهُ بِالْجُمَانِ
فِي الْكِبَرِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْجُمَانَ بِاللُّؤْلُؤِ
فِي الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ
الْوَجْهُ الْكِبَرَ مَعَ الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ، وَفِي
الْقَامُوسِ: الْجُمَانُ كَغُرَابٍ اللُّؤْلُؤُ أَوْ
هَنَوَاتٌ أَشْكَالُ اللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ شَارِحٌ:
الْجُمَّانُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: بِالتَّشْدِيدِ اللُّؤْلُؤُ الصِّغَارُ،
وَبِتَخْفِيفِهَا حَبٌّ يُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ،
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجُمَانِ فِي صِفَةِ عِيسَى -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْحَبُّ
الْمُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ
الْمُتَعَيَّنُ بِقَوْلِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، (" فَلَا
يَحِلُّ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لَا يُمْكِنُ وَلَا
يَقَعُ (لِكَافِرٍ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ) :
بِفَتْحِ الْفَاءِ (إِلَّا مَاتَ ") ، كَذَا ذَكَرَهُ
النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ عِنْدِي حَقٌّ
وَاجِبٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْحَاءِ
وَهُوَ وَهْمٌ وَغَلَطٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ لَا
يَحْصُلُ وَلَا يَحِقُّ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ
وَلَهُ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ الْمَوْتِ،
فَقَوْلُهُ: يَجِدُ مَعَ مَا فِي سِيَاقِهِ فَاعِلُ
يَحِلُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ (وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي
حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ
لَحْظُهُ وَلَمْحُهُ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الدَّجَّالِ
مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ لِحِكْمَةِ إِرَاءَةِ
دَمِهِ فِي الْحَرْبَةِ ; لِيَزْدَادَ كَوْنُهُ سَاحِرًا
فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ هَذِهِ
الْكَرَامَةِ لِعِيسَى أَوَّلًا حِينَ نُزُولِهِ، ثُمَّ
تَكُونُ زَائِلَةً حِينَ يَرَى الدَّجَّالَ ; إِذْ دَوَامُ
الْكَرَامَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقِيلَ: نَفَسُ الَّذِي
يُمَوِّتُ الْكَافِرَ هُوَ النَّفَسُ الْمَقْصُودُ بِهِ
إِهْلَاكُ كَافِرٍ، لَا النَّفَسُ الْمُعْتَادُ، فَعَدَمُ
مَوْتِ الدَّجَّالِ لِعَدَمِ النَّفَسِ الْمُرَادِ،
وَقِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مِنْ
نَفَسِ عِيسَى مِنَ الْكُفَّارِ يَمُوتُ، وَلَا يُفْهَمُ
مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوْ وَصُولُ نَفَسِهِ،
فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ
يُرِيَهُمْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
دَمَ الدَّجَّالِ فِي حَرْبَتِهِ لِلْحِكْمَةِ
الْمَذْكُورَةِ، كَذَا بِخَطِّ شَيْخِنَا الْمَرْحُومِ
مَوْلَانَا عَبْدِ اللَّهِ السِّنْدِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ نَفَسَ عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَعَلَّقَ بِهِ الْإِحْيَاءُ
لِبَعْضٍ، وَالْإِمَاتَةُ لِبَعْضٍ، (فَيَطْلُبُهُ) أَيْ:
يَطْلُبُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
الدَّجَّالَ (" حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ) :
بِضَمِّ لَامٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مَصْرُوفٌ اسْمُ جَبَلٍ
بِالشَّامِ، وَقِيلَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ، وَزَادَ
غَيْرُهُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ. وَقَالَ
السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ
التِّرْمِذِيِّ: هُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ مَوْضِعٌ
بِالشَّامِ، وَقِيلَ بِفَلَسْطِينَ، (فَيَقْتُلُهُ ") ،
فِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا
أَحْمَدُ، وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ: يَقْتُلُ
ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ، (ثُمَّ يَأْتِي
عِيسَى قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ ") ، أَيْ:
حَفِظَهُمْ مِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ (" فَيَمْسَحُ عَنْ
وُجُوهِهِمْ ") أَيْ: يُزِيلُ عَنْهَا مَا أَصَابَهَا مِنْ
غُبَارِ سَفَرِ الْغَزْوِ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ،
أَوِ الْمَعْنَى يَكْشِفُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ آثَارِ
الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِمَا
يَسُرُّهُمْ مِنْ خَبَرِهِ بِقَتْلِ الدَّجَّالِ،
(وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ) ، قَالَ
النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْمَسْحُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَمْسَحُ
وُجُوهَهُمْ تَبَرُّكًا، أَوْ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى
كَشْفِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ، ("
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
عِيسَى: أَنِّي ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ
(قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي) أَيْ: أَظْهَرْتُ
جَمَاعَةً مُنْقَادَةً لِقَضَائِي وَقَدَرِي (" لَا
يَدَانِ ") أَيْ: لَا قُدْرَةَ وَلَا طَاقَةَ (لِأَحَدٍ
بِقِتَالِهِمْ ") ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الطَّاقَةِ
(8/3462)
بِالْيَدِ ; لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ
وَالْمُدَافَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْيَدِ، وَثَنَّى
مُبَالَغَةً، كَأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتَانِ لِعَجْزِهِ
عَنْ دَفْعِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّثْنِيَةِ
إِيمَاءٌ إِلَى الْعَجْزِ عَنْهُمَا جَمِيعًا، (فَحَرِّزْ
عِبَادِي ") أَيْ: مِنَ التَّحْرِيزِ، مَأْخُوذٌ مِنَ
الْحِرْزِ، أَيِ: احْفَظْهُمْ وَضُمَّهُمْ (" إِلَى
الطُّورِ ") ، وَاجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا، (وَيَبْعَثُ
اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : بِالْأَلِفِ وَيُبْدَلُ
فِيهِمَا (وَهُمْ) أَيْ: جَمِيعُ الْقَبِيلَتَيْنِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا}
[الحج: 19] ، {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} [الأنبياء: 96] :
بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ،
{يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ
السِّينِ أَيْ: يُسْرِعُونَ. (" فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ
عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ ") بِالْإِضَافَةِ،
وَبُحَيْرَةٌ تَصْغِيرُ بَحْرَةٍ، وَهِيَ مَاءٌ مُجْتَمِعٌ
بِالشَّامِ طُولُهُ عَشْرَةُ أَمْيَالٍ، وَطَبَرِيَّةُ
بِفَتْحَتَيْنِ اسْمُ مَوْضِعٍ. وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ
قَصَبَةُ الْأُرْدُنِّ بِالشَّامِ، (" فَيَشْرَبُونَ مَا
فِيهَا ") أَيْ: مِنَ الْمَاءِ، (" وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ
فَيَقُولُ ") أَيْ: آخِرُهُمْ أَوْ قَائِلٌ مِنْهُمْ ("
لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ ") أَيِ: الْبُحَيْرَةِ أَوِ
الْبُقْعَةِ (" مَرَّةً ") أَيْ: وَقْتًا (" مَاءٌ ") ،
أَيْ: مَاءٌ كَثِيرٌ، (" ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى
يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمَرِ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ وَبِالرَّاءِ الشَّجَرُ
الْمُلْتَفُّ، وَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ
جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ") ; لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ، أَوْ
هُوَ كُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ شَجَرٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ
غَيْرِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (" فَيَقُولُونَ لَقَدْ
قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ ") ، أَيْ: مَنْ ظَهَرَ
عَلَى وَجْهِهَا ; لِمَا سَيَأْتِي مِنِ اسْتِثْنَاءِ
عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
وَأَصْحَابِهِ ; حَيْثُ كَانُوا مَحْصُورِينَ مَحْصُونِينَ
(" هَلُمَّ ") أَيْ: تَعَالَ، الْخِطَابُ لِأَمِيرِهِمْ
وَكَبِيرِهِمْ، أَوْ عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ
بِأَحَدِهِمْ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِيهِ لُغَتَانِ،
فَأَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ
وَاحِدٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ، وَبَنُو تَمِيمٍ
تُثَنِّي وَتَجْمَعُ وَتُؤَنِّثُ تَقُولُ: هَلُمَّ
وَهَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا. (" فَلْنَقْتُلْ مَنْ
فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ ") : بِضَمٍّ
فَتَشْدِيدٍ مُفْرَدُهُ نُشَّابَةٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ
أَيْ: سِهَامَهُمْ (إِلَى السَّمَاءِ ") أَيْ: إِلَى
جِهَتِهَا، (" فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ
مَخْضُوبَةً ") أَيْ: مَصْبُوغَةً (" دَمًا ") :
تَمْيِيزٌ، وَهَذَا مَكْرٌ وَاسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ
سُبْحَانَهُ، مَعَ احْتِمَالِ إِصَابَةِ سِهَامِهِمْ
لِبَعْضِ الطُّيُورِ فِي السَّمَاءِ ; فَيَكُونُ فِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَةِ فَسَادِهِمْ بِالسُّفْلِيَّاتِ
وَالْعُلْوِيَّاتِ، (" وَيُحْصَرُ) : بِصِيغَةِ
الْمَفْعُولِ أَيْ: يُحْبَسُ فِي جَبَلِ الطُّورِ (نَبِيُّ
اللَّهِ ") أَيْ: عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - (" وَأَصْحَابُهُ) أَيْ: مِنْ مُؤْمِنِي
هَذِهِ الْأُمَّةِ، (" حَتَّى يَكُونَ) أَيْ: يَصِيرَ مِنْ
شِدَّةِ الْمُحَاصَرَةِ وَالْمُضَايَقَةِ (" رَأْسُ
الثَّوْرِ ") أَيِ: الْبَقَرِ مَعَ كَمَالِ رُخْصِهِ فِي
تِلْكَ الدِّيَارِ (" لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ
دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ ") ، قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ تَبْلُغُ بِهِمُ
الْفَاقَةُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ
رَأْسَ الثَّوْرِ لِيُقَاسَ الْبَقِيَّةُ عَلَيْهِ فِي
الْقِيمَةِ، (" فَيَرْغَبُ ") أَيْ: إِلَى اللَّهِ أَوْ
يَدْعُو (" نَبِيُّ اللَّهِ ") : فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ
عَلَى أَنَّهُ مَعَ مُتَابَعَتِهِ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاقٍ عَلَى
نُبُوَّتِهِ (" عِيسَى وَأَصْحَابُهُ ") ، قَالَ
الْقَاضِي: أَيْ يَرْغَبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي
إِهْلَاكِهِمْ وَإِنْجَائِهِمْ عَنْ مُكَابَدَةِ
بَلَائِهِمْ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ ; فَيَسْتَجِيبُ
اللَّهُ فَيُهْلِكُهُمْ بِالنَّغَفِ كَمَا قَالَ: ("
فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ") أَيْ: عَلَى يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ (النَّغَفَ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْغَيْنِ
الْمُعْجَمَةِ دُودٌ يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ، (" فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى) :
كَهَلْكَى وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهُوَ جَمْعُ فَرِيسٍ
كَقَتِيلٍ وَقَتْلَى، مِنْ فَرَسَ الذِّئْبُ الشَّاةَ
إِذَا كَسَرَهَا وَقَتَلَهَا، وَمِنْهُ فَرِيسَةُ
الْأَسَدِ، (" كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ") ; لِكَمَالِ
الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ. قَالَ تَعَالَى:
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ
وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّ الْقَهْرَ الْإِلَهِيَّ
الْغَالِبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَفْرِسُهُمْ دَفْعَةً
وَاحِدَةً، فَيُصْبِحُونَ قَتْلَى، وَقَدْ نَبَّهَ
بِالْكَلِمَتَيْنِ أَعَنِي النَّغَفَ وَفَرْسَى عَلَى
أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُهْلِكُهُمْ فِي أَدْنَى سَاعَةٍ
بِأَهْوَنِ شَيْءٍ، وَهُوَ النَّغَفُ فَيَفْرِسُهُمْ
فَرْسَ السَّبُعِ فَرِيسَتَهُ بَعْدَ أَنْ طَارَتْ
نَفْرَةُ الْبَغْيِ فِي رُءُوسِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ
قَتَلُوا مَنْ فِي السَّمَاءِ.
(8/3463)
(" ثُمَّ يَهْبِطُ ") أَيْ: يَنْزِلُ مِنَ
الطُّورِ (" نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى
الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ ") أَيْ: فِي
وَجْهِهَا جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ رَجْعُ الْعُدُولِ عَنِ
الضَّمِيرِ إِلَى الظَّاهِرِ، فَاللَّامُ فِي الْأُولَى
لِلْعَهْدِ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ;
بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ
الْقَاعِدَةَ الْمَعْرُوفَةَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا
أُعِيدَتْ تَكُونُ عَيْنًا لِلْأُولَى مَبْنِيَّةً عَلَى
غَالِبِ الْعَادَةِ، أَوْ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ صَارِفَةٌ،
(" مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ ") :
بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْهَاءِ وَقَدْ تُضَمُّ الزَّايُ،
وَقَالَ شَارِحٌ هُوَ بِالضَّمِّ، وَرُوِيَ بِالتَّحْرِيكِ
وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: (" وَنَتْنُهُمْ ") : بِسُكُونِ
التَّاءِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الزَّهَمُ
بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ زَهِمَتْ يَدِي
بِالْكَسْرِ مِنَ الزُّهُومَةِ، فَهِيَ زَهِمَةٌ أَيْ
دَسِمَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِيمَا
أَعْلَمُ، وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهَنٌ،
وَضَمُّ الزَّايِ مَعَ فَتْحِ الْهَاءِ أَصَحُّ مَعْنًى،
وَهُوَ جَمْعُ زُهْمَةٍ يَعْنِي بِضَمِّ الزَّايِ
وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَهِيَ الرِّيحُ الْمُنْتِنَةُ.
وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ أَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً،
وَيُوَافِقُهُمَا مَا فِي الْقَامُوسِ ; حَيْثُ قَالَ:
الزُّهُومَةُ وَالزُّهْمَةُ بِضَمِّهَا رِيحُ لَحْمٍ
سَمِينٍ مُنْتِنٍ، وَالزُّهْمُ بِالضَّمِّ الرِّيحُ
الْمُنْتِنَةُ، وَبِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ زَهِمَتْ يَدِي
كَفَرِحَ، فَهِيَ زَهِمَةٌ أَيْ دَسِمَةٌ انْتَهَى، وَقَدْ
يُقَالُ: أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ
مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ، (" فَيَرْغَبُ نَبِيُّ
اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ ") ، فِي
ضَمِّ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ
الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي الْهِمَّةِ
الْإِطْمَاعِيَّةِ لَهَا تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي
الْإِجَابَةِ الدُّعَائِيَّةِ، أَوْ فِي ذِكْرِهِمْ
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْبَاعِثُ عَلَى
الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى رَبِّ السَّمَاءِ، ("
فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ ") :
بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ نَوْعٌ مِنَ
الْإِبِلِ أَيْ: طَيْرًا أَعْنَاقُهَا فِي الطُّولِ
وَالْكِبَرِ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، وَالطَّيْرُ جَمْعُ
طَائِرٍ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ ; وَلِذَا قَالَ:
(" فَتَحْمِلُهُمْ ") أَيْ: تِلْكَ الطَّيْرُ ("
فَتَطْرَحُهُمْ) أَيْ: فَتَرْمِيهِمْ (" حَيْثُ شَاءَ
اللَّهُ) أَيْ: مِنَ الْبِحَارِ، أَوْ مِمَّا وَرَاءَ
مَعْمُورَةِ الدِّيَارِ، أَوْ خَلْفَ جِبَالِ قَافٍ
وَنَحْوِهِا، أَوْ إِلَى عَالَمِ الْإِعْدَامِ
وَالْإِفْنَاءِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: " تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ ") :
بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ
الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: مَكَانٌ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَسَعُهُمْ،
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَوْضِعُ بَعْضِهِمْ، أَوْ
عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ يَسَعُهُمْ، وَقِيلَ:
هُوَ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، وَفِي الْقَامُوسِ:
نَهْبَلَ: أَسِنَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ
الدَّجَّالِ: فَتَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ، وَهُوَ
تَصْحِيفٌ وَالصَّوَابُ بِالْمِيمِ. انْتَهَى. وَلَمْ
يُذْكَرِ الْمَهْبَلُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. ("
وَيَسْتَوْقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّهِمْ ") :
بِكَسْرَتَيْنِ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ جَمْعُ قَوْسٍ،
وَالضَّمِيرُ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (" وَنُشَّابِهِمْ
") أَيْ: سِهَامِهِمْ (" وَجِعَابِهِمْ ") : بِكَسْرِ
الْجِيمِ جَمْعُ جَعْبَةٍ بِالْفَتْحِ وَهِيَ طَرَفُ
النُّشَّابِ (" سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ
مَطَرًا ") أَيْ: عَظِيمًا (" لَا يَكُنُّ ") : بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، مِنْ
كَنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ سَتَرْتُهُ وَصُنْتُهُ عَنِ
الشَّمْسِ، وَهِيَ مِنْ أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ بِهَذَا
الْمَعْنَى، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ
صِفَةُ مَطَرًا، أَيْ: لَا يَسْتُرُ وَلَا يَصُونُ شَيْئًا
(" مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ (" بَيْتُ
مَدَرٍ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ ("
وَلَا وَبَرٍ ") ، أَيْ: صُوفٍ أَوْ شَعَرٍ، وَالْمُرَادُ
تَعْمِيمُ بُيُوتِ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ. قَالَ
النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا يَمْنَعُ مِنْ
نُزُولِ الْمَاءِ بَيْتُ الْمَدَرِ وَهُوَ الطِّينُ
الصُّلْبُ.
وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: لَا يَحُولُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَانِ مَاءٍ حَائِلٌ، بَلْ يَعُمُّ
الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا، (" فَيَغْسِلُ) أَيِ: الْمَطَرُ
(الْأَرْضَ ") أَيْ: وَجْهَهَا كُلَّهَا (" حَتَّى
يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ") : بِفَتْحِ الزَّايِ
وَاللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِالْفَاءِ، وَقِيلَ: بِالْقَافِ
وَهِيَ الْمِرْآةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: مَا
يُتَّخَذُ لِجَمْعِ الْمَاءِ مِنَ الْمَصْنَعِ،
وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَرْضِ ;
بِحَيْثُ يَرَى الرَّائِي وَجْهَهُ فِيهِ. قَالَ
النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِفَتْحِ
الزَّايِ وَاللَّامِ وَبِالْفَاءِ وَبِالْقَافِ، وَرُوِيَ
بِضَمِّ الزَّايِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَبِالْفَاءِ،
وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالْفَاءِ
وَالْقَافِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا وَكُلُّهَا
صَحِيحَةٌ.
(8/3464)
قُلْتُ: الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْفَاءِ،
وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْقَامُوسُ فِي الْمَعَانِي
الْآتِيَةِ كُلِّهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ:
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ ثَعْلَبٌ وَأَبُو
زَيْدٍ وَآخَرُ وَفِي مَعْنَاهُ كَالْمِرْآةِ، وَحَكَى
صَاحِبُ الْمَشَارِقِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
شَبَّهَهَا بِالْمِرْآةِ فِي صَفَائِهَا وَنَظَافَتِهَا،
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَصَانِعِ الْمَاءِ أَيِ الْمَاءُ
يَسْتَنْقِعُ فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ
كَالْمَصْنَعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ الْإِجَّانَةُ الْخَضْرَاءُ،
وَقِيلَ: كَالصَّحْفَةِ، وَقِيلَ: كَالرَّوْضَةِ. (ثُمَّ
يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي) أَيْ:
إِلَى أَهْلِكِ (بَرَكَتَكِ) أَيْ: سَائِرَ نِعَمِكِ ("
فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ
أَيِ الْجَمَاعَةُ (مِنَ الرُّمَّانَةِ ") أَيْ:
وَيَشْبَعُونَ مِنْهَا (وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا ") :
بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ بِقِشْرِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مُقَعَّرُ
قِشْرِهَا شَبَّهَهَا بِقِحْفِ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ
الَّذِي فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا انْفَلَقَ
مِنْ جُمْجُمَتِهِ وَانْفَصَلَ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ
نِصْفَ قِشْرِهَا الْأَعْلَى، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ
الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَهُوَ
أَيْضًا إِنَاءٌ مِنْ خَشَبٍ عَلَى مِثَالِهِ، كَأَنَّهُ
نِصْفُ صَاعٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا يَلِي رَأْسَهَا
مِنَ الْقِشْرِ (" وَيُبَارَكُ ") : بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوضَعُ الْبَرَكَةُ وَالْكَثْرَةُ ("
فِي الرِّسْلِ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ
أَيِ اللَّبَنِ، (حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ ") : بِكَسْرِ
اللَّامِ وَيُفْتَحُ أَيِ: النَّاقَةُ الْحَلُوبَةُ. قَالَ
النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اللِّقْحَةُ بِكَسْرِ
اللَّامِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ
وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ، وَهِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ
بِالْوِلَادَةِ. وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مِنَ النُّوقِ
وَغَيْرِهَا فَقَوْلُهُ: (مِنَ الْإِبِلِ ") بَيَانِيَّةٌ،
(" لَتَكْفِي ") أَيِ: اللِّقْحَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا ("
الْفِئَامَ) : بِهَمْزٍ عَلَى زِنَةِ رِجَالٍ
وَالْعَامَّةُ تُبْدِلُ الْهَمْزَةَ يَاءً أَيِ:
الْجَمَاعَةَ (" مِنَ النَّاسِ) ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ
لَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا أَكْثَرُ مِنَ
الْقَبِيلَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَبِيلَةَ أَكْثَرُ مِنَ
الْفَخْذِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَالَ النَّوَوِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِئَامَ. بِكَسْرِ الْقَافِ
وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ هِيَ الْجَمَاعَةُ
الْكَثِيرَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فِي
اللُّغَةِ، وَرِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِكَسْرِ الْفَاءِ
وَبِالْهَمْزِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يُجِيزُ الْهَمْزَ بَلْ يَقُولُهُ بِالْيَاءِ. وَقَالَ فِي
الْمَشَارِقِ: وَحَكَاهُ الْخَلِيلُ بِفَتْحِ الْفَاءِ،
قَالَ: وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ،
وَأَدْخَلَهُ فِي حَرْفِ الْيَاءِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ
أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ
الْيَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ. (" وَاللِّقْحَةَ مِنَ
الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ،
وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخْذَ مِنَ
النَّاسِ ") ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: الْفَخْذُ هُنَا بِسُكُونِ الْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ لَا غَيْرُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَقَارِبِ،
وَهُمْ دُونَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ دُونَ الْقَبِيلَةِ،
وَأَمَّا الْفَخِذُ بِمَعْنَى الْعُضْوِ فَبِكَسْرِ
الْخَاءِ وَسُكُونِهَا. (" فَبَيْنَا ") : بِلَا مِيمٍ ("
هُمْ ") : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (" كَذَلِكَ ") ، وَنَا:
عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ
قَوْلُهُ: (" إِذْ بَعَثَ اللَّهُ ") : وَإِذْ
لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ يَتَنَعَّمُونَ
فِي طِيبِ عَيْشٍ وَسَعَةٍ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ فَجْأَةً
(" رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ")
: بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ جَمْعُ إِبِطٍ، (فَتَقْبِضُ ")
أَيْ: تِلْكَ الرِّيحُ (" رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ") :
أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ مَجَازًا (" أَوْ كُلِّ
مُسْلِمٍ ") .
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي
جَمِيعِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ يَعْنِي كَانَ الظَّاهِرُ
أَنْ يَكُونَ بِـ أَوْ بِالشَّكِّ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُسْلِمِ عِنْدَ أَرْبَابِ
الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ،
فَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْمِيمِ
وَالتَّغَايُرُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْوَصْفَيْنِ،
كَمَا فِي التَّنْزِيلِ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ، أَوْ بِنَاءً عَلَى
الْفَرْقِ اللُّغَوِيِّ بَيْنَهُمَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقُ، وَبِالْمُسْلِمِ
الْمُنْقَادُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَحَدُهَا لَا يَنْفَعُ
بِدُونِ الْآخَرِ، جُعِلَ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا وَاحِدًا،
وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ
بِطَرِيقِ التَّسَاوِي، أَوْ لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا
غَالِبًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
(8/3465)
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ هُنَا الِاسْتِيعَابُ أَيْ:
تُقْبَضُ رُوحُ خِيَارِ النَّاسِ كُلِّهِمْ (وَيَبْقَى
شِرَارُ النَّاسِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ شَرٍّ ("
يَتَهَارَجُونَ ") أَيْ: يَخْتَلِطُونَ (" فِيهَا) أَيْ:
فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ أَوْ فِي الْأَرْضِ (" تَهَارُجَ
الْحُمُرِ ") أَيْ: كَاخْتِلَاطِهَا، وَيَتَسَافَدُونَ،
وَقِيلَ: يَتَخَاصَمُونَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَرَجِ
الْقَتْلُ وَسُرْعَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ، وَهَرَجَ فِي
حَدِيثِهِ أَيْ خَلَطَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ: أَيْ يُجَامِعُ الرِّجَالُ النِّسَاءَ
عَلَانِيَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ كَمَا يَفْعَلُ
الْحَمِيرُ وَلَا يَكْتَرِثُونَ لِذَلِكَ، وَالْهَرْجُ
بِإِسْكَانِ الرَّاءِ الْجِمَاعُ، وَيُقَالُ: هَرَجَ
زَوْجَتَهُ أَيْ جَامَعَهَا يَهْرِجُهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا. (" فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ
السَّاعَةُ ") أَيْ: لَا عَلَى غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي
حَدِيثُ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ
النَّاسِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ
حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ ".
(رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (مُسْلِمٌ إِلَّا
الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ) أَيِ: الرِّوَايَةُ،
وَفِي نُسْخَةٍ وَهُوَ تَذْكِيرُهُ لِتَذْكِيرِ خَبَرِهِ
وَهُوَ (قَوْلُهُ: " تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ "، إِلَى
قَوْلِهِ: " سَبْعَ سِنِينَ " رَوَاهَا) أَيْ: تِلْكَ
الرِّوَايَةَ (التِّرْمِذِيُّ) .
(8/3466)
5476 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ
الدَّجَّالُ، فَيَتَوَّجُهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ مَسَالِحُ
الدَّجَّالِ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟
فَيَقُولُ: أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ، قَالَ:
فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟
فَيَقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ. فَيَقُولُونَ:
اقْتُلُوهُ. فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ
نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ ".
قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ، فَإِذَا
رَآهُ الْمُؤْمِنُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَذَا
الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَيَأْمُرُ
الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَجُّ فَيَقُولُ: خُذُوهُ
وَشُجُّوهُ، فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا "
قَالَ: فَيَقُولُ: " أَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ " قَالَ: "
فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ ". قَالَ: "
فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ
مَفْرِقِهِ حَتَى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ". قَالَ:
ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ; ثُمَّ
يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولُ
لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ يَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ إِلَّا
بَصِيرَةً ") . قَالَ: " ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ! إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ ". قَالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ
لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلُ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى
تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ
سَبِيلًا ". قَالَ: " فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ
فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ
إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ ".
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ
رَبِّ الْعَالَمِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5476 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ
") : بِكَسْرِ قَافٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ إِلَى
جَانِبِهِ (" رَجُلٌ ") أَيْ: عَظِيمٌ (مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ") ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ،
يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا قَالَ مَعْمَرٌ،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ حَيًّا، وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَبَعْضِ
الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ
الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى
أَنَّهُ حَيٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَهُوَ الصَّحِيحُ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ.
(فَيَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ
اللَّامِ جَمْعُ الْمَسْلَحَةِ، وَهُمُ الْقَوْمُ ذَوُو
السِّلَاحِ يَحْفَظُونَ الثُّغُورَ (" مَسَالِحُ
الدَّجَّالِ ") : مَرْفُوعٌ عَلَى الْإِبْدَالِ، وَفِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّامَ عِوَضُ الْمُضَافِ
إِلَيْهِ أَوِ اللَّامَ لِلْعَهْدِ. قَالَ الْقَاضِي -
رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا
مُقَدِّمَةُ جَيْشِهِ، وَأَصْلُهَا مَوْضِعُ السِّلَاحِ،
ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلثَّغْرِ ; فَإِنَّهُ يُعَدُّ فِيهِ
الْأَسْلِحَةُ، ثُمَّ لِلْجُنْدِ الْمُتَرَصِّدِينَ، ثُمَّ
لِمُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْجَيْشِ
كَأَصْحَابِ الثُّغُورِ مِمَّنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، (فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟)
بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: تَقْصِدُ (" وَيَقُولُ: أَعْمِدُ
إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ) أَيْ: خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ
أَوْ عَلَى الْخَلْقِ، أَوْ ظَهَرَ بِالْبَاطِلِ
وَالْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ. (فَيَقُولُونَ لَهُ:
أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا) ؟ يَعْنُونَ بِهِ
الدَّجَّالَ حَيْثُ وَجَدُوا عِنْدَهُ الْجَاهَ
وَالْمَالَ، (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّجُلُ (" مَا
بِرَبِّنَا) أَيْ: بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، فَفِيهِ
تَغْلِيبٌ، أَوْ مَا بِرَبِّنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ
(" خَفَاءٌ ") وَمَا: نَافِيَةٌ أَيْ: لَيْسَ يَخْفَى
عَلَيْنَا صِفَاتُ رَبِّنَا عَنْ غَيْرِهِ لِنَعْدِلَ
عَنْهُ إِلَيْهِ، أَوْ لِنَتْرُكَ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ.
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
وَاحِدٌ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَآثَارُ الْحُدُوثِ
عَلَيْهِ لَائِحَةٌ، وَأَنْوَاعُ النُّقْصَانِ فِيهِ
وَاضِحَةٌ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ
أَنَّ الْمَخْلُوقِيَّةَ تُنَافِي الرُّبُوبِيَّةَ،
وَالْعُبُودِيَّةَ تُنَاقِضُ الْأُلُوهِيَّةَ مَا
لِلتُّرَابِ وَرَبِّ الْأَرْبَابِ، كَيْفَ وَالْعُيُوبُ
الظَّاهِرَةُ فِيهِ تَشْهَدُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ،
كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا سَبَقَ
مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا تَكْذِيبٌ لَهُمْ، وَبَيَانٌ
لِتَمْوِيهِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ إِذْ مَا يُؤْمِنُ
بِرَبِّنَا، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ".
(فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيَقُولُ
(8/3466)
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ
نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا ") أَيْ: مِنْ
قَتَلَكُمْ (" أَحَدًا دُونَهُ ") أَيْ: دُونَ عِلْمِهِ
وَأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ (" فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى
الدَّجَّالِ فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ ") أَيْ: أَبْصَرَ
الدَّجَّالَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ وَقَدْ عَرَفَ
عَلَامَاتِهِ (قَالَ) : تَذْكِيرًا لِلْأُمَّةِ تَوْهِينًا
لِلْغُمَّةِ (" يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ
الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي أَحَادِيثِهِ أَنَّهُ
سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - (" فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ ") أَيْ:
بِضَرْبِهِ (" فَيُشَبَّحُ ") : بِتَشْدِيدِ
الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يُمَدُّ لِلضَّرْبِ
(" فَيَقُولُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ، تَأْكِيدًا
وَتَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا (" خُذُوهُ ") أَيْ: امْسِكُوهُ
أَخْذًا شَدِيدًا (" وَشُجُّوهُ ") : بِضَمِّ الشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيِ: اكْسِرُوا
رَأْسَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَشَبِّحُوهُ بِفَتْحِ الشِّينِ
وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ:
مُدُّوهُ عَلَى بَطْنِهِ أَوْ عَلَى قَفَاهُ، يُقَالُ:
تَشَبَّحَ الْحِرْبَاءُ عَلَى الْعُودِ، أَيِ: امْتَدَّ،
وَتَشْبِيحُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ عَرِيضًا (" فَيُوسَعُ ")
: بِسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ السِّينِ (ظَهْرُهُ
وَبَطْنُهُ ضَرْبًا) أَيْ: يَكْثُرُ الضَّرْبُ عَلَى
ظَهْرِهِ، وَبَطْنِهِ، (قَالَ: " فَيَقُولُ ") أَيِ:
الدَّجَّالُ (" أَمَا تُؤْمِنُ بِي ") ؟ وَفِي نُسْخَةٍ:
أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ أَيْ أَتُنْكِرُنِي وَأُلُوهِيَّتِي
وَمَا تُؤْمِنُ بِي وَبِرُبُوبِيَّتِي؟ (قَالَ: "
فَيَقُولُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُ (" أَنْتَ الْمَسِيحُ
الْكَذَّابُ ") أَيِ: الَّذِي يَقْتُلُكَ الْمَسِيحُ
الصِّدِّيقُ. (قَالَ: " فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ) :
بِضَمٍّ فَسُكُونِ هَمْزٍ وَيُبْدَلُ وَاوًا فَفَتْحِ
شِينٍ، أَيْ: فَيُقْطَعُ (" بِالْمِئْشَارِ ") : بِكَسْرِ
الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ يَاءً
وَبِالنُّونِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ آلَةُ
النَّشْرِ وَالْقَطْعِ (" مِنْ مَفْرِقِهِ ") : بِفَتْحِ
الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ مُبْتَدِأً
مِنْ فَرْقِ رَأْسِهِ (" حَتَّى يُفَرَّقَ) : بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا وَيُشَدَّدُ أَيْ: حَتَّى
يُفْصَلَ بَدَنُهُ قِطْعَتَيْنِ وَاقِعَتَيْنِ (" بَيْنَ
رِجْلَيْهِ) أَيْ: فِي طَرَفَيْ قَدَمَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ
يُشَبَّحُ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ
وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَذَا شُجُّوهُ أَيْ مُدُّوهُ عَلَى
بَطْنِهِ، وَجَاءَ أَيْضًا شَجُّوهُ بِجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ
مِنَ الشَّجِّ وَهُوَ الْجَرْحُ فِي الرَّأْسِ، ثُمَّ
قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ عِنْدَنَا،
وَقَوْلُهُ: فَيُؤْشَرُ، الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالْهَمْزَةِ
وَالْمِئْشَارُ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَهُوَ
الْأَفْصَحُ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزِ فِيهِمَا،
فَيُجْعَلُ فِي الْأَوَّلِ وَاوًا، وَفِي الثَّانِي يَاءً،
وَيَجُوزُ الْمِنْشَارُ بِالنُّونِ، وَعَلَى هَذَا
يُقَالُ: نَشَرْتُ الْخَشَبَةَ، " وَمَفْرِقِهِ " بِكَسْرِ
الرَّاءِ وَسَطُهُ يَعْنِي وَسَطَ فَرْقِهِ أَوْ وَسَطَ
رَأْسِهِ انْتَهَى.
قَالَ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ هَذَا
الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يُشَبَّحُ
بِمُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، وَشُجُّوهُ
بِالْجِيمِ مِنَ الشَّجِّ وَهُوَ الْجَرْحُ فِي الرَّأْسِ
وَالْوَجْهِ، وَثَانِيهِمَا يُشَبَّحُ كَالْأَوَّلِ
وَشَبِّحُوهُ بِالْبَاءِ وَالْحَاءِ، وَثَالِثُهَا
فَيُشَجُّ وَشُجُّوهُ كِلَاهُمَا بِالْجِيمِ، وَهُوَ
الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي
هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَصَحَّحَهُ
الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِنَا الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَارِحٌ: يُقَالُ: وَشَرْتَ الْخَشَبَةَ
بِالْمِيشَارِ إِذَا نَشَرْتَهُ بِالْمِنْشَارِ، وَفِي
الْحَدِيثِ بِالْيَاءِ لَا غَيْرُ ; يَدُلُّ عَلَيْهِ
فَيُؤْشَرُ.
قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ قَوْلُهُ: فَيُؤْشَرُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْهَمْزِ، وَأَنْ يَكُونَ
بِوَاوٍ مُبْدَلَةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ، وَكَذَا فِي
الْمِيشَارِ يَصِحُّ هَمْزُهُ وَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزٍ
أَوْ مِنْ وَاوٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ
بِالْهَمْزِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمِنْشَارُ بِالنُّونِ،
بِنَاءً عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، مَعَ
أَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ عَلَى
لِسَانِ الْعَامَّةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: أَشَرَ الْخَشَبَ
بِالْمِيشَارِ شَقَّهُ، وَنَشَرَ الْخَشَبَ نَحَتَهُ،
وَوَشَرَ الْخَشَبَ بِالْمِيشَارِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ لُغَةٌ
فِي أَشَرَهَا بِالْمِنْشَارِ إِذَا نَشَرَهَا. انْتَهَى.
وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْهَمْزُ
وَالْوَاوَ لُغَةٌ فِي الشَّقِّ وَالنُّونَ خَاصٌّ
بِمَعْنَى النَّحْتِ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ
الْقِطْعَتَيْنِ ") أَيِ: الشُّقَّتَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ
(8/3467)
تَخْيِيلًا لِتَحْقِيقِ الْقَتْلِ (" ثُمَّ
يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولُ
لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ ") :
بِفَتْحِ الدَّالِ، وَقَالَ شَارِحٌ: بِكَسْرِ الدَّالِ
الْأَوَّلِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. أَقُولُ:
صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِتْيَانِهِ مُتَعَدِّيًا
إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْقَامُوسِ
أَنَّهُ لَازِمٌ ; حَيْثُ قَالَ: زَادَهُ اللَّهُ خَيْرًا
فَزَادَ وَازْدَادَ، حَيْثُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ زَادَ
لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَأَنَّ ازْدَادَ قَاصِرٌ فَقَطْ
حَيْثُ جَعَلَهُ مُطَاوِعًا، نَعَمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]
صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ،
وَأَمَّا زَادَ فَيَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا إِلَى
مَفْعُولٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] ، وَقِيلَ:
نَصَبَ إِيمَانًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَحَاصِلُ
الْمَعْنَى مَا زِدْتُ (" فِيكَ ") أَيْ: فِي مَعْرِفَتِكَ
بِفِعْلِكَ هَذَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِحْيَاءِ (" إِلَّا
بَصِيرَةً ") أَيْ: زِيَادَةَ عِلْمٍ وَيَقِينٍ بِأَنَّكَ
كَاذِبٌ مُمَوِّهٌ، (" قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ ") :
الْمُؤْمِنُ (" يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ ") أَيِ:
الشَّأْنَ أَوِ الدَّجَّالَ (" لَا يَفْعَلُ ") :
مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلَ بِي
مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِحْيَاءِ - فِي الظَّاهِرِ ("
بَعْدِي ") أَيْ: بَعْدَ فِعْلِهِ بِي (" بِأَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ ") ، وَفِي هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ سَلْبِ
الْقُدْرَةِ الِاسْتِدْرَاجِيَّةِ عَنْهُ، وَتَسْلِيَةِ
النَّاسِ فِي الْخَوْفِ مِنْهُ، (قَالَ: " فَيَأْخُذُهُ
الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلُ ") : بِضَمِّ
أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ أَيْ: فَيَجْعَلُ
اللَّهُ (" مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ ") :
بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ
وَفَتْحِ الْوَاوِ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثُغْرَةِ
النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ (" نُحَاسًا) أَيْ: كَالنُّحَاسِ
لَا يَعْمَلُ فِيهِ السَّيْفُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ
قَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى
حَلْقِهِ صَفْحَةُ نُحَاسٍ (" فَلَا يَسْتَطِيعُ ") أَيِ:
الدَّجَّالُ (" إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى وُصُولِ قَتْلِهِ،
وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حُصُولِ مَضَرَّتِهِ (" سَبِيلًا ")
: تَمْيِيزٌ أَيْ: طَرِيقًا مِنَ التَّعَرُّضِ، (قَالَ: "
فَيَأْخُذُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" بِيَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ ") أَيْ: يَرْمِي
بِالْمُؤْمِنِ وَيَطْرَحُهُ (" فِي الْهَوَاءِ فَيَحْسِبُ
النَّاسُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ
فَيَظُنُّونَ (" أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ ") :
فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ أَيْ: قَذَفَهُ إِلَيْهَا،
وَالْأَظْهَرُ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ
أَنَّمَا بِالْفَتْحِ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْضًا، كَمَا
اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:
(" وَإِنَّمَا أُلْقِيَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ:
أُوقِعَ (" فِي الْجَنَّةِ ") ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ
أَيْ: فِي بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْمِيَهُ فِي النَّارِ الَّتِي مَعَهُ،
وَيَجْعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ جَنَّةً، كَمَا سَبَقَ
بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَصِيرُ تِلْكَ النَّارُ
رَوْضَةً وَجَنَّةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَلَمْ
يَحْصُلْ لَهُ مَوْتٌ عَلَى يَدِهِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ،
وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا
أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ
") : فَالْمُرَادُ بِهَا قَتْلُهُ الْأَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ
; فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الزَّلَلِ وَالْخَطَلِ وَالْوَحَلِ،
كَمَا وَقَعَ فِيهِ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
بِقَوْلِهِ: فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّ الدَّجَّالَ
قَذَفَهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَارُهُ، وَإِنَّمَا
أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ دَارُ الْبَقَاءِ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ: هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً،
وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ} [آل
عمران: 169 - 170] أَيْ يَسْرَحُونَ فِي ثِمَارِ
الْجَنَّةِ. أَقُولُ: فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ:
إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بِعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ
لَا يَفْعَلُ بَعْدِي أَيْ بَعْدَ قَتْلِي ثَانِيًا
بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: غَيْرِي، وَلَا يَخْفَى
بُعْدُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي فِي
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا يُفِيدُ تَأْيِيدَ مَا
اخْتَرْنَاهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(8/3467)
5477 - وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيَفِرَّنَّ
النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ
". قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ) ؟ قَالَ: " هُمْ قَلِيلٌ»
". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5477 - (وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيِ:
الْأَنْصَارِيَّةِ أَوِ الْقُرَشِيَّةِ (قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَيَفِرَّنَّ ") أَيْ: لَيَهْرُبَنَّ ("
النَّاسُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ (" مِنَ الدَّجَّالِ
حَتَّى يَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ " قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ
يَوْمَئِذٍ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا كَانَ
هَذَا حَالُ النَّاسِ فَأَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، الذَّابُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ،
الْمَانِعُونَ عَنْ أَهْلِهِ صَوْلَةَ أَعْدَاءِ اللَّهِ؟
فَكَنَّى عَنْهُمْ بِهَا يَوْمَئِذٍ (قَالَ: " هُمْ) أَيِ:
الْعَرَبُ (" قَلِيلٌ ") أَيْ: حِينَئِذٍ فَلَا
يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا
التِّرْمِذِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَلَفْظُ
الْجَامِعِ: " لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي
الْجِبَالِ ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ،
وَالتِّرْمِذِيُّ) .
(8/3469)
5478 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ
أَصْفَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ
الطَّيَالِسَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5478 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَتْبَعُ
") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: مِنَ
الِاتِّبَاعِ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ: يُطِيعُ ("
الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ ") : بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ وَفَتْحِ الْفَاءِ، بَلَدٌ
مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادِ الْأَرْفَاضِ. قَالَ النَّوَوِيُّ
- رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ فِيهِ كَسْرُ الْهَمْزَةِ
وَفَتْحُهَا وَبِالْبَاءِ وَالْفَاءِ انْتَهَى. وَنُسَخُ
الْمِشْكَاةِ كُلُّهَا بِالْفَاءِ، وَفِي الْمَشَارِقِ
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَيَّدَهَا أَبُو عُبَيْدٍ
الْعُكْبُرِيُّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ
يَقُولُونَهَا بِالْفَاءِ مَكَانَ الْبَاءِ، وَفِي
الْقَامُوسِ: الصَّوَابُ أَنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ، وَقَدْ
يُكْسَرُ هَمْزُهَا، وَقَدْ يُبْدَلُ بَاؤُهَا فَاءً،
وَفِي الْمُغْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا،
وَبِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَهْلِ الشَّرْقِ، وَبَاءٍ
مُوَحَّدَةٍ فِي الْغَرْبِ انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ
أَنَّ أَصْفَهَانَ اثْنَانِ ; فَيُطَابِقُ مَا نَقَلَهُ
ابْنُ الْمَلَكِ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ
أَصْفَهَانُ خُرَاسَانَ لَا أَصْفَهَانُ الْغَرْبِ، لَكِنْ
فِي قَوْلِهِ: أَصْفَهَانُ خُرَاسَانَ مُسَامَحَةٌ ;
لِأَنَّ أَصْفَهَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِرَاقِ،
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ خُرَاسَانُ فِي جِهَةِ الشَّرْقِ
أَيْضًا، وَكَانَ أَشْهَرُ مِنَ الْعِرَاقِ أُضِيفَ
إِلَيْهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، (" سَبْعُونَ أَلْفًا ")
، وَفِي رِوَايَةٍ: تِسْعُونَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ
هُوَ الْأَوَّلُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (" عَلَيْهِمُ
الطَّيَالِسَةُ) : بِفَتْحِ طَاءٍ وَكَسْرِ لَامٍ، جَمْعُ
طَيْلَسَانٍ، وَهُوَ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي الْقَامُوسِ:
الطَّيْلَسُ وَالطَّيْلَسَانُ مُثَلَّثَةُ اللَّامِ، عَنْ
عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ مُعَرَّبٌ، أَصْلُهُ تَالِسَانُ
جَمْعُهُ الطَّيَالِسَةُ، وَالْهَاءُ فِي الْجَمْعِ
لِلْعُجْمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بَهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى
ذَمِّ لُبْسِهِ. وَرَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةٍ
سَمَّاهَا: (طَيُّ اللِّسَانِ عَنِ الطَّيْلَسَانِ) .
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(8/3469)
5479 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَأْتِي
الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ
نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ
الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ رَجُلٌ
وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ،
فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ،
هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا،
فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ،
فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ
عَلَيْهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5479 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " يَأْتِي الدَّجَّالُ ") أَيْ: يَظْهَرُ فِي
الدُّنْيَا، أَوْ يَتَوَجَّهُ إِلَى صَوْبِ الْمَدِينَةِ
الْمُعَطَّرَةِ الْمَصُونَةِ (" وَهُوَ مُحَرَّمٌ ") :
جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: مَمْنُوعٌ (عَلَيْهِ أَنْ
يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ ") : بِكَسْرِ النُّونِ
كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَهُوَ جَمْعُ نَقْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ
الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالْأَنْقَابُ: جَمْعُ
قِلَّةٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ: (" فَيَنْزِلُ ") أَيِ
الدَّجَّالُ (" بَعْضَ السِّبَاخِ ") : بِكَسْرِ السِّينِ
أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَرَاضِي السَّبِخَةِ، وَهِيَ ذَاتُ
مِلْحٍ لَا تُنْبِتُ (" الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ ")
أَيْ: تَقْرُبُهَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْزِلُ دُبُرَ
أُحُدٍ، (" فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ رَجُلٌ) أَيْ: عَظِيمٌ
(وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ ") أَيْ: حِينَئِذٍ (" أَوْ مِنْ
خِيَارِ النَّاسِ ") ، عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ التَّرْدِيدُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّاوِي، فَأَوْ:
لِلشَّكِّ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ
الْأَصَحِّ، (" فَيَقُولُ ") أَيْ: بَعْدَ رُؤْيَتِهِ ("
أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حَدِيثَهُ ") أَيْ: وَصْفَهُ وَحَالَهُ، وَلَمَّا كَانَ
الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ: الدَّجَّالُ
; لِأَنَّ الْمُظْهَرَ غَائِبٌ لَا عَلَى ضَمِيرِ
الْمُخَاطَبِ وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
(8/3469)
(" فَيَقُولُ الدَّجَّالُ ") أَيْ: لِمَنْ
حَوْلَهُ (" أَرَأَيْتُمْ ") أَيْ: أَخْبِرُونِي (" إِنْ
قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي
الْأَمْرِ ") ؟ أَيْ أَمْرِي، وَقِيلَ أَيْ: فِي أَنَّهُ
لَهُ (فَيَقُولُونَ: لَا ") ، أَيْ: لَا نَشُكُّ، وَهُوَ
مُحْتَمَلٌ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى إِثْبَاتِ
الْأَمْرِ أَوْ نَفْيِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: أَمَّا قَوْلُ الدَّجَّالِ: إِنْ قَتَلْتُ هَذَا
ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟
فَيَقُولُونَ: لَا، فَقَدْ يُشْكِلُ ; لِأَنَّ مَا
أَظْهَرَهُ الدَّجَّالُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى
رُبُوبِيَّتِهِ ; لِظُهُورِ النَّقْصِ عَلَيْهِ
وَدَلَائِلِ الْحُدُوثِ وَتَشْوِيهِ الذَّاتِ وَشَهَادَةِ
كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ
قَالُوهُ خَوْفًا مِنْهُ لَا تَصْدِيقًا، وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُمْ قَصَدُوا لَا نَشُكُّ فِي كَذِبِكَ وَكُفْرِكَ،
فَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَكَذِبِهِ كَفَرَ،
وَخَادَعُوهُ بِهَذِهِ التَّوْرِيَةِ خَوْفًا مِنْهُ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَشُكُّ هُمْ
مُصَدِّقُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ
قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَقَاوَتَهُ، ("
فَيَقْتُلُهُ ") أَيِ: الرَّجُلَ عَلَى مَا سَبَقَ ("
ثُمَّ يُحْيِيهِ) أَيْ: وَيَسْأَلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ("
فَيَقُولُ ") أَيِ: الْمَقْتُولُ (" وَاللَّهِ مَا كُنْتُ
") أَيْ: فِي سَابِقِ الْأَيَّامِ (" فِيكَ ") أَيْ: فِي
بُطْلَانِكَ (" أَشَدَّ بَصِيرَةً ") أَيْ: يَقِينًا ("
مِنِّي ") : مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ (" الْيَوْمَ ") :
بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ لِأَشَدَّ (" فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ
أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ
الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: فَلَا يَقْدِرُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ:
عَلَى قَتْلِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا
قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
ثُمَّ فِي عَجْزِ الدَّجَّالِ آخِرًا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي
أَنَّ قُدْرَتَهُ أَوَّلًا كَانَتْ حَادِثَةً عَارِضَةً
مُسْتَعَارَةً لِلِاسْتِدْرَاجِ بِهِ وَالِابْتِلَاءِ
لِغَيْرِهِ، فَسُلِبَتْ عَنْهُ كَمَا سَتُنْزَعُ عَنْهُ
رُوحُهُ، فَيَبْقَى جِيفَةً مُلْقَاةً بِالْأَرْضِ
يَأْكُلُ مِنْهَا الْكِلَابُ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ
مِنْ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ: مَا لِلتُّرَابِ وَرَبِّ
الْأَرْبَابِ. قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: فِي الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّجَّالَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا
يُرِيدُ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ عِنْدَ
حَرَكَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَحَلِّ قُدْرَتِهِ أَنْ
يَفْعَلَهُ اخْتِبَارًا لِلْخَلْقِ ; لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ، وَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(8/3470)
5480 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ
قِبَلِ الْمَشْرِقِ هِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ، حَتَّى
يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ
وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ» ".
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5480 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
يَأْتِي الْمَسِيحُ) أَيِ: الدَّجَّالُ (" مِنْ قِبَلِ
الْمَشْرِقِ ") : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ
الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ (" وَهِمَّتُهُ ")
أَيْ: قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ (" الْمَدِينَةُ ") أَيِ:
السَّكِينَةُ (" حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ ") :
بِضَمِّ الدَّالِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: خَلْفَ أُحُدٍ،
وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، (" ثُمَّ ")
أَيْ: بَعْدَ مَا تَقَعُ قِصَّةُ الرَّجُلِ السَّابِقِ ("
تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ ") أَيْ: تَرُدُّ (" وَجْهَهُ ")
أَيْ: تَوَجُّهَهُ وَقَصْدَهُ (" قِبَلَ الشَّامِ ") ،
أَيْ: إِلَى حَيْثُ جَاءَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلُ
بُطْلَانِهِ، وَأَمَارَةُ عَجْزِهِ وَنُقْصَانِهِ ; حَيْثُ
رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَدْخُلَ
دَارًا فِيهِ مَدْفَنُ سَيِّدِ الْوَرَى، وَظَاهِرُهُ
أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ حَرَمَ مَكَّةَ بِالْأَوْلَى
وَالْأَحْرَى، (" وَهُنَالِكَ ") أَيْ: فِي الشَّامِ ("
يَهْلِكُ ") أَيْ: يَقْتُلُهُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(8/3470)
5481 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ
رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ
أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» ". رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5481 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
" لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ ") أَيْ: وَمَنْ بِهَا ("
رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ") : بِضَمِّ رَاءٍ
فَسُكُونِ عَيْنٍ وَبِضَمَّتَيْنِ أَيْ: خَوْفُهُ (" لَهَا
") أَيْ: لِلْمَدِينَةِ (" يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ
") ، أَيْ طُرُقٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا أَبْوَابُ
الْقَلْعَةِ حِينَئِذٍ (" عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ ")
أَيْ: يَدْفَعَانِهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ
الْمَكَانِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا اشْتُهِرَ
عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ جِبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ
بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ،
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهِ، مَا أَخْرَجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ: أَنَّ جِبْرَائِيلَ يَحْضُرُ مَوْتَ
كُلِّ مُؤْمِنٍ يَكُونُ عَلَى طَهَارَةٍ، وَأَخْرَجَ أَبُو
نُعَيْمٍ فِي الْفِتَنِ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمُرُّ الدَّجَّالُ
بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ فَقَالَ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جِبْرَائِيلُ بَعَثَنِي
لِأَمْنَعَ حَرَمَ رَسُولِهِ» " انْتَهَى، وَلَا مَفْهُومَ
لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ فُوِّضَ إِلَى
جِبْرَائِيلَ مَنْعُ حَرَمِ رَسُولِهِ، وَأَمَّا حَرَمُهُ
فَهُوَ لَهُ وَلِيٌّ وَكَفِيلٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ
سُورَةُ الْفِيلِ، وَسَيَأْتِي فِيمَا «رُوِيَ لِتَمِيمٍ
الدَّارِيِّ عَنِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ قَالَ: فَلَا أَدَعُ
قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً،
غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ هُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ
كِلْتَاهُمَا» ، وَقَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَى
أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «الدَّجَّالُ
لَا يُولَدُ وَلَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ» .
(8/3470)
5482 - «وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ مُنَادِيَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُنَادِي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَخَرَجْتُ إِلَى
الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ
جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "
لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ
تَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ مَا
جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ
جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا
نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ،
وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ
أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ،
حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ
ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ
بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، فَأَرْفَئُوا
إِلَى جَزِيرَةٍ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَجَلَسُوا فِي
أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ،
فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا
يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ
الشَّعَرِ، قَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا
الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ:
أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي
الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ،
قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا
أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا
حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ
إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ
وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ
رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ. قُلْنَا:
وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى
خَبَرِي ; فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ
أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ
بَحْرِيَّةٍ، فَلَعِبَ بِنَا الْبَحْرُ شَهْرًا،
فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ
أَهْلَبُ، فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ اعْمِدُوا إِلَى
هَذَا فِي الدَّيْرِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا
وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ
شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ
قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ:
أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ تُثْمِرُ؟ قُلْنَا:
نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهَا تُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ.
قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ،
قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ
فِيهَا مَاءٌ؟ قُلْنَا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ:
أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قَالَ:
أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ. قَالُوا: وَعَنْ أَيِّ
شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟
وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا
لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا
يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ
نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قُلْنَا: قَدْ خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ
الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟
فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ
مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ أَمَا إِنَّ ذَلِكَ
خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ
عَنِّي: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَإِنِّي
يُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ،
فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا
هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ
وَطَيْبَةَ، هُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا،
كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا
مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلِكٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ صَلْتًا
يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا
مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَنَ
بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: " وَهَذِهِ طَيْبَةُ،
هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ " يَعْنِي الْمَدِينَةَ،
" أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ؟ " فَقَالَ النَّاسُ:
نَعَمْ، فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ
وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ
الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ
الشَّامِ أَوِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ
الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ،
مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ " وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ
إِلَى الْمَشْرِقِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5482 - (وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) أَيِ
الْقُرَشِيَّةِ، أُخْتِ الضَّحَّاكِ، كَانَتْ مِنَ
الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، رَوَى عَنْهَا نَفَرٌ، كَانَتْ
ذَاتَ جَمَالٍ وَعَقْلٍ وَكَمَالٍ، وَزَوَّجَهَا
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَتْ: سَمِعْتُ مُنَادِيَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي)
: تَحْقِيقُ إِعْرَابِهِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ: {سَمِعْنَا
مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] ،
(الصَّلَاةَ) : بِنَصْبِهَا وَيُرْفَعُ، وَكَذَا قَوْلُهُ
(جَامِعَةً) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
هُوَ بِنَصْبِ " الصَّلَاةَ " وَ " جَامِعَةً " الْأَوَّلِ
عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ
الرِّوَايَةِ بِالرَّفْعِ أَنْ يُقَدَّرَ هَذِهِ أَيْ
هَذِهِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَيَجُوزَ أَنْ يُنْصَبَ
جَامِعَةً عَلَى الْحَالِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ
لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا كَانَ
النَّصْبُ أَجْوَدَ وَأَشْبَهَ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ
مِنْهُ انْتَهَى.
فَالتَّرْكِيبُ ثُلَاثِيٌّ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ
شَارِحٌ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْعُولُ يُنَادِي ;
لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهِيَ فِي إِعْرَابِهِ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ كَمَا مَرَّ، أَيْ: فِي صَلَاةِ
الْعِيدِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ
هُنَا ; حَيْثُ قَالَ بِرَفْعِهِمَا، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ،
وَنَصْبِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ: احْضُرُوا الصَّلَاةَ
حَالَ كَوْنِهَا جَامِعَةً، وَبِرَفْعِ الْأَوَّلِ عَلَى
تَقْدِيرِ: هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَنَصْبِ الثَّانِي عَلَى
الْحَالِيَّةِ، وَبِالْعَكْسِ عَلَى تَقْدِيرِ: احْضُرُوا
الصَّلَاةَ وَهِيَ جَامِعَةٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِإِضْمَارِ
حَرْفِ الْعَطْفِ، وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ مَحَلُّ
الْجُمْلَةِ نَصْبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يُنَادِي
حِكَايَةً ; لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ.
(فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ) : وَلَعَلَّ خُرُوجَهَا
قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ، أَوْ لَهُنَّ
رُخْصَةٌ فِي حُضُورِ الصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ ; قِيَاسًا
عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، (فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
أَيْ: صَلَاةَ نَافِلَةٍ أَوْ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ، (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أَيْ: أَدَّاهَا
وَفَرَغَ عَنْهَا (جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ
يَضْحَكُ) أَيْ: يَتَبَسَّمُ ضَاحِكًا عَلَى عَادَتِهِ
الشَّرِيفَةِ، (" فَقَالَ: " لِيَلْزَمْ ") : بِفَتْحِ
الزَّايِ أَوْ لِيَلْتَزِمْ (" كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ
") أَيْ: مَوْضِعَ صَلَاتِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرْ وَلَا
يَتَقَدَّمْ وَلَا يَتَأَخَّرْ، (" ثُمَّ قَالَ: " هَلْ
تَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ ") ؟ أَيْ بِنِدَاءِ "
الصَّلَاةَ جَامِعَةً " (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ. قَالَ " إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ
لِرَغْبَةٍ ") أَيْ: لِأَمْرٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ مِنْ
عَطَاءٍ كَغَنِيمَةٍ (وَلَا رَهْبَةٍ) أَيْ: وَلَا
لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ (" وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ
تَمِيمًا الدَّارِيَّ) : وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدٍّ
لَهُ اسْمُهُ الدَّارُ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تَمِيمَ
الدَّارِيَّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَا هُوَ فِي جَامِعِ
الْأُصُولِ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَتَمِيمَ
الدَّارِيَّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ فِي كِتَابِ
الْحُمَيْدِيِّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي
مُسْلِمٍ: لِأَنَّ تَمِيمَ الدَّارِيَّ (" كَانَ رَجُلًا
نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ وَأَسْلَمَ وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا
وَافَقَ الَّذِي ") أَيْ: طَابَقَ الْحَدِيثَ الَّذِي ("
كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ")
، فَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ: رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى
مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ". وَفِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّ
كَثْرَةَ الرُّوَاةِ لَهَا دَخْلٌ فِي قُوَّةِ
الْإِسْنَادِ ; وَلِهَذَا قَالَ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِشْهَادِ وَطَرِيقِ الِاعْتِضَادِ (" حَدَّثَنِي ")
: فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ
الْأَصَاغِرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى
الْجَاهِلِ الْمُكَابِرِ، حَتَّى يَتَكَبَّرَ عَنْ أَخْذِ
الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْخُمُولِ وَالْأَصَاغِرِ، وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
[الأعراف: 146] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَلِمَةُ الْحِكْمَةِ ضَالَّةُ
الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» "
وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ:
انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ
قَالَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَمِيمًا حَكَى لِي (" أَنَّهُ
رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ ") أَيْ: لَا بَرِّيَّةٍ
(8/3471)
احْتِرَازًا عَنِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ
يُسَمَّى سَفِينَةَ الْبَرِّ، وَقِيلَ: أَيْ مَرْكَبًا
كَبِيرًا بَحْرِيًّا لَا زَوْرَقًا صَغِيرًا نَهْرِيًّا ("
مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ ") : بِفَتْحِ لَامٍ
وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ لَا
يُصْرَفُ، قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ("
وَجُذَامَ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ (" فَلَعِبَ ") أَيْ
دَارَ (" بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا ") أَيْ: مِقْدَارَ
شَهْرٍ (" فِي الْبَحْرِ ") ، وَاللَّعِبُ فِي الْأَصْلِ
مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ،
فَاسْتُعِيرَ لِصَدِّ الْأَمْوَاجِ السُّفُنَ عَنْ صَوْبِ
الْمَقْصِدِ وَتَحْوِيلِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا ("
فَأَرْفَئُوا) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ قَرَّبُوا
السَّفِينَةَ (" إِلَى جَزِيرَةٍ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ
") ، فِي شَرْحِ التُّورِبِشْتِيِّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
أَرْفَأْتُ السَّفِينَةَ أُرْفِئُهَا إِرْفَاءً،
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أُرْفِيهَا بِالْيَاءِ عَلَى
الْإِبْدَالِ، وَهَذَا مَرْفَأُ السُّفُنِ أَيِ:
الْمَوْضِعُ الَّذِي تُشَدُّ إِلَيْهِ وَتُوقَفُ عِنْدَهُ.
(" فَجَلَسُوا ") أَيْ: بَعْدَ مَا تَحَوَّلُوا مِنَ
الْمَرْكَبِ الْكَبِيرِ (" فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ ") ،
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ قَارِبٍ
بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفَتْحُهُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ،
وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ،
وَالْقِيَاسُ قَوَارِبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: أَقْرُبِ السَّفِينَةِ هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ،
جَمْعُ قَارِبٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَهِيَ
سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ تَكُونُ مَعَ الْكَبِيرَةِ
كَالْجَنِيبَةِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا رُكَّابُ السَّفِينَةِ
لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَمَّا
أَقْرُبُ فَلَعَلَّهُ جَمْعُ قَارِبٍ، فَلَيْسَ
بِمَعْرُوفٍ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ أَفْعُلُ، وَقَدْ أَشَارَ
الْحُمَيْدِيُّ فِي غَرِيبِهِ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ
قِيَاسٍ. (" فَدَخَلُوا فِي الْجَزِيرَةِ ") : اللَّامُ
لِلْعَهْدِ أَيْ: فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي هُنَاكَ ("
فَلَقِيَتْهُمْ ") أَيْ: فَرَأَتْهُمْ (" دَابَّةٌ
أَهْلَبُ ") : الْهَلْبُ الشَّعَرُ، وَقِيلَ: مَا غَلُظَ
مِنَ الشَّعَرِ، وَقِيلَ: مَا كَثُرَ مِنْ شَعَرِ
الذَّنَبِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الدَّابَّةَ
يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:
38] ، كَذَا قَالُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِتَأْوِيلِ
الْحَيَوَانِ ; وَلِذَا قَالَ: (" كَثِيرُ الشَّعَرِ ") :
وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَعَطْفُ بَيَانٍ، ثُمَّ
بَيَّنَهُ زِيَادَةَ تِبْيَانٍ ; حَيْثُ قَالَ
اسْتِئْنَافًا: (" لَا يَدْرُونَ ") أَيْ: لَا يَعْرِفُ
النَّاسُ الْحَاضِرُونَ (" مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ ")
: بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَيَدْرُونَ بِمَعْنَى
يَعْلَمُونَ لِمَجِيءِ الِاسْتِفْهَامِ تَعْلِيقًا، وَلَا
بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَعْدَ حَرْفِ
الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: مَا نِسْبَةُ قُبُلِهِ مِنْ
دُبُرِهِ؟ (" مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ ") أَيْ: مِنْ
أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا (" قَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ
") ؟ خَاطَبُوهَا مُخَاطَبَةَ الْمُتَعَجِّبِ
الْمُتَفَجِّعِ، (" قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ ") :
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ بِفَتْحِ
الْجِيمِ فَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى، قِيلَ:
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَجَسُّسِهَا الْأَخْبَارَ
لِلدَّجَّالِ، وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةُ
فِي الْقُرْآنِ، (" انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي
الدَّيْرِ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ
التَّحْتِيَّةِ أَيْ دَيْرِ النَّصَارَى، فَفِي
الْمَغْرِبِ الدَّيْرُ صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ،
وَالْمُرَادُ هُنَا الْقَصْرُ كَمَا سَيَأْتِي،
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ
اسْمُ الْإِشَارَةِ أَوْ حَرْفُ التَّنْبِيهِ، (فَإِنَّهُ)
أَيِ: الرَّجُلَ الَّذِي فِي الدَّيْرِ (" إِلَى
خَبَرِكُمْ ") : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ("
بِالْأَشْوَاقِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ شَوْقٍ
أَيْ: كَثِيرُ الشَّوْقِ وَعَظِيمُ الِاشْتِيَاقِ،
وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ شَدِيدُ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى
مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْخَبَرِ، حَتَّى كَأَنَّ
الْأَشْوَاقَ مُلْصَقَةٌ بِهِ أَوْ كَأَنَّهُ مُهْتَمٌّ
بِهَا.
(" قَالَ ") أَيْ: تَمِيمٌ (" لَمَّا سَمَّتْ ") أَيْ:
ذَكَرَتْ وَوَصَفَتْ (" لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا ") :
بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: خِفْنَا (" مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ
الدَّابَّةِ (" أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً ") أَيْ:
كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، وَأَنْ يَكُونَ
الرَّجُلُ شَيْطَانًا مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَقَالَ
الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً
بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، (" قَالَ ") أَيْ:
تَمِيمٌ (" فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا ") أَيْ: حَالَ
كَوْنِنَا مُسْرِعِينَ (" حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ ") ،
قَالَ شَارِحٌ: دَيْرَ النَّصَارَى وَأَصْلُهُ الْوَاوُ
انْتَهَى.
(8/3472)
وَالْمَعْنَى أَنَّ أَصْلَهُ دَارَ
بِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْوَاوِ، وَمَأْخُوذًا
مِنَ الدَّوْرِ لِكَوْنِهِ مُدَوَّرًا، أَوْ يُدَارُ
فِيهَا، أَوْ مَدَارُ الْمَعِيشَةِ وَالْمَبِيتِ إِلَيْهِ
ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْأَلِفُ يَاءً لِلْفَرْقِ، وَمُرَادُهُ
بِقَوْلِهِ: دَيْرُ النَّصَارَى أَنَّهُ مِثْلُهُ، أَوْ
فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى
بَيْتِ الْخَمْرِ، (" فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ ")
أَيْ: أَكْبَرُهُ جِهَةً أَوْ أَهْيَبُهُ هَيْئَةً ("
رَأَيْنَاهُ ") : صِفَةُ إِنْسَانٍ احْتِرَازٌ عَمَّنْ
لَمْ يَرَوْهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي
مَعْنَى مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ صَحَّ قَوْلُهُ: (" قَطُّ
") الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمَاضِي، وَهُوَ بِفَتْحِ
الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَضْمُومَةِ فِي
أَفْصَحِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَقَدْ يَتْبَعُ
قَافُهُ طَاءَهُ فِي الضَّمِّ، وَقَدْ تُخَفَّفُ طَاؤُهُ
مَعَ ضَمِّهَا وَإِسْكَانِهَا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي،
وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ: مَا رَأَيْنَاهُ قَطُ، وَقَوْلُهُ:
(" خَلْقًا ") تَمْيِيزُ أَعْظَمُ، (" وَأَشَدُّهُ ")
أَيْ: أَقْوَى إِنْسَانٍ (" وِثَاقًا ") : بِفَتْحِ
الْوَاوِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: قَيْدًا مِنَ السَّلَاسِلِ
وَالْأَغْلَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، هَذَا وَذَكَرَ
الْأَشْرَفُ أَنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَى
الْأَعْظَمِ أَيْ: مَا رَأَيْنَاهُ قَطُّ، أَعْظَمُ
إِنْسَانٍ خَلْقًا، وَخَلْقًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ
مِنْ " أَعْظَمُ إِنْسَانٍ ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ،
أَيْ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَعْظَمِ،
وَأَشَدُّ: مَرْفُوعٌ عَطْفٌ عَلَى الْأَعْظَمِ، هَذَا
وَإِنَّ لَفْظَةَ: " مَا " لَيْسَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ،
وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَا فِي جَامِعِ
الْأُصُولِ، وَلَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ،
وَلَعَلَّ مَنْ زَادَهَا نَظَرَ إِلَى لَفْظَةِ قَطُّ ;
حَيْثُ يَكُونُ فِي الْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، فَالْوَجْهُ
أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ
الْقَائِلِ:
لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ
(" مَجْمُوعَةٌ ") : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ
بِالرَّفْعِ أَيْ مَضْمُومَةٍ (" يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ ")
، وَقَوْلُهُ: (" مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى
كَعْبَيْهِ ") ، لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ أَنْ يُؤْتَى
بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ ; لِيَكُونَ الْمَعْنَى:
وَمَجْمُوعَةٌ سَاقَاهُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
بِالْحَدِيدِ قَيْدًا لَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَا " مَوْصُولَةٌ مَرْفُوعَةُ
الْمَحَلِّ الْمَعْنِيِّ (" بِالْحَدِيدِ ") ، وَحُذِفَ
مَجْمُوعَةٌ فِي الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهِ
(" قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ ") ؟ اسْتَغْرَبُوهُ
فَأَوْرَدُوا " مَا " مَكَانَ " مَنْ " وَيُمْكِنُ أَنْ
يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ وَصْفِهِ وَحَالِهِ، إِذْ قَدْ
عَلِمُوا أَنَّهُ رَجُلٌ، وَقَدْ يَجِيءُ " مَا "
بِمَعْنَى " مَنْ " كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، أَوْ رُوعِيَ
مُشَاكَلَةُ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا خَلْقًا
عَجِيبًا خَارِجًا عَمَّا عَهِدُوهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ
حَالُهُ ; فَقَالُوا: مَا أَنْتَ مَكَانَ مَنْ أَنْتَ.
(قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ ") أَيْ: تَمَكَّنْتُمْ (" عَلَى
خَبَرِي) ، أَيْ: فَإِنِّي لَا أُخْفِيهِ عَنْكُمْ
فَأُحَدِّثُ لَكُمْ عَنْ حَالِي (فَأَخْبِرُونِي) أَيْ:
عَنْ حَالِكُمْ وَمَا أَسْأَلُهُ عَنْكُمْ أَوَّلًا،
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" مَا أَنْتُمْ) ؟ حَيْثُ لَمْ
يَقُلْ: مَنْ أَنْتُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طِبَاقًا
لِقَوْلِهِمْ جَزَاءً لِفِعْلِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِثْلُ مَا قَالُوا لَهُ: مَا أَنْتَ؟
قَالَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ أَنَّ
إِنْسَانًا يَطْرُقُ ذَلِكَ الْمَكَانَ. وَقَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ: أَيْ مَنْ أَنْتُمْ، أَوْ مَا حَالُكُمْ؟ ("
قَالُوا ") : فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى
الْغَيْبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، قَالَ بَعْضُنَا،
فَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْغَائِبِينَ عَلَى الْحَاضِرِينَ. ("
نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةِ
بِحْرِيَّةٍ، فَلَعِبَ بِنَا الْبَحْرُ شَهْرًا،
فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ
أَهْلَبُ، فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ اعْمِدُوا ") :
بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اقْصِدُوا (" إِلَى هَذَا ")
أَيِ: الرَّجُلِ (" فِي الدَّيْرِ ") أَيِ: الْقَصْرِ
الْكَبِيرِ (فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا [وَفَزَعًا
مِنْهَا] ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ
(8/3473)
نَخْلِ بَيْسَانَ ") : [قُلْنَا عَنْ أَيِّ
شَيْءٍ تَسْتَخْبِرُ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا]
: بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، وَهِيَ
قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - قَرِيبَةٌ مِنَ الْأُرْدُنِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ
الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْقَامُوسِ:
قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقَرْيَةٌ بِمَرْوٍ، وَمَوْضِعُ
الْيَمَامَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونٍ بَدَلَ
الْمُوَحَّدَةِ، لَكِنْ مَا وَجَدْتُ لَهُ أَصْلًا فِي
اللُّغَةِ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي
الْقَامُوسِ وَقَالَ: نَيْسَانُ سَابِعُ الْأَشْهُرِ
الرُّومَةِ.
(" هَلْ تُثْمِرُ ") ؟ أَيْ تِلْكَ النَّخْلُ، (" قُلْنَا:
نَعَمْ. قَالَ: أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ
(" إِنَّهَا تُوشِكُ ") : أَيْ تَقْرُبُ (" أَنْ لَا
تُثْمِرَ. قَالَ ") أَيِ: الرَّجُلُ (" أَخْبِرُونِي عَنْ
بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ،
وَالْبُحَيْرَةُ تَصْغِيرُ الْبَحْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ:
الطَّبَرِيَّةُ مُحَرَّكَةً قَصَبَةٌ بِالْأُرْدُنِّ،
وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا طَبَرَانِيُّ، (" هَلْ فِيهَا
مَاءٌ؟ قُلْنَا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ: إِنَّ
مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ ") أَيْ: يَفْنَى ("
قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ ") : بِزَايٍ
فَغَيْنٍ مُعْجَمَتَيْنِ فِرَاءٍ كَزُفَرَ، بَلْدَةٌ
بِالشَّامِ قَلِيلَةُ النَّبَاتِ، قِيلَ: عَدَمُ صَرْفِهِ
لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ
اسْمُ امْرَأَةٍ ثُمَّ نُقِلَ، يَعْنِي لَيْسَ تَأْنِيثُهُ
بِاعْتِبَارِ الْبَلْدَةِ وَالْبُقْعَةِ، فَإِنَّهُ
يُذَكَّرُ مِثْلُهُ وَيُصْرَفُ بِاعْتِبَارِ الْبَلَدِ
وَالْمَكَانِ، وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: هُوَ مَوْضِعٌ
بِالشَّامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
هِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ
مِنَ الشَّامِ (" هَلْ فِي الْعَيْنِ ") أَيْ: فِي
عَيْنِهِ، أَوْ تِلْكَ الْعَيْنِ فَاللَّامُ لِلْعِوَضِ
عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْ لِلْعَهْدِ (" مَاءٌ ") ؟
أَيْ كَثِيرٌ لِقَوْلِهِ: (" وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهُ ")
: أَهْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ أَوِ الْبَلْدَةِ وَهِيَ
الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (" بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا:
نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ
مِنْ مَائِهَا ") ، الظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَهُ عَلَى
طِبْقِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ إِمَّا أَنَّهَا يُوشِكُ أَنْ
لَا يَبْقَى فِيهَا مَاءٌ يَزْرَعُ بِهِ أَهْلُهَا، وَفِي
الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَجْوِبَتِهَا
الْمَسْطُورَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا عَلَامَاتٌ
لِخُرُوجِهِ وَأَمَارَاتٌ لِذَهَابِ بَرَكَتِهَا بِشَآمَةِ
ظُهُورِهِ وَوَصْلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ
الْأَسْئِلَةُ تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهَا (" قَالَ ")
أَيِ: الدَّجَّالُ مُعْرِضًا عَنِ الْجَوَابِ الثَّانِي،
وَبَادَرَ إِلَى السُّؤَالِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ ظُهُورُ
مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ (" أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ
الْأُمِّيِّينَ ") أَيِ: الْعَرَبِ (" مَا فَعَلَ ") ؟
بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَا صَنَعَ بَعْدَمَا بُعِثَ. قَالَ
ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: أَرَادَ
الدَّجَّالُ بِالْأُمِّيِّينَ الْعَرَبَ ; لِأَنَّهُمْ لَا
يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ غَالِبًا، وَإِنَّمَا
أَضَافَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ طَعْنًا عَلَيْهِ
بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ خَاصَّةً، كَمَا زَعَمَ
بَعْضُ الْيَهُودِ، أَوْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى
ذَوِي الْفِطْنَةِ وَالْكَيَاسَةِ وَالْعَقْلِ
وَالرِّيَاسَةِ. (" قُلْنَا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ
وَنَزَلَ بِيَثْرِبَ ") : أَيْ هَاجَرَ مِنْهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ، (" قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا:
نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُ
أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ ") أَيْ: غَلَبَ وَظَفِرَ (" عَلَى
مَنْ يَلِيهِ ") أَيْ: يَقْرَبُهُ (" مِنَ الْعَرَبِ،
وَأَطَاعُوهُ قَالَ أَمَا إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ ") .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُشَارُ
إِلَيْهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَطَاعُوهُ،
وَقَوْلُهُ: (" أَنْ يُطِيعُوهُ ") جَاءَ لِمَزِيدِ
الْبَيَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَخَيْرٌ: إِمَّا خَبَرٌ مُسْنَدٌ إِلَى أَنْ
يُطِيعُوهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بِمَعْنَى
التَّفْضِيلِ، أَوْ يَكُونُ أَنْ يُطِيعُوهُ مُبْتَدَأً،
وَخَيْرٌ: خَبَرَهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ
خَبَرُ إِنَّ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ
قِيلَ: يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَرَفَ
الْحَقَّ، وَالْمَخْذُولُ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ
بِمَكَانٍ لَمْ يُرَ لَهُ فِيهِ مُسَاهِمٌ، فَمَا وَجْهُ
قَوْلِهِ هَذَا؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا أَيْ: طَاعَتَهُمْ لَهُ خَيْرٌ
لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ
(8/3474)
إِنْ خَالَفُوهُ اجْتَاحَهُمْ
وَاسْتَأْصَلَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ
الصَّرْفَةِ، صَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الطَّعْنِ
فِيهِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِ، وَتَفَوَّهَ بِمَا ذُكِرَ
عَنْهُ كَالْمَغْلُوبِ عَلَيْهِ وَالْمَأْخُوذِ عَلَيْهِ،
فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ تَأْيِيدًا
لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ
(" وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي ") : بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهِ (" أَنَا الْمَسِيحُ ") أَيِ:
الدَّجَّالُ.
(" وَإِنِّي ") : بِالْوَجْهَيْنِ (" يُوشِكُ أَنْ
يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي
الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ ") : بِالنَّصْبِ فِي
الثَّلَاثَةِ، وَجُوِّزَ رَفْعُهَا، أَيْ: فَلَا أَتْرُكُ
(" قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ") :
ظَرْفٌ لِأَسِيرَ، وَعَدَمُ التَّرْكِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ
سِيَاحَتِهِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ وُجُوهِ تَسْمِيَتِهِ
بِالْمَسِيحِ، عَلَى أَنَّ فَعِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ،
لِكَوْنِ سِيَاحَتِهِ مُرُورًا كَالْمَسِيحِ، (" غَيْرَ
مَكَّةَ ") : اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي
وَقَعَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُنْصَبِّ
عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، ("
وَطَيْبَةَ ") : عَطْفٌ عَلَى مَكَّةَ، وَهِيَ بِفَتْحِ
طَاءٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مِنْ أَسْمَاءِ
الْمَدِينَةِ كَطَابَةَ، (" هُمَا ") أَيْ: مَكَّةُ
وَطَيْبَةُ (" مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ ") أَيْ:
مَمْنُوعَتَانِ عَلَيَّ دُخُولُهُمَا (" كِلْتَاهُمَا ") :
تَأْكِيدٌ لَهُمَا، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ الْمَنْعِ
بِقَوْلِهِ (" كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدًا
") أَيْ: حَرَمًا وَاحِدًا (" مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي
مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا ") : بِفَتْحِ الصَّادِ
وَيُضَمُّ أَيْ مُجَرَّدًا عَنِ الْغِمْدِ. قَالَ شَارِحٌ:
هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى
الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، حَالٌ عَنِ الْمَلَكِ أَوِ
السَّيْفِ، أَيْ مُصْلَتًا أَوْ مُصْلِتًا، مِنْ
قَوْلِهِمْ: أَصْلَتَ سَيْفَهُ أَيْ جَرَّدَهُ مِنْ
غِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: (" يَصُدُّنِي عَنْهَا ") أَيْ:
يَمْنَعُنِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، اسْتِئْنَافُ
بَيَانٍ أَوْ حَالٌ وَالضَّمِيرُ لِلْمَلَكِ، أَوِ
السَّيْفِ مَجَازًا، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً،
وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي اللِّسَانِ، وَالْمَحْظُورُ فِي
الْجَنَانِ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعًا لِلضَّمِيرِ
عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ("
وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ ") : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ
قَافٍ أَيْ طَرِيقٍ أَوْ بَابٍ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ كُلِّ
وَاحِدَةٍ (" مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا ") أَيْ:
يَحْفَظُونَهَا عَنِ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ مِنْ
غَيْرِ ذَلِكَ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا تَقَدَّمَ،
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَنَ) أَيْ: وَقَدْ طَعَنَ أَيْ
ضَرَبَ (بِمِخَصَرَتِهِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ
الصَّادِ أَيْ بِعَصَاهُ (فِي الْمِنْبَرِ) أَيْ: عَلَيْهِ
فَفِي بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ،
أَوَ فِي الطَّعْنِ تَضْمَنُ الْإِيقَاعَ؟ كَقَوْلِهِ:
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي. وَفِي الْفَائِقِ:
هِيَ قَضِيبٌ يُشِيرُ بِهِ الْخَطِيبُ أَوِ الْمَلِكُ
إِذَا خَاطَبَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ: الْمِخْصَرَةُ كَالسَّوْطِ، وَكُلُّ مَا
اخْتَصَرَ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ فَأَمْسَكَهُ مِنْ عَصًا
وَنَحْوِهِا، فَهُوَ مِخْصَرَةٌ. وَقَالَ شَارِحٌ:
الْمِخْصَرَةُ مَا يُمْسِكُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ مِنْ
قَضِيبٍ أَوْ عَصًا وَنَحْوِهِمَا، فَيَضَعُ تَحْتَ
خَاصِرَتِهِ وَيَتَّكِئُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هِيَ
كَالسَّوْطِ، (" هَذِهِ طَيْبَةُ ") الْجُمْلَةُ مَقُولٌ
لَقَالَ، وَمَا بَيْنَهُمَا حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ
الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ (" هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ
طَيْبَهُ ") : كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ،
(يَعْنِي الْمَدِينَةَ) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: هَذِهِ
- الْمَوْضُوعَةُ لِلْإِشَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ -
الْمَدِينَةَ الْمَحْرُوسَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا وَافَقَ هَذَا الْقَوْلُ مَا
كَانَ حَدَّثَهُمْ بِهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَسُرَّ بِهِ
(فَقَالَ: " أَلَا ") أَيْ: تَنَبَّهُوا (" هَلْ كُنْتُ
حَدَّثْتُكُمْ ") ؟ أَيْ: بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَمُطَابِقٍ لِهَذَا الْخَبَرِ، (فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ
أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ
(" فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ") : قِيلَ:
لَمَّا حَدَّثَهُمْ بِقَوْلِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، لَمْ
يَرَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَوْطِنَهُ وَمَجْلِسَهُ كَلَّ
(8/3475)
التَّبْيِينِ، لِمَا رَأَى فِي
الِالْتِبَاسِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَرَدَّ الْأَمْرَ فِيهِ
إِلَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي بَحْرِ الشَّامِ
أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ
يَوْمَئِذٍ تُسَافِرُ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِبَحْرِ الشَّامِ مَا يَلِي
الْجَانِبَ الشَّامِيَّ، وَبِبَحْرِ الْيَمَنِ مَا يَلِي
الْجَانِبَ الْيَمَانِيَّ، وَالْبَحْرُ وَاحِدٌ، وَهُوَ
الْمُمْتَدُّ عَلَى أَحَدِ جَوَانِبِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ،
ثُمَّ أَضْرَبَ عَنِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ حُصُولِ
الْيَقِينِ فِي أَحَدِهِمَا فَقَالَ: (" لَا بَلْ مِنْ
قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ") أَيْ: هُوَ، وَمَا:
زَائِدَةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، بِمَعْنَى الَّذِي، أَيِ
الْجَانِبُ الَّذِي هُوَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي -
رَحِمَهُ اللَّهُ: لَفْظَةُ " مَا " هُنَا زَائِدَةٌ
لِلْكَلَامِ وَلَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ، وَالْمُرَادُ
إِثْبَاتُ أَنَّهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ. قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ خَبَرًا أَيِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، أَوِ الَّذِي
هُوَ يَخْرُجُ مِنْهُ. (وَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ
أَشَارَ (بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ) ، قَالَ
الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَاكًّا فِي مَوْضِعِهِ
وَكَانَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ بَحْرَ
الشَّامِ وَبَحْرَ الْيَمَنِ تَيَقَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ
الْوَحْيِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ
الْمَشْرِقِ، فَنَفَى الْأَوَّلَيْنِ وَأَضْرَبَ
عَنْهُمَا، وَحَقَّقَ الثَّالِثَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(8/3476)
5483 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُنِي
اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ
كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ
لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ قَدْ
رَجَّلَهَا، فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى
عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ:
مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ "
قَالَ: " ثُمَّ إِذَا أَنَا بَرْجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ
أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ
طَافِيَةٌ، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ
بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ
رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟
فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ فِي الدَّجَّالِ: "
«رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ
عَيْنِ الْيُمْنَى، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ
قَطَنٍ» .
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
فِي (بَابِ الْمَلَاحِمِ) ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ
عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فِي (بَابِ قِصَّةِ ابْنِ
صَيَّادٍ) . إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5483 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: " رَأَيْتُنِي ") : مِنَ الرُّؤْيَا كَذَا ذَكَرَهُ
شَارِحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ
الْمُكَاشَفَةِ مَعَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ
كَمُكَاشَفَاتِهِمْ (" اللَّيْلَةَ ") أَيِ: الْبَارِحَةَ
إِنْ وَقَعَ الْقَوْلُ فِي النَّهَارِ (" عِنْدَ
الْكَعْبَةِ ") : ظَرْفٌ لِلرُّؤْيَةِ أَوْ حَالٌ مِنَ
الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى رَأَيْتُ نَفْسِي عِنْدَ
الْكَعْبَةِ (" فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ ") : بِالْمَدِّ
أَيْ: أَسْمَرَ (" كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ") أَيْ:
فِي الْأَوْصَافِ (" مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ ") : بِضَمِّ
هَمْزٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ، جَمْعُ آدَمَ كَحُمْرٍ
جَمْعِ أَحْمَرَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، فَمَا وَقَعَ
فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الضَّمِّ، فَهُوَ مِنْ سَهْوِ
الْقَلَمِ (" لَهُ لِمَّةٌ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ
وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ مِنَ
الشَّعَرِ (" كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ
") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ لِمَّةٍ (" قَدْ رَجَّلَهَا
") : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: سَرَّحَهَا وَمَشَّطَهَا
(" فَهِيَ ") أَيِ: اللِّمَّةُ (" تَقْطُرُ مَاءً ") :
يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَاءِ الَّذِي سَرَّحَ بِهِ
إِذْ لَا يُسَرَّحُ الشَّعَرُ وَهُوَ يَابِسٌ، وَأَنْ
يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَزِيدِ النَّظَافَةِ
وَالنَّضَارَةِ، (" مُتَّكِئًا ") : صِفَةٌ أُخْرَى لِـ
رَجُلًا، أَوْ حَالٌ مِنْهُ لِوَصْفِهِ بِآدَمَ أَيْ
مُعْتَمِدًا (" عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ ") : جَمْعُ
عَاتِقٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنَ الْكَتِفِ،
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا بَيْنَ
الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ، ثُمَّ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
[التحريم: 4] ، وَحَدِيثُ أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، (" يَطُوفُ
بِالْبَيْتِ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ ("
فَسَأَلْتُ ") أَيِ: الطَّائِفِينَ أَوِ الْمَلَائِكَةَ
الْحَافِّينَ (" مَنْ هَذَا ") ؟ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى
أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ
الْأَشْيَاءِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِ الْإِخْفَاءِ، ("
فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ") ، قَالَ:
أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - (" ثُمَّ إِذَا أَنَا بَرَجُلٍ جَعْدٍ ") :
بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ وَهُوَ مِنَ الشَّعَرِ
خِلَافُ السَّبْطِ أَوِ الْقَصِيرُ مِنْهُ كَذَا فِي
الْقَامُوسِ (" قَطَطٍ ") : بِفَتْحِ الطَّاءِ الْأُولَى
وَيُكْسَرُ فِي الْقَامُوسِ: الْقَطَطُ الْقَصِيرُ
الْجَعْدُ مِنَ الرَّأْسِ كَالْقَطَطِ مُحَرَّكَةً ("
أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى ") : بِالْجَرِّ فِي
أَعْوَرِ مُضَافًا (" كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ
") : بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَفِي نُسْخَةٍ
بِالْهَمْزِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
رُوِيَ بِالْهَمْزِ بِمَعْنَى ذَاهِبٌ ضَوْءُهَا
وَبِدُونِهِ، وَصَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ بِمَعْنَى:
نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ كَنُتُوءِ حَبَّةِ الْعِنَبِ. قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا عَيْنَيْهِ
مَعِيبَةٌ عَوْرَاءُ، فَالْيُمْنَى مَطْمُوسَةٌ وَهِيَ
الطَّافِئَةُ بِالْهَمْزِ،
(8/3476)
وَالْيُسْرَى نَاتِئَةٌ جَاحِظَةٌ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ، وَهِيَ الطَّافِيَةُ بِلَا هَمْزٍ،
(" كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ ") ، قَالَ الْجَزَرِيُّ:
ضَبَطْنَاهُ بِالتَّكَلُّمِ وَالْخِطَابِ وَهُوَ أَوْضَحُ.
قُلْتُ: أَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى التَّكَلُّمِ، وَهُوَ
الْأَظْهَرُ فِي مَقَامِ التَّشْبِيهِ مِنَ الْخِطَابِ
الْعَامِّ ثُمَّ الْكَافُ مَزِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي
التَّشْبِيهِ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَشْبَهُ مَنْ
أَبْصَرْتُهُ مِنَ النَّاسِ (" بِابْنِ قَطَنٍ ") :
بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْجَارُّ
مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ:
أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، وَلَعَلَّ
وَجْهَ الشَّبَهِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْوُجُوهِ
الْآتِيَةِ. (" وَاضِعًا ") : أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ
عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ (" يَدَيْهِ ") : حَالٌ مِنَ
الدَّجَّالِ (" عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ ") :
الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَنْ يُعَاوِنُهُ
عَلَى بَاطِلِهِ مِنْ أُمَرَائِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ
بِالرَّجُلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَنْ يُسَاعِدَانِ
الْمَسِيحَ عَلَى حَقِّهِ، وَلَعَلَّهُمَا الْخَضِرُ
وَالْمَهْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ، (" يَطُوفُ بِالْبَيْتِ)
: فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
هَذَا الْجَانِبِ، وَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ غَرَضٌ إِلَّا
مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَابَةً
لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ ; وَلِذَا
وُجِدَ الْكُفَّارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَزَمَنِ
الْبَعْثَةِ مَا كَانُوا يَتْرُكُونَ الطَّوَافَ، وَالْآنَ
أَيْضًا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ
يَتَشَرَّفُوا بِرُؤْيَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ
حَوْلَهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
طَوَافُ الدَّجَّالِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، مَعَ أَنَّهُ
كَافِرٌ، مُئَوَّلٌ بِأَنَّ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
مُكَاشَفَاتِهِ، كُوشِفَ بِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صُورَتِهِ الْحَسَنَةِ
الَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا يَطُوفُ حَوْلَ الدِّينِ ;
لِإِقَامَةِ أَوْدِهِ وَإِصْلَاحِ فَسَادِهِ، وَأَنَّ
الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي
سَتَظْهَرُ يَدُولُ حَوْلَ الدِّينِ يُبْقِي الْعِوَجَ
وَالْفَسَادَ، (" فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا
الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ ") .
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ
تَسْمِيَتِهِ بِالْمَسِيحِ فِي أَحَبِّ الْوُجُوهِ
إِلَيْنَا أَنَّ الْخَيْرَ مُسِحَ عَنْهُ ; فَهُوَ مَسِيحُ
الضَّلَالَةِ، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ مُسِحَ عَنْ مَسِيحِ
الْهِدَايَةِ، وَقِيلَ سُمِّيَ عِيسَى بِهِ لِأَنَّهُ
كَانَ لَا يَمْسَحُ بِيَدِهِ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ،
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَمْسَحَ الرِّجْلِ لَا أَخْمَصَ
لَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ
مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ
يَمْسَحُ الْأَرْضَ أَيْ يَقْطَعُهَا، وَقِيلَ: الْمَسِيحُ
الصِّدِّيقُ، وَسُمِّيَ الدَّجَّالُ بِهِ لِأَنَّ إِحْدَى
عَيْنَيْهِ مَمْسُوحَةٌ لَا يُبْصِرُ بِهَا، وَالْأَعْوَرُ
يُسَمَّى مَسِيحًا انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ يَسْمَحُ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ جَمِيعَ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ إِلَّا
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى
فَاعِلٍ، وَوُصِفَ بِالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لِأَنَّ
الْمَسِيحَ وَصْفٌ غَلَبَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوُصِفَ بِالدَّجَّالِ
لِيَتَمَيَّزَ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ. (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) . قِيلَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي بَابِ
الْإِسْرَاءِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الدَّجَّالِ)
أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (" رَجُلٌ ") أَيْ هُوَ
رَجُلٌ (" أَحْمَرُ ") أَيْ: لَوْنًا (" جَسِيمٌ ") أَيْ:
بَدَنًا (" جَعْدُ الرَّأْسِ ") أَيْ: شَعَرًا (" أَعْوَرُ
عَيْنِ الْيُمْنَى، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ
قَطَنٍ ") .
(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ".
فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ) .
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
أَيْ: فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (ثُمَّ
ذَكَرَ الدَّجَّالَ إِلَخْ فِي بَابِ قِصَّةِ ابْنِ
صَيَّادٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ
بِقَوْلِهِ: سَنَذْكُرُ، وَكَانَ الْمُؤَلِّفُ رَأَى أَنَّ
ذِكْرَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(8/3477)
الْفَصْلُ الثَّانِي
5484 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: قَالَتْ
قَالَ: " «فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعَرَهَا
قَالَ: مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، اذْهَبْ
إِلَى ذَلِكَ الْقَصْرِ، فَأَتَيْتُهُ، فَإِذَا رَجُلٌ
يَجُرُّ شَعَرَهُ، مُسَلْسَلٌ فِي الْأَغْلَالِ، يَنْزُو
فِيمَا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقُلْتُ: مَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الدَّجَّالُ» ". رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5484 - (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ
الدَّارِيِّ) أَيْ: عَلَى مَا سَبَقَ بِطُولِهِ (قَالَ)
أَيْ: تَمِيمٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَتْ، أَيْ نَاقِلَةً
عَنْهُ (" فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ ") ، قَالَ فِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ: فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ،
وَهَهُنَا: فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ
أَنَّ لِلدَّجَّالِ جَسَّاسَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا دَابَّةٌ،
وَالثَّانِيَةُ امْرَأَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ
الْجَسَّاسَةَ كَانَتْ شَيْطَانَةً ; تَمَثَّلَتْ تَارَةً
فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَأُخْرَى فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ،
وَلِلشَّيْطَانِ التَّشَكُّلُ فِي أَيِّ تَشَكُّلٍ
أَرَادَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُسَمَّى الْمَرْأَةُ دَابَّةً
مَجَازًا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] ،
قُلْتُ الْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِشْهَادِ قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ; إِذِ الدَّابَّةُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْمَخْلُوقِينَ الْمَرْزُوقِينَ
بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّوَابِّ بِهَا الْحَيَوَانَاتُ
; فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ
هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}
[الفرقان: 44] ، (" تَجُرُّ شَعَرَهَا ") : صِفَةٌ
لِامْرَأَةٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ شَعَرِهَا،
وَالشَّعَرُ يُحَرَّكُ وَيُسَكَّنُ، (" قَالَ ") أَيْ:
تَمِيمٌ (" مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ،
اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْرِ ") أَيِ: الْمُعَبَّرِ
عَنْهُ فِيمَا سَبَقَ بِالدَّيْرِ، (" فَأْتَيْتُهُ،
فَإِذَا رَجُلٌ يَجُرُّ شَعَرَهُ، مُسَلْسَلٌ ") : صِفَةٌ
ثَانِيَةٌ أَيْ: مُقَيَّدٌ بِالسَّلَاسِلِ (" فِي
الْأَغْلَالِ ") أَيْ: مَعَهَا، (" يَنْزُو ") : بِسُكُونِ
النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ أَيْ يَثِبُ وُثُوبًا (" فِيمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") ، وَأَبْعَدُ مَنْ قَالَ
إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ " مُسَلْسَلٌ "، (فَقُلْتُ: مَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الدَّجَّالُ ". رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ) .
(8/3478)
5485 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنِّي
حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا
تَعْقِلُوا، إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ قَصِيرٌ
أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَتْ
بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5485 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "
إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ
أَنْ لَا تَعْقِلُوا ") أَيْ: لَا تَفْهَمُوا مَا
حَدَّثْتُكُمْ فِي شَأْنِ الدَّجَّالِ، أَوْ تَنْسُوهُ
لِكَثْرَةِ مَا قُلْتُ فِي حَقِّهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَتَّى غَايَةُ
حَدَّثْتُكُمْ، أَيْ: حَدَّثْتُكُمْ أَحَادِيثَ شَتَّى،
حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَتَلَبَّسَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرُ
فَلَا تَعْقِلُوهُ فَاعْقِلُوهُ، وَقَوْلُهُ: (" إِنَّ
الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ") أَيْ: بِكَسْرِ إِنَّ
اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ تَأْكِيدًا لِمَا عَسَى أَنْ
يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: خَشِيتُ
بِمَعْنَى رَجَوْتُ، وَكَلِمَةُ " لَا " زَائِدَةٌ، ثُمَّ
قَوْلُهُ: (" قَصِيرٌ ") ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا
سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ أَعْظَمَ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ
الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَصِيرًا
بَطِينًا عَظِيمَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ ;
لِكَوْنِهِ كَثِيرَ الْفِتْنَةِ، أَوِ الْعَظَمَةُ
مَصْرُوفَةٌ إِلَى الْهَيْبَةِ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يُغَيِّرُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ ("
أَفْحَجُ ") : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى الْجِيمِ أَيِ:
الَّذِي يَتَدَانَى صُدُورُ قَدَمَيْهِ، وَيَتَبَاعَدُ
عَقِبَاهُ، وَيَنْفَحِجُ سَاقَاهُ أَيْ: يَنْفَرِجُ،
وَهُوَ خِلَافُ الْأَرْوَاحِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ.
وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَحَجُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ
الْفَخِذَيْنِ. (" جَعْدٌ ") أَيْ شَعَرُهُ، (" أَعْوَرُ
") أَيْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، (" مَطْمُوسُ الْعَيْنِ ")
أَيْ مَمْسُوحُهَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى ("
لَيْسَتْ ") أَيْ: عَيْنُهُ (" بِنَائِتَةٍ ") أَيْ:
مُرْتَفِعَةٍ فَاعِلَةٍ مِنَ النُّتُوءِ (" وَلَا
حَجْرَاءَ ") : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ حَاءٍ أَيْ وَلَا
غَائِرَةٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ مُؤَكِّدَةٌ
لِإِثْبَاتِ الْعَيْنِ الْمَمْسُوحَةِ، وَهِيَ لَا
تُنَافِي أَنَّ الْأُخْرَى
(8/3478)
نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ كَنُتُوءِ حَبَّةِ
الْعِنَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. (" فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ ") : بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ أَيْ: إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ أَمْرُ
الدَّجَّالِ بِنِسْيَانِ مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنَ
الْحَالِ، أَوْ إِنْ لُبِّسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ بِمَا
يَدَّعِيهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْأُمُورِ
الْخَارِقَةِ عَنِ الْعَادَةِ، (" فَاعْلَمُوا أَنَّ
رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") أَيْ: أَقَلَّ مَا يَجِبُ
عَلَيْكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ
التَّنْزِيهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالْعُيُوبِ، لَا سِيَّمَا
النَّقَائِصِ الظَّاهِرَةِ الْمَرْئِيَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
(8/3479)
5486 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُولُ: " «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ
إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ، وَإِنِّي
أُنْذِرُكُمُوهُ ". فَوَصَفَهُ لَنَا قَالَ: " لَعَلَّهُ
سَيُدْرِكُهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي أَوْ سَمِعَ كَلَامِي ".
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَكَيْفَ قُلُوبُنَا
يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " مِثْلُهَا، يَعْنِي الْيَوْمَ أَوْ
خَيْرٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5486 - عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّهُ ") أَيِ:
الشَّأْنَ (" لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ إِلَّا
قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ ") أَيْ: خَوَّفَهُمْ
بِهِ، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَامِ
بِذِكْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْذَرَ قَوْمَهُ، فَبَعْدَ
نُوحٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ، (" وَإِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ
") أَيِ: الدَّجَّالَ بِبَيَانِ وَصْفِهِ خَوْفًا
عَلَيْكُمْ مِنْ تَلْبِيسِهِ وَمَكْرِهِ (فَوَصَفَهُ
لَنَا) أَيْ: بِبَعْضِ أَوْصَافِهِ (قَالَ) أَيِ:
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- (" لَعَلَّهُ سَيُدْرِكُهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي ") أَيْ:
عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِهِ سَرِيعًا، وَقِيلَ: دَلَّ عَلَى
بَقَاءِ الْخَضِرِ (" أَوْ سَمِعَ كَلَامِي ") . لَيْسَ
أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ ;
لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّؤْيَةِ السَّمَاعُ،
وَهُوَ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْ حَدِيثِي بِأَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ
وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فَكَيْفَ قُلُوبُنَا يَوْمَئِذٍ؟) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
أَنَّ سِحْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَإِنْ كَانَ يُخَيِّلُ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ
الْيَقِينِ، (قَالَ: " مِثْلُهَا ") أَيْ: مِثْلُ
قُلُوبِكُمُ الْآنَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي:
(يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِالْإِطْلَاقِ تَقْيِيدَ
الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ " أَوْ خَيْرٌ ") :
شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ التَّنْوِيعُ بِحَسَبِ
الْأَشْخَاصِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، قِيلَ:
وَحَسَّنَهُ، (وَأَبُو دَاوُدَ) .
(8/3479)
5487 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ
أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ
يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ
الْمُطْرَقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5487 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) : تَصْغِيرُ حَرْثٍ
بِمَعْنَى زَرْعٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ
مَخْزُومِيٌّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ
بِالْبَرَكَةِ. (عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ; لِأَنَّ
الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ الصَّغِيرِ
عَنِ الْكَبِيرِ (قَالَ) أَيِ: الصِّدِّيقُ (حَدَّثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ
لِحَدَّثَنَا، أَوْ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّاطِبِيِّ
وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ الْإِبْدَالَ يَجْرِي فِي
الْأَفْعَالِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، أَوِ
التَّقْدِيرُ: حَدَّثَنَا أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا
قَالَ: (" الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ
يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، فِي
الْقَامُوسِ: إِنَّهُ بِلَادٌ يَعْنِي مَعْرُوفَةً بَيْنَ
بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبُلْدَانِ الْعِرَاقِ،
مُعْظَمُهَا الْآنَ بَلْدَةُ هَرَاةُ الْمُسَمَّاةُ
بِخُرَاسَانَ كَتَسْمِيَةِ دِمَشْقَ بِالشَّامِ، ("
يَتْبَعُهُ ") : بِسُكُونِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ،
وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ
أَيْ: يَلْحَقُهُ وَيُطِيعُهُ (" أَقْوَامٌ ") أَيْ:
جَمَاعَاتٌ أَيْ عَظِيمَةٌ وَغَرِيبَةٌ مِنْ جِنْسِ
الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ الْجَانَّ، ("
كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ
وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ الْمِجَنِّ بِكَسْرِ
الْمِيمِ، وَهُوَ التُّرْسُ، وَقَوْلُهُ: (" الْمُطْرَقَةُ
") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ عَلَى مَا فِي
أَصْلِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ. وَقَالَ
السُّيُوطِيُّ: رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ
(8/3479)
وَتَخْفِيفِهَا فَهِيَ مَفْعُولَةٌ مِنْ
أَطْرَقَهُ أَوْ طَرَقَهُ أَيْ: جَعَلَ الطِّرَاقَ عَلَى
وَجْهِ التُّرْسِ، وَالطِّرَاقُ بِكَسْرِ الطَّاءِ
الْجِلْدُ الَّذِي يُقْطَعُ عَلَى مِقْدَارِ التُّرْسِ،
فَيُلْصَقُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ
وُجُوهَهُمْ عَرِيضَةٌ، وَوَجَنَاتِهِمْ مُرْتَفِعَةٌ
كَالْمِجَنَّةِ، وَهَذَا الْوَصْفُ إِنَّمَا يُوجَدُ فِي
طَائِفَةِ التُّرْكِ وَالْأُزْبَكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ،
وَلَعَلَّهُمْ يَأْتُونَ إِلَى الدَّجَّالِ فِي
خُرَاسَانَ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
يَتَّبِعُهُ، أَوْ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ مَوْجُودِينَ فِي
خُرَاسَانَ، حَمَاهُ اللَّهُ مِنْ آفَاتِ الزَّمَانِ.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ،
وَالْحَاكِمُ.
(8/3480)
5488 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَمِعَ
بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ،
فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5488 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : أَسْلَمَ
قَدِيمًا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ (قَالَ:
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ ") أَيْ: بِخُرُوجِهِ
وَظُهُورِهِ (" فَلْيَنْأَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَمْرُ غَائِبٍ
مِنْ نَأَى يَنْأَى حُذِفَ الْأَلِفُ لِلْجَزْمِ، أَيْ:
فَلْيَبْعُدْ (" مِنْهُ ") أَيْ: مِنَ الدَّجَّالِ ;
لِأَنَّ الْبُعْدَ عَنْ قُرْبِهِ سَعْدٌ، قَالَ تَعَالَى:
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ} [هود: 113] ، وَالرُّكُونُ أَدْنَى الْمَيْلِ،
(" فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ ")
أَيِ: الرَّجُلُ (" يَحْسِبُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ
وَفَتْحِهَا أَيْ: يَظُنُّ (" أَنَّهُ ") أَيِ: الرَّجُلَ
بِنَفْسِهِ (" مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ ") : بِالتَّخْفِيفِ
وَيُشَدَّدُ أَيْ: فَيُطِيعُ الدَّجَّالَ (" مِمَّا
يَبْعَثُ بِهِ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ أَيْ:
مِنْ أَجْلِ مَا يُثِيرُهُ وَيُبَاشِرُهُ (" مِنَ
الشُّبُهَاتِ ") أَيِ: الْمُشْكِلَاتِ، كَالسِّحْرِ
وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَيَصِيرُ
تَابِعُهُ كَافِرًا وَهُوَ لَا يَدْرِي. (رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ) .
(8/3480)
5489 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ
بْنِ السَّكَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
«يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ،
وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ
السَّعَفَةِ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ (فِي شَرْحِ
السُّنَّةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5489 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ)
: بِفَتْحَتَيْنِ أَنْصَارِيَّةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْعَقْلِ
وَالدِّينِ، (قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ") ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ
لُبْثَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَلَعَلَّ
وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الْكَمِّيَّةِ
وَالْكَيْفِيَّةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: ("
السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ") ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
سُرْعَةِ الِانْقِضَاءِ، كَمَا أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ
قَوْلِهِ: يَوْمٌ كَسَنَةٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
الشِّدَّةَ فِي غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ، عَلَى
أَنَّهُ يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ
وَالرِّجَالِ، (" وَالشَّهْرُ ") أَيْ: مِنَ السَّنَةِ ("
كَالْجُمُعَةِ) أَيْ: كَالْأُسْبُوعِ، (" وَالْجُمُعَةُ ")
: يَعْنِي الْأُسْبُوعَ مِنَ الشَّهْرِ (" كَالْيَوْمِ ")
أَيْ: كَالنَّهَارِ، (" وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ
السَّعَفَةِ فِي النَّارِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدَةُ
السَّعَفِ، وَهُوَ غُصْنُ النَّخْلِ، أَيْ: كَسُرْعَةِ
الْتِهَابِ النَّارِ بِوَرَقِ النَّخْلِ، وَالِاضْطِرَامُ
الِالْتِهَابُ وَالِاشْتِعَالُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ
الْيَوْمَ كَالسَّاعَةِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ
(فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.
(8/3480)
5490 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَتْبَعُ
الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ
السِّيجَانُ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5490 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِي ") أَيْ:
أُمَّةِ الْإِجَابَةِ أَوِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ
لِمَا سَبَقَ أَنَّهُمْ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ ("
سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ ") بِكَسْرِ
السِّينِ جَمْعُ سَاجٍ كَتِيجَانَ وَتَاجٍ، وَهُوَ
الطَّيْلَسَانُ الْأَخْضَرُ، وَقِيلَ: الْمَنْقُوشُ
يُنْسَجُ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِذَا
كَانَ أَصْحَابُ الثَّرْوَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا فَمَا
ظَنُّكَ بِالْفُقَرَاءِ؟ قُلْتُ: الْفُقَرَاءُ
لِكَوْنِهِمْ مُفْلِسِينَ هُمْ فِي أَمَانِ اللَّهِ،
إِلَّا إِذَا كَانُوا طَامِعِينَ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ،
فَهُمْ فِي الْمَعْنَى مِنْ أَصْحَابِ الثَّرْوَةِ
وَالتَّابِعِينَ لِتَحْصِيلِ الْكَثْرَةِ، سَوَاءٌ يَكُونُ
مَتْبُوعُهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، كَمَا
شُوهِدَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَيَّامِ
يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ وَابْنِ زِيَادٍ، وَهَكَذَا يَزِيدُ
الْفَسَادُ كُلَّ سَنَةٍ، بَلْ كُلَّ يَوْمٍ فِي
الْبِلَادِ، فَيَتْبَعُ الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادَ،
وَالْمَشَايِخُ الزُّهَّادَ، عَلَى مَا يُشَاهَدُ بِشَرِّ
الْعِبَادِ لِلْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَنَاصِبِ
الْكَاسِدَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ
وَالْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ. (رَوَاهُ فِي
شَرْحِ السُّنَّةِ) : قِيلَ: فِي سَنَدِهِ أَبُو هَارُونَ
وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
(8/3481)
5491 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي،
فَذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
ثَلَاثَ سِنِينَ: سَنَةٌ تُمْسِكُ السَّمَاءُ فِيهَا
ثُلُثَ قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا،
وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا،
وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ
السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا
كُلَّهُ، فَلَا يَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ وَلَا ذَاتُ ضِرْسٍ
مِنَ الْبَهَائِمِ إِلَّا هَلَكَ، وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ
فِتْنَتِهِ أَنَّهُ يَأْتِي الْأَعْرَابِيَّ فَيَقُولُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ! أَلَسْتَ
تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيُمَثِّلُ
لَهُ الشَّيْطَانَ نَحْوَ إِبِلِهِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ
ضُرُوعًا، وَأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً ". قَالَ: وَيَأْتِي
الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ، وَمَاتَ أَبُوهُ،
فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ
وَأَخَاكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ:
بَلَى، فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ نَحْوَ أَبِيهِ
وَنَحْوَ أَخِيهِ ". قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ
وَغَمٍّ مِمَّا حَدَّثَهُمْ، قَالَتْ: فَأَخَذَ
بِلَحْمَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ: " مَهْيَمْ أَسْمَاءُ "
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ خَلَعْتَ
أَفْئِدَتَنَا بِذِكْرِ الدَّجَّالِ. قَالَ: " إِنْ
يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ، فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِلَّا
فَإِنَّ رَبِّي خَلِيفَتِي، عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ "،
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ إِنَّا
لَنَعْجِنُ عَجِينَنَا فَمَا نَخْبِزُهُ حَتَّى نَجُوعَ
فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "
يُجْزِئُهُمْ مَا يُجْزِئُ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنَ
التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهَا. وَرَوَاهُ مُحْيِى
السُّنَّةِ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5491 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ
السَّكَنِ (قُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي [فَذَكَرَ
الدَّجَّالَ] فَقَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ") أَيْ:
قُدَّامَ الدَّجَّالِ وَقُبَيْلَ زَمَانِ خُرُوجِهِ ("
ثَلَاثَ سِنِينَ ") أَيْ: مُخْتَلِفَةً فِي ذَهَابِ
الْبَرَكَةِ (" سَنَةٌ ") : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ
بِالنَّصْبِ (" تُمْسِكُ السَّمَاءُ ") أَيْ: تَمْنَعُ
بِإِمْسَاكِ اللَّهِ (" فِي ") أَيْ: فِي تِلْكَ السَّنَةِ
(" ثُلُثَ قَطْرِهَا ") : بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ
مَطَرِهَا الْمُعْتَادِ فِي الْبِلَادِ (" وَالْأَرْضُ ")
أَيْ: وَتُمْسِكُ الْأَرْضُ (" ثُلُثَ نَبَاتِهَا ") أَيْ:
وَلَوْ كَانَتْ تُسْقَى مِنْ غَيْرِ الْمَطَرِ، ("
وَالثَّانِيَةُ ") أَيِ: السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ
بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ نَصْبُهَا إِمَّا عَلَى
الْبَدَلِيَّةِ وَإِمَّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (" تُمْسِكُ
السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ
نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا
كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ ") يَعْنِي:
فَيَقَعُ الْقَحْطُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ
كُلِّهِ، وَيَكُونُ الْخَزَائِنُ وَالْكُنُوزُ تَتْبَعُهُ،
وَأَنْوَاعُ النِّعَمِ مِنَ الْخُبْزِ وَالثِّمَارِ
وَالْأَنْهَارِ مَعَهُ، (" فَلَا يَبْقَى ") :
بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (" ذَاتُ ظِلْفٍ ") : بِكَسْرِ
الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ
وَالظَّبْيُ، (" وَلَا ذَاتُ ضِرْسٍ) : وَهِيَ السِّبَاعُ
مِنَ الْبَهَائِمِ (" إِلَّا هَلَكَ ") أَيْ: لَا يَبْقَى
فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْهَلَاكِ،
(" وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ فِتْنَتِهِ ") أَيْ: أَعْظَمِ
بَلِيَّتِهِ (" أَنَّهُ يَأْتِي ") أَيِ: الدَّجَّالُ ("
الْأَعْرَابِيَّ ") أَيِ: الْبَدَوِيَّ، وَمَنْ فِي
مَعْنَاهُ مِنْ جِنْسِ الْغَبِيِّ، (" فَيَقُولُ ") أَيِ:
الدَّجَّالُ (" أَرَأَيْتَ ") أَيْ: أَخْبِرْنِي (" إِنْ
أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ ") أَيِ: الَّتِي مَاتَتْ مِنَ
الْقَحْطِ (" أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟
فَيَقُولُ: بَلَى فَيُمَثِّلُ ") : بِكَسْرِ
الْمُثَلَّثَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: يُصَوِّرُ
لَهُ (" نَحْوَ إِبِلِهِ ") أَيْ: مِثَالَ إِبِلِهِ مِنَ
الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُسْخَةُ:
فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ نَحْوَ إِبِلِهِ ("
كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ") أَيْ: كَأَحْسَنِ أَكْوَانِهِ
(" ضُرُوعًا ") أَيْ: مِنَ اللَّبَنِ، وَنَصْبُهُ عَلَى
التَّمْيِيزِ، (" وَأَعْظَمِهِ ") أَيْ: وَأَعْظَمِ مَا
يَكُونُ مِنْ جِهَةِ السِّمَنِ (" أَسْنِمَةً ") :
بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ السَّنَامِ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا أَوْ
إِعَادَةً لِطُولِ الْفَصْلِ تَأْيِيدًا (" وَيَأْتِي
الرَّجُلَ ") : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَأْتِي
الْأَعْرَابِيَّ ; فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ أَشَدِّ
الْفِتْنَةِ (" قَدْ مَاتَ أَخُوهُ ") أَيْ: مَثَلًا
(8/3481)
(" وَمَاتَ أَبُوهُ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ
الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " وَلِذَا أَعَادَ الْفِعْلَ ("
فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ ") أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَالْخِطَابُ
لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ لِكُلٍّ مِمَّنْ مَاتَ أَبُوهُ
وَأُمُّهُ (" إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ ") :
جَمِيعًا أَوْ أَخَاكَ (" أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيُمَثِّلُ لَهُ
الشَّيَاطِينَ ") : مَفْعُولٌ أَوَّلٌ (" نَحْوَ أَبِيهِ
وَنَحْوَ أَخِيهِ ") : مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ
يُمَثَّلُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الشَّيَاطِينِ،
وَقِيلَ: نَصْبُ " الشَّيَاطِينَ " بِنَزْعِ الْخَافِضِ،
أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى هَذَا يُنْصَبُ نَحْوُ
وَيُرْفَعُ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ.
(قَالَتْ) أَيْ: أَسْمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهَا - (ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ
وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ وَغَمٍّ) أَيْ: شَدِيدٍ زِيدَ
لِلتَّأْكِيدِ (مِمَّا حَدَّثَهُمْ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ
تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُمْ بِهِ (قَالَتْ: فَأَخَذَ
بِلَحْمَتَيِ الْبَابِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ
الْحَاءِ، كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ أَيْ:
نَاحِيَتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ
الْمَصَابِيحِ. وَقَالَ شَارِحٌ لَهُ هُوَ بِلَجْفَتَيِ
الْبَابِ بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ. قَالَ التُّوِرِبِشْتِيُّ
- رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّوَابُ فَأَخَذَ بِلَجْفَتَيِ
الْبَابِ، أُرِيدَ بِهِمَا الْعِضَادَتَانِ، وَقَدْ
فُسِّرَ بِجَانِبَيْهِ وَمِنْهُ أَلْجَافُ الْبِئْرِ أَيْ
جَوَانِبُهَا. وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: بِلَحْمَتَيِ
الْبَابِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْ
كُتُبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ
اللَّجْفَ فِي جَانِبِ الْبِئْرِ، وَلَجِيفَتَا الْبَابِ
جَانِبَاهُ، لَكِنَّ بَعْدَ اتِّفَاقِ النُّسَخِ لَا بُدَّ
مِنَ التَّوْجِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: اللَّحْمَةُ
الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، فَيُجَرَّدُ وَيُقَالُ:
الْمُرَادُ بِهِمَا قِطْعَتَا الْبَابِ ; فَإِنَّهُمَا
تَلْتَحِمَانِ وَتَنْفَصِلَانِ وَتَلْتَئِمَانِ، وَهُوَ
أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَةِ رُوَاةِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" مَهْيَمْ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ
ثُمَّ فَتْحٍ فَسُكُونٍ، فِي الْقَامُوسِ: مَهْيَمْ
كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ، أَيْ: مَا حَالُكَ وَمَا شَأْنُكَ
أَوْ مَا وَرَاءَكَ أَوْ أَحَدَثَ لَكَ شَيْءٌ؟ وَقَالَ
الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَهْيَمْ كَلِمَةٌ
يَمَانِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ مَا الْحَالُ وَالْخَبَرُ،
وَقَوْلُهُ: (" أَسْمَاءُ ") : مُنَادًى حُذِفَ مِنْهُ
حَرْفُ النِّدَاءِ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ
خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا) أَيْ: أَقْلَقْتَ أَوْ قَلَعْتَ
قُلُوبَنَا (بِذِكْرِ الدَّجَّالِ) أَيْ: وَمَا مَعَهُ
مِنَ الْفِتْنَةِ وَشِدَّةِ الْحَالِ، (قَالَ: " إِنْ
يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ ") أَيْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا ("
فَأَنَا حَجِيجُهُ ") أَيْ: دَافِعُهُ عَنْكُمْ
بِالْحُجَّةِ أَوِ الْهِمَّةِ (" وَإِلَّا فَإِنَّ رَبِّي
خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ ") ، وَهُوَ لَا يُنَافِي
مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ،
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ
أَنَّهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ
الْيَقِينِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ النُّبُوَّةِ
مَوْجُودًا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ
مُؤَيَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا
فَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ،
وَحَافِظُ أَوْلِيَائِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، (فَقُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَنَعْجِنُ) : بِكَسْرِ
الْجِيمِ (عَجِينًا فَمَا نَخْبِزُهُ) : بِكَسْرِ
الْمُوَحَّدَةِ وَيُضَمُّ أَيْ: فَمَا يَتِمُّ خَبْزُهُ
(حَتَّى نَجُوعَ) أَيْ: مِنْ قِلَّةِ صَبْرِنَا عَنِ
الْأَكْلِ (فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ) : الْبَاءُ
زَائِدَةٌ أَيْ: كَيْفَ حَالُهُمْ (يَوْمَئِذٍ) ؟ أَيْ:
وَقْتَ الْقَحْطِ وَانْحِصَارِ وُجُودِ الْخُبْزِ عِنْدَ
الدَّجَّالِ وَأَتْبَاعِهِ، (قَالَ: " يُجْزِئُهُمْ مَا
يُجْزِئُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَهْمُوزًا أَيْ:
يَكْفِيهِمْ مَا يَكْفِي (" أَهْلَ السَّمَاءِ ") أَيِ:
الْمَلَائِكَةَ (" مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ ") .
قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنِ ابْتُلِيَ بِزَمَانِهِ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ،
(8/3482)
كَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى،
وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ
قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا نَعْجِنُ الْعَجِينَ
لِنَخْبِزَهُ، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى خَبْزِهِ لِمَا فِينَا
مِنْ خَوْفِ الدَّجَّالِ حِينَ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا
بِذِكْرِهِ، فَكَيْفَ حَالُ مَنِ ابْتُلِيَ بِزَمَانِهِ؟
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُجْزِئُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى
يُسَلِّيهِمْ بِبَرَكَةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ،
هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ كَلِمَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَبِحَمْدِهِ عِبَادَةُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُقْطَعُ
أَرْزَاقُهُمْ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَمَعْنَى الْإِقْطَاعِ تَسْوِيغُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِ
اللَّهِ شَيْئًا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ
اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُعَيَّنُ لِلشَّخْصِ.
(رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ
بِهِ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ،
وَقِيلَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ
عَنْهَا، وَانْفَرَدَ بِهِ هُنَا.
(8/3483)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5492 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: «مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ
بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: " مَا
يَضُرُّكَ؟ " قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ
جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5492 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا
سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ بِأَكْثَرَ مِمَّا
سَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنْهُ، (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَوْ لِعَطْفِ
الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَنْفِيَّةِ،
وَالتَّقْدِيرُ وَقَالَ: إِنَّهُ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ
الْجَمْعِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوْ لَهُ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ لِي: " مَا
يَضُرُّكَ ") ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُ مُولَعًا
بِالسُّؤَالِ عَنِ الدَّجَّالِ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا
يَضُرُّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيكَ شَرَّهُ.
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ إِخْبَارِيَّةٌ
تَقْرِيرِيَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً
لَفْظًا وَفِي الْمَعْنَى دُعَائِيَّةً، وَإِنَّمَا أَتَى
بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَوَقُّعِ وَجُودِهِ فِي
الِاسْتِقْبَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
(قُلْتُ: إِنَّهُمْ) أَيِ: النَّاسَ، أَوْ أَهْلَ
الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودَ (يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ
جَبَلَ خُبْزٍ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ
وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَزَايٍ أَيْ: مَعَهُ مِنَ
الْخُبْزِ قَدْرَ الْجَبَلِ، وَفِي نُسْخَةٍ جَبَلَ
خُبْزٍ، وَهِيَ كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَكَأَنَّهُ
تَصْحِيفٌ (وَنَهَرَ مَاءٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ
أَفْصَحُ، وَتُسَكَّنُ وَهُوَ أَشْهَرُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّ فِي زَمَانِهِ قَحَطَ الْمَاءُ أَيْضًا
ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ، وَزَوَالًا لِلْبَرَكَةِ فِي
الْبِلَادِ لِعُمُومِ الْفَسَادِ، وَهَذَا سُؤَالٌ
مُسْتَقِلٌّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ،
وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي
قَوْلِهِ: قُلْتُ: إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ
عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: سَأَلْتُهُ يَوْمًا، فَقَالَ
لِي: مَا يَضُرُّكَ أَيْ: مَا يُضِلُّكَ؟ قُلْتُ: كَيْفَ
مَا يُضِلُّنِي وَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ
جَبَلَ خُبْزٍ، (قَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ
مِنْ ذَلِكَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ هُوَ أَحْقَرُ أَنَّ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَقَّقُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ لِلِابْتِلَاءِ، فَيَثْبُتُ
الْمُؤْمِنُ وَيَزِلُّ الْكَافِرُ، أَوِ الْمُرَادُ
أَنَّهُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا قَدْ جَعَلَ فِيهِ
آيَةً ظَاهِرَةً فِي كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ، وَيَقْرَأُهَا
مَنْ لَا يَقْرَأُ. أَوْ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ
الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ هُوَ أَهْوَنُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى يَدِهِ مُضِلًّا لِلْمُؤْمِنِينَ
وَمُشَكِّكًا لِقُلُوبِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا،
وَيُلْزِمَ الْحُجَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ
أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) .
(8/3483)
5493 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ
عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ، مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ سَبْعُونَ
بَاعًا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (فِي كِتَابِ الْبَعْثِ
وَالنُّشُورِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5493 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "
«يَخْرُجُ الدَّجَّالُ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ» ") أَيْ:
شَدِيدِ الْبَيَاضِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِيهِ
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حِمَارَهُ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِهِ،
(" مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ) : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ "
حِمَارٍ " (سَبْعُونَ بَاعًا) ، وَهُوَ طُولُ ذِرَاعَيِ
الْإِنْسَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .
(8/3483)
|