معالم السنن كتاب الزكاة
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عُقيل
عن ابن شهاب الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
عَن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن
الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما كيف تقاتل الناس وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إلّه إلا الله فمن قال لا إلّه إلاّ الله عصم
مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله. قال أبو بكر
رضي الله عنه والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن
الزكاة حق المال ولله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر
بن الخطاب فوالله ما هو إلاّ أن رأيت الله قد شرح صدر أبي
بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قال أبو داود رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده
وشعيب بن أبي حمزة والزبيدي عن الزهري وعنبسة عن يونس عن
الزهري فقالوا عناقاً.
قال أبو سليمان هذا الحديث أصل كبير في الدين وفيه أنواع
من العلم وأبواب من الفقه وقد تعلق الروافض وغيرهم من أهل
البدع بمواضع شبه منه
(2/2)
ونحن نكشفها بإذن الله ونبين معانيها والله
المعين عليه والموفق له.
ومما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين
صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر
وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله وكفر من كفر من العرب
وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة
وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود
العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم وهذه
الفرقة بأسرها منكرة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مدعية
النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قتل الله
مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك
أكثرهم، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع
وتركوا الصلاة والزكاة إلى غيرهما من جماع أمرالدين وعادوا
إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله سبحانه
على بسيط الأرض إلاّ في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد
المدينة ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها
جُوَاثا ففي ذلك يقول الأعور الثرينى يفتخر بذلك:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا …والمنبران وفصل القول في
الخطب
أيام لا منبر في الناس نعرفه ... إلاّ بطيبةوالمحجوج ذي
الحجب
وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى
أن فتح الله على المسلمين اليمامة فقال بعضهم وهو رجل من
بني بكر بن كلاب يستنجد أبا بكر:
ألا أبلغ أبا بكر رسولاً ... وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جواثا محصرينا
(2/3)
كأن دماءهم في كل فج ... دماء البدن يغشي
الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا
والصنف الاخر هم الدين فرقوا بين الصلاه والزكاة فأقروا
بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب آدائها إلى الإمام
وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في
ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم
في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ
مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا
متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وفي ذلك دليل على
تصويب رأي علي رضي الله عنه في قتال أهل البغي وأنه إجماع
من الصحابة كلهم، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من
كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلاّ أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك
الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا
صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه
فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم وقال في شعر له:
فقلت لقومي هذه صدقاتكم ... مصررة…أخلافها لم تجرد
سأجعل نفسي دون ما تتقونه ... وأرهنكم يوما بما قلته يدي
وقال بعض شعرائهم ممن سلك هذه الطريقة في منع الزكاة يحرض
قومه ويأمرهم على قتال من طالبهم بها.
أطعنا رسول الله ما دام بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي
بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من
التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كراماً على العراء في ساعة
العسر
(2/4)
قلت وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة
لعمر رضي الله عنه فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره
واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله فمن قال لا إلّه إلاّ
الله فقد عصم نفسه وماله. وكان هذا من عمر رضي الله عنه
تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه
فقال له أبو بكر إن الزكاة حق المال يرد أن القضية التي قد
تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها والحكم المعلق
بشرطين لا يجب بأحدهما والاخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد
الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال
الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من رأي الصحابة ولذلك رد
المختلف فيه إلى المتفق عليه فاجتمع في هذه القضية
الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على
أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما يتضمنه الخطاب الوارد
في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته به
فلما استقر عمر رضي الله عنه صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه
وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهومعنى قوله فلما
رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر عرفت أنه الحق يشير إلى
انشراح صدره بالحجة التى أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصا
ودلالة.
وقد زعم قوم من الروافض أن عمر رضي الله عنه إنما أراد
بهذا القول تقليد أبي بكر رضي الله عنه وأنه كان يعتقد له
العصمة والبراءة من الخطأ وليس ذلك كما زعموه وإنما وجهه
ما أوضحته لك وبينته.
وزعم زاعمون منهم أن أبا بكر رضي الله عنه أول من سمى
المسلمين كفارا وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة
وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله
(2/5)
تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص
في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد
بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير
والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم
ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع
به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفا وسوء
سيرة. وزعم بعض هؤلاء أن القوم كانوا قد اتهموه ولم يأمنوه
على أموالهم إلى ما يشبه هذا الكلام الذي لا حاصل له ولا
طائل فيه.
قلت: وهؤلاء قوم لا خلاف لهم في الدين وإنما رأس مالهم
البَهتُ والتكذُّب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل
الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة
مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع
كلها وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر
سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن
أبى طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له
محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة
حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى.
فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل
بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفارا وإن كانب الردة قد
أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من
حقوق الدين، وذلك أن الرده اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر
كان مقبلا إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم
الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناء
والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم
الذين كان ارتدادهم حقا ولزوم الاسم إياهم صدقا.
(2/6)
فأما قلوله تعالى {خد من أموالهم صدقة
تطهرهم} [التوبة: 103] وما ادعوه من وقوع الخطاب فيه خاصا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطاب كتاب الله تعالى
على ثلاثة أوجه خطاب عام كقوله {يا أيها الذين آمنوا إذا
قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية وكقوله {يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] في نحو ذلك
من أوامرالشريعة.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه في ذلك غيره
وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله
تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79] وكقوله
{خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50] . وخطاب مواجهة
للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به
سواء كقوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}
[الإسراء: 78] وقوله {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وكقوله {وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة} [النساء: 120] في نحو ذلك من خطاب المواجهة
فكل من دلكت له الشمس كان عليه إقامة الصلاة واجبة وكل من
أراد قراءة القرآن كانت الاستعاذة معتصما له وكل من حضره
العدو وخاف فوت الصلاة أقامها على الوجه الذي فعلها رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته ومن هذا النوع قوله
تعالى {خذ من أموالهم صدقة} فعلى القائم بعده بأمر الأمة
أن يحتذي حذوه في أخذها منهم وإنما الفائدة في مواجهة
النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله
سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في الخطاب
ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه
لهم. وعلى هذا المعنى قوله {يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] فافتتح الخطاب
بالتنويه باسمه خصوصا ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما
وربما كان الخطاب له مواجهة والمراد به غيره كقوله {فإن
كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من
قبلك} [يونس: 94]
(2/7)
إلى قوله {فلا تكونن من الممترين} [البقرة:
147] ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شيء
مما أنزل عليه وكقوله {أن أشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14]
وقال {وبالوالدين إحسانا} [البقرة: 83] وهذا خطاب لم يتوجه
عليه ولم يلزمه حكمه لمرين أحدهما أنه لم يدرك والديه ولا
كان واجبا عليه لو أدركهما أن يحسن إليهما ويشركهما إحسان
الآباء المسلمين وشكرهم.
وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن
الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى
الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات
كان في زمان حياته صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع
بوفاته وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق
بالنماء والبركه في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا
يخيب مسألته فيه.
قلت: ومن لواحق بيان ما تقدم في الفصل الأول من ذكر وجوب
إيتاء الزكاة وأدائها إلى القائم بعد النبي صلى الله عليه
وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل آخر كلامه عند وفاته
قوله الصلاة وما ملكت أيمانهم ليعقل أن فرض الزكاة قائم
كفرض الصلاة وأن القائم بالصلاة هو القائم بأخذ الزكاة
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقتلن من فرق بين
الصلاة والزكاة استدلالاً بهذا مع سائر ما عقل من أنواع
الأدلة على وجوبها والله أعلم.
فإن قيل كيف تأولت أمر هذه الطائفة التي منعت الزكاة على
الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغي أرأيت إن أنكرت
طائفة من أهل المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من
أدائها إلى الإمام هل يكون حكمهم حكم أهل البغي قيل لا فإن
من أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان كان كافراً بإجماع
(2/8)
المسلمين
والفرق بين هؤلاء وبين أولئك القوم أنهم إنما عذروا فيما
كان منهم حتى صار قتال المسلمين إياهم على استخراج الحق
منهم دون القصد إلى دمائهم لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في
هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعه التي كان يقع
فيها تبديل الأحكام ومنها وقوع الفترة بموت النبي صلى الله
عليه وسلم وكان القوم جهالا بأمور الدين وكان عهدهم حديثا
بالإسلام فتداخلتهم الشبهة فعذروا كما عذر بعض من تأول من
الصحابة في استباحة شرب الخمر قوله تعالى {ليس على الذين
آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93]
فقالوا نحن نشربها ونؤمن بالله ونعمل الصالحاب ونتقي
ونصلح. فأما اليوم فقد شاع دين الإسلام واستفاض علم وجوب
الزكاة حتى عرفه الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل
فلا يعذر أحد بتأويل يتأول في إنكارها. وكذلك الأمر في كل
من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان
منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من
الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم في نحوها
من الأحكام إلاّ أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف
حدوده فإذا أنكر شيئا منه جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل
أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه. فأما ما كان الإجماع
فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على
عمتها وخالتها وإن قاتل العمد لا يرث وأن للجدة السدس وما
أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها
لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها.
قلت: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي
هريرة ووقعت
(2/9)
الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي
حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك لأن
القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه وذكر القصة في كيفية
الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما وما تنازعاه من الحجاج في استباحه قتالهم
ويشبه أن يكون أبو هريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها
على وجهها كلها اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا
قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع
البيان مع حصول العلم عندهم به والله أعلم.
ونبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر غير مستقصى إن عبد الله
بن عمر وأنس بن مالك قد روياه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بزياة شروط ومعان لم يذكرها أبو هريرة.
فأما حديث أنس فقد رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن،
قال: حَدَّثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن
المبارك عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله
وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا
ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا
دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين. حدثناه ابن داسة عنه.
وأما حديث ابن عمر ففيه زيادة شرط الزكاة، وقد رواه محمد
بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح،، قال: حَدَّثنا عبد
الله بن محمد حدثنا حَرَمي بن عمارة حدثنا شعبة عن واقد بن
محمد قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله
إلاّ الله وأن محمداً
(2/10)
رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق
الإسلام وحسابهم على الله. حدثنيه خلف بن محمد حدثنا
إبراهيم بن معقل عنه.
قلت: وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن الكفار مخاطبون
بالصلاة والزكاة وسائر العبادات وذلك لأنهم إذا كانوا
مقاتلين على الصلاة والزكاة فقد عقل أنهم مخاطبون بهما.
وأما معنى الحديث وما فيه من الفقه فمعلوم أن المراد بقوله
حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله إنما هم أهل الأوثان دون أهل
الكتاب لأنهم يقولون لا إلّه إلاّ الله ثم أنهم يقاتلون
ولا يرفع عنهم السيف.
وقوله وحسابهم على الله معناه فيما يستسرون به دون ما
يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر.
وفيه دليل أن الكافر المُستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان
ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم
باقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء.
وذهب مالك بن أنس إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك
أيضاً عن أحمد بن حنبل، وفي قوله لو منعوني عناقا كانوا
يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب
الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وأن واحدة منها تجزي
عن الواجب في الأربعين منها إذا كانت كلها صغاراً ولا يكلف
صاحبها مسنة.
وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات ولو كان يستأنف
بها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق.
(2/11)
وقد اختلف الناس فيما يجب في السخال فقال
أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا شيء فيها، وقد اختلف فيها،
عَن أبي حنيفة وهذا أظهر أقاويله وإلى هذا ذهب أحمد بن
حنبل وحكي ذلك عن سفيان الثوري، وقد روي عن سفيان أيضاً
أنه قال يأخذ المصدق مسنة ثم يرد على رب المال فضل ما بين
المسنة والصغيرة التى في ماشيته، وقال مالك فيها مسنة وقال
الشافعي يؤخذ من أربعين سخلة واحدة منها وهو قول الأوزاعي
وأبي يوسف وإسحاق بن راهويه.
وأما العقال فقد اختلفوا في تفسيره، فقال أبو عبيد القاسم
بن سلام العقال صدقة عام. وقال غيره العقال الحبل الذي
يعقل به البعير وهو مأخوذ مع الفريضة لأن على صاحبها
التسليم، وإنما يقع قبضها برباطها.
وقال ابن عائشة كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة أن يعمد
إلى قرن وهو الحبل فيقرن به بين بعيرين أي يشده في
أعناقهما لئلا تشرد الإبل فتسمى عند ذلك القرائن وكل
قرينين منها عقال.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي إذا أخذ المصدق أعيان
الإبل قيل أخذ عقالا وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقدا وأنشد
لبعضهم:
أتانا أبو الخطاب يضرب طبله ... فرد ولم يأخذ عقالاً ولا
نقدا
وتأول بعض أهل العلم قوله لومنعوني عقالا على معنى وجبوب
الزكاة فيه إذا كان من عروض التجارة فبلغ مع غيره منها
قيمة نصاب.
وفيه دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد زعم داود
أن لا زكاة في شيء من أموال التجارات.
وفي الحديث دليل على أن الواحد من الصحابة إذا خالف سائر
الصحابة لم يكن
(2/12)
شاذا وأن خلافه يعد خلافاً.
وفيه دليل على أن الخلاف إذا حدث في عصر فلم ينقرض العصر
حتى زال الخلاف وصار إجماعاً أن الذي مضى من الخلاف ساقط
كأن لم يكن.
وفيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة
في أمواله.
ومن باب ما يجب فيه الزكاة
قال أبو داود: حدثنا ابن مسلمة قال قرأت على مالك بن أنس
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال سمعت أبا سعيد
الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما
دون خمس ذَود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما
دون خمسة أوسق صدقة.
قلت: هذا الحديث أصل في بيان مقادير ما يحتمل من الأموال
المواساة وإيجاب الصدقة فيها وإسقاطها عن القليل الذي لا
يحتملها لئلا يجحف بأرباب الأموال ولا يبخس الفقراء حقوقهم
وجعلت هذه المقادير أصولا وأنصبة إذا بلغتها أنواع هذه
الأموال وجب فيها الحق، والذود اسم العدد من الإبل غير
كثير ويقال أنه ما بين الثلاث إلى العشر ولا واحد للذود من
لفظه؛ وإنما يقال للواحد منها بعير كما قيل للواحدة من
النساء امرأة، والعرب تقول الذود إلى الذود إبل وأما
الوَسْق فهو ستون صاعا. قال الشاعر يصف مطيته وهوأبووجزة:
راحت بستين وسقا في حقيبتها ... ما حملت مثلها أنثى ولا
ذكر
وهذا لم يريد أنها حمّلت هذه الأوساق بأعيانها فإن شيئا من
المطايا لا يحمل هذا القدر وإنما مدح بعض الملوك فأجازه
بستين وسقا إلى عامله وصك له بها فحمل الكتاب في حقيبته
فهذا تفسير الوسق.
(2/13)
وأما الكُرُّ فهو اثنا عشر وسقا والقفيز
ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف والصاع خمسة أرطال وثلث
فهذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم المشهور عند أهل
الحجاز، والصاع في مذهب أهل العراق ثمانية أرطال والأواقي
أوقية وهي أربعون درهما يقال أوقية وأواقي مشددة الياء،
وقد يخفف الياء أيضاً فيقال أواق كما يقال أضحية وأضاحي
وأضاح ولا يقال آواق كما ترويه العامة ممدودة الألف لأنها
جمع أوق.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى أن الصدقة لا تجب في شيء من
الخضراوات لأنه زعم أنها لا توسق ودليل الخبر أن الزكاة
إنما تجب فيما يوسق ويكال من الحبوب والثمار دون ما لا
يكال من الفواكه والخضر ونحوها وعليه عامة أهل العلم إلاّ
أن أبا حنيفة رأى الصدقة فيها وفي كل ما أخرجته الأرض إلاّ
أنه استثنى الطرفاء والقصب الفارسي والحشيش وما في معناه.
وفيه بيان أن النوع الذي فيه الصدقة من الحبوب والثمار لا
يجب فيها شيء حتى يبلغ خمسة أوسق.
وفي قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة بيان أن مائتي درهم
إذا نقصت شيئا في الوزن وإن قل أو كانت تجوز جواز مائتي
درهم أو كانت ناقصة تساوي عشرين دينارا أنه لا شيء فيها.
وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب في الفضة بقيمتها لكن
بوزنها.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن نيل المعدن إذا كان دون خمس
أواق لم يجب فيه شيء، وإليه ذهب الشافعي.
وفيه دليل على أن ما زاد على المائتين فإن الزكاة تجب فيه
بحسابه لأن في دلالة
(2/14)
قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة إيجابا في
الخمس الأواقي وفيما زاد عليه وقليل الزيادة وكثيرها سواء
في مقتضى الاسم. ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة
الأوسق من التمر صدقة قلت الزيادة أو كثرت وقد أسقط النبي
صلى الله عليه وسلم الزكاة عما نقص عن الخمسة الأوسق كما
أسقطها عما نقص عن الخمس الأواقي فوجب أن يكون حكم ما زاد
على الخمس الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق
لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد.
وقد اختلف الناس فيما زاد من الورق على مائتي درهم فقال
أكثر أهل العلم يخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع
العشر قلت الزيادة أو كثرت.
وروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر وبه
قال النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد
بن الحسن وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد.
وروي عن الحسن البصري وعطاء وطاوس والشعبي ومكحول والزهري
أنهم قالوا لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما وبه
قال أبو حنيفة.
وفيه دليل على أن الفضة لا تضم إلى الذهب وإنما يعتبر
نصابها بنفسها ولم يختلفوا في أن الغنم لا يضم إلى الإبل
ولا إلى البقر، وأن التمر لا يضم إلى الزبيب.
واختلفوا في البُر والشعير فقال أكثر العلماء لا يضم واحد
منهما إلى الآخر وهو قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي
والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك يضاف القمح إلى الشعير
ولا يضاف القطاني إلى القمح والشعير.
واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والأوزاعي والثوري
وأصحاب الرأي يضم أحد الصنفين منهما إلى الآخر.
(2/15)
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا يضم أحدهما
إلى الاخر ويعتبر كل واحد منهما بنفسه، وإليه ذهب ابن أبي
ليلى وأبوعبيد ولم يختلفوا في أن الضأن يضم إلى المعز لأن
اسم الغنم يلزمهما لزوما واحداً ولا أعلم عامتهم.
واختلفوا في أن من كانت عنده مائة درهم وعنده عرض للتجارة
يساوي مائة درهم وحال الحول عليهما أن أحدهما يضم إلى
الاخر وتجب الزكاة فيهما.
ومن باب زكاة الحلي
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل وحميد بن مسعدة المعنى أن
خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مَسكتان غليظتان من ذهب فقال
لها أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما
يوم القيامة بسوارين من نار. قال فخلعتهما فألقتهما إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله صلى الله
عليه وسلم.
قلت قوله أيسرك أن يسورك الله بهما نارا إنما هو تأويل
قوله عز وجل {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم
وجنوبهم} [التوبة: 35] .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن إدريس الرازي حدثنا عمرو بن
الربيع بن طارق حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي
جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبد الله بن شداد
بن الهاد أنه قال دخلنا على عائشة فقالت دخل عليَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فَتَخات من ورق فقال
ما هذا يا عائشة فقلت صنعتهن اتزين لك يا رسول الله قال
أتؤدين زكاتهن قلت لا أو ما شاء الله قال هوحسبك من النار.
(2/16)
الفتخات خواتيم كبار كان النساء يتختمن بها
والواحدة فتخة وأنشدنا أبو العباس عن ابن الأعرابي:
ألا بزَعْزاع يسلي همي ... يسقط منه فَتَخي في كمي
قلت والغالب أن الفتخات لا تبلغ نصابا تجب فيها بمفردها
الزكاة وإنما معناه أن تضم إلى سائر ما عندها من الحلي
فتؤدي زكاتها منه.
وقد اختلف الناس في وجوب الزكاة في الحلي فروي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو
وابن عباس أنهم أوجبوا فيه الزكاة وهو قول ابن المسيب
وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد
والزهري وإليه ذهب الثوري وأصحاب الرأي.
وقد روى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وعن القاسم
بن محمد والشعبي أنهم لم يروا فيه الزكاة وإليه ذهب مالك
بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أظهر قولي
الشافعي.
قلت الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده
ومن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر والاحتياط
أداؤها والله أعلم.
وذهب بعض من لم ير الزكاة فيما يلبسه الإنسان من الخاتم
ونحوه من زي الرجال أنه إذا اتخذ خواتيم كثيرة لا يتسع
للبسها كلها أن عليه زكاتها وإنما يسقط عنه فيما كان منها
على مجرى العادة.
ومن باب زكاة السائمة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد قال أخذت
من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أن أبا بكر كتبه
لأنس وعليه خاتم
(2/17)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه
مُصَدِّقا وكتب له فإذا فيه هذه فريضة الصدقة التي فرضها
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمرالله
بها نبيه صلى الله عليه وسلم فمن سألها من المسلمين على
وجهه فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه. فيما دون خمس وعشرين
من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين
ففيها ابنة مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين فإن لم يكن فيها
ابنة مخاض فابن لَبُون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها
ابنة لبون إلى خمس وأربعين فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها
حِقة طروق الفحل إلى ستين فإذا بلغت إحدى وستين ففيها
جَذَعة إلى خمس وسبعين فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها ابنتا
لبون إلى تسعين فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا
الفحل إلى عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل
أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة فإذا تباين أسنان الإبل
في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده
جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن
استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة
وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق
عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده
حقة وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن
استيسرتا له أوعشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون
وليست عنده إلاّ حقة فانها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين
درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده
إلاّ ابنة مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهما
(2/18)
ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده
إلاّ ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ومن لم يكن
عنده إلاّ أربع فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها.
وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين
ومائة فإذا زادت على عشرين ومأثة ففيها شاتان إلى أن تبلغ
مائتين فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن
تبلغ ثلاثمائة فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة
شاة. ولا يؤخذ في الصدقة هَرِمة ولا ذات عوار من الغنم ولا
تيس الغنم إلاّ أن يشاء المصدق. ولا يجمع بين متفرق
ولايفرق بين مجتمع خشيه الصدقة وما كان من خليتين فإنهما
يتراجعان بينهما بالسوية فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين
فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.
وفي الرقة ربعُ العشر فإن لم يكن المال إلاّ تسعين ومائة
فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها.
قوله هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أن يكون معنى الفرض
الإيجاب، وذلك أن يكون الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها
في كتابه ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ فأضيف
الفرض إليه بمعنى الدعاء إليه وحمل الناس عليه وقد فرض
الله تعالى طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن
الله عز وجل فرضاً على هذا المعنى. وكان ابن الأعرابي يقول
معنى الفرض السنة ههنا.
وحكى أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى عنه قال الفرض
الواجب والفرض القراءة، يقال فرضت جزئي أي قرأته والفرض
السنة، قال ومنه ما يروى
(2/19)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كذا
أي سنَّه.
والوجه الآخر أن يكون معنى الفرض ههنا بيان التقدير كقوله
سبحانه {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو
تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236] ومن هذا فرض نفقة الأزواج
وفرض أرزاق الجند، ومعناه راجع إلى قوله تعالى {لتبين
للناس ما نُزل إليهم} [النحل: 44] . وقوله فمن سألها على
وجهها أي على حسب ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من
فرض مقاديرها فليعطها وقوله ومن سأل فوقها فلا يعطه يتأول
على وجهين: أحدهما أن لا يعطى الزيادة على الواجب.
والوجه الاخر أن لا يعطي شيئا منها لأن الساعي إذا طلب فوق
الواجب كان خائنا فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته.
وفي هذا دليل على أن الإمام والحاكم إذا ظهر فسقهما بطل
حكمهما.
وفيه دليل على جواز إخراج المرء صدقة أمواله الظاهرة بنفسه
دون الإمام.
وفي الحديث بيان أن لا شيء في الأوقاص وهي ما بين
الفريضتين.
وفيه دليل على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم
يستأنف لها الفريضة لأنه علق تغير الفرض بوجود الزيادة،
وهو قوله فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة
لبون وفي كل خمسين حقة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة
كحصولها بأكثر منها. وعلى هذا وجد الأمر في أكثر الفرائض
فإن زيادة الواحدة بعد منتهى الوقص توجب تغير الفريضة
كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين وبعد الخامسة والأربعين
وبعد كمال الستين.
وقد اختلف الناس في هذا فذهب الشافعي إلى أنها إذا زادت
واحدة على مائة وعشرين كان فيها ثلاث بنات لبون وبه قال
إسحاق بن راهويه.
(2/20)
وقال أحمد بن حنبل ليس في الزيادة شيء حتى
يبلغ ثلاثين وجعلها من الأوقاص التي تكون بين الفرائض وهو
قول أبي عبيد، وحكي ذلك عن مالك بن أنس واستدل بعضهم في
ذلك بأنه لما قال فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين
ابنة لبون وفي كل خمسين حقة اقتضى ذلك أن يكون تغير الفرض
في عدد يجب فيه السنَّان معاً. قلت وهذا غيرلازم وذلك أنه
إنما علق تغير الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين
وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون وفي خمسين حقة وقد وجدت
الأربعونات الثلاث في هذا النصاب فلا يجوز أن يسقط الفرض
ويتعطل الحكم وإنما اشترط وجود السنين في محلين مختلفين لا
في محل واحد فاشتراطهم وجودهما معاً في محل واحد غلط.
وقال إبراهيم النخعي إذا زادت الابل على عشرين ومائة ففي
كل خمس منها شاة وفي كل عشر شاتان وفي كل خمس عشرة ثلاث
شياه فإذا بلغت مائة وأربعين ففيها حقتان وأربع شياه فإذا
بلغت مائة وخمسا وأربعين ففيها حقتان وابنة مخاض حتى تبلغ
خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق فإذا زادت استأنف الفرض كما
استؤنفت الفريضة وهو قول أبي حنيفة؛ وقد روي عن علي رضي
الله عنه أنه قال إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت
الفريضة. قال ابن المنذر وليس بثابت منه، وقال محمد بن
جرير الطبري وهو مخير إن شاء استأنف الفريضة إذا زادت
الإبل على مائة وعشرين وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين
جميعا قد رويا.
(2/21)
قلت وهذا قول لا يصح لأن الأمة قد فرقت بين
المذهبين واشتهر الخلاف فيه بين العلماء فكل من رأى
استئناف الفريضة لم ير إخراج الفرائض ومن رأى إخراج
الفرائض لم يجز استئناف الفريضة فهما قولان متنافيان على
أن رواية عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه لا تقاوم
لضعفها رواية حديث أنس وهو حديث صحيح ذكره البخاري في
جامعه عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن ثمامة عن
أنس، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وفي حديث عاصم بن
ضمرة كلام متروك بالإجماع غير مأخوذ به في قول أحد من
العلماء وهو أنه قال في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه.
وروى أبو داود الحديثين معاً في هذا الباب وذكر أن شعبة
وسفيان لم يرفعا حديث عاصم بن ضمرة ووقفاه على علي رضي
الله عنه.
وفيه من الفقه أن كل واحدة من الشاتين والعشرين الدرهم أصل
في نفسه ليست ببدل وذلك لأنه قد خيره بينهما بحرف أو.
وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى ظاهر الحديث النخعي
والشافعي وإسحاق.
وقال الثوري عشرة دراهم أو شاتان وإليه ذهب أبو عبيد وقال
مالك يجب على رب المال أن يبتاع للمصدق السن الذي يجب له.
وقال أصحاب الرأي يأخذ قيمة الذي وجب عليه وإن شاء تقاصا
بالفضل دراهم.
قلت وأصح هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كل واحد من
الشاتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه وأنه ليس له أن يعدل
عنهما إلى القيمة. ولو كان للقيمة فيها مدخل لم يكن لنقله
الفريضة إلى سن فوقها وأسفل منها ولا لجبران النقصان فيها
بالعشرين أو بالشاتين معنى والله أعلم.
(2/22)
وعند الشافعي أنه إذا ارتفع إلى السن الذي
يلي ما فوق السن الواجب عليه كان فيها أربع شياه أو أربعون
درهما وبه قال إسحاق.
وقال بعض أهل الحديث ولا يُجَاوزُ ما في الحديث من السن
الواحد إلاّ أن الشافعي قال إذا وجبت عليه ابنة لبون ولم
يكن عنده إلاّ حق فإنه لا يأخذ الحق كما يأخذ ابن اللبون
عند عدم ابنة المخاض وجعله خاصا في موضعه ولم يجعل سبيله
في القياس سبيل ما يؤخذ من الجبران إذا زاد أو نقص عند
تباين الأسنان.
قلت: ويشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما جمل الشاتين
أو العشرين الدرهم تقديراً في جبران النقصان والزيادة بين
السنين ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وإلى
تقديره لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه وليس
بحضرته حاكم ولا مقوم يحمله ورب المال عند اختلافها على
قيمة يرتفع بها الخلاف وتنقطع معها مادة النزاع فجعلت فيها
قيمة شرعية كالقيمة في المُصَراة والجنين حسما لمادة
الخلاف مع تعذرالوصول إلى حقيقة العلم بما يجب فيها عند
التعديل.
قلت: وإذا كان معلوماً أن القصد بالمسامحة الواقعة في
الطرفين إنما كان بها لأجل الضرورة، وقد يحدث مثل ذلك عند
وجوب الحقة واعوازها مع وجود الجذع وكان ما بينهما من
زيادة المنفعة من وجه ونقصانها من وجه شبيها بما بين ابن
اللبون وابنة المخاض، فلو قال قائل أنه مأخوذ مكانها كما
كان ابن اللبون مأخوذاً مكان ابنة المخاض لكان مذهباً وهو
قول الشافعي والله أعلم.
(2/23)
وفي قوله ومن بلغت صدقته ابنة مخاض وليس
عنده إلاّ ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء دليل
على أن ابنة المخاض ما دامت موجودة فإن ابن اللبون لا
يجزىء عنها وموجب هذا الظاهر أنه يقبل منه سواء كانت قيمته
قيمة ابنة مخاض أو لم يكن ولوكانت القيمة مقبولة لكان
الأشبه أن يجعل بدل ابنة مخاض قيمتها دون أن يؤخذ الذكران
من الإبل فإن سنة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلاّ
الإناث إلاّ ما جاء في البقر من التبيع.
وزعم بعض أهل العلم أنه إذا وجد قيمة ابنة مخاض لم يقبل
منه ابن لبون لأن واجد قيمتها كواجد عينها ألا ترى أن من
وجد ثمن الرقبة في الظهار لم ينتقل إلى الصيام.
قلت وهذا خلاف النص وخلاف القياس الذي قال وتمثل به وذلك
أنه قال في الآية فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فعلق
الحكم بالوجود ووجود القيمة وجود لما يتقوم بها، وإنما قال
في الحديث ومن بلغت صدقته ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابن
لبون ذكر فإنه يقبل منه فعلق الحكم بكونه عنده لا بقدرته
عليه فالأمران مختلفان.
وأما قوله ابن لبون ذكر وتقييده إياه بهذا الوصف وقد علم
لا محالة ان ابن اللبون لا يكون إلاّ ذكرا فقد يحتمل ذلك
وجهين من التأويل، أحدهما أن يكون توكيدا للتعريف وزيادة
في البيان وقد جرت عادة العرب بأن يكون خطابها مرة على
سبيل الإيجاز والاختصار ومرة على العدل والكفاف ومرة على
الإشباع والزيادة في البيان، وهذا النوع كقوله سبحانه
{فصيام ثلاثة أيام
(2/24)
في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] ثم
قال {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وكان معلوماً أن سبعة
إلى ثلاثة بمجموعها عشرة وكقول النبي صلى الله عليه وسلم
حين ذكر تحريم الأشهر الحرم فقال ورجب مضر الذي بين جمادى
وشعبان.
والوجه الآخر أن يكون ذلك على معنى التنبيه لكل واحد من رب
المال والمصدق فقال هو ابن لبون ذكر ليطيب رب المال نفساً
بالزيادة المأخوذة منه إذا تأمله فعلم أنه قد سوغ له من
الحق وأسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة في الفريضة
الواجبة عليه وليعلم المصدق أن سن الذكورة مقبول من رب
المال في هذا النوع وهو أمر نادر خارج عن العرف في باب
الصدقات ولا ينكر تكرار البيان والزيادة فيه مع الغرابه
والندور لتقرير معرفته في النفوس.
وقوله إن استيسرتا له معناه إن كانتا موجودتين في ماشيته.
وفيه دليل على أن الخيار في ذلك إلى رب المال أيهما شاء
أعطى.
وفي قوله في سائمة الغنم إذا كانت أربعين شاة شاة دليل على
أن لا زكاة في المعلوفة منها لأن الشيء إذا كان يعتوره
وصفان لازمان فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه
وكذلك هذا في عوامل البقر والإبل، وهو قول عوام أهل العلم
إلاّ مالكا فإنه أوجب الصدقة في عوامل البقر ونواضح الإبل.
وقوله فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة فإنما
معناه أن يزيد مائة أخرى فيصير أربعمائة وذلك لأن المائتين
لما توالت أعدادها حتى بلغت ثلاثمائة وعلقت الصدقة الواجبة
فيها بمائة مائة ثم قيل فإذا زادت عقل أن هذه الزيادة
اللاحقة بها إنما هي مائة لا ما دونها وهو قول عامة
الفقهاء الثوري وأصحاب الرأي
(2/25)
وقول الحجازيين مالك والشافعي وغيرهم.
وقال الحسن بن صالح بن حي إذا زادت على ثلاثمائة واحدة
ففيها أربع شياه.
وقوله لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم
إلاّ أن يشاء المصدق فإن حق الفقراء إنما هو في النمط
الأوسط من المال لا يأخذ المصدق خياره فيجحف بأرباب
الأموال ولا شراره فيزري بحقوق الفقراء.
وقوله إلاّ أن يشاء المصدق، فيه دلالة على أن له الاجتهاد
لأن يده كيد المساكين وهو بمنزلة الوكيل لهم ألا ترى أنه
يأخذ أجرته من مالهم وإنما لا يأخذ ذات العوار ما دام في
المال شيء سليم لا عيب فيه فإن كان المال كله معيبا فإنه
يأخذ واحداً من أوسطه وهو قول الشافعي، وقال إذا وجب في
خمس من إبله شاة وكلها معيبة فطلب أن يؤخذ منه واحد منها
أخذ وإن لم يبلغ قيمته قيمة شاة وقال مالك يكلف أن يأتي
بصحيحة ولا يؤخذ منه مريض، وتيس الغنم يريد به فحل الغنم،
وقد زعم بعض الناس أن تيس الغنم إنما لا يؤخذ من قبل
الفضيلة وليس الأمر كذلك وإنما لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه.
وكان أبو عبيد يرويه إلا أن يشاء المصدَّق بفتح الدال يريد
صاحب الماشية وقد خالفه عامة الرواة في ذلك فقالوا إلاّ أن
يشاء المصدِّق مكسورة الدال أي العامل.
وقوله لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
فإن هذا إنما يقع في زكاة الخلطاء، وفيه إثبات الخلطة في
المواشي.
وقد اختلف في تأويله فقال مالك هو أن يكون لكل رجل أربعون
شاة فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون فيها إلاّ شاة
واحدة ولا يفرق بين مجتمع أن الخليطين إذا كان لكل واحد
منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما
(2/26)
فيه ثلاث شياه فإذا أظلهما المصدق فرقا
غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما إلاّ شاة. وقال الشافعي
الخطاب في هذا خطاب للمصدق ولرب المال معاً وقال الخشية
خشيتان خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر
الصدقة فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في المال شيئا من
الجمع والتفريق خشية الصدقة.
وقوله وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
فمعناه أن يكونا شريكين في إبل يجب فيها الغنم فيوجد الإبل
في يدي أحدهما فتؤخذ منه صدقتها فإنه يرجع على شريكه بحصته
على السوية.
وفيه دلالة على أن الساعي إذا ظلمه فأخذ منه زيادة على
فرضه فإنه لا يرجع بها على شريكه وإنما يغرم له قيمة ما
يخصه من الواجب دون الزيادة التي هي ظلم وذلك معنى قوله
بالسوية وقد يكون تراجعهما أيضاً من وجه آخر وهو أن يكون
بين رجلين أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون وقد عرف كل
واحد منهما عين ماله فيأخذ المصدق من نصيب أحدهما شاة
فيرجع المأخوذ من ماله على شريكه بقيمة نصف شاة.
وفيه دليل على أن الخلطة تصح مع تميز أعيان الأموال. وقد
روي عن عطاء وطاوس أنهما قالا إذا عرف الخليطان كل واحد
منهما أموالهما فليسا بخليطين.
وقد اختلف مالك والشافعي في شرط الخلطة فقال مالك إذا كان
الراعي والفحل والمراح واحداً فهما خليطان، وكذلك قال
الأوزاعى.
وقال مالك فإن فرقهما المبيت هذه في قرية وهذه في قرية
فهما خليطان.
وقال الشافعي إن فرق بينهما في المراح فليسا بخليطين
واشترط في الخلطة المراح والمسرح والسقي واختلاط الفحولة،
وقال إذا افترقا في شيء من هذه
(2/27)
الخصال فليسا بخليطين، إلاّ أن مالكاً قال
لا يكونان خليطين حتى يكون لكل واحد منهما تمام النصاب
وعند الشافعى إذا تم بماليهما نصاب فهما خليطان وإن كان
لأحدهما شاة واحدة.
وقوله في الرقة ربع العشر فإن لم يكن إلاّ تسعون ومائة
فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها فإن الرقة الدراهم
المضروبة وليس في هذا دلالة على أنه إذا كانت تسعة وتسعين
ومائة أو كانت مائتين ناقصة كانت فيها الزكاة، وإنما ذكر
الفصول والعشرات لأنها قد تتضمن الآحاد فدل بذلك على أنه
أراد بالزيادة التي بها يتعلق الوجوب عشرة كاملة.
وبيان ذلك في قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق زكاة.
وفيه دليل على أن الدراهم إذا بلغت خمس أواق بما فيها من
غش وحملان فإنه لا شيء فيها حتى يكون كلها فضة خالصة.
وفي قوله إلاّ أن يشاء ربها دليل على أن رب المال إذا سمح
بما لا يلزمه من زيادة السن أو أعطى الماخض مكان الحائل أو
أعطى ذات الدر بطيبة نفس كان ذلك مقبولا منه. وحكي عن داود
وأهل الظاهر أنهم قالوا لا يقبل منه أو لا يجزئه والحديث
حجة عليه لأنه إذا أعطى عن مائة وتسعين درهما خمسة دراهم
لكانت مقبولة منه وهو لا يجب عليه فيها شيء لعدم النصاب
فلأن تقبل زيادة السن مع كمال النصاب أولى.
وأما تفسير اسنان الفرائض المذكورة في هذا الحديث فإن ابنة
المخاض هي التي أتى عليها حول ودخلت في السنة الثانية
وحملت أمها فصارت من المخاض وهي الحوامل، والمخاض اسم
جماعة للنوق الحوامل.
(2/28)
وأما ابنة اللبون فهي التي أتى عليها حولان
ودخلت في السنة الثالثة فصارت أمها لبونا بوضع الحمل أي
ذات لبن.
وأما الحقة فهي التي أتى عليها ثلاث سنين ودخلت في السنة
الرابعة فاستحقت الحمل والضراب. والجذعة هي التي تمت لها
أربع سنين ودخلت في الخامسة.
وقد ذكر أبو داود عن الرياشي وأبي حاتم عن الأصمعى وغيره
أسنان الإبل وأشبع بيانها في الكتاب فلا حاجة بنا إلى
ذكرها.
وقوله طَروقة الفحل فهي التي طرقها الفحل أي نزا عليها وهي
فعولة بمعنى مفعولة كما قيل ركوبة وحلوبة بمعنى مركوبة
ومحلوبة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير
حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي
رضي الله عنه قال زهير أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم فما زاد
فعلى حساب ذلك. قال وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي كل
أربعين مسنة وليس على العوامل شيء قال وفي النبات ما سقته
الأنهار أو سقت السماء العشر وما سقي بالغَرْب ففيه نصف
العشر.
قوله في كل أربعين درهما درهم تفصيل لجملة قد تقدم بيانها
في حديث أبى سعيد الخدري وهو قول ليس فيما دون خمس أواق
شيء وتفصيل الجملة لا يناقض الجملة.
وقوله فما زاد فعلى حساب ذلك؛ فيه دليل على أن القليل
والكثير من الزيادة على النصاب محسوب على صاحبه ومأخوذ منه
الزكاة بحصته وقد ذكرنا اختلاف أقاويل العلماء في هذا فيما
مضى.
وقوله في البقر في كل ثلاثين تبيع فإن العجل ما دام يتبع
أمه فهو تبيع إلى تمام
(2/29)
سنة ثم هو جذع ثم ثني ثم رَباع ثم سَدَس
وسديس ثم صالغ وهو المسن.
وقوله وليس في العوامل شيء بيان فساد قول من أوجب فيها
الصدقة، وقد ذكرناه فيما مضى.
وفي الحديث دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين لم
يكن فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على صحة ذلك ماروي عن
معاذ أنه أتي بوقص البقر فلم يأخذه. ومذهب أبي حنييفة أن
ما زاد على الأربعين فبحسابه.
وقوله فيما سقته الأنهار أو سقته السماء العشر وما سقي
بالغرب ففيه نصف العشر، فإن الغَرْب الدلو الكبيرة يريد ما
سقى بالسواني وما في معناها مما سقي بالدواليب والنواعير
ونحوها.
وإنما كان وجوب الصدقة مختلفة المقادير في النوعين لأن ما
عمت منفعته وخفت مؤونته كان أحمل للمواساة فأوجب فيه العشر
توسعة على الفقراء وجمل فيما كثرت مؤنته نصف العشر رفقا
بأهل الأموال.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المَهْري أخبرني ابن
وهب أخبرني جرير بن حازم، عَن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة
والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول
ففيها خمسة دراهم وليس عليكم شيء، يَعني في الذهب حتى يكون
لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها
الحول ففيها نصف دينار وما زاد فبحساب ذلك وليس في مالٍ
زكاة حتى يحول عليه الحول.
قلت وفي هذا دليل على أن المال إذا نقص وزنه عن تمام
النصاب وإن كان شيئا يسيرا أو كان مع نقصه يجوز جواز
الوازن لم تجب فيه الزكاة.
(2/30)
وقوله لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول
إنما أراد به المال النامي كالمواشي والنقود لأن نماءها لا
يظهر إلاّ بمضي مدة الحول عليها.
فأما الزروع والثمار فإنها لا يراعى فيها الحول وإنما ينظر
إلى وقت إدراكها واستحصادها فيخرج الحق منها.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الفوائد والأرباح يستأنف بها
الحول ولا تبنى على حول الأصل.
وقد اختلف الناس في ذلك فقال الشافعي يستقبل بالفائدة
حولها من يوم افادها.
وروي ذلك، عَن أبي بكر وعلي وابن عمر وعائشة رضوان الله
عليهم.
وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز.
وقال أحمد بن حنبل ما استفاده الإنسان من صلة وميراث
استأنف به الحول وما كان من نماء ماله فإنه يزكيه مع
الأصل. وقال أبو حنيفة تضم الفوائد إلى الأصول ويزكيان
معاً. وإليه ذهب ابن عباس وهو قول الحسن البصري والزهري.
واتفق عامة أهل العلم في النتاج أنه يعد مع الأمهات إذا
كان الأصل نصابا تاما وكان الولاد قبل الحول ولا يستأنف له
الحول وذلك لأن النتاج يتعذر تميزه وضبط أوائل أوقات كونه
فحمل على حكم الأصل والولد يتبع الأم في عامة الأحكام.
وفي الحديث دليل على أن النصاب إذا نقص في خلال الحول ولم
يوجد كاملا من أول الحول إلى آخره أنه لا تجب فيه الزكاة
وإلى هذا ذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة أن النصاب إذا وجد
كاملا في طرفي الحول وإن نقص في خلاله لم تسقط عنه الزكاة.
ولم يختلفا في العروض التي هي للتجارة أن الاعتبار إنما هو
لطرفي
(2/31)
الحول وذلك لأنه لا يمكن ضبط أمرها في خلال
السنة.
وفيه دليل على أنه إذا بادل إبلا بإبل قبل تمام الحول بيوم
لم يكن عليه فيها زكاة وهو قول أبي حنيفة والشافعي. إلاّ
أن الشافعي يسقط بالمبادلة الزكاة عن النقود كما يسقطها
بها عن الماشية وأباه وأبوحنيفة في النقود وهو أحوط لئلا
يتذرع بذلك إلى إبطال الزكاة ومنع الفقراء حقوقهم منها وهي
أصل الأموال وأعظمها قدرا وغناءً.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو عَوانة، عَن
أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت عن الخيل والرقيق
فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين
ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففييها خمسة دراهم.
قلت إنما أسقط الصدقة عن الخيل والرقيق إذا كانت للركوب
والخدمة فأما ما كان منها للتجارة ففيه الزكاة في قيمتها.
وقد اختلف الناس في وجوب الصدقة في الخيل فذهب أكثر
الفقهاء إلى أنه لا صدقة فيها وقال حماد بن أبي سليمان
فيها صدقة.
وقال أبو حنيفة في الخيل الإناث والذكور التي يطلب نسلها
في كل فرس دينار وإن شئت قومتها دراهم فجعلت في كل مائتي
درهم خمسة دراهم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أخذ من كل فرس ديناراً.
قلت وإنما هو شيء تطوعوا به لم يلزمهم عمر إياه وروى مالك
عن الزهري عن سليمان بن يسار أن أهل الشام عرضوه على أبي
عبيدة فأبى ثم كلموه فأبى ثم كتب إلى عمر في ذلك فكتب إليه
إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم.
(2/32)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا
حماد حدثنا بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: في كل سائمة إبل في أربعين ابنة لبون
لا يُفَرَّقُ إبل على حسابها من أعطاها مؤتجرا فله أجرها
ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس
لآل محمد منها شيء.
قلت اختلف الناس في القول بظاهر هذا الحديث فمذهب أكثر
الفقهاء أن الغلول في الصدقة والغنيمة لا يوجب غرامة في
المال، وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي وإليه ذهب الشافعي.
وكان الأوزاعي يقول في الغال في الغنيمة إن للإمام أن يحرق
رحله، وكذلك قال أحتد وإسحاق.
وقال أحمد في الرجل يحمل الثمرة في أكمامها فيه القيمة
مرتين وضرب النكال وقال كل من درأنا عنه الحد أضعفنا عليه
الغرم، واحتج في هذا بعضهم بما روي، عَن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضالة الإبل المكتومة
غرامتها ومثلها والنكال. وغرم عمر بن الخطاب حاطب بن أبي
بلتعة ضعف ثمن ناقة المزني لما سرقها رقيقه. وروي عن جماعة
من الصحابة أنهم جعلوا دية من قتل في الحرم دية وثلثا وهو
مذهب أحمد بن حنبل.
وكان إبراهيم الحربي يتأول حديث بهز بن حكيم على أدنه يؤخذ
منه خيار ماله مثل سن الواجب عليه لا يزاد على السن والعدد
ولكن يتقي خيار ماله فتزداد عليه الصدقة بزيادة شطر
القيمة.
وفي الحديث تأويل آخر ذهب إليه بعض أهل العلم وهو أن يكون
معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك عليه وإن تلف ماله فلم
يبق إلاّ شطره كرجل
(2/33)
كان له ألف شاة فتلف حتى لم يبق منه إلاّ
عشرون فإنه يؤخذ منه عشر شياه وهوشطر ماله الباقي أي نصفه
وهذا محتمل وإن كان الظاهر ما ذهب إليه غيره ممن قد
ذكرناه.
وفي قوله ومن منعها فإنا آخذوها دليل على أن من فرط في
إخراج الصدقة بعد وجوبها فمنع بعد الإمكان ولم يؤدها حتى
هلك المال أن عليه الغرامة لأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يفرق بين منع ومنع.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش،
عَن أبي وائل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا
أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدل من
المعافر ثياب تكون باليمن.
قلت ليس في أصول الزكاة مدخل للذكران من المواشى إلاّ في
صدقة البقر فإن التبيع مقبول عنها فيشبه أن يكون ذلك والله
أعلم لقلة هذا النصاب وانحطاط قيمة هذا النوع من الحيوان
فسوس لهم إخراج الذكران منه ما دام قليلا إلى أن يبلغ كمال
النصاب وهو الأربعون. فأما ابن اللبون فإنه يؤخذ بدلا عن
ابنة المخاض لا أصلا في نفسه ومعه زيادة السن التى يوازي
بها فضيلة الأنوثة التي هي لابنة المخاض. وأما الدينار
فإنما أخذه جزية عن رؤوسهم وهم نصارى نجران وصدقة البقر
إنما أخذها من المسلمين إلاّ أنه أدرج ذلك في الخبر ونسق
أحدهما على الآخر والمعنى مفهوم عند أهل العلم.
وفيه دليل على أن الدينار مقبول منهم سواء كانوا فقراء أو
مياسير لأنه عم ولم يخص، وفيه بيان أنه لا جزية على غير
البالغ وأنها لا تلزم إلاّ الرجال لأن الحالم سمة الذكران
وهو كالإجماع من أهل العلم.
(2/34)
واختلفوا في الفقراء منهم يؤخذ منهم أم لا
فقال أصحاب الرأي لا يؤخذ من الفقير الذي لا كسب له،
واختلف فيه قول الشافعي فأحد قوليه أنه لا شيء عليه
وأوجبها في القول الثاني لأنه يجعلها بمنزلة كراء الدار
وأجرة السكنى والدار للمسلمين لا لهم والكراء يلزم الفقير
والغني.
وقوله أوعدله أي ما يعادل قيمته من الثياب قال الفراء يقال
هذا عدل الشيء بكسر العين أي مثله في الصورة وهذا عدله
بفتح العين إذا كان مثله في القيمة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة عن هلال بن
خباب عن ميسرة أبي صالح عن سويد بن غفلة قال سرت أو أخبرني
من سار مع مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن لا تأخذ من راضع لبن قال وكان
يأتي المياه حين ترد الغنم فيقول أدوا صدقات أموالكم قال
فعمد رجل منهم إلى ناقة كَوماء قال وهي عظيمة السنام فأبى
أن يقبلها قال فخطم له أخرى دونها وذكر الحديث.
قوله لا تأخذ من راضع الراضع ذات الدر فنهيه عنها يحتمل
وجهين: أحدهما أن لا يأخذ المصدق عن الواجب في الصدقة
لأنها خيار المال ويأخذ دونها وتقديره لا تأخذ راضع لبن
ومن زيادة وصلة في الكلام كما تقول لا تأكل من حرام ولا
تنفق من سحت أي لا تأكل حراماً.
والوجه الاخر أن يكون عند الرجل الشاة الواحدة أو اللقحة
قد اتخذها للدر فلا يؤخذ منها شيء وقد جاء في بعض الحديث
لا تُعَدُّ فاردتكم. والكوماء هي التي ارتفع سنامها فكان
كالكومة فوقها يقال كومت كومة من التراب إذا جمعت بعضه فوق
بعض حتى ارتفع وعلا قال أبو النجم يصف الإبل:
(2/35)
الحمد لله الوهوب المجزل ... كُومَ الذُّرى
من خَوَل المخوَّل
وقوله فخطم له أخرى أي قادها إليه بخطامها والإبل إذا
أرسلت في مسارحها لم يكن عليها خُطُم وإنما تخطم إذا أريد
قودها.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا وكيع عن زكريا بن
إسحاق المكي عن عمرو بن أبي سفيان الجمحي عن مسلم بن ثَفنة
اليشكري عن سعد بن دَيْسم قال كنت في غنم لي فجاءني رجلان
على بعير فقالا إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليك لتؤدي صدقة غنمك فقلت وما علي فيها فقالا شاة فعمدت
إلى شاة قد عرفتها وعرفت مكانها ممتلئة مخضا وشحما
فأخرجتها إليهما فقالا هذه شاة الشافع وقد نهانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شاة شافعا قلت فأي شيء تأخذان
قالا عناقا أو جذعة أو ثنية قال فعمدت إلى عناق معتاط
والمعتاط التي لم تلد وقد حان ولادها فأخرجتها إليهما
فجعلاها على بعيرهما ثم انطلقا.
المخض اللبن والشافع الحامل وسميت شافعا لأن ولدها قد
شفعها فصارا زوجاً والمعتاط من الغنم هي التي قد امتنعت عن
الحمل لسمنها وكثرة شحمها، يقال اعتاطت الشاة وشاة معتاط
ويقال ناقة عائط ونوق عيط.
قلت وهذا يدل على أن غنمه كانت ماعزة ولوكانت ضائنة لم
يجزه العناق ولا يكون العناق إلاّ الأنثى من المعز. وقال
مالك: الجذع يؤخذ من الماعز والضأن.
وقال الشافعي يؤخذ من الضأن ولا يؤخذ من المعز إلاّ الثني.
وقال أبو حنيفة لا يؤخذ الجذعه من الماعز ولا من الضأن.
قال أبو داود: قرأت في كتاب عبد الله بن سالم الحمصي عند
آل عمرو بن
(2/36)
الحارث الحمصي عن الزبيدي قال: وأخبرني
يحيى بن جابر عن جبير بن نفير عن عبد الله بن معاوية
الغاضري من غاضرة قيس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث من فعلهن فقد طعِم طُعم الإيمان من عبد الله وحده
وأنه لا إلّه إلاّ الله وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه
رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنه ولا المريضة
ولا الشُرَط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم
يسألكم خيره ولم يأمركم بشره.
قوله رافدة عليه أي معينة وأصل الرفد الإعانة والرفد
المعونة والدرنة الجرباء وأصل الدرن الوسخ والشرط رذالة
المال قال الشاعر:
وفي شُرط المِعزى لهن مُهور
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا زكريا
بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عَن أبي معبد
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا
إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة
أن لا إلّه إلاّ الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك
فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة
فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في
أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإن هم أطاعوك
فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها
وبين الله حجاب.
قلت في هذا الحديث مستدل لمن يذهب إلى أن الكفار غير
مخاطبين بشرائع الدين وإنما خوطبوا بالشهادة فإذا أقاموها
توجهت عليهم بعد ذلك الشرائع والعبادات لأنه صلى الله عليه
وسلم قد أوجبها مرتبة وقدم فيها الشهادة ثم تلاها بالصلاة
والزكاة.
(2/37)
وفيه دليل على أنه لا يجوز دفع شيء من
صدقات أموال المسلمين إلى غير أهل دينهم، وهو قول عامة
الفقهاء.
وفيه دليل على أن سنة الصدقة أن تدفع إلى جيرانها وأن لا
تنقل من بلد إلى بلد. وكره أكثر الفقهاء نقل الصدقة من
البلد الذي به المال إلى بلد آخر إلاّ أنهم مع الكراهة له
قالوا إن فعل ذلك أجزأه، إلاّ عمر بن عبد العزيز فإنه يروى
عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من
خراسان.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى إسقاط الزكاة عمن في يده مائتا
درهم وعليه من الدين مثلها لأن له أخذ الصدقة وذلك من حكم
الفقراء. وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس قسمين:
آخذاً ومأخوذا منه فإذا جعلناه معطى مأخوذاً منه كان خارجا
عن هذا التقسيم. ولكن قد جوز أبوحنيفة أن يأخذ من عشر
الأرض من يعطي العشر وذلك أن العشر في القليل والكثير عنده
واجب.
وقد يستدل بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب الزكاة في مال
الأيتام وذلك أنه لما كان معدوداً من جملة الفقراء الذين
تقسم فيهم الزكاة كان معدودا في جملة الأغنياء الذين تجب
عليهم الزكاة إذ كان آخر الكلام معطوفا على أوله.
وقد اختلف الناس في ذلك فأوجبها في ماله مالك والثوري
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وروي ذلك عن عمر
بن الخطاب وعلى وابن عمر وجابر وعائشة، وهو قول عطاء وطاوس
ومجاهد وابن سيرين.
وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى عليه الزكاة ولكن يحصيها
الولي فإذا بلغ الطفل أعلمه ليزكي عن نفسه.
وقال أصحاب الرأي لا زكاة عليه في ماله إلاّ فيما أخرجت
أرضه ويلزمه زكاة الفطر.
(2/38)
قال أبو داود: حدثنا مهدي بن حفص ومحمد بن
عبيد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن رجل يقال له
ديسم عن بشير بن الخصاصية قال قلنا إن أهل الصدقة يعتدون
علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال لا.
قلت: يشبه أن يكون نهاهم عن ذلك من أجل أن للمصدق أن
يستحلف رب المال إذا اتهمه فلو كتموه شيئاً منها واتهمهم
المصدق لم يجز لهم أن يحلفوا على ذلك فقيل لهم احتملوا لهم
الضيم ولا تكذبوهم ولا تكتموهم المال.
وقد روي أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك.
وفي هذا تحريض على طاعة السلطان وإن كان ظالماً وتوكيد
لقول من ذهب إلى أن الصدقات الظاهرة لا يجوز أن يتولاها
المرء بنفسه لكن يخرجها إلى السلطان.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري وأبو الوليد
الطيالسي المعنى قالا: حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن
عبد الله بن أبي أوفى قال كان أبي من أصحاب الشجرة وكان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم
صل على آل فلان قال فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل
أبى أوفى.
قلت: الصلاة في هذا الموضع معناه الدعاء والتبرك وهو تأويل
قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل
عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] ومن هذا قول
الأعشى:
وقابلها الريح في دنِّها ... وصلى على دَنِّها وارتسم
قال أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد ودعا لها بأن لا
تحْمُض ولا تفسد.
وفيه دليل على أن الصلاة التي هي بمعنى الدعاء والتبريك
يجوز أن يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم.
(2/39)
فأما الصلاة التي هي تحية لذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإنها بمعنى التعظيم والتكريم وهي
خصيصا له لا يشركه فيها إلاآلُهُ، وإنما يستحق المزكي
الصلاة والدعاء إذا أعطى الصدقة طوعا ولا يستحقها من
استخرجت منه الصدقة كرها وقهراً.
قال أبو داود: حدثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن المثنى
قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر، عَن أبي الغُصن عن صخر بن
إسحاق عن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك عن أبيه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: سيأتيكم رُكَيب مبغضون فإذا
جاؤوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون فإن عدلوا
فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم
وليدعوا لكم.
قوله ركيب تصغير ركب وهو جمع راكب كما قيل صحب في جمع صاحب
وتجر في جمع تاجر، وإنما عنى به السعاة إذا أقبلوا يطلبون
صدقات الأموال فجعلهم مبَغَّضين لأن الغالب في نفوس أرباب
الأموال بغضهم والتكره لهم لما جبلت عليه القلوب من حب
المال وشدة حلاوته في الصدر إلاّ من عصمه الله ممن أخلص
النية واحتسب فيها الأجر والمثوبة.
وفيه من العلم أن السلطان الظالم لا يغالب باليد ولا ينازع
بالسلاح.
ومن باب أين تُصَدق الأموال
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن
ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا تؤخذ
صدقاتهم إلاّ في دورهم.
قلت الجلب يفسر تفسيرين يقال أنه في رهان الخيل وهو أن
يجلب عليها عند الركض، ويقال هو في الماشية. يقول لا ينبغي
للمصدق أن يقيم بموضع
(2/40)
ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه
مواشيهم فيصدقها ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقهم هناك.
وأما الجنب فتفسيره أيضاً على وجهين: أحدهما أن يكون في
الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون على مواضعهم أي لا
يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في
طلبهم.
وقيل إن الجنب في الرهان وهو أن يركب فرسا فيركضه وقد أجنب
معه فرسا آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جام فيسبق صاحبه.
ومن باب صدقة الزرع
قال أبو داود: حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي حدثنا
عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم
بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر
وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر.
قال أبو داود البعل ماشرب بعروقه ولم يتعن في سقيه، وكذلك
قال أبو عبيد والسواني جمع السانية وهي البعير الذى يسنى
عليه أي يستقى. والنضح مثله وهو السقي بالرشاء وهذا مما
تقدم بيانه وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة ما
خفت مؤنته وكثرت منفعته على التضعيف توسعة على الفقراء
وجعل ما كثرت مؤنته على التنصيف رفقا بأرباب الأموال.
قلت وأن الزرع الذي يسقى بالقنى فالقياس على هذا أن ينظر
فإن كان لا مؤنة فيها أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في
بعض الأوقات فسبيلها سبيل
(2/41)
النهر والسيح في وجوب العشر فيها وإن كان
تكثر مؤنتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار ويكثر نضوب مائها
فيحتاج إلى استحداث حفر فسبيلها سبيل ماء الآبار التي تنزح
منها بالسواني والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن
سليمان، يَعني ابن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن
عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعثه إلى اليمن فقال خذ الحب من الحب والشاة من الغنم
والبعير من الإبل والبقرة من البقر.
قلت فيه من الفقه أن الزكاة إنما تخرج من أعيان الأموال
وأجناسها ولا يجوز صرف الواجب منها إلى القِيَم.
وفيه دليل على أن من وجبت عليه شاة في خمس من الإبل فأعطى
بعيراً منها فإنه يقبل منه. وقال داود لا يقبل منه ذلك
ويكلف الشاة لأنه خلاف المفروض عليه وحكي ذلك عن مالك
أيضاً.
قلت الأصل أن الواجب عليه في كل جنس من أجناس الأموال جزء
منه إلاّ أن الضرورة دعت في هذا إلى العدول عن الأصل إلى
غيره وذلك لأمرين أحدهما أن الزكاة أمرها مبني على أخذ
القليل من الكثير فلو كان البعير مأخوذا من الخمس لكان خمس
المال مأخوذا وهو كثير وفي ذلك إجحاف بأرباب الأموال،
والمعنى الآخر أنه لو جعل فيها جزء من البعير لأدى ذلك إلى
سوء المشاركة باختلاف الأيدي على الشخص الواحد فعدل عنه
إلى الشاة إرفاقا للمعطي والآخذ والله أعلم، فإذا أعطى رب
المال بعيرا منها فقد تبرع بالزيادة على الواجب وكان عليه
مأجورا إن شاء الله.
(2/42)
ومن باب زكاة العسل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا موسى
بن أعين عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال جاء هلال أحد بني مُتعان إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعشور نحل له وسأله أن يحمي واديا يقال له سَلَبة
فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي فلما ولي
عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأل عن ذلك فكتب
عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله من عشور نحله
فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء.
قلت في هذا دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل وأن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ العشر من هلال المُتعي
إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقا ومعونة له
بدل ما أخذ منه وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى
عامله يأمره بأن يحمي له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا
فلا ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم
يخيره في ذلك وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة
مع أبي بكر ما نعي الزكاة.
وممن لم ير فيه الصدقة مالك وابن أبي ليلى والثوري
والشافعي وأبو ثور. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وأوجبها
مكحول والزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقال أحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه في العسل العشر.
وقوله حمى له الوادي، معناه أن النحل إنما ترعى من البقل
والنبات أنوارها وما رخُص ونعُم منها فإذا حميت مراعيها
أقامت فيها وأقبلت تعسِل في الخلايا كثرت منافع أصحابها
وإذا شوركت في تلك المراعي نفرت عن تلك المواضع
(2/43)
وأمعنت في طلب المرعى فيكون ريعها حينئذٍ
أقل.
وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون ذلك بأن يحمى لهم
الوادي الذي يُعسَّل فيه فلا يترك أحد أن يتعرض للعسل
فيشتاره وذلك أن سبيل العسل سبيل المياه والمعادن والصيود
وليس لأحد عليها ملك وإنما تملك باليد لمن سبق إليها فإذا
حمى له الوادي ومنع الناس منه حتى يجتازه هؤلاء القوم وجب
عليهم بحق الحماية إخراج العشر منه، ويدل على صحة هذا
التأويل قوله فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء.
ومعنى هذا الكلام أن النحل إنما تتبع مواقع الغيث وحيث
يكثر المرعى وذلك شأن الذطب لأنها تألف الغياض والمكان
المعشب.
ومن باب الخرص
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد
الرحمن عن عبد الرحمن بن مسعود عن سهل بن أبي حَثْمة قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فخذوا
ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع.
قال أبو داود الخارص يدع الثلث للخُرْفة وكذا قال يحيى بن
القطان.
قلت في هذا الحديث إثبات الخرص والعمل به وهو قول عامة أهل
العلم إلاّ ما روي عن الشعبي أنه قال الخرص بدعة وأنكر
أصحاب الرأي الخرص.
وقال بعضهم إنما كان ذلك الخرص تخويفاً للأكَرَة لئلا
يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا وذلك أنه ظن وتخمين وفيه
غرر وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.
قلت العمل بالخرص ثابت وتحريم الربا والقمار والميسر
متقدم، وبقي الخرص يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم
طول عمره وعمل به أبو بكر وعمر رضى الله عنهما في
(2/44)
زمانهما وعامة الصحابة على تجويزه والعمل
به لم يذكر عن أحد منهم فيه خلاف. فأما قولهم أنه ظن
وتخمين فليس كذلك بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار
وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما
يعلم ذلك بالمكاييل والموازين وإن كان بعضها أحصر من بعض
وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه
معرضا للخطأ. وفي معناه تقويم المتعلقات من طريق الاجتهاد.
وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم.
قلت: وقد ذهب بعض العلماء في تأويل قوله دعوا الثلث أو
الربع إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم فلو
أخذوا باستيفاء الحق كله لأضر ذلك بهم. وقد يكون منها
السقاطة وينتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم
الربع توسعة عليهم وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك.
ويقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا
يترك لهم شيئا شائعا في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات
معدودة قد علم مقدار ثمرها بالخرص.
ومن باب خرص العنب
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن السري الناقط حدثنا بشر
بن منصور عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن
المسيب عن عتاب بن أسِيد قال أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما
يؤخذ صدقة النخل تمرا.
قلت إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول
دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق المثنجر والعنب في
هذا المعنى كثمر النخل.
فأما سائر الثمار فإنها لا يجري فيها الخرص لأن هذا المعنى
فيها معدوم.
(2/45)
وفائدة الخرص ومعناه أن الفقراء شركاء
أرباب الأموال في الثمر فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن
الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لأضر ذلك بهم
ولو انبسطت أيديهم فيها لأخل ذلك بحصة الفقراء منها إذ ليس
مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانه
فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى
الانتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند
أول وقت بدو صلاحها قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة
منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا.
وفيه دليل على صحة القسمة في الثمار بين الشركاء بالخرص
لأنه إذا صح أن يكون عيارا في إفراز حصة الفقراء من حصة
أرباب الأموال كان كذلك عيارا في إفراز حصص الشركاء.
قلت ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب الصدقة في التمر
والزبيب.
واختلفوا في وجوب الصدقة في الزيتون، فقال ابن أبي ليلى
لازكاة فيه لأنه أُدْم غير مأكول بنفسه وهو آخر قولي
الشافعي. وأوجبها أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي
والثوري إلاّ أنهم اختلفوا في كيفية ما يؤخذ من الواجب فيه
فقال أصحاب الرأي يؤخذ من ثمرته العشر أو نصف العشر.
وقال الأوزاعي يؤخذ العشر منه بعد أن يعصر زيتا صافياً.
وأما الحبوب فقد اختلف العلماء فيها فقال أصحاب الرأي تجب
الصدقة في الحبوب ما كان مقتاتاً منها أو غير مقتات.
وقال الشافعي كل ما جمع من الحبوب أن يزرعه الآدميون وييبس
ويدخر ويقتات ففيه الصدقة. فأما ما يتفكه به أوما يؤتدم به
أو يتداوى به فلا شيء فيه.
(2/46)
ومن باب زكاة الفطر
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن
عبد الرحمن السمرقندي قالا: حَدَّثنا مروان هو ابن محمد
قال عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق وكان
ابن وهب يروي عنه حدثنا سيار بن عبد الرحمن هو الصدفي عن
عكرمة عن ابن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من
أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة
فهي صدقة من الصدقات.
قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فيه
بيان أن صدقة الفطر فرض واجب كافتراض الزكوات الواجبة في
الأموال.
وفيه أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرضه
الله تعالى في كتابه لأن طاعته صادرة عن طاعته.
وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم غير أن
بعضهم تعلق فيها بخبر مروي عن قيس بن سعد أنه قال أمرنا
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل الزكاة فلما
نزلت الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا فنحن نفعله.
قلت وهذا لا يدل على زوال وجوبها وذلك أن الزيادة في جنس
العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه غير أن محل ساتر
الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب. وقد عللت بأنها
طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي
جدة ويسر أو فقير يجدها فضلا عن قوته إذ كان وجوبها عليه
بعلة التطهير وكل من الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا
في العلة اشتركوا في الوجوب.
(2/47)
ويشبه أن يكون إنما ذهب من رأى إسقاطها عن
الأطفال إلى هذا لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا
يلزمهم طهرة الصيام. فأما أكثر أهل العلم فقد أوجبوها على
الأطفال إيجابها على البالغين.
وأما وقت إخراجها فالسنة أن تخرج قبل الصلاة، وهو قول عامة
أهل العلم وقد رخص ابن سيرين والنخعي في إخراجها بعد يوم
الفطر. وقال أحمد أرجو أن لا يكون بذلك بأس.
وقال بعض أهل العلم تأخير إخراجها عن وقتها من يوم الفطر
كتأخير إخراج زكاة الأموال عن ميقاتها فمن أخرها كان آثما
إلاّ من عذر.
ومن باب كم يؤدى في صدقة الفطر
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة
الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر
أو أنثى من المسلمين.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن
جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن
عبد الله بن عمر بمعناه وزادوا الصغير والكبير.
قلت فيه من الفقه أن وجوب زكاة الفطر وجوب فرض لا وجوب
استحباب وفيه بيان أنها واجبة على الصغير والكبير.
وفيه دليل على أنها واجبة على من ملك مائتي درهم أو لم
يملكها.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال أصحاب الرأي من حلت له
الصدقة فلا تجب عليه صدقة الفطر والحد في ذلك عندهم ملك
المائتين.
(2/48)
وقال مالك بن أنس صدقة الفطر على الغني
والفقير؛ وهو قول الشعبي وابن سيرين وعطاء والزهري.
وقال الشافعي إذا فضل عن قوت المرء وقوت أهله مقدار ما
يؤدي عن زكاة الفطر وجبت عليه، وكذلك قال ابن المبارك
وأحمد بن حنبل.
واختلفوا في وجوبها على الصغير الطفل فقال أكثر الفقهاء هي
واجبة على الصغير وجوبها على الكبير. وقال محمد بن الحسن
لا تجب صدقة الفطر في مال الصغير يتيما أو غير يتيم. وروي
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال صدقة الفطر إنما
هي على من أطاق الصوم.
وقوله على كل حر أو عبد ظاهره إلزام العبد نفسه إلاّ أنه
لا ملك له فيلزم السيد إخراجه عنه. وقال داود هولازم للعبد
وعلى سيده أن يمكنه من الكسب حتى يكسب فيؤديه.
وفيه دليل على أنه يزكي عن عبيده المسلمين كانوا للتجارة
أو للخدمة لأن عموم اللفظ يشملهم كلهم. وفي دلالته وجوبها
على الصغير منهم والكبير والحاضر والغائب، وكذلك الآبق
منهم والمرهون والمغصوب وفي عبيد عبيده وفي كل من أضيف إلى
ملكه.
وفيه دليل على أنه لا يزكي عن عبيده الكفار لقول من
المسلمين فقيده بشرط الإسلام فدل أن عبده الذمي لا يلزمه
وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وروي ذلك عن الحسن
البصري.
وقال الثوري وأصحاب الرأي يؤدي عن العبد الذمي وهو قول
عطاء والنخعي.
(2/49)
وفيه دليل على أن إخراج أقل من صاع لا يجوز
وذلك أنه ذكر في الخبر التمر والشعير وهما قوت أهل ذلك
الزمان في ذلك المكان فقياس ما تقتاتونه من البر وغيره من
الأقوات أنه لا يجزي منه أقل من صاع.
وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق
لا يجزيه من البر أقل من صاع، وروي ذلك عن الحسن وجابر بن
زيد.
وقال أصحاب الرأي والثوري يجزيه نصف صاع من بر، فأما سائر
الحبوب فلا يجزيه أقل من صاع غير أن أبا حنيفة قال يجزيه
من الزبيب نصف صاع كالقمح.
وروى جماعة من الصحابة إخراج نصف صاع من البر.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا داود بن قيس
عن عياض بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج
إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن
كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام أو صاعا من أقط
أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب فلم نزل
نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أومعتمرا فكلم الناس على المنبر
فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من
سَمْراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو
سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت.
قال أبو داود ورواه بعضهم عن ابن عُلية عن ابن إسحاق عن
عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض،
عَن أبي سعيد وقال أو صاعا من حنطة وليس بمحفوظ.
قلت قوله صاعا من طعام زعم بعض أهل العلم أن الطعام عندهم
اسم خاص للبر قال ويدل على صحة ما تأولناه من ذلك أنه قد
ذكر في الخبر الأقط والشعير
(2/50)
والتمر والزبيب وهي أقواتهم التي كانوا
يقتاتونها في الحضر والبدو ولم يذكر الحنطة وكانت أغلاها
وأفضلها كلها فلولا أنه أرادها بقوله صاعا من طعام لكان
يجزي ذكرها عند التفصيل كما جرى ذكر غيرها من سائر
الأقوات.
وزعم غيره أن هذا جملة قد فصلت والتفصيل لا يخالف الجملة،
وإنما قال في أول الحديث صاعا من طعام ثم فصله فقال صاعا
من أقط أو صاعا من شعير أو كذا أو كذا واسم الطعام شامل
لجميع ذلك. وإنما كان يجوز ما قاله من تأول الطعام على
البر خاصة لو كان قال صاعا من طعام أو صاعا من كذا بحرف أو
الفاصلة بين الشيئين ثم نسق عليه ما بعده شيثا شيئا.
قلت قد رواه غير أبي داود بحرف أو الفاصلة من أول الحديث
إلى آخره حدثنا الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا
أنس بن عياض عن داود بن قيس سمع عياض بن عبد الله بن سعد
بن أبي سرح يقول إن أبا سعيد الخدري قال كنا نخرج في زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من
زبيب أو صاعا من اقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر وذكر
الحديث.
قلت إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يخرج
صاع من قمح فأخرج عنه نصف صاع على سبيل البدل على ما رواه
معاوية فإنه لا يجزىء لما فيه من الربا لأن حقيقته بيع صاع
قمح بنصف صاع منه، ولكنه إذا خرج نصف صاع منه جزا عن نصف
الحق وعليه أن يخرج النصف الاخر.
وفي الحديث دليل على أن إخراج القيمة لا يجوز وذلك لأنه
ذكر أشياء مختلفة القيم فدل أن المراد بها الأعيان لا
قيمتها.
وفيه دليل على أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ونحوهما
لأن هذه الحبوب
(2/51)
كلها أموال كاملة المنفعة لم يذهب من
منافعها شيء، وهذا المعنى غير موجود في الدقيق والسويق
ونحوهما.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي قالا:
حَدَّثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن
ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: صاع من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو
كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما
فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه.
قلت في هذا حجة لمذهب من أجاز نصف الصاع من البر.
وفيه دليل على أنها واجبة على الطفل كوجوبها على البالغ.
وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه
يقول وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه فقد أوجب
عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره.
وفي قوله ذكر أو أنثى دليل لمن أسقط صدقة الزوجة عن الزوج
لأنه في الظاهر إيجاب على المرأة فلا يزول الفرض عنها إلاّ
بدليل، وهو مذهب أصحاب الرأي وسفيان الثوري.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يخرج
الزوج عن زوجته لأنه يمونها. وقد يروى فيه عن جعفر بن محمد
عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمن تمونون.
قلت إن صح قوله عمن تمونون وإلا فلا يلزمه ذلك عن زوجته
ولوكان لها عبيد كان عليها إخراج الصدقة عنهم فلأن يلزمها
إخراجها عن نفسها أولى.
وم باب تعجيل الزكاة
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة عن
ورقاء، عَن
(2/52)
أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على
الصدقة فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان
فقيرا فأغناه الله. وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فقد احبس
أدراعه وعتاده في سبيل الله. وأما العباس عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فهي علىَّ ومثلها ثم قال أما شعرت أن عم
الرجل صنو الأب أو صنو أبيه.
قوله ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان فقيرا فأغناه الله فيه
دليل على أن مانع الصدقة إذا لم يكن ممتنعا بقتال وقوة
وسلاح فإنها تستخرج منه ولا يعاقب عليه. وإنما كان قتال
أبي بكر مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا من أدائها واعترضوا
دونها بالسلاح.
وقوله إن خالداً أحبس أدراعه وعتاده في سبيل الله فإن
العتاد كل ما أعده الرجل من سلاح أو مركوب وآلة للجهاد
يقال اعتدت الشيء إذا هيأته، ومن هذا سميت عتيدة العطر
والزينة، وتأويل هذا الكلام على وجهين أحدهما أنه إنما
طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والعتاد على أنها كانت عنده
للتجارة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه
فيها إذ قتد جعلها حبسا في سبيل الله.
وفيه دليل على وجوب الزكاة في الأموال التي ترصد للتجارة
وهو كالإجماع من أهل العلم. وزعم بعض المتأخرين من أهل
الظاهر أنه لا زكاة فيها وهومسبوق بالإجماع.
وفي الحديث دليل على جواز إحباس آلات الحروب من الدروع
والسيوف والحجف. وقد يدخل فيها الخيل والإبل لأنها كلها
عتاد للجهاد. وعلى قياس ذلك
(2/53)
الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء
التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها.
وفيه دليل على أن الوقف والحبس قد يصح من غير إخراج من يد
الواقف والمحبس وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن
لمطالبته بالزكاة عنه معنى.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه
يقول إذا كان قد احبس أدراعه وعتاده في سبيل الله تبرراً
وتقرباً إليه سبحانه وذلك غير واجب عليه فكيف يجوز عليه
منع الصدقة الواجبة عليه.
وقوله في صدقة العباس هي عليَّ ومثلها فإنه يتأول على
وجهين أحدهما أنه كان قتد تسلف منه صدقة سنتين فصارت ديناً
عليه.
وفي ذلك دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلها وقد اختلف
العلماء في ذلك فأجاز كثير منهم تعجيلها قبل أوان محلها،
وذهب إليه الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي، وكان
مالك بن أنس لا يرى تعجيلها عن وقت محلها. وروي عن الحسن
البصري أنه قال إن للصلاة وقتا وللزكاة وقتا فمن صلى قبل
الوقت أعاد، ومن زكى قبل الوقت أعاد.
قلت: قول الحسن البصري ظاهر والمعنى بخلافه لأن الأجل إذا
دخل في الشيء رفقاً بالإنسان فإن له أن يسوس من حقه ويترك
الارتفاق به كمن عجل حقا مؤجلا لآدمي وكمن أدى زكاة مال
غائب عنه وإن كان على غير يقين من وجوبها عليه لأن من
الجائز أن يكون ذلك المال تالفا في ذلك الوقت.
والوجه الآخر هو أن يكون قد قبض صلى الله عليه وسلم منه
صدقة ذلك العام الذي شكاه فيها العامل وتعجل صدقة عام ثان،
وقال هي عليّ ومثلها أي الصدقة التي قد
(2/54)
حلت وأنت تطالبه بها مع مثلها من صدقة عام
واحد لم تحل وذلك أن بعض من أجاز تعجيل الصدقة لم يجوزها
أكثر من صدقة عام واحد.
وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون صلى الله عليه وسلم قد تحمل
بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين ولذلك قال إن عم الرجل
صنوأبيه يريد أن حقه في الوجوب كحق أبيه عليه إذ هما
شقيقان خرجا من أصل واحد فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل
بها وأؤديها عنه والأول أصوب لأن الضمان فيما لم يجب على
العباس ضمان مجهول وضمان المجهول غير جائز. وقد روي أنه
استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في تعجيل
صدقته فرخص له في ذلك. وقد رواه أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا
عن الحجاج بن دينار عن الحكم عن حُجَية عن علي رضي الله
عنه أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل
صدقته قبل أن يحل فرخص له في ذلك وقال مرة فأذن له في ذلك.
وقوله صنو أبيه، معناه أن العم شقيق الأب وأصل ذلك في
النخلتين تخرجان من أصل واحد يقال صنو وصنوان وقنو وقنوان
وقل ما جاء من الجمع على هذا البناء.
وقد روى حديث العباس على خلاف هذا الوجه وهو أنه قال في
صدقته هي عليه ومثلها معها، وقد رواه أبو عبيد وقال أرى
أنه كان أخر عنه الصدقة عامين وليس وجه ذلك إلاّ أن يكون
من حاجة بالعباس إليها فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان
ذلك على وجه النظر ثم يأخذها منه بعدُ. حدثنيه عبد الله بن
محمد المسكي حدثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد.
(2/55)
ومن باب من يعطى الصدقة وحَدّ الغنى
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا
سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن
أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خُموش أو خُدوش
أوكدوح في وجهه فقيل يا رسول الله وما الغنى قال خمسون
درهما أو قيمتها من الذهب. قال يحيى فقال عبد الله بن
عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال
سفيان فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
قلت الخموش هي الخدوش، يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته
بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح الآثار من الخدش والعض
ونحوه، وإنما قيل للحمار مكدّح لما به من اثار العضاض.
وأما تحديده الغنى الذي يحرم معه الصدقة بخمسين درهما فقد
ذهب إليه قوم من أهل العلم ورأوه حدا في غنى من تحرم عليه
الصدقة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه. وأبى القول به آخرون وضعفوا الحديث
للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا وأما ما رواه سفيان
فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد
بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قالوا وليس في الحديث أن من
ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره له
المسألة فقط وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة ولا
ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة.
وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوم وإنما يعتبر حال
الإنسان بوسعه وطاقته فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه
الصدقة وإذا احتاج حلت له.
(2/56)
قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع
كسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وجعل أصحاب الرأي الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب
فيه الزكاة وإنما أمرنا أن نأخذ الزكاة من الأغنياء وأن
ندفعها إلى الفقراء وهذا إذا ثبت أنه غني يملك النصاب الذي
تجب عليه فيه الزكاة فقد خرج به من حد الفقر الذي يستحق به
أخذ الزكاة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: نزلت أنا
وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسله لنا شيئا نأكله فجعلوا يذكرون من
حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله
فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: لا أجد ما أعطيك فتولى الرجل عنه وهومغضب وهو يقول
لعمري إنك لتعطي من شئت فقال صلى الله عليه وسلم يغضب
عليَّ أن لا أجد ما أعطيه من سأل منكم وعنده أوقية أو
عَدلها فقد سأل الحافا قال الأسدي فقلت لَلِقْحة لنا خير
من أوقية قال فرجعت ولم أسأله فقدم علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد ذلك شعير وزبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتى
أغنانا الله.
اللقحة الناقة المِرية وهي التي تمري أي التي تحلب وجمعها
لقاح، والأوقية عند أهل الحجاز أربعون درهما. وذهب أبو
عبيد القاسم بن سلام في تحديد الغني إلى هذا الحديث، وزعم
أن من وجد أربعين درهما حرمت عليه الصدقة.
وقوله أوعدلها يريد قيمتها، يقال هذا عدل الشيء أي ما
يساويه في القيمة
(2/57)
وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثله في
الصورة والهيئة.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا مسكين حدثنا محمد بن
المهاجر عن ربيعة بن يزيد، عَن أبي كبشة السلولي حدثنا سهل
بن الحنظلية قال قدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه
وأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه. فأما الأقرع بن حابس
فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق. وأما عيينة فأخذ كتابه
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه فقال أتراني يا محمد
حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وعنده ما يغنيه فإنما
يستكثر من النار فقالوا يا رسول الله وما يغنيه قال قدر ما
يغديه ويعشيه.
صحيفة المتلمس لها قصة مشهورة عند العرب وهو المتلمس
الشاعر وكان هجا عمرو بن عبد الملك فكتب له كتابا إلى
عامله يوهمه أنه أمر له فيه بعطية وقد كان كتب إليه يأمره
بقتله فارتاب المتلمس به ففكه وقُرىء له، فلما علم ما فيه
رمى به ونجا فضربت العرب المثل بصحيفته بعد.
وقوله ما يغديه ويعشيه فقد اختلف الناس في تأويله فقال
بعضهم من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر
الحديث.
وقال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات
فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه
المسألة.
وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث التي تقدم ذكرها. قلت
وإنما أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهم
المؤلفة قلوبهم فإن الظاهر من حالهما أنهما ليسا بفقيرين
وهما سيدا قومهما ورئيسا قبائلهما.
(2/58)
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة
حدثنا عبد الله، يَعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن
زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي أنه سمع زياد بن الحارث
الصُدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته
قال فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في
الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من
تلك الأجزاء أعطيتك حقك.
قلت في قوله فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك دليل على
أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد وأن الواجب
تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم ولو كان معنى الاية بيان
المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى وسل على صحة ذلك
قوله أعطيتك حقك فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقاً وإلى
هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم النخعي إذا كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء
قسمه على الأصناف وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد.
وقال أحمد بن حنبل تفريقها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف
واحد.
وقال أبو ثور إن قسمه الإمام قسمه على الأصناف وإن تولى
قسمه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه.
وقال مالك بن أنس يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم
الأولى فالأولى من أهل الخَلة والفاقة فإن رأى الخلة في
الفقراء في عام أكثر قدمهم. وإن رآها في أبناء السبيل في
عام آخر حولها إليهم.
وقال أصحاب الرأي هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء.
(2/59)
وكذلك قال سفيان الثوري، وقد روي ذلك عن
ابن عباس وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح.
وفي قوله إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى
حكم فيها هو دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين
أحدهما ما تولى الله بيانه في الكتاب وأحكم فرضه فيه فليس
به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم وبيان
شهادات الأ صول.
والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولا وفعلا أو يتركه
على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا
واعتبارا بدلائل الأصول وكل ذلك بيان مصدره عن الله سبحانه
وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولم يختلفوا في أن السهام الستة ثابتة مستقرة لأهلها في
الأحوال كلها، وإنما اختلفوا في سهم المؤلفة فقالت طائفة
من أهل العلم سهمهم ثابت يجب أن يعطوه هكذا قال الحسن
البصرى.
وقال أحمد بن حنبل يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. وقالت
طائفة انقطعت المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
روي ذلك عن الشعبي. وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال مالك سهم المؤلفة يرجع على أهل السهام الباقية.
وقال الشافعي لا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام.
وأما العاملون فهم السعاة وجباة الصدقة فإنما يعطون عمالة
قدر أجرة مثلهم. فأما إذا كان الرجل هو الذي يتولى إخراج
الصدقة وقسمها بين أهلها فليس فيها للعاملين حق.
(2/60)
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة
وزهير بن حرب قالا: حَدَّثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي
صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة
والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا
يفطنون به فيعطونه.
قلت الأكلة مضمومة اللقمة والأكلتان اللقمتان، فأن الأكلة
مفتوحة فهي الواحدة والمرة من الأكل.
وفي الحديث دليل على أن المسكين في الظاهر عندهم والمتعارف
لديهم هو السائل الطواف وإنما نفى صلى الله عليه وسلم عنه
اسم المسكنة لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه
الزيادة عليها فتزول حاجته وسنقط عنه اسم المسكنة، وإنما
تدوم الحاجة والمسكنة ممن لا يسأل ولا يفطن له فيعطى.
وقد اختلف الناس في المسكين والفقير والفرق بينهما روي عن
ابن عباس أنه قال المساكين هم الطوافون والفقراء فقراء
المسلمين وعن مجاهد وعكرمة والزهري أن المسكين الذي يسأل
والفقير الذي لا يسأل.
وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة والمسكين الصحيح
المحتاج.
وقال الشافعي الفقير من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا
زمناً كان أو غير زمن وللمسكين من له مال أو حرفة لا تقع
منه موقعا ولا تغنيه سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل
اللغة المسكين الذي لا شيء له والفقير من له البلغة من
العيش واحتج بقول الراعي.
أما الفقير الذي كانت حَلوبته ... وَفْقَ العيال فلم يترك
له سَبَد
قال فجعل للفقير حلوبة، وقال غيره من أهل اللغة إنما اشترط
له الحلوبة قبل
(2/61)
الفقر فلما انتزعت منه ولم يترك له سبد صار
فقيرا لا شيء له، قال والمسكين أحسن حالا من الفقير، واحتج
بقول الله تعالى {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في
البحر} [الكهف: 79] فأثبت لهم مع المسكنة ملكاَ وكسبا وهما
السفينة والعمل بها في البحر. وقال بعض من ينصر القول
الأول إنما سماهم مساكين مجازا وعلى سبيل الترحم والشفقة
عليهم إذ كانوا مظلومين، وقيل إن المسكنة مشتقة من السكون
والخشوع اللازمين لأهل الحاجة والخصاصة والميم زيادة في
الاسم. وقيل إن الفقير مشبه بمن أصيب فِقاره فانقصف ظهره
من قولهم فقرت الرجل إذا أصبت فقاره كما يقال بطنته إذا
أصبت بطنه ورأسته إذا أصبت رأسه إلى ما أشبه ذلك من نظائر
هذا الباب. ويشبه أن يكون الفقير أشدهما حاجة ولذلك بدىء
بذكره في الآية على سائر أصناف أهل الفاقة والخلة والفقر
هو الذي يقابل الغنى إذا قيل فقير وغني فصار أصلا للفاقة
وعنه يتفرع المسكنة وغيرها من وجوه الحاجة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام
بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال
أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه
فرآنا جَلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا
لقوي مكتسب.
قلت هذا الحديث أصل في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول
على العدم.
وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن
يضم إليه الكسب فقد يكون من الناس من يرجع إلى قتوة بدنه
ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل فمن كان هذا سبيله لم
يمنع من الصدقة بدلالة الحديث. وقد استظهر
(2/62)
صلى الله عليه وسلم مع هذا في أمرهما
بالإنذار وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما.
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إبراهيم،
يَعني ابن سعد أخبرني أبي عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن
عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني
ولا لذي مِرة سَوِي.
قلت معنى المرة القوة وأصلها من شدة فتل الحبل؛ يقال أمررت
الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة أسر الخلق
وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب.
وقد اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها
على الكسب فقال الشافعي لا تحل له الصدقة، وكذلك قال إسحاق
بن راهويه وأبو عبيد.
وقال أصحاب الرأي يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي
درهم فصاعداً.
ومن باب من يجوز له الصدقة ممن
هو غني
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لا تحل الصدقة لغني إلاّ لخمسة لغاز في سبيل الله
أولعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان
له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري
عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قلت فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة
ويستعين بها في غزوه وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال أصحاب
الرأي لا يجوز أن يعطى الغازي من الصدقة
(2/63)
إلاّ أن يكون منقطعا به.
قلت سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما
بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق
بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال {وفي سبيل
الله وابن السبيل} [التوبة: 60] والمنقطع به هو ابن السبيل
فأما سهم ابن السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد
جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه.
وفي قوله أو رجل اشتراها بماله دليل على أن المصدق إذا
تصدق بالشيء ثم اشتراه من المدفوع إليه فإن البيع جائز وقد
كرهه أكثر العلماء مع تجويزهم البيع في ذلك. وقال مالك بن
أنس إن اشتراه فالبيع مفسوخ.
وأما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدَّان في
المعروف وإصلاح ذات البين وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر
عليه ماله ويعطي من الصدقة ما يقضي به دينه، وأما الغارم
الذي يدَّان لنفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى لأنه
من جملة الفقراء.
وأما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله
فسواء كان غنياً أو فقيراً فإنه يستحق العمالة إذا لم
يفعله متطوعاً، وأن المهدى له الصدقة فهو إذا ملكها فقد
خرجت عن أن تكون صدقة وهي ملك لمالك تام الملك جائز التصرف
في ملكه.
وقد روي أن بريرة أهدت لعائشة لحماً تصدق به عليها فقربته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بشأنها فقال هذا
أوان بلغت حلها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل
له الصدقة.
(2/64)
ومن باب كم يعطي
الرجل الواحد من الزكاة
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا أبو
نعيم حدثنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار وزعم أن
رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن النبي
صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يَعني دية
الأنصاري الذي قتل بخيبر.
قلت يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه ذلك
من سهام الغارمين على معنى الحمالة في إصلاح ذات البين إذ
كان قد شجر بين الأنصار وبين أهل خيبر في دم القتيل الذي
وجد بها منهم فإنه لا مصرف لمال الصدقات في الديات.
وقد يحتج بهذا من يرى جمع الصدقة في صنف واحد من أهل
السهام الثمانية وهذا محتمل ولكن في وسع رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يسوي بين الأصناف من صدقات مختلفة ولعله
قد كان يجتمع عنده من سهم الغارمين مئون وألوف فليس فيما
يحتج به من ذلك كبير درك.
وقتد اختلف الناس في قدر ما يعطاه الفقير من الصدقة فكره
أصحاب الرأي أن يبلغ به مائتي درهم إذا لم يكن عليه دين أو
له عيال. وكان سفيان الثوري يقول لا يدفع إلى الرجل من
الزكاة أكثر من خمسين درهما، وكذلك قال أحمد بن حنبل. وعلى
مذهب الشافعي يجوز أن يعطي على قدر حاجته من غير تحديد
فإذا زال اسم الفقر عنه لم يعط.
ومن باب ما يجوز فيه المسألة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمرى حدثنا شعبة عن عبد
الملك
(2/65)
بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسايل كُدُوح يكدح بها
الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلاّ أن
يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد منه بدا.
قلت قول إلاّ أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد بداً
هو أن يسأل حقه من بيت المال الذي في يده وليس هذا على
معنى استباحة الأموال التى تحويها أيدي بعض السلاطين من
غصب أملاك المسلمين.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن
رباب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق
الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا صدقه فنأمر لك بها ثم قال
يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة رجل تحمل
بحمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل
أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب
قواماً من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى
يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة
فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا
من عيش ثم يمسك وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها
صاحبها سحتاً.
قلت في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة ويدخل في أبواب من
العلم والحكم وذلك أنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس
أقساماً ثلاثة غنياً وفقيرين وجعل الفقر على ضربين فقراً
ظاهراً وفقراً باطناً، فالغني الذي تحل له المسألة هو صاحب
الحمالة وهي الكفالة والحميل الكفيل والضمين وتفسير
الحمالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال
ويحدث بسببهما العداوة والشحناء ويخاف
(2/66)
منها الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم
ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالاً لأصحاب الطوايل
يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة فهذا
الرجل صنع معروفاً وابتغى بما أتاه صلاحا فليس من المعروف
أن تورّك الغرامة عليه في ماله ولكن يعان على أداء ما
تحمله منه ويعطي من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من
عهدة ما تضمنه منه.
وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة
في ماله فأهلكته والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من
الآفات كالسيل يغرق متاعه والنار تحرقه والبرد يفسد زرعه
وثماره في نحو ذلك من الأمور وهذه أشياء لا تخفى آثارها
عند كونها ووقوعها فإذا أصاب الرجل شىء منها فذهب ماله
وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من
غير بينه يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها.
وأما النوع الآخر فإنما هو فيمن كان له ملك ثابث وعرف له
يسار ظاهر فادعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه
أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر المشاهدة
والعيان فإذا كان ذلك ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم
يعط شيئا من الصدقة إلاّ بعد استبراء حاله والكشف عنه
بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى
قوله حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا
الفاقة واشتراطه الحجى تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا
من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور
ومعانيها وليس هذا من باب الشهادة ولكن من باب التبيين
والتعرف وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من
الشهادات، فإذا قال نفر من قومه أو
(2/67)
جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه أنه صادق
فيما يدعيه أعطى الصدقة.
وفيه من العلم أن من ثبت عليه حق عند حاكم من الحكام فطلب
المحكوم له به حبسه وادعى المطلوب الإفلاس والعدم فإن
الواجب في ذلك أن ينظر فإن كان الطالب إنما استحقه عليه
بسبب فيه تمليك مثل أن يقرضه مالا أو يبيعه متاعا فيقبضه
إياه فإنه يحبس ولا يقبل قوله في العُدم لأنه قد ثبت له
ملك ما صار إليه وحصل في يده من ذلك فالظاهر من حاله الوجد
واليسار حتى تقوم دلالة على إفلاس حادث بعده فإن أقام
البينة على ذلك لم يحبس وخلي عنه وإن كان ذلك مستحقا عليه
بجناية من إتلاف مال أو أرش جراحة جرحه بها في بدنه أو من
قبل مهر امرأة أو ضمان أوما أشبهها مما لم يتقدم فيه تمليك
ولا إقباض فإنه لا يحبس له وينظر فإن كان له ملك ظاهر
انتزع له منع أو بيع عليه وإلا أنظر إلى الميسرة.
وأصل الناس العُدْم والفقر وقد روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: إن أحدكم يسقط من بطن أمه ليس عليه قشرة ثم
يرزقه الله تعالى ويغنيه أو كما قال: وثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: مطل الغني ظلم وقال: ليّ
الواجد يحل عرضه وعقوبته فإنما جعله ظالما مع الواجد
والغني فلا يجوز حبسه وعقوبته وهو ليس بظالم.
وفي قوله أقم حتى تأتينا صدقة فنأمر لك بها دليل على جواز
نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر. وفيه أن الحد الذي
ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي تكون بها
قوام العيش وسداد الخله وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله
ومعيشته ليس فيه حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف
أحوالهم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا عيسى بن
يونس عن الأخضر
(2/68)
بن عجلان، عَن أبي بكر الحنفى عن أنس بن
مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال له أما في بيتك شيء قال بلى حِلس نلبس بعضه ونبسط
بعضه وقعب نشرب فيه قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال من يشتري هذين
فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال من يزيد على درهم مرتين أو
ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ
الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما
فانفذه إلى أهلك واشتر بالاخر قدوما فأتنى به فأتاه به فشد
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال اذهب
فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب
ويبيع فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا
وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير
لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن
المسألة لا تصلح إلاّ لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع
أولذي دم موجع.
في هذا الحديث من الفقه جواز بيع المزايدة وأنه ليس بمخالف
لنهيه أن يبيع الرجل على بيع أخيه لأن ذلك إنما هو بعد
وقوع العقد ووجوب الصفقة وقبل التفرق من المجلس وهذا إنما
هو في حال المراودة والمساومة وقبل تمام المبايعة.
وفيه إثبات الكسب والأمر به. وفيه أنه لم ير الصدقة تحل له
مع القوة على الكسب.
وقوله فقر مدقع فهو الفقر الشديد وأصله من الدقعاء وهو
التراب ومعناه الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده
ما يقي به التراب. والغرم المفظع هو أن تلزمه الديون
الفظيعة القادحة حتى ينقطع به فتحل له الصدقة فيعطى من سهم
الغارمين. والدم الموجع هو أن يتحمل حمالة في حقن الدماء
وإصلاح ذات البين فتحمل له المسألة فيها وقد فسرناه فيما
مضى.
(2/69)
ومن باب الاستعفاف
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن
عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على
المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة اليد العليا
خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة.
قال أبو داود اختلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث قال
عبد الوارث اليد العليا المتعففة وقال أكثرهم عن حماد بن
زيد عن أيوب المنفقة وقال واحد عن حماد المتعففة.
قلت رواية من قال المتعففة أشبه وأصح في المعنى وذلك أن
ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا
الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه
الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى.
وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا هو أن يد المعطي
مستعلية فوق يد الآخذ يجعلونه عن علو الشيء إلى فوق وليس
ذلك عندي بالوجه وإنما هومن علاء المجد والكرم يريد به
الترفع عن المسألة والتعفف عنها وأنشدني أبو عمر قال
أنشدنا أبو العباس قال أنشدنا ابن الأعرابي في معناه:
إذا كان باب الذل من جانب الغنى …سموت إلى العلياء من جانب
الفقر
يريد به التعزز بترك المسألة والتنزه عنها.
ومن باب الصدقة على بني هاشم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن
ابن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على
الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها
فقال حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله
فقال مولى القوم
(2/70)
من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة.
قلت أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا خلاف بين المسلمين
أن الصدقة لا تحل له وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء.
وقال الشافعي لا تحل الصدقة لبني المطلب لأن النبي صلى
الله عليه وسلم من سهم ذي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم
ولم يعط أحداً من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه
بدلاً عما حرموه من الصدقة.
فأما موالي بني هاشم فإنه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا
يجوز أن يحرموا الصدقة ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك
تنزيهاً له. وقال مولى القوم من أنفسهم على سبيل التشبيه
في الاستنان بهم والاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة
التي هى أوساخ الناس. ويشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم قد
كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة إذ كان أبو رافع مولى له
وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة فقال له على هذا المعنى
إذا كنت تستغني بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك
مولانا ومنا.
قلت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا
يأخذ الصدقة لنفسه وكان المعنى في ذلك أن الهدية إنما يراد
بها ثواب الدنيا فكان صلى الله عليه وسلم يقبلها ويثيب
عليها فتزول المنة عنه. والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فلم
يجز أن يكون يد أعلى من يده في ذات الله وفي أمر الآخرة.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم
المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يمر بالتمرة العائره فما يمنعه من
أخذها إلاّ مخافة أن تكون صدقة.
(2/71)
العائرة هي الساقطة على وجه الأرض لا يعرف
من صاحبها ومن هذا قيل عار الفرس إذا انفلت على صاحبه فذهب
على وجهه ولا يدفع وهذا أصل في الورع وفي أن كل ما لا
يستبينه الإنسان من شيء طلقا لنفسه فإنه يجتنبه ويتركه.
وفيه دليل على أن التمرة ونحوها من الطعام إذا وجدها
الإنسان ملقاة في طريق ونحوها أن له أخذها وأكلها إن شاء
وأنها ليست من جملة اللقطة التي حكمها الاستيناء بها
والتعريف لها.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا محمد بن
الفضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن
عباس عن ابن عباس قال: بعثني أبى إلى النبي صلى الله عليه
وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة.
قلت وهذا لا أدري ما وجهه والذي لا أشك فيه أن الصدقة
محرمة على العباس والمشهور أنه أعطاه من سهم ذوي القربى من
الفيء ويشبه أن يكون ما أعطاه من إبل الصدقة أن ثبت الحديث
قضاء عن سلف كان تسلفه منه لأهل الصدقة فقد روى أنه شُكي
إليه العباس في منع الصدقة فقال هى عليَّ ومثلها كأنه كان
قد تسلف منه صدقة عامين فردها أو رد صدقة أحد العامين عليه
لما جاءته إبل الصدقة فروى الحديث من رواه على الاختصار من
غير ذكر السبب فيه والله أعلم.
(2/72)
ومن ظب من تصدق بصدقة ثم ورثها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير
حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريده عن أبيه
بريدة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت
تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة. قال
قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث.
قلت الصدقة في الوليدة معناها التمليك وإذا ملكتها في
حياتها بالأقباض ثم ماتت كان سبيلها سائر أملاكها.
والوليدة الجاريه الحديثة السن والولائد الوصائف.
ومن باب حقوق المال
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عَوانة عن
عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال كنا نعد
الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو
والقِدر.
قلت يقال في تفسير الماعون أنه الشيء الذي لا يجوز منعه من
الارفاق التي للناس فيها متاع، وزعم بعض أهل اللغة أن
الماعون مشتق من المعن وهو الشيء القليل وزنه فاعول منه
والعرب تقول ماله سَعْنة ولا مَعْنة أي قليل ولا كثير وقال
النمر بن تولب:
* فإن هلال مالك غير مَعْن*
وإنما اشتق للصدقة والمعونة هذا الاسم لأن الواجب من حق
الزكاة والصدقات إنما هو قليل من كثير، وقد جاء الماعون
بمعنى الزكاة قال الراعي.
(2/73)
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم
ويضيعوا التهليلا
يريد الصلاة والزكاة.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل
بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلاّ جعله يوم
القيامة يحمي عليها في نار جهنم فيكوي بها جبهته وجنبه
وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى
النار وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلاّ جاءت يوم القيامة
أوفر ما كانت فيُبطح لها بقاع قَرْقَر تنطحه بقرونها وتطؤه
بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضت أخراها ردت
عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله إما إلى الجنة وإما
إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلاّ جاءت يوم
القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها
كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله
إما إلى الجنة وإما إلى النار.
القرقر المستوى الأملس من الأرض والعقصاء الملتوية القرن
والجلحاء التي لا قرن لها. وإنما اشترط نفي العقص
والالتواء في قرونها ليكون أنكى لها وأدنى أن تمور في
المنطوح.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون
أخبرنا شعبة عن قتادة، عَن أبي عمير الغُداني، عَن أبي
هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر
(2/74)
الحديث إلى أن قال فما حق الإبل قال تعطي
الكريمة وتمنح الغزيرة وتُفقِر الظهر وتُطرِق الفحل وتسقي
اللبن.
الغزيرة الكثيرة اللبن والمنيحة الشاة اللبون أو الناقة
ذات الدر تعار لدرها فإذا حلبت ردت إلى ربها. وإفقار الظهر
اعارته للركوب يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره
يركبه ويبلغ عليه حاجته واطراق الفحل إعارته للضراب لا
يمنعه إذا طلبه ولا يأخذ عليه عسبا، ويقال طرق الفحل
الناقة فهي مطروقة وهي طروقة الفحل إذا حان لها أن تطرق.
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا
محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان
عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو
يعلق في المسجد للمساكين.
قوله جاد عشرة أوسق. قال إبراهيم الحربي يريد قدرا من
النخل يُجَذُّ منه عشرة أوسق وتقديره تقدير مجذوذ فاعل
بمعنى مفعول وأراد بالقنو العذق بما عليه من الرطب والبسر
يعلق للمساكين يأكلونه وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة
التي هي فرض واجب.
ومن باب حق السائل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا مصعب
بن محمد بن شرحبيل حدثني يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت
الحسين عن حسين بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم للسائل حق وإن جاء على فرس.
قلت معنى هذا الكلام الأمر بحسن الظن بالسائل إذا تعرض لك
وأن لا تجبهه
(2/75)
بالتكذيب والرد مع إمكان الصدق في أمره
يقول لا تخيب السائل إذا سألك وإن راقك منظره فقد يكون له
الفرس يركبه ووراء ذلك عيلة ودين يجوز له معهما أخذ
الصدقة. وقد يكون من أصحاب سهم السبيل فيباح له أخذها مع
الغنى عنها وقد يكون صاحب حمالة أو غرامة لديون ادّانها في
معروف واصلاح ذات البين ونحو ذلك فلا يرد ولا يخيب مع
إمكان أسباب الاستحقاق.
واختلفوا فيمن أعطى من الصدقة على أنه فقير فتبين غنياً.
قال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن يجزئه، وروي ذلك عن الحسن
البصرى، وقال الثورى لا يجزد وكذلك قال الشافعي في أحد
قوليه وهو قول أبي يوسف.
ومن باب الصدقة على أهل الذمة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا عيسى
بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت قدمت
عليَّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركه فقلت يا رسول
الله إن أمى قدمت علي وهي راغمة افأصلها قال نعم فصلي أمك.
قولها راغبة في عهد قريش أي طالبة بري وصلتي وقولها راغمة
معناه كارهة للإسلام ساخطة عليّ تريد أنها لم تقدم مهاجرة
راغبة في الدين كما كان يقدم المسلمون من مكة للهجرة
والإقامة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أمر
بصلتها لأجل الرحم. فأما دفع الصدقة الواجبة إليها فلا
يجوز وإنما هي حق للمسلمين لا يجوز صرفها إلى غيرهم ولو
كانت أمها مسلمة لم يكن أيضاً يجوز لها إعطاؤها الصدقة فإن
خلَّتها مسدودة بوجوب النفقة لها على ولدها إلاّ أن تكون
غارمة فتعطى من سهم الغارمين. فأما من سهم الفقراء
والمساكين فلا وكذلك إذا
(2/76)
كان الوالد غازيا جاز للولد أن يدفع إليه
من سهم السبيل.
ومن باب الرجل يخرج من ماله
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد
بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن
جابر بن عبد الله الأنصاري قال كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن
فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فأخذها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته
لأوجعته أو لعقرته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي
أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس. خير
الصدقة ما كان عن ظهر غنى.
قوله يستكف الناس معناه يتعرض للصدقة وهو أن يأخذها ببطن
كفه يقال تكفف الرجل واستكف إذا فعل ذلك.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه أنك إن
تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
وقوله صلى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى أي
عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب التي تنوبه كقوله في
حديث آخر خير الصدقة ما أبقت غنى.
وفي الحديث من الفقه أن الاختيار للمرء أن يستبقي لنفسه
قوتا وأن لا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه
من فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده فيندم
فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير
(2/77)
كلاً على الناس.
قلت ولم ينكر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه خروجه من
ماله أجمع لما علمه من صحة نيته وقوة يقينه ولم يخف عليه
الفتنة كما خافها على الرجل الذي رد عليه الذهب.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن خير الصدقة ما ترك غنى وأبدأ بمن
تعول.
قوله ما ترك غنى يتأول على وجهين أحدهما أن يترك غني
للمتصدق عليه بأن تجزل له العطية والاخر أن يترك غنى
للمتصدق وهو أظهرهما ألا تراه يقول وابدأ بمن تعول أي لا
تضيع عيالك وتُفضل على غيرك.
ومن باب المرأة تصدق من بيت
زوجها
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن
شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى
الله عليه وسلم إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة
كان لها أجر بما أنفقت ولزوجها أجر بما اكتسبت ولخازنه مثل
ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض.
قلت هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز وبغيرها من
البلدان في أن رب البيت قد يأذن لأهله ولعياله وللخادم في
الإنفاق مما يكون في البيت من طعام وأدام ونحوه ويطلق
أمرهم في الصدقة منه إذا حضرهم السائل ونزل بهم الضيف
فحضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لزوم هذه العادة
واستدامة ذلك الصنيع ووعدهم الأجر والثواب عليه وأفرد كل
واحد منهم باسمه ليتسارعوا
(2/78)
إليه ولا يتقاعدوا عنه.
والخازن هو الذي يكون بيده حفظ الطعام والمأكول من خادم
وقهرمان وقيم لأهل المنزل في نحو ذلك من أمر الناس
وعاداتهم في كل أرض وبلد وليس ذلك بأن تقتات المرأة أو
الخازن على رب البيت بشيء لم يؤذن لهما فيه ولم يطلق لهما
الإنفاق منه بل يخاف أن يكونا آثمين إن فعلا ذلك والله
أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سوَّار المصري حدثنا عبد
السلام بن حرب عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير بن حية عن
سعد. قال لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء
قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر فقالت ما نبي الله
أنأكل على آبائنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم قال
الرطب تأكلنه وتهدينه.
قوله امرأة جليلة الجليلة تكون بمعنيين أحدهما أن تكون
خليقة جسيمة يقال امرأة خليقة وخلِّيقاء كذلك والآخر أن
تكون بمعنى المسنة يقال جل الرجل إذا كبر وأسن وجلت المرأة
إذا عجزت وإنما خص الرطب من الطعام لأن خطبه أيسر والفساد
إليه أسرع إذا ترك فلم يؤكل وربما عفن ولم ينتفع به فيصير
إلى أن يلقى ويرمى به وليس كذلك اليابس منه لأنه يبقى على
الخزن وينتفع به إذا رفع وادخر فلم يأذن لهم في استهلاكه،
وقد جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا رطب
الفاكهة والبقول وأن يغرفوا لهم من الطبيخ وأن يتحفوا
الضيف والزائر بما يحضرهم منها فوقعت المسامحة في هذا
الباب بأن يترك الاستئذان له وأن يجري على العادة
المستحسنة في مثله وإنما جاء هذا فيمن ينبسط إليه في ماله
من الآباء والأبناء دون الأزواج والزوجات فإن الحال بين
الوالد والولد ألطف من أن يحتاج معها إلى زيادة استقصاء في
الاستثمار للشركة
(2/79)
النسبية بينهما والبعضية الموجودة فيهما.
فأما نفقة الزوجة على الزوج فإنها معاوضه على الاستمتاع
وهي مقدرة بكمية ومتناهية إلى غاية فلا يقاس أحد الأمرين
بالآخر وليس لأحدهما أن يفعل شيئا من ذلك إلاّ بأذن صاحبه
وقد وضعه أبو داود في باب المرأة تصدق من بيت زوجها.
ومن باب صلة الرحم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت
عن أنس قال لما نزلت {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما
تحبون} [آل عمران: 92] قال أبو طلحنة يا رسول الله أرى
ربنا يسألنا من أموالنا فإني أشهدك أني قد جعلت أرضى
بأريحا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلها في
قرابتك فقسمها بين حسان بن ثابت وأُبيّ بن كعب.
قلت فيه من الفقه أن الحبس إذا وقع أصله مبهما ولم يذكر
سبله وقع صحيحا. وفيه دلالة على أن من أحبس عقارا على رجل
بعينه فمات المحبس عليه ولم يذكر المحبس مصرفها بعد موته
فإن مرجعها يكون إلى أقرب الناس بالواقف.
وذلك أن هذه الأرض التي هي بأريحا لما حبسها أبو طلحة بأن
جعلها لله عز وجل
(2/80)
ولم يذكر سبلها صرفها رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أقرب الناس به من قبيلته فقياس ذلك فيمن
وقفها على رجل فمات الموقوف عليه وبقي الشيء محبس الأصل
غير مبين السبل أن يوضع في أقاربه وأن يتوخى بذلك الأقرب
فالأقرب ويكون في التقدير كأن الواقف قد شرطه له وهذا يشبه
معنى قول الشافعي.
وقال المزني يرجع إلى أقرب الناس به إذا كان فقيرا، وقصة
أبي بن كعب تدل على أن الفقير والغني في ذلك سواء. وقال
الشافعي كان أبيّ يعد من مياسير الأنصار.
وفيه دلالة على جواز قسم الأرض الموقوفة بين الشركاء وأن
للقسمة مدخلاً فيما ليس بمملوك الرقبة. وقد يحتمل أيضاً أن
يكون أريد بهذا القسم قسمة ريعها دون رقبتها وقتد امتنع
عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قسمة أحباس النبي صلى الله
عليه وسلم بين علي والعباس لما جاءاه يلتمسان ذلك.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن
عجلان عن المقبري، عَن أبي هريرة قال أمرالنبي صلى الله
عليه وسلم بالصدقة فقال رجل يا رسول الله عندي دينار فقال
تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال تصدق به على ولدك. قال
عندي آخر قال تصدق به على زوجك. قال عندي آخر قال تصدق به
على خادمك. قال عندي آخر قال أنت أبصر.
قلت هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه صلى الله عليه وسلم
قدم الأولى فالأولى والأقرب وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه
ثم بولده لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك ولم يجد من ينوب
عنه في الإنفاق عليه. ثم ثلث بالزوجة وآخرها عن درجة الولد
(2/81)
لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما
وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه. ثم
ذكر الخادم لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة
على من يبتاعه ويملكه. ثم قال له فيما بعد أنت أبصر. أي إن
شئت تصدقت وإن شئت أمسكت. وقياس هذا في قول من رأى أن صدقة
الفطر تلزم الزوج عن الزوجة ولم يفضل من قوته أكثر من صاع
أن يخرجه عن ولده دون الزوجة لأن الولد مقدم الحق على
الزوجة ونفقة الأولاد إنما تجب بحق البعضية النسبية ونفقة
الزوجة إنما تجب بحق المتعة العوضية وقد يجوز أن ينقطع ما
بين الزوجين بالطلاق والنسب لا ينقطع أبدا ومعنى الصدقة في
هذا الحديث النفقة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا أبو
إسحاق عن وهب بن جابر الخَيْواني عن عبد الله بن عمرو قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثماً أن
يضيع من يقوت.
قوله من يقوت يريد من يلزمه قوته والمعنى كأنه قال للمتصدق
لا تتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهلك تطلب به الأجر فينقلب
ذلك إثماً إذا أنت ضيعتهم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ويعقوب بن كعب وهذا
حديثه قالا: حَدَّثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري عن
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يبسط
الله عليه في رزقه ويُنَسأ في أثره فليصل رحمه.
قوله ينسأ في أثره معناه يؤخر في أجله يقال للرجل نسأ الله
في عمرك وأنسأ عمرك والأثر ههنا آخر العمر قال كعب بن
زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي العين حتى ينتهي
الأثر
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا:
حَدَّثنا سفيان عن
(2/82)
الزهري، عَن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله أنا
الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي من وصلها وصلته ومن
قطعها بَتَته.
قلت في هذا بيان صحة القول بالاشتقاق في الأسماء اللغويه
وذلك أن قوما أنكروا الاشتقاق وزعموا أن الأسماء كلها
موضوعة وهذا يبين لك فساد قولهم.
وفيه دليل على أن اسم الرحمن عربي مأخوذ من الرحمة وقد زعم
بعض المفسرين أنه عبراني. قلت والرحمن بناؤه فعلان وهو
بناء نعوت المبالغة كقولهم غضبان وإنما يقال لمن يشتد غضبه
ولم يغلب عليه الغضب ضجر وجرد ونحو ذلك حتى إذا امتلأ غضبا
قيل غضبان وكقولهم سكران وإنما هو قبل ذلك طَرِب ثم ثمِل
فإذا طفِح قيل سكران ولا يجوز أن يسمى بالرحمن أحد غير
الله ولذلك لا يثنى ولا يجمع كما ثنوا وجمعوا الرحيم فقيل
رحيمان ورحماء وقوله بتته معناه قطعته والبت القطع.
ومن باب الشُح
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة
عن عبد الله بن الحارث، عَن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والشح فإنما
هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم
بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا.
قلت الشح أبلغ في المنع من البخل وإنما الشح بمنزلة الجنس
والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في
إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم
للإنسان من قبل الطبع والجبلة.
(2/83)
وقال بعضهم البخل أن يضن بمال والشح أن يبخل بماله
وبمعروفه، والفجور ههنا الكذب، وأصل الفجور الميل
والانحراف عن الصدق ويقال للكاذب قد فجر أي انحرف عن
الصدق.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد
الله بن أبي مليكة قال حدثتني أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت
يا رسول الله ما لي شيء إلاّ ما أدخل عليَّ الزبير بيته
أفأعطي منه قال اعطي ولا تُوكي فيوكى عليك.
قلت معناه اعطي من يصيبك منه ولا توكي أي لا تدخري
والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط به
يقول لا تمنعي ما في يدك فتنقطع مادة بركة الرزق عنك.
وفيه وجه آخر وهو أن صاحب البيت إذا أدخل الشيء بيته كان
ذلك في العرف مفوضا إلى ربة المنزل فهي تنفق منه بقدر
الحاجة في الوقت وربما تدخر منه الشيء لغابر الزمان فكأنه
قال إذا كان الشىء مفوضا إليك موكولا إلى تدبيرك فاقتصري
على قدر الحاجة في النفقة وتصدقي بالباقي ولا تدخري والله
أعلم. |