الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار

وَمِنْ كِتَابِ السِّيَرِ
بَابُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ وَنَسْخِهِ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَلَاءِ الْبَصَرِيُّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَقْرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَنَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَةَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَذْكُرُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنَ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا أَنْتَ لَقِيَتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَإِنْ قَبِلُوا كُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ إِنْ فَعَلُوا فَإِنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ؛ وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ أَبُو قُرَّةَ: وَهَذَا فِيمَا نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَبْلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصِّحَاحِ.
وَأَمَّا الْهِجْرَةُ فَكَانَتْ وَاجِبَةٌ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ، ثُمَّ صَارَتْ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) نَزَلَتْ حِينَ اشْتَدَّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأُمِرُوا بِالِانْتِقَالِ إِلَى حَضْرَتِهِ، لِيَكُونُوا مَعَهُ، فَيَتَعَاوَنُوا وَيَتَظَاهَرُوا إِنْ حَزَبَهُمْ أَمْرٌ، وَلِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ أَمْرَ دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّهُوا

(1/206)


فِيهِ، وَكَانَ عِظَمُ الْخَوْفِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَنَجَعَتْ بِالطَّاعَةِ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَارْتَفَعَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ، وَعَادَ الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فَهُمَا هِجْرَتَانِ: فَالْمُنْقَطِعَةُ مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْضُ، وَالْبَاقِيَةُ هِيَ النَّدْبُ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا: إِسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فِيهِ مَقَالٌ؛ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ،
قُلْتُ: أَرَادَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَأَرَادَ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ.
ذِكْرُ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْمُنْذِرِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ، أَوْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَ بِأَبِيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لِأَبِي نَصِيبًا فِي الْهِجْرَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا لَا هِجْرَةَ. فَانْطَلَقَ مُذِلًّا فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتَنِي؟ قَالَ: أَجَلْ. فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ فِي قَمِيصٍ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ فُلَانًا وَالَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، جَاءَ بِأَبِيهِ لِيُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ لَا هِجْرَةَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ. قَالَ: فَمَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فَمَسَّ يَدَهُ وَقَالَ: أَبْرَرْتُ عَمِّي وَلَا هِجْرَةَ
قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ: يَعْنِي لَا هِجْرَةَ مِنْ دَارٍ قَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا.

(1/207)


أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ أَشْتَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا عَطَاءٌ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إِنَّمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ حِينَ يُهَاجِرُ الرَّجُلُ بِدِينِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا حِينَ كَانَ الْفَتْحُ فَحَيْثُ مَا شَاءَ الرَّجُلُ عَبَدَ اللَّهَ لَا يَضِيعُ ... .
وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّوْرِيِّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمَقْرِيِّ، وَذَكَرَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ
الْهِجْرَةَ إِنَّمَا كَانَتْ وَاجِبَةٌ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَكَّةَ، ثُمَّ زَالَ فَرْضُهَا ... .
ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيْدَرِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقَزْوِينِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ - فَتْحُ مَكَّةَ -: لَا هِجْرَةَ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصِّحَاحِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو مُوسَى الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ نُمَيْرٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، وَرِشْدِينَ عَنْ عُقَيْلٍ وَقُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ؛ فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ.
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ يَعْلَى نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ.
أَخْبَرَنِي الْفَضْلُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ

(1/208)


عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ أَوْ أَحَدُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنْ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ فَقَالَ: ارْتَدَدْتَ عَنْ هِجْرَتِكَ يَا سَلَمَةُ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، إِنِّي فِي إِذْنٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ابْدَءُوا يَا أَسْلَمُ، فَشُمُّوا الرِّيَاحَ وَاسْكُنُوا الشِّعَابَ، فَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ هِجْرَتَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ.

بَابُ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَنَسْخِهِ
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَازِنُ، أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَنَدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الزَّبِيدِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا قَطُّ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ.
أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا أَنْتَ لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ أَوْ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ

(1/209)


عَنْهُمْ. الْحَدِيثَ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمَقْرِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّعْبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَةَ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ يَذْكُرُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَيِّتُ أَحَدًا، وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَإِذَا أَصْبَحُوا فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ ثَابِتَةُ الْإِسْنَادِ صَحِيحَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ:
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَزَى أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يُغْزُوا حَتَّى يُؤْذَنُوا، وَلَا يُقَاتَلُوا حَتَّى يُؤْذَنُوا.
وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى جَعُونَةَ وَأَمَّرَهُ عَلَى الدُّرُوبِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَبَاحُوا قِتَالَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوا، وَرَأَوُا الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مَنْسُوخًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَسُفْيَانُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، وَقَالَ سُفْيَانُ: وَيَدْعُو أَحْسَنُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاحْتَجَّ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ بِقَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَاحْتَجَّ اللَّيْثُ بِقَتْلِ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولَانِ: فَإِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ وَلَا لَهُمْ عِلْمٌ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُدْعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَذَلِكَ نَقُولُ.
ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ
أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ إِذْنًا، أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا

(1/210)


الدَّقِيقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الْقَوْمِ إِذَا غَزَوْا يَدْعُونَ الْعَدُوَّ قَبْلَ أَنْ يُقَاتَلُوا، فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَا سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ.
وَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ثُبُوتِهِ وَإِخْرَاجِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ، عَنِ الْمُؤْتَمَنِ السَّاجِيِّ، أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ الدَّقَّاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى خَيْبَرَ يَوْمَ الْخَمِيسَ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْأُوَلَ
مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِدُعَاءِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَأَمَّا بَنُو الْمُصْطَلِقِ وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا: وَأَغَارَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبْيِيتَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى، وَدَفَعَ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيُقَاتِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ دُعَاءً لَهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالدُّعَاءِ مَنْ قَاتَلَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَإِنَّ قِتَالَهُمْ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ يُحْدِثُهُ لَهُمْ مَنْ أَرَادَ قِتَالَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالُوا أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ يَنْزِلُ قَرِيبًا مِنْهُمْ حَتَّى يُصْبِحَ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ، وَثِقَتِهِ بِظُفْرِهِمْ؛ لِئَلَّا يَجْنِي بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ.

(1/211)


بَابُ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَارِقٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَذْكُرُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
فَطَائِفَةٌ ذَهَبَتْ إِلَى مَنْعِ قِتَالِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مُطْلَقًا، وَرَأَتْ حَدِيثَ الصَّعْبِ بْنِ جُثَامَةَ - وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ - مَنْسُوخًا.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِ قَتْلِهِمْ مُطْلَقًا، وَرَأَتْ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَحَدِيثَ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ - وَيَأْتِي ذِكْرُهُ - مَنْسُوخًا.
وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ فَرَّقَتْ وَقَالَتْ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقَاتِلُ جَازَ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهَا صَبْرًا، وَكَذَا فِي الْوِلْدَانِ قَالُوا: إِنْ كَانُوا مَعَ آبَائِهِمْ وَبَيَّتُوا
جَازَ قَتْلَهُمْ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ صَبْرًا، وَقَدْ تَمَسَّكَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَدِيثٍ، وَنَحْنُ نُورِدُ بَعْضُهَا مُخْتَصَرًا:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ، أَخْبَرَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَمِعْتُهُ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ.
وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَقِصَّةُ حَدِيثِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.

(1/212)


وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَأَتْ حَدِيثَ الصَّعْبِ مَنْسُوخًا، فَحُجَّتُهُمْ مَا أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ طَرَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَأَصَابَ النَّاسُ ظَفَرًا حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا لَا تُقْتَلَنَّ ذُرِّيَّةٌ، أَلَا لَا تُقْتَلَنَّ ذُرِّيَّةٌ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا دَعْلَجٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ إِذْ بَعَثَ إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ.
وَمِمَّنْ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ مَنْسُوخٌ، وَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الصَّعْبِ، وَقَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ سُفْيَانُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُمْ مِنْهُمْ إِبَاحَةٌ لِقَتْلِهِمْ، وَإِذْنٌ مِنْهُ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ نَاسِخٌ لَهُ.
وَقَالَ: كَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا حُدِّثَ حَدِيثَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَتْبَعَهُ حَدِيثَ ابْنِ كَعْبٍ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ قَالَتْ: مَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ تَعَذَّرَ ادِّعَاءُ النَّسْخِ، وَفِي هَذَا الْبَابِ مُمْكِنٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ حَدِيثُ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ
أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا دَعْلَجٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، حَدَّثَنِي مُرَقِّعُ بْنُ صَيْفِيٍّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي رَبَاحُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخُو حَنْظَلَةَ الْكَاتِبُ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غُزَاةٍ عَلَى مُقَدِّمَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةَ، فَوَقَفُوا عَلَيْهَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، فَجَاءَ

(1/213)


رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَاقَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ انْفَرَجُوا عَنِ الْمَرْأَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَكَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ؟ أَلَمْ تَكُنْ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ؟ ! ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: الْحَقْ خَالِدًا؛ فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ مَا أُبْهِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَخَّصَهَا.
أَخْبَرَنَا طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَنِي الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُمْ مِنْهُمْ.
وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. قَالَ: فَكَانَ سُفْيَانُ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ مِنْهُمْ، أَنَّهُ إِبَاحَةٌ لِقَتْلِهِمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ نَاسِخٌ لَهُ، قَالَ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَتْبَعُهُ حَدِيثَ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ الصَّعْبِ كَانَ فِي عُمْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَ فِي عُمْرَتِهِ الْأُولَى فَقَدْ قُتِلَ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ قَبْلَهَا، وَقِيلَ فِي سُنَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي عُمْرَتِهِ الْآخِرَةِ فَهِيَ بَعْدُ أَمْرِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَمْ نَعْلَمْهُ رَخَّصَ فِي قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَمَعْنَى نَهْيُهُ عِنْدَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أَنْ يُقْصَدَ قَصْدَهُمْ بِقَتْلٍ وَهُمْ يُعْرَفُونَ مُتَمَيِّزِينَ مِمَّنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْهُمْ، أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ خَصْلَتَيْنِ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُمْنَعُ بِهِ الدَّمُ، وَلَا حُكْمَ دَارَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَمَنْعُ بِهِ الْغَارَةَ عَلَى الدَّارِ، وَإِذَا أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيَاتَ وَالْغَارَةَ عَلَى الدَّارِ، فَأَغَارَ

(1/214)


عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينَ، وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّ الْبِيَاتَ وَالْغَارَةَ إِذَا حَلَّا بِإِحْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ بَيَّتَ أَوْ أَغَارَ مِنْ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، فَيَسْقُطُ الْمَأْثَمُ فِيهِمْ وَالْكَفَّارَةُ وَالْعَقْلُ وَالْقَوَدُ عَمَّنْ أَصَابَهُمْ، إِذَا أُبِيحَ أَنْ يُبَيِّتَ وَيُغِيرَ وَلَيْسَ لَهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ قَتْلَهُمْ عَامِدًا لَهُمْ مُتَمَيِّزِينَ عَارِفًا بِهِمْ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا كُفْرًا فَيَعْمَلُوا بِهِ فَيُقْتَلُوا بِهِ، وَعَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِيهِنَّ لِقِتَالٍ، وَأَنَّهُنَّ وَالْوِلْدَانَ يُتَخَوَّلُونَ فَيَكُونُونَ قُوَّةً لِأَهْلِ دِينِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَبِنْ هَذَا بِغَيْرِهِ. قِيلَ: فِيهِ مَا اكْتَفَى الْعَالِمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قَالَ: أَفَتَجِدُ مَا تَشُدُّهُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) قَالَ: فَأَوْجَبَ اللَّهُ لِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً الدِّيَةَ وَتَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ، وَفِي قَتْلِ ذِي الْمِيثَاقِ الدِّيَةَ وَتَحْرِيرَ رَقَبَةٍ؛ إِذْ كَانَا مَعًا مَمْنُوعَيِ الدَّمِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَهْدِ وَالدَّارِ مَعًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ فِي الدَّارِ غَيْرِ الْمَمْنُوعَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْإِيمَانِ، فَجُعِلَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِتْلَافِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ الدِّيَةَ وَهُوَ مَمْنُوعُ الدَّمِ بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْوِلْدَانُ وَالنِّسَاءُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا مَمْنُوعِينَ بِإِيمَانٍ وَلَا دَارٍ؛ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَقْلٌ، وَلَا قَوْدَ، وَلَا دِيَةَ، وَلَا مَأْثَمَ، وَلَا كَفَّارَةَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -.

بَابُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَنَسْخِ ذَلِكَ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مْنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ

(1/215)


يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ فَنَظَرَ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَتَرْصُدُ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمُ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأُدْمًا، وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةٍ قُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا وَقَالُوا: الْقَوْمُ عُمَّارٌ، لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وَتَشَاوُرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلَيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شُجِّعُوا عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيَّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتُأْسِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ مِنَ الْقَوْمِ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَ غَنِمْتُمُ الْخُمْسَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ الْخُمْسَ مِنَ الْمَغَانِمِ، فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُمْسَ الْعِيرِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، قَالَ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَوَقَفَ الْعِيرُ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ؛ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْمَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ. فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانُوا بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا

(1/216)


مَا أَصَابُوا فِي شَعْبَانَ، قَالَتْ يَهُودُ - تَفَائَلَ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ، الْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَاقِدٌ وَقَدَتِ الْحَرْبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
أَيْ: قَدْ كَانُوا يُفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا؛ أَيْ: ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ، غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِدَاءَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا نَفْدِيكُمُوهُمَا حَتَّى يَقْدُمَ صَاحِبَانَا: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قَتَلْتُمُوهُمَا نَقْتُلُ صَاحِبَيْكُمْ، فَقَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، فَفَدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَحَسَنُ إِسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَوَاهُ مُنْقَطِعًا، فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْمَغَازِي مُتَدَاوَلٌ بَيْنَ أَهْلِ السِّيرَةِ، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ نَحْوَهُ، وَهُوَ مِنْ جِيِّدِ مَرَاسِيلِ عُرْوَةَ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَتَمُّ، وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْمُشْرِكِينَ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيْدَرَ الْإِمَامُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ - لَعَلَّهُ ابْنُ أَبِي

(1/217)


عَبْدِ اللَّهِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ مِنْهُ جُرْأَةً وَنَجْدَةً، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جِئْتُ لِأَتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: لَا، فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَتْ: ثُمَّ رَجَعَ، فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمْنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَانْطَلِقْ.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ:
فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إِلَى مَنْعِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، وَتَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يُعَارِضُهُ لَا يُوَازِيهِ فِي الصِّحَّةِ وَالثُّبُوتِ؛ فَتَعَذَّرَ ادِّعَاءُ النَّسْخِ لِهَذَا.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَغْزُوا مَعَهُ وَيَسْتَعِينَ بِهِمْ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِمْ وَلَا يُخْشَى تَأَثُّرَهُمْ، فَمَتَى فُقِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ.
قَالُوا: وَمَعَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَرَضَخَ لَهُمْ، وَاسْتَعَانَ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِتَالِ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالُوا: وَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى هَذَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا.
أَخْبَرَنِي أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ، أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ،

(1/218)


حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى إِذَا جَاوَزَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ إِذَا هُوَ بِكَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي سِتِّمِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ: وَقَدْ أَسْلَمُوا؟ قَالُوا: لَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مُرُوهُمْ فَلْيَرْجِعُوا فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
قَرَأْتُ عَلَى رَوْحِ بْنِ بَدْرٍ، أَخْبَرَكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: الَّذِي رَوَى مَالِكٌ كَمَا رَوَى رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْرِكًا أَوْ مُشْرِكِينَ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ، وَأَبَى أَنْ يَسْتَعِينَ إِلَّا بِمُسْلِمٍ، ثُمَّ اسْتَعَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِعَبْدٍ وَيَهُودَ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَشِدَّاءَ.
وَاسْتَعَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَالرَّدُّ الْأَوَّلُ إِنْ كَانَ بِأَنَّ لَهُ الْخِيَارَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ وَأَنْ يَرُدَّهُ، كَمَا لَهُ رَدُّ مُسْلِمٍ مِنْ مَعْنَى يَخَافُهُ، أَوْ لِشِدَّةٍ بِهِ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا بَعْدَهُ مِنِ اسْتِعَانَتِهِ بِالْمُشْرِكِينَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا خَرَجُوا طَوْعًا، وَيُرْضَخُ لَهُمْ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ، وَلَا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ.