الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث النوع الثاني
الحسن
وهو في الاحتجاج به كالصحيح عند الحمهور.
وهذا النوع لما كان وسطاً بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر،
لا في نفس الأمر. عسر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه
الصناعة. وذلك لأنه أمر نسبي، شيء ينقدح عنه الحافظ، ربما تقصر
عبارته عنه.
وقد تجشم كثير منهم حده. فقال الخطابي: هو ما عرف مخرجه واشتهر
رجاله، قال: وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر
العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.
" قلت ": فإن كن المعرف هو قوله " ما عرف مخرجه واشتهر رجاله "
فالحديث الصحيح كذلك، بل والضعيف. وإن كان بقية الكلام من تمام
الحد، فليس هذا الذي ذكره مسلماً له: أن أكثر الحديث من قبيل
الحسان، ولا هو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة
الفقهاء.
(1/37)
تعريف الترمذي
للحديث الحسن
قال ابن الصلاح: وروينا عن الترمذي أنه يريد بالحسن: أن لا
يكون في إسناده من يهتم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً، ويروى
من غير وجه نحو ذلك.
وهذا إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتاب له قاله
وأين إسناده عنه، وإن كان قد فُهم من اصطلاحه في كتابه "
الجامع " فليس ذلك بصحيح، فإنه يقول في كثير من الأحاديث: هذا
حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(1/38)
تعريفات أخرى للحسن
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وقال بعض المتأخرين:
الحديث الذي فيه ضعف قريب مُحتمل، هو الحديث الحسن، ويصلح
للعمل به.
ثم قال الشيخ: وكل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره
الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح وقد أمعنت النظر في
ذلك والبحث، فتنقح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان: " أحدهما
": الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته،
غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ، ولا هو متهم بالكذب، ويكون
ممتن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر، فيخرج بذلك عن
كونه شاذاً أو منكراً. ثم قال: وكلام الترمذي على هذا القسم
يُتنزل.
" قلت ": لا يمكن تنزيله لما ذكرناه عنه. والله أعلم.
(1/39)
قال: " القسم الثاني ": أن يكون رواية من
المشهورين بالصدق والأمانة. ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في
الحفظ والاتقان، ولا يُعد ما ينفرد به منكراً، ولا يكون المتن
شاذاً ولا معللاً. قال: وعلى هذا يتنزل كلام الخطابي، قال:
والذي ذكرناه يجمع بين كلاميهما.
قال الشيخ أبو عمر: لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة
كحديث " الأذنان من الرأس ": أن يكون حسناً، لأن الضعف يتفاوت،
فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعاً أو
متبوعاً، كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول
بالمتابعة، كما إذا كان راويه سيء الحفظ، أو روي الحديث عن
حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة. والله أعلم.
(1/40)
الترمذي أصل في
الحديث الحسن
قال: وكتاب الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه
بذكره، ويوجد في كلام غيره من مشايخه، كأحمد، والبخاري، وكذا
من بعده، كالدراقطني.
أبو داود من مظان الحديث الحسن
قال: ومن مظانه: سنن أبي داود، روينا عنه أنه قال: ذكرت الصحيح
وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر
شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال وروي عنه أنه يذكر في
كل باب أصح ما عرف فيه.
" قلت ": ويروى عنه أنه قال: وما سكت عنه هو حسن.
قال ابن الصلاح: فما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في
واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد، فهو حسن عند أبي داود.
" قلت ": الروايات عن أبي داود بكتابه " السنن " كثيرة جداً،
ويوجد في بعضها من الكلام، بل والأحاديث، ما ليس في الأخرى.
ولأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل، والتصحيح
والتعليل، كتاب مفيد. ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سنته.
فقوله وما سكت عليه فهو حسن: ما سكت عليه في سننه فقط؟ أو
مطلقاً؟ هذا مما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له.
(1/41)
كتاب المصابيح
للبغوي
قال: وما يذكره البغوي في كتابه (المصابيح) ، من أن الصحيح ما
أخرجاه أو أحدهما، وأن الحسن ما رواه أبو داود الترمذي
وأشباههما: فهو اصطلاح خاص، لا يعرف إلا له. وقد أنكر عليه
النووي ذلك: لما في بعضها من الأحاديث المنكرة.
(1/42)
صحة الإسناد لا يلزم
منها صحة الحديث
قال: والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم
بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً.
قول الترمذي حسن صحيح
قال: وأما قول الترمذي. " هذا حديث حسن صحيح " فمشكل، لأن
الجمع بينهما في حديث واحد كالمعتذر، فمنهم من قال: ذلك
باعتبار إسناد حسن وصحيح.
" قلت ": وهذا يرده أنه يقول في بعض الأحاديث: " هذا حديث حسن
صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ".
ومنهم من يقول: هو حسن باعتبار المتن، صحيح بإعتبار الإسناد.
وفي هذا نظر أيضاً، فإنه يقول ذلك في أحاديث مروية في صفة
جهنم، وفي الحدود والقصاص، ونحو ذلك.
والذي يظهر لي: أنه يشرب الحكم بالصحة على الحديث كما يشرب
الحسن بالصحة. فعلى هذا يكون ما يقول فيه " حسن صحيح " أعلى
رتبة عنده من
(1/43)
الحسن، ودون الصحيح، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى
من حكمه عليه بالصحة مع الحسن. والله أعلم. |