التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح النوع الرابع عشر:
معرفة المنكر من الحديث.
بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي الحافظ: أنه الحديث
الذي ينفرد به
__________
النوع الرابع عشر: معرفة المنكر.
"قوله" المنكر ينقسم قسمين على ما ذكرناه في الشاذ فانه بمعناه
منال إلاول وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات رواية مالك عن
الزهري عن على بن حسين عن عمر
(1/105)
الرجل ولا يعرف متنه من غير روايته لا من
الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر.
فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو
النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث والصواب
فيه التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ.
وعند هذا نقول: المنكر ينقسم قسمين على ما ذكرناه في الشاذ
فإنه بمعناه.
مثال إلاول وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات: رواية مالك
عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا
الكافر المسلم" فخالف مالك غيره من الثقات في قوله: عمر بن
عثمان بضم العين.
وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز أن كل من رواه من أصحاب
الزهري قال فيه: عمرو بن عثمان يعني بفتح العين.
وذكر أن مالكا كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثمان كأنه علم
أنهم يخالفونه.
__________
ابن عثمان عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" فخالف مالك
غيره من الثقات في قوله عمر بن عثمان بضم العين.
وذكر مسلم في كتاب التمييز أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال
فيه عمرو ابن عثمان يعنى بفتح العين إلى آخر كلامه حكم المصنف
على حديث مالك هذا بأنه منكر ولم أجد من أطلق عليه اسم النكارة
ولا يلزم من تفرد مالك بقوله في الإسناد عمر أن يكون المتن
منكرا فالمتن على كل حال صحيح لأن عمر وعمرا كلاهما ثقة وقد
ذكر المصنف مثل ما أشرت إليه في النوع الثامن عشر أن من أمثلة
ما وقفت العلة في إسناده
(1/106)
وعمرو وعمر جميعا ولد عثمان غير أن هذا
الحديث إنما هو عن عمرو بفتح العين وحكم مسلم وغيره على مالك
بالوهم فيه والله أعلم.
ومثال الثاني وهو الفرد الذي ليس في راويه من الثقة وإلاتقان
ما يحتمل معه تفرده: مارويناه من حديث أبي زكير يحيى بن محمد
بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا البلح بالتمر فإن
الشيطان إذا رأى ذلك غاظه ويقول عاش بن آدم حتى أكل الجديد
بالخلق". تفرد به أبو زكير وهو شيخ صالح أخرج عنه مسلم في
كتابه غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده والله أعلم.
__________
من غير قدح في المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان
الثورى عن عمرو بن دينار عن أبى عمر عن النبى صلى الله عليه
وسلم قال: "البيعان بالخيار" الحديث قال فهذا إسناد متصل بنقل
العدل عن العدل وهو معلل غير صحيح.
قال والمتن على كل حال صحيح والعلة في قوله عن عمرو بن دينار
إنما هو عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هكذا رواه إلائمة من
أصحاب سفيان عنه فوهم يعلى ابن عبيد وعدل عن عبد الله بن دينار
إلى عمرو بن دينار وكلاهما ثقة انتهى كلامه فجعل الوهم في
الإسناد بذكر ثقة آخر لا يخرج ذلك المتن عن صحيحا فهكذا يجب أن
يكون الحكم هنا على أنه قد اختلف على مالك رحمه الله في قوله
وعمر وعمرو فرواه النسائى في سننه من رواية عبد الله بن
المبارك وزيد بن الحباب ومعاوية بن هشام ثلاثتهم عن مالك
فقالوا في روايتهم عمرو بن عثمان كروايه بقية أصحاب الزهري لكن
قال النسائى بعده والصواب من حديث مالك عن عمر بن عثمان قال
ولا نعلم أحدا تابع مالكا على قوله عمر بن عثمان انتهى.
وقال ابن عبد البر في التمهيد أن يحيى بن بكير رواه عن مالك
على الشك فقال فيه عن عمرو بن عثمان أو عمر بن عثمان قال
والثابت عن مالك عمر بن عثمان كما روى يحيى وتابعه القعنبى
وأكثر الرواة انتهى.
(1/107)
..............................................................................
__________
وقد خالف مالكا في ذلك ابن جريج وسفيان بن عيينة وهشيم بن كثير
ويونس ابن يزيد ومعمر بن راشد وابن الهاد ومحمد بن أبى حفصة
وغيرهم فقالوا عمرو وهو الصواب والله أعلم.
وقد رواه سفيان الثورى وشعبة عن عبد الله بن عيسى عن الزهري
فخالفا فيه الفريقين معا فأسقطا منه ذكر عمرو بن عثمان وجعلاه
من رواية على بن حسين عن أسامة والصواب رواية الجمهور والله
أعلم.
وإذا كان هذا الحديث لا يصلح مثإلا للمنكر فلنذكر مثإلا يصلح
لذلك وهو ما رواه أصحاب السنن الأربعة من رواية همام بن يحيى
عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال "كان النبى صلى الله عليه
وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" قال أبو داود بعد تخريجه هذا
حديث منكر.
قال وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس
أن "النبى صلى الله عليه وسلم أخذ خاتما من ورق ثم ألقاه" وقال
والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام وقال النسائى أيضا بعد
تخريجه هذا حديث غير محفوظ وأما قول الترمذي بعد تخريجه له هذا
حديث حسن صحيح غريب فإنه أحرى حكمه على ظاهر الإسناد.
وقول أبى داود والنسائى أولى بالصواب إلا أنه قد ورد من غير
رواية همام.
رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه من رواية يحيى بن
المتوكل عن ابن جريج وصححه الحاكم على شرط الشيخين وضعفه
البيهقى فقال هذا شاهد ضعيف وكان البيهقى ظن أن يحيى بن
المتوكل هو أبو عقيل صاحب بهية وهو ضعيف عندهم وليس هو به
وإنما هو باهلى يكنى أبا بكر ذكره ابن حيان في الثقات ولا يقدح
فيه قول ابن معين لا أعرفه فقد عرفه غيره وروى عنه نحو من
عشرين نفسا إلا انه اشتهر تفرد همام به عن ابن جريج والله
أعلم.
"قوله" عقد ذكر أبى زكير يحيى بن محمد بن قيس وهو شيخ صالح
أخرج عنه مسلم في كتابه غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده
انتهى.
(1/108)
..........................................................................
__________
ولم يخرج له مسلم احتجاجا وإنما أخرج له في المتابعات وقد أطلق
إلائمة عليه القول بالضعيف فقال يحيى بن معين فيما روى عنه
إسحق الكوسج ضعيف وقال أبو حاتم بن حبان لا يحتج به وقال
العقيلى لا يتابع على حديثه وأورد له ابن عدى أربعة أحاديث
مناكير وأما قول المصنف إنه شيخ صالح فأخذه من كلام أبى يعلى
الخليلى فانه كذلك في كتاب إلارشاد والله أعلم.
(1/109)
النوع الخامس عشر: معرفة إلاعتبار
والمتابعات والشواهد.
هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به راويه
أو لا؟ وهل هو معروف أو لا؟
ذكر أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الحافظ رحمه الله: إن طريق
إلاعتبار في إلاخبار مثاله: أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم
يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم فينظر: هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين:
فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه وإن لم يوجد ذلك: فثقة
غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة. وإلا فصحابي غير أبي هريرة
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأي ذلك وجد يعلم به أن
للحديث أصلا يرجع إليه وإلا فلا.
__________
النوع الخامس عشر: معرفة إلاعتبار
والمتابعات والشواهد.
"قوله" مثال المتابع والشاهد روينا من حديث سفيان بن عيينة عن
عمرو بن ديناد عن عطاء ابن أبى رباح عن ابن عباس أن النبى صلى
الله عليه وسلم قال: "لو أخذوا فدبغوه فانتفعوا به" ورواه ابن
جريج عن عمر وعن عطاء ولم يذكر فيه الدباغ انتهى.
ورواية ابن جريج ليست كرواية ابن عيينة فإن ابن جريج جعله من
مسند ميمونة من رواية ابن عباس عنها لا من مسند ابن عباس وقد
رواه مسلم على الوجهين معا من طريق ابن عيينة فجعله من مسند
ابن عباس ومن طريق ابن جريج فجعله من مسند ميمونة وكلام المصنف
يوهم اتفاقهما في السند وأن إلاختلاف الذي
(1/109)
قلت: فمثال المتابعة أن يروي ذلك الحديث
بعينه عن أيوب غير حماد فهذه المتابعة التامة فإن لم يروه أحد
غيره عن أيوب لكن رواه بعضهم عن ابن سيرين أو عن أبي هريرة أو
رواه غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قد
يطلق عليه اسم المتابعة أيضا لكن يقصر عن المتابعة إلاولى بحسب
بعدها منها ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضا فإن لم يرو ذلك
الحديث أصلا من وجه من الوجوه المذكورة لكن روي حديث آخر
بمعناه فذلك الشاهد من غير متابعة فإن لم يرو أيضا بمعناه حديث
آخر فقد تحقق فيه التفرد المطلق حينئذ. وينقسم عند ذلك إلى
مردود منكر وغير مردود كما سبق وإذا قالوا في مثل هذا: تفرد به
أبو هريرة وتفرد به عن أبي هريرة ابن سيرين وتفرد به عن ابن
سيرين أيوب وتفرد به عن أيوب حماد بن سلمة كان في ذلك إشعارا
بانتفاء وجوه المتابعات فيه.
ثم اعلم: أنه قد يدخل في باب المتابعة وإلاستشهاد رواية من لا
يحتج بحديثه وحده بل يكون معدودا في الضعفاء. وفي كتاب البخاري
ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد وليس كل
ضعيف يصلح لذلك ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء فلان
يعتبر به وفلان لا يعتبر به وقد تقدم التنبيه على نحو ذلك
والله أعلم.
مثال للمتابع والشاهد: روينا من حديث سفيان وابن عيينة عن عمرو
بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لو أخذوا
__________
بينهما في ذكر الدباغ وإذ لم يتفق ابن عيينة وابن جريج في
الإسناد فلنذكر مثإلا اتفق الراويان له على إسناده وأختلفا في
ذكر الدباغ وهو ما رواه البيهقي من رواية إبراهيم بن نافع
الصايغ عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس ولم يذكر الدباغ
والله أعلم.
(1/110)
إهابها فدبغوه فانتفعوا به" ورواه بن جريج
عن عمرو عن عطاء ولم يذكر فيه الدباغ فذكر الحافظ أحمد البيهقي
لحديث ابن عيينة متابعا وشاهدا: أما المتابع: فإن أسامة بن زيد
تابعه عن عطاء. وروى بإسناده عن أسامة عن عطاء عن ابن عباس: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إلا نزعتم جلدها فدبغتموه
فاستمتعم به" وأما الشاهد: فحديث عبد الرحمن بن وعلة عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ
فقد طهر". والله أعلم.
(1/111)
|