التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح

النوع الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه.
اعلم: أن طرق نقل الحديث وتحمله على أنواع متعددة ولنقدم على بيانها بيان أمور:
أحدها: يصح التحمل قبل وجود الأهلية فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده. وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده ومنع من ذلك قوم فأخطأوا لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كالحسن بن علي وابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وأشباههم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده. ولم يزالوا قديما وحديثا يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع ويعتدون بروايتهم لذلك والله أعلم.
الثاني: قال أبو عبد الله الزبيري: يستحب كتب الحديث في العشرين لأنها مجتمع العقل. قال: وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض وورد عن سفيان الثوري قال: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة.
وقيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ فقال: كان أهل الكوفة

(1/163)


لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارا حتى يستكملوا عشرين سنة. وقال موسى بن هارون: أهل البصرة يكتبون لعشر سنين. وأهل الكوفة لعشرين وأهل الشام لثلاثين والله أعلم.
قلت: وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه بسماعه. وأما الاشتغال بكتبه الحديث وتحصيله وضبطه وتقييده فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له. وذلك يختلف باختلاف الأشخاص وليس ينحصر في سن مخصوص كما سبق ذكره آنفا عن قوم والله أعلم.
الثالث: اختلفوا في أول زمان يصح فيه سماع الصغير فروينا عن موسى بن هارون الحمال أحد الحفاظ النقاد أنه سئل: متى يسمع الصبي الحديث؟ فقال: إذا فرق بين البقرة والدابة وفي رواية بين البقرة والحمار وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه سئل: متى يجوز سماع الصبي للحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط. فذكر له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة. فأنكر قوله وقال: بئس القول وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله إلاسدي عن أبي محمد عبد الله بن محمد إلاشيري عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السبتي اليحصبي قال: قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع. وذكر رواية 75 البخاري في صحيحه بعد أن ترجم متى يصح سماع الصغير بإسناده عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو. وفي رواية أخرى: أنه كان ابن أربع سنين.
قلت: التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين فيكتبون لابن خمس فصاعدا سمع ولمن لم يبلغ خمسا حضر أو: أحضر. والذي ينبغي في ذلك: أن تعتبر في كل صغير حاله على الخصوص فإن وجدناه مرتفعا عن حال من لا يعقل فهما للخطاب وردا للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه وإن كان دون

(1/164)


خمس. وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه وإن كان ابن خمس بل ابن خمسين.
وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبيا ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير أنه إذا جاع يبكي وعن القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد إلاصبهاني قال: حفظت القرآن ولي خمس سنين. وحملت إلى أبي بكر بن المقرئ لأسمع منه ولي أربع سنين. فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرئ فإنه صغير. فقال لي ابن المقرئ: اقرأ سورة الكافرين فقرأتها فقال: اقرأ سورة التكوير فقرأتها فقال لي غيره: اقرأ سورة المرسلات فقرأتها ولم أغلط فيها. فقال ابن المقرئ: سمعوا له والعهدة علي وأما حديث محمود بن الربيع: فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود ولا يدل على انتفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود رضي الله عنه والله أعلم.
__________
النوع الرابع والعشرون- معرفة كيفية سماع الحديث.
"قوله" وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال رأيت صبيا ابن أربع سنين وقد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير انه إذا جاع يبكى انتهى.
أحسن المصنف في التعبير عن هذه الحكاية بقوله بلغنا ولم يجزم بنقلها فقد رأيت بعض الأئمة من شيوخنا يستبعد صحتها ويقول على تقدير وقوعها لم يكن ابن أربع سنين وإنما كان ضئيل الخلقة فيظن صغره والذي يغلب على الظن عدم صحتها وقد رواها الخطيب بإسناده في الكفاية وفي إسنادها أحمد بن كامل القاضي قال فيه الدارقطنى كان متساهلا ربما حدث من حفظه بما ليس عنده في كتابه وأهلكه العجب فإنه كان يختار ولا يضع لأحد من العلماء أصلا وقال صاحب الميزان كان يعتمد على حفظه فيهم.

(1/165)


بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله. ومجامعها ثمانية أقسام:
القسم الأول: السماع من لفظ الشيخ: وهو ينقسم إلى إملاء وتحديث من غير إملاء وسواء كان من حفظه أو من كتابه وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبتي أحد المتأخرين المطلعين قوله: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت فلانا يقول وقال لنا فلان وذكر لنا فلان قلت: في هذا نظر وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصا بما سمع من غير لفظ الشيخ على ما نبينه إن شاء الله تعالى أن لا يطلق فيما سمع من لفظ الشيخ لما فيه من الإيهام والإلباس والله أعلم.
وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب: أن أرفع العبارات في ذلك سمعت ثم حدثنا وحدثني فإنه لا يكاد أحد يقول سمعت في أحاديث الإجازة والمكاتبة ولا في تدليس ما لم يسمعه.
وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له حدثنا. وروي عن الحسن أنه كان يقول حدثنا أبو هريرة ويتأول أنه حدث أهل المدينة وكان الحسن إذ ذاك بها إلا أنه لم يسمع منه شيئا.
قلت: ومنهم من أثبت له سماعا من أبي هريرة والله أعلم.
ثم يتلو ذلك قول أخبرنا وهو كثير في الاستعمال حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم أخبرنا. منهم حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك وهشيم بن بشير وعبيد الله بن موسى وعبد الرزاق بن همام ويزيد بن هارون وعمرو بن عون ويحي بن يحيى التميمي وإسحاق بن راهويه وأبو مسعود أحمد بن الفرات ومحمد بن أيوب الرازيان وغيرهم. وذكر

(1/166)


الخطيب عن محمد بن رافع قال: كان عبد الرزاق يقول أخبرنا حتى قدم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فقإلا له: قل حدثنا فكل ما سمعت مع هؤلاء قال: حدثنا وما كان قبل ذلك قال: أخبرنا
وعن محمد بن أبي الفوارس الحافظ قال: هشيم ويزيد بن هارون وعبد الرزاق لا يقولون إلا أخبرنا فإذا رأيت حدثنا فهو من خطأ الكاتب والله أعلم.
قلت: وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بما قرئ على الشيخ ثم يتلو قول أخبرنا قول أنبأنا ونبأنا وهو قليل في إلاستعمال.
قلت: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة أخرى وهي أنه ليس في سمعت دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه به وفي حدثنا وأخبرنا دلالة على أنه خاطبه به ورواه له أو هو ممن فعل به ذلك
سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه أبا بكر البرقاني الفقيه الحافظ رحمهما الله تعالى عن السر في كونه يقول فيما رواه عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني إلابندوني سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا فذكر له: أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسرا في الرواية فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه. فلذلك يقول سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده.
وأما قوله قال لنا فلان أو ذكر لنا فلان فهو من قبيل قوله حدثنا فلان غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة وهو به أشبه من حدثنا.
وقد حكينا في فصل التعليق عيب النوع الحادي عشر عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات وأوضع العبارات في ذلك أن يقول: قال فلان أو: ذكر فلان من غير ذكر قوله لي ولنا ونحو

(1/167)


ذلك. وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما أشبهه من إلالفاظ محمول عندهم على السماع إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول قال فلان إلا فيما سمعه منه.
وقد كان حجاج بن محمد إلاعور يروي عن ابن جريج كتبه ويقول فيها قال ابن جريج فحملها الناس عنه واحتجوا برواياته وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه.
وقد خصص الخطيب أبو بكر الحافظ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره. والله أعلم.
القسم الثاني من أقسام إلاخذ والتحمل: القراءة على الشيخ وأكثر المحدثين يسمونها عرضا من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ وسواء كنت أنت القارئ أو قرأ غيرك وأنت تسمع أو قرأت من كتاب أو من حفظك أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه أو لا يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره ولا خلاف أنها رواية صحيحة إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه والله أعلم.
واختلفوا في أنها: مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه فنقل عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما: ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه. وروي ذلك عن مالك أيضا
وروي عن مالك وغيره: أنهما سواء. وقد قيل: إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة ومذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة ومذهب البخاري وغيرهم
والصحيح: ترجيح السماع من لفظ الشيخ والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية. وقد قيل: إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق والله أعلم.

(1/168)


وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب: أجودها وأسلمها أن يقول قرأت على فلان. أو قرئ على فلان وأنا أسمع فأقر به فهذا شائع من غير إشكال ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقة إذا أتى بها هنا مقيدة بأن يقول حدثنا فلان قراءة عليه أو: أخبرنا قراءة عليه ونحو ذلك. وكذلك أنشدنا قراءة عليه في الشعر.
وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا في القراءة على الشيخ فقد اختلفوا فيه على مذاهب:
فمن أهل الحديث من منع منهما جميعا وقيل: إنه قول ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل والنسائي وغيرهم ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا وأنبأنا. وقد قيل: إن هذا مذهب معظم الحجازيين والكوفيين وقول الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان في آخرين من ألائمة المتقدمين وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح في جماعة من المحدثين.
ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول سمعت فلانا
والمذهب الثالث: الفرق بينهما في ذلك والمنع من إطلاق حدثنا وتجويز إطلاق أخبرنا. وهو مذهب الشافعي وأصحابه وهو منقول عن مسلم صاحب الصحيح وجمهور أهل المشرق.
وذكر صاحب كتاب الإنصاف محمد بن الحسن التميمي الجوهري المصري: أن هذا مذهب ألأكثر من أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد وأنهم جعلوا أخبرنا علما يقوم مقام قول قائله: أنا قرأته عليه لا أنه لفظ به لي. قال: وممن كان يقول به من أهل زماننا أبو عبد الرحمن النسائي في جماعة مثله من محدثينا قلت: وقد قيل: إن أول من أحدث الفرق بين هذين اللفظين ابن وهب بمصر
وهذا يدفعه أن ذلك مروي عن ابن جريج والأوزاعي حكاه عنهما الخطيب أبو بكر إلا أن يعني أنه أول من فعل ذلك بمصر والله أعلم.

(1/169)


قلت: الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف.
وخير ما يقال فيه: إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين ثم خصص النوع الأول بقول حدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة والله أعلم.
ومن أحسن ما يحكى عمن يذهب هذا المذهب ما حكاه الحافظ أبو بكر البرقاني عن أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان: أنه قرأ على بعض الشيوخ عن الفربري صحيح البخاري وكان يقول له في كل حديث حدثكم الفربري فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر: أنه إنما سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه فأعاد أبو حاتم قراءة الكتاب كله وقال له في جميعه أخبركم الفربري. والله أعلم.

(1/170)


تفريعات:
إلاول: إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره وهو موثوق به مراع لما يقرأ أهل لذلك: فإن كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه فهو كما لو كان أصله بيد نفسه بل أولى لتعاضد ذهني شخصين عليه. وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يقرأ عليه فهذا مما اختلفوا فيه: فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح. والمختار أن ذلك صحيح وبه عمل معظم الشيوخ وأهل الحديث.
وإذا كان الأصل بيد القارئ وهو موثوق به دينا ومعرفة فكذلك الحكم فيه وأولى بالتصحيح
وأما إذا كان أصله بيد من لا يوثق بإمساكه له ولا يؤمن إهماله لما يقرأ فسواء كان بيد القارئ أو بيد غيره في أنه سماع غير معتد به إذا كان الشيخ غير حافظ للمقروء عليه والله أعلم.
__________
"قوله" إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره إلى أن قال وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يقرأ عليه فهذا مما اختلفوا فيه فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح والمختار أن ذلك صحيح انتهى.
هذا الذى أبهم المصنف ذكره هو إمام الحرمين فإنه اختار ذلك وحكى القاضى عياض أيضا أن القاضى أبا بكر الباقلانى تردد فيه قال وأكثر ميله إلى المنع انتهى.
ووهن السلفي هذا الاختلاف لاتفاق العلماء على العمل بخلافه فإنه ذكر ما حاصله أن الطالب إذا أراد أن يقرأ على شيخ شيئا من سماعه هل يجب أن يريه سماعه في ذلك الجزء أم يكفي إعلام الطالب الثقة للشيخ أن هذا الجزء سماعه على فلان فقال السلفي هما سيان على هذا عهدنا علماءنا عن آخرهم قال ولم تزل الحفاظ قديما وحديثا يخرجون للشيوخ من الأصول فتصير تلك الفروع بعد المقابلة أصولا وهل كانت الأصول أولا إلا فروعا انتهى.

(1/171)


الثاني: إذا قرأ القارئ على الشيخ قائلا أخبرك فلان أو: قلت أخبرنا فلان أو نحو ذلك والشيخ ساكت مصغ إليه فاهم لذلك غير منكر له فهذا كاف في ذلك واشترط بعض الظاهرية وغيرهم إقرار الشيخ نطقا وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو الفتح سليم الرازي وأبو نصر بن الصباغ من الفقهاء الشافعيين. قال أبو نصر: ليس له أن يقول حدثني أو أخبرني وله أن يعمل بما قرئ عليه وإذا أراد روايته عنه قال قرأت عليه أو: قرئ عليه وهو يسمع وفي حكاية بعض المصنفين للخلاف في ذلك: أن بعض الظاهرية شرط إقرار الشيخ عند تمام السماع: بأن يقول القارئ للشيخ وهو كما قرأته عليك؟ فيقول: نعم والصحيح أن ذلك غير لازم وأن سكوت الشيخ على الوجه المذكور نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ اكتفاء بالقرائن الظاهرة. وهذا مذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء وغيرهم والله أعلم.
الثالث: فيما نرويه عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله قال: الذي أختاره في الرواية وعهدت عليه أكثر مشايخه وأئمة عصري: أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظا وليس معه أحد حدثني فلان وما يأخذه من المحدث لفظا ومعه غيره حدثنا فلان وما قرأ على المحدث بنفسه أخبرني فلان وما قرئ على المحدث وهو حاضر أخبرنا فلان وقد روينا نحو ما ذكره عن عبد الله بن وهب صاحب مالك رضي الله عنهما. وهو حسن رائق.
فإن شك في شيء عنده أنه من قبيل حدثنا أو: أخبرنا أو من قبيل حدثني أو: أخبرني لتردده في أنه كان عند التحمل والسماع وحده أو مع غيره فيحتمل أن نقول: ليقل حدثني أو: أخبرني لأن عدم غيره هو الأصل. ولكن ذكر علي بن عبد الله
__________
"قوله" فإن شك في شئ عنده أنه من قبيل حدثنا أو أخبرنا أو من قبيل حدثنى أو أخبرنى لتردده في أنه كان عند التحمل والسماع وحده أو مع غيره فيحتمل أن نقول ليقل حدثنى أو أخبرنى لأن عدم غيره هو الأصل انتهى.

(1/172)


المديني إلامام عن شيخه يحيى بن سعيد القطان إلامام فيما إذا شك أن الشيخ قال: حدثني فلان أو قال حدثنا فلان أنه يقول حدثنا.
وهذا يقتضي فيما إذا شك في سماع نفسه في مثل ذلك أن يقول حدثنا. وهو عندي يتوجه بأن حدثني أكمل مرتبة وحدثنا أنقص مرتبة فليقتصر إذا شك على الناقص لأن عدم الزائد هو الأصل وهذا لطيف. ثم وجدت الحافظ أحمد البيهقي رحمه الله قد اختار بعد حكايته قول القطان ما قدمته
ثم إن هذا التفصيل من أصله مستحب وليس بواجب حكاه الخطيب الحافظ عن أهل العلم كافة. فجائز إذا سمع وحده أن يقول حدثنا أو نحوه لجواز ذلك للواحد في كلام العرب. وجائز إذا سمع في جماعة أن يقول حدثني لأن المحدث حدثه وحدث غيره والله أعلم.
الرابع: روينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: اتبع لفظ الشيخ في قوله حدثنا وحدثني وسمعت وأخبرنا ولا تعدوه.
__________
سوى المصنف رحمه الله بين الشك في أنه هل سمع من لفظ الشيخ وحده أو كان معه غيره يسمع وبين مسألة ما إذا شك هل قرأ هو بنفسه على الشيخ أو سمع عليه بقراءة غيره عليه وما قاله ظاهر في المسألة الأولى.
وأما المسألة الثانية فإنه يتحقق فيها سماع نفسه ويشك هل قرأ بنفسه أم لا والأصل أنه لم يقرأ هذا إذا مشينا على ما ذكره المصنف تبعا للحاكم أن القارئ يقول أخبرنى سواء سمع بقراءته معه غيره أم لا أما إذا قلنا بما جزم به ابن دقيق العيد في الاقتراح من أن القارئ إذا كان معه غيره يقول اخبرنا فيتجه حينئذ أن يقال الأصل عدم الزايد لكن الذى ذكره ابن الصلاح هو الذى قاله عبد الله بن وهب وأبو عبد الله الحاكم وهو المشهور والله أعلم.
والأحسن فيما إذا شك هل قرأ بنفسه أو سمع بقراءة غيره ما حكاه الخطيب في الكفاية عن البرقانى أنه ربما يشك في الحديث هل قرأه هو أو قرئ وهو يسمع فيقول فيه قرأنا على فلان فإنه يسوغ إثباته بهذه الصيغة فيما قرأه بنفسه وفيما سمعه بقراءة غيره.

(1/173)


قلت: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا ب حدثنا ونحو ذلك وإن كان في إقامة أحدهما مقام إلاخر خلاف وتفصيل سبق لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما. ولو وجدت من ذلك إسنادا عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام إلاخر من باب تجويز الرواية بالمعنى. وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه إلامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجامع المجموعة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وما ذكره الخطيب أبو بكر في كفايته من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث غير موضوع في كتاب مؤلف والله أعلم.
الخامس: اختلف أهل العلم في صحة سماع من ينسخ وقت القراءة فورد عن إلامام إبراهيم الحربي وأبي أحمد بن عدي الحافظ وإلاستاذ أبي إسحاق إلاسفرائيني الفقيه إلاصولي وغيرهم نفي ذلك
وروينا عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي أحد أئمة الشافعيين بخراسان: أنه سئل عمن يكتب في السماع؟ فقال: يقول حضرت ولا يقل حدثنا ولا أخبرنا وورد عن موسى بن هارون الحمال تجويز ذلك. وعن أبي حاتم الرازي قال: كتبت عند عارم وهو يقرأ وكتبت عند عمرو بن مرزوق وهو يقرأ. وعن عبد الله بن المبارك: أنه قرئ عليه وهو ينسخ شيئا آخر غير ما يقرأ ولا فرق بين النسخ من السامع والنسخ من المسمع.
__________
وقد سئل أحمد بن صالح المصرى عن الرجل يسمع بقراءة غيره فأجاب بأنه لا بأس أن يقول قرأنا وقد قال النفيلى قرأنا على مالك وإنما سمع بقراءة غيره والله أعلم.
"قوله" ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه أخبرنا بحدثنا ونحو ذلك وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما ولو وجدت.

(1/174)


قلت: وخير من هذا الإطلاق التفصيل. فنقول لا يصح السماع إذا كان النسخ بحيث يمتنع معه فهم الناسخ لما يقرأ حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غفل ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع معه الفهم. كمثل ما رويناه عن الحافظ العالم أبي الحسن الدارقطني: أنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار فجلس بنسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. ثم قال: تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا. فقال الدارقطني: أملى ثمانية عشر حديثا فعدت الأحاديث فوجدت كما قال. ثم قال أبو الحسن: الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا. والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا. ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها فتعجب الناس منه والله أعلم.
السادس: ما ذكرناه في النسخ من التفصيل يجري مثله فيما إذا كان الشيخ أو السامع يتحدث أو كان القارئ خفيف القراءة يفرط في إلاسراع. أو كان يهينم بحيث يخفي بعض الكلم أو كان السامع بعيدا عن القارئ وما أشبه ذلك.
ثم الظاهر: أن يعفي في كل ذلك عن القدر اليسير نحو الكلمة والكلمتين.
ويستحب للشيخ أن يجيز لجميع السامعين رواية جميع الحزء أو الكتاب الذي سمعوه وإن جرى على كله اسم السماع. وإذا بذل لأحد منهم خطه بذلك كتب له: سمع مني هذا الكتاب وأجزت له روايته عني. أو نحو هذا كما كان بعض الشيوخ يفعل. وفيما نرويه عن الفقيه أبي محمد بن أبي عبد الله بن عتاب الفقيه إلاندلسي عن أبيه رحمهما الله أنه قال: لا غنى في السماع عن الإجازة لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ أو يغلط الشيخ إن كان القارئ ويغفل السامع فينجبر له ما فاته بالإجازة
هذا الذي ذكرناه تحقيق حسن وقد روينا عن صالح بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما قال: قلت

(1/175)


لأبي: الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا وكذا ولا يفهم عنه ترى أن يروي ذلك عنه؟ قال: أرجو أن لا يضيق هذا وبلغنا عن خلف بن سالم المخرمي قال سمعت ابن عيينة يقول نا عمرو بن دينار يريد حدثنا عمرو بن دينار لكن اقتصر من حدثنا على النون والألف فإذا قيل له قل حدثنا عمرو قال: لا أقول لأني لم أسمع من قوله حدثنا ثلاثة أحرف وهي حدث لكثرة الزحام.
__________
من ذلك إسنادا عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجاميع المجموعة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وما ذكره أبو بكر الخطيب في كفايته من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث غير موضوع في كتاب مؤلف والله أعلم انتهى.
وفيه أمران أحدهما أن ما أختاره المصنف قد ضعفه ابن دقيق العيد في الاقتراح فقال ومما وقع في اصطلاح المتأخرين أنه إذا روى كتاب مصنف بيننا وبينه وسايط تصرفوا في اسماء الرواة وقلبوها على أنواع إلى أن يصلوا إلى المصنف فإذا وصلوا إليه تبعوا لفظه من غير تغيير قال وهنا بحثان فذكر الأول ثم قال البحث الثانى الذى اصطلحوا عليه من عدم التغيير للالفاظ بعد وصولهم إلى المصنف ينبغى أن ينظر فيه هل هو على سبيل الوجوب أو هو اصطلاح على سبيل الأولى قال وفي كلام بعضهم ما يشير الى أنه ممتنع لأنه وإن كان له الرواية بالمعنى فليس له تغيير التصنيف قال وهذا كلام له فيه ضعف قال وأقل ما فيه إنه يقتضى تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا فإنه ليس فيه تغيير التصنيف المتقدم وليس هذا جاريا على الاصطلاح فإن الاصطلاح على أن لا نغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة سواء رويناها فيها أو نقلناها منها انتهى.
وما ذكره من أنه يقتضى تجويزه فيما ينقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا ليس بمسلم بل آخر كلام ابن الصلاح يشعر أنه إذا نقل حديث من كتاب وعزى إليه لا يجوز فيه الإبدال سواء نقلناه في تأليف لنا أو لفظا والله أعلم.

(1/176)


قلت: قد كان كثير من أكابر المحدثين يعظم الجمع في مجالسهم جدا حتى ربما بلغ ألوفا مؤلفة ويبلغهم عنهم المستملون فيكتبون عنهم بواسطة تبليغ المستملين فأجاز غير واحد لهم رواية ذلك عن المملي روينا عن إلاعمش رضي الله عنه قال: كنا نجلس إلى إبراهيم فتتسع الحلقة فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه من تنحى عنه فيسأل بعضهم بعضا عما قال ثم يروونه وما سمعوه منه.
وعن حماد بن زيد: أنه سأله رجل في مثل ذلك فقال: يا أبا إسماعيل كيف قلت؟ فقال: استفهم ممن يليك وعن بن عيينة: أن أبا مسلم المستملي قال له: إن الناس كثير لا يسمعون قال إلا تسمع أنت؟ قال: نعم قال: فأسمعهم وأبى آخرون ذلك.
روينا عن خلف بن تميم قال: سمعت من سفيان الثوري عشرة آلاف حديث.
__________
الأمر الثانى إن تعليل المصنف المنع باحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بين أخبرنا وحدثنا ليس بجيد من حيث أن الحكم لا يختلف في الجائز والممتنع بأن يكون الشيخ يرى الجائز ممتنعا أو الممتنع جائزا وقد صرح أهل الحديث بذلك في مواضع منها أن يكون الشيخ ممن يرى جواز إطلاق حدثنا وأنبأنا في الإجازة وأذن للطالب أن يقول ذلك إذا روى عنه بالإجازة فإنه لا يجوز للطالب وإن أذن له الشيخ وقد صرح به المصنف كما سيأتى.
وكذلك أيضا لم يشترطوا في جواز الرواية بالمعنى أن لا يكون في الإسناد من يمنع ذلك كابن سيرين بل جوزوا الرواية بالمعنى بشروط ليس منها هذا.
قوله قلت قد كان كثير من أكابر المحدثين يعظم الجمع في مجالسهم جدا حتى ربما بلغ ألوافا مؤلفة ويبلغهم عنهم المستملون فيكتبون عنهم بوساطة تبليغ المستملين وأجاز غير واحد لهم رواية ذلك عن المملى ثم قال وأبى آخرون ذلك ثم قال قلت والأول تساهل بعيد انتهى.

(1/177)


............................................................................
__________
أطلق المصنف حكاية الخلاف من غير تقييد بكون المملى يسمع لفظ المستملى الذى يملى أم لا والصواب التقييد بما ذكرناه فإن كان الشيخ صحيح السمع بحيث يسمع لفظ المستملى الذى يملى عليه فالسماع صحيح ويجوز له أن يرويه عن المملى دون ذكر الواسطة كما لو سمع على الشيخ بقراءة غيره فإن القارئ والمستملى واحد وإن كان في سمع الشيخ ثقل بحيث لا يسمع لفظ المستملى فإنه لا يسوغ لمن لم يسمع لفظ الشيخ أن يرويه عنه إلا بواسطة المستملى أو المبلغ له عن الشيخ أو المفهم للسامع ما لم يبلغه كما ثبت في الصحيحين من رواية عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون اثنا عشر أميرا فقال كلمة لم أسمعها فقال أبى إنه قال كلهم من قريش" لفظ البخارى وقال مسلم ثم تكلم بكلمة خفيت على فسألت أبى ماذا قال قال كلهم من قريش فلم يرو جابر بن سمرة الكلمة التى خفيت عليه إلا بواسطة أبيه ويمكن أن يستدل القائلون بالجواز بما رواه مسلم في صحيحه من رواية عامر بن سعد ابن أبى وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامى نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكتب إلى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رحم الأسلمى قال: "لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" فلم يفصل جابر بن سمرة الكلمة التى لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يجاب عنه بأمور:
أحدها: أنه يحتمل أن بعض الرواة أدرجه وفصلها الجمور وهم عبد الملك بن عمير والشعبى وحصين وسماك بن حرب ووصله عامر.
والثانى: أنه قد اتفق الشيخان على رواية الفصل وانفرد مسلم برواية الوصل.
والثالث أن رواية الجمهور سماع لهم من جابر بن سمرة ورواية عامر بن سعد كتابة ليست متصلة بالسماع.
والرابع: أن الإرسال جائز خصوصا إرسال الصحابة عن بعضهم فإن الصحابة كلهم عدول ولهذا كانت مراسيلهم حجة خلافا للاستاذ أبى إسحق الاسفرائينى لأن الصحابة قد يروون عن التابعين والله أعلم.

(1/178)


أو نحوها فكنت أستفهم جليسي فقلت لزائدة فقال لي: لا تحدث منها إلا بما تحفظ بقلبك وسمع أذنك قال: فألقيتها.
وعن أبي نعيم: أنه كان يرى فيما سقط عنه من الحرف الواحد وإلاسم مما سمعه من سفيان وإلاعمش واستفهمه من أصحابه: أن يرويه عن أصحابه لا يرى غير ذلك واسعا له.
قلت: إلاول تساهل بعيد. وقد روينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ إلاصبهاني أنه قال لواحد من أصحابه: يا فلان يكفيك من السماع شمه. وهذا إما متأول أو متروك على قائله. ثم وجدت عن عبد الغني بن سعيد الحافظ عن حمزة بن محمد الحافظ بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: يكفيك من الحديث شمه. قال عبد الغني: قال لنا حمزة: يعني إذا سئل عن أول شيء عرفه وليس يعني التسهيل في السماع والله أعلم.
السابع: يصح السماع ممن هو وراء حجاب إذا سمع صوته فيما إذا حدث بلفظه وإذا عرف حضوره بمسمع منه فيما إذا قرئ عليه. وينبغي أن يجوز إلاعتماد في معرفة صوته وحضوره على خبر من يوثق به. وقد كانوا يسمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب ويروونه عنهن اعتمادا على الصوت. واحتج عبد الغني بن سعيد الحافظ في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن بلإلا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". وروى بإسناده عن شعبة أنه قال: إذا حدثك المحدث فلم تر وجهه فلا ترو عنه فلعله شيطان قد تصور في صورته يقول حدثنا وأخبرنا والله أعلم.
الثامن: من سمع من شيخ حديثا ثم قال له: لا تروه عني أو: لا آذن لك في روايته عني أو قال: لست أخبرك به أو: رجعت عن إخباري إياك به فلا تروه عني غير

(1/179)


مسند ذلك إلى أنه أخطأ فيه أو شك فيه ونحو ذلك بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه حديثه وروايته فذلك غير مبطل لسماعه ولا مانع له من روايته عنه وسأل الحافظ أبو سعيد بن عليك النيسابوري إلاستاذ أبا إسحاق إلاسفرائيني رحمها الله عن محدث خص بالسماع قوما فجاء غيرهم وسمع منه من غير علم المحدث به هل يجوز له رواية ذلك عنه؟ فأجاب: بأنه يجوز. ولو قال المحدث: إني أخبركم ولا أخبر فلانا لم يضره والله أعلم.
القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة وهي متنوعة أنواعا:
أولها: أن يجيز لمعين في معين مثل أن يقول أجزت لك الكتاب الفلاني أو: ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهذا على أنواع الإجازة المجردة عن المناولة. وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها ولا خالف فيها أهل الظاهر. وإنما خلافهم في غير هذا النوع. وزاد القاضي أبو الوليد الباجي المالكي فأطلق نفي الخلاف وقال: لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه إلامة وخلفها وادعى إلاجماع من غير تفصيل وحكى الخلاف في العمل بها.
قلت: هذا باطل فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء وإلاصوليين وذلك إحدى الروايتين عن الشافعي رضي الله عنه. روي عن صاحبه الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي لا يرى الإجازة في الحديث. قال الربيع: أنا أخالف الشافعي في هذا
وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين منهم: القاضيان حسين بن محمد المروروذي وأبو الحسن الماوردي وبه قطع الماوردي في كتابه الحاوي وعزاه إلى مذهب الشافعي وقإلا جميعا: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وروي أيضا هذا الكلام عن شعبة وغيره.
وممن أبطلها من أهل الحديث إلامام إبراهيم بن إسحاق الحربي وأبو محمد

(1/180)


عبد الله بن محمد إلاصبهاني الملقب بأبي الشيخ والحافظ أبو نصر الوايلي السجزي. وحكى أبو نصر فسادها عن بعض من لقيه. قال أبو نصر: وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: قول المحدث قد أجزت لك أن تروي عني تقديره أجزت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع.
قلت: ويشبه هذا ما حكاه أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي أحد من أبطل الإجازة من الشافعية عن أبي طاهر الدباس أحد أئمة الحنفية قال: من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي ثم إن الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم: القول بتجويز الإجازة وإباحة الرواية بها وفي إلاحتجاج لذلك غموض. ويتجه أن يقول: إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته وقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراءة على الشيخ كما سبق وإنما الغرض حصول إلافهام والفهم وذلك يحصل بالإجازة المفهمة والله أعلم.
ثم إنه كما تجوز الرواية بالإجازة يجب العمل بالمروي بها خلافا لمن قال من أهل الظاهر ومن تابعهم: إنه لا يجب العمل به وإنه جار مجرى المرسل. وهذا باطل لأنه ليس في الإجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به والله أعلم.
النوع الثاني: من أنواع الإجازة: أن يجيز لمعين في غير معين مثل أن يقول: أجزت لك أو: لكم جميع مسموعاتي أو: جميع مروياتي وما أشبه ذلك. فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر. والجمهور من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويز الرواية بها أيضا وعلى إيجاب العمل بما روي بها بشرطه والله أعلم.

(1/181)


النوع الثالث- من أنواع الإجازة:
أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أن يقول أجزت للمسلمين أو: أجزت لكل أحد أو: أجزت لمن أدرك زماني وما أشبه ذلك فهذا نوع تكلم فيه المتأخرون ممن جوز أصل الإجازة واختلفوا في جوازه.
__________
النوع الثالث من أنواع الإجازة أن يجيز لغير معين بوصف العموم.
"قوله" فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاصر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب انتهى.
تقدم أن المصنف اختار عدم صحة الإجازة العامة وقال في هذه الصورة منها أنها أقرب إلى الجواز فلم يظهر من كلامه في هذه الصورة المنع أو الصحة والصحيح في هذه الصورة الصحة فقد قال القاضى عياض في كتاب الإلماع ما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن تصح عنده الإجازة ولا رأيت منعه لأحد لأنه محصور موصوف كقوله لأولاد فلان أو أخوة فلان.
"قوله" قلت ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة المستأخرة الذين سوغوها والإجازة في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغى احتماله والله أعلم انتهى.
وفيه أمور: أحدها: أنه اعترض على المصنف بأن الظاهر من كلام مصححها جواز الرواية بها وهذا مقتضى صحتها وأى فائدة لها غير الرواية بها انتهى.
ولا يحسن هذا الاعتراض على المصنف فإنه إنما أنكر أن يكون رأى أو سمع عن أحد أنه استعملها فروى بها ولا يلزم من ترك استعمالهم للرواية بها عدم صحتها إما لاستغنائهم عنها بالسماع أو احتياطا للخروج من خلاف من منع الرواية بها.
الأمر الثانى: أن ما رجحه المصنف من عدم صحتها خالفه فيه جمهور المتأخرين وصححه النووى في الروضه من زياداته فقال الأصح جوازها انتهى.

(1/182)


فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاصر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب. وممن جوز ذلك كله الخطيب أبو بكر الحافظ. وروينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ أنه قال: أجزت لمن قال لا إله إلا الله. وجوز القاضي أبو الطيب الطبري أحد الفقهاء المحققين فيما حكاه عنه الخطيب الإجازة لجميع المسلمين من كان منهم موجودا عند الإجازة.
وأجاز أبو محمد بن سعيد أحد الجلة من شيوخ إلاندلس: لكل من دخل قرطبة من طلبة العلم. ووافقه على جواز ذلك منهم أبو عبد الله بن عتاب رضي الله عنهم. وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة هذه فكان من جوابه:
__________
وممن أجازها أبو الفضح أحمد بن الحسين بن خيرون البغدادى وأبو الوليد ابن رشد من أئمة المالكية وأبو طاهر السلفي وخلائق كثيرون جمعهم الحافظ أبو جعفر محمد بن الحسين بن أبى البدر الكاتب البغدادى في جزء كبير رتب أسماءهم فيه على حروف المعجم لكثرتهم ورجحه أيضا أبو عمرو بن الحاجب من أئمة المالكية الأصولين.
الأمر الثالث أن المصنف ذكر أنه لم ير ولم يسمع أن أحدا ممن يقتدى به روى بها وقد أحسن من وقف عندما انتهى إليه ومع هذا فقد روى بها بعض الأئمة المتقدمين على ابن الصلاح كالحافظ أبى بكر محمد بن خير بن عمر الأموى بفتح الهمزة الأشبيلى خال أبى القاسم السهيلى فروى في برنامجه المشهور بالإجازة العامة وحدث بها من الحفاظ المتأخرين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى بإجازته العامة من المؤيد الطوسى وسمع بها الحفاظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزى وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى وأبو محمد القاسم بن محمد البرزالى على الركن الطاووسى بإجازته العامة من أبى جعفر الصيدلانى وغيره وقرأ بها شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائى على أبى العباس أحمد ابن نعمة بإجازته العامة من داود بن معمر بن الفاخر وبالجملة ففي النفس من الرواية بها شئ الاحتياط ترك الرواية بها والله أعلم.

(1/183)


أن من أدركه من الحفاظ نحو أبي العلاء الحافظ وغيره كانوا يميلون إلى الجواز والله أعلم.
قلت: ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به: أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة المستأخرة الذين سوغوها. والإجازة في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع وإلاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله والله أعلم.
النوع الرابع- من أنواع الإجازة: الإجازة للمجهول أو بالمجهول.
ويتشبث بذيلها الإجازة المعلقة بالشرط. وذلك مثل أن يقول أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي. وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا إلاسم والنسب ثم لا يعين المجاز له منهم. أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن وهو يروي جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك ثم لا يعين فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها وليس من هذا القبيل ما إذا أجاز لجماعة مسمين معينين بأنسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم غير عارف بهم فهذا غير قادح كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه والله أعلم.
وإن أجاز للمسلمين المنتسبين في إلاستجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولم يعرف عددهم ولم يتصفح أسماءهم واحدا فواحدا فينبغي أن يصح ذلك أيضا كما يصح سماع من حضر مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلا ولم يعرف عددهم ولا تصفح أشخاصهم واحدا واحدا.
وإذا قال أجزت لمن يشاء فلان أو نحو ذلك فهذا فيه جهالة وتعليق بشرط فالظاهر أنه لا يصح وبذلك أفتى القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي إذ سأله الخطيب الحافظ عن ذلك وعلل بأنه إجازة لمجهول فهو كقوله أجزت لبعض الناس من غير تعيين.

(1/184)


وقد يعلل ذلك أيضا بما فيها من التعليق بالشرط فإن ما يفسد بالجهالة يفسد بالتعليق على ما عرف عند قوم.
وحكى الخطيب عن أبي يعلي بن الفراء الحنبلي وأبي الفضل بن عمروس المالكي أنهما أجازا ذلك وهؤلاء الثلاثة كانوا مشايخ مذاهبهم ببغداد إذ ذاك وهذه الجهالة ترتفع في ثاني الحال عند وجود المشيئة بخلاف الجهالة الواقعة فيما إذا أجاز لبعض الناس. وإذا قال: أجزت لمن شاء فهو كما لو قال أجزت لمن شاء فلان بل هذه أكثر جهالة وانتشارا من حيث إنها معلقة بمشيئة من لا يحصر عددهم بخلاف تلك. ثم هذا فيما إذا أجاز لمن شاء الإجازة منه له.
فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز من حيث إن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق
__________
النوع الرابع- من أنواع الإجازة للمجهول أو بالمجهول.
"قوله" فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز من حيث أن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الإطلاق وحكاية للحال لا تعليقا في الحقيقة ولهذا أجاز بعض أئمة الشافعيين في البيع بعتك هذا بكذا إن شئت فيقول انتهى.
ولم يبين المصنف أيضا تصحيحا في هذه الصورة بل جعلها أولى بالجواز والصحيح فيها عدم الصحة وقياس المصنف لهذه الصورة على تجويز بعض الأئمة قول القائل بعتك هذا بكذا إن شئت ليس بجيد والفرق بين المسألتين أن المبتاع معين في مسألة البيع والشخص المجاز مبهم في مسألة الإجازة وإنما وزان مسألة البيع أن يقول أجزت لك أن تروى عنى إن شئت الرواية عنى فإن الأظهر الأقوى في هذه الصورة الجواز كما ذكره المصنف بعد ذلك وفي مسألة البيع التى قاس عليها المصنف مسألة الإجازة وجهان حكاهما الرافعى وقال أظهرهما أنه ينعقد.

(1/185)


تصريحا بما يقتضيه الإطلاق وحكاية للحال لا تعليقا في الحقيقة. ولهذا أجاز بعض أئمة الشافعيين في البيع أن يقول: بعتك هذا بكذا إن شئت فيقول: قبلت.
ووجد بخط أبي الفتح محمد بن الحسين إلازدي الموصلي الحافظ أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يروي ذلك عني.
أما إذا قال أجزت لفلان كذا وكذا إن شاء روايته عني أو: لك إن شئت أو أحببت أو أردت فإلاظهر إلاقوى أن ذلك جائز إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق ولم يبق سوى صيغته والعلم عند الله تعالى.
النوع الخامس- من أنواع الإجازة: الإجازة للمعدوم. ولنذكر معه الإجازة للطفل الصغير.
هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين واختلفوا في جوازه ومثاله: أن يقول: أجزت لمن يولد لفلان
فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال: أجزت لفلان ولمن يولد له أو: أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول.
ولمثل ذلك أجاز أصحاب الشافعي رضي الله عنه في الوقف القسم الثاني دون الأول.
وقد أجاز أصحاب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما أو من قال ذلك منهم في الوقف القسمين كليهما وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين أبو بكر بن أبي داود السجستاني فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة فقال: قد أجزت لك ولأولادك ولحبل الحبلة. يعني الذين لم يولدوا بعد.
وأما الإجازة للمعدوم ابتداء من غير عطف على موجود: فقد أجازها الخطيب

(1/186)


أبو بكر الحافظ وذكر أنه سمع أبا يعلى بن الفراء الحنبلي وأبا الفضل بن عمروس المالكي يجيزان ذلك. وحكى جواز ذلك أيضا أبو نصر بن الصباغ الفقيه فقال: ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يجيز لمن يخلق. قال: وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة. ثم بين بطلان هذه الإجازة وهو الذي استقر عليه رأي شيخه القاضي أبي الطيب الطبري إلامام وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره لأن الإجازة في حكم إلاخبار جملة بالمجاز على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة فكما لا يصح إلاخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم. ولو قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح أيضا ذلك للمعدوم كما لا يصح إلاذن في باب الوكالة للمعدوم لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له.
وهذا أيضا يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه قال الخطيب: سألت القاضي أبا الطيب الطبري عن الإجازة للطفل الصغير هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه؟ فقال: لا يعتبر ذلك. قال: فقلت له: أن بعض أصحابنا قال: لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه. فقال: قد يصح أن يجيز ذلك للغائب عنه ولا يصح السماع له.
واحتج الخطيب لصحتها للطفل: بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه وإلاباحة تصح للعاقل وغير العاقل.
قال وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم وحال تمييزهم. ولم نرهم أجازوا لمن يكن مولودا في الحال.
قلت: كأنهم رأوا الطفل أهلا لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث ليؤدي به بعد حصول أهليته حرصا على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه إلامة وتقريبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1/187)


النوع السادس- من أنواع الإجازة:
إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله أصلا بعد ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك أخبرني من أخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته بالمغرب قال: هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يصنعونه.
ثم حكى عن أبي الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة: أنه سئل الإجازة بجميع ما رواه إلى تاريخها وما يرويه بعد فامتنع من ذلك فغضب السائل. فقال له بعض أصحابه: يا هذا يعطيك ما لم يأخذه؟ هذا محال قال عياض: وهذا هو الصحيح.
قلت: ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم إلاخبار بالمجاز جملة أو: هي إذن؟ فإن جعلت في حكم إلاخبار لم تصح هذه الإجازة إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه. وإن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح إلاذن في باب الوكالة فيما لم يملكه إلاذن الموكل بعد مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه. وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي والصحيح بطلان هذه الإجازة. وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا: أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ هذه الإجازة. وأما إذا قال: أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي فهذا ليس من هذا القبيل. وقد فعله الدارقطني وغيره. وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة. ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله: ما صح عندك ولم يقل وما يصح لأن المراد: أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك. فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم.

(1/188)


النوع السابع- من أنواع الإجازة:
إجازة المجاز. مثل أن يقول الشيخ أجزت لك مجازاتي. أو: أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته فمنع من ذلك بعض من لا يعتد به من المتأخرين.
والصحيح والذي عليه العمل أن ذلك جائز ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكل. ووجدت عن أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي قال: سمعت أبا نعيم الحافظ إلاصبهاني يقول: الإجازة على الإجازة قوية جائزة.
وحكى الخطيب الحافظ تجويز ذلك عن الحافظ إلامام أبي الحسن الدارقطني والحافظ أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي وغيرهما. وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة حتى ربما والى في روايته بين إجازات ثلاث وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه ومقتضاها حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها. فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ شيخه أجزت له ما صح عنده من سماعاتي فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من سماعات شيخه الذي تلك إجازته ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده إلان عملا بلفظه وتقييده. ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره والله أعلم.
هذه أنواع الإجازة التي تمس الحاجة إلى بيانها ويتركب منها أنواع أخر سيتعرف المتأمل حكمها مما أمليناه إن شاء الله تعالى.
ثم إنا ننبه على أمور:
أحدها: روينا عن أبي الحسين أحمد فارس إلاديب المصنف رحمه الله قال: معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية

(1/189)


والحرث يقال منه: استجزت فلانا فأجاز لي إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك. كذلك طالب العلم: يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه.
قلت: فللمجيز على هذا أن يقول أجزت فلانا مسموعاتي أو: مروياتي فيعديه بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية أو نحو ذلك. ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ وإلاذن وإلاباحة وذلك هو المعروف فيقول أجزت لفلان رواية مسموعاتي مثلا ومن يقول منهم أجزت له مسموعاتي فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفي نظيره والله أعلم.
الثاني: إنما يستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز والمجاز له من أهل العلم لأنها توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها. وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطا فيها. وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي عن مالك رضي الله عنه.
وقال الحافظ أبو عمر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة وفي شيء معين لا يشكل إسناده والله أعلم.
الثالث: ينبغي للمجيز إذا كتب أجازته أن يتلفظ بها فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازة جائزة إذا اقترن بقصد الإجازة. غير أنها أنقص مرتبة من الإجازة الملفوظ بها. وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية التي جعلت فيه القراءة على الشيخ مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخبارا منه بما قرئ عليه على ما تقدم بيانه والله أعلم.

(1/190)


القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة.
وهي على نوعين:
أحدهما: المناولة المقرونة بالإجازة وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. ولها صور:
منها: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به ويقول هذا سماعي أو: روايتي عن فلان فاروه عني أو: أجزت لك روايته عني ثم يملكه إياه. أو يقول خذه وانسخه وقابل به ثم رده إلي أو نحو هذا.
ومنها: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول له وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فلان أو: روايتي عن شيوخي فيه فاروه عني أو: أجزت لك روايته عني. وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضا. وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى عرضا فلنسم ذلك عرض القراءة وهذا عرض المناولة والله أعلم.
وهذه المناولة المقترنة بالإجازة: حالة محل السماع عند مالك وجماعة من أئمة أصحاب الحديث. وحكى الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري في عرض المناولة المذكور عن كثير من المتقدمين: أنه سماع. وهذا مطرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة. فممن حكى الحاكم ذلك عنهم ابن شهاب الزهري وربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس إلامام في آخرين من المدنيين ومجاهد وأبو الزبير وابن عيينة في جماعة من المكيين وعلقمة وإبراهيم النخعيان والشعبي

(1/191)


في جماعة من الكوفيين وقتادة وأبو العالية وأبو المتوكل الناجي في طائفة من البصريين وابن وهب وابن القاسم وأشهب في طائفة من المصريين وآخرون من الشاميين والخراسانيين ورأى الحاكم طائفة من مشايخه على ذلك وفي كلامه بعض التخليط من حيث كونه خلط بعض ما ورد في عرض القراءة بما ورد في عرض المناولة وساق الجميع مساقا واحدا.
والصحيح: أن ذلك غير حال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا وإلاخبار قراءة.
وقد قال الحاكم في هذا العرض: أما فقهاء إلاسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا وبه قال الشافعي وإلاوزاعي والبويطي والمزني وأبو حنيفة وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وابن المبارك ويحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه. قال: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب والله أعلم.
__________
القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه المناولة.
قوله قال الحاكم في هذا العرض أي عرض المناولة أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا وبه قال الأوزاعي والشافعي والبويطي والمزني وأبو حنيفة وسفيان الثوري إلى آخر كلامه اعترض على المصنف بذكر أبى حنيفة مع المذكورين فإن من عدا أبا حنيفة يرى صحة المناولة وأنها دون السماع وأما أبو حنيفة فلا يرى صحتها أصلا كما ذكره صاحب القنية فقال إذا أعطاه المحدث الكتاب وأجاز له ما فيه ولم يسمع ذلك ولم يعرفه فعند أبى حنيفة ومحمد لا يجوز روايته وعند أبى يوسف يجوز انتهى.
قلت لم يكتف صاحب القنية في نقله عن أبى حنيفة لعدم الصحة بكونه لم ويسمعه فقط بل زاد على ذلك بقوله ولم يعرفه فإن كان الضمير في يعرفه عائدا على المجاز وهو الظاهر لتتفق الضمائر فمقتضاه أنه إذا عرف المجاز ما أجيز له أنه يصح بخلاف ما ذكر المعترض

(1/192)


ومنها: أن يناول الشيخ الطالب كتابه ويجيز له روايته عنه ثم يمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه فهذا يتقاعد عما سبق لعدم احتواء الطالب على ما تحمله وغيبته عنه. وجائز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب أو: بما هو مقابل به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة.
ثم إن المناولة في مثل هذا لا يكاد يظهر حصول مزية بها على الإجازة الواقعة في معين كذلك من غير مناولة. وقد صار غير واحد من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثير لها ولا فائدة. غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث أو من حكي ذلك عنه منهم يرون لذلك مزية معتبرة والعلم عند الله تبارك وتعالى.
ومنها: أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته فيجيبه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحقق روايته لجميعه فهذا لا يجوز ولا يصح.
فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز إلاعتماد عليه في ذلك وكان ذلك
__________
أنه لا يرى صحتها أصلا وإن كان الضمير يعود على الشيخ المجيز فقد ذكر المصنف بعد هذا أن الشيخ إذا لم ينظر ويتحقق روايته لجميعه لا يجوز ولا يصح ثم استثنى ما إذا كان الطالب موثوقا بخبره فإنه يجوز الاعتماد عليه انتهى.
وهذه الصورة لا يوافق على صحتها أبو حنيفة بل لابد أن يكون الشيخ حافظا لحديثه أو ممسكا لأصله وهو الذى صححه إمام الحرمين كما تقدم بل أطلق الآمدي النقل عن أبى حنيفة وأبى يوسف أن الإجازة غير صحيحة والله تعالى أعلم.
ويجوز أن يكون أبو حنيفة وأبو يوسف إنما يمنعان صحة الإجازة الخالية عن المناولة فقد حكى القاضى عياض في كتاب الإلماع عن كافة أهل النقل والآراء والتحقيق من أهل النظر القول بصحة المناولة المقروبة بالإجازة.

(1/193)


إجازة جائزة كما جاز في القراءة على الشيخ إلاعتماد على الطالب حتى يكون هو القارىء من الأصل إذا كان موثوقا به معرفة ودينا.
قال الخطيب أبو بكر رحمه الله: ولو قال حدث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي مع براءتي من الغلط والوهم كان ذلك جائزا حسنا والله أعلم.
الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره أولا ويقتصر على قوله هذا من حديثي أو: من سماعاتي ولا يقول اروه عني أو: أجزت لك روايته عني ونحو ذلك
فهذه مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء وإلاصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها.
وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم: أنهم صححوها وأجازوا الرواية بها وسنذكر إن شاء الله سبحانه وتعالى قول من أجاز الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب: أن هذا الكتاب سماعه من فلان. وهذا يزيد على ذلك ويترجح بما فيه من المناولة فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية والله أعلم.
القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة:
حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم: أنهم جوزوا إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة حكي ذلك عن الزهري ومالك وغيرهما وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم: أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعا. وحكي أيضا عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة.
وكان الحافظ أبو نعيم إلاصبهاني صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث يطلق أخبرنا فيما يرويه بالإجازة. روينا عنه أنه قال: أنا إذا قلت حدثنا فهو سماعي وإذا قلت أخبرنا على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه إجازة

(1/194)


أو كتابة أو كتب إلي. أو أذن لي في الرواية عنه.
وكان أبو عبيد الله المرزباني إلاخباري صاحب التصانيف في علم الخبر يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع ويقول في الإجازة أخبرنا ولا يبينها وكان ذلك فيما حكاه الخطيب مما عيب به.
والصحيح والمختار الذي عليه عمل الجمهور وإياه اختار أهل التحري والورع المنع في ذلك من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحوهما من العبارات وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به بأن يقيد هذه العبارات فيقول: أخبرنا أو: حدثنا فلان مناولة وإجازة أو: أخبرنا إجازة أو: أخبرنا مناولة أو: أخبرنا إذنا أو: في إذنه أو: فيما أذن لي فيه أو: فيما أطلق لي روايته عنه. أو يقول: أجاز لي فلان أو: أجازني فلان كذا وكذا أو: ناولني فلان وما أشبه ذلك من العبارات وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس أو طرف منه كعبارة من يقول في الإجازة أخبرنا مشافهة إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظا كعبارة من يقول أخبرنا فلان كتابة أو: فيما كتب إلي أو: في كتابه إذا كان قد أجازه بخطه. فهذا وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين فلا يخلو عن طرف من التدليس لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه.
وورد عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله خبرنا بالتشديد والقراءة عليه بقوله أخبرنا واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة وهو الوليد ابن بكر صاحب الوجازة في الإجازة.
وقد كان أنبأنا عند القوم فيما تقدم بمنزلة أخبرنا وإلى هذا نحا الحافظ المتقن

(1/195)


أبو بكر البيهقي إذ كان يقول أنبأني فلان إجازة وفيه أيضا رعاية لاصطلاح المتأخرين والله أعلم.
وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله أنه قال: الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري: أن يقول فيما عرض على المحدث فأجاز له روايته شفاها أنبأني فلان وفيما كتب إليه المحدث من مدينة ولم يشافهه بالإجازة كتب إلي فلان.
وروينا عن أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري قال: سمعت أبي يقول: كل ما قال البخاري قال لي فلان فهو عرض ومناولة.
قلت: وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول أخبرنا فلان أن فلانا حدثه أو: أخبره. وبلغنا ذلك عن إلامام أبي سليمان الخطابي أنه اختاره أو حكاه وهذا اصطلاح بعيد عن إلاشعار بالإجازة وهو فيما إذا سمع منه الإسناد فحسب وأجاز له ما رواه قريب فإن كلمة أن في قوله أخبرني فلان أن فلانا أخبره فيها إشعار بوجود أصل إلاخبار وإن أجمل المخبر به ولم يذكره تفصيلا.
قلت: وكثيرا ما يعبر الرواة المتأخرون عن الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع بكلمة عن فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه قرأت على فلان عن فلان وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه إن لم يكن سماعا فإنه شاك.
وحرف عن مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما والله أعلم.
ثم اعلم: أن المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له إن شاء قال

(1/196)


حدثنا وإن شاء قال أخبرنا فليعلم ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى.
القسم الخامس: من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة:
وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نوعين:
أحدهما: أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة والثاني: أن تقترن بالإجازة بأن يكتب إليه ويقول أجزت لك ما كتبته لك أو: ما كتبت به إليك أو نحو ذلك من عبارات الإجازة.
أما إلاول: وهو ما إذا اقتصر على المكاتبة: فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني ومنصور والليث بن سعد وقاله غير واحد من الشافعيين وجعلها أبو المظفر السمعاني منهم أقوى من الإجازة وإليه صار غير واحد من إلاصوليين وأبى ذلك قوم آخرون. وإليه صار من الشافعيين القاضي الماوردي وقطع به في كتابه الحاوي والمذهب إلاول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث. وكثيرا ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان والمراد به هذا. وذلك معمول به عندهم معدود في المسند الموصول. وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظا فقد تضمنت الإجازة معنى ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب وإن لم تقم البينة عليه ومن الناس من قال: الخط يشبه الخط فلا يجوز إلاعتماد على ذلك. وهذا غير مرضي لأن ذلك نادر والظاهر: أن خط إلانسان لا يشتبه بغيره ولا يقع فيه التباس.
ثم ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم منهم الليث بن سعد ومنصور: إلى جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار: قول من يقول فيها

(1/197)


كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان بكذا وكذا وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة. وهكذا لو قال أخبرني به مكاتبة أو كتابة ونحو ذلك من العبارات أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإجازة: فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة والله أعلم.
القسم السادس: من أقسام الأخذ ووجوه النقل إعلام الراوي للطالب بأن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان أو روايته. مقتصرا على ذلك من غير أن يقول اروه عني أو: أذنت لك في روايته ونحو ذلك فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله.
حكي ذلك عن ابن جريج وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصليين والظاهريين وبه قطع أبو نصر بن الصباغ من الشافعيين واختاره ونصره أبوالعباس الوليد بن بكر الغمري المالكي في كتاب الوجازة في تجويز الإجازة.
وحكى القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي عن بعض أهل الظاهر: أنه ذهب إلى ذلك واحتج له. وزاد فقال: لو قال له هذه روايتي لكن لا تروها عني كان له أن يرويها عنه كما لو سمع منه حديثا ثم قال له لا تروه عني ولا أجيزه لك لم يضره ذلك ووجه مذهب هؤلاء اعتبار ذلك بالقراءة على الشيخ فإنه إذا قرأ عليه شيئا من حديثه وأقر بأنه روايته عن فلان بن فلان جاز له أن يرويه عنه وإن لم يسمعه من لفظه ولم يقل له اروه عني أو: أذنت لك في روايته عني والله أعلم.
والمختار: ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم من: أنه لا تجوز الرواية بذلك. وبه قطع الشيخ أبو حامد الطوسي من الشافعيين ولم يذكر غير ذلك. وهذا لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته ثم لا يأذن له في روايته عنه لكونه لا يجوز

(1/198)


روايته لخلل يعرفه فيه ولم يوجد منه التلفظ به ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك حدثنا وأخبرنا صدقا وإن لم يأذن له فيه وإنما هذا كالشاهد إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه أن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك وإن افترقا في غيره ثم إنه يجب عليه العمل بما ذكره له إذا صح إسناده وإن لم تجز له روايته عنه لأن ذلك يكفي فيه صحته في نفسه والله أعلم.
القسم السابع من أقسام إلاخذ والتحمل: الوصية بالكتب أن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص.
فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي. وهذا بعيد جدا وهو إما زلة عالم أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها إن شاء الله تعالى.
وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم إلاعلام وقسم المناولة ولا يصح ذلك فإن لقول من جوز الرواية بمجرد إلاعلام والمناولة مستندا ذكرناه لا يتقرر مثله ولا قريب منه ههنا والله أعلم.

(1/199)


القسم الثامن الوجادة:
وهي مصدر ل وجد يجد مولد غير مسموع من العرب.
روينا عن المعافي بن زكريا النهرواني العلامة في العلوم: أن المولدين فرعوا قولهم وجادة فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادر وجد للتمييز بين المعاني المختلفة يعني قولهم وجد ضالته وجدنا ومطلوبه وجودا وفي الغضب موجدة وفي الغنى وجدا وفي الحب وجدا.
مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه أو: لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه ولا له منه إجازة ولا نحوها.
__________
القسم الثامن الوجادة
"قوله" روينا عن المعافي بن عمران أن المولدين فزعوا قولهم وجادة فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادر وجد للتمييز بين المعانى المختلفة يعنى قولهم وجد ضالته وجدانا ومطلوبه وجودا وفي الغضب موجدة وفي الغنى وجدا وفي الحب وجدا انتهى.
ذكر المصنف خمسة مصادر مسموعة لوجد باختلاف معانيه وبقى عليه ثلاثة مصادر أحدها وجده في الغضب وفي الغنى أيضا وفي المطلوب أيضا والثانى إجدان بكسر الهمزة في الضالة وفي المطلوب أيضا حكاها صاحب المحكم في الضالة فقط ووجد بكسر الواو في الغنى واقتصر المصنف في كل معنى من المعانى المذكورة على مصدر واحد وقد تقدم أن للضالة مصدرا آخر وهو إجدان وللمطلوب خمسة مصادر أخر وهى جدة كما تقدم ووجد بالفتح ووجد بالضم ووجدان وإجدان وللغضب ثلاثة مصارد أخر وجد بالفتح ووجدة ووجدان كما تقدم وللغنى مصدران آخران وجد بالكسر أيضا وجدة.
"قوله" مثال الوجادة أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم

(1/200)


فله أن يقول وجدت بخط فلان أو: قرأت بخط فلان أو: في كتاب فلان بخطه: أخبرنا فلان بن فلان ويذكر شيخه ويسوق سائر الإسناد والمتن. أو: يقول وجدت أو: قرأت بخط فلان عن فلان ويذكر الذي حدثه ومن فوقه هذا الذي استمر عليه العمل قديما وحديثا وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوبا من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان.
وربما دلس بعضهم فذكر الذي وجد خطه وقال فيه عن فلان أو: قال فلان وذلك تدليس قبيح إذا كان بحيث يوهم سماعه منه على ما سبق في نوع التدليس وجازف بعضهم فأطلق فيه حدثنا وأخبرنا وانتقد ذلك على فاعله وإذا وجد حديثا في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول ذكر فلان أو: قال فلان: أخبرنا فلان أو: ذكر فلان عن فلان. وهذا منقطع لم يأخذ شوبا من الاتصال.
وهذا كله إذا وثق بأنه خط المذكور أو كتابه فإن لم يكن كذلك فليقل بلغني عن فلان أو: وجدت عن فلان أو: نحو ذلك من العبارات. أو ليفصح بالمستند فيه بأن يقول ما قاله بعض من تقدم قرأت في كتاب فلان بخطه وأخبرني فلان أنه بخطه أو يقول وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان أو: في كتاب ذكر كاتبه أنه فلان بن فلان أو في كتاب قيل إنه بخط فلان.
__________
يلقه أو لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه ولا له منه إجازة ولا نحوها إلى آخر كلامه قلت اشتراط المصنف في الوجادة أن يكون ذلك الشيخ الذي وجد ذلك الموجود بخطه لا إجازة له منه ليس بجيد ولذلك لم يذكره القاضي عياض في حد الوجادة في كتاب الإلماع وجرت عادة أهل الحديث باستعمال الوجادة مع الإجازة فيقول أحدهم وجدت بخط فلان وإجازه لى وكأن المصنف إنما أراد بيان الوجادة الخالية عن الإجازة هل هي مستند صحيح في الرواية أو لا وحكى الخلاف فيه والله أعلم.

(1/201)


وإذا أراد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف فلا يقل قال فلان كذا وكذا إلا إذا وثق بصحة النسخة بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعددة كما نبهنا عليه في آخر النوع إلاول. وإذا لم يوجد ذلك ونحوه فليقل بلغني عن فلان أنه ذكر كذا وكذا أو: وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني وما أشبه هذا من العبارات.
وقد يتسامح أكثر الناس في هذه إلازمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر وتثبت فيطالع أحدهم كتابا منسوبا إلى مصنف معين وينقل منه عنه من غير أن يثق بصحة النسخة قائلا قال فلان كذا وكذا أو: ذكر فلان كذا وكذا والصواب ما قدمناه: فإن كان المطالع عالما فطنا بحيث لا يخفي عليه في الغالب مواضع إلاسقاط والسقط وما أحيل عن جهته إلى غيرها رجونا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك. وإلى هذا فيما احسب استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس والعلم عند الله تعالى. هذا كله كلام في كيفية النقل بطريق الوجادة.
وأما جواز العمل اعتمادا على ما يوثق به منها: فقد روينا عن بعض المالكية: أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك.
وحكي عن الشافعي وطائفة من نظار أصحابه جواز العمل به.
قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه. وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في إلاعصار المتأخرة فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية فيها على ما تقدم في النوع إلاول والله أعلم.

(1/202)


النوع الخامس والعشرون: في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده.
اختلف الصدر إلاول رضي الله عنهم في كتابة الحديث فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه ومنهم من أجاز ذلك وممن روينا عنه كراهة ذلك عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين.
وروينا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه". أخرجه مسلم في صحيحه وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على جواز: ذلك حديث أبي شاه اليمني في التماسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام فتح مكة وقوله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه".
ولعله صلى الله عليه وسلم أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه مخافة إلاتكال على الكتاب. أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم وأذن في كتابته حين أمن من ذلك.
وأخبرنا أبو الفتح بن عبد المنعم الفراوي قراءة عليه بنيسابور جبرها الله أخبرنا أبو المعالي الفارسي: أخبرنا الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران: أخبرنا أبو عمرو بن السماك: حدثنا حنبل بن إسحاق: حدثنا سليمان بن أحمد: حدثنا الوليد هو ابن مسلم قال: كان إلاوزاعي يقول: كان هذا العلم كريما يتلقاه الرجال بينهم فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله.

(1/203)


ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الاعصر الآخرة والله أعلم.
ثم إن على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلا ونقطا يؤمن معهما إلالتباس. وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه وذلك وخيم العاقبة فإن إلانسان معرض للنسيان وأول ناس أول الناس وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه وشكله يمنع من أشكاله ثم لا ينبغي أن يتعنى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس. وقد أحسن من قال: إنما يشكل ما يشكل.
وقرأت بخط صاحب كتاب سمات الخط ورقومه علي بن إبراهيم البغدادي فيه: أن أهل العلم يكرهون إلاعجام وإلاعراب إلا في الملتبس.
وحكى غيره عن قوم أنه ينبغي أن يشكل ما يشكل وما لا يشكل وذلك لأن المبتدئ وغير المتبحر في العلم لا يميز ما يشكل مما لا يشكل ولا صواب الإعراب من خطئه والله أعلم.

(1/204)


وهذا بيان أمور مفيدة في ذلك:
إحداها: ينبغي أن يكون اعتناؤه من بين يلتبس بضبط الملتبس من أسماء الناس أكثر فإنها لا تستدرك بالمعنى ولا يستدل عليها بما قبل وما بعد.
الثاني: يستحب في إلالفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها بأن يضبطها في متن الكتاب ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة فإن ذلك أبلغ في إبانتها وأبعد من التباسها وما ضبطه في أثناء إلاسطر ربما داخله نقط غيره وشكله مما فوقه وتحته لا سيما عند دقة الخط وضيق إلاسطر وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط والله أعلم.
الثالث: يكره الخط الدقيق من غير عذر يقتضيه. روينا عن حنبل بن إسحاق: قال رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطا دقيقا فقال: لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك.
وبلغنا عن بعض المشايخ أنه كان إذا رأى خطا دقيقا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله
والعذر في ذلك هو مثل أن لا يجد في الورق سعة أو يكون رحإلا يحتاج إلى تدقيق الخط ليخف عليه محمل كتابه ونحو هذا والله أعلم.
__________
النوع الخامس والعشرون- في كتابة الحديث.
"قوله" يستحب في الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها بأن يضبطها في متن الكتاب ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة انتهى.
اقتصر المصنف على ذكر كتابة اللفظة المشكلة في الحاشية مفردة مضبوطة ولم يتعرض لتقطيع حروفها وهو متداول بين أهل الضبط وفائدته ظهور شكل الحرف بكتابته مفردا كالنون والياء إذا وقعت في أول الكلمة أو في وسطها ونقله ابن دقيق العيد في الاقتراح عن أهل الاتقان فقال ومن عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفا حرفا.

(1/205)


الرابع: يختار له في خطه التحقيق دون المشق والتعليق. بلغنا عن ابن قتيبة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شر الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة وأجود الخط أبينه والله أعلم.
الخامس: كما تضبط الحروف المعجمة بالنقط كذلك ينبغي أن تضبط المهملات غير المعجمة بعلامة إلاهمال لتدل على عدم إعجامها.
وسبيل الناس في ضبطها مختلف:
فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من المهملات.
وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت السن المهملة تكون مبسوطة صفا والتي فوق الشين المعجمة تكون كإلاثافي ومن الناس من يجعل علامة إلاهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها ومنهم من يجعل تحت الحاء المهملة حاء مفردة صغيرة وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك.
فهذه وجوه من علامات إلاهمال شائعة معروفة.
وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له
__________
"قوله" وسبيل الناس في ضبطها أى الحروف المهملة مختلف فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط الذى فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من المهملات انتهى.
أطلق المصنف في هذه العلامة قلب النقط العلوية في المعجمات إلى أسفل المهملات وتبع في ذلك القاضى عياضا ولابد من استثناء الحاء المهملة لأنها لو نقطت من أسفل صارت جيما.
"قوله" وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة.

(1/206)


الكثيرون كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطا صغيرا وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة والله أعلم.
السادس: لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره فيوقع غيره في حيرة كفعل من يجمع في كتابه بين روايات مختلفة ويرمز إلى رواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك. فإن بين في أول كتابه أو آخره مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس. ومع ذلك فإلاولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رواية اسم راويها بكماله مختصرا ولا يقتصر على العلامة ببعضه والله أعلم.
السابع: ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميز. وممن بلغنا عنه ذلك من إلائمة أبو الزناد وأحمد بن حنبل وإبراهيم بن إسحاق الحربي ومحمد بن جرير الطبري رضي الله عنهم.
واستحب الخطيب الحافظ أن تكون الدارات غفلا فإذا عارض فكل حديث يفرغ من عرضه ينقط في الدارة التي تليه نقطة أو يخط في وسطها خطا.
قال: وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماه إلا بما كان كذلك أو في معناه والله أعلم.
الثامن: يكره له في مثل عبد الله بن فلان بن فلان أن يكتب عبد في آخر
__________
ولا يفطن له كثيرون كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطا صغيرا انتهى.
اقتصر المصنف في هذه العلامة على جعل خط صغير فوق الحرف المهمل وترك فيه زيادة ذكرها القاضى عياض في الإلماع فحكى عن بعض أهل المشرق أنه يعلم فوق الحرف المهمل بخط صغير يشبه النبرة فحذف المصنف منه ذكر النبرة والمصنف إنما أخذ ضبط الحروف المهملة بهذه العلامات من الإلماع للقاضى عياض وإذا كان كذلك فحذفه لقوله يشبه النبرة يخرج هذه العلامة عن صفتها فإن النبرة هى الهمزة كما قال الجوهرى وصاحب المحكم ومقتضى كلام المصنف أنها كالنصبة لا كالهمزة والله أعلم.
"قوله" يكره له في مثل عبد الله بن فلان بن فلان أن يكتب عبد في آخر سطر والباقى

(1/207)


سطر والباقي في أول السطر إلاخر. وكذلك يكره في عبد الرحمن بن فلان وفي سائر إلاسماء المشتملة على التعبيد لله تعالى أن يكتب عبد في آخر سطر واسم الله مع سائر النسب في أول السطر إلاخر. وهكذا يكره أن يكتب قال رسول في آخر سطر ويكتب في أول السطر الذي يليه الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما أشبه ذلك والله أعلم.
التاسع: ينبغي له أن يحافظ على كتبة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما وقد روينا لأهل ذلك منامات صالحة وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية ولا يقتصر فيه على ما في الأصل وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى وما ضاهى ذلك. وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت به الرواية كانت العناية بإثباته وضبطه أكثر.
وما وجد في خط أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه من إغفال ذلك عند ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم: فلعل سببه أنه كان يرى التقيد في ذلك بالرواية وعز عليه اتصالها في ذلك في جميع من فوقه من الرواة.
قال الخطيب أبو بكر: وبلغني أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم نطقا
__________
في أول السطر الآخر إلى آخر كلامه اقتصر المصنف في هذا على الكراهة والذى ذكره الخطيب في كتاب الجامع امتناع ذلك فإنه روى فيه عن أبى عبد الله بن بطة أنه قال هذا كله غلط قبيح فيجب على الكاتب أن يتوقاه ويتأمله ويتحفظ منه قال الخطيب وهذا الذى ذكره أبو عبد الله صحيح فيجب اجتنابه انتهى.
واقتصر ابن دقيق العيد في الاقتراح على جعل ذلك من الآداب لا من الواجبات والله أعلم.

(1/208)


لا خطا. قال: وقد خالفه غيره من إلائمة المتقدمين في ذلك وروي عن علي بن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري قإلا: ما تركنا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حديث سمعناه وربما عجلنا فنبيض الكتاب في كل حديث حتى نرجع إليه والله أعلم.
ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب وسلم وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين. سمعت أبا القاسم منصور بن عبد المنعم وأم المؤيد بنت أبي القاسم بقرائتي عليهما قإلا: سمعنا أبا البركات عبد الله بن محمد الفراوي لفظا قال: سمعت المقرئ ظريف بن محمد يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الحافظ قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزة الكناني يقول: كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه ولا أكتب وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت وسلم.
وقع في الأصل في شيخ المقري ظريف عبد الله وإنما هو عبيد الله بالتصغير ومحمد بن إسحاق أبوه هو أبو عبد الله بن منده فقوله الحافظ إذا مجرور.
قلت: ويكره أيضا إلاقتصار على قوله عليه السلام والله أعلم.
العاشر: على الطالب مقابلة كتابه بأصل سماعه وكتاب شيخه الذي يرويه عنه وإن كان إجازة
روينا عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم قال: عرضت كتابك؟ قال: لا قال: لم تكتب.
وروينا عن الشافعي الإمام وعن يحيى بن أبي كثير قإلا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج وعن إلاخفش قال: إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم
__________
"قوله" وروينا عن الشافعى الإمام وعن يحيى بن كثير قالا من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج انتهى.

(1/209)


نسخ ولم يعارض خرج أعجميا.
ثم إن أفضل المعارضة: أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ في حال تحديثه إياه من كتابه لما يجمع ذلك من وجوه إلاحتياط وإلاتقان من الجانبين. وما لم تجتمع فيه هذه إلاوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها. وما ذكرناه أولى من إطلاق أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي قوله: أصدق المعارضة مع نفسك ويستحب أن ينظر معه في نسخته من حضر من السامعين ممن ليس معه نسخة لا سيما إذا أراد النقل منها وقد روي عن يحيى بن معين: أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ هل يجوز أن يحدث بذلك؟ فقال: أما عندي فلا يجوز ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم.
قلت: وهذا من مذاهب أهل التشديد في الرواية وسيأتي ذكر مذهبهم إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن ذلك لا يشترط وأنه يصح السماع وإن لم ينظر أصلا في الكتاب حالة القراءة وأنه لا يشترط أن يقابله بنفسه بل يكفيه مقابلة نسخته بأصل الراوي وإن لم يكن ذلك حالة القراءة وإن كانت المقابلة على يدي غيره إذا كان ثقة موثوقا بضبطه.
__________
هكذا ذكره المصنف عن الشافعى وإنما هو معروف عن الأوزاعى وعن يحيى بن أبى كثير وقد رواه عن الأوزاعى أبو عمر بن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم من رواية بقية عن الأوزاعى ومن طريق ابن عبد البر رواه القاضى عياض في كتاب الإلماع بإسناده ومنه يأخذ المصنف كثيرا وكأنه سبق قلمه من الأوزاعى إلى الشافعى وأما قول يحيى بن أبى كثير فرواه ابن عبد البر أيضا والخطيب في كتاب الكفاية وفي كتاب الجامع من رواية أبان بن يزيد عن يحيى بن أبى كثير ولم أر لهذا ذكرا عن الشافعى في شئ من الكتب المصنفة في علوم الحديث ولا في شئ من مناقب الشافعى والله أعلم.

(1/210)


قلت: وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلة المشروطة بأصل شيخه أصل السماع وكذلك إذا قابل بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ لأن الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل سماعه وكتاب شيخه فسواء حصل ذلك بواسطة أو بغير واسطة ولا يجزئ ذلك عند من قال: لا تصح مقابلته مع أحد غير نفسه ولا يقلد غيره ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة وليقابل نسخته بالأصل بنفسه حرفا حرفا حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له. وهذا مذهب متروك وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا والله أعلم.
أما إذا لم يعارض كتابه بالأصل أصلا: فقد سئل إلاستاذ أبو إسحاق إلاسفرائيني عن جواز روايته منه فأجاز ذلك. وأجازه الحافظ أبو بكر الخطيب أيضا وبين شرطه. فذكر أنه يشترط أن تكون نسخته نقلت من الأصل وأن يبين عند الرواية أنه لم يعارض. وحكى عن شيخه أبي بكر البرقاني أنه سأل أبا بكر إلاسماعيلي: هل للرجل أن يحدث بما كتب عن الشيخ ولم يعارض بأصله؟ فقال: نعم ولكن لا بد أن يبين أنه لم يعارض قال: وهذا هو مذهب أبي بكر البرقاوي فإنه روى لنا أحاديث كثيرة قال فيها أخبرنا فلان ولم أعارض بالأصل.
قلت: ولا بد من شرط ثالث وهو: أن يكون ناقل النسخة من الأصل غير سقيم النقل بل صحيح النقل قليل السقط والله أعلم.
ثم إنه ينبغي أن يراعي في كتاب شيخه بالنسبة إلي من فوقه مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه ولا يكونن كطائفة من الطلبة: إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرؤوه عليه من أي نسخة اتفقت والله اعلم.
الحادي عشر: المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي ويسمى اللحق بفتح الحاء وهو أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوقه ثم يعطفه بين

(1/211)


السطرين عطفه يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق ويبدأ في الحاشية بكتبة اللحق مقابلا للخط المنعطف وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين. وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له وليكتبه صاعدا إلى أعلى الورقة لا نازلا به إلى أسفل.
قلت: فإذا كان اللحق سطرين أو سطورا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى بل يبتديء بها من أعلى إلى أسفل بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة. ثم يكتب عند انتهاء اللحق صح. ومنهم من يكتب مع صح رجع ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج ليؤذن باتصال الكلام وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي من أهل المشرق مع طائفة. وليس ذلك بمرضي إذ رب كلمة تجئ في الكلام مكررة حقيقة فهذا التكرير يوقع بعض الناس في توهم مثل ذلك في بعضه واختار القاضي ابن خلاد أيضا في كتابه أن يمد عطفه خط التخريج من موضعه حتى يلحقه بأول اللحق في الحاشية. وهذا أيضا غير مرضي فإنه وإن كان فيه زيادة بيان فهو تسخيم للكتاب وتسويد له لا سيما عند كثرة إلالحاقات والله أعلم.
وإنما اخترنا كتبة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له لو كان كتب إلاول نازلا إلى أسفل. وإذا كتب إلاول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له وقلنا أيضا يخرجه في جهة اليمين لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر من بعده في السطر نفسه نقص آخر فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال. وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة

(1/212)


الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما بخلاف ما إذا خرج إلاول إلى جهة اليمين: فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال اللهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقربه منها ولا انتفاء العلة المذكورة من حيث إنا لا نخشى ظهور نقص بعده.
وإذا كان النقص في أول السطر تأكد تخريجه إلى جهة اليمين لما ذكرناه من القرب مع ما سبق
وأما ما يخرج في الحواشي من شرح أو تنبيه على غلط أو اختلاف رواية أو نسخة أو نحو ذلك مما ليس من الأصل فقد ذهب القاضي الحافظ عياض رحمه الله إلى أنه لا يخرج لذلك خط تخريج لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح إيذانا به.
قلت: التخريج أولى وأدل وفي نفس هذا المخرج ما يمنع إلالباس. ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل: في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية والله اعلم.
الثاني عشر: من شأن الحذاق المتقنين العناية بالتصحيح والتضبيب والتمريض.
أما التصحيح: فهو كتابة صح على الكلام أو عنده ولا يفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى غير أنه عرضة للشك أو الخلاف فيكتب عليه صح ليعرف أنه لم يغفل عنه وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه وأما التضبيب ويسمى أيضا التمريض فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل غير أنه فاسد لفظا أو معنى أو ضعيف أو ناقص مثل: أن يكون غير جائز من حيث العربية أو: يكون شاذا عند

(1/213)


أهلها يأباه أكثرهم أو مصحفا أوينقص من جملة الكلام كلمة أو أكثر وما أشبه ذلك: فيمد على ما هذا سبيله خط أوله مثل الصاد ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها فلم يكمل عليه التصحيح. وكتب حرف ناقص على حرف ناقص إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له إلان. ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه والفساد فيما أصلحوه.
وأما تسمية ذلك ضبة: فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن إلاقليلي: أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها والله أعلم.
قلت: ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل فاستعير لها اسمها ومثل ذلك غير مستنكر في باب إلاستعارات.
__________
"قوله" قلت ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التى تجعل على كسر أو خلل فاستعير لها اسمها ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات انتهى.
قلت وفي هذا نظر وبعد من حيث أن ضبة القدح وضعت جبرا للكسر والضبة على المكتوب ليست جابرة وإنما جعلت علامة على المكان المغلق وجهه المستبهم أمره فهي بضبة الباب أشبه كما تقدم نقل المصنف له عن أبى القاسم بن الاقليلى وقد حكاه أبو القاسم هذا عن شيوخه من أهل الأدب كما وجدته في كلامه وحكاه القاضى عياض في الإلماح فقال من أهل المغرب بدل قوله من أهل الأدب والمذكور في كلام أبى القاسم ما ذكرته والله أعلم.
"قوله" ويسمى ذلك الشق أيضا انتهى.

(1/214)


ومن مواضع التضبيب: أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع فمن عادتهم تضبيب موضع إلارسال وإلانقطاع وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي يجتمع فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم فيتوهم من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة وكأنها علامة وصل فيما بينها أثبتت تأكيدا للعطف خوفا من أن تجعل عن مكان الواو والعلم عند الله تعالى.
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان والله أعلم.
الثالث عشر: إذا وقع في الكتاب ما ليس منه فإنه ينفي عنه بالضرب أو الحك أو المحو أو غير ذلك. والضرب خير من الحك والمحو. روينا عن القاضي أبي محمد بن خلاد رحمه الله قال: قال أصحابنا الحك تهمة. وأخبرني من أخبر عن القاضي عياض قال: سمعت شيخنا أبا بحر سفيان بن العاص الأسدي يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يبشر شيء لأن ما يبشر منه ربما يصح في رواية أخرى.
وقد يسمع الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر يكون ما بشر وحك من رواية هذا صحيحا في رواية الأخر فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بشروحك وهو إذا خط عليه من رواية الأول وصح عند الأخر اكتفي بعلامة الأخر عليه بصحته.
ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب فروينا عن أبي محمد بن خلاد قال: أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله ويقرأ من تحته ما خط عليه
وروينا عن القاضي عياض ما معناه: أن اختبارات

(1/215)


الضابطين اختلفت في الضرب. فأكثرهم على مد الخط على المضروب عليه مختلطا بالكلمات المضروب عليها ويسمى ذلك الشق أيضا.
ومنهم من لا يخلطه ويثبته فوقه لكنه يعطف طرفي الخط على أول المضروب عليه وآخره ومنهم من يستقبح هذا ويراه تسويدا وتطليسا بل يحوق على أول الكلام المضروب عليه بنصف دائرة وكذلك في آخره. وإذا كثر الكلام المضروب عليه فقد يفعل ذلك في أول كل سطر منه وآخره وقد يكتفي بالتحويق على أول الكلام وآخره أجمع ومن إلاشياخ من يستقبح الضرب والتحويق ويكتفي بدائرة صغير أول الزيادة وآخرها ويسميها صفرا كما يسميها أهل الحساب وربما كتب بعضهم عليه لا في أوله وإلى في آخره. ومثل هذا يحسن فيما صح في رواية وسقط في رواية أخرى والله أعلم.
وأما الضرب على الحرف المكرر: فقد تقدم بالكلام فيه القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله على تقدمه. فروينا عنه قال: قال بعض أصحابنا
__________
الشق بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف وهذا الاصطلاح لا يعرفه أهل المشرق ولم يذكره الخطيب في الجامع ولا في الكفاية وهو اصطلاح لأهل المغرب وذكره القاضي عياض في الإلماح ومنه أخذه المصنف وكأنه مأخوذ من الشق وهو الصدع أو من شق العصا وهو التفريق فكأنه فرق بين الكلمة الزائدة وبين ما قبلها وبعدها من الصحيح الثابت بالضرب عليها والله أعلم
ويوجد في بعض نسخ علوم الحديث النشق بزيادة نون مفتوحة في أوله وسكون الشين فإن لم يكن تصحيفا وتغييرا من النساخ فكأنه مأخوذ من نشق الظبي في حبالته إذا علق فيها فكأنه إبطال لحركة الكلمة وإهمالها بجعلها في صورة وثاق يمنعها من التصرف والله أعلم.

(1/216)


أولاهما بأن يبطل الثاني لأن إلاول كتب على صواب والثاني كتب على الخطأ فالخطأ أولى بإلابطال
وقال آخرون: إنما الكتاب علامة لما يقرأ فأولى الحرفين بإلابقاء أدلهما عليه وأجودهما صورة
وجاء القاضي عياض آخرا ففصل تفصيلا حسنا: فرأى أن تكرر الحرف إن كان في أول سطر فليضرب على الثاني صيانة لأول السطر عن التسويد والتشويه. وإن كان في آخر سطر فليضرب على أولهما صيانة لآخر السطر فإن سلامة أوائل السطور وأواخرها عن ذلك أولى. فإن اتفق أحدهما في آخر سطر ولا إلاخر في أول سطر آخر فليضرب على الذي في آخر السطر فإن أول السطر أولى بالمراعاة. فإن كان التكرر في المضاف أو المضاف إليه أو في الصفة أو في الموصوف أو نحو ذلك: لم نراع حينئذ أول السطر وآخره بل نراعي إلاتصال بين المضاف والمضاف إليه ونحوهما في الخط فلا نفصل بالضرب بينهما ونضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط وأما المحو: فيقابل الكشط في حكمه الذي تقدم ذكره وتتنوع طرقه. ومن أغربها مع أنه أسلمها ما روي عن سحنون بن سعيد التنوخي إلامام المالكي: أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه. وإلى هذا يومي ما روينا عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه كان يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد والله أعلم.
الرابع عشر: ليكن فيما تختلف فيه الروايات قائما بضبط ما تختلف فيه في كتابه جيد التمييز بينها كيلا تختلط وتشتبه فيفسد عليه أمرها. وسبيله: أن يجعل أولا متن كتابه على رواية خاصة. ثم ما كانت من زيادة لرواية أخرى ألحقها. أو من نقص أعلم عليه أو من خلاف كتبه إما في الحاشية وإما في غيرها معينا في كل ذلك من رواه ذاكرا اسمه بتمامه. فإن رمز إليه بحرف أو أكثر فعليه ما قدمنا ذكره من أنه يبين المراد بذلك في أول كتابه أو آخره كيلا يطول عهده به فينسى أو يقع كتابه إلى غيره فيقع من رموزه في حيرة وعمى وقد يدفع إلى إلاقتصار على الرموز عند كثرة الروايات المختلفة واكتفي بعضهم في التمييز بأن خص الرواية

(1/217)


الملحقة بالحمرة فعل ذلك أبو ذر الهروي من المشارقة وأبو الحسن القابسي من المغاربة مع كثير من المشايخ وأهل التقييد فإذا كان في الرواية الملحقة زيادة على التي في متن الكتاب كتبها بالحمرة. وإن كان فيها نقص والزيادة في الرواية التي في متن الكتاب حوق عليها بالحمرة ثم على فاعل ذلك تبيين من له الرواية المعلمة بالحمرة في أول الكتاب أو آخره على ما سبق والله أعلم.
الخامس عشر: غلب على كتبة الحديث إلاقتصار على الرمز في قولهم حدثنا وأخبرنا غير أنه شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبس. أما حدثنا فيكتب منها شطرها إلاخير وهو الثاء والنون والألف. وربما اقتصر على الضمير منها وهو النون والألف. وأما أخبرنا فيكتب منها الضمير المذكور مع إلالف أولا. وليس بحسن ما يفعله طائفة من كتابة أخبرنا بألف مع علامة حدثنا المذكورة أولا وإن كان الحافظ البيهقي ممن فعله وقد يكتب في علامة أخبرنا راء بعد إلالف وفي علامة حدثنا دال في أولها. وممن رأيت في خطه الدال في علامة حدثنا الحافظ أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الرحمن السلمي والحافظ أحمد البيهقي رضي الله عنهم. والله أعلم.
وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر: فإنهم يكتبون عند إلانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته ح وهي حاء مفردة مهملة ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها غير أني وجدت بخط إلاستاذ الحافظ أبي عثمان الصابوني والحافظ أبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري والفقيه المحدث أبي سعيد الخليلي رحمهم الله تعالى في مكانها بدلا عنها صح صريحة. وهذا يشعر بكونها رمزا إلى صح. وحسن إثبات صح ههنا لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط. ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد إلاول فيجعلا إسنادا واحدا.
وحكى لي بعض من جمعتني وإياه الرحلة بخراسان عمن وصفه بالفضل من

(1/218)


الإصبهانيين: أنها حاء مهملة من التحويل أي من إسناد إلى إسناد آخر. وذاكرت فيها بعض أهل العلم من أهل المغرب وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث: أنها حاء مهملة إشارة إلى قولنا الحديث فقال لي: أهل المغرب وما عرفت بينهم اختلافا يجعلونها حاء مهملة ويقول أحدهم إذا وصل إليها الحديث وذكر لي: أنه سمع بعض البغداديين يذكر أيضا أنها حاء مهملة وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها في القراءة حا ويمر.
وسألت أنا الحافظ الرحال أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي رحمه الله عنها فذكر أنها حاء من حائل أي تحول بين الإسنادين. قال: ولا يلفظ بشيء عند إلانتهاء في القراءة وأنكر كونها من الحديث وغير ذلك ولم يعرف غير هذا عن أحد من مشايخه وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقته.
قال المؤلف: وأختار أنا والله الموفق أن يقول القارئ عند إلانتهاء إليها حا ويمر فإنه أحوط الوجوه وأعدلها والعلم عند الله تعالى.
السادس عشر: ذكر الخطيب الحافظ: أنه ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه وكنيته ونسبه ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه. قال: وإذا كتب الكتاب المسموع فينبغي أن يكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه وتاريخ وقت السماع وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب فكلا قد فعله شيوخنا.
قلت: كتبة التسميع جنب ذكره أحوط له وأحرى بأن لا يخفي على من يحتاج إليه ولا بأس بكتبته آخر الكتاب وفي ظهره وحيث لا يخفي موضعه. وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به غير مجهول الخط ولا ضير حينئذ في أن لا يكتب الشيخ المسمع خطه بالتصحيح وهكذا لا بأس على صاحب الكتاب

(1/219)


إذا كان موثوقا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه فطال ما فعل الثقات ذلك.
وقد حدثني بمرو الشيخ أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد المروزي عن أبيه عمن حدثه من إلاصبهانية: أن عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده قرأ ببغداد جزءأ على أبي أحمد الفرضي وسأله خطه ليكون حجة له. فقال له أبو أحمد: يا بني عليك بالصدق فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد وتصدق فيما تقول وتنقل وإذا كان غير ذلك فلو قيل لك: ما هذا خط أبي أحمد الفرضي ماذا تقول لهم.
ثم إن على كاتب التسميع التحري وإلاحتياط وبيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل ومجانبة التساهل فيمن يثبت اسمه والحذر من إسقاط اسم أحد منهم لغرض فاسد. فإن كان مثبت السماع غير حاضر في جميعه لكن أثبته معتمدا على إخبار من يثق بخبره من حاضريه فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى ثم إن من ثبت سماعه في كتابه فقبيح به كتمانه إياه ومنعه من نقل سماعه ومن نسخ الكتاب وإذا أعاره إياه فلا يبطئ به.
روينا عن الزهري أنه قال: إياك وغلول الكتب. قيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها. وروينا عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه قال: ليس من أفعال أهل الورع ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عنه ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه.
وفي رواية: ولا من أفعال العلماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عليه. فإن منعه إياه فقد روينا: أن رجلا ادعى على رجل بالكوفة سماعا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها حفص بن غياث فقال لصاحب الكتاب: أخرج إلينا كتبك فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك وما كان بخطه أعفيناك منه.

(1/220)


قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه. قال ابن خلاد: وقال غيره ليس بشيء.
وروى الخطيب الحافظ أبو بكر عن إسماعيل بن إسحاق القاضي: أنه تحوكم إليه في ذلك فأطرق مليا ثم قال للمدعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم.
قلت: حفص بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة وأبو عبد الله الزبيري من أئمة أصحاب الشافعي وإسماعيل بن إسحاق لسان أصحاب مالك وإمامهم وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك ويرجع حاصلها إلى: أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه. وقد كان لا يبين لي وجهه ثم وجهته بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده فعليه أداؤها بما حوته وإن كان فيه بذل ماله كما يلزم متحمل الشهادة أداؤها وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها والعلم عند الله تعالى.
ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية. وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعا إلى شيء من النسخ أو يثبته فيها عند السماع ابتداء إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة إلا أن يبين مع النقل وعنده كون النسخة غير مقابلة والله أعلم.

(1/221)