الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح رحمه الله تعالى النوع الرابع عشر 1: معرفة المنكر من
الحديث
بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي أنه الحديث الذي
ينفرد به الرجل ولا يعرف متنه من غير روايته لا من الوجه الذي
رواه منه ولا من وجه آخر.
فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل.
وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في
كلام كثير من أهل الحديث والصواب فيه التفصيل الذي بيناه آنفا
في شرح الشاذ.
وعند هذا (نقول2) المنكر ينقسم قسمين على ما ذكرناه في الشاذ
فإنه بمعناه مثال الأول وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات
رواية مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة
بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم
الكافر ولا الكافر المسلم" فخالف مالك غيره من الثقات في قوله
عمر بن عثمان بضم العين.
وذكر مسلم3 في كتاب التمييز أن كل من رواه من أصحاب الزهري
قال: فيه عمرو بن عثمان يعني بفتح العين.
وذكر أن مالكا كان يشير بيده الى دار عمر بن عثمان كأنه علم
أنهم يخالفونه وعمرو وعمر جميعا ولد4 عثمان غير أن هذا الحديث
إنما هو عن
__________
1 لم يصدر الأبناسي رحمه الله هـ1االنوع بقوله: "قال" كما هي
العادة.
2 هكذا في ش وع، وفي خط: "القول".
3 في ش وع: " ... مسلم صاحب الصحيح".
4 هكذا في خط وع، وفي ش: "ولدا" بألف التثنية.
(1/185)
عمرو بفتح العين وحكم مسلم وغيره على مالك
بالوهم فيه.
ومثال الثاني: وهو الفرد الذي ليس في رواته1 من الثقة والإتقان
ما يحتمل معه تفرد2 ما رويناه من حديث أبي زكير يحيى بن محمد
بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:: "كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان إذا رأى
ذلك غاظه" ويقول: "عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق" تفرد به
أبو زكير وهو شيخ صالح أخرج عنه مسلم في كتابه غير أنه لم يبلغ
مبلغ من يحتمل تفرده انتهى.
اعترض عليه بكونه جعل حديث مالك منكرا وهو لا يرث المسلم
الكافر لكونه رواه عن عمر بن عثمان بضم العين وإنما رواه أصحاب
الزهري عن عمرو بن عثمان بفتح العين.
والحديث صحيح الإسناد وليس بمنكر لأن عمر وعمرا كلاهما ثقة
والمصنف قد أشار الى نحو ذلك في النوع الثامن: عشر أن من أمثلة
ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في متنه ما رواه الثقة
يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار" الحديث قال:
فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل وهو معلل غير صحيح والمتن
على كل حال صحيح والعلة في قوله عن عمرو بن دينار وإنما هو عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان
عنه فوهم يعلى وعدل عن عبد الله بن دينار الى عمرو بن دينار
وكلاهما ثقة فجعل الوهم في الإسناد بذكر ثقة آخر لا يخرج المتن
عن كونه صحيحا فكذا يكون الحكم هنا.
مع أن مالكا اختلف عليه أيضا في عمرو وعمر فروى النسائي في
مسنده من رواية عبد الله بن المبارك وزيد بن الحباب ومعاوية بن
هشام ثلاثتهم عن مالك عن عمرو بن عثمان كما رواه أصحاب الزهري
بفتح العين لكن قال: النسائي الصواب من حديث مالك عن عمر بضمها
قال: ولا نعلم أحدا تابع
__________
1 في ش وع: "رواية" بالأفراد.
2 في ش وع: "تفرده" بالهاء في آخره.
(1/186)
مالكا على ذلك.
قال ابن عبد البر إن يحيى بن بكير رواه عن مالك على الشك1 فقال
عن عمرو بن عثمان أو عمر والثابت عن مالك عمر بضمها وتابعه
القعنبي وأكثر الرواة.
وقد رواه سفيان الثوري وشعبة عن عبد الله بن عيسى عن الزهري
فخالفا الفريقين جميعا وأسقطا ذكر عمرو بن عثمان وجعلاه من
رواية علي بن حسين عن2 أسامة والصواب رواية الجمهور.
وإذا لم يصح هذا المثال للمنكر فالمثال له ما رواه أصحاب السنن
الأربعة من رواية همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس
قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع
خاتمه".
قال أبو داود حديث منكر وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد
عن الزهري عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من
ورق ثم ألقاه".
قال والوهم فيه من همام ولم يروه إلا هو.
وقال النسائي حديث غير محفوظ.
وأما قول الترمذي حديث حسن صحيح غريب فإنه أجرى حكمه على ظاهر
الإسناد.
وقول أبي داود والنسائي أولى بالصواب ألا أنه قد ورد من3 غير
رواية همام.
رواه الحاكم والبيهقي من رواية يحيى بن المتوكل عن ابن جريج
وصححه4 الحاكم وضعفه البيهقي فقال هذا شاهد ضعيف وكأن البيهقي
ظن أن يحيى بن
__________
1 من ع، وليست في خط.
2 هكذا في ع، وفي خط: "بن".
3 من ع، وعليها طمس في خط.
4 من ع، وعليها طمس في خط.
(1/187)
المتوكل هو أبو عقيل صاحب بهية1 أي الراوي
عن بهية وهو ضعيف وليس هو به وإنما هو باهلي يكنى أبا بكرة
ذكره ابن حبان في الثقات.
وقول ابن معين لا أعرفه لا يقدح فيه فقد روى عنه نحو من عشرين
نفسا إلا أنه اشتهر تفرد همام2 به عن ابن جريج.
وقوله: في أبي زكير شيخ صالح تبع فيه أبا يعلى الخليلي في
كتابه الإرشاد.
وقوله: أخرج عنه مسلم وهو إنما أخرج عنه في المتابعات لا فيما
يحتج به مع أن الجماعة ضعفوه فروى إسحاق الكوسج عن يحيى بن
معين أنه ضعفه وقال ابن حبان لا يحتج به وقال العقيلي لا يتابع
على حديثه وأورد له ابن عدي أربعة أحاديث مناكير.
__________
1 الضبط من خط.
2 من ع، وفي خط: "تفردهما".
(1/188)
النوع الخامس عشر:
معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد.
هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به راويه
أو لا؟ وهل هو معروف أو لا؟.
ذكر أبو حاتم محمد بن حبان1 أن طريق الاعتبار في الأخبار مثاله
أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن
سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم فينظر هل روى
ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع
إليه وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة
وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي صلي الله عليه وسلم.
فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه وإلا فلا.
قلت مثال2 المتابعة أن يروي ذلك الحديث بعينه عن أيوب غير3
حماد فهذه المتابعة التامة.
فإن لم يروه أحد غيره عن أيوب لكن رواه بعضهم عن ابن سيرين أو
عن أبي هريرة أو رواه غير أبي هريرة عن النبي4 صلي الله عليه
وسلم فذلك قد يطلق عليه اسم المتابعة أيضا لكن تقصر عن
المتابعة الأولى بحسب بعدها منها ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد
أيضا.
فإن لم يرو ذلك الحديث أصلا من وجه من الوجوه المذكورة لكن روي
حديث آخر بمعناه فذلك الشاهد من غير متابعة.
__________
1 زاد في ش وع: "التميمي الحافظ رحمه الله".
2 في ش وع:"فمثال" بالفاء.
3 هكذا في ش وع، زفي خط "عن".
4 في ش وع: "رسول الله".
(1/189)
فإن لم يرو أيضا بمعناه حديث آخر فقد تحقق
فيه التفرد المطلق حينئذ وينقسم عند ذلك إلى مردود منكر وغير
مردود كما سبق.
وإذا قالوا في مثل هذا تفرد به أبو هريرة وتفرد به عن أبي
هريرة ابن سيرين وتفرد به عن ابن سيرين أيوب وتفرد به عن أيوب
حماد بن سلمة كان في ذلك إشعار بانتفاء وجوه المتابعات فيه.
ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من
لايحتج بحديثه وحده بل يكون معدودا في الضعفاء.
وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات
والشواهد وليس كل ضعيف يصلح لذلك ولهذا يقول الدارقطني وغيره
في الضعفاء فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به وقد تقدم التنبيه
على نحو ذلك.
مثال المتابع1 والشاهد روينا من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو
بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به".
ورواه ابن جريح عن عمرو عن عطاء ولم يذكر فيه الدباغ فذكر
الحافظ أحمد البيهقي لحديث ابن عيينة متابعا وشاهدا.
أما المتابع فإن أسامة بن زيد تابعه عن عطاء
وروى بإسناده عن أسامة عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به"
وأما الشاهد فحديث عبد الرحمن بن وعلة2 عن ابن عباس قال: قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر3 ".
انتهى.
__________
1 هكذا في خط وع، وفي ش: "للمتابع".
2 هكذا في ش وع، وفي خط: "وهلة" بالهاء مكان المهملة وضبطها
الناسخ - ضبط قلم - بفتح الواو وسكون الهاء.
3 علي حاشية خط: "طهر بفتح الهاء وضمها وإهاب بكسر الهمزة
والفتح أفصح" - كذا وفي حاشية المقدمة: "قال المؤلف رحمه الله:
بالفتح والضم في الهاء والفتح
أفصح. وإهاب بكسر الهمزة وفتحها والكسر أفصح".
(1/190)
مثال ما عدمت فيه المتابعات من هذا الوجه
من وجه يثبت ما رواه الترمذي من رواية حماد بن سلمة عن أيوب عن
ابن سيرين عن أبي هريرة أراد رفعه أحبب حبيبك هونا ما الحديث.
قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه
انتهى.
أي من وجه يثبت وقد رواه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث عن
ابن سيرين عن أبي هريرة.
قال ابن عدي في الكامل ولا أعلم أحدا قال: عن ابن سيرين عن أبي
هريرة إلا الحسن بن دينار.
ومن حديث أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رواه حماد بن سلمة.
ويرويه الحسن بن أبي جعفر عن أيوب عن ابن سيرين عن حميد بن عبد
الرحمن الحميري عن علي مرفوعا قال: البخاري الحسن بن أبي جعفر
منكر الحديث.
واعترض على تمثيله للمتابع والشاهد1 بما رواه ابن عيينة عن
عمرو بن دينار وبما رواه ابن جريج عنه أي عن عمرو بأن رواية
ابن جريج ليست كرواية ابن عيينة فإن ابن جريج جعله من مسند
ميمونة من رواية ابن عباس لا من مسند ابن عباس.
وقد رواه مسلم على الوجهين معا من طريق ابن عيينة فجعله من
مسند ابن عباس ومن طريق ابن جريج فجعله من مسند ميمونة وكلام
المصنف يوهم اتفاقهما في المسند وأن الاختلاف الذي بينهما في
ذكر الدباغ
وإذا2 لم يتفقا في المسند فيحتاج الى مثال يتفق الراويان له في
مسند ويختلفان في ذكر الدباغ.
ومثاله ما رواه البيهقي من رواية إبراهيم بن نافع الصايغ عن
عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس ولم يذكر الدباغ.
__________
1 من ع، وفي خط: "المشاهد".
2 هكذا في خط وفي ع "إذا".
(1/191)
|