المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي الْمُقدمَة
الْعلم بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَرِوَايَته من أشرف الْعُلُوم وأفضلها وأحقها بالاعتناء
لمحصلها لِأَنَّهُ ثَانِي أَدِلَّة عُلُوم الْإِسْلَام ومادة
عُلُوم الْأُصُول وَالْأَحْكَام وَلذَلِك لم يزل قدر حفاظه
عَظِيما وخطرهم عِنْد عُلَمَاء الْأمة جسيما وَلِهَذَا الْعلم
أصُول أَحْكَام واصطلاحات وأقسام وأوضاع يحْتَاج طَالبه إِلَى
مَعْرفَتهَا وَتَحْقِيق معنى حَقِيقَتهَا وبقدر مَا يحصل
مِنْهَا تعلو دَرَجَته وبقدر مَا يفوتهُ تنحط عَن غَايَته
رتبته ومدار هَذِه الْأُمُور على الْمُتُون والأسانيد
وَكَيْفِيَّة التَّحَمُّل وَالرِّوَايَة وَأَسْمَاء الرِّجَال
وَمَا يتَّصل بِجَمِيعِ ذَلِك على مَا تقدّمت تَرْجَمته
وَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ وَلَا بُد من تَقْدِيم معرفَة
معنى الْمَتْن والسند والإسناد والْحَدِيث وَالْخَبَر أما
الْمَتْن فَهُوَ فِي اصْطِلَاح الْمُحدثين مَا يَنْتَهِي
إِلَيْهِ غَايَة السَّنَد من الْكَلَام وَهُوَ مَأْخُوذ أما من
المماتنة وَهِي المباعدة فِي الْغَايَة لِأَن الْمَتْن غَايَة
السَّنَد أَو من متنت الْكَبْش إِذا شققت جلدَة بيضته
واستخرجتها وَكَأن الْمسند استخرج الْمَتْن بِسَنَدِهِ أَو من
الْمَتْن وَهُوَ مَا صلب وارتفع من الأَرْض لِأَن الْمسند
يقويه بالسند وَيَرْفَعهُ إِلَى قَائِله أَو من تمتين الْقوس
بالعصب وَهُوَ شدها بِهِ وإصلاحها
وَأما السَّنَد فَهُوَ الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن وَهُوَ
مَأْخُوذ إِمَّا من السَّنَد
(1/29)
وَهُوَ مَا ارْتَفع وَعلا عَن سفح الْجَبَل
لِأَن الْمسند يرفعهُ إِلَى قَائِله أَو من قَوْلهم فلَان
سَنَد أَي مُعْتَمد فَسُمي الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن
سندا لاعتماد الْحفاظ فِي صِحَة الحَدِيث وَضَعفه عَلَيْهِ
وَأما الْإِسْنَاد فَهُوَ رفع الحَدِيث إِلَى قَائِله
والمحدثون يستعملون السَّنَد والإسناد لشَيْء وَاحِد
وَأما الحَدِيث فأصله ضد الْقَدِيم وَقد اسْتعْمل فِي قَلِيل
الْخَبَر وَكَثِيره لِأَنَّهُ يحدث شَيْئا فَشَيْئًا وَجمع
حَدِيث أَحَادِيث على غير قِيَاس قَالَ الْفراء وَاحِد
الْأَحَادِيث أحدوثه ثمَّ جعل جمعا للْحَدِيث
وَأما الْخَبَر فَهُوَ قسم من أَقسَام الْكَلَام كالأمر
وَالنَّهْي وَهُوَ قَول مَخْصُوص للصيغة الدَّالَّة وللمعنى
الْقَائِم بِالنَّفسِ وَاخْتلف فِي تحديده فَمَنعه قوم
وَقَالُوا هُوَ ضَرُورِيّ وَحده آخَرُونَ فَقَالَ بَعضهم هُوَ
مَا يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب وَهَذَا الْحَد مَنْقُوص بِخَبَر
الله تَعَالَى فَإِن الْكَذِب لَا يدْخلهُ وبالخبر عَن
الْمحَال فَإِن الصدْق لَا يدْخلهُ وَلِأَن الصدْق هُوَ
مُوَافقَة الْخَبَر فَلَا يَصح تَعْرِيف الْخَبَر بِالصّدقِ
المتوقف عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دور وَقيل هُوَ مَا يدْخلهُ
التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب وَفِيه الدّور الْمُتَقَدّم وَقيل
هُوَ كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة شَيْء إِلَى شَيْء
(1/30)
فِي الْخَارِج وَهُوَ أقرب مَا قيل وأئمة
الحَدِيث يطلقون الْخَبَر على الْمَتْن وَإِن كَانَ أمرا أَو
نهيا
فروع
الأول الْخَبَر أما صدق أَو كذب وَلَا ثَالِث لَهما على
الْمُخْتَار لِأَن الْخَبَر إِن طابق الْمخبر فَهُوَ صدق وَإِن
لم يُطَابق فَهُوَ كذب سَوَاء اعتقده الْمخبر أم لَا وَقيل إِن
اعتقده الْمخبر فَهُوَ صدق وَإِن لم يَعْتَقِدهُ فكذب طابق
فيهمَا أَو لم يُطَابق
الثَّانِي الْخَبَر قد يعلم صدقه قطعا كَخَبَر الله تَعَالَى
وَخبر رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد يعلم كذبه قطعا
كالخبر الْمُخَالف لخَبر الله تَعَالَى وَقد يظنّ صدقه كَخَبَر
الْعدْل وَقد يظنّ كذبه كَخَبَر الْفَاسِق وَقد يشك فِيهِ
كَخَبَر الْمَجْهُول
الثَّالِث الْخَبَر يَنْقَسِم إِلَى متواتر وآحاد فالمتواتر
هُوَ خبر جمَاعَة يُفِيد بِنَفسِهِ الْعلم بصدقه لِاسْتِحَالَة
توافقهم على الْكَذِب كالمخبرين عَن وجود مَكَّة وغزوة بدر
وشروط الْمُتَوَاتر ثَلَاثَة تعدد المخبرين تعددا يَسْتَحِيل
مَعَه التواطؤ على الْكَذِب واستنادهم إِلَى الْحسن واستواء
الطَّرفَيْنِ وَالْوسط إِلَى أَصله وَشرط قوم فِيهِ شُرُوطًا
أخر كلهَا ضَعِيفَة
وَالصَّحِيح أَنه لَا يشْتَرط فِي الْمُتَوَاتر سوى
الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة والمتواتر فِي أَحَادِيث النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُدَوَّنَة فِي الْكتب قَلِيل جدا
كَحَدِيث من كذب عَليّ
(1/31)
مُتَعَمدا وَسَيَأْتِي وَلذَلِك لَا
يَسْتَعْمِلهُ المحدثون فِي عباراتهم إِلَّا نَادرا
وَأما أَخْبَار الْآحَاد فخبر الْوَاحِد كل مَا لم ينْتَه
إِلَى التَّوَاتُر وَقيل هُوَ مَا يُفِيد الظَّن ثمَّ هُوَ
قِسْمَانِ مستفيض وَغَيره فالمستفيض مَا زَاد نقلته على
ثَلَاثَة وَقيل غير ذَلِك وَغير المستفيض هُوَ خبر الْوَاحِد
أَو الِاثْنَيْنِ أَو الثَّلَاثَة على الْخلاف فِيهِ وَأكْثر
الْأَحَادِيث الْمُدَوَّنَة والمسموعة من هَذَا الْقسم والتعبد
بهَا جَائِز عِنْد جُمْهُور عُلَمَاء الْمُسلمين وَالْعَمَل
بهَا وَاجِب عِنْد أَكْثَرهم ورد بعض الْحَنَفِيَّة خبر
الْوَاحِد فيمَ تعم بِهِ الْبلوى كَالْوضُوءِ من مس الذّكر
وإفراد الْإِقَامَة ورد بَعضهم خبر الْوَاحِد فِي الْحُدُود
وَرجح بعض الْمَالِكِيَّة الْقيَاس على خبر الْوَاحِد
الْمعَارض للْقِيَاس وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة
الحَدِيث أَو جمهورهم أَن خبر الْوَاحِد الْعدْل الْمُتَّصِل
فِي جَمِيع ذَلِك مَقْبُول وراجح على الْقيَاس الْمعَارض لَهُ
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا من
أَئِمَّة الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول رضى الله عَنْهُم
وَالله أعلم
(1/32)
الطّرف الأول فِي الْكَلَام على الْمَتْن
وَالنَّظَر فِي أقسامه وأنواعه
أما أقسامه فَثَلَاثَة الصَّحِيح وَالْحسن والضعيف
الْقسم الأول الصَّحِيح
أعلم أَن الحَدِيث الصَّحِيح هُوَ مَا اتَّصل سَنَده
بِرِوَايَة الْعدْل الضَّابِط عَن مثله وَسلم عَن شذوذ وَعلة
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك فَكل حَدِيث جمع هَذِه الشُّرُوط
فمتفق عَلَيْهِ وكل مَا اخْتلف فِيهِ فإمَّا لانْتِفَاء
بَعْضهَا يَقِينا أَو شكا أَو لعدم اشْتِرَاطه عِنْد مخرجه
وَلذَلِك خرج البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة وَعَمْرو بن مَرْزُوق
وَغَيرهمَا دون مُسلم وَخرج مُسلم عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَأبي
الزبير مُحَمَّد بن مُسلم دون البُخَارِيّ وَسَببه
اخْتِلَافهمَا فِي وجود الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِيهِ
فَقَوْلهم حَدِيث صَحِيح لما هُوَ كَمَا ذكرنَا لَا أَنه
مَقْطُوع بنفيه بَاطِنا وَقَوْلهمْ غير صَحِيح لما لَيْسَ
كَذَلِك لَا أَنه مَقْطُوع بنفيه بَاطِنا قَالَ الشَّافِعِي
رضى الله عَنهُ إِذا روى الثِّقَة عَن الثِّقَة حَتَّى
يَنْتَهِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ
ثَابت وَقَالَ الْخطابِيّ الصَّحِيح مَا اتَّصل سَنَده وَعدلت
أَهْلِيَّة ذَلِك والتمكن من مَعْرفَته احْتمل استقلاله
(1/33)
السَّادِس مَا حذف سَنَده أَو بعضه فيهمَا
وَهُوَ كثير فِي تراجم البُخَارِيّ قَلِيل جدا فِي صَحِيح
مُسلم كَقَوْلِه فِي التَّيَمُّم روى اللَّيْث بن سعد قَالَ
ابْن الصّلاح مَا كَانَ مِنْهُ بِصِيغَة الْجَزْم مثل قَالَ
فلَان وَفعل وَأمر وروى وَذكر فَهُوَ حكم بِصِحَّتِهِ عَن
الْمُضَاف إِلَيْهِ وَمَا لَيْسَ بِصِيغَة الْجَزْم مثل يروي
عَن فلَان وَيذكر ويحكي وَيُقَال عَنهُ أَو روى وَذكر وَحكى
فَلَيْسَ يحكم بِصِحَّتِهِ عَنهُ وَلَكِن إِيرَاده فِي كتاب
الصَّحِيح مشْعر بِصِحَّة أَصله
السَّابِع لَا يحْتَج بِحَدِيث من نُسْخَة كتاب لم يُقَابل
بِأَصْل صَحِيح موثوق بِهِ بِمُقَابلَة من يوثق بِهِ وَقَالَ
ابْن الصّلاح بأصول صَحِيحَة مُتعَدِّدَة ومروية بروايات
متنوعة قلت وَهَذَا مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يحمل على
الِاسْتِحْبَاب لَا على الِاشْتِرَاط لتعسر ذَلِك غَالِبا أَو
تعذره وَلِأَن الأَصْل الصَّحِيح تحصل ب الثِّقَة
الثَّامِن لَيْسَ الْمَقْصُود بالسند فِي عصرنا إِثْبَات
الحَدِيث الْمَرْوِيّ وتصحيحه إِذْ لَيْسَ يَخْلُو فِيهِ سَنَد
عَمَّن لَا يضْبط حفظه أَو كِتَابه ضبطا لَا يعْتَمد عَلَيْهِ
فِيهِ بل الْمَقْصُود بَقَاء سلسلة الْإِسْنَاد الْمَخْصُوص
بِهَذِهِ الْأمة فِيمَا نعلم وَقد كفانا السّلف مؤونة ذَلِك
فاتصال أصل صَحِيح بِسَنَد صَحِيح إِلَى مُصَنفه كَاف وَإِن
فقد الإتقان فِي كلهم أَو بَعضهم
(1/34)
التَّاسِع ذكر الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي فِي مدخله أَن جملَة
من خرج لَهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه دون مُسلم أَربع مئة
وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ شَيخا وَجُمْلَة من خرج لَهُ مُسلم
فِي صَحِيحه دون البُخَارِيّ سِتّ مئة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ
شَيخا
الْعَاشِر ذكر مُسلم فِي أول صَحِيحه أَنه يقسم الحَدِيث
ثَلَاثَة أَقسَام وَاخْتلف الْحفاظ فِيهِ فَقَالَ الْحَاكِم
وَالْبَيْهَقِيّ لم يذكر غير الأول واخترمته الْمنية قبل
الثَّانِي وَقَالَ القَاضِي عِيَاض بل ذكر الثَّلَاثَة فِي
كِتَابه فقسم الحَدِيث على ثَلَاث طَبَقَات من الروَاة
فَالْأول حَدِيث الْحفاظ فَيبْدَأ بِهِ ثمَّ يَأْتِي
بِالثَّانِي بطرِيق الاستشهاد والاتباع حَتَّى يَسْتَوْفِي
الثَّلَاثَة وَكَذَلِكَ الْعِلَل الَّتِي وعد بإتيانه بهَا
أَتَى بهَا فِي موَاضعهَا من الْكتاب من إرْسَال وَنقص
وَزِيَادَة وتصحيف قلت وَلَو قيل أَتَى بالقسمين الْأَوَّلين
دون الثَّالِث |