تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ط طيبة

[تدريب الراوي]
[النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مَعْرِفَةُ آدَابِ الْمُحَدِّثِ] [شرف علم الحديث]
(النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:) (مَعْرِفَةُ آدَابِ الْمُحَدِّثِ: عِلْمُ الْحَدِيثِ شَرِيفٌ) ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْوَصْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَالْبَاحِثُ عَنْ تَصْحِيحِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالذَّبِّ عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] ، لَيْسَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ أَشْرَفَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إِمَامَ لَهُمْ غَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْأَنَّ سَائِرَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ. أَمَّا الْفِقْهُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَلِأَنَّ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَهُوَ عَلَمٌ (يُنَاسِبُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَ الشِّيَمِ) ، وَيُنَافِرُ ضِدَّ ذَلِكَ، (وَهُوَ مِنْ عُلُومِ الْآخِرَةِ) الْمَحْضَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبُّوَيْهِ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقَبْرِ فَعَلَيْهِ بِالْأَثَرِ، وَمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْخَبْزِ فَعَلَيْهِ بِالرَّأْيِ.
(مَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ خَيْرًا عَظِيمًا، وَمَنْ رُزِقَهُ نَالَ فَضْلًا جَسِيمًا) ، وَيَكْفِيهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي دَعْوَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» .

(2/565)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَحَدٌ إِلَّا وَفِي وَجْهِهِ نُضْرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي، قِيلَ: وَمَنْ خُلَفَاؤُكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ أَحَادِيثِي وَسُنَّتِي» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَكَأَنَّ تَلْقِيبَ الْمُحَدِّثِ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ لُقِّبَ بِهِ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ: سُفْيَانُ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
(فَعَلَى صَاحِبِهِ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ) ، وَإِخْلَاصُهَا، (وَتَطْهِيرُ قَلْبِهِ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا) وَأَدْنَاسِهَا؛ كَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَنَحْوِهَا، وَلْيَكُنْ أَكْبَرَ هَمِّهِ نَشْرُ الْحَدِيثِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قُلْتُ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: حَدِّثْنَا، قَالَ: حَتَّى تَجِيءَ النِّيَّةُ.
وَقِيلَ لِأَبِي الْأَحْوَصِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ: حَدِّثْنَا، فَقَالَ: لَيْسَ لِي نِيَّةٌ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ تُؤْجَرُ، فَقَالَ:
يُمَنُّونِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَلَيْتَنِي ... نَجَوْتُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا

(2/566)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِنَّ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ فِي الْقَلْبِ خُيَلَاءَ.
(وَاخْتُلِفَ فِي السِّنِّ الَّذِي) يَحْسُنُ أَنْ (يَتَصَدَّى فِيهِ لِإِسْمَاعِهِ) ؛ فَقَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: إِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ، لِأَنَّهَا انْتِهَاءُ الْكُهُولَةِ، وَفِيهَا مُجْتَمَعُ الْأَشُدِّ.
قَالَ: وَلَا يُنْكَرُ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهَا حَدُّ الِاسْتِوَاءِ وَمُنْتَهَى الْكَمَالِ، وَعِنْدَهَا يَنْتَهِي عَزْمُ الْإِنْسَانِ وَقُوَّتُهُ، وَيَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ وَيَجُودُ رَأْيُهُ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ: كَمْ مِنَ السَّلَفِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا السَّنِّ، وَنَشَرَ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يُحْصَى، كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَجَلَسَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ ابْنَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ وَشُيُوخُهُ أَحْيَاءٌ؛ رَبِيعَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَنَافِعٌ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَابْنُ هُرْمُزَ، وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَئِمَّةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ حَدَّثَ بُنْدَارٌ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ وَحَدَّثَ الْبُخَارِيُّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ، وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَا قَالَهُ ابْنُ خَلَّادٍ مَحَلُّهُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الْحَدِيثُ لِمُجَرَّدِ الْإِسْنَادِ مِنْ غَيْرِ بَرَاعَةٍ فِي الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعُلُوِّ إِسْنَادِهِ إِلَّا عِنْدَ السَّنِّ الْمَذْكُورِ، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ بَرَاعَةٌ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْهُ قَبْلَ السَّنِّ الْمَذْكُورِ.
قَالَ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى احْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدَهُ جَلَسَ لَهُ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ.

(2/567)


فَصْلٌ:
الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِسِنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ فِي بَلَدٍ فِيهِ أَوْلَى مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ عِنْدَ أَرْجَحَ مِنْهُ أَنْ يُرْشِدَ إِلَيْهِ؛ فَالدِّينُ النَّصِيحَةُ.
وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَحْدِيثِ أَحَدٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحِ النِّيَّةِ فَإَنَّهُ يُرْجَى صِحَّتُهَا، وَلْيَحْرِصْ عَلَى نَشْرِهِ مُبْتَغِيًا جِزَيلَ أَجْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنِ التَّحْدِيثِ إِذَا خَشِيَ التَّخْلِيطَ بِهَرَمٍ، أَوْ خَرَفٍ، أَوْ عَمًى، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ) ، وَضَبَطَهُ ابْنُ خَلَّادٍ بِالثَمَانِينَ، قَالَ: وَالتَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِهِ.
فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ الْعَقْلِ مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ فَلَا بَأْسَ؛ فَقَدْ حَدَّثَ بَعْدَهَا أَنَسٌ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فِي آخَرِينَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ فِي آخَرِينَ، وَمِنْ أَتْبَاعِهِمْ: مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا يَخْرَفُ الْكَذَّابُونَ.
وَحَدَّثَ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: شَرِيكٌ النَّمَرِيُّ، وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ: الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالسِّلَفِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

[فَصْلٌ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحَدِّثُ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِسَنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ]
(فَصْلٌ:
الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحَدِّثُ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِسَنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِ) . كَأَنَّهُ يَكُونُ أَعْلَى سَنَدًا، أَوْ سَمَاعُهُ مُتَّصِلًا وَفِي طَرِيقِهِ هُوَ إِجَازَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

(2/568)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَا يَتَكَلَّمُ بِحَضْرَةِ الشَّعْبِيِّ بِشَيْءٍ.
(وَقِيلَ) أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ (يُكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ فِي بَلَدٍ فِيهِ أَوْلَى مِنْهُ) .
فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحْمَقُ.
(وَيَنْبَغِي لَهُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ عِنْدَ أَرْجَحَ مِنْهُ أَنْ يُرْشِدَ إِلَيْهِ؛ فَالدِّينُ النَّصِيحَةُ) .
قَالَ فِي " الِاقْتِرَاحِ ": يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ، فِيمَا عَدَا الصِّفَةَ الْمُرَجِّحَةَ، أَمَّا مَعَ التَّفَاوُتِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَعْلَى إِسْنَادًا عَامِّيًّا، وَالْأَنْزَلُ عَارِفٌ ضَابِطٌ فَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الْإِرْشَادِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَا يُوجِبُ خَلَلًا.
قُلْتُ: الصَّوَابُ إِطْلَاقُ أَنَّ التَّحْدِيثَ بِحَضْرَةِ الْأَوْلَى لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَلَا خِلَافِ الْأَوْلَى، فَقَدِ اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَدِيثِ: «إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا» الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَلَدِهِ.
وَقَدْ عَقَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ " بَابًا لِذَلِكَ، وَأَخْرَجَ بِأَسَانِيدَ فِيهَا الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، كَانُوا يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ

(2/569)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
جُبَيْرٍ: حَدِّثْ، قَالَ: أُحَدِّثُ وَأَنْتَ شَاهِدٌ، قَالَ: أَوَلَيِسَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ تُحَدِّثَ وَأَنَا شَاهِدٌ؛ فَإِنْ أَخْطَأْتَ عَلَّمْتُكَ.
تَنْبِيهٌ
إِذَا كَانَتْ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكِينَ فِي سَمَاعٍ؛ فَالْإِسْمَاعُ مِنْهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَوْ طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَامْتَنَعَ لَمْ يَأْثَمْ، فَإِنِ انْحَصَرَ فِيهِ أَثِمَ.
(وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَحْدِيثِ أَحَدٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحِ النِّيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُرْجَى) لَهُ (صِحَّتُهَا) بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ مَعْمَرٌ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: طَلَبْنَا الْحَدِيثَ وَمَا لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ، ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ النِّيَّةَ بَعْدُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَا كَانَ فِي النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ؛ فَقِيلَ: يَطْلُبُونَهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؟ فَقَالَ: طَلَبُهُمْ إِيَّاهُ نِيَّةٌ.
(وَلْيَحْرِصْ عَلَى نَشْرِهِ مُبْتَغِيًا جَزِيلَ أَجْرِهِ) ؛ فَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَتَأَلَّفُ النَّاسُ

(2/570)


فَصْلٌ:
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ حُضُورَ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَتَطَيَّبَ وَيُسَرِّحَ لِحِيَتَهُ وَيَجْلِسَ مُتَمَكِّنًا بِوَقَارٍ، فَإِنْ رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ زَبَرَهُ، وَيُقْبِلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ، وَيَفْتَتِحَ مَجْلِسَهُ وَيَخْتَتِمَهُ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُعَاءٍ يَلِيقُ بِالْحَالِ، بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدًا يَمْنَعُ فَهْمَ بَعْضِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
عَلَى حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ نَشْرِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ: حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: «بَلِّغُوا عَنِّي - لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» .
وَحَدِيثُ: «مَنْ أَدَّى إِلَى أُمَّتِي حَدِيثًا وَاحِدًا يُقِيمُ بِهِ سُنَّةً أَوْ يَرُدُّ بِهِ بِدْعَةً فَلَهُ الْجَنَّةُ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْأَرْبَعِينَ.
وَحَدِيثُ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نُغْلَبَ عَلَى ثَلَاثٍ: أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنُعَلِّمَ النَّاسَ السُّنَنَ» .

[فَصْلٌ ما يُسْتَحَبُّ فعله إِذَا أَرَادَ حُضُورَ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ]
(فَصْلٌ:
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ حُضُورَ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ أَنْ يَتَطَهَّرَ) بِغُسْلٍ وَوُضُوءٍ، (وَيَتَطَيَّبَ) وَيَتَبَخَّرَ، وَيَسْتَاكَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، (وَيُسَرِّحَ لِحْيَتَهُ، وَيَجْلِسَ) فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ (مُتَمَكِّنًا) فِي جُلُوسِهِ (بِوَقَارٍ) وَهَيْبَةٍ.

(2/571)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أُحَدِّثَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ مُتَمَكِّنًا. وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ وَهُوَ قَائِمٌ، أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَأَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَقَدْ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْأَحَادِيثَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ.
وَعَنْ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَدِّثُوا عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ.
وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فِي مَرَضِهِ فَجَلَسَ وَحَدَّثَ بِهِ ; فَقِيلَ لَهُ: وَدِدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَتَعَنَّ؛ فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُضْطَجِعٌ.
وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ يَمْشِي، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ تَوْقِيرِ الْعِلْمِ.
وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَجَالِسُ الْعِلْمِ يُحْتَضَرُ بِالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ لِأَحَدٍ، فَقَدْ قِيلَ: إِذَا قَامَ الْقَارِئُ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ

(2/572)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
فَإِنَّهُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ بِخَطِيئَةٍ.
(فَإِنْ رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ) فِي الْمَجْلِسِ (زَبَرَهُ) أَيِ انْتَهَرَهُ وَزَجَرَهُ؛ فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] فَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِهِ؛ فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِهِ.
(وَيُقْبِلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ) ، فَقَدْ قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْقَوْمَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا.
(وَيَفْتَتِحُ مَجْلِسَهُ وَيَخْتَتِمُهُ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُعَاءٍ يَلِيقُ بِالْحَالِ، بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ) .
فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَمَعُوا تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ وَقَرَءُوا سُورَةً.
(وَلَا يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدًا) عَجِلًا (يُمْنَعُ فَهْمَ بَعْضِهِ) ، كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَعْجِلُ، وَيَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ أَفْهَمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(2/573)


فَصْلٌ:
يُسْتَحَبُّ لِلْمُحَدِّثِ الْعَارِفِ عَقْدُ مَجْلِسٍ لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الرِّوَايَةِ، وَيَتَّخِذُ مُسْتَمْلِيًا مُحَصِّلًا مُتَيَقِّظًا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِذَا كَثُرَ الْجَمْعُ عَلَى عَادَةِ الْحُفَّاظِ، وَيَسْتَمْلِي مُرْتَفِعًا وَإلَّا قَائِمًا وَعَلَيْهِ تَبْلِيغُ لَفْظِهِ عَلَى وَجْهِهِ. وَفَائِدَةُ الْمُسْتَمْلِي تَفْهِيمُ السَّامِعِ عَلَى بُعْدٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا الْمُبَلِّغَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنِ الْمُمْلِي إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ.
وَيَسْتَنْصِتُ الْمُسْتَمْلِي النَّاسَ بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُبَسْمِلُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَحَرَّى الْأَبْلَغَ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُحَدِّثِ مَنْ أَوْ مَا ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ؟ أَوْ رَضِيَ عَنْكَ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَكُلَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
. قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ صحَابِيًّا: رَضِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ صَحَابِيٍّ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَيَحْسُنُ بِالْمُحَدِّثِ الثَّنَاءُ عَلَى شَيْخِهِ حَالَ الرِّوَايَةِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ كَمَا فَعَلَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلْيَعْتَنِ بِالدُّعَاءِ لَهُ فَهُوَ أَهَمُّ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ بِلَقَبٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْ أُمٍّ عُرِفَ بِهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي إِمْلَائِهِ جَمَاعَةً مِنْ شُيُوخِهِ مُقَدِّمًا أَرْجَحَهُمْ، ويرَوِيَ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ حَدِيثًا ويخَتَارَ مَا عَلَا سَنَدُهُ وَقَصُرَ مَتْنُهُ، وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَيُنَبِّهَ عَلَى صِحَّتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ عُلُوٍّ وَفَائِدَةٍ، وَضَبْطِ مُشْكِلٍ، وَلْيَجْتَنِبْ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ عَقُولُهُمْ وَمَا لَا يَفْهَمُونَهُ، وَيَخْتِمَ الْإِمْلَاءَ بِحَكَايَاتٍ وَنَوَادِرَ وَإِنْشَادَاتٍ بِأَسَانِيدِهَا، وَأَوْلَاهَا مَا فِي الزُّهْدِ، وَالْآدَابِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَإِذَا قَصَرَ الْمُحَدِّثُ أَوِ اشْتَغَلَ عَنِ تَخْرِيجِ الْإِمْلَاءِ اسْتَعَانَ بِبَعْضِ الْحُفَّاظِ، وَإِذَا فَرَغَ الْإِمْلَاءُ قَابَلَهُ وَأَتْقَنَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: «جَلَسَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، فَلَمَّا قَضَتْ صَلَاتَهَا قَالَتْ: ألَا تَعْجَبُ إِلَى هَذَا؟ وَحَدِيثَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ.»
وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» .
وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ عَقِيبَهُ: «إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُهُ فَصْلًا تَفْهَمُهُ الْقُلُوبُ» .

[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ للمحدث عقد مجلس الإملاء]
(فَصْلٌ:
يُسْتَحَبُّ لِلْمُحَدِّثِ الْعَارِفِ عَقْدُ مَجْلِسٍ لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الرِّوَايَةِ) ، وَالسَّمَاعُ فِيهِ أَحْسَنُ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ وَأَقْوَاهَا.
رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " مِنْ طَرِيقِهِ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيَّانِ، قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ مَعْرُوفٌ الْخَيَّاطُ، قَالَ: رَأَيْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُمْلِي عَلَى النَّاسِ الْأَحَادِيثَ، وَهُمْ يَكْتُبُونَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
(وَيَتَّخِذُ مُسْتَمْلِيًّا مُحَصِّلًا مُتَيَقِّظًا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِذَا كَثُرَ الْجَمْعُ عَلَى عَادَةِ الْحُفَّاظِ) فِي ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ وَخَلَائِقَ.

(2/574)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ. وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ» .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ.
فَإِنْ كَثُرَ الْجَمْعُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي مُسْتَمْلٍ اتَّخَذَ مُسْتَمْلِيَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَقَدْ أَمْلَى أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي رَحْبَةِ غَسَّانَ، وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ سَبْعَةُ مُسْتَمْلِينَ يَبْلُغُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ سِوَى النَّظَّارَةِ.
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَلَا يَكُونُ الْمُسْتَمْلِي بَلِيدًا، كَمُسْتَمْلِي يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، حَيْثُ سُئِلَ يَزِيدُ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ عِدَّةٌ، فَصَاحَ الْمُسْتَمْلِي: يَا أَبَا خَالِدٍ عِدَّةُ ابْنُ مَنْ؟ فَقَالَ لَهُ: ابْنُ فَقَدْتُكَ.
وَمِنْ لَطِيفِ مَا وَرَدَ فِي الِاسْتِمْلَاءِ، مَا حَكَاهُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَافِظَ يَعْقُوبَ بْنَ سُفْيَانَ الْفَسَوِيَّ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ مَا فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَ، قَالَ: غَفَرَ لِي وَأَمَرَنِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ كَمَا كُنْتُ أُحَدِّثُ

(2/575)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
فِي الْأَرْضِ، فَحَدَّثْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيَّ الْمَلَائِكَةُ وَاسْتَمْلَى عَلِيَّ جِبْرِيلُ، وَكَتَبُوا بِأَقْلَامٍ مِنَ الذَّهَبِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ التُّسْتَرِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَنِي يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ رَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ يُحَدِّثُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَجِبْرِيلُ يَسْتَمْلِي عَلَيْهِ.
(وَيَسْتَمْلِي مُرْتَفِعًا) عَلَى كُرْسِيٍّ وَنَحْوِهِ، (وَإِلَّا قَائِمًا) عَلَى قَدَمَيْهِ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ لِلسَّامِعِينَ، (وَعَلَيْهِ) أَيِ الْمُسْتَمْلِي وُجُوبًا (تَبْلِيغُ لَفْظِهِ) أَيِ الْمُمْلِي وَأَدَاؤُهُ (عَلَى وَجْهِهِ) مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ.
(وَفَائِدَةُ الْمُسْتَمْلِي تَفْهِيمُ السَّامِعِ) لَفْظَ الْمُمْلِي (عَلَى بُعْدٍ) لِيَتَحَقَّقَهُ بِصَوْتِهِ.
(وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا الْمُبَلِّغَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنِ الْمُمْلِي؛ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا) بِمَا فِيهِ (فِي) النَّوْعِ (الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ) .
(وَيَسْتَنْصِتُ الْمُسْتَمْلِي النَّاسَ) أَيْ أَهْلَ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ احْتِيجَ لِلِاسْتِنْصَاتِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ، (بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ) لِمَا تَقَدَّمَ.

(2/576)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
(ثُمَّ يُبَسْمِلُ) الْمُسْتَمْلِي، (وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَحَرَّى الْأَبْلَغَ فِيهِ) مِنْ أَلْفَاظِ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي " الرَّوْضَةِ " عَنِ الْمُتَوَلِّي وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: أَنَّ أَبْلَغَ أَلْفَاظِ الْحَمْدِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لِذَلِكَ دَلِيلٌ مُعْتَمَدٌ.
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: بَلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَآخِرُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فَيَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَنَقَلَ فِي " الرَّوْضَةِ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ أَبْلَغَ أَلْفَاظِ الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كُلَّمَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ، أَنَّ أَبْلَغَهَا مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حَيْثُ قَالُوا: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
(ثُمَّ يَقُولُ) الْمُسْتَمْلِي (لِلْمُحَدِّثِ) الْمُمْلِي (مَنْ؟) ذَكَرْتَ أَيْ مِنَ الشُّيُوخِ، (أَوْ مَا ذَكَرْتَ) أَيْ مِنَ الْأَحَادِيثِ، (رَحِمَكَ اللَّهُ، أَوْ رَضِيَ عَنْكَ، وَمَا أَشْبَهَهُ) .
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: نِلْتُ الْقَضَاءَ، أَوْ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَالْوِزَارَةَ، وَكَذَا

(2/577)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَكَذَا، مَا سُرِرْتُ بِشَيْءٍ مِثْلِ قَوْلِ الْمُسْتَمْلِيِّ، مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ.
(وَكُلَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى) الْمُسْتَمْلِي (عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
(قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ وَإِذَا ذَكَرَ صَحَابِيًّا رَضَّى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ ابْنَ صَحَابِيٍّ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) .
وَكَذَا يَتَرَحَّمُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَالَ لَهُ الْقَارِئُ يَوْمًا: حَدَّثَكُمُ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَقُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ الرَّبِيعُ: وَلَا حَرْفَ حَتَّى يُقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
1 -
(وَيَحْسُنُ بِالْمُحَدِّثِ الثَّنَاءُ عَلَى شَيْخِهِ حَالَ الرِّوَايَةِ) عَنْهُ (بِمَا هُوَ أَهْلُهُ كَمَا فَعَلَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ) كَقَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ عَوْفُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَكَقَوْلِ مَسْرُوقٍ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ.
وَكَقَوْلِ عَطَاءٍ: حَدَّثَنِي الْبَحْرُ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَكَقَوْلِ شُعْبَةَ: حَدَّثَنِي سَيِّدُ الْفُقَهَاءِ أَيُّوبُ.
وَكَقَوْلِ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.

(2/578)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
(وَلْيَعْتَنِ بِالدُّعَاءِ لَهُ فَهُوَ أَهَمُّ) مِنَ الثَّنَاءِ الْمَذْكُورِ. وَيَجْمَعُ فِي الشَّيْخِ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي إِعْظَامِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: لَكِنْ يَقْتَصِرُ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى اسْمِ مَنْ لَا يُشْكِلُ: كَأَيُّوبَ، وَيُونُسَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَنَحْوِهِمْ، وَكَذَا عَلَى نِسْبَةِ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِهَا: كَابْنِ عَوْنٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ بِلَقَبٍ) كَغُنْدَرٍ، (أَوْ وَصْفٍ) كَالْأَعْمَشِ، (أَوْ حِرْفَةٍ) كَالْخَيَّاطِ، (أَوْ أُمٍّ) كَابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِنْ كُرِهَ ذَلِكَ، إِذَا (عُرِفَ بِهَا) ، وَقَصَدَ تَعْرِيفَهُ لَا عَيْبَهُ.
(وَيُسْتَحَبُّ) لِلْمُمْلِي (أَنْ يَجْمَعَ فِي إِمْلَائِهِ) الرِّوَايَةَ (عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ) ، وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى شَيْخٍ وَاحِدٍ (مُقَدِّمًا أَرْجَحَهُمْ) بِعُلُوِّ سَنَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَاتٍ مِنْ شُيُوخِهِ، دُونَ كَذَّابٍ أَوْ فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ.
رَوَى مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ.
(وَيَرْوِيَ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ حَدِيثًا) وَاحِدًا فِي مَجْلِسٍ، (وَيَخْتَارَ) مِنَ الْأَحَادِيثِ (مَا عَلَا سَنَدُهُ، وَقَصُرَ مَتْنُهُ) وَكَانَ فِي الْفِقْهِ أَوِ التَّرْغِيبِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ:

(2/579)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَظِيفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيبِ ... فِي كُلِّ يَوْمٍ سِوَى مَا يُعَادْ
شَرِيكِيَّةٌ أَوْ هُشَيْمِيَّةٌ ... أَحَادِيثُ فِقْهٍ فَصَارَ جِيَادَ
(وَ) يَتَحَرَّى (الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ، وَيُنَبِّهُ عَلَى صِحَّتِهِ) أَيِ الْحَدِيثِ، أَوْ حُسْنِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ عِلَّتِهِ إِنْ كَانَ مَعْلُولًا، (وَ) عَلَى (مَا فِيهِ مِنْ عُلُوٍّ) ، وَجَلَالَةٍ فِي الْإِسْنَادِ، (وَفَائِدَةٍ) فِي الْحَدِيثِ أَوِ السَّنَدِ، كَتَقْدِيمِ تَارِيخِ سَمَاعِهِ، وَانْفِرَادِهِ عَنْ شَيْخِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَهُ، (وَضَبْطِ مُشْكِلٍ) فِي الْأَسْمَاءِ، أَوْ غَرِيبٍ، أَوْ مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْمَتْنِ.
(وَلْيَجْتَنِبْ) مِنَ الْأَحَادِيثِ (مَا لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُمْ، وَمَا لَا يَفْهَمُونَهُ) كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، لِمَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ وَالْوُقُوعِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ.
فَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: تُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " الشُّعَبِ " عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَدَّثْتُمُ النَّاسَ عَنْ رَبِّهِمْ فَلَا تُحَدِّثُوهُمْ بِمَا يَغْرُبُ أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ» .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَجْتَنِبُ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ لِلْعَوَامِّ أَحَادِيثَ الرُّخَصِ، وَمَا شَجَرَ بَيْنَ

(2/580)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
الصَّحَابَةِ، وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
(وَيَخْتِمُ الْإِمْلَاءَ بِحِكَايَاتٍ وَنَوَادِرَ وَإِنْشَادَاتٍ بِأَسَانِيدِهَا) كَعَادَةِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ الْخَطِيبُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ؛ قَالَ: رَوِّحُوا الْقُلُوبَ وَابْتَغُوا لَهَا طَرَفَ الْحِكْمَةِ.
وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكُمْ، هَاتُوا مِنْ أَحَادِيثِكُمْ فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ وَالْقَلْبَ حَمْضٌ.
(وَأَوْلَاهَا مَا فِي الزُّهْدِ وَالْآدَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ) هَذَا مِنْ زَوَائِدِ الْمُصَنَّفِ.
(وَإِذَا قَصَرَ الْمُحَدِّثُ) عَنْ تَخْرِيجِ الْإِمْلَاءِ لِقُصُورِهِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، وَعِلَلِهِ، وَاخْتِلَافِ وُجُوهِهِ، (أَوِ اشْتَغَلَ عَنْ تَخْرِيجِ الْإِمْلَاءِ اسْتَعَانَ بِبَعْضِ الْحُفَّاظِ) فِي تَخْرِيجِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُرِيدُ إِمْلَاءَهَا قَبْلَ يَوْمِ مَجْلِسِهِ، فَقَدْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرَانَ، وَأَبِي الْقَاسِمِ السَّرَّاجِ، وَخَلَائِقَ.
(وَإِذَا فَرَغَ الْإِمْلَاءُ قَابَلَهُ وَأَتْقَنَهُ) لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْهُ بِزَيْغِ الْقَلَمِ وَطُغْيَانِهِ، وَفِيهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّابِقُ فِي فَرْعِ الْمُقَابَلَةِ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَدْ رَخَّصَ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَاكَ فِي الرِّوَايَةِ بِدُونِهَا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ،

(2/581)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ هُنَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيُحْتَمَلُ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّسَخِ مِنْ أَصْلِ السَّمَاعِ وَالنُّسَخِ مِنْ إِمْلَاءِ الشَّيْخِ حِفْظًا؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ خَوَّانٌ.
قَالَ: وَلَكِنَّ الْمُقَابَلَةَ لِلْإِمْلَاءِ أَيْضًا إِنَّمَا هِيَ مَعَ الشَّيْخِ أَيْضًا مِنْ حِفْظِهِ، لَا عَلَى أُصُولِهِ.
قُلْتُ: جَرَتْ عَادَتُنَا بِتَخْرِيجِ الْإِمْلَاءِ وَتَحْرِيرِهِ فِي كُرَّاسَةٍ، ثُمَّ نُمْلِي حِفْظًا، وَإِذَا نَجَزَ قَابَلَهُ الْمُمْلِي مَعَنَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي حَرَّرْنَاهُ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ الْإِتْقَانِ، وَقَدْ كَانَ الْإِمْلَاءُ دَرَسَ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ إِلَى أَوَاخِرِ أَيَّامِ الْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ الْعِرَاقِيِّ؛ فَافْتَتَحَهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَأَمْلَى أَرْبَعَمِائَةِ مَجْلِسٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ مَجْلِسًا إِلَى سَنَةِ مَوْتِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمْلَى وَلَدُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ - سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ - سِتَّمِائَةِ مَجْلِسٍ وَكَسْرًا.
ثُمَّ أَمْلَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَجْلِسٍ، ثُمَّ دَرَسَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَافْتَتَحْتُهُ أَوَّلَ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَأَمْلَيْتُ ثَمَانِينَ مَجْلِسًا ثُمَّ خَمْسِينَ أُخْرَى.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْلِيَ فِي الْأُسْبُوعِ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: «كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوَدِدْنَا أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ مَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا تَأْتِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ فَتَقْطَعَ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ؛ فَإِذَا

(2/582)


النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ:
مَعْرِفَةُ آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ: قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ جُمَلٌ مُفَرَّقَةٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ، وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِهِ، وَالْحَذَرُ مِنَ التَوصُّلِ بِهِ إِلَى أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ وَالتَّيْسِيرَ، وَيَسْتَعْمِلُ الْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ وَالْآدَابَ، ثُمَّ لْيُفْرِغْ جَهْدَهُ فِي تَحْصِيلِهِ وَيَغْتَنِمْ إِمْكَانَهُ.
وَيَبْدَأُ بِالسَّمَاعِ مِنْ أَرْجَحِ شُيُوخِ بَلَدِهِ إسْنَادًا وَعِلْمًا وَشُهْرَةً وَدِينًا، وَغَيْرَهُ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مُهِمَّاتِهِمْ فَلْيَرْحَلْ عَلَى عَادَةِ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، وَلَا يَحْمِلَنَّهُ الشَّرَهُ عَلَى التَّسَاهُلِ فِي التَّحَمُّلِ فَيُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ؛ فَذَلِكَ زَكَاةُ الْحَدِيثِ وَسَبَبُ حِفْظِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ.
وَلَمْ أَظْفَرْ لِأَحَدٍ بِتَعْيِينِ يَوْمِ الْإِمْلَاءِ وَلَا وَقْتِهِ؛ إِلَّا أَنَّ غَالِبَ الْحُفَّاظِ كَابْنِ عَسَاكِرَ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالْخَطِيبِ، كَانُوا يُمْلُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاتِهَا، فَتَبِعْتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ظَفِرْتُ بِحَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ بَعْدَ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الشُّعَبِ " عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ جَلَسَ يُمْلِي خَبَرًا حَتَّى يُمْسِيَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ أَعْتَقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» .