تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ط طيبة [النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَلَاثُونَ
نَاسِخُ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخُهُ]
(النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَلَاثُونَ) : (نَاسِخُ الْحَدِيثِ
وَمَنْسُوخُهُ، وَهُوَ فَنٌّ مُهِمٌّ) .
فَقَدْ مَرَّ عَلَى عَلِيٍّ قَاصٌّ، فَقَالَ: تَعْرِفُ
النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ:
(2/643)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ؛ أَسْنَدَهُ الْحَازِمِيُّ فِي
كِتَابِهِ، وَأَسْنَدَ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأُسْنِدَ عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ
فَقَالَ: إِنَّمَا يُفْتِي مَنْ عَرَفَ النَّاسِخَ
وَالْمَنْسُوخَ، قَالُوا: وَمَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ،
عُمَرُ.
(صَعْبٌ) فَقَدْ رُوِّينَا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَعْيَا
الْفُقَهَاءَ وَأَعْجَزَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا نَاسِخَ
الْحَدِيثِ مِنْ مَنْسُوخِهِ.
(وَكَانَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ يَدٌ طُولَى، وَسَابِقَةٌ
أُولَى) ؛ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِابْنِ وَارَةَ
وَقَدْ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ: كَتَبْتَ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ؟
قَالَ: لَا، قَالَ: فَرَّطْتَ، مَا عَلِمْنَا الْمُجْمَلَ مِنَ
الْمُفَسَّرِ، وَلَا نَاسِخَ الْحَدِيثِ مِنْ مَنْسُوخِهِ
حَتَّى جَالَسْنَا الشَّافِعِيَّ.
(وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ) مِمَّنْ صَنَّفَ
فِيهِ (مَا لَيْسَ مِنْهُ لِخَفَاءِ مَعْنَاهُ) أَيِ النَّسْخِ
وَشَرْطِهِ.
(وَالْمُخْتَارُ) فِي حَدِّهِ (أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ
الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْهُ مُتَقَدِّمًا بِحُكْمٍ مِنْهُ
مُتَأَخِّرٍ) .
فَالْمُرَادُ بِرَفْعِ الْحُكْمِ قَطْعُ تَعَلُّقِهِ عَنِ
الْمُكَلَّفِينَ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ،
وَبِإِضَافَتِهِ لِلشَّارِعِ عَنْ إِخْبَارِ بَعْضِ مَنْ
شَاهَدَ النَّسْخَ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ
نَسْخًا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ التَّكْلِيفُ بِهِ لِمَنْ لَمْ
يَبْلُغْهُ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ.
(2/644)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَبِالْحُكْمِ عَنْ رَفْعِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛
فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَسْخًا.
وَبِالتَّقَدُّمِ عَنِ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ
بِالتَّكْلِيفِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ.
وَبِقَوْلِنَا: بِحُكْمٍ مِنْهُ مُتَأَخِّرٍ، عَنْ رَفْعِ
الْحُكْمِ بِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ زَوَالِ تَكْلِيفِهِ
بِجُنُونٍ وَنَحْوِهِ، وَعَنِ انْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ
الْوَقْتِ.
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ
مُلَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ
فَأَفْطِرُوا» ؛ فَالصَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ
نَسْخًا.
(فَمِنْهُ مَا عُرِفَ) النُّسَخُ فِيهِ (بِتَصْرِيحِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِذَلِكَ، ك (
«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»
) ، «وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ
ثَلَاثٍ فَكُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ
عَنِ الظُّرُوفِ» ، الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ
بُرَيْدَةَ.
(وَمِنْهُ مَا عُرِفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: ك «كَانَ آخِرُ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» )
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ.
وَكَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «كَانَ الْمَاءُ مِنَ
الْمَاءِ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ
بِالْغُسْلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
(2/645)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَشَرَطَ أَهْلُ الْأَصُولِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرَ
بِتَأَخُّرِهِ؛ فَإِنْ قَالَ: هَذَا نَاسِخٌ لَمْ يَثْبُتْ
بِهِ النَّسْخُ، لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِطْلَاقُ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْضَحُ
وَأَشْهَرُ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ
بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ
عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَالصَّحَابَةُ أَوْرَعُ مِنْ
أَنْ يَحْكُمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ
بِنَسْخٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ تَأَخُّرَ النَّاسِخِ
عَنْهُ، وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا.
(وَمِنْهُ مَا عُرِفَ بِالتَّارِيخِ) كَحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ
أَوْسٍ مَرْفُوعًا: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ؛
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
صَائِمٌ» ؛ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
إِنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ
عَشْرٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ شِدَادٍ: أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ زَمَنَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ.
(وَمِنْهُ مَا عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ: كَحَدِيثِ
قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ) ، وَهُوَ مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ
عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: دَلَّ الْإِجْمَاعُ
عَلَى نَسْخِهِ.
(2/646)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
وَإِنْ كَانَ ابْنُ حَزْمٍ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَخِلَافُ
الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ.
نَعَمْ: وَرَدَ نَسْخُهُ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ
فَاقْتُلُوهُ، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي
الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ» .
قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ
ذُؤَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَحْوَ هَذَا.
قَالَ: فَرُفِعَ الْقَتْلُ وَكَانَتْ رُخْصَةً. انْتَهَى.
وَمَا عَلَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ أَسْنَدَهُ الْبَزَّارُ فِي
مُسْنَدِهِ.
وَقَبِيصَةُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ
وَقَالَ: وُلِدَ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ
عَامَ الْفَتْحِ.
فَالْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا حَجَجْنَا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا
نُلَبِّي عَنِ النِّسَاءِ، وَنَرْمِي عَنِ الصِّبْيَانِ» .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا يُلَبِّي عَنْهَا غَيْرُهَا.
(2/647)
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالثَلَاثُونَ:
مَعْرِفَةُ الْمُصَحَّفِ: هُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ وَإِنَّمَا
يُحَقِّقُهُ الْحُذَّاقُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْهُمْ،
وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ مُفِيدٌ، وَيَكُونُ تَصْحِيفُ لَفْظٍ
وَبَصَرٍ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ؛ فَمِنَ الْإِسْنَادِ
الْعَوَّامُ بْنُ مُرَاجِمٍ " بِالرَّاءِ وَالْجِيمَ "
صَحَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ؛ فَقَالَهُ بِالزَّايِ وَالْحَاءِ،
وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَرَ فِي
الْمَسْجِدِ» أَيِ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ أَوْ
نَحْوِهِ يُصَلِّي فِيهَا، صَحَّفَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ؛
فَقَالَ: احْتَجَمَ.
وَحَدِيثُ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ
شَوَّالٍ» صَحَّفَهُ الصُّولِيُّ فَقَالَ: شَيْئًا
بِالْمُعَجَمَةِ، وَيَكُونُ تَصْحِيفَ سَمْعٍ كَحَدِيثٍ عَنْ
عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، رَوَاهُ بَعْضُهُمْ؛ فَقَالَ: وَاصِلٌ
الْأَحْدَبُ، وَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُثَنَّى: نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ، نَحْنُ مِنْ
عَنَزَةَ صَلَّى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تدريب الراوي]
ثُمَّ الْحَدِيثُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنَّسْخِ
بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، إِلَّا إِذَا
عُرِفَ صِحَّتُهُ؛ وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَلَطٌ،
صَرَّحَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ.
(وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ) أَيْ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ،
(وَلَا يَنْسَخُ) هُوَ غَيْرَهُ، (وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَى
نَاسِخٍ) أَيْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ غَيْرِهِ. |