توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار مسألة: 47 [في بيان من تقبل روايته ومن ترد
روايته]
من علوم الحديث "معرفة" المحدث "من تقبل روايته من ترد" روايته
وذلك بمعرفة شرائط الرواة.
"الذي في كتب أئمة الزيدية" في الأصول "أنه يشترط في" قبول
رواية "الراوى أربعة شروط":
"الأول: أن يكون بالغا1" وكل على أصله فيما يحصل به البلوغ
وهذا شرط للأداء للتحمل إجماعا.
"الثاني: أن يكون عاقلا" فلا تقبل رواية المجنون وهذا لا بد
منه في حال الأداء والتحمل.
"الثالث أن يكون مسلما2" فلا تقبل رواية الكافر وهذا شرط
للأداء ويجوز أن
__________
1 أن يكون بالغا: البلوغ مدار التكليف فلا تقبل رواية من دون
سن التكليف عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث
000 وعن الصبي حتى يحتلم". والبلوغ مظنة الإدراك وفهم أحكام
الشريعة لذلك ينط التكليف به. وقد احترز العلماء في قبول
الرواية من الصغير خشية الكذب فقد يكذب لأنه لايقدر أثر الكذب
ولا عقوبته ولأنه لارادع له عنه فكان البلوغ مظنة العقل ومدار
التكليف الذي يزجر المكلف عن الكذب وينهاه عن الوقوع فيه ثم إن
الشرع لم يجعل الصبي وليا في أمر دنياه ففي أمر الدين أولى لما
في قبول خبره من تنفيذ أو ولاية على جميع المسلمين. أصول
الحديث ص 230- 231.
2 فلا تقبل رواية الكافر: وذلك بالإجماع سواء أعلم من دينه
الاحتراز عن الكذب أم لم يعلم ولا يعقل أن تقبل روايته لأن في
قبولها تنفيذا لقوله على المسلمين وكيف تقبل رواية من يكيد
للإسلام؟. ثم إن الله عز وجل أمرنا بأن نتوقف في خبر الفاسق في
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .فإذا كان هذا
موقفنا من رواية الفاسق فمن الأولى أن نرد رواية الكافر. أصول
الحديث ص 230.
(2/84)
يكون تحمل ما رواه وهو كافر.
"الرابع: أن يكون عدلا مستورا" وسيأتي تفسير العدالة والتحقيق
أنها تغني عن الشرائط لتضمنها إياها "فلا يقبل المجهول في أحد
احتمال أبي طالب" من غير ترجيح لأحدهما "في المجزئ" كتابه في
أصول الفقه "ومرجوح احتمالية في أصول الفقه له" كأن له كتابا
في أصول الفقه غير المجزئ وإلا فالمجزئ فيها أيضا "وأحد قولي
المنصور بالله وهو المنصوص له في الصفوة" أي صفوة الإختيار
كتاب له في أصول الفقه "وأما الفقيه عبد الله بن زيد" العنسي
"فقال في الدرر" كتابه في أصول الفقه "المذهب" أي للزيدية
"قبوله" أي المستور في الرواية "وهو ظاهر كلام المنصور بالله
عليه السلام في" كتابه "هداية المسترشدين" فكان مرجوحا في أحد
احتمالية في الصفوة وظاهرا في كتابه الآخر "وهو مذهب" الحنفية
"وهو" أي قبول المستور "يلزم من يقبل مراسيلهم" أي الحنفية لأن
فيها المستور إذ مذهبهم قبوله.
"والخامس" من الشرط في قبول الرواية "أن يكون" الراوي "ضابطا
لما يرويه" إلا أنه تقدم له أن الذي في كتب الزيدية أربعة شروط
فهذا الخامس على رأي غيرهم إلا أنه لا يخفى أنه لا بد منه وقد
مر جوابه "وقد تقدم تفصيل كلام أصحابنا في ذلك أول الكتاب"
عبارة مشهورة تقدمت للمصنف وهو يناسب من يتمذهب بمذهب معين
وينتسب إليه لا من طريقة الإنصاف وعدم التعبد برأي الأسلاف
كالمصنف القائل في أبياته الدالية:
والكل إخوان ودين واحد ... كل مصيب في الفروع ومهتدي
أول الكتاب حيث قال ولا بد من اشتراط الضبط وقال إنه إذا استوى
خطاؤه وصوابه فهو مردود عند الأصوليين وقال المنصور بالله وعبد
الله ابن زيد إنه يقبل وطريق قبوله الاجتهاد وتقدم ما فيه كأنه
لمخالفته الزيدية لهذا لم يثبت لهم هنا شرطية الضبط.
"وقال ابن الصلاح: أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه
يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه ثم فصل
شروط العدالة والضبط وفسر العدالة بخمسة أشياء البلوغ والعقل
والسلامة من الفسق بارتكاب كبيرة أو إصرار على
(2/85)
صغيرة والسلامة أيضا مما يخرم المروة"
وكأنه وقع سقط في نسخة المصنف فإنه فاته الخامس وهو الإسلام.
وعبارة ابن الصلاح وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من
أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظا غير مغفل حافظا إن حدث من
حفظه ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه فإن كان محدثا بالمعنى
اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني انتهى.
ولا أدري لماذا حذف المصنف بقية شروط العدالة فإنه لم يأت
بعبارة ابن الصلاح بلفظها ولم تلم عبارته بمعناها وقد سبقه
الزين في الألفية وشرحها ويرد عليه ما ورد على المصنف.
ثم اعلم أنه أجمل ابن الصلاح أسباب الفسق فبينها المصنف بقوله
بارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغيرة وهاهنا عد أئمة الأصول
الكبائر وبينوا الخلاف في حقيقتها.
فائدة: فسر الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها العدالة بقوله
والمراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة
والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة
انتهى.
وفسر المروة وضبطها ملا على قارئ في حاشيته بقوله والمروءة بضم
الميم والراء بعدها واو ساكنة ثم همزة وقد تبدل وتدغم وهو كمال
الإنسان من صدق الإنسان واحتمال عثرات الإخوان وبذل الإحسان
إلى أهل الزمان وكف الأذى عن الجيران وقيل المروءة التخلق
بأخلاق أمثاله وأرانه ولداته في لبسه ومشيه وحركاته وسكناته
وسائر صفاته وفي المفاتيح خوارم المروة كالدباغة والحياكة
والحجامة ممن لا يليق به من غير ضرورة وكالبول في الطريقة
وصحية الأرذال واللعب بالحمام ونحو ومجملها الاحتراز عما يذم
به عرفا انتهى.
واعلم أقد بحثنا في هذا الرسم في رسالتنا ثمرات النظر في علم
الأثر وبينا فساده وحققنا الحق في حقيقتها وكذلك في حاشيتنا
منحة الغفار على ضوء النهار وبينا أن هذا الرسم لا دليل عليه
وأنه لا يتم الرسم إلا في حق المعصومين وفي قوله وصدق اللسان
قد دخل هذا الشرط في قيد اجتناب الكبائر وقوله وكف الأذى عن
الجيران لا وجه لتقييده بذلك وإنما قاده إليه السجع ولو قال
وكف الأذى عن أهل الإيمان لعم ذلك مع وفاء العبارة بالمراد على
أنه قد دخل كف
(2/86)
الأذى في اجتناب الكبائر لورود الوعيد عليه
بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58] .
"وفسر" أي ابن الصلاح "الحفظ" المأخوذ في رسم العدل "بما يرجع
إلى موافقة الحفاظ أهل الإتقان إلا النادر الذي لا يخلو عنه
أحد" فإنه وقع النسيان لسيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم
"وعلى حسب موافقته لهم يعرف حفظه" لفظ ابن الصلاح يعرف كون
الراوي ضابطا بأن تعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط
والإتقان فإن وجدنا روايته موافقة ولو من حيث المعنى
لرواياتههم وفي الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه حافظا
ثبا1 وفي النخبة وشرحها إنما الضبط ضبطان ضبط صدر أي إتقان قلب
وحفظه وهو أي ضبط الصدر أن يثبت الراوي في صدره ما سمعه بحيث
يتمكن من استحضاره متى شاء وضبط كتاب وهو صيانته لديه منذ سمعه
فيه وصححه إلى أن يؤدي منه انتهى وبه تعرف أن تفسير ابن الصلاح
إنما هو لأحد قسمي الضبط.
واعلم أن قدمنا لك أنهم اختاروا في رسم الصحيح أن يكون راويه
تام الضبط كما قال في النخبة عدل تام الضبط وتبعه المصنف في
مختصره كما قدمنا لفظه وفي شرح فلنخبة وقيد بالتمام إشارة إلى
الرتبة العليا في ذلك قال ملا على والمعنى أنه لا يكفي في
الصحيح لذاته بمسمى الضبط على ما هو المعتبر في الحسن لذاته
وكذا في الصحيح لغيره يكتفي بمجرد الضبط انتهى.
ولا يخفي أن هذا في ضبط الصدر قال ملا على وأما ضبط الكتاب
فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه النقصان ولهذا لا يقسم الحديث
باعتباره وإن كان يختلف ضبط الكتاب بإختلاف الكتاب.1هـ.
قلت: وغير خاف عليك أن كلامهم هنا في شروط من تقبل روايته أعم
من أن يكون حديثه صحيحا لذاته أو لغيره أو حسنا فلذا تركوا
التقييد هنا بالتمام ليعم.
ولما كانت العدالة صفة للراوي لا تعرف بمجرد إيمانه افترقت إلى
معرف لها فقال المصنف "قال" أي اين الصلاح "والصحيح أن التعديل
يثبت بواحد ولو امرأة على الصحيح" واستدل ابن الصلاح لما جزم
به بقوله لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر
__________
1 علوم الحديث ص 138.
(2/87)
فلم يشترط في جرح راويه ولا تعديله بخلاف
الشهادات. انتهى.
قلت: وفي المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يقبل في التزكية إلا رجلان في رواية وشهادة حكاه
القاضي أبو بكر والباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة
وغيرهم.
الثاني: أنه يكفي واحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر فإنه
قال والذي يوجب القياس وجوب قبول تزكية كل عدل مرضى ذكرا أو
أنثى حرا أو عبدا لشاهد ومخبر.
الثالث: التفصيل فيكفي في الرواية تزكية العدل ولا بد م اثنين
في الشهادة ورجحه الإمام فخر الدين والسيف الآمدي.
وأقربها به أوسطها لأن التزكية من باب الأخبار ولا يشترط العدد
في قبول رواية العدل.
وقوله على الصحيح يتعلق بقوله ولو امرأة لأنه قد اختلف في
تعديل المرأة فحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء من أهل
المدينة وغيرهم أنها لا تقبل النساء في التزكية لا في رواية
ولا في شهادة وقيل تقبل مطلقا
فيهما قاله صاحب المحصول واختار القاضي ذلك إلا أنه قال لا
تقبل تزكيتها في الحكم الذي لا تقبل شهادتها فيه.
"قال الخطيب والأصل في ذلك" أي في التزكية وقبول الواحد أو
الإشارة إلى قبول الواحد فقط "سؤال النبي صلى الله عليه وسلم
لبربرة عن حال عائشة في حديث الأفك وجوابها عليه إشارة إلى ما
وقع في حديث الأفك وجوابها عليه" إشارة إلى ما وقع في حديث
الإفك وهو أن عليا رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم
لما استشاره سل الجارية تصدقك فسألها فقالت ما علمت عليها إلا
ما يعلم الصائغ على التبر أو كما قالت.
إلا أن في هذا إشكالان:
الأول: في قول الخطيب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بربرة
وبربرة إنما كانت عند عائشة رضي الله عنها بعد المكاتبة ولم
تكاتب إلا بعد قصة الإفك بمدة طويلة وكان العباس حين كاتبها
بالمدينة ولم يقدم العباس إلا بعد فتح مكة وأين قصة الإفك من
ذلك وأجب عنه أن عليا رضي الله عنه إنما قال سل الجارية فوهم
الراوي وسماها بربرة بنه على هذا ابن القيم.
(2/88)
والثاني: أن عائشة رضي الله عنها كانت
عدالتها معلومة عنده صلى الله عليه وسلم فلا تحتاج إلى تعديل
وتزكية وإنما سؤاله صلى الله عليه وسلم الجارية من باب
الاستثبات في باب الأخبار وقرائن الأحوال لا ليستفيد تزكية
مجهول الحال التي هي مسألة الباب ولكنه أخذ منه الخطيب أنه
يلزم من هذا شرعية السؤال عن تزكية من جهل حاله.
"قال" مقتضى السباق أن القائل الخطيب ولم أره عنه بل في شرح
الألفية لم ينسبه إلى قائل "وفي" رواية "الصغير المميز الموثوق
به" الذي لم يجرب عليه كذب "وجهان" أحدهما قبوله ومن يقبله لا
يشترط في قبول الرواية بلوغ الراوي "حكاهما البغوي" نسبة إلى
بغشور بلدة بين هراة وسرخس والنسبة بغوي على غير قياس معرب
كوشر أي الحفرة المالحة قاله في القاموس وفي طبقات الأسنوي أن
محيى السنة وهوالحسين بن مسعود منسوب إلى بغي بفتح الباء وهي
قرية بخراسان بين هراة ومرو "والجويني منسوب" إلى جوين كزبير
كورة بخراسان وبلدة بسرخس كما فيه أيضا "والرافعي والنووي"
نسبة إلى نوى وتخفض بلدة بالشام وقرية بسمر قند والنووي من
الأولى كما قاله فيه أيضا "وقيد الرافعي والنووي الخلاف
بالمراهق وصححا عدم القبول".
هذا النقل من شرح منظومه الزين ولفظه بعد ذكر البغوي والجويني
وتابعهما الرافعي إلا أنه قيد الوجهين في التيمم بالمراهق وصحح
في شرح المهذب عن الجمهور عدم القبول وتبعه عليه النووي وقيده
في استقبال القبلة بالمميز وحكى عن الأكثرين عدم القبول وحكى
النووي في شرح المهذب عن الجمهور قبول أخبار الصبي المميز فيما
طريقه المشاهدة بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء ورواية الأخبار
انتهى.
"قال" أي ابن الصلاح ومقتضى ما سبق أن القائل الخطيب وليس كذلك
كما ستعرفه "ومما تثبت به العدالة الإستفاضة والشهرة فلا
يحتاج" من اشتهر بها "إلى توثيق وهو الصحيح من مذهب الشافعي"
قال ابن الصلاح: وعليه الإعتماد في أصول الفقه ثم قال: "وممن
ذكره من أهل الحديث الخطيب" ومثل لذلك بمالك وشعبة والسفيانين
والأوزاعي والليث وابن المبارك ووكيع وأحمد بن حنبل ويحيى بن
معني وعلي بن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة
الأمر فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم وإنما يسأل عن عدالة
من خفى أمره عن الطالبين.
ولم يذكر المصنف دليل هذه الدعوى وهكذا يصنع كثيرا ولا يليق به
وقد استدل
(2/89)
القاضي أبو بكر على ذلك أن العلم بظهور
سيرتهما وظهور عدالتهما يريد الراوي والشاهد أقوى في النفوس من
تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة في تعديله
وأغراض داعية إلى وصفه بغير صفته وقد سئل أحمد عن اسحق بن
راهويه فقال مثل اسحق يسأل عنه وسئل ابن معين عن أبي عبيد فقال
مثلي يسأل عن أبي عبيد أبو عبيد يسأل عن الناس.
"وذكر الخطيب قول ابن عبد البر إن كل حامل علم معروف بالعناية
فيه فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه
لقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله
ينفون عنه تحريف الغالين". التحريف التغيير والغالي من غلافي
الأمر غلوا جاوز حده "وانتحال المبطلين1" من قولهم انتحله أي
ادعاه لنفسه وهو لغيره والمبطل من أبطل إذا أتى بغير الحق
ومعنى الحديث يبعدون عنه تغيير من يفسره بما يتجاوز فيه الحد
فيخرج به عن قوانين الشرع ودعاء من يدعي فيه شيئا يكون باطلا
لا يوافقه الواقع وكأنه يشير بالجملة الأولى إلى من يغير تفسير
الأحاديث النبوية تعمدا أو تلبيسا وبالثانية إلى من يكذب على
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بادعائه لحديث لم يحدث به ولا
سمعه ينتحل باطلا.
وهذا الحديث الذي ذكره المصنف "هو حديث مختلف فيه فقيل إنه
مرسل أرسله ابراهيم بن عبد الرحمن العذري روى عنه معان" بضم
أوله وتخفيف المهملة "ابن رفاعة" السلامي بتخفيف اللام قال في
التقريب لين الحديث كثير الإرسال ويأتي كلام العلماء فيه
"ورواه عن معان غير واحج ذكره الذهبي في الميزان وقد توبع معان
فذكر الجلال في علله أن أحمد" يريد ابن حنبل "سئل عنه وقيل له
كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح فقيل له ممن سمعه قال من غير
واحد" فقيل له من هم "ثم رواه عن مسكين" فقال حدثني مسكين "قال
لكنه قال عن القاسم بن عبد الرحمن" لفظ الزين إلا أنه يقول عن
معان عن القاسم بن عبد الرحمن "قال يعني فغلط في اسم ابراهيم"
فقال القاسم مكان ابراهيم "ابن عبد الرحمن" ولعله ابن عوف
الزهري "قال أحمد ومعان لا بأس به ووثقه ابن المديني".
قلت: قال ابن القطان خفى على أحمد من أمره ما علمه غيره ثم ذكر
تضعيفه
__________
1 شرف أصحاب الحديث 53, والعقيلي 4/256, وابن عدي 1/152- 153,
والموضوعات 1/31.
(2/90)
عن ابن معين وأبي حاتم وابن عدي وابن
حبان.1هـ.
"قلت: وأما ابراهيم فقال الذهبي تابعي مقل" أي قليل الرواية
"ما علمته واهيا قلت: وذكر في مختصرر أسد الغابة أنه كان
صحابيا والله أعلم" قلت: إن كان هوابن عبد الرحمن بن عوف فقد
قال الحافظ بن حجر في التقريب قد قيل إن له رؤية.
"قال زين الدين وقد روى هذا الحديث مرفوعا مسندا من حديث علي
بن أبي طالب وابن عمر بن الخطاب وابن عمرو وأبي هريرة وأبي
أمامة وجابر ابن سمرة رضي الله عنهم وكلها ضعيفة" تتمة كلامه
لا يثبت منها شيء يقوي المرسل المذكور.
قال البقاعي: وقد بقي عليه أسامة بن زيد فقد قرأت بخط بعض
الفضلاء من أصحابنا أنه أورد الحافظ صلاح الدين العلائي هذا
الحديث عن أسامة بن زيد مرفوعا وقال فيه حديث صحيح غريب وصححه
ابن حبان قال "قال ابن عدي ورواه الثقات عن الوليد بن مسلم عن
ابراهيم بن عبد الرحمن قال حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول
الله قال وساق الحديث قلت: فهذه" يعني ما روى مرفوعا مسندا عن
الصحابة رضي الله عنهم "شواهد تقويه وقد اختلف الحفاظ هل
الصحيح وفقه أو وصله" على ثلاثة أقوال "فقال العقيلي الإسناد"
أي الوصل "أولى" من الإرسال "ونازعه ابن القطان" قائلا إن
الإرسال أولى من الوصل وهو ثاني الأقوال وثالثها قوله "وتوقف
في ذلك ابن النحوي" المعورف بابن الملقن.
"قال الزين وممن وافق ابن عبد البر على هذا من المتأخرين
الحافظ ابن المواق" فإنه قال في كتابه بغية النقاد أهل العلم
محمولين على العدالة حتى يظهر منهم خلاف ذلك.
"وضعفه" أي استدلال ابن عبد البر بالحديث "زين الدين بوجهين"
فقد أبدى البقاعي ثالثا وهو أنه لو كان خبرا لم يسمع جرح أصلا
فيبقى قوله حتى يتبين جرحه مناقضا لاستدلاله "أحدهما" من حيث
الرواية وهو "إرساله وضعفه" كما عرفت "وثانيهما" من حيث
الدراية وهو "أنه لو كان بمعنى الخبر" عن الشارع بأن كل حامل
علم عدل فخبره واجب الصدق فلو كان كذلك "لم يوجد حامل علم غير
عدل" والواقع خلافه "فثبت أنه بمعنى الأمر" ولفظ الزين فلم يبق
له محمل إلا على الأمر ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم لأن
العلم إنما يقبل عن الثقات انتهى فالمراد ليحمل هذا العلم من
كل خلف عدوله "ويقوي ذلك" أي أنه أريد به الأمر "أنه قد ورد
(2/91)
في بعض طرق أبي حاتم ليحمل هذا العلم بلام
الأمر" تحمل عليها رواية الخبر ولا يقال هلا عكستم لأنا نقول
هنا مرجح لحمل الخبر على الأمر هو مخالفته الواقع لو حمل على
الأخبار.
"قلت: ويمكن الجواب على الزين" في هذا التضعيف الذي أبداه
لاستدلال ابن عبد البر عن الوجهين معا.
"أما الأول" وهو الإعتراض من حيث الرواية "فلا معنى للرد
بالإرسال والضعف المحتمل المختلف فيه لأنها مسائل اجتهاد إلا
أن يريد" أي زين الدين "أن هذا" أي إرسال الحديث وضعفه "هو
المانع له إذا كان مذهبه يقتضي ذلك فصحيح وأما إن أراد منع
غيره من الذهاب إلى ذلك فلا يصح له" إلا أن يثبت أن ابن عبد
البر لا يعمل بالمراسيل ولا بالتضعيف المحتمل.
"وأما الثاني" وهو إعتراضه لاستدلال من حيث الدراية وهو حمل
الخبر على الأمر "فنقول" في جوابه "الأصل في الخبر والأكثرمن
أن يقر على ظاهره" من غير صرف له عنه إلى غيره "والتأويل من
غير ضرورة لا يجوز" والقول بأن الضرورة الموجبة للتأويل عدم
صدق الحديث إن حمل على الأخبار مدفوع بقوله "ووجود التخصيص في
مدلولات الأخبار لا يوجب صرفها من باب الأخبار إلى باب
الأوامر" فيحمل الخبر على التخصيص بوجود من ليس بعدل في حملة
العلم "و" لا يقال فقد تأولم الخبر أيضا كما تأوله زين الدين
واتفقتم الجميع على إخراج الخبر عن ظاهره لأنا نقول "ورود
التخصيص" في الأخبار العامة "أكثر من ورود الأخبار بمعنى
الأمر" والتأويل بالحمل على الأكثر أو لي من التأويل بالحمل
على الأقل كما ذهب إليه الزين.
فإن قلت: فعلى كلام المصنف قد آل معنى الحديث إلى الأخبار بأن
بعض حملة العلم عدول ولزم من مفهومه أن بعضهم غير عدول وبهذا
لا يتم دليلا لابن عبد البر على مدعاه بأن كل حامل علم معروف
بالعناية فيه فهو عدل.
قلت: بل يتم به استدلاله وذلك لأن العام يعمل به على عمومه حتى
يقوم دليل على تخصيصه فمن كان حامل علم معروفا بالعناية به فهو
عدل حتى يظهر قادح في عدالته.
إن قلت: الزين لم يحمله على الأمر بمجرد ما ذكر لأنه ورد بصيغة
الأمر في رواية.
(2/92)
قلت: أجاب عنه بقوله "وأما رواية أبي حاتم
فقد قدمت" خطاب للزين "أنها عندك ضعيفة" وذلك لأنه قال الزين
ورواه أي حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" 1 ابن أبي
حاتم في مقدمة كتاب الجرح والتعديل وابن عدي في مقدمة الكامل
وهو مرسل أو معضل ضعيف انتهى.
ولم يتقدم للمنصف نقل الزين تضعيفه عن أبي حاتم "ونزيدك على
ذلك أنها معلولة بمخالفة جميع الرواة إذ كلهم رواه بلفظ الخبر
فالوهم أبعد عن الجماعة والله أعلم" فيكون الواهم من رواه بلفظ
الأمر وحينئذ فيتم الإستدلال بالحديث لابن عبد البر.
"ثم إن ما ذهب إليه ابن عبد البر وابن المواق هو الذي عليه عمل
الموافق والمخالف في أخذ اللغة عن اللغويين وأخذ الفتيا عن
المفتين وأخذ الفقه ومذاهب العلماء عن شيوخ العلم وقد بينت ذلك
في العواصم بينا شافيا فليطالع فيه" في الجزء الأول من العواصم
فإنه قال بعد إيراده للحديث الأول واستيفاء الكلام عليه بما
ذكره هنا ما لفظه:
الأثر الثاني: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله
به خيرا يفقه في الدين" رواه ابن عباس وأبو هريرة ومعاوية كلهم
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث ابن عباس أخرجه
الترمذي2 وقال حديث صحيح وحديث أبي هريرة ذكره الترمذي تعليقا
وحديث معاوية أخرجه البخاري وإنما ذكرته هنا لئلا يظن من وقف
عليه في صحيح البخاري أنه لم يرو الحديث أحد سواه وزاد الخطيب
في كتاب الفقيه والمتفقه أنه رواه عمر وابنه عبد الله وابن
مسعود وأنس.
فهذا الحديث دل على أن الله أراد بالفقهاء في الدين الخير
والظاهر فيمن أراد الله به الخير أنه من أهله وهو مقو للدليل
لا معتمد عليه على انفراده وفيه بحث بتشعب تركناه اختصارا.
الأثر الثالث: قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا وسأل عن
أعبد أهل الأرض فدل عليه فسأله فأفتاه أنه لا توبة له فقتله ثم
سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة
إلى آخر الحديث وفيه أنه من
__________
1 سبق تخريجه.
2 البخاري 1/27. ومسلم في: الزكاة: حديث 98, 100. والإمارة:
حديث 175. وأحمد 1/306.
(2/93)
أهل الخير وفي قصته بعد المعرفة بالعلم أنه
لم يسأل عن العدالة والحديث متفق عليه1.
الأثر الرابع: أنه لما قال الله لموسى عليه السلام: "إن لنا
عبدا هو أعلم منك" يعني الخضر عليه السلام فسأل موسى من الله
لقاءه ليتعلم منه وسافر للقائه2 ولم يرو أنه سأل عن عدالته بعد
أن أعلمه الله بعلمه مع أن من الجائز أن يكون العلام غير عامل
كبلعم بن باعورا وغيره ولكنه تجويز بعيد قليل الإتفاق نادر
الوقوع فلم يجب الإحتراز منه.
وفي بعض هذه الآثار أثر ضعف ولكنه ينجبر باجتماعها وشهادة
القرآن لها وهي الحجة الثانية وهي قوله تعالى: {فَاسْأَلوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]
فأمر الله سبحانه وتعالى بسؤالهم وهو لا يأمر بقبيح فدل إطلاقه
على جواز سؤال العلماء على العموم إلا من عرف بقلة الدين ثم
ذكر أدلة من جهة النظر وسرد خمسة أنظار دالة على ما ذكره وأتى
فيها بنفائس وأطال فيها المقال والجواب والسؤال بما يقوى ما
جنح إليه ابن عبد البر.
واعلم أن هذا البحث جميعه مبني على المشهور في رواية يحمل إلخ
أنها بفتح حرف المضارعة ونصب العلم ورفع عدوله لا على ما قاله
الشيخ في النكت أن ابن الصلاح حكى في قواعد الرحلة أنه وجد
حكاية مسندة إلى أبي عمرو محمد بن أحمد التميمي أنه يروي هذا
الحديث بضم الياء من يحمل على أنه لما لم يسم فاعله ورفع الميم
من العلم وفتح العين واللام من عدوله ومعناها أن الخلف هو
العدول بمعنى عادل كما يقال شكور بمعنى شاكر والتاء للمبالغة
كمما يقال رجل صرورة انتهى ومعناه على هذا يحمل عن الناس العلم
من كل خلف عادل فلا يفيد ما استدل به ابن عبد البر بل هو إخبار
بأنه لا يؤخذ العلم إلا ممن اتصف بالعدالة وتحقق قيامها به.
"قال" أي الزين "والصحيح عندهم أن الجرح لا يقبل إلا مبين
السبب" أي الصحيح من الأقوال الأربعة المعروفة: الأول: هذا.
__________
1 مسلم في: التوبة: حديث 46, 47. وأحمد 3/72.
2 البخاري في: العلم: ب 44. ومسلم في: الفضائل: حديث 170,
وأحمد 5/ 118, 119.
(2/94)
الثاني: أنه يجب بيان سبب العدالة ولا يجب
بيان سبب الجرح لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها فيبني
المعدلون على الظاهر حكاه صاحب المحصول وغيره.
والثالث: أنه لابد من ذكر أسباب الجرح والعدالة جميعا حكاه
الأصوليون قالوا وكما أنه قد يجرح الجارح بما لا يقدح كذلك قد
يوثق العدل بما لا يقتضي العدالة.
والرابع: عكسه وهوأنه لا يجب ذكر سبب واحد منهما إذا كان
الجارح والمعدل عالما بصيرا وهو اختيار القاضي أبي بكر ونقله
عن الجمهور.
"وحكى الخطيب أنه ذهب إلى ذلك الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده
كالبخاري ومسلم وغيرهما" قال ابن الصلاح: وهو الذي نص عليه
الشافعي وقال الخطيب هو الصواب عندنا "قال ابن الصلاح: وهو
ظاهر مقرر في الفقه وأصوله" ودليله ما أفاده قوله "لكثرة
اختلاف الناس فيه فربما جرح بعضهم لاعتقاده أن ما جرح به مؤثر
في سقوط العدالة وربما استفسر الجارح وذكر ما ليس بجرح فقد روى
الخطيب عن محمد بن جعفر المدائني أنه قيل لشعببة لم تركت حديث
فلان قال رأيته يركض1 على برذون فتركت حديثه2" قال الزين فماذا
يلزم من ركضه على برذون قد قيل ربما يلزم منه خرم مروءته وذلك
إذا كان في موضع أو حال لا يليق بذلك وعليه تحمل رؤية شعبة
تحسينا للظن به لما ثبت من جلالته واتساع معرفته حتى قال
الإمام أحمد إنه أمة وحدة في هذا الشأن.
"وروى أبو حاتم عن يحيى بن سعيد قال أتى شعبة المنهال بن عمرو
فسمع صوتا فتركه" والمنهال وثقة ابن معين والنسائي واحتج به
البخاري في صحيحه "قال ابن أبي حاتم" في بيان الصوت الذي سمعه
شعبة "سمعت أبي يقول إنه سمع قراءة بألحان فكره السماع منه من
أجل ذلك وقد روى الخطيب بإسناده" إلى وهب بن جرير "أنه قال"
قال شعبة أتيت منزل المنهال بن عمرو "فسمعت منه صوت الطنبور
فرجعت فقيل له" أي لشعبة "ألا سألت عنه؟ ألا تعلم ما هو" لعله
كان المنهال غير عالم بذلك في منزله ويحتمل أن لا نعلم أنت ما
هو فلعله غير طنبور قيل الورع ما فعله شعبة.
__________
1 يركض على برذون: الركض هو استحثاث الدابة بالرجل لتعدوا.
وبرذون: بكسر الموحدة وذال معجمة الجافي الخلقة والجلد على
السير في الشعاب والوعر من الخيل غير العربية وأكثر مايجلب من
الروم. فتح المغيث 2/21.
2 الكفاية ص 111, وتدريب الراوي 1/306.
(2/95)
لأن الطنبور لا يضرب في بيت أحد لا يعلمه
وذلك مما يخرم المروءة إن لم يكن فسقا.
"قال" الخطيب "وروينا عن شعبة أنه قال قلت: للحكم بن عتيبة لم
ترو عن زاذان قال كان كثير الكلام" يحمل ذلك على أنه فيما لا
يعنيه فيكون خرما للمروءة وزاذان قال ابن حبان في الثقات كان
يخطيء كثيرا. انتهى.
وقال أحمد بن حميد الداري حدثنا جرير فقال المصنف "وعن جرير
أنه قال رأيت سماك بن الحارث" في شرح الزين بن حرب "يبول قائما
فلم أكتب عنه" يحمل على أنه في مكان يخرم المروءة البول فيه
فهذه أمثلة لما استفسر الجارح عن جرحه ففسره بما ليس بجرح.
واعلم أنه لا تصريح من المفسرين المذكورين بأنهم جرحوا من ذكر
إذ شعبة لم يجرح من رآه يركض على برذون بل قال تركت حديثه ولم
يجرحه وكأه رأي ذلك من خوارم المروءة وأنه يفسرها بسيرة أمثاله
وأن مثل ذلك الرجل لا يركض على برذون وكذلك من سمع في بيته صوت
الطنبور لم يجرحه بل قال كره السماع منه وكذلك من رآه كثير
الكلام ولا شك أن هذا تعمق ومبالغة.
"وقد عقد الخطيب لهذا بابا في الكفاية" كما حكاه الزين في شرح
ألفيته.
"قلت: أكثر من هذا الإختلاف في العقائد" فإنها فرقت كلمة
العباد وأورثت بينهم التعادي إلى يوم المعاد في مسائل أكثرها
أو كلها ابتداع لم يقع لها ذكر في سلف الأمة التي يجب لها
الإتباع كمسألة خلق القرآن أو قدمه والقول يخلق الأفعال أو
عدمه.
"ثم إن العداوة أمر زائد على مجرد اعتقاد الخطأ واعتقاده
التكفير فإن العداوة إذا وقعت بين مؤمنين متفقي العقيدة لم
يقبل كلام أحدهما في الآخر كيف أمر العقائد؟! " فإن التعادي
عليها عظيم بل سفكت بسببها الدماء وهتكت المحارم وارتكبت
القبائح بسببها والعظائم كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب
التاريخ والرجال وتطلع إلى معرفة الحقائق والأحوال "لا سيما في
حق المتعاصرين ولا سيما في حق المتجاورين فقد جرح بذلك" أي
بأمر العقائد "خلق كثير" بل أكثر ما تجد الجرح في كتب الرجال
يكون بالرفض والنصب والغلو في التشيع والقول يخلق القرآن وكل
ذلك من مسائل الاعتقاد "ووقع في الجرح به عصبية في الجانبين لا
سيما من كان داعية إلى مذهبه فإنه يبغض ويحمل على الوقيعة
فيه".
(2/96)
اعلم أن في المقام بحثين:
الأول: أن أصل الكلام هنا في أنه لا يقبل الجرح إلا مبين السبب
وهذا الذي ذكره المصنف من اختلاف العقائد بحث آخر فإنه لا يقبل
الجرح من المتعاديين مجملا ولا مفسرا لمانع العداوة.
والبحث الثاني: في قوله سيما في حق المتعاصرين فإنه لا يعرف
حال الشخص بجرح أو عدالة إلا من عاصره ولا طريق إلى العلم
بأحواله لمن في عصره ممن غاب عنه ولمن يأتي بعده إلا من
المعاصرين له إذ من قبلهم لا يعلمون وجوده ومن بعدهم لا
يعرفونه إلا بنقل الأخبار عمن عاصره وشاهده وجالسه وأخذ عنه.
وقد سبق المصنف إلى مثل كلامه الحافظ الذهبي فإنه قال في
الميزان في ترجمة أحمد بن عبد الله بن أبي نعيم ما لفظه كلام
الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه
لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجومنه إلا من عصم الله وما علمت
أن عصرا من الأعصار سلم أهل من ذلك سوى النبيين والصديقين فلو
شئت سردت من ذلك كراريس انتهى قال ابن السبكي قد عقد ابن عبد
البر في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزبير
"دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء" انتهى1.
وفيه البحث الذي عرفته فالأولى أن يناط رد كلام المتعاصرين
بعضهم في بعض بمن يعلم بينهما مانع من عداوة أو تحاسد أو
منافسة أو نحوها ممايقع بين الأقران وقد أطلنا في ذلك في ثمرات
النظر في علم الأثر فليطالع.
قلت: ومن أمثلة القدح بالمخالفة في الأعتقادات قول بعضهم في
البخاري إنه تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ قال
ابن السبكي فيالله ويالمسلمين أيجوز لأحد أن يقول البخاري
متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنة والجماعة مع أن
الحق في مسألة اللفظ معه إذ لا يتسريب عاقل أن تلفظه من أفعاله
الحادثة اليت هي مخلوقة لله وإنما أنكرها الإمامأحمد لبشاعة
لفظها انتهى.
"والسبب الثاني" لم يتقدم له ذكر الأول إلا أن ما قدمه من ذكر
العقائد هو مقابل لما ذكره ثانيا فكأنه ذهب وهمه إلى أنه ذكر
سببين الأول اختلاف العقائد والثاني:
__________
1 أحمد 1/165, 167. والبيهقي 10/232. وجامع بيان العلم 2/150.
(2/97)
"التضعيف بالوهم والخطأ" أي بكون الراوي
واهما أو مخطئا فإنه قد أطلق عليه بسبب ذلك الضعف.
"فبسبب هذين الأمرين أطلق كثير من المحدثين اسم الكذاب على من
هو كاذب في اعتقاده أو غالط في بعض روايته لأن اسم الكذب
يتناوله" أي الواهم في روايته والغالط فيها "في اللغة وإن كان
العرف يأبى ذلك" فإن الكذب فيه ما كان عن عمد "حتى قوي عندي أن
قولهم" أي المحدثين "فلان كذاب من جملة الجرح المطلق الذي لم
يبين سببه والله أعلم" قد تقدم للمصنف مثل هذا إلا أنه قيده
هنالك بقوله إن قول المحدثين فلان كذاب من قبيل الجرح المطلق
الذي لم يفسر سببه فيتوقف فيمن هذه حاله حتى يعرف السبب فقيده
بمن حاله كحال ثابت البناني إذ كلامه هنالك في سياق ذكره فإنه
قال فهذا يحيى بن معين يطلق ذلك أي الكذب على ثابت الورع
الزاهد ولم يتعمد شيئا من ذلك بل لم يظهر منه كثرة الخطأ انتهى
إذا عرفت هذا فكلامه هنا مطلق يقيده ما مضى.
هذا هو الصحيح في الجرح وأنه لا بد من ذكر سببه بخلاف العدالة
كما قال وأما العدالة فلا يجب علىمن يعدل غيره "ذكر سببها لأنه
يؤدي إلى ذكر اجتناب جميع المحرمات وفعل جميع الواجبات كما
أشار إليه الزين" حيث قال إن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول ليس
يفعل كذا ولا كذا ويعد ما يجب عليه تركه ويفعل كذا وكذا فيعد
ما يجب عليه فعله فيشق ذلك ويطول تفصيله "وكما بينته في
العواصم" فإنه قال فيها بعد سرده لوجوه أربعة في الاستدلال على
ذلك خامسها وهو الوجه المعتمد أنما هذه الوجوه المتقدمة شواهد
له ومقويات وهو أن اشترط التفصيل في التعديل إلى ذكرا اجتناب
المعدل المحرمات وتأديته لجميع الواجبات على مذهب المعدل في
تفسير العداله فإن كان ممن يشدد ذكر ذلك كله وإن كان ممن يترخص
ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معددا لها ولجمبع معاصي الأدنياء
الدالة على الخسة وقلة الحياء وقلة المبالاة بالدين فيقول
المعدلل مثلا إن فلانا ثقه عندي لأني شاهدته يقيم الصلوات
الخمس ويحافظ عليها ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة يودي فريضة الحج
إن كان ممن تلزمه هاتان الفريضتان ويذكر أنه يشهد أن لا إله
إلا الله وإن محمدا رسول الله وأن الله عالم قادر ويعدد سائر
الصفات الذاتيه والمقتضاة وإنه يسحقها لذاته لا لمعنى ويذكر
جميع ما يتعلق باعتقاده من مسائل الوعد والوعيد
(2/98)
والإمامة والبر والولاء ثم ساق في تعداد
ذلك ثم قال وغير ذلك مما لايكاد الانسان يحصيه مع التأمل
الكثير وما زال المسلمون يعدلون الشهود ويعدلون حملة العلم
والرواة من أول الاسلام إلى يوم الناس هذا ما نعلم أن أحدا
منهم عدل على هذه الصفة ولاما يقار بها ولاما يدانيها ولا نعلم
أن أحدا طلب هذا من المعدلين ولاثلثه ولاربعه وعمل القضاة مستر
إلى يوم الناس على الإكتفاء بالتعديل الجملى انتهى.
قلت: وسره أن العداله وصف ملتم من أمور كثيرة وضع لفظ عدل
بازائها فكان القائل فلان عدل قال فلان آت بكل ما يجب مجتنب
لما يحرم ولذا يشترط في المعدل أن يكون عالما بأسباب العدالة
بخلاف القدح فإنه شيءواحد لأنه عبارة عن شيء خرم العدالة فلا
يعسر ذكره ولايتعين ما هو حتى يعرب عنه قائله ولايشترط في
قائله المعرفة بأسباب القدح فإنه لو قال من يجهل أن السرقة
حرام إن فلانا رأيته يسرق كان قدحا وقد عرفت معنى قوله "وهذا
شيء لم ينقله أحد من الأمة أبدا ولأنها" أي العدالة "الأصل في
أهل الإسلام".
اعلم أن هذه مسأله خلاف بين الأمة منهم من ذهب إلى أن الأصل
الفسق مهر لذي ذهب إليه العضد وصرح به شرح مختصر ابن الحاجب
وتبعه عليه الآخذون من كتابه مسدلين بأن العدالة طارئة وبأن
الفسق أغلب وقد حققنا في ثمرات النظر أن الأصل أن كل مكلف يبلغ
سن التكليف على الفطرة كما دل حديث "كل مولود يولد على الفطرة"
1 وفي معناه عدة أحاديث وفسر به قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فإن بقى عليها
من غير مخالطه بمفسق وأني بما يجب فهو عدل إلى فطرته مقبول
الرواية وإن لابس مفسقا فله حكم مالا بسه.
وقد أشار سعد الدين في شرحه على شرح العضد إلى هذا وتعقبه صاحب
الجواهر بما ليس بجيد وقد ذكرناه هنالك وقد استدل لهم بأن
الأصل الفسق بأنهالغالب ولكنه قيده بعضهم بأن هذه الأغلبية
إنما هيي في زمن تبع التابعين لافي رمن الصحابة والتابعين
وتابعيهم لحديث: "خير القرون قرنى ثم الذين يلوبهم ثم الذين
يلونهم ثم يفشو الكذب" 2 وعلى هذا التقييد يتم القول بأن
الأاصل أي الأغلب الفسق
__________
1 البخاري 2/125, وأبو داود 4714, 4716. وأحمد 2/233.
2 الترمذي 2302, 2303. والخطيب 2/53.
(2/99)
في القرون المتأخرة فلا يؤخذ الحكم كليا
بأن الأصل الإيمان ولابأن الأصل الفسق بأن يقال في الأول إنه
الأصل في القرون الثلاثه وفي الثاني إنه الأصل فيما بعدها.
وقد استدل الجلال في نظام الفصول على أن الأصل هو الفسق بقوله
تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}
[يوسف: 103] .
قلت: ولا يخفى أنه غير صحيح إذ المراد من الآيات أن المؤمنين
قليل بالنسبة إلى المسلمين الذين ليسوا بعدول وكذلك تفريعه
عليه بأنه يحمل الفرد المجهول على الأعم الأغلب وهو أنه يحمل
المسلم المجهول العدالة على الفسق غير صحيح لأنه ليس لنا أن
تفسق مسلما مجهول العدالة لأجل أن الإغلب الفسق لأن هذا تفسيق
بغير دليل من نص أو قياس مع قولهم لا تفسيق إلا بقاطع بل نقول
يبقى المسلم المجهول العدالة على الإحتمال لا ترد خبره حكما
بفسقه ولا نقبله حكما بعدالتته بل يبقى على الاحتمال حتى يبحث
عنه ويتبين أي الأمرين يتصف به وينبغي أن يكون هذا مراد من
يقول بأن الأصل الفسق وقول المصنف إن الأصل العدالة يقتضي أنه
لا يحتاج على تعديل لأنه لا حاجة إليه إذ كون ذلك هو الأصل
كاف.
وفي قوله "فتقوت" أي العدالة "وترجحت بأدنى سبب" وهو التعديل
المطلق مايؤيد ذلك التأصل لأنه لا حاجة إلى التعديل إلا لتقوية
الأصل كما يؤيده قوله "ولهذا قال جماعة بقبول المجهول ونقل
إجماع الصحابة على قبول مجاهيل الأعراب وقبل علي عليه السلام
من اتهمه بعد يمينه وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابيين
في شهادتهما على الهلال وقد استوفيت هذا المعنى في العواصم".
وذلك أنه لما قدح السيد علي بن محمد بن أبي القاسم على
المحدثين بقبولهم المجهول حاله من الصحابة أجاب عنه المصنف
رحمهما الله بأجوبة أحدها أن قبول مجهول الصحابة ليس مذهبا
يختص به المحدثون بل هو مذهب مشهور منسوب إلى أكثر طوائف
الإسلام إلى الزيدية والحنفية والشافعية والمعتزلة وغيرهم من
أكابر العلماء.
أما الزيدية فنسبه إليهم علامتهم بغير منازعة الفقيه عبد الله
ابن زيد في كتاب الدرر في أصول الفقه ولفظة فيها إن مذهبنا
قبول المجهول قال المصنف هكذا على
(2/100)
الإطلاق صحابيا كان أو غير صحابي وهو أكثر
تسامحا من كلام المحدثين واحتج بقبوله صلى الله عليه وسلم
للأعرابين في رؤية الهلال وبغير ذلك.
وأما الحنفية فمشهور عنهم.
وأما الشافعية فنسبه إليهم المنصور بالله في كتاب الصفوة
وغيره.
وأما المعتزلة فذكره الحاكم أبو الحسين ولفظه في المعتمد ولا
شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت
العدالة منوطة بالإسلام وكان الظاهر من المسلم كونه عدلا ولهذا
اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في قبول خبر الأعرابي عن رؤية
الهلال عىل ظاهر إسلامه واقتصرت على إسلام من كان يروي الأخبار
من الأعراب انتهى.
ففي كلام إجماع الصحابة على قبول المجهول من الصحابة بل من
الأعراب وحديث الأعرابيين معروف أخرجه أهل السنن الأربعة وابن
حبان والحاكم وأما قوله وقبل علي عليه السلام فهو إشارة إلى ما
أخرجه المنصور بالله وأبو طالب أنه عليه السلام كان يستحلف بعض
الرواة فإن حلف صدقة وقال الحافظ الذهبي هو حديث حسن قال
المصنف والتحليف ليس يكون للمخبورين المأمونين وإنما يكون لمن
يجهل حاله ويجب قبوله فيتقوى عليه السلام بيمينه طيبة لنفسه
وزيادة في قوة ظنه ولو كان المستحلف ممن يحرم قبوله لم يحل
قبوله بعد يمينه وهذا أعظم دليل أنه عليه السلام إنما اعتبر
الظن في الأخبار انتهى.
قوله وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابيين يشير إلى حديث
ابن عباس رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إني رأيت الهلال, يعني رمضان فقال: "أتشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ ", قال: نعم, فقال: "يا بلال
أذن في الناس أن يصوموا غدا", تقدم من أخرجه إلا أن هذا
الأعرابي واحد وهذا هو الذي ذكره المصنف ونسبه إلى من ذكرناه
إلا أنه قال ابن حجر: في التلخيص قال الترمذي إنه مرسل قال
النسائي وهوأولى بالصواب وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة
انتهى.
وأما قصة الأعرابيين فأخرجها أبو داود عن رجل من الصحابة وفيها
أنه قدم أعرابيان فشهدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالله لأهلا الهلال ورأياه أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم الناس أن يفطروا. 1هـ.
"إذا عرفت هذا" أي أنه لا يقبل الجرح إلا مبين السبب "فاعلم أن
ابن الصلاح أورد
(2/101)
سؤالا حسنا فقال ما معناه إنا إن لم نقبل
الجرح المطلق أسند باب الجرح لأن عبارات الأئمة في كتب الجرح
والتعديل" لا حاجة إلى ذكر التعديل كما لا يخفي مطلقة في
الغالب إذ مبين السبب قليل جدا.
"وأجاب" ابن الصلاح "عن ذلك بما معناه إنا لم نقل إن من جرح من
غير تفسير للسبب فهو يحتج به" حتى يلزم أنا لم تقبل جرحا إلا
مبين السبب "بل نقول إما أن نبحث عن حاله" أي حال من حرح جرحا
مطلقا عن السبب "ونبين ثقته وإتقانه" بعد البحث عنه "بحيث
تضمحل تلك الريبة التي حصلت من إطلاق الجرح حكمنا بثقته" لفظ
ابن الصلاح وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم
به فقد اعتمدناه في أنا توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل
ذلك بناء على أن مثل ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها
التوقف ثم إن من زاحت عنه تلك الريبة منه بالبحث عن حاله أوجب
الثقة بعدالته قبلنا حديثهه ولم نتوقف ثم قال ما معناه "مثل
بعض رجال الصحيحين الذي مسهم مثل هذا الجرح" الذي لم يبين سببه
"فافهم ذلك فإنه مخلص حسن وإلا" يحصل لنا بالبحث ثقته وإتقانه
"توقفنا في حاله" فلا نحكم له ولا عليه أما الأول فلأنه وإن
كان الأصل العدالة فقد أوجب الجرح الجملى التوقف في حاله فقت
في عضد ذلك الأصل وأما إذا قلنا الأصل الفسق فأوضح "ويترك
حديثه لأجل الريبة القوية" الحاصلة من القدح الجملى "لا لأجل
ثبوت الجرح".
واعلم أن هذا يشعر بأن البخاري لم يكن في رواته من قدح فيه إلا
بقدح مطلق وقد تقدم للمصنف ذلك وأن الذي خرج لهم البخاري ممن
قدح فيهم ليس إلا قدحا مطلقا عن بيان السبب وقرره هنا وليس
بصحيح وقد بينا في ثمرات النظر خلافه ونقلنا كلام أئمة الجرح
والتعديل في جماعة من رواة الشيخين قدحا مبين السبب وعرفه بما
في عكرمة.
"قلت: وترك ابن الصلاح القسم الثالث وهو أن يبحث فتظهر صحة
الجرح وإنما تركه لظهور الحال فيه" وهو أنا قد تركنا قبول
حديثه قبل البحث فبعد ظهور صحة القدح تركه بالأولى فرجال
الحديث كالحلال البين والأمور المشتبهات وكلام ابن الصلاح في
رجال الحديث ويجري مثله في الحديث وأن تضعيفه المطلق يوجب ريبة
فيه وترك العمل به حتى يظهر سبب ضعفه ون هنا نعلم أن معنى
قولهم لا يقبل الجرح إلا مفسرا أي لا يعمل به في الرد إلا
مفسرا لا أنه لا يقبل مطلقا وأنه لا
(2/102)
حكم له بل له حكم هو ثبوت الريبة وتركه.
قال الزين "ولما نقل الخطيب عن أئمة الحديث أنه لا يقبل الجرح
إلامفسرا قال فإن البخاري احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم
والجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس في التابعين" هذا مثال لمن
خرج البخاري حديثه ممن قدح فيه قدحا مطلقا ولكنه غير صحيح.
ففي الميزان بسنده عن جرير بن يزيد قال دخلت على علي ابن عبد
الله بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت: له ألا
تتقي الله قال أن هذا الخبيث يكذب على أبي قال وروى عن ابن
المسيب انه كذب عكرمة ثم أخرج بسنده عن أيوب عن عكرمة قال أنزل
متشابه القرآن ليضل به قال الذهبي قلت: ما أسوأها عبارة
وأخبثها بل أنزله ليهدي به ويضل به الفاسقين وأخرج عن محمد بن
سيرين أنه قال في عكرمة ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ولكنه
كذاب وساق كلمات العلماء في جرحه مفسرا شيئا كثيرا.
فلا يتم هنا ما قدمه المصنف أن الكذب من الجرح المطلق فإنه لم
يرد على بن عبد الله بن عباس وابن سيرين إلا الكذب حقيقة كما
تفيده عبارتهما وقد وثق عكرمة أمة من الناس قال ابن منده أما
حال عكرمة في نفسه فقد عدله أمة من التابعين زيادة على سبعين
رجلا من خيار التابعين ورفعائهم وهذه منزلة لا تكاد توجد لكبير
أحد من التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية
عنه قال ابن عبد البر عكرمة من جملة العلماء ولا يقدح فيه كلام
من تكلم فيه وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري كلام
الناس فيه قدحا وتوثيقا ثم قال أنه لا يقدح فيه كلام من تكلم
فيه بعد ما ثبت له من الرتب السنية.
"وإسماعيل بن أبي أويس في المتأخرين" قال الحافظ ابن حجر: لم
يخرج عنه البخاري في الصحيح سوى حديثين مقرونا بغيره في
كلمنهما قال ابن معين في إسماعيل هو وأبوه يسرقان الحديث قال
الدولابي الضعفاء سمعت النصر بن سلمة الموزى يقول كذاب كان
يحدث عن مالك بمسائل وهب قال ابن معين إسماعيل بن أبى أويس
يسوى فليس ثم فليس اهـ زاد الزين نقلا عن الخطيب وأما قثم بن
على وعمرو بن مرزوق في المتأخر ين عن التابعين.
"قلت: إسماعيل هذا قد أكثر القاسم عليه السلام" أي ابن إبراهيم
المعروف بالرسى
(2/103)
"من الراوية عنه كما ذلك ظاهر في كتاب
الأحكام" الذي ألفه حفيده يحيى بن الحسين الهادي لأنه يرويه عن
جده عن إسماعيل قال المصنف في العواصم وغالب رواية القاسم في
كتابه الأحكام تدور على الأخوين إسماعيل وعبد الحميد أبي ابنى
عبد الله بن أبي ويس عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن
جده.
"قال الخطيب وهكذا فعل مسلم" وتمام كلامه كما في شرح الزين
فإنه أى مسلم إحنج بسويد بن سعيد وجماعة غيره إشتهر عمن ينظر
في حال الرواة الطعن عليهم قال وسلك أبو داود هذه الطريقة وغير
واحد ممن بعده.
"ثم روى" ظاهر أن الراوي الخطيب لقوله: "عن الجويني والرازي
والخطيب وغيرهم" ولايصح وكأنه سقط من النسخة التى عندي ثم روى
الزين فإن هذه الرواية رواها الزين فإنه قال:
قلت: وقد قال أبو المعالي
... واختاره تلميذه الغزالي
وابن الخطيب الحق أن نحكم بما ... أطلقه العالم بأسبابهما
قال في شرحه: هذا من الزوائد على ابن الصلاح وذلك أن إمام
الحرمين أبا المعالى الجوينى قال في كتاب البرهان الحق أن
المزكى إن كان عالما بأسباب الجرح والتعديل إكتفينا بإطلاقه
وإلا فلا الذي وهو الذي إختاره أبو حامد الغزالى والأمام فخر
الدين بن الخطيب إلا أنه لا يخفى أن الذيفي كلام المصنف الخطيب
والذي في كلام الزين بن الخطيب فينظر "أنهم صححوا الإكتفاء
بالجرح المطلق من الثقه البصير بموقع الجرح العارف بإختلاف
الفقهاء قبله قلت: هذا يقوى إذا عرف مذهبه على النفصيل في جميع
ما يمكن وقوع الخلاف فيه من مسائل الباب فلمن وافقه في مذهبه
قبوله دون من خالفه".
قال الزين وممن إختاره من المحدثين أيضا الخطيب فقال بعد أن
فرق بين الجرح والتعديل في بيان السبب على أنا نقول إن كان
الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في إعتقاده وأفعاله عارفا
بصفة العدلة والجرح وأسبابهما عارفا بإختلاف الفقهاء في أحكام
ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملا ولا يسأل عن سببه انتهى وفي نقل
المصنف بعض إيهام لمن تأمله.
قال ابن السبكى في الطبقات: ولنختم هذه القاعده وهي قاعدة
الجرح والتعديل بفائدتين عظيمتين لايراهما الناظر في غير
كتابنا هذا:
(2/104)
إحداهما: أن قولهم إنه لايقبل الجرح
إلامفسرا إنما هو في جرح من ثبتت عدالته واستقرت فإذا أراد
رافع رفعها بالجرح قيل له ائت ببرهان على هذا وفي حق من يعرف
حاله لكن ابتدرةجلرحان ومز كيان فيقال إذ ذاك للجارحين فسرا
مارميتماه به أما من ثبت أنه مجروح فيقبل قول من أطلق جرحه
لجريانه على الأصل المقرر عندنا ولا نطالبه بالتفسير إذ
لافائدة في طلبه.
قلت: بل الظاهر أنه لايجوز لنا طلب تفسيره لانه تفكه بعرضه
بنير غرض ديني ثم قد أحسن بالتعبير بقوله أراد رافع رفعها فلا
بد من التفسير فإنه إذا أطلق لم يرفعها لكنه يوجب توقفاوريبة.
قال والفائدة الثانية: أنا لا نطلب التفسير من كل أحد بل إنما
نطلبه حيت يحنمل الحال شكا إما في إمالاختلاف في الإعتماد
أولتهمة يسيرة في الجارح أو نحو ذلك مما يوجب سقوط قول الجارح
ولاينتهى إلى الإعتبار به على الإطلاق بل يكون بين أما إذا
إنتفت الظنون وإندفعت التهم وكان الجارح خيرا من أاخيار الأمة
مبرأ عن مظان التهمة وكان المجروح مشهورا بالضعف متروكا بين
النقادفلا يتعلعم عند جرحه ولا يحوج الجارح إلى تفسير بل طلب
التفسير منه والحال هذه طلب لغيبه لا حاجة إليها.
فنحن نقبل ابن معين في إبراهيم بن ثعيب شيخ روى عنه ابن وهب
أنه ليس بشيء وفي إبراهيم بن الميني أنه ضعيف وفي الحسين بن
الفرج الخياط أنه كذاب يسرق الحديث وعلى هذا وإن لم يتبين
الجرح لأنه مقدم في هذه الصناعه جرح جماعه غير ثابتي العدالة.
قلت: كأنه يريد بقبوله أنه يوجب توقفا وعدم قبول لحديث من
اطلقجرحه لا أنه يحكم على من جرحه ك1لك أنه ليس بعدل وأنه
مجروح.
قال ولا يقبل في الشافعي ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام القاطع
بانه غير محق بالنسبة إليه انتهى.
واالمصنف قد ألم بشيء من هذا قوله "ثم ذكر مسألة تعارض الجرح
والتعديل وذكر الخلاف" فيها وأن فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أن مقدم مطلقا وأن كثير المعدلون نقله الخطيب عن جمهور
العلماء وقال ابن الصلاح: إنه الصحيح وصححه الأصوليون كالإمام
فخر الدين والآمدى.
(2/105)
واستدلوا بأن مع الجارح زيادة علم يطلع
عليها المعدل ولأن الجارح مصدق للمعدل فيما أخبرربه عن ظاهر
حاله إلا أنه يختبر عن أمر خفى على المعدل.
الثاني إن كان عدد المعدلين أكثر قدم المعدلون ووجهه أن كثرة
المعدلين تقوى حالهم وتوجب العمل بخبرهم وقلة الجارحين تضعف
خبرهم وتعقب بأنه خطأ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يختبرون عن
عدم ما أخبربه الجارحون ولو أخبروا بذلك لكانت شهادة باطلة على
نفى.
الثالث ما أشار إليه المصنف بقوله "والصحيح الختار الترجيح
وذلك لأن الجرح إما أن ينسب إلى من لايحتمله أو لا" أى لاينسب
إلى من لايحتمله "إن نسب إلى من لايحتمله من كبار الأئمة
والعلماء والصالحين لم يقبل" ووجه عدم قبول خبره وهو ثقه قوله
"لأن الخبر إنما يقبل من الثقة لرجحان الصدق" فيما أخبر به
"على الكذب" ولنا كان ترجيح صدقه إلى كذبه دعوى و'لا فإن خبره
يحتمل الأمرين على السواء "وإنما يرجح صدق الثقه لما ظهر عليه
من أمارات الخير" وهي ما شر طناه فيه من وجود صفات العدالة
"فإنا نستبعد صدور الكذب من الثقة" فلذا رجحنا صدق خبره.
"فاذا جاء هذا الثقة ونسب إلى من هو أوئق منه ما هو حق الأوثق
أبعد من تجويز الكذب على ذلك الثقه" الرامي للأوثق "بمراتب
عظيمة فانا حينئذ إن قبلنا الثقه الجارح حملا له على السلامة
فقد تركنا حمل المجروح الذي هو أوثق منه على السلامة" فان قد
قبلتموه من حيث إنه أرجح فكيف تردونه والأرجحية باقية فقال
"وإن قبلناه" في جرحه لمن يحتمل ذلك "من أجل أنه أرجح فقد صاؤ
في هذه الصورة" حيث جرح من لايحتمل ذلك "مرجوحا" لرميه من هو
أوثق منه "ولو سلمنا أنه أرجح ام تكن هذه صورة المسأله
المفروضة" إذ هي مفروضة في من هو أوثق منه.
"ومثال ذلك أن يقول من ثبتت عدالته بتعديل عدل أو عدلين لاسوى
إن زين العابدين على الحسين رضوان الله عليهم كان يتعمد وضع
الحديث أو يأي إحدى الكبائر المعلوم كبرها أويطرح مثل ذلك على
غيره من التابعين أوالزهاد العلماء مثل سعيد بن المسيب ومالك
والشافعي وإبراهيم بن أدهم ومن فوق هؤلاء أو قريب منهم بحيث
يغلب على الظن أن الكذب إلى المتكلم عليهم أقرب في الظن من
صحةما ادعى عليهم ومن ذلك كلام النواصب" كالخواح وغيرهم "في
على عليه السلام وكلام الروافض في أبي بكر ةعمر وعثمان رضى
الله عنه وكلام" عمرو بن بحر "الجاحظ"
(2/106)
المعتزلى "والنظام" من كبار المعتزله "في
حماعة من كبار الصحابة رضى الله عنهم".
قلت: وكذلك عمرو بن عبيد فإنه قال الذهبي في ترجمته في الميزان
إنه قال لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان رضي الله عنهم
على شراك نعل ما قبلت شهادتهم.
ولما كانت القاعدة المعروفة عند أئمة الحديث والأصول أن الجارح
أولى وإن كثر المعدل ينافي هذا الكلام.
قال المصنف "وأما قولهم" في الاستدلال على هذه القاعدة "إن
الجارح أثبت ما لم يعلم به المعدل" والمثبت أولى هنا لأنه علم
ما لم يعلمه غيرره "فلا يرد هنا" إذ الدليل المذكور تعارض
الجرح والتعديل وليس الأمر هنا كذلك "لأنا هنا لم نعارض بين من
جرح ومن عدل بل بين من جرح ومن هو معلوم العدالة الظاهرة مظنون
العدالة الباطنة ظنا مقاربا أو معلوما" في العبارة تسامح
"بالإمارات كجوع الجائع" فإنه أمر باطني قد نعلمه بالأمارات
"بل لم نأخذ عدالة هذا الجنس من معدل حتى تعارض بينه وبين
الجارح بل اضطررنا إلى العلم بها بالتواتر".
ومن هنا تعلم أن القاعدة المعروفة إنما هي فيمن عرفت عدالته
بأقوال المعدلين وجرحه بجرحهم قال ابن السبكي إن الجارح لا
يقبل جرحه ولو فسره فيمن غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على
ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن
مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ومنافسة
دنيويو كما يكون من النظراء أوغير ذلك فتقول مثلا لا يلتفت إلى
كلام ابن أبي ذؤيب في مالك وابن معين في الشافعي والنسائي في
أحمد بن صالح فإن هؤلاء أئمة صالحون صار الجارح لهم كالآتي
بخبر غريب لو صح لتوفرت لدواعي على نقله وكان القاطع قائما على
كذبه فيما قاله.
"وقد أحسن ابن الحاجب حيث قال في كتابه في الفروع في هذا
المعنى ويسمع التجريح في المتوسط العدالة باتفاق فقيد سماعه
بالمتوسط دون أهل المرتبة الرفيعة" والمراد بالسماع العمل بما
يسمع وأما في مختصره في أصول الفقه فإنه اختار تقديم الجارح من
غير تقييد فهذا الذي ذكره المصنف عنه فيمن لا يحتمل ما نسب
إليه من الجرح.
وأما من يحتمله فإنه قد أشار إليه بقوله "وأما إن تعارض الجرح
والتعديل في من
(2/107)
دون هذه الطبقة الشريفة بحيث يكون صدق
الجارح أرجح وأقرب من كذبه ويكون صدور الجرح من المجروح أرجح
من كذب الجارح وأقرب" فهذان قسمان:
الأول: "فأما أن يكون الجرح مطلقا" عن بيان السبب "أو" يكون
"مبين السبب إن كان مطلقا لم نحكم بصحته" وإن أورث ريبة وتوقفا
"وبحثنا عن حال المجروح فإن تبين" بالبحث "وترجح أحد الأمرين
حكمنا به وإلا وقفنا في حاله كما تقدم" من كلام ابن الصلاح
"لأن الجارح" هنا "وإن كان صدقه" أي الجارح "أرجح" فإنه لا
ينافي توفقنا "فلم ندر ما الذي ادعى" من جرحه "حتى نصدقه فيه"
لأنه أتى بجرح مجمل يحتمل توفقنا فيه تصديقا وتكذيبا.
والقسم الثاني: ما أفاده قوله "وأما إن بين" الجارح "السبب"
الذي جرح به "نظرنا في ذلك السبب وفي العدل الذي ادعى عليه
ونظرنا أي الجوائز" الأمور الجائز وقوعها في حقه "أقرب" للحكم
به "فإن افتضت القرائن والأمارات والعادة والحالة من العداوة
ونحوها أن الجارح واهم في جرحه" بجعله ما ليس بجارح جارحا "أو
كاذب" في جرحه "أو غاضب" على من جرحه "رجح له التغضب عند
سورته" بفتح المهملة وسكون الواو شدته "قرينة ضعيفة فقال
بمقتضاها ونحو ذلك قدمنا التعديل" لعدم نهوض القادح على رفعه.
"وإلا" يحصل ما ذكر "قدمنا الجرح والمنازعون هنا إما أن يكونوا
من الأصوليين أو من المحدثين إن كانوا من الأصوليين فالحجة
عليهم أن نقول أنتم إنما قدمتم الجرح المبين السبب لأنه أرجح
فقط إذ كان القريب في المعقول أن الجارح يطلع على ما لم يطلع
عليه المعدل" قطعا إذ لو اطلع المعدل على الأمر القادح وعدل مع
علمه به عد غير عدل فلا يقبل تعديله والفرض خلافه "وفي قبوله"
أي الجارح "حمل الجارح والمعدل على السلامة معا" وتصديقهما معا
لأن المعدل يقول مثلا أنا لا أعلم فسقا ولم أظنه والجارح يقول
أنا علمت فسقا لو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا وإذا حكمنا
بصدقه كانا معا صادقين "ولم يقدموا" الأئمة "الجرح لمناسبة
طبيعية بين اسم الجرح الذي حروفه الجيم الراو الحاويين صدق من
ادعاه" الجارح "وحينئذ" أي حين إذ عرفت هذا "يظهر أن العبرة"
يعني في تقديم هذا النوع من الجرح "بالترجيح فإن هذا الذي أوجب
عندكم تقديم الجرح نوع من الترجيح" وهو رجحان الجمع بين صدق
الجارح والمعدل.
"فإذا انقلب الحال في بعض الصور وقامت القرائن على أن التعديل
أقوى في ظن
(2/108)
الناظر في التعارض هل كان منكم أو من غيركم
فيما يقتضي النظر هل يعمل بالراجح عنده فذاك الذي قلنا أو
بالمرجوح عنده فترجيح المرجوح على الراجح خلاف المعقول ولا
منقول هنا يوجب طرح المعقول" هذا إذا كانت المناظرة في المسألة
مع أهل الكلام والأصول.
"وإن كان المخالف من المحدثين قلنا له" في المناظرة "أليس قد
ثبت عندكم أن خبر الثقة بحديث معين مبين إذا أعل بعلل كثيرة أو
علة واحدة يحصل معها" مع العلة واحدة كانت أو متعددة "للنقاد
ظن قوي بوهم ذلك الثقة" فيما أخبر به فليس كل ثقة يقبل خبره
"فإن ذلك يقدح في خبره بأمر معين فكذلك خبره بالجرح المبين"
السبب "إنما هو خبر بأمر معين فإذا أعل بما يقتضي وقوع الوهم
فيه أوالعصبية أو القول عن الأمارات الضعيفة فإن ذلك يقدح فيه"
أي في خبره بالجرح المبين السبب.
"ومن أمثلة ذلك على كثرتها قول مالك" الإمام المعروف "في محمد
بن اسحق" صاحب السيرة "إنه دجال من الدجاجلة" هو مقول قول مالك
"أي كذاب" قال يحيى بن آدم ثنا ابن إدريس قال كنت عند مالك
فقيل له إن ابن اسحق قال اعرضوا على حديث مالك فأنا بيطاره
فقال مالك انظروا إلى دجال الدجاجلة ذكره الذهبي في الميزان
"فإن من هو في مرتبة مالك في الثقة" من الأئمة "قد أثنوا على
محمد بن اسحق" قال الذهبي في الميزان وثقة غير واحد ووهاه
آخرون كالدارقطني وهو صالح الحديث ماله عندي ذنب إلا ما قد حشا
في السيرة من الأشياء المنقطعة المنكرة والأشعار المكذوبة قال
ابن معين ثقة وليس بحجة وقال علي بن المديني حديثه عندي صحيح
وقال يحيى بن كثير سمعت شعبة يقول ابن اسحق أمير المؤمنين في
الحديث.
"ومن تكلم" في ابن اسحق "فما تكلم عليه بشيء من هذا" أي من
نسبة الكذب إليه قال محمد بن عبد الله بن نمير رمي بالكذب وكان
أبعد الناس منه وقال أبو داود قدري وقال سليمان التميمي كذاب
وقال وهيب سمعت هشام ابن عروة يقول كذاب وقال يحيى القطان أشهد
أن محمد بن اسحق كذاب قال له ابن أبي داود وما يدريك أنه كذاب
قال قال هشام بن عروة حدث عن أمرأتي فاطمة بنت المنذر وأدخلت
علي وهو بنت تسع سنين وما رآها رجل حتى لقيت الله قال الذهبي
وما يدري هشام بن عروة فلعله سمع منها في المسجد أو سمع منها
وهو صبي أو
(2/109)
أدخل عليها فحدثته من وراء حجاب وأي شيء
هذا وقد كانت كبرت وأسنت "إنما تكلم عليه بالتدليس وشيء من سوء
الحفظ" قد عرفت مما نقلناه عدم صحة هذا الحصر.
"لكنه كان بينه وبين مالك وحشة" قال وهيب سألت مالكا عن محمد
بن اسحق فاتهمه وقال يحيى بن سعيد الأنصاري أبان ومالك يجرحان
ابن اسحق "ولعل ذلك بسبب الاختلاف في الاعتقاد فقد كان محمد بن
اسحق يرى رأي المعتزلة في بعض المسائل" تقدم كلام ابن نمير إنه
رمى بالقدر وكان أبعد الناس منه وقال أبو داود قدري معتزلي
"وكان مالك يشدد في ذلك ثم إنه بلغ مالكا أن ابن اسحق قال
اعرضوا على علم مالك فأنا بيطاره" تقدم من رواها "فحين بلغه
ذلك أغضبه فقال إنه دجال أي كذاب" فقد قاله حال الغضب فلا
اعتباره به "ومن الجائزات" على بعد "أن يريد مالك" كذاب "في
اعتقاده أو في حديثه الذي يهم فيه على بعد هذه العبارة من
إطلاقها على من يهم في عرفهم" فالحمل على ذلك بعيد جدا.
"ولكن حال الغضب مع العداوة في الدين يقع فيها مثل هذا إما
لمجرد غلبة الطبع أو لمجرد أدنى تأويل" وعلى كل تقدير فلا يقبل
ولا يعمل به لأن الجرح إخبار عن حكم شرعي وقد نهى رسول الله
صلى الله لعيه وسلم أن يحكم الحاكم وهو غضبان والأصح عدم صحة
حكمه في حال غضبه كما قررناه في سبل السلام.
"واعلم أن التعارض بين التعديل والتجريح إنما يكون" تعارضا
"عند الوقوع في حقيقة التعارض" إذ الكلام في ذلك وهو ما يتعذر
فيه الجمع بين القولين "أما إذا أمكن معرفة ما يرفع ذلك فلا
تعارض البتة مثال ذلك أن يجرح هذا بفسق قد علم وقوعه منه ولكن
علمت توبته أيضا والجارح جرح قبلها" قبل التوبة فإنه لا تعارض
بين الجرح والتعديل على هذا "أو يجرح بسوء حفظ مختص بشيخ أو
بطائفة والتوثيق يختص بغيرهم أو سوء حفظ مختص بآخر عمره لقلة
حفظ أو زوال عقل وقد تختلف أحوال الناس فكم من عدل في بعض عمره
دون بعض ولهذا كان السعيد من كان خير عمله خواتمه فإذا اطلع
على التاريخ" أي تاريخ روايته وتاريخ اختلاطه "فهو مخلص حسن
وقد اطلع عليه في كثير من رجال الصحيح جرحوا بسوء الحفظ بعد
الكبير والصحيح" من أحاديثهم "روى عنهم قبل ذلك" فلا تعارض.
(2/110)
"ثم ذكروا" أي أئمة الحديث "مسألة وهي
توثيق من لم يعرف عينه ولم يسم مثل قول العالم الثقة حدثني
الثقة" فإنه توثيق لمبهم غير معروف العين "أو" يقول "جميع من
رويت عنه ثقة" قال الخطيب إذا قال العالم كل من رويت عنه فهو
ثقة وإن لم يسمعه ثم روى عمن لم يسم فإنه يكون مزكيا غر أنا لا
نعمل على تزكيتة.
"واختاروا أنه لا يقبل" كما ذكره الخطيب وأبو بكر الصير وابن
الصباغ من الشافعية وغيرهم وحكى ابن الصباغ عن أبي حنيفة أنه
يقبل واستدلوا على عدم القبول بقوله "لجواز أن يعرف فيه جرح لو
بينه" قالوا بل إضرابه عن تسمية ريبة توقع ترددا في قلت:
السامع نعم قال الخطيب إذا قال العالم كل من أروى لكم عنه
وأسميه فهو عدل تقي مقبول الحديث كان هذا القول تعديلا لكل من
روى عنه وسماه هكذا حزم به الخطيب قال وكان ممن سلك هذه
الطريقة عبد الرحمن بن مهدي زاد البيهقي مالك ابن أنس ويحيى
ابن سعيد القطان.
"وهذا" الذي ذهب إليه أئمة الحديث "ضعيف فإن توثيق العدل
لغيره" مبهما كان أو معينا "يقتضي رجحان صدقه" ولأنه يلزم على
هذا بتقديم الجرح المتوهم على التعديل الثابت وهو خلاف النظر
"وتجويز وجود الجارح لو عرف هذا المعدل" أي لو تعين اسمه "لا
يعارض هذا الظن الراجح حتى يصدر" أي الجرح "عن ثقة" والفرض أنه
لا جرح محقق بل مجوز "ولو كان التجويز" للقادح "يقدح لقدح مع
تسميته لأن التسمية لا تمنع من وجود جرح عند غير المعدل" قد
يقال إنه مع التسمية قد فتح لنا بابا إلى معرفته والبحث عنه
ومع عدمها قد أغلق باب البحث إلا أنه قد يجاب بأن لا حاجة إلى
البحث عنه بعد التزكية.
"فإن قالوا لما لم يعلم" أي فيمن سمى والمراد لم يعلم جرحا
"حكمنا بالظاهر حتى نعلم" خلافه "فكذلك هنا" أي فيمن أبهم "لا
فرق بينهما إلا أن طريق البحث غير ممكنة عند الإبهام وقد يمكن
عند التسمية فيكون الظن بعد البحث عن المعارض" وهو وجود جارح
فيمن سماه الثقة وعدله "وعدم وجدانه" أي المعارض وهو القادح
"أقوى" فلذا قلنا يقبل فيمن سمى لافيمن لم يسم "وهذا الفرق
ركيك" وإن حصلت قوة الظن كما ذكر "لأنا لم نتعبد بأقوى الظنون
في غير حال التعارض" فإن الظن الحاصل عن توثيق العدل كلف لنا
في العمل عند عدم التعارض "ولأن طلب المعارض في هذه الصورة لا
يجب" كمما سلف من قبول خبر العدل وكفاية الواحد في ذلك "ولأن
التمكن
(2/111)
من البحث قد يتعذر مع التسمية" كما قد أشار
إليه بقوله وقد يمكن عند التسمية "فيلزم طرح توثيق من الفرض أن
قبوله واجب" وهو الراوي الذي زكاه وسماه الثقة.
"ويمكن نصرة القول الأول" وهو عدم قبول تزكية المبهم "بأن
الخبر عن التوثيق كالخبر عن التصحيح والتحليل والتحرير يمكن
اختلاف أهل الديانة والأنصاف فيه" فلا بد من تعيين الراوي
الموثق ولا يقبل توثيقه مبهما "بخلاف الأخبار المحضة" التي لا
يتطرق إليها اختلاف باعتبار الديانة كأخبار زيد عن قيام عمرو
وإذا كان التوثيق ليس من باب الأخبار المحضة "فلا يجوز للمجتهد
التقليد في التوثيق المبهم على هذا وهو محل نظر والله أعلم".
واعلم أن في المسألة قولا ثالثا حكاه البرماوي قال وهو الصحيح
المختار الذي قطع به إمام الحرمين وجريت عليه في النظم وحكاه
ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين أنه إن كان القائل بذلك من
أئمة هذا الشأن العارف بما يشترط هو وخصومه في العدل وقد ذكر
في مقام الاحتجاج فيقبل.
وقول رابع وهو التفصيل فإن عرف من عادته إذا أطلق أه يعني به
معينا وهو معروف بأنه ثقة فيقبل وإلا فلا حكاه البرماوي أيضا
عن حكاية شارح اللمع عن صاحب الإرشاد والثالث قد أشار إليه
الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها.
فائدة: قول الراوي وأخبرني من لا أنهم كما يقع في كلام الشافعي
رحمه الله كثيرا يكون دون أخبرني الثقة قال الذهبي لأنه نفى
التهمة ولم يتعرض لإتقانه ولا يكون حجة ورجح غير الذهبي أنه
مثل قوله أخبرني الثقة.
(2/112)
مسألة: 48 [في المجهول وأنواع الجهالة
وأحكامها]
من علوم الحديث "الكلام في المجهول" أي الراوي الذي جهل عينا
أو حالا والآخر قسمان "قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ".
قال في الكشاف أو لم يعرفوا محمدا وصحة نسبه وحلوله في سطة
هاشم وأمانته وصدقه وشهادته عقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش
والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاحه خديجة بنت خويلد كفى
برغائها مناديا انتهى.
"وفي هذا أشارة إلى ما في فطر العقول من الشك في خبر ما لا
يعرف بما لا يوجب رجحان خبره" إذ الآية سيقت مساق الإنكار
عليهم لا نكارهم له عليه والسلام لعدم معرفته ومعناه تقرير
معرفتهم إياه وأنه لا وجه لا نكاره وليس المراد إنكار ذاته بل
إنكارهم وسالته وإخباره عن الله سبحانه كما يرشد إليه العنوان
بقوله رسولهم.
"وقد تكرر في كتاب الله تعالى ذم العمل بالظن" كما قال تعالى:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ} [الأنعام: 116] {وَمَا يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36] {إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] {وَذَلِكُمْ
ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:
23] .
"والظن في اللغة: الشك المستوي الطرفين" في القاموس الظن خلاف
اليقين وهي عبارة قاضية أنه يطلق على المستوى الطريفين وعلى
الظن الراجح إذ الكل خلاف اليقين "ويجب حمل الآيات" الدالة على
ذم الظن "عليه" أي على مستوى الطرفين "جمعا بينها وبين الآيات
التي تدل على حسن العمل بالظن الراجح".
قلت: إلا أنه لا يخفى أنه لا يتم حمملها عليه إلا بعد ثبوت أن
الظن الراجح أحد ما يطلق عليه الظن لغة كما نقلناه عن القاموس
وأما عبارة المصنف فهي قاضية أن الظن لغة منحصر في مستوى
الطرفين فلا بد من تقدير يطلق على الشك أيضا إذ الآيات الدالة
على حسن العمل بالظن كقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
(2/113)
فإنه لا يعلم الغائب عنه أنه شطره إلا
بالظن ومثل قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}
[الممتحنة: 10] إذ ليس معهم إلا الظن أيمانهن وغيرها من الآيات
"ويوضح ذلك" أي أن المذموم هو الظن بمعنى الشك "أنه وصف الذين
ذمهم باتباع الظن بالأفك والخرص الذي هو تعمد الكذب" قال
تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فالوصف بالخرص دال على أنه ليس
عندهم ظن راجح قلت: ويدل على استعماله لغة في الراجح قوله
تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ} فنفيهم اليقين دالى على أن عندهم ظنا راجحا
ويحتمل الشك كما قدمناه عن القاموس.
"وأيضا فمن الظاهر الواضح" الراجح "أن اتباع الظن الراجح من
أمارات الأنصاف" لأنه أخذ بالأرجح والأحوط "ومن اتبعه كان
باتباع العلم أولى وأحرى ثم أن عبادة الحجارة ليست مظنونة ظنا
رجحا فتأمل ذلك".
قلت: أما عند عبادها فالظاهر أنهم لم يعبدوها إلا وعندهم ظن
راجح باستحقاقها العبادة وكأنه وجه أمره بالتأمل.
"وحكى الله عز وجل عن سليمان قوله في الهدهد: {قَالَ
سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} "
[النمل: 27] فإنه عليه الصلاة والسلام توقف في خبر الهدهد ولم
يجزم بصدقه ولا كذبه لكونه مجهول الحال عند سليمان ولا يقال
هذا من أحكام خطاب الطير فلا يستدل به هنا لأنا نقول فأشار
المصنف إلى جوابه بقوله "هذا مع قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ} " [الأنعام: 38] بعد قوله: {وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}
الآية فدلت على أن الأحكام واحدة للمماثلة فإنه ظاهر في أن
المماثلة في التكليف لا في مجرد الحيوانية مثلا إذ هو معلوم
ولأنه يشعر به قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
[الأنعام: 38] ولا يقال سلمنا أنهم أمثالنا في التكليف فإنه
يشتطر إيمان المخبر ومن أين لنا أن الهدهد مؤمن لأنا نقول من
قوله "وفي قصة الهدهد ما يدل على إيمانه حيث أنكر عليهم عبادة
الشمس من دون الله" وأثبت الإلهية له تعلى بقوله في صفته:
{الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[النمل: 25] وأثثبت له العلم بكل شيء حيث قال: {وَيَعْلَمُ مَا
تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] ووحدة وأثبت له
العرش في قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] فإن السياق قاض أنه من
كلامه وهذه معاقد الإيمان وأمهات قواعد التوحيد.
(2/114)
"وفي الآية أيضا دليل على إعلال الحديث
بالريبة" وذلك لتوقفه عليه الصلاة والسلام حتى يبحث فيعلم صدقه
أو كذبه.
"وقد تقدم في أول المسألة إشارة إلى مذهب أئمة الزيدية في هذه
المسألة وهي معروفة في كتبهم الأصولية وإنما تذكر هنا كلام
المحدثين لعدم وجوده في غير هذا الفن ولمعرفة عرفهم إذا قالوا
في بعض الرواة أنه مجهول" ولهم فيه تقاسيم لا تعرف إلا في هذا
الفن وقد ألم بها المصنف رحمه الله "فنقول" أي إذا عرفت ما
سقنا فنقول:
"قال المحدثون في قبول رواية المجهول خلاف وهو" أي المجهول
"على ثلاثة أقسام مجهول العين ومجهول الحال ظاهرا وباطنا
ومجهول الحال باطنا" فهذه ثلاثة أقسام:
الأول: وهو "مجهول العين و" حقيقته "هو من لم يرو عنه إلا راو
واحد وفيه" أي في الحكم فيه خمسة "أقوال":
الأول: أن "الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث
وغيرهم أنه لايقبل" ويأتي تحقيق الدليل عليه واختيار خلافه.
"والثاني: أنه يقبل مطلقا وهو قول من لم يشترط في الراوي غير
الإسلام" زاد الزين واكتفى في التعديل بواحد ويأتي نصرة هذا
القول.
"والثالث" التفصيل وهو "إن كان" الراوي "المنفرد بالرواية عنه
لا يروى إلا عن عدول قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان
ومالك ومن ذكر بذلك" أي بأنه لا يروى إلا عن عدل "معهم وإلا لم
يقبل".
"والرابع" تفصيل أيضا إلا أنه على غير الطريقة الأولى وهو أن
الراوي "إن كان مشهورا في غير العلم بالزهد" ومثلوه بمالك بن
دينار "أو النجدة" أي الغلبة ومثلوه بعمرو بن معدي كرب "قبل
وإلا" يشتهر بشيء من ذلك "فلا" يقبل "وهو" أي هذا التفصيل
الآخر "قول ابن عبد البر كما سيأتي".
"والخامس" تفصيل على غير الطريقين الأولين وهو أنه "إن زكاه"
أي الذي لم يرو عنه إلا راو واحد "أحد من أئمة الجرح والتعديل
مع رواية واحد عنه قبل وإلا" يزيكه أحد "فلا" وإن روى عنه عدل
"وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في" كاتبه المسمى "بيان الوهم
والإيهام قلت: و" القول:
"السادس: إن كان" مجهول العين "صحابيا قبل" لما يأتي من القول
بأن الصحابة
(2/115)
كلهم عدول "وهو مذهب الفقهاء" أي الأربعة
"وبعض المحدثين وشيوخ الاعتزال" كأنه عطف على المحدثين ال على
بعض لما تقدم له من أن الجاحظ والنظام قدحا في جماعة من
الصحابة وكذلك عمرو ابن عبيد كما ذكرناه "رواه عن المعتزلة ابن
الحاجب في" مختصر "المنتهى واختاره الشيخ أبو الحسين" البصري
المعتزلي "في" كتابه المسمى "المعتمد" في أصول الفقه بل يأتي
أنه قائل بعدالة أهل ذلك العصر جميعا وإن لم يكن صحابيا
"والحاكم" المعتزلي وهو المحسن بن كرامة "في" كتابه "شرح
العيون وسوف يأتي بيان هذه المسألة على التفصيل عند ذكر
الصحابة" سيأتي تحقيقها في أواخر هذا الكتاب وسيصرح المصنف أن
عدالة المجهول من الصحابة إجماع أهل السنة والمعتزلة والزيدية.
"وقد عرفت أن حكاية المحدثين لهذا الخلاف" في قبول مجهول العين
"يدل على أن مذهب جمهوهم أن من روى عنه عدل وعدله آخر غير
الراوي فهو عندهم مجهول" فإن حقيقة المجهول حاصلة فيه وهي تفرد
الراوي عنه بل ظاهر كلامهم في مجهول العين أنه لو زكاه جماعة
وتفرد عنه راو لم يخرج عن جهالة العين لأنه جعل حقيقته من لم
يرد عنه إلا راو واحد ولا حاجة إلى قوله "بل هو عندهم مجهول
العين" إذا البحث في ذلك وإنما دل حكاية الخلاف على ذلك "لأنهم
في علوم الحديث حكوا قبول من هذه صفته" وهي تفرد الراوي عنه
والمزكي "اختيارا لأبي الحسن بن القطان فقط" كما سلف في القول
الخامس.
"وهذا" أي الذي دل عليه كلام الجمهور "قول ضعيف فمن عرفه ثقة
وعدله ثقة وروى عنه ثقة آخر" لا يخفى أن الكلام فيمن تفرد عنه
ثقة ووثقه ثقة فزيادة المصنف وعرفه ثقة لم يتقدم شرطيته ولفظ
المصنف في مختصره فإن سمى المجهول أو انفرد واحد عنه فمجهول
العين والحق عند الأوصوليين أنه إلا وثقة ثقة الراوي أو غيره
قبل خلافا لأكثر المحدثين والقول أي الصحيح قول الأصوليين
انتهى "لا معنى لتسميته مجهولا" الذي في مختصره أيضا ووجه قول
المحدثين أنهيتنزل أي المجهول العين الموثق منزلة التوثيق
المبهم إذا كان اسم الرجل وعينه لم تثبت إلا من جهة من وثقة
فكأنه قال حدثني الثقة وذلك غير مقبول عند أهل الحديث كما تقدم
والمصنف قد جعل قبوله محل تردد هذا كلامه في توجيه ما ذهب إليه
أئمة الحديث فكيف يقول هنا لا معنى لتسميته مجهولا.
(2/116)
وقوله "لأنهم" أي أئمة الحديث "لم يشترطوا
العلم بعينه" أي الراوي "وبعدالته" قد طوى مقدمة الدليل وهي
قوله لأنه أي التعديل من الثقة والرواية منه أو من غيره تفيد
أن الظن بل التوثيق وحده يفيده وهو يجب العمل بالظن هنا لأنهم
لم يشترطوا إلخ "ويوجبوا" عطف على لم يوجبوا "أن يبلغ المخبرون
بها" أي العدالة "عدد التواتر" ليفيد العلم "ولو اشترطوا ذلك
لم تساعدهم الأدلة عليه" فيكون شرطا بغير دليل فلا يلتفت إليه
"فإن أخبار الآحاد ظنية" يحتمل أنه بريد أن أدلة العمل بها ظني
أو أنها في دلالتها على الحكم الذي وردت فيه لا تفيد إلا ظن
الحكم.
وقوله "واشتراط مقدمات علمية" وهي تواتر عدالة الراوي "في أمور
ظنية" وهي أخبار الآحاد تفيد أنه يريد الوجه الأخير "غير مفيد"
فلا يتم الاشتراط لأنها لا تحصل إلا الظن فأي فائدة لشرطية
علمية المقدمات في ظني النتائج.
"بل الذي تقتضيه الأدلة أنه لو وثقه واحد ولم يرو عنه أحد أو
روى عنه واحد ووثقه هو بنفسه لخرج عن حد الجهلة" وصار مظنون
العدالة والعمل بالظن واجب "فقد نص أهل الحديث أن التعديل يثبت
بخبر الواحد" كما تقدم إلا أنه يقال إن ذلك فيمن قد عرف اسمه
وإسلامه من غير جهة المعدل والمفروض هنا أنهما لم يعرفا إلا من
جهته في أحد التقادير وكلامهم هنا على تقدير انفراد الراوي عنه
وأن يكون هو المعدل "هذا مع ما يعرض في التعديل من المصانعة
والمحاباة" وقد قبلتموه مع هذا المعارض "فكيف" لا تقولون يرد
إلى الجهالة العينية "بالأخبار" من العدل "بالوجود" لمن عدله
أو روى عنه أو عدله وروى عنه فإن قول الثقة مثلا أخبرني زيد بن
عمرو مثلا أو قال وهو ثقة أو وثقه غيره ولم تعلم رواية عن زيد
هذا ولا عرف اسمه لوا توثيقه إلا من كلام الراوي هذا مثلا عنه
فقد تضمن إخبارا بوجوده لكنه غير مراد للراوي وإنما هو لازم
خبره وإخبارا بأنه ثقة فلم لا يقبل خبره بوجود ويقبل خبره بأنه
ثقة فكيف هذا الصنيع هذا تقرير مراد المصنف.
ولعلهم يقولون إنا نقبل خبره بأنه ثقة إن عرفنا وجوده من غير
طريق غيره لا أنا عرفناهما معا من طريقه فإنه بمثابة قوله
أخبرني الثقة يكون تعديلا مبهما ولذا قال المصنف في مختصره عن
الجماهير إذ لو اشتهر أي الذي تفرد بالرواية عنه والتوثيق واحد
لأمكن القدح فيه انتهى فأن هذا مشعر بأن المانع عن قبول ما ذكر
هو الإبهام المانع عن تنحقيق حاله لا إنكار وجوده وعدم قبول
خبر العدل فيه فإنهم يقولون نحن
(2/117)
نقبل خبر العدل بانه موجود ونقبل خبره بأنه
عدل عنده لكنا نريد معرفة عينه من طريق غيره وشهرته لتجويز
وجود جارح فيه والحاصل أن هذه المسألة بعينها ملاقية لمسألة
توثيق المبهم وبه تعرف ما في قوله "فلم يعهد من عدل أنه يحتاج
إلى اختراص وجود معدوم" أي يكذب في خبره بأن المعدوم موجود
"فإذا قبل واحد في توثيق الراوي وإسلامه فهو" أي الواحد "في
القبول في وجوده أولى وأحرى" أي في قبولنا خبره بوجوده قد عرفت
أنهم قابلون لخبره بوجوده كقبولهم لوجود الثقة إذا قال العدل
أخبرني الثقة لكنهم يطالبون في غير ذلك كما عرفت.
واعلم أن المصنف أجاب عن الجمهور في مختصره بقوله والجواب أن
الضرورة إذا ألجأت إلى التقليد جاز بناء الاجتهاد عليه
كالتقليد في توثيق المعين وجرحه فإفاد كلامه أن جعل تفرد
الراوي والموثق مزيلا للجهالة العينية ليس إلا من باب التقليد
للضرورة وأن تعديل من ليس بمجهول العين وجرحه أيضا من باب
التقليد والذي تقدم له أن قبول خبر العدل ليس من باب التقليد
بل من باب الاجتهاد لقيام الدليل على وجوب قبول خبره والتزكية
والجرح من باب الأخبار إذ مفاد قوله المزكي فلان عدل أي آت
بالواجبات تارك للمقبحات محافظ المروءة وقوله جرحا هو فاسق
لشربه الخمر مثلا الكل إخبار عدل يجب قبوله لقيام الأدلة على
العمل بخبر العدل وليس تقليدا لو كما سلف للمصنف رحمه الله
نظيره في قول العدل هذا الحديث صحيح فإنه قال إنه خبر عدل وإن
قبوله ليس من التقليد وإن كان ناقض نفسه في محل آخر وقد قررنا
الصحيح من كلاميه.
والحاصل أن الدليل قد قام على قبول خبر العدل إما عن فسه بأن
يخبر بأنه ابن فلان أو أن هذه داره أو جاريته فهذا لا كلام في
قبول خبره عنه بالضرورة الشرعية بل يقبل خبر الفاسق بذلك بل
أبلغ من هذا أنه يجب قبول قول الكافر لا إله إلا الله ويحقن
دمه وماله ونعامله معاملة أهل الإيمان لأخباره بالتوحيد وإن
كان معتقدا لخلافه في نفس الأمر كالمنافق وإن كان خبره عن غيره
كروايته للأخبار قبل أيضا وإن كان عن صفة غيره بأنه عدل أو
فاسق قبل أيضا إذ الكل خبر عدل وقبول خبره ليس تقليدا له بل
لما قام عليه من الدليل في قبول خبره هذا تقرير كلام أهل
الأصول وغيرهم ولنا فيه بحث أشرنا إليه في أوائل حاشية ضوء
النهار.
والمراد هنا معرفة ما في كلام المصنف من قوله إن الضرورة إذا
ألجأت إلى التقليد
(2/118)
جاز بناء الاجتهاد عليه كالتقليد في توثيق
المعين وجرحه فإنه قاض بأن كل من عمل بكلام العدول تزكية وجرحا
فإنه مقلد ومعظم الاجتهاد على ذلك فهذا من المصنف كالرجوع إلى
القول بانه قد انسد باب الاجتهاد في الأخبار لا نبنانه التقليد
وهو خلاف ما ألف لأجله العواصم وغيرها من كتبه.
"وقد أشار ابن الصلاح إلى مثل ما ذكرته في أن ارتفاع الجهالة
في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد" قد
عرفت ما فيه فإنهم يقولون مجهول العين من لم يعرفه العلماء ولم
يعرف حديثه إلا من جهة واحدة وقبولهم توثيق الواحد إنما هو
فيمن عرفت عينه وجهلت عدالته.
"ولم يردوا عليه ذلك بحجة وإنما ردوا عليه بكون ذلك عرف
المحدثين وقد نص جماعة من كبار المحدثين على هذا العرف منهم"
أبو بكر "الخطيب" سيأتي لفظه قريبا "ومحمد ابن يحيى الذهلي"
كان لأحسن تقديمه على الخطيب كما فعله الزين لأنه السابق بهذه
فإنه قال إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة.
"وحكاه الحاكم عن البخاري ومسلم" لكن رد ابن الصلاح ذلك فقال
قد خرج البخاري في صحيحه عن مرداس الأسلمي ولم يرو عنه غير قيس
بن أبي حازم ومسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير
أبي سلمة وذلك مصير منهما إلى خروجه عن هذه الجهالة برواية
واحد انتهى فدل على خلاف ما حكاه الحاكم عن الشيخين.
وقد تعقب الشيخ محي الدين النووي كلام ابن الصلاح فقال الصواب
ما ذكره الخطيب فهو لم يقله عن اجتهاده بل نقله عن أهل الحديث
ورد الشيخ عليه بما ذكره عجب لأنه شرط في المجهول أن لا يعرفه
العلماء وهذان معروفان عند أهل العلم بل مشهوران فمردس من أهل
بيعة الرضوان وربيعة من أهل الصفة والصحابة كلهم عدول فلا تضر
الجهالة بأعيانهم لو ثبت وأجيب عنه بأن هذا مسلم في حق الصاحبة
والكلام أعم.
"وذكر الذهبي ما يقتضي ذلك" من عدم ارتفاع الجهالة في رواية
الواحد "فقال زينب بنت كعب بن عجرة مجهولة لم يرو عنها غير
واحد" وصف كاشف لقوله مجهولة إذا عرفت هذا "فعلى هذا لا يكون
قولهم في الراوي إنه مجهول جرحا صحيحا" الأحسن صريحا "عند
مخالفيهم" أن نقول بأن رواية لواحد تزيل الجهالة "بل
(2/119)
نقف حتى نبحث" فعلى هذا يكون من الجرح
المطلق ولذا قلنا الأحسن أن يقول صريحا إلا أنه غير خاف عليك
أن القدح بجهالة العين معناها أنه لم برو عن إلا واحد ممن
يكتفي به في إزالة جهالة العين لتوقفه بل نقبله إذ قد ثبتت
عدالته من جهة هذا الواحد الراوي عنه أو غيره وكأنه يرد أنه
يقف حتى يعرف عدالته إذا لم يكن قد عرفها.
"ويكون هذا من جملة عبارات الجرح التي توجب الوقف وإن لم يكن
جرحا في الرجل فهو قدح في قبول روايته" أي موجب للتوقف فيها.
"وقال" أبو بكر "الخطيب" في الكفاية في تعريف "المجهول عند
أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه
العلماء به ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد وقال الخطيب
أقل ما ترفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين
بالعلم إلا أنه يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه" وإن انتفت
عنه الجهالة "قلت: فزاد الخطيب في التعريف لعرفهم أمرين لا
دليل عليهما أحدهما اشتهار المجهول بطلب العلم ومعرفة العلماء
لذلك منه وثانيهما أن يكون الراويان عنه من المشهورين بالعلم"
في قوله "في أقل ما ترتفع به الجهالة فهذا" أي ما زاده الخطيب
"يزيدك بصيرة في عدم قبول حكمهم بجهالة الراوي" فلا يقبل قولهم
هذا مجهول العين لأنهم تعنتوا في حقيقته وأتوا بشرائط غير
صحيحة لعدم الدليل عليها.
"لأن العلم على الصحيح ليس من شروط الراوي" لأنه من قبل
العلماء رواية من ليس من العلماء كأعراب الصحابة رضي الله عنهم
"ولو كان" العلم "شرطا فيه لم يقبل كثير من الصحابة والأعراب"
لا يقال الصحبة كافية في القبول لأنا نقول قد شرطتم العلم في
الراوي "فلم تكن الصحبة لمجردها تفيد العلم وقد ثبت أن ذلك" أي
العلم "لا يشترط في الشهادة وهي آكد من الرواية فإذا لم تشترط
في الراوي فأولى أن لا تشترط فيمن روى عنه" أو من روى عنه راو
أيضا.
"القسم الثاني" من أقسام المجهول "مجهول الحال في العدالة في
الظاهر والباطن مع كونه معروف العين" برواية عدلين عنه "وفيه"
أي في قبوله ثلاثة: "أقوال":
"الأول: أنه لا يقبل حكاه ابن الصلاح وزين الدين" ناسبا له إلى
ابن الصلاح "عن الجماهير" وذلك لأن تحقق العدالة في الراوي شرط
ومن جهلت عدالته لا تقبل روايته.
(2/120)
"والثاني: يقبل" مجهول عدالة الباطن
والظاهر "مطلقا" من غير تفصيل "وإن لم تقبل رواية مجهول العين"
لأن معرفة عينه هنا أغنت عن معرفة عدالته.
"والثالث" التفصيل وهو أنه "إن كان الراويان عنه" اللذان بهما
عرفت عينه "لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا" هكذا سرد هذه
الأقوال ابن الصلاح ونقلها عنه زين الدين ولم يذكرا دليلا عنهم
كما فعله المصنف.
"القسم الثالث" من أقسام المجهول "مجهول العدالة الباطنة"
والعدالة الباطنة عندهم هي ما يرجع إلى تزكية المزكين كما يأتي
"هو عدل في الظاهر فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين وبه
قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي قال" في دليل القطع به "لأن
الأخبار مبنية على حسن الظن بالراوي ولأن رواية الأخبار قد
تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن وتفارق"
الرواية "الشهادة فإنهما تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك"
أي معرفة العدالة الباطنة لأنهم يطلبون التزكية فإن وجدت عملوا
"فاعتبرت فيها العدالة في الظاهر والباطن قال ابن الصلاح: يشبه
أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة
عن غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة
الباطنة بهم".
اعلم أنهم شرطوا في الراوي كونه عدلا ثم رسموا العدالة بالتقوى
وهي الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات مع عدم ملابسة بدعة ثم
قالوا يكتفي تعديل الثقة لغيره بقوله عدل أو ثقة مثلا ومعناه
إخباره أنه علم منه إتيانه بالواجبات واجتنابه المقبحات وعدم
ملابسته لبدعة وهذا الخبر مستند إلى مشاهدته لفعله وتركه وهذه
المشاهدة أمر ظاهر وأما معرفة باطنة فلا يعلمها إلا الله
فالمزكي غايته كالمعدل بلا زيادة فشرط العدالة الباطنة شرط لا
دليل عليه وإن أريد أن الخبرة تدل عليها فالخبرة لا بدمنها في
المعدل أيضا ثم رأيت المصنف قد ثتبه لهذا آخرا ولله الحمد
ولعلهم لما سموا العدالة عن غير تزكية عدالة ظاهرة سموا ما كان
عن تزكية عدالة باطنة تسامحا وللتفرقة بين الأمرين والله أعلم.
"وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث أنه لا يحتج بالمجهول
وحكاه البيهقي عنه في المدخل" قلت ولفظ الشافعي في كتاب اختلاف
الحديث والظاهر في المجهول هو من لا تعرف عدالته عن خبرة أو
عينه كما يدل له قوله ونقل الروياني عن نص الشافعي في اليأم
أنه لو حضر العقد رجلان مسلمان ولا يعرف حالهما من
(2/121)
الفسق والعدالة انعقد النكاح بهما أي
بشهادتهما "في الظاهر" وليس الخطاب إلا في انعقاده فيه "لأن
ظاهر المسلمين العدالة" فالمسلمون عدول وهي عدالة يشهد بها
إسلامهم وهذا يوافق من يقول الأصل في المسلمين العدالة وقوله
الأول يخالفه وكثيرا ما يأتي له في المسألة قولان وهذا منها.
"ذكره" الروياتي "في البحر نقل ذلك" عن الروياتي "زين الدين
ولما ذكر اين الصلاح هذا القسم الأخير" وهو من عرفت عدالته
ظاهرا لا باطنا "قال وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا المستور
من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالته باطنا انتهى" كلام ابن
الصلاح "قال الزين" بعد نقله لكلام ابن الصلاح "وهذا الذي نقل
كلامه آخرا هو البغوي وتبعه عليه الرافعي وحكى الرافعي في
الصوم وجهين في قبول رواية المستور من غير ترجيح وقال النووي
في شرح المهذب إن الأصح قبول روايته قال الزين كلام الرافعي في
الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها إلى أقوال
المزكين" قد قدمنا لك أن التعديل والتزكية إنما مدارهما على
الخبرة الظاهرة.
"قلت: ظاهر المذهب" أي مذهب الزيدية "قبول هذا المسمى عندهم
بالمستور بل قد نص على قبوله وسماه بهذه التسمية الشيخ أحمد في
الجوهرة" كما تقدم "ولم أعلم أن أحدا من الشارحين اعترضه
والأدلة" في قبول خبر الآحاد "تناوله سواء رجعنا إلى" دليل
"العقل وهوالحكم بالراجح لأن صدقه راجح" من حيث عدالته الظاهرة
"أو" رجعنا "إلى" دليل "السمع وهو قبول النبي صلى الله عليه
وسلم لمن هو كذلك" أي معروف العدالة الظاهرة مجهول الباطنة
"كالأعرابيين في الشهادة بالفطر من رمضان" يأتي تخريج حديثهما
في آخر الكتاب وقد وسع المصنف الاستدلال للمسألة في الروض
الباسم وساق ثمانية أخبار وتأتي المسألة آخر الكتاب "والأعرابي
بالشهادة بالصوم في أوله وسيأتي طرق هذين الحديثين" في آخر
الكتاب عند ذكر عدالة الصحابة وهذا أوسع دائرة مما اختاره سليم
الراوي فإنه إنما اختار ذلك في الأخبار دون الشهادة كما عرفت.
"ومما يدل على ذلك إرساله صلى الله عليه وسلم رسله كمعاذ وأبي
موسى إلى اليمن وهما عند أهل الين مستوران وإن كانا عند من
يخصهما في أرضهما مخبورين" لا يخفى أنه يريد الاستدلال بقبول
أهل اليمن لأخبارهما مستوران عندهم وبأنه قد عرف صلى الله عليه
وسلم ذلك فكان تقريرا منه ولكنه يقال أهل اليمن الذين يقبلون
أخبارهما أحد رجلين إما كافر فلا يعتبر قبوله ولا عدمه وإما
مؤمن وهو يقبل أخبارهما عن الشرائع.
(2/122)
والمؤمن يعلم أنه لا يرسل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويبعث بالشرائع من يبلغها عنه إلا وهو ثقة عدل
فأحسن من هذا في الاستدلال قوله "أو رجعنا إلى إجماع الصحابة
فقد حكى الشيخ أو الحسين وغيره قبولهم لأحاديث الأعراب" من
المسلمينن "أو رجعت إلى أهل البيت عليهم السلام فقد روى
المنصور بالله رضى الله عنه والسيد أبو طالب وأهل الحديث عن
علي عليه السلام أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه فإذا حلف له
قبله" وهذا يدل على أنه لم يعرف عدالته الباطنة قلت: ولا
الظاهرة إذا لو علمها لما اتهمه كما يدل له قوله أنه حكى أبو
الحسين إجماع الصحابة على قبول من عرفت عدالته الظاهرة وعلي
عليه السلام رأس الصحابة.
"وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول" إلا
أنه يقال إذا كان كذلك فلا وجه لاشتراط التزكية والتعديل
للراوي عندهم "وذكر محمد بن منصور" المرادي "صاحب كتاب علوم آل
محمد أنه يرى قبول المجاهيل ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم"
قلت: هذا مذهب له ولا ينازع في مذهبه.
"وقول المحدثين إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل إما
لفظا فقط أو لفظا ومعنى فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي من أنهم
عنوا بذلك من رجع في عدالته إلى أقوال المزكين أشكل عليهم ذلك
لفظ لأن هذا المعنى صحيح ونحن نقول به ولكن هذه العبارة" أي
قبولهم عدالته الباطنة "ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن
الراوي وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك لأن المزكي إنما عرف
الظاهر" كما قررناه آنفا "ثم أخبرنا به فقلدناه فيه فيه" ما
تقدم "فكيف لا تحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرف المزكي
من غير واسطة خبره وتقليده" كما زعم القائل بذلك "وإذا عرف ذلك
وجهلناه ثم أخبرنا به وقلدناه حصلت العدالة الباطنة" كما
قالوه.
"فإن قالوا المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة" وهي التي
تحصل للعدل والمزكي "وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام قلن من لم
يعرف بغير مجرد الأسلام فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام
المجاهيل وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما ولا يرتفع عنهما إلا
بخبرة" لا يتم أن المراد بالعدالة الظاهرة ما كان بمجرد
الإسلام.
"فإن قالوا" ليست "العدالة الظاهرة" مما عرفت بمجرد الإسلام بل
"ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن والباطنة ما عرف
بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب" للعلم "وسموا الظن المقارب
للعلم علما" لا أدري أي حاجة إلى زيادة هذا فإنهم لم
(2/123)
يشترطوا العلم بالعدالة الباطنة بل قالوا
لا بد من معرفة العدالة الباطنة ومعرفتها أعم من أن تكون بعلم
أو ظن "دون مطلق الظن تخصيصا له بما هو أولى به" فإن الظن
المقارب هو الفرد الكامل من الظنون ويسمى علما "فإن مطلق الظن
قد يسمى علما فكيف بأقواه قلنا الظن في القرة لا ينقسم إلى
قسمين فقط" كما أفادة كلامكم بل ينتهي إلى شيء معين "ولا يقف
على مقدار ولا يمكن التعبير عن جميع مراد به بالعبارة" وأيضا
فإنهم يختلفون في الظنون اختلافا كثيرا.
"ومعرفة المزكي لكون ظنه مقاربا أو مطلقا أو وسطا بين المطلق
والمقارب دقيقة عويصة" فإنها أمور وجدانيه "وأكثر المزكين لم
يعرف معاني هذه العبارات بل ولا سمعها" فكيف يكلف بها "وهي
مولدة اصطلاحية" لم تأت عن الشارع ولا عن أهل اللغة "ولو كلف
كل مزك أن يزكي على هذا الوجه" أي تزكية صادرة عن الظن المقارب
"لم يفعل أو لم يعرف ولم تزل التزكية مقبولة من قبل حدوث هذه
الاصطلاحات" فكيف تناط أمور شرعية بهذه الاصطلاحات الحادثة
العرفية "والعدالة حكم منضبط يضطر إليها العامة" أي عامة الناس
"في الشهادة في الحقوق والنكاح ورواية الأخبار وقبول الفتوى من
المفتي وصحة قصاء القاضي" ومعنى اضطرارهم إليها أنهم يحتاجون
إلى العدول في هذه الأمور التي تعم بها البلوي ولا بد أهم
عارفون بمعناها باعتبار ما يظهر لهم.
"قتعليقها بأمر خفي غير منضبط" وهوالظن المقارب "بغير نص يدل
على ذلك" التعليق "ولا عقل يحكم به غير مرضى" فإنه لا يعلق حكم
بأمر إلا بدليل يدل عليه وإلا كان تحكما "بل" نقول "مطلق
الخبرة المفيدة للظن" مطلقا "كافية وتزكية المزكي لا تفيد غير
ذلك" أي الظن المطلق "إلا أن يكون المزكي من أهل هذا العرف"
فلا يزكي إلا عن ظن مقارب "فإن قلنا مثل ذلك شرطنا في المزكي
أن يقول بمثل مقالتهم هذه وهذا" شرط "بعيد" غير معروف عند
الأصليين وغيرهم هذا تقرير إشكال عباراتهم لفظا.
"وأما الوجه الثاني وهو اختلال عباراتهم لفظا ومعنى فذلك" أي
بيان إشكالها "إن أرادوا أنها على ظاهرها ولم يتأولوها بالتجوز
وذلك" أي حمل كلامهم على الحقيقة "أن يقولوا" في اسم "العدالة
الظاهرة هي ماعرف بالخبرة الموجبة للظن و" أن يقولوا في اسم
العدالة الباطنة "العدالة في الباطن والظاهر" زاده استطرادا
"هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية مثل عدلة المشاهير
المتواترة عدالتهم مثل العشرة من الصحابة" الذين
(2/124)
جمعهم المصنف في قوله شعرا:
للمصطفى خبر صحب نص أنهم ... في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع ... أبي عبيدة والسعدان والخلفا
"وعمار بن ياسر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه
مليء إيمانا "وسلمان الفارسي" الذي قال له النبي صلى الله عليه
وسلم "سلمان منا" 1 "وأبي ذر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه
وسلم أنه أصدق من بينهما "وأمثالهم من أهل ذلك الصدر" أي عصر
الصحابة ولا يخفى أن المحدثين قائلون أن الصحابة مطلقا ليس
فيهم مستور وقد تقدم الرد على ابن الصلاح من النووي حيث زعم أن
مرداسا وربيعة بن كعب الأسلمي مجهولان ما عرفته قريبا نعم يتجه
التمثيل بقوله "ومثل زين العابدين" وهو علي ابن الحسين "وسعيد
بن المسيب من التابعين والحسن البصري وأمثالهم ومثل إبراهيم بن
أدهم من المتعبدين ومثل القاسم" بن ابراهيم الرسي "و" يحيى بن
الحسين "الهادي" حفيده "من الأئمه الهادين فلهم" أى شارطى
العدالة الباطنة "أن يقولوا عدالة هؤلاء معلومة ظاهرا وباطنا
وليس ذلك" أي معرفة الغدالة الباطنه "من قبيل علم الغيب بل من
قبيل العلم الصادر عن القرائن فانا نعلم أن القاسم رضي الله
عنه لم يكن في الباطن منافقا بل" نجد "اعتقادنا جازما بصحة
إسلامه" الأولى إيمانه "وفضله" ولما كان الجزم بعلم ما في
الاعنقاد باطنا مستعبدا إذ لا يحصل إلا بأخبار من الله تعالى
كما قال تعالى في عمار {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} أشار المصنف بأنه "قد قال أهل
العلم بمثل هذا في خبر الواحد إذا انضمت إليه القرائن مثل
الخبر" الآحادي "بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين
الناس واستقامته لمن يعزيه وبكاء النسوان في بيته واجتماع
الناس للتعزية إليه وظهور الجنازة ونحو ذلك" فإن هذا خبر آحادي
وقد أفاد العلم بموت ولد الرجل للقرائن المحتفة به "وكبار
الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة" كقول بعضهم إنه
ما عصى الله منذ عرف يمينه من شماله "وظهر عليهم من القرائن"
بصحة إخبارهم "ما يوجب علم ذلك" أي علمنا به هذا تقرير مراده
إن أرادوه "فالجواب عليهم أن هذا يحتل عليهم من وجهين":
"أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا" فليست المسألة اتفاقية
كما يعرف من
__________
1 الطبراني 6/261, والحاكم 3/598, ودلائل النبوة 3/418.
(2/125)
أصول الفقه "وإن صح فهو علم ضروري غير
مستمر لكل أحد" بل قد يحصل لناس دون ناس "ولذا وقع فيه الخلاف
والتعبد بخبر الواحد يشمل الجميع" أي جميع المكلفين ممن يحصل
له هذا العلم الضروري وهم الأقل وغيرهم وهم الأكثر "وهذا"
القول "يؤدي إلى اشتراط أن يخلق الله العلم الضروري بعدالة
الراوي في الباطنة وهذا خلاف الإجماع.
"وثانيهما" أي وجهي الجواب "أن العدالة في الراوي تشتمل على
أمرين":
"أحدهما في الديانة التي تفيد مجرد صدقه وأنه لا يتعمد الكذب"
أما هذا فمحل النزاع كما لا يخفى.
"وثانيهما في الحفظ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة فلا يصح العلم
الضروري أن الراوي لم يخط في روايته من غير عمد ولا قائل بذلك"
يتأمل في هذا "على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم
الأقلون عددا ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة
إسناد غالبا" إذ ليس كل حديث يكون رجاله من ذلك الطبقة
العالية.
"وقد نص مسلم" في أول صحيحه "على أنا لا تجد الحديث الصحيح عند
مثل مالك وشعبة والنوري" الذي لا خلاف في إمامتهم ديانة وحفظا
وإذا لم نجد مثلهم "فلا بد من النزول إلى مثل ليث ابن أبي سليم
وعطاء بن السائب" وهم من طبقة غير تلك الطبقة في الأمرين إذا
عرفت هذا "فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة
لكثير من الرواة وتفظن لذلك في كتب الجرح والتعديل" فإنهم
يردون كثيرا بجهالة باطنة ويسمونه مستوارا "والله أعلم".
* * *
(2/126)
|