شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقَبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ

257.... أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الأَثَرْ ... وَالْفِقْهِ فِي قَبُوْلِ نَاقِلِ الْخَبَرْ
258.... بِأنْ يَكُوْنَ ضَابِطاً مُعَدَّلاَ ... أيْ: يَقِظاً، وَلَمْ يَكُنْ مُغَفَّلاَ
259.... يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً، يَحْوِيْ ... كِتَابَهُ إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِيْ
260.... يَعْلَمُ مَا فِي الَّلَفْظِ مِنْ إحِالَهْ ... إنْ يَرْوِ بالْمَعْنَى، وَفِي الْعَدَالَهْ
261.... بِأنْ يَكُوْنَ مُسْلِمَاً ذَا عَقْلِ ... قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ سَلِيْمَ الفِعْلِ
262.... مِنْ فِسْقٍ اوْ خَرْمِ مُرُوْءةٍ وَمَنْ ... زَكَّاهُ عَدلاَنِ، فَعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ
263.... وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ ... جَرْحَاً وَتَعْدِيْلاً خِلاَفَ الشَّاهِدِ
قالَ ابنُ الصلاحِ: أجمعَ جماهيرُ أئمّةِ الحديثِ والفقهِ، على أنَّهُ يشترطُ فيمَنْ يُحْتَجُّ برِوَايَتِهِ أنْ يكونَ عدلاً ضابطاً لما يرويِهِ، ثمَّ فَصَّلَ شروطَ العدالةِ، ثُمَّ شروطَ الضبطِ. وقَدَّمْتُ شروطَ الضبطِ على العدالةِ؛ لتقدمِ الضبطِ في النَّظْمِ.

(1/326)


فقولي: (أي: يقظاً) ، إلى قولي: (وفي العدالةِ) ، تفسيرٌ للضبطِ؛ ويَقُِظَ - بضمِ القافِ وكسرِها - لغتانِ، حكاهما الجوهريُّ وغيرُهُ. وقولي: (يحوي كتابَهُ) ، أي: يحتوي عليه، ويحفظُهُ من التبديلِ والتغييرِ. وقد نصَّ الشافعيُّ على اعتبارِ هذهِ الأوصافِ فيمَنْ يحتجُّ بخبرِهِ، فقالَ في كتابِ " الرسالةِ " التي أرسلَ بها إلى عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ: لا تقومُ الحجةُ بخبرِ الخاصّةِ حتّى يَجمعَ أموراً منها: أنْ يكونَ مَنْ حَدَّثَ به ثقةً في دينِهِ، معروفاً بالصدقِ في حديثِهِ، عاقِلاً لما يُحدِّثُ به، عالِماً بما يُحِيلُ مَعانِيَ الحديثِ من اللفظِ، أو يكونَ ممَّنْ يُؤَدِّي الحديثَ بحروفِهِ، كما سمعَهُ، لا يُحدِّثُ به على المعنى؛ لأنَّهُ إذا حدَّثَ به على المعنى، وهو غيرُ عالمٍ بما يحيلُ معناهُ، لم يَدْرِ لعلَّهُ يُحيلُ الحلالَ إلى الحرامِ.
وإذا أدَّاهُ بحروفِهِ فلم يَبْقَ وجهٌ يُخافُ فيه إحالتُهُ الحديثَ، حافظاً إنْ حدَّثَ مِنْ حفظِهِ، حافظاً لكتابِهِ إنْ حدَّثَ مِن كتابِهِ، إذا شَرِكَ أهلَ الحفظِ في الحديثِ وافَقَ حديثَهُم، بريئاً من أنْ يكونَ مُدلِّساً، يُحَدِّثُ عمَّنْ لقيَ ما لم يَسْمَعْ منه، ويحدِّثُ عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يُحدِّثُ الثقاتُ خلافَهُ، ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّنْ حدَّثَهُ، حتى يُنْتهَى بالحديثِ موصُولاً إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو إلى مَنْ انْتُهيَ بهِ إليهِ دونَهُ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم مُثبِّتٌ مَنْ حَدَّثَهُ ومُثْبِتٌ على مَن حَدَّثَ عنه، فلا يُسْتغنَى في كلِّ واحدٍ منهم عمّا وصفْتُ انتهى كلامُ الشافعيِّ - رضي الله عنه -
وقولي وفي العدالةِ، إلى آخر قولي أو خرم مروءة، بيانٌ لشروطِ العدالةِ، وهي خمسةٌ الإسلامُ، والبلوغُ، والعقلُ، والسلامةُ من الفسق وهو ارتكابُ كبيرةٍ، أو إصرارٌ على صغيرةٍ والسلامةُ ممّا يخرمُ المروءة، ولم نذكرْ في شروطِها الحريةَ، وإنْ ذكرَه الفقهاءُ في الشهاداتِ؛ لأنَّ العبدَ مقبولُ الروايةِ

(1/327)


بالشروطِ المذكورةِ بالإجماعِ، كما حكاه الخطيبُ بخلافِ الشهادةِ على أنَّ جماعةً من السلفِ أجازوا شهادةَ العبدِ العدلِ وإنْ كان الجمهورُ على خلافِ ذلك وهذا مما تفترقُ فيه الروايةُ والشهادةُ، كما ذكرهُ القاضي أبو بكرٍ وغيرُهُ
فهذهِ إذاً شروطُ العدالةِ في الروايةِ. ومَنْ يقبلُ أيضاً روايةَ الصبيِّ المميِّزِ الموثوقِ به، لم يشترطِ البلوغَ. وفي المسألةِ وجهانِ حكاهما البغويُّ والإمامُ وتَبِعهَما الرَّافعيُّ، إلا أنّهُ قيَّدَ الوجهينِ في التيمُّمِ بالمُراهِقِ، وصحَّحَ عدمَ القبولِ، وتَبِعَهُ عليه النوويُّ، وقيَّدَهُ في استقبالِ القبلةِ بالمميِّزِ، وحكى عن الأكثرين عدمَ القبولِ. وحكى النوويُّ في "شرحِ المهذَّبِ" عن الجمهورِ قبولَ أخبارِ الصبيِّ المميِّزِ فيما طريقُهُ المشاهدةُ بخلافِ ما طريقُهُ النقلُ، كالافتاءِ، وروايةِ الأخبارِ، ونحوهِ وسبقَهُ إلى ذلك المُتَولِّي فتبعَهُ، واللهُ أعلمُ.
وقولي ومَنْ زَكَّاهُ عدلانِ، إلى آخرهِ، بيانٌ لما تثبتُ به العدالةُ فمما تثبتُ به تنصيصُ معدّلِينَ على عدالتِهِ، كما في الشهادةِ
واختلفوا هل تثبتُ العدالةُ والجرحُ بالنسبةِ إلى الروايةِ بتعديلِ عدلٍ واحدٍ وجَرحِه، أو لا يثبتُ ذلك إلا باثنينِ، كما في الجرحِ والتعديلِ في الشهادات؛ على قولينِ وإذا جُمعتِ الروايةُ مع الشهادةِ صارَ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ

(1/328)


أحدُها أنّهُ لا يقبلُ في التزكيةِ إلا رجلانِ، سواءٌ التزكيةُ للشهادةِ والروايةِ وهو الذي حكاهُ القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم
والثاني الاكتفاءُ بواحدٍ في الشهادةِ والرواية معاً، وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ المذكورِ؛ لأنَّ التزكيةَ بمثابةِ الخبرِ قال القاضي والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كُلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ، ذكرٍ، أو أنثى، حرٍّ أو عبدٍ، لشاهدٍ ومُخبِرٍ
والثالثُ التفرقةُ بين الشهادةِ والروايةِ، فيشترطُ اثنانِ في الشهادةِ ويُكتفى بواحدٍ في الروايةِ ورجَّحَهُ الإمامُ فخرُ الدينِ، والسيفُ الآمديُّ ونقلَهُ عن الأكثرينَ وكذلك نقلَهُ أبو عمرٍو بنُ الحاجبِعن الأكثرينَ، وهو مخالفٌ لما نقلهُ القاضي عنهم قال ابنُ الصلاحِ والصحيحُ الذي اختارهُ الخطيبُ وغيرُهُ أنَّهُ يثبتُ في الروايةِ بواحدٍ؛ لأنَّ العددَ لَمْ يُشترطْ في قبولِ الخبرِ، فَلَمْ يشترطْ في جرحِ راويهِ وتعديلهِ بخلافِ الشهاداتِ وقولي بالواحدِ أي بالعدلِ الواحدِ، فيدخلُ فيه تعديلُ المرأةِ العدلِ، والعبدِ العدلِ
وقد اختلفوا في تعديلِ المرأةِ، فحكى القاضي أبو بكرٍ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم أنّهُ لا يقبلُ في التعديلِ النساءُ، لا في الروايةِ، ولا في الشهادةِ واختار القاضي أنّهُ يُقبلُ تزكيةُ المرأةِ مطلقاً في الروايةِ والشهادةِ؛ إلا تزكيتُها في الحكمِ الَّذِي لا

(1/329)


تُقبلُ شهادتُها فِيْهِ وأطلق صاحبُ المحصولِ وغيرُهُ قبولَ تزكيةِ المرأةِ من غيرِ تقييدٍ بما ذكرهُ القاضي
وأما تزكيةُ العبدِ، فقال القاضي أبو بكرٍ إنَّهُ يجبُ قبولُها في الخبرِ دونَ الشهادةِ؛ لأنَّ خبَرهُ مقبولٌ، وشهادَتَهُ مردودةٌ قَالَ والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ، ذكرٍ، أو أنثى، حرٍّ، أو عبدٍ لشاهدٍ ومُخِبرٍ وهذا ما صرَّحَ بِهِ صاحبُ المحصولِ وغيرُهُ قَالَ الخطيبُ في الكفايةِ الأصلُ في هَذَا البابِ سؤالُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الإفْكِ عن حالِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ، وجوابُها لَهُ

... وَصَحَّحُوا استِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ ... تَزكِيَةٍ، كـ (مَالكٍ) نَجْمِ السُّنَنْ
265.... و (لابنِ عَبْدِ البَرِّ) كُلُّ مَنْ عُنِي ... بِحَمْلِهِ العِلْمَ وَلَمْ يُوَهَّنِ
... فَإنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلِ المُصْطَفَى ... (يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ) لكِنْ خُوْلِفَا

أي: وممَّا تثبتُ به العدالةُ: الاستفاضةُ والشهرةُ. فمن اشتهرتْ عدالتُهُ بين أهلِ النقلِ، أو نحوِهم من أهلِ العلمِ، وشاعَ الثناءُ عليه بالثقةِ والأمانةِ استُغنيَ فيه بذلك عن بينةٍ شاهدةٍ بعدالتهِ تنصيصاً.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ، وَعَلَيْهِ الاعتمادُ في أصولِ الفقهِ. وممَّنْ ذكرَهُ من أهلِ الحديثِ؛ الخطيبُ، وَمَّثلَ ذلك بمالكٍ، وشعبةَ،

(1/330)


والسفيانَيْنِ، والأوزاعيِّ، والليثِ، وابنِ المباركِ، ووكيعٍ، وأحمدَ، وابنِ معينٍ، وابنِ المدينيِّ، ومَنْ جرى مجراهم في نَباهةِ الذكرِ واستقامة الأمرِ، فلا يُسألُ عن عدالةِ هؤلاءِ، وأمثالهِمِ، وإنّما يُسأل عن عدالةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ على الطالبينَ. انتهى. وقد سُئِلَ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن إسحاقَ بنِ راهويهِ، فقال: مثلُ إسحاقَ يُسألُ عنه؟! وسُئِلَ ابنُ معينٍ عن أبي عُبيدٍ، فقال: مثلي يُسألُ عن أبي عبيد؟! أبو عُبيدٍ يُسألُ عن الناسِ. وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ: الشاهدُ والمُخبِرُ إنمّا يحتاجانِ إلى التزكيةِ متى لم يكونا مشهورينِ بالعدالةِ والرِّضا، وكان أمرُهما مُشْكِلاً مُلتبِسَاً، ومُجوَّزاً فيه العدالةُ وغيرُها. قال: والدليلُ على ذلك أنَّ العلمَ بظهورِ سِتْرِهما. واشتهارُ عدالتهِما أقوى في النفوسِ من تعديلِ واحدٍ واثنينِ يجوز عليهما الكذبُ والمحاباةُ في تعديلِهِ، وأغراضٌ داعيةٌ لهما إلى وصفِهِ بغيرِ صفتِهِ، إلى آخركلامِهِ.
وقولي في وصف مالكٍ: (نجمِ السننِ) ، اقتداءٌ بالشافعيِّ حيث يقولُ: إذا ذُكِرَ الأثرُ فمالكٌ النَّجْمُ.
وقالَ ابنُ عبد البرِّ: كلُّ حاملِ علمٍ معروفِ العِنايةِ به، فهو عدلٌ محمولٌ في أمرهِ أبداً على العدالةِ، حتى يتبينَ جَرْحُهُ. واستدلَّ على ذلك بحديثٍ

(1/331)


رواهُ من طريقِ أبي جعفرٍ العُقيليِّ من روايةِ مُعَان بنِ رِفَاعةَ السَّلاَميِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ، قال: قال النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المُبْطِلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ)) . أوردَهُ العُقيليُّ في
"الضُّعفاءِ" في ترجمةِ مُعَانِ بنِ رِفَاعةَ، وقال: لا يُعرفُ إلا به. ورواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ " الجرحِ والتعديلِ "، وابنِ عَدِيٍّ في مقدّمةِ " الكاملِ "، وهو مرسلٌ أو معضلٌ ضعيفٌ. وإبراهيمُ الذي أرسلَهُ قالَ فيه ابنُ القطّانِ: لا نعرفُهُ البتةَ في شيءٍ من العلمِ غيرَ هذا. وفي كتاب " العلل " للخَلاَّلِ: أنَّ أحمدَ سُئلَ عن هذا الحديثِ، فقيلَ له: كأنَّهُ كلامٌ موضوعٌ؟ فقالَ: لا. هُوَ صحيحٌ. فقيل لَهُ: ممَّنْ سمعتُهُ؟ قال: من غيرِ واحدٍ. قيل له: مَنْ هُم؟ قال: حدّثني به مِسْكِينٌ، إلاّ أنّهُ يقولُ عن مُعَانٍ، عن القاسمِ

(1/332)


بنِ عبدِ الرحمنِ، قال أحمدُ: ومُعَانٌ لا بأسَ بهِ. ووثَّقَهُ ابنُ المدينيِّ أيضاً. قال ابنُ القطّان: وخَفِيَ على أحمدَ من أمرهِ ما علمَهُ غيرُهُ، ثم ذكرَ تضعيفَهُ عن ابنِ معينٍ وأبي حاتِمٍ، والسَّعْديِّ وابنِ عَدِيٍّ، وابن حبانَ. انتهى. وقد وردَ هذا الحديثُ مرفوعاً مسنداً من حديثِ أبي هريرةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وابنِ عُمرَ، وأبي أُمامةَ، وجابرِ بنِ سَمُرةَ - رضي الله عنهم -.

(1/333)


وكلُّها ضعيفةٌ. قال ابنُ عَدِيٍّ: ورواهُ الثقاتُ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العذريِّ، قال: حدّثنا الثقةُ من أصحابِنا أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فذَكَرَهُ. وممَّنْ وافقَ ابنَ عبدِ البرِّ على قولِهِ هذا من المتأخّرينَ: أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ، فقال في كتابِهِ " بُغيةِ النُّقادِ ": وأهلُ العلمِ محمولونَ على العدالةِ حتى يظهرَ منهم خلافُ ذلكَ.
وقولُهُ: (لكنْ خُولفا) ، أي: خُولفَ ابنُ عبدِ البرِّ في اختيارِهِ هذا وفي استدلالهِ بهذا الحديثِ، أما اختيارُهُ فقالَ ابنُ الصلاحِ: فيما قالَهُ اتّساعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ. وأما استدلالُهُ بهذا الحديثِ، فلا يصحُّ من وجهينِ:

(1/334)


أحدُهما: إرسالُهُ وضعفُهُ.
والثاني: أنَّهُ إنّما يصحُّ الاستدلالُ بهِ، أنْ لو كان خبراً، ولا يصحُّ حملُهُ على الخبرِ لوجودِ من يحملُ العلمَ، وهو غيرُ عدلٍ، وغيرُ ثقةٍ، فلم يبقَ له محملٌ إلا على الأمرِ. ومعناهُ أنّهُ أمرَ الثِّقاتِ بحملِ العلمِ؛ لأنَّ العلمَ إنّما يُقبلُ عن الثقاتِ. والدليلُ عَلَى أنّه للأمرِ: أنَّ في بعضِ طُرقِ أبي حاتِمٍ: ((لِيحْمِلْ هَذَا العلمَ)) ، بلامٍ للأمْرِ.

267.... وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِباً ذا الضَّبْطِ ... فَضَابِطٌ، أوْ نَادِراً فَمُخْطِيْ

لمّا تقدّمَ أنهُ لا يقبلُ إلاّ العدلُ الضابطُ، احتيجَ أنْ يذكرَ ما الذي يُعرفُ به ضبطُ الراوي، وذلك بأنْ يُعتبَرَ حديثُهُ بحديثِ الثقاتِ الضابطينَ، فإنْ وافقَهم في روايِتهم في اللفظِ، أو في المعنى، ولو في الغالبِ، عرفنا حينئذٍ كونَهُ ضابطاً، وإن كانَ الغالبُ على حديثِهِ المخالفةَ لهم، وإنْ وافقَهم فنادرٌ، عرفنا حينئذٍ خطأهُ، وعدمَ ضبطِهِ، ولم يحتَجَّ بحديثِهِ

268.... وَصَحَّحُوا قَبُوْلَ تَعْدِيْلٍ بِلاَ ... ذِكْرٍ لأسْبَابٍ لَهُ، أنْ تَثْقُلاَ
269.... وَلَمْ يَرَوْا قَبُوْلَ جَرْحٍ أُبْهِمَا؛ ... لِلْخُلْفِ في أسبَابِهِ، وَرُبَّمَا
270.... اسْتُفْسِرَ الجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ، كَمَا ... فَسَّرَهُ (شُعْبَةُ) بِالرَّكْضِ، فَمَا
271.... هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الأثَرْ ... كـ (شَيْخَيِ الصَّحِيْحِ) مَعْ أهْلِ النَّظَرْ

اختُلِفَ في التعديلِ والجرحِ، هل يقبلانِ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ؟ على أربعةِ أقوالٍ:

(1/335)


الأولُ: وهو الصحيحُ المشهورُ: التفرقةُ بين التعديلِ والجرحِ، فيقبلُ التعديلُ من غيرِ ذكرِ سببِهِ؛ لأنَّ أسبابَهُ كثيرةٌ، فتثقلُ ويشُقُّ ذكرُها؛ لأنَّ ذلكَ يُحوِجُ المُعدِّلَ إلى أنْ يقولَ ليسَ يفعلُ كذا ولا كذا، وَيَعُدُّ ما يجبُ عليه تركُهُ. ويفعلُ كذا وكذا، فيعدُّ ما يجبُ عليه فِعْلُهُ. فيشقُّ ذلك، ويطُولُ تفصيلُهُ. وأما الجرحُ فإنَّهُ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً مُبَيَّنَ السببِ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ، فلا يشقُّ ذِكْرُهُ؛ ولأنَّ الناسَ مختلفونَ في أسبابِ الجرحِ. فيطلقُ أحدُهم الجرحَ بناءً على ما اعتقدَهُ جرحاً، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ، فلا بدَّ من بيانِ سببِهِ، ليَظْهرَ أهو قادحٌ أم لا؟
ويدلُّ على أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ غيرَ مُفَسَّرٍ، أنّهُ ربَّما استُفْسِرَ الجارحُ، فذكرَ ما ليس بجرحٍ.
فقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ جعفرٍ المدائنيِّ، قال: قيل لشعبةَ: لِمَ تركتَ حديثَ فلانٍ؟ قَالَ: رأيتُهُ يركُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ، فتركتُ حديثَهُ.
وقولي في آخرِ البيتِ: (فما) ، أي: فماذا يلزمُ من ركضِهِ على برذونٍ. وروى بنُ أبي حاتِمٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قالَ: أتى شعبةُ المِنْهالَ بنَ عمرٍو، فسمِعَ صوتاً

(1/336)


فترَكَهُ. قال بنُ أبي حاتِمٍ: سمعتُ أبي يقولُ: يعني أنّهُ سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه من أجلِ ذلك. هكذا قالَ أبو حاتِمٍ في تفسيرِ الصوتِ. وقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى وَهْبِ بنِ جريرٍ، قالَ: قالَ شعبةُ: أتيتُ منزلَ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو فسمعتُ منه صوتَ الطُّنْبُورِ، فرجعتُ. فقيلَ له: فهلاَّ سألتَ عنه أنْ لا يَعْلَمَ هو. وروينا عن شعبةَ قال: قلتُ للحكمِ بنِ عُتَيْبةَ: لِمَ لَمْ تروِ عن زَاذانَ؟ قال: كانَ كثيرَ الكلامِ. وقال محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ: حدّثنا جريرٌ قال: رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يبولُ قائماً، فلم أكتبْ عنه. وقد عقدَ الخطيبُ لهذا باباً في " الكفاية ".
والقولُ الثاني: عكسُ القولِ الأولِ، أنّهُ يجبُ بيانُ سببِ العدالةِ، ولا يجبُ بيانُ سببِ الجرحِ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يكثرُ التَّصنُّعُ فِيْهَا، فيبني المُعدِّلُونَ عَلَى الظاهرِ. حكاهُ صاحبُ " المحصولِ "، وغيرُهُ. ونقلَهُ إمامُ الحرمينِ في " البرهانِ "، والغزاليُّ في

(1/337)


" المنخولِ " تَبَعاً له؛ عن القاضي أبي بكرٍ. والظاهرُ أنّهُ وَهْمٌ منهما، والمعروفُ عنه أنّهُ لا يجبُ ذكرُ أسبابِهِما معاً، كما سيأتي.
والقولُ الثالثُ: أنَّهُ لابدَّ من ذكرِ أسبابِ العدالةِ والجرحِ معاً. حكاهُ الخطيبُ، والأصوليونَ، قالوا: وكما قد يجرحُ الجارحُ بما لا يَقْدحُ، كذلك قد يوثّقُ المُعَدِّلُ بما لا يقتضي العدالةَ. كما روى يعقوبُ الفَسَويُّ في " تاريخه "، قال: سمعتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يونسَ: عبدُ اللهِ العمريُّ ضعيفٌ. قال: إنّما يضعّفُهُ رافضيٌّ مبغِضٌ لآبائِهِ، لو رأيتَ لحيتَهُ، وخِضابَهُ، وهيئتَهُ؛ لعرفتَ أنّهُ ثقةٌ. فاستدلَّ أحمدُ بنُ يونسَ على ثقتِهِ بما ليسَ بحجّة، لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يشتركُ فيه العَدْلُ والمجروحُ.
والقولُ الرابعُ: عكسُهُ: أنّهُ لا يجبُ ذكرُ سببٍ واحدٍ منهما، إذا كانَ الجارحُ والمعدِّلُ عالماً بصيراً. وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ، ونقلَهُ عن الجمهورِ فقال: قالَ الجمهورُ من أهلِ العلمِ: إذا جَرَحَ مَنْ لا يعرفُ الجَرْحَ، يجبُ الكشفُ عن ذلكَ. ولم يوجبوا ذلك على أهلِ العلمِ بهذا الشأنِ. قال: والذي يقوِّي عندنا تركُ الكشفِ عن ذلك، إذا كان الجارحُ عالماً، كما لا يجبُ استفسارُ المعدِّلِ عمّا بهِ صارَ عندَهُ المزكّى عدلاً، إلى آخرِ كلامِهِ. وممَّن حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ، الغزاليُّ في "المستصفى" خلافَ ما حكاهُ عنه في " المنخولِ ". وما ذَكَرَهُ عنه في " المستصفى " هو الذي حكاهُ صاحبُ " المحصولِ "، والآمديُّ، وهو المعروفُ عن القاضي، كما رواهُ

(1/338)


عنه الخطيبُ في " الكفايةِ ".
والقولُ الأولُ هو الذي نصَّ عليه الشافعيُّ. وقالَ الخطيبُ: هو الصوابُ عندنا. وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنّهُ الصحيحُ المشهورُ. وحكى الخطيبُ أنّهُ ذهبَ الأئمةُ من حفّاظِ الحديثِ ونقّادِهِ، مثلُ البخاريِّ، ومسلمٍ، وغيرِهما، إلى أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً. قال ابنُ الصلاحِ: وهو ظاهرٌ مقررٌ في الفقِهِ وأُصولِهِ.
272.... فَإنْ يُقَلْ: (قَلَّ بَيَانُ مَنْ جَرَحْ) ... كَذَا إذَا قَالُوا: (لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ)
273.... وَأبْهَمُوا، فَالشَّيْخُ قَدْ أجَابَا ... أنْ يَجِبَ الوَقْفُ إذا اسْتَرَابا
274.... حَتَّى يُبِيْنَ بَحْثُهُ قَبُوْلَهْ ... كَمَنْ أُوْلُو الصَّحِيْحِ خَرَّجُوا لَهْ
275.... فَفي (البُخَارِيِّ) احتِجَاجاً (عِكْرِمَه) ... مَعَ (ابْنِ مَرْزُوْقٍ) ، وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ
276.... وَاحْتَجَّ (مُسْلِمٌ) بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا ... نَحْوَ (سُوَيْدٍ) إذْ بِجَرْحٍ مَا اكتَفَى
277.... قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ (أبُو المَعَاليْ) ... ، واخْتَارَهُ تِلْمِيْذُهُ (الغَزَاليْ)
278.... و (ابْنُ الخَطِيْبِ) : الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا ... أطْلَقَهُ العَالِمْ بِأسْبَابِهِمَا
هذا سؤالٌ أوردَهُ ابنُ الصلاحِ على قولِهِم: إنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً. وكذلك تضعيفُ الحديثِ، فقال: ولقائلٍ أنْ يقولَ: إنّما يعتمدُ الناسُ في جرحِ الرواةِ، وردِّ حديثِهِم، على الكُتُبِ التي صنَّفَها أئمةُ الحديثِ في الجرحِ، أو في الجرحِ والتعديلِ.

(1/339)


وقلَّما يتعرضونَ فيها لبيانِ السببِ، بل يقتصرونَ على مجردِ قولِهم: فلانٌ ضعيفٌ، وفلانٌ ليس بشيءٍ، ونحوُ ذلك. وهذا حديثٌ ضعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونحوُ ذلكَ. فاشتراطُ بيانِ السببِ، يُفضِي إلى تعطيلِ ذلكَ، وسدِّ بابِ الجرحِ في الأغلبِ الأكثرِ. قال: وجوابُهُ أنَّ ذلكَ وإنْ لم نعتمدْهُ في إثباتِ الجرحِ، والحكمِ بهِ، فقد اعتمدناهُ في أنْ توقَّفنا عن قبولِ حديثِ مَنْ قالوا فيه مثلَ ذلك، بناءً على أنَّ ذلك أوقعَ عندنا فيهم رِيبةً قويةً، يوجبُ مثلُها التوقُّفَ. ثم مَنِ انزاحتْ عنه الريبةُ منهم، ببحثٍ عن حالِهِ، أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِهِ؛ قبلنا حديثَه، ولم نتوقَّفْ. كالذينَ احتجَّ بهم صاحِبا " الصحيحينِ "، وغيرُهما ممَّنْ مسَّهم مثلُ هذا الجرحِ من غيرِهم. فافْهَمْ ذلك فإنهُ مَخْلَصٌ حسَنٌ. ولمّا نقلَ الخطيبُ عن أئمّة الحديثِ: أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً، قال: فإنَّ البخاريَّ احتجَّ بجماعةٍ سبقَ من غيرِهِ الطعنُ فيهم، والجرحُ لهم، كعِكْرِمَةَ مولى ابنِ عبّاسٍ في التابعينَ، وكإسماعيلَبنِ أبي أويسٍ، وعاصمِ بنِ عليٍّ، وعمرِو بنِ مَرْزوقٍ في المتأخّرينَ.

(1/340)


قالَ: وهكذا فعلَ مسلمٌ، فإنّهُ احتجَّ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ، وجماعةٍ غيرِهم، اشتَهَرَ عمَّنْ ينظرُ في حالِ الرواةِ الطعنُ عليهم. قالَ: وسلكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ، وغيرُ واحدٍ ممَّنْ بعدَهُ.
وقولي: (إذ بجرح) ، أي: بمطلقِ جرحٍ، وذلك لأنَّ سويدَ بنَ سعيدٍ صدوقٌ في نفسهِ، كما قالَ أبو حاتمٍ، وصالحٌ جزرةُ، ويعقوبُ بنُ شيبةَ وغيرُهم. وقد ضعّفهُ البخاريُّ، والنسائيُّ. فقال البخاريُّ: حديثُهُ منكرٌ. وقال النسائيُّ: ضعيفٌ. ولم يفسِّرِ الجرحَ. وأكثرُ مَنْ فَسَّرَ الجرحَ فيه، ذكرَ أنّهُ لما عَمِي ربَّما تلقّنَ الشيءَ. وهذا وإنْ كانَ قادحاً فإنّما يقدحُ فيما حدّثَ به بعد العَمى، وما حدَّثَ به قبلَ

(1/341)


ذلك فصحيحٌ. ولعلَّ مسلماً إنّما خَرَّجَ عنه ما عُرِفُ: أنَّهُ حدَّثَ به قبلَ عَماهُ. وأما تكذيبُ ابنِ معينٍ له، فإنّه أنكرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ: حديثَ: ((مَنْ عَشِقَ، وعَفَّ)) ، وحديثَ: ((مَنْ قالَ في دِيننا بِرَأيهِ فاقتُلُوهُ)) ، وحديثَهُ عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ، عن عطيّةَ، عن أبي سعيدٍ مرفوعاً: ((الحسنُ والحُسَينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ)) . فقالَ

(1/342)


ابنُ مَعِينٍ: هذا باطلٌ عن أبي معاويةَ. قال الدارقطنيُّ: فلما دخلتُ مِصْرَ، وجدْتُ هذا الحديثَ في مُسندِ المَنْجَنِيْقيِّ، وكان ثقةً، عن أبي كُرَيبٍ، عن أبي معاويةَ، فتخلَّصَ منه سُويدٌ، فأنكرَهُ عليه ابنُ معينٍ؛ لظنِّهِ أنَّهُ تفرّدَ به عن أبي معاويةَ، ولا يحتملُ التفرّدَ، ولم ينفردْ بهِ، وإنّما كذَّبَهُ ابنُ معينٍ فيما تلقّنَهُ آخراً. فنسبَهُ إلى الكذبِ لأجلهِ. ويدلُّ عليه أنَّ محمّدَ بنَ يحيى السُّوسيَّ، قال: سألتُ ابنَ معينٍ، عن سُويدٍ، فقال: فيما حدَّثَكَ فاكتُبْ عنه، وما حدَّثَكَ به تلقيناً فلا. فَدَلَّ هذا على أنّهُ صدوقٌ عندَهُ، أنْكَرَ عليه ما تلقَّنَهُ، واللهُ أعلمُ.
وإنّما روى عنه مسلمٌ لطلبِ العُلوِّ مما صحَّ عندَهُ بنزولٍ. ولم يخرجْ عنه ما انفرَدَ به. وقد قالَ إبراهيمُ بن أبي طالبٍ: قلتُ لمسلمٍ: كيفَ استجزتَ الروايةَ عن سويدٍ في الصحيحِ؟ فقال: ومِنْ أين كنتُ آتي بنسخةِ حفصِ بنِ ميسرةَ؟ وذلك أنَّ مسلماً لم يروِ عن أحدٍ ممَّنْ سمعَ مِنْ حفصِ بنِ ميسرةَ في الصحيحِ، إلا عن سويدِ بنِ سعيدٍ فقط. وقد رَوَى في الصحيحِ عن واحدٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، عن حفصٍ، والله أعلمُ.

(1/343)


وقولي: (قلتُ ... ) إلى آخر البيتينِ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ. وهما ردٌّ على السؤالِ الذي ذكرهُ، وذلك أنَّ إمامَ الحرمينِ، أبا المعَالي الجُوينيَّ، قالَ في كتابِ " البُرهانِ ": الحقُّ أنّهُ إنْ كان المزكّيِّ عالماً بأسبابِ الجرحِ والتعديلِ، اكتفينا بإطلاقِهِ. وإلاّ فلا. وهذا هو الذي اختارَهُ أبو حامدٍ الغزاليُّ، والإمامُ فخرُ الدينِ بنُ الخطيبِ، وقد تقدّم نقلُهُ في شرحِ الأبياتِ التي قبلَ هذهِ عن القاضي أبي بكرٍ، وأنّهُ نقلَهُ عن الجمهورِ. وممَّنْ اختارَهُ أيضاً من المحدّثينَ: الخطيبُ، فقالَ بعدَ أنْ فرّقَ بينَ الجرحِ والتعديلِ في بيانِ السببِ: على أنّا نقولُ أيضاً: إنْ كان الذي يرجعُ إليهِ في الجرحِ عدلاً مرضيّاً في اعتقادِهِ، وأفعالِهِ، عارفاً بصفةِ العدالةِ والجرحِ، وأسبابِهما، عالماً باختلافِ الفقهاءِ في أحكامِ ذلك؛ قُبِلَ قولُهُ فيمَنْ جرحَهُ مجملاً، ولا يُسألُ عَنْ سببهِ.

279.... وَقَدَّمُوا الجَرْحَ، وَقِيْلَ: إنْ ظَهَرْ ... مَنْ عَدَّلَ الأكْثَرَ فَهْوَ المُعْتَبَرْ

إذا تعارضَ الجرحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ. فجرَّحَهُ بعضُهم، وَعدَّلَهُ بعضُهم، ففيهِ ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدُها: أنَّ الجرحَ مقدَّمٌ مطلقاً، ولو كانَ المعدِّلُونَ أكثرَ. ونقلَهُ الخطيبُعن جمهورِ العلماءِ. وقال ابنُ الصلاحِ: إنَّهُ الصحيحُوكذا صحَّحَهُ الأصوليونَ، كالإمامِ فخرِ الدينِ

(1/344)


والآمديِّ؛ لأنَّ مع الجارحِ زيَادةَ علمٍ، لم يطّلعْ عليها المعدِّل؛ ولأنَّ الجارحَ مصدّقٌ للمعدِّل فيما أخبرَ به عن ظاهرِ حالِهِ، إلا أنّهُ يخبرُ عن أمرٍ باطنٍ خَفِي عن المعدِّلِ.
والقولُ الثاني: أنّهُ إنْ كانَ عددُ المعدّلينَ أكثرَ قُدِّمَ التعديلُ. حكاه الخطيبُ في " الكفايةِ "، وصاحبُ " المحصولِ "؛ وذلك لأنَّ كثرةَ المعدّلين تقوِّي حالَهُم، وتوجبُ العملَ بخبرِهم. وقلّةَ الجارحينَ تُضْعِفُ خبرَهُم. قال الخطيبُ: وهذا خطأٌ وبُعْدٌ ممَّنْ توهَّمَهُ؛ لأنَّ المعدِّلين، وإن كثروا ليسُوا يخبرُونَ عن عَدَمِ ما أخبرَ به الجارحُونَ. ولو أخبرُوا بذلكَ لكانتْ شهادةً باطلةً على نفيٍّ.
والقولُ الثالثُ: أنّهُ يتعارضُ الجرحُ والتعديلُ فلا يرجَّحُ أحدُهما، إلاّ بمرجِّحٍ، حكاهُ ابنُ الحاجبِ. وكلامُ الخطيبِ يقتضي نفي هذا القولِ الثالثِ. فإنّهُ قالَ: اتّفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَنْ جَرَّحَهُ الواحدُ والاثنانِ، وعَدَّلَهُ مثلُ عددِ مَنْ جَرَّحَهُ، فإنَّ الجرحَ به أولى. ففي هذهِ الصورةِ حكايةُ الإجماعِ على تقديمِ الجرحِ، خلافَ ما حكاهُ ابنُ الحاجبِ.
وقولي: (الأكثرَ) ، هو في موضعِ الحالِ، وجاءَ معرّفاً، كما قُرِئَ في الشاذِّ قولُهُ تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُ مِنْهَا الأذَلَّ} . على أنَّ (يَخرجُ) : ثلاثيٌّ قاصرٌ، و (الأذلَّ) : في موضعِ الحالِ.

(1/345)


280.... وَمُبْهَمُ التَّعْدِيْلِ لَيْسَ يَكْتَفِيْ ... بِهِ الخَطِيْبُ والفَقِيْهُ الصَّيْرَفِيْ
... وَقِيْلَ: يَكْفِي، نَحْوُ أنْ يُقالا: ... حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، بَلْ لَوْ قَالاَ:
282.... جَمِيْعُ أشْيَاخِي ثِقَاتٌ لَوْ لَمْ ... أُسَمِّ، لاَ يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ
... وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَرُدَّهُ ... مِنْ عَالِمٍ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ

التعديلُ على الإبهامِ من غيرِ تسميةِ المعدَّلِ، كما إذا قال: حدّثني الثقةُ، ونحوَ ذلك، من غيرِ أنْ يسمّيَهُ؛ لا يُكتَفَى به في التوثيقِ، كما ذكرهُ الخطيبُ أبو بكرٍ، والفقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيةِ، وغيرُهم. وحكى ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن أبي حنيفةَ أنّهُ يُقْبَلُ، وهو ماشٍ على قولِ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ، وأولى بالقبولِ. والصحيحُ الأولُ؛ لأنَّهُ وإنْ كان ثقةً عندَهُ، فربَّما لو سمّاهُ لكان ممَّنْ جَرَّحَهُ غيرُهُ بجرحٍ قادحٍ. بل إضرابُهُ عن تَسْمِيتِهِ ريبةٌ تُوْقِعُ تردداً في القلبِ. بل زادَ الخطيبُ على هذا بأنّهُ لو صَرَّحَ بأنَّ جميعَ شيوخِهِ ثقاتٌ، ثم رَوى عمَّنْ لم يسمِّهِ، أنّا لا نعملُ بتزكيتهِ له. قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ ": ((إذا قالَ العَالِمُ كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنه فهو ثقةٌ، وإنْ لم أُسمِّهِ. ثم رَوَى عمَّنْ لم يُسَمِّهِ، فإنّهُ يكونُ مُزَكِّيَاً لهُ. غيرَ أنَّا لا نَعملُ على تزكيتِهِ؛ لجوازِ أنْ نعرفَهُ إذا ذكرَهُ بخلاف العدالةِ)) . نعمْ، إذا قالَ العالمُ: كُلُّ مَنْ أَروي لكم عنه وأُسميهِ فهو عدلٌ مرضيٌّ مقبولُ الحديثِ كان هذا القولُ

(1/346)


تعديلاً لكلِّ مَنْ رَوَى عنه وسمَّاهُ. هكذا جزمَ به الخطيبُ، قال: وكان ممَّنْ سلكَ هذهِ الطريقةَ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ. زادَ البيهقيُّ مع ابنِ مهديٍّ مالكَ بنَ أنسٍ، ويحيى بنَ سعيدٍ القطّانِ. قال: وقد يوجدُ في روايةِ بعضِهم الروايةُ عن بعضِ الضُّعفاءِ لخفاءِ حالِهِ عليهِ، كروايةِ مالكٍ، عن عبد الكريمِ بن أبي المُخَارِقِ.
وفي التعديلِ على الإبهامِ قولانِ آخرانِ:
أحدُهما: أنّهُ يقبلُ مطلقاً، كما لو عيَّنَهُ؛ لأنَّهُ مأمونٌ في الحالتينِ معاً.
القولُ الثاني: وهو ما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن اختيارِ بعضِ المحقّقينَ أنّهُ إنْ كانَ القائلُ لذلك عالماً أجزأَ ذلكَ في حقِّ مَنْ يوافقُهُ في مذهبِهِ كقولِ مالكٍ: أخبرني الثقةُ، وكقولِ الشافعيِّ ذلكَ أيضاً في مواضعَ. وعليه يدلُّ كلامُ ابنِ الصباغِ في " العدّةِ "، فإنّهُ قال: إنَّ الشافعيَّ لم يُورِدْ ذلكَ احتجاجاً بالخبرِ على غيرِهِ، وإنَّما ذَكَرَ لأَصحابهِ قيامَ الحجَّةِ عندَهُ على الحُكْمِ. وقد عرف هو مَنْ رَوَى عنه

(1/347)


ذلك. وقد بَيَّنَ بعضُ العلماءِ بعضَ ما أبهما مِنْ ذلكَ باعتبارِ شيوخِهما. فحيثُ قال مالكٌ: عن الثقةِ -عندَهُ- عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ. فالثقةُ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ. وحيث قالَ: عن الثقةِ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، فقيلَ: الثقةُ عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ، وقيل: الزهريُّ. ذكر ذلك أبو عُمر بنُ عبدِ البرِّ. وقالَ أبو الحسنِ محمدُ بنُ الحسينِ بنِ إبراهيمَ الأثريُّ السجستانيُّ في كتابِ " فضائلِ الشافعيِّ ": سمعتُ بعضَ أهلِ المعرفةِ بالحديثِ يقولُ: إذا قال الشافعيُّ في كتبهِ: أخبرنا الثقةُ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ، فهو ابنُ أبي فُدَيكَ. وإذا قالَ: أخبرنا الثقةُ، عن الليثِ بنِ سعدٍ، فهو يحيى بنُ حَسَّانَ. وإذا قال: أخبرنا الثقةُ، عن الوليدِ بنِ كثيرٍ فهو أبو أسامَةَ. وإذا قال: أخبرنا الثقةُ،

(1/348)


عن الأوزاعيِّ، فهو عمرُو بنُ أبي سَلَمَةَ. وإذا قال: أخبرنا الثقةُ، عن ابنِ جُريجٍ، فهو مسلمُ بنُ خالدٍ. وإذا قالَ: أخبرنا الثقةُ، عن صالحٍ مولى التَّوْأَمَةِ، فهو إبراهيمُ بنُ أبي يحيى.

284.... وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أوْ عَمَلَهُ ... عَلَى وِفَاقِ المَتْنِ تَصْحِيْحَاً لَهُ
... وَلَيْسَ تَعْدِيلاً عَلَى الصَّحِيْحِ ... رِوَايَةُ العَدْلِ عَلَى التَّصْرِيْحِ
أيْ: ولم يَرَوْا فُتيا العالمِ على وفقِ حديثٍ حُكماً منه بصحةِ ذلك الحديثِ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ ذلك منه احتياطاً، أو لدليلٍ آخرَ وافقَ ذلكَ الخبرَ. وأما روايةُ العدلِ عن شيخٍ بصريحِ اسمِهِ، فهلْ ذلكَ تعديلٌ له أم لا؟ فيه ثلاثة أقوالٍ:
أحدُها: أنَّهُ ليس بتعديلٍ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يرويَ عن غيرِ عَدْلٍ. وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ من أهلِ الحديثِ، وغيرِهم. وهو الصحيحُ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ.
والثاني: أنّهُ تعديلٌ مطلقاً؛ إذ لو علمَ فيه جرحاً لذكرَهُ، ولكان غاشاً في الدينِ، لو علِمَهُ ولم يذكرْهُ حكاه الخطيبُ وغيرُهُ. قال أبو بكر الصَّيْرفيُّ: وهذا خطأٌ؛ لأنَّ الروايةَ تعريفٌ لهُ والعدالةُ بالخبرةِ.
وأجاب الخطيبُ: بأنَّهُ قد لا يَعلمُ عدالتَهُ، ولا جرحَهُ.

(1/349)


والثالث: أنّهُ إنْ كانَ ذلكَ العَدْلُ الذي روي عنه لا يَروي إلا عن عدلٍ كانت روايتُهُ تعديلاً، وإلاّ فلا. وهذا هو المختارُ عن الأصوليينَ، كالسيفِ الآمديِّ، وأبي عمرِو بنِ الحاجبِ، وغيرِهما. أما إذا رَوَى عَنْهُ من غيرِ تصريحٍ باسمِهِ، فإنهُ لا يكونُ تعديلاً، بَلْ وَلَوْ عدلهُ عَلَى الإبهامِ لَمْ يكتفِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

286.... وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يُقْبَلُ المَجْهُوْلُ؟ ... وَهْوَ -عَلَى ثَلاَثَةٍ- مَجْعُوْلُ
287.... مَجْهُوْلُ عَيْنٍ: مَنْ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ، ... وَرَدَّهُ الأَكْثَرُ، وَالقِسْمُ الوَسَطْ:
288.... مَجْهُوْلُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ ... وَحُكْمُهُ: الرَّدُّ لَدَى الجَمَاهِرِ،
289.... وَالثَّالِثُ: المَجْهُولُ لِلعَدالَه ... في بَاطِنٍ فَقَطْ. فَقَدْ رَأَى لَه
290.... حُجِّيَّةً-في الحُكْمِ-بَعْضُ مَنْ مَنَعْ ... مَا قَبْلَهُ، مِنْهُمْ (سُلَيْمٌ) فَقَطَعْ
291.... بِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ: إنَّ العَمَلا ... يُشْبِهُ أنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلا
292.... في كُتُبٍ منَ الحَدِيْثِ اشْتَهَرَتْ ... خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ
293.... في بَاطِنِ الأمْرِ، وبَعْضٌ يَشْهَرُ ... ذَا القِسْمَ مَسْتُوْراً، وَفِيْهِ نَظَرُ

اختلفَ العلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ: مجهولِ العينِ، ومجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً، ومجهولِ الحال باطناً.
القسمُ الأولُ: مجهولُ العَيْنِ، وهو مَنْ لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ. وفيه أقوالٌ:
الصحيحُ الذي عليه أكثرُ العلماءِ من أهلِ الحديثِ، وغيرِهم، أنّهُ لا يقبلُ.

(1/350)


والثاني: يقبلُ مطلقاً. وهذا قولُ مَنْ لم يشترطْ في الراوي مزيداً على الإسلامِ.
والثالثُ: إن كان المنفردُ بالروايةِ عنه لا يروي إلا عَنْ عَدْلٍ، كابنِ مهديٍّ، ويحيى بنِ سعيدٍ، ومَنْ ذُكرَ معهُما، واكتفينا في التعديلِ بواحدٍ قُبلَ، وإلاّ فلا.
والرابعُ: إنْ كان مشهوراً في غيرِ العلمِ بالزُّهْدِ، أو النَّجْدةِ قُبلَ، وإلاّ فلا. وهو قولُ ابنِ عبدِ البرِّ، وسيأتي نقلهُ عنه.
والخامسُ: إنْ زَكَّاه أحدٌ من أئمةِ الجرحِ والتعديلِ مع روايةِ واحدٍ عنهُ قُبل، وإلاّ فلا. وهو اختيارُ أبي الحسنِ بنِ القطّانِ في كتابِ " بيان الوهمِ والإيهامِ ".
قال الخطيبُ في " الكفاية ": المجهولُ عند أصحابِ الحديثِ: كُلُّ مَنْ لم يشتهرْ بطلبِ العلمِ في نفسِهِ، ولا عرفَهُ العلماءُ به. ومَنْ لم يُعرفْ حديثُهُ إلاّ من جهةِ راوٍ واحدٍ، مثلُ: عَمْرٍو ذِي مرٍّ، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الهَمْدانيِّ، والهَيْثَمِ بنِ

(1/351)


حَنَشٍ، ومالكِ بنِ أَعزَّ، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ، وقَيْسِ بنِ كُرْكُمٍ، وخَمْرِ بنِ مالكٍ. قال: وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ. ومثلُ: سَمْعانَ بنِ مُشَنَّجٍ، والهَزْهازِ بنِ مَيْزنٍ، لا يُعرفُ عنهما راوٍ إلاّ الشَّعبيُّ. ومثلُ: بَكْرِ بنِ قِرْواشٍ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ، لم يروِ عنهما إلا أبو الطُّفَيلِ عامرُ بنُ واثلةَ. ومثلُ: يزيدَ بنِ سُحَيْمٍ، لم يروِ عنه إلا خِلاَسُ بنُ عَمْرٍو. ومثلُ: جُرَي بنِ كُلَيبٍ، لم يروِ عنه إلا قتادةُ بن دِعَامةَ. ومثلُ: عُمَيرِ بنِ إسحاقَ، لم يروِ عنه سوى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ. وغيرُ من ذَكرنا. وروينا عن محمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ، قال: إذا رَوَى عن المحدِّثِ رجلانِ ارتفعَ عنه اسمُ الجهالةِ. وقال الخطيبُ: أقلُّ ما تُرفعُ به الجهالةُ أن يرويَ عنه اثنانِ فصاعداً، من المشهورينَ بالعلمِ، إلا أنّه لا يثبتُ له حكمُ العدالةِ بروايتهِما عنه. واعترضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الهَزْهازَ رَوَى عنه الثوريُّ أيضاً. قلت: وروى عنه أيضاً الجرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ، فيما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وسمَّى أباهُ مازناً، بالألفِ لا بالياءِ. ولعلَّ بعضَهُم أمالَهُ فكتبَهُ بالياءِ. وخَمْرُ ابنُ مالكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ، وذكرَهُ ابنُ حبّانَ في " الثقاتِ "، وسمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالكٍ، وذكرَ الخلافَ فيه في التَّصْغيرِ والتّكبيرِ ابنُ أبي حاتِمٍ.
وكذلِكَ الهَيْثمُ ابنُ حَنَشٍ رَوَى عنه أيضاً سَلَمةُ بنُ كُهَيْل، قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ. وأما عبدُ اللهِ بنُ أَعزّ، ومالكُ بن أعزَّ، فقد جعلَهُما ابنُ ماكولا واحداً، اختُلفَ على أبي إسحاقَ في

(1/352)


اسمِهِ. وبَكْرُ بنُ قِرْواشٍ روى عنه أيضاً قتادةُ فيما ذكرَهُ البخاريُّ، وابنُ حبّانَ في " الثقاتِ ". وسمَّى ابن أبي حاتم أباهُ قُرَيشاً. وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكرَهُ البخاريُّ في " تاريخه " فقالَ: حِلاَبٌ، أي: بباء موحّدةٍ، وخطَّأهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جمعَ فيهِ أوهامَهُ في " التاريخ "، وقال: ((إنّما هو حَلاَّمٌ)) ، أي: بالميمِ. ثم تعقّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقدّم بأنْ قال: قد خَرَّجَ البخاريُّ حديث جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم: مِرْدَاسٌ الأسلميُّ، لم يروِ عنه غيرُ قَيْسٍ بنِ أبي حازمٍ. وخَرَّجَ مسلمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم: ربيعةُ بنُ كعبٍ الأسلميُّ، لم يروِ عنه غيرُ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ. وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِهِ مجهولاً مردوداً، بروايةِ واحدٍ عنه. والخلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ، نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ.
قلتُ: لم ينفردْ عن مِرْداسٍ قَيْسٌ، بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكرَهُ المزّيُّ في " التهذيبِ "، وفيه نظرٌ. ولم ينفردْ عن ربيعةَ أبو سَلَمةَ، بل رَوَى عنه أيضاً نُعَيْمٌ المُجْمِرُوحَنْظلةُ بنُ عليٍّ. وأيضاً فمِرْداسٌ وربيعةُ من مشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ من أهلِ الشَّجَرَةِ، وربيعةُ من أهل الصُّفَّةِ. وقد ذكرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمدٍ الدِّمَشْقيُّ

(1/353)


في ((جُزْءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقطنيِّ على كتابِ مسلمٍ)) ، فقال: لا أعلمُ رَوَى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالكٍ الجَنْبيِّ أحدٌ غيرُ أبي هانيءٍ، قال: وبروايةِ أبي هانيءٍ وَحْدَهُ لا يرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ، إلا أنْ يكونَ معروفاً في قبيلتهِ، أو يروي عنه أحدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ، فيرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ البرِّ، قال: كُلُّ مَنْ لم يروِ عنه إلا رجلٌ واحدٌ، فهو عندَهم مجهولٌ إلا أنْ يكونَ رجلاً مشهوراً في غيرِ حملِ العلمِ كاشتهارِ مالكِ بنِ دينارٍ بالزُّهْدِ، وعَمْرِو بن مَعْديْ كَرِبَ بالنَّجْدةِ. فشهرةُ هذينِ بالصُّحبةِ عند أهلِ الحديثِ آكدُ في الثقةِ به من مالكٍ وعمرٍو، والله أعلمُ.
والقسمُ الثاني: مجهولُ الحالِ في العدالةِ في الظاهرِ والباطنِ، مع كونِهِ معروفَ العَيْنِ بروايةِ عدلينِ عنه. وفيه أقوالٌ:
أحدُها: وهو قولُ الجماهيرِ، كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ روايتَهُ غيرُ مقبولةٍ.
والثاني: تقبلُ مطلقاً، وإنْ لم تقبلْ روايةُ القسمِ الأولِ. قال ابنُ الصلاحِ: وقد يَقبلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَنْ لا يَقبلُ روايةَ المجهولِ العينِ.

(1/354)


والثالثُ: إنْ كانَ الراويانِ، أو الرواةُ عنه فيهم مَنْ لا يَروِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ، وإلاَّ فلاَ.
والقسمُ الثالثُ: مجهولُ العدالةِ الباطنةِ، وهو عدلٌ في الظاهرِ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ، قال: لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ. وتُفَارِقُ الشهادَةَ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ، ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ. قالَ ابنُ الصّلاحِ: ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم، واللهُ أعلمُ. وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ، وحكى البيهقيُّ في " المدخلِ ": أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ. ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ، قال: وهو المستورُ، فقد قال بعضُ أئمتِنا: المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً. انتهى كلامُه. وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً، ولم يسمِّهِ، هو البغويُّ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في " التهذيبِ "، وتَبِعهُ

(1/355)


عليه الرافعيُّ. وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ. وقالَ النوويُّ في " شرحِ المهذّبِ ": ((إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ)) .
وقولي: (وفيه نظرٌ) ، ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ، فهو من الزوائدِ التي لم تتميَّزْ ووجهُ النظرِ الذي أشرتُ إليهِ هو أنَّ في عبارة الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يقتضي أنَّ ظاهِرَي العدالةِ مَنْ يحكمُ الحاكمُ بشهادتِهِمَا.
فقالَ في جوابِ سؤالٍ أوردَهُ: فلا يجوزُ أنْ يَتركَ الحُكْمَ بشهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ. فعلى هذا لا يُقالُ لمَنْ هو بهذهِ المثابةِ مستورٌ. نَعَمْ، في كلامِ الرافعيِّ في الصومِ أنَّ العدالةَ الباطنةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ المُزَكِّينَ. ونقلَ الرُّوْيَانيُّ في " البَحر " عن نصِّ الشافعيِّ في " الأمِّ ": أنَّهُ لو حضَرَ العقدَ رجلانِ مسلمانِ، ولا يُعرفُ حالُهما من الفِسْقِ والعَدالةِ انعقدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ. قال: لأنَّ الظّاهرَ من المسلمينَ العدالةُ. والله أعلم.

(1/356)


294.... وَالخُلْفُ في مُبْتَدِعٍ مَا كُفِّرَا ... قِيْلَ: يُرَدُّ مُطلَقَاً، وَاسْتُنْكِرَا
295.... وَقْيِلَ: بَلْ إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا ... نُصْرَةَ مَذْهَبٍ لَهُ، وَنُسِبَا
296.... (لِلشَّافِعيِّ) ، إذْ يَقُوْلُ: أقْبَلُ ... مِنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّةٍ مَا نَقَلُوْا
297.... وَالأكْثَرُوْنَ -وَرَآهُ الأعْدَلاَ- ... رَدُّوَا دُعَاتَهُمْ فَقَطْ، وَنَقَلا
298.... فِيهِ (ابْنُ حِبَّانَ) اتِّفَاقاً، وَرَوَوْا ... عَنْ أهْلِ بِدْعٍ في الصَّحِيْحِ مَا دَعَوْا

اختلفوا في روايةِ مبتدعٍ لم يُكفَّرْ في بدعتِهِ، على أقوالٍ:
فقيلَ: تردُّ روايتُهُ مُطلقاً؛ لأنَّهُ فاسقٌ ببدعتِهِ. وإنْ كانَ متأوِّلاً فتردُّ كالفاسقِ مَنْ بغيرِ تأويلٍ، كما استوى الكافرُ المتأوّلُ، وغيرُ المتأوِّلِ.
وهذا يُروَى عن مالكٍ، كما قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ ". وقالَ ابنُ الصَّلاحِ: إنّهُ بعيدٌ مباعِدٌ للشائعِ عن أئمّةِ الحديثِ. فإنَّ كتبَهم طافحةٌ بالروايةِ عن المتبدعةِ غيرِ الدُّعاةِ، كما سيأتي.
والقولُ الثاني: أنَّهُ لم يكنْ ممَّنْ يستحلُّ الكذبَ في نُصرةِ مذهبِهِ، أو لأهلِ مذهبِهِ قُبِلَ، سواءٌ دَعَى إلى بِدْعَتِهِ. أو لا؟ وإنْ كان ممَّنْ يستحلُّ ذلكَ لم يقبلْ، وعزا

(1/357)


الخطيبُ هذا القولَ للشافعيِّ، لقولِهِ: أقبل شَهادةَ أهلِ الأهواءِ، إلاّ الخَطّابيّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ الشهادةَ بالزُّورِ لموافِقِيهم. قالَ: وحُكِي هذا أيضاً عن ابنِ أبي لَيلَى، والثوريِّ، وأبي يوسفَ القاضي. ورَوَى البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ، قال: ما في أهلِ الأهواءِ قومٌ أشهدُ بالزُّورِ من الرَّافِضَةِ.
والقولُ الثالثُ: أنَّهُ إنْ كانَ داعيةً إلى بدعتِهِ، لم يقبلْ، وإنْ لم يكنْ داعيةً قُبِلَ. وإليهِ ذهبَ أحمدُ، كما قالَ الخطيبُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وهذا مذهبُ الكثيرِ، أو الأكثر. وهو أَعدَلُها وأَوْلاَها. قال ابنُ حبّانَ: الداعيةُ إلى البدعِ لا يجوزُ الاحتجاجُ به عند أئمتنا قاطبةً، لا أعلمُ بينهم فيه اختلافاً. وهكذا حَكَى بعضُ أصحابِ الشافعيِّ أنَّهُ لا خلافَ بين أصحابهِ أنّهُ لا يقبلُ الداعيةُ، وإنَّ الخلافَ بينَهم فيمَنْ لم يَدْعُ إلى بدعتِهِ.
فقولي: (وَنَقَلَ فِيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفَاقاً) ، أي: في رَدِّ روايةِ الداعيةِ، وفي قبولِ غيرِ الداعيةِ أيضاً. واقتصرَ ابنُ الصلاحِ على حكايةِ الاتفاقِ عنه في الصورةِ الأولى. وأمَّا

(1/358)


الثانيةُ فإنهُ قال في " تاريخ الثقاتِ " في ترجمةِ جعفرِ بنِ سُليمانَ الضُّبَعيِّ: ليسَ بين أهلِ الحديثِ مِنْ أئمتنا خلافٌ أنَّ الصدوقَ المتقنَ إذا كان فيهِ بدعةٌ، ولم يكن يَدْعُوا إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِهِ جائزٌ. فإذا دَعَى إلى بِدْعَتِهِ سقطَ الاحتجاجُ بأخبارِهِ. وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ لم يحكِه ابنُ الصلاحِ، أنَّهُ تقبلُ أخبارُهم مطلقاً، وإنْ كانوا كفّاراً، أو فُسَّاقاً بالتأويلِ. حكاهُ الخطيبُ عن جماعةٍ من أهلِ النَّقْلِ، والمتكلمينَ.
وقولي: (وَرَآهُ الأعْدَلا) ، أي: ابنُ الصلاحِ. وهي جملةٌ معترضةٌ بينَ المبتدأ والخبرِ. وفي الصحيحينِ كثيرٌ من أحاديثِ المبتدعةِ غير الدُّعاةِ، احتجاجاً واستشهاداً. كعِمرانَ بنِ حِطّانَ، وداودَ بنِ الحُصَينِ، وغيرِهما. وفي " تاريخِ نيسابورَ " للحاكمِ في ترجمةِ محمدِ بنِ يعقوبَ بنِ الأخرمِ أنَّ كتابَ مُسْلِمٍ ملآنٌ من الشِّيعةِ.
وقولي: (وَالخُلْفُ في مُبتَدِعٍ مَا كُفِّرَا) ، احترازٌ عن المبتدعِ الذي يُكَفَّرُ ببدعتِهِ، كالمجسمِةِ إنْ قلنا بتكفيرِهم على الخلافِ فيه. فإنَّ ابنَ الصلاحِ لم يحكِ فيه خلافاً. وحكاهُ الأصوليونَ، فذهب القاضي أبو بكرٍ إلى رَدِّ روايتِهِ مطلقاً، كالكافرِ المخالَفِ،

(1/359)


والمسلمِ الفاسقِ. ونقَلهُ السيفُ الآمديُّ عن الأكثرينَ وبهِ جزمَ أبو عمرِو بنِ الحاجبِ. وقالَ صاحبُ " المحصولِ ": الحقَّ أنّهُ إنِ اعتقَدَ حرمةَ الكذبِ، قَبِلْنَا روايتَهُ، وإلا فلا؛ لأنَّ اعتقادَ حرمةِ الكذبِ يمنعُهُ مِنْهُ، واللهُ أعلمُ.

299.... وَ (لِلحُمَيْدِيْ) وَالإمَامِ (أحْمَدَا) ... بأنَّ مَنْ لِكَذِبٍ تَعَمَّدا
300.... أيْ فِي الحَدِيْثِ، لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ ... وَإنْ يَتُبْ، وَ (الصَّيْرَفِيِّ) مِثْلُهُ
301.... وَأطْلَقَ الكِذْبَ، وَزَادَ: أنَّ مَنْ ... ضُعِّفَ نَقْلاً لَمْ يُقَوَّ بَعْدَ أنْ
302.... وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ، وَ (السَّمْعَانِيْ ... أبُو المُظَفَّرِ) يَرَى فِي الجَانِيْ
303.... بِكَذِبٍ فِي خَبَرٍ إسْقَاطَ مَا ... لَهُ مِنَ الحَدِيْثِ قَدْ تَقدَّمَا

مَنْ تَعمَّدَ كَذِباً في حديثِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهُ لا تُقبلُ روايتُهُ أبداً، وإن تابَ، وحسنُتْ توبَتُهُ، كما قالَهُ غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ، منهم: أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو بكرٍ الحُمَيديُّ.
أمَّا الكذبُ في حديثِ الناسِ، وغيرِهِ من أسبابِ الفِسْقِ. فإنّهُ تقبلُ روايةُ التائبِ منهُ. قال ابنُ الصلاحِ: وأطلقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ الشافعيُّ فيما وَجَدْتُ له في ((شرحِهِ لرسالةِ الشافعيِّ)) فقال: كُلُّ مَنْ أسقطنا خبَرهُ من أهلِ النَّقْلِ بكذبٍ، وجدناهُ عليه، لم نَعُدْ لِقَبُوْلِهِ بتوبةٍ تظهرُ. ومَنْ ضعَّفنَا نقلَهُ لم نجعلْهُ قويّاً بعدَ ذلكَ. وذَكَرَ أنَّ ذلكَ ممَّا افترقَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ. قلتُ: الظاهرُ أنَّهُ إنّما أرادَ الكذبَ في حديثِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا مطلقاً. بدليلِ قولِهِ: من أهلِ النَّقْلِ، أيْ: للحديثِ. ويدلُّ على ذلكَ أنَّهُ قيدَ

(1/360)


ذلك بالمحدِّثِ فيما رأيتُه في كتابِ "الدلائلِ والاعلامِ"، فقال: وليس يطعنُ على المحدِّثِ إلاّ أنْ يقولَ: عَمَدْتُ الكَذِبَ، فهو كاذبٌ في الأوّلِ، ولا يُقبلُخبَرُهُ بعدَ ذلكَ. انتهى.
وقولي: (والصيرفِيِّ) ، هو مجرورٌ عَطْفَاً على قولِهِ: (وللحميديْ) ، وقولي: (بعدَ أنْ) ، أيْ: بعدَ أنْ ضُعِّفَ. فحذفَ لدلالةِ ضُعِّفَ المتقدّمةِ عليهِ. وذكرَ أبو المظفرِ السَّمْعَانيُّ: أنَّ مَنْ كَذَبَ في خبرٍ واحدٍ وجبَ إسقاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حديثِهِ. قال ابنُ الصلاحِ: وهذا يُضاهي مِنْ حيثُ المعنى ما ذكرَهُ الصَّيْرفيُّ.

304.... وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ ... فَقَدْ تَعَارَضَا، وَلَكِنْ كَذِبَهْ
... لاَ تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ، فَقَدْ ... كَذَّبَهُ الآخَرُ، وَارْدُدْ مَا جَحَدْ
306.... وَإنْ يَرُدَّهُ بِـ لاَ أذْكُرُ أوْ ... مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ، فَقَدْ رَأوْا
... الحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ المُعْظَمِ، ... وَحُكِيَ الإسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمِ
308.... كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمِيْنِ إذْ ... نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أُخِذْ
... عَنْهُ، فَكَانَ بَعْدُ عَنْ (رَبِيْعَهْ) ... عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيْهِ لَنْ يُضِيْعَهْ
310.... وَالشَّافِعي نَهَى ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ ... يَرْوِي عَنِ الحَيِّ لخَوْفِ التُّهَمِ

(1/361)


إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثاً فكذَّبَهُ المُرْوَى عنهُ صريحاً، كقولِهِ كَذَبَ عليَّ، أو بنفيٍ جازم، كقولِهِ ما رويتُ هذا لهُ فقدْ تعارضَ قولُهما، فيردُّ ما جحَدَهُ الأصلُ؛ لأنَّ الراوي عنه فرعُهُ ولكن لا يَثْبُتُ كذبُ الفَرْعِ بتكذيبِ الأصلِ له في غيرِ هذا الذي نفاهُ، بحيثُ يكونُ ذلك جرحاً للفرعِ؛ لأنَّهُ أيضاً مُكَذِّبٌ لشَيخِهِ في نَفْيهِ لذلكَ وليسَ قَبولُ جَرْحِ كُلٍّ منهما بأوْلى من الآخرِ فتَساقَطا
وقولي في آخرِ البيتِ كَذِبَهْ، مفعولٌ مقدّمٌ لقولي لاَ تُثْبِتَنْ وقولي وَارْدُدْ مَا جَحَدْ أي اردُدْهُ من حيثُ الفرعُ إذا نفى الأصلُ تحديثَهُ للفرعِ به خاصّةً ولا يردُّ من حيثُ الأصلُ نفسهُ إذا حدَّثَ به، كما صرَّحَ بهِ القاضي أبو بكرٍ فيما حكاهُ الخطيبُ عنه وكذا إذا حَدَّثَ به فرعٌ آخرُ ثقةٌ عنه، ولم يكذبْهُ الأصلُ، فهو مقبولٌ، وهذا واضحٌ أما إذا لم يكذبْهُ الأصلُ صريحاً، ولكنْ قالَ لا أذكرُهُ، أو لا أعْرِفُهُ، ونحوَ ذلكَ ممّا يقتضي جوازَ أنْ يكونَ نَسِيَهُ، فذلكَ لا يقتضي رَدَّ روايةِ الفرعِ عنهُ ومَعَ ذلكَ فقد اختُلفَ فيه هل يكونُ الحكمُ للفرعِ الذاكرِ، أو للأصلِ الناسي؟ فذهبَ جمهورُ أهلِ الحديثِ، وجمهورُ الفقهاءِ، والمتكلِّمينَ إلى قبولِ ذلكَ وأنَّ نسيانَ الأصلِ لا يُسقِطُ العملَ بما نسيَه قال ابنُ الصلاحِ وهو الصحيحُ وذهبَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ إلى إسقاطِهِ بذلك، وحكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في العُدَّة عن أصحابِ أبي حنيفةَ

(1/362)


مثالُهُ حديثٌ رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه من روايةِ ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرحمنِ، عن سُهيلٍ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى باليمينِ معَ الشاهدِ زادَ أبو دوادَ في روايةٍ أنَّ عبدَ العزيزِ الدَّراوَرديَّ، قال فذكرتُ ذلك لسهيلٍ، فقال أخبرني ربيعةُ وهو عندي ثقةٌ أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيّاهُ، ولا أحفظُهُ قالَذذ عبدُ العزيزِ وقدْ كانَ أصابتْ سهيلاً علّةٌ أذهبَتْ بعضَ عقلِهِ، ونسيَ بعضَ حديثِهِ فكانَ سهيلٌ بعدُ يُحدِّثهُ، عن ربيعةَ عنه، عن أبيهِ
ورواهُ أبو داودَ أيضاً من روايةِ سليمانَ بنِ بلالٍ، عن ربيعةَ، قالَ سليمانُ فلقيتُ سهيلاً، فسألتُهُ عن هذا الحديثِ، فقال ما أعرفُهُ فقلتُ لهُ إنَّ ربيعةَ أخبرني بهِ عنكَ قال فإنْ كانَ ربيعةُ أخبركَ عَنِّي، فحدِّثْ به عَنْ ربيعةَ عَنِّي
وقد مَثَّلَ ابنُ الصلاحِبحديثٍ آخرَ، تركتُ التمثيلَ به لما سأذكرُهُ وَهُوَ حديثٌ رواه الثلاثةُ المذكورونَ من روايةِ سليمانَ بنِ موسى، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ رضي اللهُ عنها مرفوعاً إذا نُكِحَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ وَليِّها، فنِكاحُها باطلٌ فذكرَ الترمذيُّ أنَّ بعضَ أهلِ الحديثِ ضعَّفَهُ من أجلِ أنَّ ابنَ جُريجٍ قَالَ ثُمَّ لقيتُ الزهريَّ، فسألتُهُ فأنكَرَهُ

(1/363)


وإنّما تركتُ التمثيلَ بهذا المثالِ؛ لعدم صحةِ إنكارِ الزهريِّ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَ الترمذيُّ بعدَهُ عن ابنِ مَعِينٍ أنَّهُ لَمْ يذكرْ هَذَا الحرفَ عَلَى ابنِ جريجٍ، إلاّ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ قَالَ وسَمَاعُهُ عن ابنِ جريجٍ ليسَ بذاكَ إنّما صَحَّحَ كُتُبَهُ عَلَى كتبِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ، ما سمعَ من ابنِ جُريجٍ وضَعَّفَ يَحْيَى روايةَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ، عن ابنِ جريجٍ وَقَدْ جمعَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ أخبارَ مَنْ حَدَّثَ، ونَسِيَ، مِنْهُمْ الدارقطنيُّ، والخطيبُ، قالَ الخطيبُ في الكفايةِ ولأجلِ أنَّ النسيانَ غيرُ مأمونٍ عَلَى الإنسانِ، فيبادرُ إِلَى جحودِ ما رُوي عَنْهُ، وتكذيبِ الرَّاوِي لَهُ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ من العلماءِ التحديثَ عن الأحياءِ ثُمَّ رَوَى عن الشعبيِّ أنّهُ قَالَ لابنِ عَوْنٍ لا تحدّثْعن الأحياءِ وعن مَعْمَرٍ أنّهُ قالَ لعبدِ الرزاقِ إنْ قَدَرْتَ ألاّ تحدِّثَ عن رجلٍ حيٍّ فافعلْ وعن الشافعيِّ أنَّهُ قَالَ لابنِ عبدِ الحكم إيَّاكَ والروايةَ عن الأحياءِ وفي روايةِ البيهقيِّ في المدخلِ لا تُحدِّثْ عن حيٍّ، فإنَّ الحيَّ لا يؤمَنُ عَلَيْهِ النسيانُ، قالَه لهُ حينَ رَوَى عنِ الشافعيِّ حكايةً فأنكرَها، ثُمَّ ذكرَها

...

(1/364)


وَمَنْ رَوَى بأُجْرَةٍ لَمْ يَقْبَلِ ... (إسْحَاقُ) و (الرَّازِيُّ) و (ابْنُ حَنْبَلِ)
312.... وَهْوَ شَبيْهُ أُجْرَةِ القُرْآنِ ... يَخْرِمُ مِنْ مُرُوْءةِ الإنْسَانِ
... لَكِنْ (أبُوْ نُعَيْمٍ الفَضْلُ) أَخَذْ ... وَغَيْرُهُ تَرَخُّصَاً، فإنْ نَبَذْ
314.... شُغْلاً بِهِ الكَسْبَ أجِزْ إرْفَاقَا، ... أفْتَى بِهِ الشَّيْخُ أبُوْ إسْحَاقا
اختلفوا في قَبولِ روايةِ مَنْ أخذَ على التحديثِ أجراً فذهبَ أحمدُ وإسحاقُ وأبو حاتِمٍ الرازيُّ، إلى أنَّهُ لا يقبلُ ورَخَّصَ في ذلكَ آخرون، منهم أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ، شيخُ البخاريِّ، وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ البغويُّ، فأَخَذُوا العِوَضَ علىالتحديثِ قالَ ابنُ الصلاحِ وذلكَ شبيهٌ بأخْذِ الأُجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِهِ غيرَ أنَّ في هذا مِنْ حيثُ العرفُ خَرْماً للمروءةِ، والظنُّ، يُساءُ بفاعلِهِ، إلاّ أنْ يَقترنَ ذلكَ بعُذرٍ يَنْفِي ذلكَ عنه كمثِل ما حدَّثنيه الشيخُ أبو المُظفّرِ، عن أبيهِ الحافظِ أبي سعدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفضلِ محمدَ بنَ ناصرٍ، ذكرَ أنَّ أبا الحُسينِ بنَ النَّقُوُّرِ فعَلَ ذلكَ لأنَّ الشيخَ أبا إسحاقَ الشّيرازيَّ، أفتاهُ بجوازِ أخذِ الأُجرةِ على التحديثِ؛ لأنَّ أصحابَ الحديثِ كانوا يمنعونَهُ عن الكسبِ لعيالِهِ
فقولي يَخْرِمُ من مروءةِ الإنسانِ، أي أخْذَ الأُجرةِ على التحديثِ، لا على القرآنِ فعلى هذا يكونُ يَخْرِمُ خبراً بعدَ خبرٍ

... وَرُدَّ ذُوْ تَسَاهُلٍ في الحَمْلِ ... كَالنَّوْمِ وَالأدَا كَلاَ مِنْ أصْلِ،
316.... أوْ قَبِلَ التَّلقِيْنَ، أوْ قَدْ وُصِفَا ... بِالمُنْكَرَاتِ كَثْرَةً، أوْ عُرِفَا

(1/365)


.. بِكَثْرَةِ السَّهْوِ، وَمَا حَدَّثَ مِنْ ... أصْلٍ صَحِيْحٍ فَهْوَ رَدٌّ، ثُمَّ إنْ
318.... بُيِّنْ لَهُ غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ، ... سَقَطَ عِنْدَهُمْ حَدِيْثُهُ جُمَعْ
... كَذَا (الحُمَيْدِيُّ) مَعَ (ابْنِ حَنْبَلِ) ... و (ابْنِ المُبَارَكِ) رَأَوْا فِي العَمَلِ
320.... قَالَ وَفيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ إذَا ... كَانَ عِنَادَاً مِنْهُ مَا يُنْكَرُ ذَا
أي: وردوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في سماعِ الحديثِ وتحمُّلِهِ، كالنومِ أي: كمَنْ ينامُ هو، أو شيخُهُ في حالةِ السماعِ، ولا يُبالي بذلك. وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بالتساهُلِ في حالةِ الأداءِ للحديثِ، كأنْ يؤدي لا مِنْ أصلٍ صحيحٍ مُقَابَلٍ على أصلهِ، أو أصلِ شيخِهِ، على ما سيأتي.
وكذا ردُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بقبولِ التَّلقِيْنِ في الحديثِ، وهو أنْ يُلَقَّنَ الشيءَ فيُحدِّثَ بهِ من غيرِ أنْ يَعلمَ أنَّهُ من حديثِهِ. كموسى بنِ دينارٍ ونحوِهِ. وكذلكَ رَدُّوا حديثَ مَنْ كَثُرَتِ المناكيرُ والشواذُّ في حديثِهِ، كما قالَ شعبةُ: لا يجيئكَ الحديثُ الشاذُّ إلا من الرجلِ الشاذِّ. وقيل له أيضاً: مَنْ الذي تُتْرَكُ الروايةُ عنه؟ قال: إذا أكثرَ عن المعروفِ من الروايةِ ما لا يُعرَفُ من حديثِهِ، وأكثرَ الغلط.
وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ في رواياتِهِ إذا لم يحدِّثْ من أصلٍ صحيحٍ.

(1/366)


فقولي: (وما حَدَّثَ مِنْ أصلٍ) ، هو في موضعِ الحالِ، أَيْ: ورُدَّ حديثُ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهْوِ في حالِ كونِهِ ما حدَّثَ مِنْ أصلٍ صحيحٍ. أما إذا حدَّثَ من أصلٍ صحيحٍ فالسماعُ صحيحٌ، وإنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ؛ لأنَّ الاعتمادَ حينئذٍ على الأصلِ، لا على حفظِهِ. قال الشافعيُّ في "الرسالةِ": من كثُرَ غلطُهُ من المحدِّثينَ، ولم يَكُنْ له أصلُ كتابٍ صحيحٍ، لم يُقبلْ حديثُهُ، كما يكونُ مَنْ أكثرَ الغلطَ في الشهاداتِ لم تُقْبَلْ شهادتُهُ.
وقولي: (فهو رَدُّ) ، أي: مردودٌ.
وأمَّا مَنْ أصرَّ على غَلَطِهِ بعدَ البيانِ، فوردَ عن ابنِ المباركِ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، والحُميديِّ، وغيرِهم، أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ، وبُيِّنَ له غلطُهُ، فلم يرجعْ عنه وأصَرَّ على روايةِ ذلك الحديثِ، سقطَتْ رواياتُهُ، ولم يُكتَبْ عنه. قال ابنُ الصلاحِ: وفي هذا نظرٌ، وهو غيرُ مستنْكَرٍ، إذا ظهرَ أنَّ ذلك منه على جِهَةِ العِنَادِ، أو نحوِ ذلكَ. وقالَ ابنُ مهديٍّ لشُعبةَ: مَنِ الذي تَتْركُ الروايةَ عنه؟ قَالَ: إذا تمادَى في غَلَطٍ مُجتمعٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَّهِم نفسَهُ عندَ اجتماعِهِم عَلَى خلافِهِ، أو رجلٌ يُتَّهَمُ بالكذبِ. وَقَالَ ابنُ حبّانَ: إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ، وعَلِمَ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ.

321.... وَأعْرَضُوا فِي هَذِهِ الدُّهُوْرِ ... عَنِ اجتِمَاعِ هَذِهِ الأمُوْرِ
322.... لِعُسْرِهَا، بَلْ يُكْتَفَى بِالعَاقِلِ ... المُسْلِمِ البَالِغِ، غَيْرِ الفَاعِلِ
323.... لِلفِسْقِ ظَاهِراً، وَفِي الضَّبْطِ بأنْ ... يُثْبِتَ مَا رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ
324.... وَأنَّهُ يَرْوِي مِنَ اصْلٍ وَافَقَا ... لأصْلِ شَيْخِهِ، كَمَا قَدْ سَبَقَا
325.... لِنَحْوِ ذَاكَ (البَيْهَقِيُّ) ، فَلَقَدْ ... آلَ السَّمَاعُ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ

(1/367)


أعرضَ الناسُ في هذهِ الأعصارِ المتأخّرةِ، عن اعتبارِ مجموعِ هذهِ الشروطِ لعُسْرِها، وتعذُّرِ الوَفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهليةِ الشيخِ بكونِهِ مُسلِماً بالغاً عاقلاً، غيرَ متظاهرٍ بالفِسْقِ، وما يخرمُ المروءةَ، على ما تقدَّمَ. ويُكتَفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوي بوجودِ سَماعِهِ متثبتاً بخطِّ ثقةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، وبروايتِهِ مِنْ أصلٍ موافقٍ لأصلِ شيخِهِ. وقد سبقَ إلى نحوِ ذلكَ البيهقيُّ لمّا ذكرَ تَوَسُّعَ منْ تَوَسَّعَ في السماعِ مِنْ بعضِ محدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهُم، ولا يُحْسِنُونَ قراءَتَهُ مِنْ كُتُبِهم، ولا يعرفُونَ ما يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أنْ تكونَ القراءةُ عليهم مِنْ أصْلِ سماعِهِم، وذلكَ لتدوينِ الأحاديثِ في الجوامعِ التي جمعَها أئمّةُ الحديثِ. قالَ فَمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جميعِهم، لم يُقْبَلْ منه. ومَنْ جَاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهُم، فالذي يرويهِ لا ينفردُ بروايتِهِ، والحجّةُ قائمةٌ بحديثِهِ، بروايةِ غيرِهِ. والقَصْدُ من روايتِه والسماعِ منه، أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ: حَدَّثَنا، وأخبرنا. وتبقى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمةُ شَرَفاً لِنبيِّنا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلكَ قالَ السِّلَفِيُّ في جزءٍ لهُ جمَعَهُ في "شرطِ القراءةِ": إنَّ الشيوخَ الذينَ لا يَعرفُونَ حديثَهم الاعتمادُ في روايتِهم على الثِّقةِ المقيّدِعنهم لا عليهم. وإنَّ هذا كُلَّهُ توسُّلٌ من الحفّاظِ إلىحفظِ الأسانيدِ، إذ ليسوا من شرطِ الصحيحِ، إلاّ على وجهِ المتابعةِ، ولولا رُخصةُ العلماءِ؛ لما جازتِ الكتابةُ عنهم، ولا الروايةُ إلاّ عن قومٍ منهم دونَ آخرينَ. انتهى. وهذا هو الذي استقرَّ عليه العملُ. قالَ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ "الميزان": العمدةُ في زمانِنا ليسَ على الرواةِ، بل على المحدِّثينَ، والمقيِّدينَ، الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصدقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السَّامِعِيْنَ. قال: ثُمَّ مِنَ المَعلُومِ أنَّهُ لابُدَّ من صَوْنِ الراوي وسَتْرِهِ.

(1/368)


مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ

326.... وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ ... (إِبْنُ أبي حَاتِمِ) إِذْ رَتَّبَهُ
327.... وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا، وَزِدْتُ ... مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ

هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ. وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ " الجرحِ والتعديلِ " طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما، فأَجادَ وأَحسنَ. وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ. وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـ (قُلتُ) ؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.

328.... فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ: مَا كَرَّرْتَهُ ... كَـ (ـثِقَةٍ) (ثَبْتٍ) وَلَوْ أَعَدْتَهُ
329.... ثُمَّ يَلِيْهِ (ثِقَةٌ) أوْ (ثَبْتٌ) اوْ ... (مُتْقِنٌ) اوْ (حُجَّةٌ) اوْ إذا عَزَوْا
330.... الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي ... (لَيْسَ بِهِ بَأسٌ) (صَدُوقٌ) وَصِلِ
331.... بِذَاكَ (مَأَمُوْناً) (خِيَاراً) وَتَلا ... (مَحَلُّهُ الصّدْقُ) رَوَوْا عَنْهُ إلى

(1/369)


332.... الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ ... أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ
333.... وَ (صَالِحُ الْحَدِيْثِ) أَوْ (مُقَارِبُهْ) ... (جَيِّدُهُ) ، (حَسَنُهُ) ، (مُقَارَبُهْ)
334.... صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَاللهْ ... أَرْجُوْ بِأَنْ (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) عَرَاهْ

مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ.
فالمرتبةُ الأُولى: العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه؛ وَهِيَ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ، كقولِهِم: ((ثَبْتٌ حُجَّةٌ)) أو ((ثَبْتٌ حَافظٌ)) أو ((ثقةٌ ثبتٌ)) ، أو ((ثقةٌ مُتْقِنٌ)) أو نحوُ ذَلِكَ. وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم: ثقةٌ ثقةٌ، ونحوِها. وهذا المرادُ بقولي: (وَلَوْ أعدتَهُ) ، أي: لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ " ميزان الاعتدال ". وقولي: (ك‍: ثقةٍ ثبتٍ) ، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ

(1/370)


ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ.
المرتبةُ الثانيةُ: وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ: ((وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى، فإذا قِيلَ للواحدِ: إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ)) . قالَ ابنُ الصلاحِ: ((وكذا إذا قيلَ: ثَبْتٌ أو حُجَّةٌ. وكذا إذا قِيلَ في العَدْلِ: إنَّهُ حافظٌ أو ضابطٌ)) . قالَ الخطيبُ: ((أرفعُ العباراتِ أَنْ يقال: حُجَّةٌ، أو ثقةٌ)) .
المرتبةُ الثالثةُ: قولهُم ليسَ بهِ بأْسٌ، أو لا بأْسَ بِهِ، أو صدوقٌ، أو مأمونٌ، أو خِيَارٌ. وجَعَلَ ابنُ أبي حاتِمٍ وابنُ الصلاحِ هذهِ المرتبةَ: الثانيةَ واقتصرَا فيهَا على قولِهِم: صدوقٌ، أو لا بأْسَ به. وأَدخلا فيها قولَهُم: محلُّهُ الصِّدقُ. وقالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ وينظَرُ فيه. وأَخَّرْتُ هذه اللفظةَ إلى المرتبةِ التي تلي هذهِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ ".
المرتبةُ الرابعةُ: قولُهُم: محلُّهُ الصِّدقُ، أو رَوَوْا عنه، أَو إلى الصِّدْقِ ما هو،

(1/371)


أو شَيْخٌ وَسَطٌ، أو وَسَطٌ، أو شيخٌ، أو صالحُ الحديثِ، أو مُقارَِبُ الحديثِ - بفتحِ الراءِ وكسرِها - كما حكاهُ القاضِي أبو بكرِ بنُ العربيِّ في " شرحِ الترمذيِّ "؛ فلهذا كررتُ هذهِ اللفظةَ في وسطِ البيتِ وآخرِهِ. أو جيدُ الحديثِ، أو حَسَنُ الحديثِ، أو صُوَيْلحٌ، أو صدوقٌ إنْ شاءَ اللهُ، أو أَرجو أنَّه ليس به بأْسٌ، واقتصرَ ابنُ أبي حاتِمٍ في المرتبةِ الثالثةِ من كلامِهِ على قولِهِم: شيخٌ. وقال: هو بالمنْزِلةِ التي قبلَها يُكتَبُ حديثُهُ، وَيُنْظَرُ فيه إلاَّ أنَّهُ دونَهُما واقتصرَ في المرتبةِ الرابعةِ على قولِهم: صالحُ الحديثِ. وقالَ: إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك يُكتَبُ حديثُهُ للاعتَبارِ. ثُمَّ ذَكرَ ابنُ الصلاحِ مِنْ ألفاظهِم على غيرِ ترتيبٍ، قولَهُم: فلانٌ روَى عنهُ الناسُ، فلانٌ وسطٌ، فلانٌ مقارَبُ الحديثِ، فلانٌ ما أعلَمُ به بأساً. قال: وهو دونَ قولِهِم: لا بَأْسَ بهِ.
وأمَّا تَمْييزُ الأَلفاظِ التي زدْتُها على كتابِ ابنِ الصلاحِ، فهي المرتبةُ الأُوْلَى بكمالِها،

(1/372)


وفي المرتبةِ الثالثةِ قولهُم: مأمونٌ خِيَارٌ، وفي المرتبةِ الرابعةِ قولُهُم: فلانٌ إلى الصِّدْقِ مَا هُوَ، وشَيْخٌ وسطٌ، وَوَسَطٌ، وجَيِّدُ الحديثِ، وحَسَنُ الحديثِ، وصُوَيلحٌ، وصَدُوقٌ إِنْ شاءَ اللهُ، وأرجو أَنَّهُ لا بَأْسَ به، وهي نظيرُ ما أعلمُ به بأْساً، والأُوْلَى أَرفَعُ؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ العلمِ حصولُ الرجاءِ بذلكَ.

335.... وَ (ابْنُ مَعِيْنٍ) قال: مَنْ أَقُوْلُ: (لاَ ... بَأْسَ بِهِ) فَثِقَةٌ وَنُقِلاَ
336.... أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ: ... أَثِقَةً كَاَنَ أبو خَلْدَةَ؟ بَلْ
337.... كَانَ (صَدُوْقاً) (خَيِّراً) (مَأْمُوْنَا) ... الثِّقَةُ (الثُّوْرِيُّ) لَوْ تَعُوْنَا
338.... وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وَسَمْ ... ضَعْفاً بِ (صَالِحِ الْحَدِيْثِ) إِذْ يَسِمْ

لمَاَّ تقدمَ أَنَّ لأَِلفاظِ التعديلِ مراتِبَ، وأَنَّ قولَهُم: ((ثقةٌ)) أرفعُ مِنْ ((ليسَ به بأْسٌ)) ؛ ذكرَ بعدَهُ أَنَّ كلامَ ابنِ معينٍ يقتضي التسويةَ بينهما، فإنَّ ابنَ أبي خَيْثَمَةَ قال: قلتُ ليحيى بنِ مَعِينٍ: إنَّكَ تقولُ: فلانٌ ليس بِهِ بَأْسٌ، وفلانٌ ضعيفٌ، قالَ: إذا قلتُ لكَ: ليس به بأْسٌ، فهو ثقةٌ، وإذا قلتُ لكَ: هو ضعيفٌ، فليسَ هو بثقةٍ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((ليسَ في هذا حكايةُ ذلكَ عن غيرِهِ مِنْ أهلِ الحديثِ، فإِنَّهُ نَسَبَهُ إلى نفسِهِ خاصَّةً، بخلافِ ما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ)) .
قلتُ: ولمْ يَقُلِ ابنُ معينٍ: إنَّ قولي: ليسَ بهِ بأْسٌ، كقولي: ثقةٌ، حَتَّى يلزمَ منه

(1/373)


التساوي بينَ اللَّفظَيْنِ، إنَّمَا قالَ: إنَّ مَنْ قالَ فيهِ هذا فهو ثقةٌ، وللثقةِ مراتبُ. فالتعبيرُ عنهُ بقولهِم: ثقةٌ، أرفعُ من التعبيرِ عنهُ بأَنَّهُ لا بأْسَ بِهِ، وإنِ اشتركا في مُطلقِ الثقةِ، واللهُ أعلمُ.
وفي كلامِ دُحَيْم ما يوافقُ كلامَ ابنِ معينٍ، فإنَّ أبا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ قالَ: قلتُ لعبدِ الرحمنِ بنِ إبراهيمَ: ما تقولُ في عليِّ بنِ حَوْشَبٍ الفَزَاريِّ؟ قالَ: لا بأْسَ به. قالَ: قُلْتُ: ولِمَ لا تقولُ: ثقةٌ، ولا نعلمُ إلا خيراً؟ قالَ: قدْ قلتُ لك: إِنَّهُ ثقةٌ. ويدلُ على أَنَّ التعبيرَ بثقةٍ أرفعُ؛ أَنَّ عبدَ الرحمنِ ابنَ مَهْدِيٍّ قالَ: حَدَّثَنَا أبو خَلْدةَ فقيلَ لهُ: أَكان ثقةً؟ فقال: كانَ صدوقاً، وكان مأموناً، وكان خَيِّراً - وفي روايةٍ وكانَ خياراً - الثقةُ: شعبةُ وسفيانُ. فانظرْ كيفَ وصفَ أبا خَلْدةَ بما يقتضي القبولَ،

(1/374)


ثمَّ ذكرَ أَنَّ هذا اللفظَ يُقالُ لِمِثْلِ شُعبةَ وسفيانَ. ونحوُهُ ما حكاهُ الْمَرُّوْذِيُّ قالَ: سألتُ أبا عبدِ اللهِ - يعني: أحمدَ بنَ حنبلٍ - عبدُ الوهابِ بنُ عطاء ثقةٌ؟ قالَ: تدري ما الثِّقَةُ؟! إِنمّا الثِّقَةُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القطانُ.
وقولي: (لَوْ تَعُوْنَا) ، تكملةٌ للوزنِ، أي لو تحفظُونَ مراتبَ الرواةِ. وكانَ ابنُ مَهْدِيٍّ أيضاً - فيما ذكرَ أحمدُ بنُ سِنَانٍ - رُبمَّا جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيه ضَعفٌ، وهو رجلٌ صدوقٌ، فيقولُ: رجلٌ صالحُ الحديثِ، والله أعلم.

مَرَاْتِبُ التَّجْرِيْحِ
339.... وَأَسْوَأُ التَّجْرِيْحِ: (كَذَّابٌ) (يَضَعْ) ... يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ
340.... وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بَالْكَذِبِ ... وَ (سَاقِطٌ) وَ (هَالِكٌ) فَاجْتَنِبِ
341.... وَذَاهِبٌ مَتْرُوْكٌ اوْ فِيْهِ نَظَرْ ... وَ (سَكَتُوْا عَنْهُ) (بِهِ لاَ يُعْتَبَرْ)
342.... وَ (لَيْسَ بِالثِّقَةِ) ثُمَّ (رُدَّا ... حَدِيْثُهُ) كَذَا (ضَعِيْفٌ جِدَّا)
343.... (وَاهٍ بَمَرَّةٍ) وَ (هُمْ قَدْ طَرَحُوْا ... حَدِيْثَهُ) وَ (ارَمِ بِهِ مُطَّرَحُ)
344.... (لَيْسَ بِشَيءٍ) (لاَ يُسَاوِي شَيْئَا) ... ثُمَّ (ضَعِيْفٌ) وَكَذَا إِنْ جِيْئَا

(1/375)


345.... بِمُنْكَرِ الْحَدِيْثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ ... (وَاهٍ) وَ (ضَعَّفُوهُ) (لاَ يُحْتَجُّ بِهْ)
346.... وَبَعْدَهَا (فِيْهِ مَقَالٌ) (ضُعِّفْ) ... وَفِيْهِ ضَعفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ
347.... (لَيْسَ بِذَاكَ بالْمَتِيْنِ بِالْقَوِيْ ... بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِيْ)
348.... لِلضَّعْفِ مَا هُوْ فيْهِ خُلْفٌ طَعَنُوْا ... فِيْهِ كَذَا (سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ)
349.... (تَكَلَّمُوا فِيْهِ) وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ ... مِنْ بَعْدُ شَيْئَاً بِحَدِيْثِهِ اعْتُبِرْ

مراتبُ ألفاظِ التجريحِ على خَمْسِ مراتبَ، وجَعَلَهَا ابنُ أبي حاتِمٍ - وتبِعَهُ ابنُ الصلاحِ - أربعَ مراتبَ:
المرتبةُ الأُولى: وهي أَسوؤُها أَنْ يُقالَ: فلانٌ كذَّابٌ، أو يكذِبُ، أو فلانٌ يضعُ الحديثَ، أو وَضَّاعٌ، أو وَضَعَ حديثاً، أو دَجَّالٌ. وادخلَ ابنُ أبي حاتِمٍ، والخطيبُ بعضَ ألفاظِ المرتبةِ الثانيةِ في هذهِ. قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قالوا: متروكُ

(1/376)


الحديثِ، أو ذاهبُ الحديثِ، أو كذَّابٌ، فهو ساقطٌ، لا يُكتَبُ حديثُهُ)) . وقالَ الخطيبُ: أَدونُ العباراتِ أَنْ يُقالَ: كذَّابٌ ساقِطٌ، وقد فَرَّقْتُ بين بعضِ هذهِ الألفاظِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ ".
المرتبةُ الثانيةُ: فلانٌ مُتَّهَمٌ بالكذبِ، أو الوضعِ، وفلانٌ ساقطٌ، وفلانٌ هالكٌ، وفلانٌ ذاهبٌ، أو ذاهبُ الحديثِ، وفلانٌ متروكٌ، أو متروكُ الحديثِ أو تركوهُ، وفلانٌ فيه نظرٌ، وفلانٌ سكتوا عنه - وهاتانِ العبارتانِ يقولهُمُا البخاريُّ فيمَنْ تركوا حديثَهُ -، فلانٌ لا يُعْتَبَرُ بِهِ، أو لا يُعْتَبَرُ بحديثِهِ، فلانٌ ليسَ بالثقةِ، أو ليسَ بثقةٍ، أو غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ، ونحوُ ذلك.
المرتبةُ الثالثةُ: فلانٌ رُدَّ حديثُهُ، أو رَدُّوا حديثَهُ، أو مردودُ الحديثِ، وفلانٌ ضعيفٌ جِدَّاً، وفلانٌ واهٍ بمرّةٍ، وفلانٌ طرحوا حديثَهُ، أو مُطرَّحٌ، أو مطرَّحُ الحديثِ، وفلانٌ أرمِ بِهِ، وفلانٌ ليس بشئٍ، أو لا شئَ، وفلانٌ لا يُسَاوي شيئاً، ونحوُ ذلك. وكلُّ مَنْ قِيْلَ فيهِ ذلكَ من هذهِ المراتبِ الثلاثِ، لا يُحْتَجُّ بهِ، ولا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، ولا يُعْتَبَرُ بِهِ.

(1/377)


المرتبةُ الرابعةُ: فلانٌ ضعيفٌ، فلانٌ مُنكَرُ الحديثِ، أو حديثُهُ منكرٌ، أو مضطربُ الحديثِ، وفلانٌ واهٍ، وفلانٌ ضَعَّفُوهُ، وفلانٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ.
المرتبةُ الخامسة: ُ فلانٌ فيه مقالٌ، فلانٌ ضُعِّفَ، أو فيه ضَعْفٌ، أو في حديثِهِ ضَعْفٌ، وفلانٌ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ، وفلانٌ ليس بذاك، أو بذاك القويِّ وليس بالمتينِ، وليس بالقويِّ، وليس بحُجَّةٍ، وليسَ بِعُمْدَةٍ، وليس بالمرضِيِّ وفلانٌ للضَّعْفِ ما هو، وفيه خُلْفٌ، وطعنُوا فيهِ، أو مَطْعُوْنٌ فيه، وَسَيِّئُ الحِفْظِ، وَلَيِّنٌ، أو لَيِّنُ الحديثِ، أو فيه لِيْنٌ، وتكلَّمُوا فيهِ، ونحوُ ذلكَ.
وقولي: (وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدُ شَيْئَا) ، أي: مِنْ بعد قولي: (لا يُساوي شيئاً) ، فإنَّهُ يُخَرَّجُ حديثُه للاعتبارِ، وهمُ المذكورون في المرتبةِ الرابعةِ والخامسةِ.
قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إذا أجابوا في رَجُلٍ بأنه ليِّنُ الحديثِ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ، وينظرُ فيه اعتباراً. وإذا قالوا: ليسَ بقويٍّ: فهو بمنْزِلتِهِ في كَتْبِ حديثِهِ، إلاَّ أنَّهُ دونَهُ. وإذا قالوا: ضعيفُ الحديثِ، فَهُوَ دونَ الثاني، لا يُطْرحُ حديثُهُ، بَلْ يُعْتَبَرُ بِهِ. وَقَدْ تقدَّمَ في كلامِ ابنِ مَعِينٍ ما قدْ يخالفُ هَذَا مِنْ أَنَّ مَنْ قالَ فِيْهِ: ضعيفٌ، فليس

(1/378)


بثقةٍ، لا يُكتَبُ حديثُهُ. وتقدَّمَ أَنَّ ابنَ الصلاحِ أجابَ عَنْهُ: بأَنَّهُ لَمْ يَحْكِهِ عن غيرِهِ من أهلِ الحديثِ. وسألَ حمزةُ السَّهْمِيُّ الدَّارَقطنيَّ: أَيْشٍ تريدُ إذا قلْتَ: فلانٌ لينٌ؟ قال: لا يكونُ ساقطاً متروكَ الحديثِ، ولكنْ مجروحاً بشيءٍ لا يُسْقِطُ عن العدالةِ.
وأما تَمْييزُ ما زدْتُهُ من ألفاظِ الجرحِ على ابنِ الصلاحِ، فهي: فلانٌ وضَّاعٌ، ويضعُ، ووضَعَ، ودجَّالٌ، ومتَّهمٌ بالكذِبِ، وهالكٌ، وفيه نظرٌ، وسَكَتُوا عنهُ، ولا يُعتبرُ به، وليس بالثقةِ، ورُدَّ حديثُهُ، وضعيفٌ جِدَّاً، وواهٍ بمرّةٍ، وطرحُوا حديثَهُ، وارمِ بِهِ، ومطَرَّحٌ، ولا يُسَاوِي شيئاً، ومنكرُ الحديثِ وواهٍ، وضعفوهُ، وفيهِ مقالٌ، وضُعِّفَ، وتَعْرِفُ وتُنكرُ، وليس بالمتينِ، وليسِ بحُجَّةٍ، وليس بِعُمْدَةٍ، وليسَ بالمَرْضِيِّ، وللضَّعْفِ ما هوَ، وفيهِ خُلْفٌ، وطعنوا فيه، وسَيِّئُ الحفظِ، وتَكَلَّمُوا فيهِ.
فهذهِ الألفاظُ لم يذكُرْهَا ابنُ أبي حاتِمٍ، ولا ابنُ الصلاحِ، وهي موجودةٌ في كلامِ أئَمةِ أهلِ هذا الشأَنِ، وأشرتُ إلى ذلك بقولي: (وزدْتُ ما في كَلاَمِ أهلِهِ وَجدْتُ) .

مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ، أَوْ يُسْتَحَبُّ؟

350 ... وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمُّلاَ ... فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حُمِّلاَ
351.... ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوْغِ وَمَنَعْ ... قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ (كَالسِّبْطَيْنِ) مَعْ
352.... إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمّْ ... قَبُوْلُهُمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ

(1/379)


مَنْ تحمَّلَ قبلَ دخولهِ في الإسلامِ، وروى بعدَهُ قُبِلَ ذلك منهُ. مثالهُ: حديثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ المتفقُ على صحتِهِ: أَنَّهُ سمعَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأُ في المغربِ بالطُّوْرِ. وكانَ جاءَ في فِدَاءِ أُسَارَى بدرٍ قَبلَ أَنْ يُسْلِمَ. وفي روايةٍ للبُخَاريِّ: وذلكَ أَوَّلُ ما وقرَ الإيمانُ في قلبي. وكذلك تُقْبلُ روايةُ مَنْ سمعَ قبلَ البلوغِ، وَرَوَى بعدَهُ. ومنعَ مِنْ ذلكَ قومٌ هنا، أي: في مسألةِ الصبيِّ، وهوَ خطأٌ مردودٌ عليهم.
وقولي: (كالسِّبْطَيْنِ) ، أي: كروايةِ الحَسنِ والحُسينِ، وغيرهِما، مِمَّنْ تَحَمَّلَ في حالِ صباهُ، كعبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ، والنُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، والسائبِ بنِ يزيدَ، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، ونحوِهم.
وَقبِلَ الناسُ روايتَهُم مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينَ ما تحمَّلُوهُ قبلَ البلوغِ وبعدَهُ. وكذلك كانَ أَهلُ العلمِ يُحضِرُونَ الصِّبيانَ مجالسَ الحديثِ وَيَعْتَدُّوْنَ بروايتِهِمْ بذلكَ بعدَ البلوغِ.

(1/380)


353.... وَطَلَبُ الْحَدِيْثِ فِي الْعِشْرِيْنِ ... عِنْدَ (الزُّبَيْرِيِّ) أَحَبُّ حِيْنِ
354.... وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ (أَهْلُ الْكُوْفَهْ) ... وَالْعَشْرُ فِي (الْبَصْرَةِ) كَالْمَألُوْفَهْ
355.... وَفِي الثَّلاَثِيْنَ (لأَهْلِ الشَّأْمِ) ... وَيَنْبَغِي تَقْيِيْدُهُ بِالْفَهْمِ
356.... فَكَتْبُهُ بالضَّبْطِ، والسَّمَاعُ ... حَيْثُ يَصِحُّ، وَبِهِ نِزَاعُ
357.... فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الحُجَّهْ ... قِصَّةُ (مَحْمُوْدٍ) وَعَقْلُ الْمَجَّهْ
358.... وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ، وَقِيْلَ أَرْبَعَهْ ... وَلَيْسَ فِيْهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
359.... بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا ... مُمَيِّزاً وَرَدُّهُ الْجَوَابَا

حكى أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ " المحدِّثِ الفاصلِ "، عن أبي عبدِ اللهِ الزُّبيريِّ من الشافعيةِ، واسمُهُ الزُّبيرُ بنُ أحمدَ، أَنَّهُ قالَ: يُستحبُ كَتْبُ الحديثِ في العشرينِ؛ لأَنَّها مُجتمعُ العقلِ، قالَ: وأحبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ دونَها بحفِظِ القرآنِ، والفرائِضِ.
وقولي: (في العشرينِ) - بكسر النون - على لغةٍ كقولِ الشاعرِ:
...... ...... ...... وَقَدْ جاوزْتُ حَدَّ الأربعِيْنِ

وقالَ موسى بنُ إسحاقَ: كانَ أهلُ الكوفةِ لا يُخرِجُونَ أولادَهُم في طلبِ الحديثِ صِغَاراً، حَتَّى يستكمِلوا عشرينَ سنةً. وقالَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ: أهلُ البصرةِ يكتبُوْنَ لعشرِ سنينَ، وأهلُ الكوفةِ لعشرينَ، وأهلُ الشَّامِ لثلاثينَ.

(1/381)


وقوليِ: (وَيَنْبَغِي تَقْييدُهُ) ، أي: طلبُ الحديثِ وكتابتُهُ بالضبطِ، وسماعُهُ مِنْ حيثُ يصحُّ. فقولهُ: (والسَّماعُ) ، مرفوعٌ عطفاً على قولهِ: (فكتبهُ) . قال ابنُ الصلاحِ: ((وينبغي بعدَ أَنْ صار الملحوظُ إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ أن يُبَكَّرَ بإسماعِ الصغيرِ في أَولِ زمانٍ يَصِحُّ فيهِ سماعُهُ. وأمَّا الاشتغالُ بِكَتْبِهِ الحديثَ وتحصيلِهِ، وضبطِهِ، وتقييدِهِ، فمن حيثُ يتأهَّلُ لذلكَ ويستعدُ لهُ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ، وليس ينحصرُ في سِنٍّ مخصوصٍ)) . وقولي: (وَبِهِ نِزَاعٌ) ، أي: وفي الوقتِ الذي يصحُ فيه السماعُ نزاعٌ بين العلماءِ، وهي أربعةُ أقوالٍ: أحدُها: ما ذهبَ إليه الجمهورُ أَنَّ أقلَّهُ خمسُ سنينَ. وحكاهُ القاضي عياضٌ في " الإلماع " عن أَهلِ الصنعةِ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: هو الذي استقرَّ عليه عملُ أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ، وحجتُهُم في ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ والنسائيُّ وابنُ ماجه، من حديثِ محمودِ بنِ الرَّبيعِ قالَ: عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ (مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي مِنْ دلوٍ وأنا ابنُ خمسِ سنينَ. بَوَّبَ عليهِ البخاريُّ: متى يصحُّ سماعُ الصغيرِ؟ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: حَفِظَ ذلكَ عنهُ

(1/382)


وهوَ ابنُ أربعِ سنينَ، أو خمسِ سنينَ.
وأثبْتُ هاءَ التأنيثِ في خمسةٍ أو أربعةٍ لإرادةِ الأعوامِ. وأثبْتُ مع حذفِ المعدودِ عَلَى إِحدى اللُّغتيْنِ. وليسَ في حديثِ محمود سُنَّةٌ مُتَّبعةٌ، إذ لا يلزمُ منه أَنْ يُمَيِّزَ كلُّ أَحدٍ تمييزَ محمودٍ، بلْ قد ينقصَ عنه وقدْ يزيدُ. ولا يلزمُ منه ألاَّ يعقِلَ مثلَ ذلكَ وسِنُّهُ أَقلُ من ذلكَ، ولا يلزمُ مِنْ عَقْلِ المَجَّةِ أَنْ يَعْقِلَ غيرَ ذلك مما يسمَعُهُ. والقولُ الثاني من الخلافِ في صحةِ سماعِ الصغيرِ اعتبارُ تمييزِهِ على الخصوصِ، فمتى كانَ يفهمُ الخطابَ، ويردُّ الجوابَ؛ كان سماعُهُ صحيحاً، وإنْ كانَ ابْنَ أقلّ مِنْ خمسٍ وإنْ لم يكنْ كذلك لم يصحَّ، وإنْ زادَ على الخمسِ. وهذا هو الصوابُ، وسيأتي القولانِ الآخرانِ في الأبياتِ التي تلي هذا.

360.... وَقِيْلَ: (لابْنِ حَنْبَلٍ) فَرَجُلُ ... قال: لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ
361.... يَجُوْزُ لاَ فِي دُوْنِهَا، فَغَلَّطَهْ ... قال: إذا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ
362.... وَقِيْلَ: مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ ... فَرَّقَ سَامِعٌ، وَمَنْ لاَ فَحَضَرْ
363.... قال: بِهِ الَحْمَّالُ، وابْنُ الْمُقْرِيْ ... سَمَّعَ لاِبْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ

(1/383)


وممَّا يدلُّ على اعتبارِ التمييزِ في صحةِ سماعِ الصبيِّ، قولُ أحمدَ وقدْ سُئِلَ: مَتَى يصحُّ سماعُ الصبيِّ للحديثِ؟ فقالَ: إذا عَقَلَ وَضَبَطَ. فَذُكرَ لهُ عَنْ رجلٍ أنَّهُ قالَ: لا يجورُ سماعُهُ حَتَّى يكونَ له خمسَ عَشْرَةَ سنةً، فأنكرَ قولَهُ، وقالَ: بئسَ القولُ. وهذا هو القولُ الثالثُ.
والقولُ الرابعُ: وهو قولُ موسى بنِ هارونَ الحمَّالِ، وقد سُئِلَ متى يجوزُ سماعُ الصبيِّ للحديثِ؟ فقالَ: إذا فَرَّقَ بَيْنَ البقرةِ والدابَّةِ، وفي روايةٍ بَيْنَ البَقَرَةِ والحِمَاْرِ. وقولي: (وابنُ الْمُقْرِيْ) هُوَ مبتدأٌ ليسَ معطوفاً عَلَى الحمَّالِ. والذي سمعَ لهُ ابنُ المقرئ هُوَ الْقَاضِي أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ اللَّبانِ الأصبهانيُّ. فروينا عَنْ الخطيبِ قالَ: سمعتُهُ يقولُ: حفِظْتُ القرآنَ ولي خمسُ سنينَ، وأُحْضِرْتُ عِنْدَ أبي بكرِ بنِ المقري، ولي أربعُ سنينَ، فأرادوا أن يُسَمِّعُوا لي فِيْمَا حَضَرْتُ قراءتَهُ، فَقَالَ بعضُهُم: إنَّهُ يصغرُ عَنْ السماعِ! فقالَ لي ابنُ المقرئ: اقرأْْ سورةَ ((الكافرون)) ، فقرأتُها. فقالَ: اقرأْ سورةَ ((التكويرِ)) ، فقرأتها. فقالَ لي غيرُهُ: اقرأْ سورةَ و ((المرسلاتِ)) ، فقرأتها، وَلَمْ أَغلطْ فِيْهَا. فَقَالَ ابنُ المقرئ: سمِّعوا لَهُ والعُهْدَةُ عليَّ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: بَلَغَنَا عنْ إبراهيمَ بنِ سعيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، قالَ: رأيتُ صبيَّاً ابنَ أربعِ

(1/384)


سنينَ، قد حُمِلَ إلى المأمونِ، قد قَرأَ القرآنَ، ونظرَ في الرأيِ، غيرَ أَنّهُ إذا جاع يَبْكي! والذي يَغْلبُ على الظنِّ عدمُ صحةِ هذهِ الحكايةِ، وقد رواها الخطيبُ في الكفايةِ بإسنادِهِ، وفي سَنَدِها أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي، وكان يعتمدُ على حفظِهِ فيهم. وقال الدَّارقطنيُّ: كانَ متساهلاً.

أَقْسَاْمُ التَّحَمُّلِ
وَأَوَّلُهَا: سَمَاْعُ لَفْظِ الشَّيْخِ

364.... أَعْلَى وُجُوْهِ الأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ... وَهْيَ ثَمَانٍ: لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ
365.... كتَاباً او حِفْظاً وَقُلْ: (حَدَّثَنَا) ... (سَمِعْتُ) ، أَوْ (أَخْبَرَنَا) ، (أَنْبَأَنَا)

(1/385)


366.... وَقَدَّمَ (الْخَطِيْبُ) أَنْ يَقُوْلاَ: ... (سَمِعْتُ) إِذْ لاَ يَقْبَلُ التَّأْوِيْلاَ
367.... وَبَعْدَهَا (حَدَّثَنَا) ، (حَدَّثَنِي) ... وَبَعْدَ ذَا (أَخْبَرَنَا) ، (أَخْبَرَنِي)
368.... وَهْوَ كَثْيِرٌ وَ (يَزِيْدُ) اسْتَعْمَلَهْ ... وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ
369.... مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، وَبَعْدَهُ تَلاَ: ... (أَنْبَأَنَا) ، (نَبَّأَنَا) وَقَلَّلاَ
وجوهُ الأخذِ للحديثِ وتحمُّلهِ عن الشيوخِ ثمانيةٌ. فأرفعُ الأقسامِ وأعلاهَا عندَ الأكثرينَ: السماعُ مِنْ لفظِ الشيخِ، سواءٌ حَدَّثَ من كتابِهِ أو حفظهِ بإملاءٍ أو غيرِ إملاءٍ. وقولي: (وقُلْ: حَدَّثَنَا) ، أي: وقُلْ في حالةِ الأداءِ لما سمعتَهُ هكذا من لفْظِ الشيخِ. قال القاضي عياضٌ: لا خلافَ أَنَّهُ يجوزُ في هذا أن يقولَ السامعُ منهُ: حَدَّثَنَا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعتُ فلاناً يقولُ، وقالَ لنا فلانٌ، وذكرَ لنا فلانٌ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: في هذا نظرٌ، وينبغي فيما شاعَ استعمالُهُ من هذهِ الألفاظِ مخصوصاً بما سمعَ من غيرِ لفظِ الشيخِ أن لا يُطْلَقَ فيما سَمِعَ من لفظهِ، لما فيهِ من الإيهامِ، والإلباسِ. قلت: ولم أذكرْ هذا في النَّظْمِ؛ لأنَّ القاضي حكى الإجماعَ على جوازهِ، وهو مُتَّجِهٌ، ولا شكَ أَنَّهُ لا يجبُ على السامعِ أَنْ يُبَيِّنَ هل كان السماعُ من لفظِ الشيخِ أو عَرْضَا؟ نَعَمْ، إطلاقُ أنبأنا بعد أنِ اشتهَرَ استعمالُها في الإجازةِ يؤدي إلى أَنْ يُظنَّ بما أدَّاهُ بها أنَّهُ إجازةٌ فيسقطُهُ مَنْ لا يحتجُ بالإجازةِ فينبغي أن لا تُستعملَ في المتصلِ بالسماعِ، لما حدثَ من الاصطلاحِ. وقال الخطيبُ: أرفعُ العباراتِ: سمعتُ، ثُمَّ حَدَّثَنَا وحَدَّثَني، ثُمَّ أخبرنا،

(1/386)


وهو كثيرٌ في الاستعمالِ، ثم أنبأنا ونبأنا، وهو قليلٌ في الاستعمالِ. وقال أحمدُ بنُ صالحٍ: أخبرنا وأنبأنا دونَ حَدَّثَنَا. وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: أخبرنا أسهلُ من حَدَّثَنَا، حَدَّثَنَا شديدٌ. واستدلَ الخطيبُ على ترجيحِ سمعتُ بأَنَّهُ لا يكادُ أحدٌ يقولُها في أَحاديثِ الإجازةِ، والمكاتبةِ، ولا في تَدْليسِ ما لم يسمعْهُ. واستعملَ بعضهُمُ حَدَّثَنَا في الإجازةِ، ورُوِيَ عن الحسن، قال: حَدَّثَنَا أبو هريرة ويتأوَّلُ: حَدَّثَ أهلَ المدينةِ والحسنُ بها.
قال ابنُ دقيقِ العيدِ: وهذا إذا لمْ يَقُمْ دليلٌ قاطعٌ على أَنَ الحسنَ لم يسمعْ من أبي هريرةَ لم يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إليه. قلتُ: قال أبو زرعةَ، وأبو حاتِم: مَنْ قال عن الحسن حَدَّثَنَا أبو هريرةَ، فقد أخطأ. انتهى. والذي عليهِ العملُ أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منه شيئاً. قال أيوبُ وبَهْزُ بنُ أسدٍ ويونسَ بنُ عبيدٍ وأبو زُرْعَةَ وأبو

(1/387)


حاتِمٍ والترمذيُ والنسائيُ والخطيبُ، وغَيْرُهُم. وزاد يونُسُ ما رآه قَطُّ. وقيل: سمعَ منه، وهو ضعيفٌ. وقال ابنُ القطانِ: واعلمْ أنَّ حَدَّثَنَا ليستْ بنصٍ في أَنَّ قائِلَها سمعَ، ففي مسلمٍ حديثُ الذي يقتلُهُ الدَّجَّالُ، فيقولُ: أنتَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنَا بهِ رسولُ اللهِ (؟ قَالَ: ومعلومٌ أَنَّ ذَلِكَ الرجلَ متأخِّرُ الميقاتِ. انتهى.
فيكونُ مرادُهُ حَدَّثَ أُمَّتَهُ وَهُوَ مِنْهُمْ. وَقَدْ قالَ مَعْمَرٌ: إِنَّهُ الخضرُ، فحينئذٍ لا مانعَ من سماعهِ. وقولي: (ويزيدُ استعمَلَه) ، أي: ويزيدُ بنُ هارونَ وغيرُ واحدٍ استعملَ أخبرَنا فيما سَمِعَهُ من لفظِ الشيخِ. قالَ محمدُ بنُ أبي الفوارسِ: هُشَيْمُ ويزيدُ بنُ هارونَ وعبدُ الرزاقِ؛ لا يقولونَ إلا أخبرنا، فإذا رأيتَ حَدَّثَنَا فهو مِنْ خطأ الكاتبِ. وحكى الخطيبُ: أَنَّ مِمَّنْ كان يفعلُ ذلكَ أيضاً: حمَّادَ بنَ سلمةَ وابنَ المباركِ وهُشيماً وعبيدَ اللهِ بنَ موسى وعمرَو بنَ عَوْنٍ ويحيى بنَ يحيى التَّمِيميَّ

(1/388)


وابنَ رَاهَوَيْهِ وأحمدَ بنَ الفراتِ ومحمّدَ ابنَ أيوبَ الرازيَّيْنِ. وذُكِرَ عَنْ محمدِ بنِ رافعٍ أَنَّ عبدَ الرزاقِ كانَ يقولُ: أخبرنا، حتى قدمَ أحمدُ وإسحاقُ فقالا له: قُلْ حَدَّثَنَا، مما سمعتَ معَ هَؤلاءِ، قالَ: حَدَّثَنَا. وما قبل ذلكَ كانَ يقولُ: أخبرنا. وقالَ ابنُ الصلاحِ بعد حكايةِ كلامِ ابنِ أبي الفوارسِ: - قُلتُ: - وكان هذا كلُّهُ قبلَ أَنْ يشيعَ تخصيصُ أخبرنا بما قُرئَ على الشيخِ.

370.... وَقَوْلُهُ: (قَالَ لَناَ) وَنَحْوُهَا ... كَقُوْلِهِ: (حَدَّثَنَا) لَكِنَّهَا
371.... الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ ... وَدُوُنَهَا (قَالَ) بِلاَ مُجَارَرَهْ
372.... وَهْيَ عَلى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيْ ... لاَ سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوْهُ فِي الْمُضِيْ
373.... أنْ لاَ يَقُوْلَ ذَا بِغَيْرِ مَا سَمِعْ ... مِنْهُ (كَحَجَّاجٍ) وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ
374.... عُمُوْمُهُ عِنْدَ الْخَطيْبِ وَقُصِرْ ... ذَاكَ عَلى الَّذِي بِذَا الوَصْفِ اشْتُهِرْ

(1/389)


قولُ الراوي: قالَ لنا فلانٌ، أو قالَ لي، أو ذَكَرَ لنا، أو ذَكَرَ لِي، ونحوُ ذلك؛ هو من قبيلِ قولِهِ: حَدَّثَنَا فلاَنٌ في أَنَّهُ متصلٌ. لكنَّهُم كثيراً ما يستعملونَ هذا فيما سمعوهُ في حالةِ المذاكرةِ. قال ابنُ الصلاحِ: إنه لائقٌ بهِ وهو بهِ أشبهُ مِنْ حَدَّثَنَا. وخالف أبو عبدِ الله بنُ مَنْدَه في ذلك، فقالَ فيما رويناهُ في جزءٍ له: أَنَّ البخارِيَّ حيثُ قال: قالَ لي فلانٌ، فهو إجازةٌ، وحيثُ قال: قالَ فلانٌ، فهو تدليسٌ، ولم يقبلِ العلماءُ كلامَهُ هذا، وسيأتي كلامُ ابنِ حمْدَانَ بما يخالفُ هذا في كيفيةِ الروايةِ بالمناولةِ والإجازةِ، حيث ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ. ولما ذكرَ أبو الحسنِ بنُ القطانِ تدليسَ الشيوخِ؛ قال: وأَما البخاريُّ فذلك عنه باطلٌ.
ودون هذهِ العبارةِ قولُ الراوي: قال فلانٌ وذكرَ فلانٌ منِ غيرِ ذِكْرِ الجارِ والمجرورِ، وهذا معنى قولي: (بلا مجارَرَه) ، وهو براءَيْنِ، وهذهِ أوضعُ العباراتِ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، ومع ذلك فهي محمولةٌ على السماعِ بالشرطِ المذكورِ في الْمُعَنْعَنِ، وهو إذا عُلِمَ اللُّقِيُّ، أي: وسَلِمَ الراوي من التدليسِ، كما اشترطَ هناكَ وإِنْ لم يذكرْ هنا تبعاً لابنِ الصلاحِ، لا سِيِّما مَنْ عُرِفَ من حالِهِ أَنَّهُ لا يَرْوي إِلا ما سمعَهُ. كحجَّاجِ بنِ محمدٍ الأعورِ، فروى كُتبَ ابنِ جُرَيْجٍ بلفظِ: قالَ ابنُ جريجٍ، فحملَها الناسُ عنه واحتَجُّوا بها، هذا هو المحفوظُ المعروفُ، وخصَّصَ الخطيبُ ذلك بمَنْ عُرِفَ من عادتهِ مثلُ ذلك، فأمَّا مَنْ لا يُعْرَفُ بذلك، فلا يحملِهُ على السماعِ.

(1/390)


الثَّاْنِي: القِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ

375.... ثُمَّ الْقِرَاءَةُ الَّتِي نَعَتَهَا ... مُعْظَمُهُمْ عَرْضَاً سَوَا قَرَأْتَهَا
376.... مِنْ حِفْظٍ او كِتَابٍ او سَمِعْتَا ... والشَّيْخُ حَافِظٌ لمِاَ عَرَضْتَا
377.... أولاَ، وَلَكِنْ أَصْلُهُ يُمْسِكُهُ ... بِنَفْسِهِ، أو ثِقَةٌ مُمْسِكُهُ
378.... قُلْتُ: كَذَا إنْ ثِقَةٌ مِمَّنْ سَمِعْ ... يَحْفَظُهُ مَعَ اسْتِماَعٍ فَاقْتَنِعْ

ثُمَّ القسمُ الثاني منْ أَقسامِ الأخذِ والتحمُّلِ: القراءةُ على الشيخِ، ويسمِّيها أكثرُ المحدِّثينَ عَرْضَاً، بمعنى أَنَّ القارئ يعرضُ على الشيخِ ذلكَ.
وقولي: (سَوَا) - بفتحِ السِّيْنِ وقُصِرَ للضَّرُوْرَةِ - أي: سواءٌ قرأتَ بنفسكَ على الشيخِ من حِفْظِكَ أو من كتابٍ أو سمعتَ بقراءةِ غيرِكَ من كتابٍ أو حفظه أيضاً، وسواءٌ كانَ الشَّيخُ حافظاً لما عرضْتَ أَمْ عَرَضَ غيرك عليهِ، أو غيرَ حافظٍ له، ولكنْ يُمسِكُ أصلَهُ هو أو ثقةٌ غيُره خلافاً لبعضِ الأُصوليينَ فيما إذا لم يُمْسِكْ أصلَهُ بنفسِهِ على ما سيأتي في التفريعاتِ التي بعدَ هذهِ الترجمةِ. وهكذا إنْ كان ثقةٌ من

(1/391)


السامعينَ يحفظُ ما يُقْرَأُ على الشيخِ، والحافظُ لذلك مُستمِعٌ لما يُقْرَأُ غيرُ غافلٍ عنهُ فذاكَ كافٍ أيضاً. ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ هذهِ المسألة الأخيرةَ. والحكمُ فيها مُتَّجِهٌ، ولا فرقَ بينَ إمساكِ الثِّقَةِ لأصلِ الشيخِ وبين حفظِ الثقةِ لما يقرأُ وقد رأيتُ غيرَ واحدٍ من أَهلِ الحديثِ وغيرِهم اكتفى بذلك سواءٌ كانَ الحافظُ هو الذي يقرأُ أو غيرُه.

379.... وَأَجْمَعوُا أَخْذَاً بِهَا، وَرَدُّوا ... نَقْلَ الخِلاَفِ، وَبِهِ مَا اعْتَدُّوا
380.... وَالخَلْفُ فِيْهَا هَلْ تُساوي الأوَّلاَ ... أو دُوْنَهُ أو فَوْقَهُ؟ فَنُقِلاَ
381.... عَنْ (مَالِكٍ) وَصَحبْهِ وَمُعْظَمِ ... (كُوْفَةَ) وَ (الحِجَازِ أَهْلِ الْحَرَمِ)
382.... مَعَ (البُخَارِيِّ) هُمَا سِيَّانِ ... وَ (ابْنُ أبِي ذِئْبٍ) مَعَ (النُّعْمَانِ)
383.... قَدْ رَجَّحَا الْعَرَضَ وَعَكْسُهُ أَصَحّْ ... وَجُلُّ (أَهْلِ الشَّرْقِ) نَحْوَهُ جَنَحْ

... أي: وأجمعُوا على صِحَّةِ الروايةِ بالعَرْضِ، وردُّوا ما حُكِىَ عَنْ بعضِ مَنْ لا يُعتَدُّ بخلافِهِ، أنَّهُ كانَ لا يَرَاها، وهو أبو عاصمٍ النَّبيلُ رواهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ عنه. وروى الخطيبُ عن وكيعٍ قالَ: ما أخذتُ حديثاً قطُّ عَرْضَاً. وعن محمدِ بنِ

(1/392)


سَلامٍ: أَنَّهُ أدركَ مالكَ بنَ أنسٍ، والناسُ يَقْرَؤُونَ عليه فلم يَسْمَعْ منه لِذَلِكَ. وكذلك عبدُ الرحمنِ بنُ سَلاَّمٍ الجُمَحِيُّ لم يكتفِ بذلكَ. فقالَ مالكٌ: أخرجوهُ عَنِّي. وَمِمَّنْ قالَ بصحتِها مِنَ التَّابعينَ: عطاءٌ ونافعٌ وعروةُ والشعبيُّ والزهريُّ ومكحولٌ والحسنُ ومنصورٌ وأيوبُ، ومن الأَئِمَّةِ: ابنُ جريجٍ والثوريُّ وابنُ أبي ذِئْبٍ وشُعبةُ والأئمةُ الأربعةُ وابنُ مهدِيٍّ وشريكٌ والليثُ وأبو عُبيدٍ والبخاريُّ في خَلْقٍ لا يحصَوْنَ كثرةً. واستدلَّ البخاريُّ على ذلك بحديثِ ضِمَامِ بنِ ثعلبةَ.
واختلفوا في القراءةِ على الشيخِ هل تساوي القسمَ الأولَ -وهو السَّماعُ من لفظهِ- أو هي دونَهُ، أو فوقَه؟ عَلَى ثلاثةِ أقوالٍ: فذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ ومعظمُ علماءِ الحجازِ والكوفةِ والبخاريُّ إِلَى التسويةِ بينَهما، وحكاهُ أبو بكرٍ الصيرفيُّ في كتابِ

(1/393)


" الدلائلِ " عن الشافعيِّ، فَقَالَ: وبابُ الحديثِ عندَ الشافعيِّ رحمهُ الله في القراءةِ عَلَى المحدّثِ، والقراءةِ مِنْهُ سواءٌ. وذهبَ ابنُ أبي ذِئْبٍ، وأبو حَنيفةَ النعمانُ بنُ
ثابتٍ، إِلَى ترجيحِ القراءةِ عَلَى الشَّيخِ عَلَى السَّماع ِمن لفظهِ، وحُكِيَ ذلكَ عن مالكٍ أيضاً، حكاهُ عَنْهُ ابنُ فارسٍ، وحكاهُ أيضاً عن ابنِ جُريج ٍوالحسنِ بنِ عمارةَ، ورواهُ الخطيبُ في " الكفاية " عن مالكٍ أيضاً، والليثِ بنِ سعدٍ وشعبةَ وابنِ لهيعةَ ويحيى بنِ سعيدٍ ويحيى بنِ عبدِ اللهِ بنِ بكيرٍ والعباسِ بنِ الوليدِ بنِ
مَزْيَدٍ وأبي الوليدِ وموسى بن داودَ الضبيَّ الخلقانيِّ وأبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سَلاَّمٍ وأبي حاتِمٍ. وذهب جمهورُ أهلِ الشرقِ إِلَى ترجيحِ السماعِ منْ لفظِ الشيخِ على القراءةِ عليهِ، وهو الصحيحُ.

(1/394)


384.... وَجَوَّدُوا فِيْهِ قَرَأْتُ أو قُرِىْ ... مَعْ وَ (أَنَا أَسْمَعُ) ثُمَّ عَبِّرِ
385.... بِمَا مَضَى فِي أولٍ مُقَيِّدَا ... (قِرَاَءةً عَلَيْهِ) حَتَّى مُنْشِدَا
386.... (أَنْشَدَنَا قِرَاَءةً عَلَيْهِ) لاَ ... (سَمِعْتُ) لَكِنْ بَعْضُهُمْ قَدْ حَلَّلاَ
387.... وَمُطْلَقُ التَّحْدِيْثِ وَالإِخْبَارِ ... مَنَعَهُ (أَحْمَدُ) ذُوْ الْمِقْدَارِ
388.... (وَالنَّسَئِيُّ) وَ (التَّمِيْمِيْ يَحْيَى) ... وَ (ابْنُ الْمُبَارَكِ) الْحمِيْدُ سَعْيَا
389.... وَذَهَبَ (الزُّهْرِيُّ) وَ (الْقَطَّانُ) ... وَ (مَالِكٌ) وَبَعْدَهُ (سُفْيَانُ)
390.... وَمُعْظَمُ (الْكُوْفَةِ) وَ (الْحِجَازِ) ... مَعَ (الْبُخَارِيِّ) إلى الْجَوَازِ
391.... وَابْنُ جُرَيِجٍ وَكَذَا الأوزَاعِيْ ... مَعَ (ابْنِ وَهْبٍ) وَ (الإمَامُ الشَّافِعِيْ)
392.... وَ (مُسْلِمٌ) وَجُلُّ (أَهْلِ الشَّرْقِ) ... قَدْ جَوَّزُوا أَخْبَرَنَا لِلْفَرْقِ
393.... وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الإِنْصَافِ ... (للنَّسَئيْ) مِنْ غَيْرِ مَا خِلاَفِ
394.... وَالأَكْثَرِيْنَ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرْ ... مُصْطَلَحاً لأَهْلِهِ أَهْلِ الأَثَرْ

(1/395)


هذا بيانٌ لعبارةِ أداءِ مَنْ سمعَ بالعَرْضِ. وأجودُ العباراتِ فيه أنْ يقولَ قرأتُ على فلانٍ. هذا إِنْ كان هو الذي قَرأَ. فإِنْ سمعَ عليه بقراءةِ غيرهِ قالَ قُرِيء على فلانٍ وأنا أسمعُ، وهذا المرادُ بقولي: (وَجَوَّدُوا) - بالدال - أي: رأوا أجودَ. وقولي: (ثم عَبِّرِ) ، أي: ويلي هذه مِنَ العباراتِ العباراتُ التي مضتْ في القِسْمِ الأولِ مقيّدةً بما تبينَ أنَّ السماعَ عرضٌ، فيقولُ: حَدَّثَنَا فلانٌ بقراءتِي، أو قراءةً عليه، وأنا أسمع وأخبرنا بقراءتي أو قراءةً عليه أو أنبأنا، أو نبأنا فلانٌ بقراءتِي أو قراءةً عليه، أو قالَ لنا فلانٌ قراءةً عليه، أو نحوَ ذلك، حتى استعملوهُ في الإنشادِ، فقالوا: أنشدَنا فلانٌ قراءةً عليه، أو بقراءتِي عليه، ولم يستثنوا مما يجوزُ في القِسْمِ الأول إلا لفظَ سمعتُ فلم يُجَوِّزُوْهَا في العَرْضِ، وقد صَرَّحَ بذلك أحمدُ بنُ صالحٍ فقال: لا يجوزُ أنْ يقولَ: سمعتُ. وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ: إنَّهُ الصحيحُ. قالَ: وقالَ بعضُهم: يجوزُ. وقال القاضي عياضٌ: وهو قولٌ رُوِيَ عَنْ مالكٍ والثوريِّ وابنِ عُيينةَ. والصحيحُ ما تقدَّمَ، وهو المرادُ بقولي: (لا سمعتُ) . فأمَّا إطلاقُ حَدَّثَنَا، وأخبرنا من غيرِ تقييدٍ

(1/396)


بقوله: بقراءتي، أو قراءةً عليه، فقد اختلفوا فيه على مذاهبَ: فَذَهَبَ عبدُ الله بنُ المباركِ، ويحيى بنُ يحيى التميميُّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، والنسائيُّ، فيما حكاه عنه ابنُ الصلاحِ. تبعاً للقاضي عياضٍ إلى مَنْعِ إطلاقِهِما. وقال القاضي أبو بكرٍ: إِنَّهُ الصحيحُ. وحكاهُ الخطيبُ عن ابنِ جُرَيْجٍ، خلافَ ما حكى عنه ابنُ الصلاحِ من التفرقةِ.
قال الخطيبُ: وهو مذهبُ خَلْقٍ كثيرٍ من أصحابِ الحديثِ، وذهبَ أبو بكرِ بنُ شهابٍ الزهريُّ، ومالكٌ، والثَّوريُّ،

(1/397)


وأبو حنيفةَ، وصاحباهُ، وسفيانُ بنُ عيينةَ، ويحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، ومعظمُ الحجازيين، والكوفيينَ، والبخاريُّ، إلى جوازِ إطلاقهِما. ومِمَّنْ ذهبَ إلى أنَّ حَدَّثَنَا وأخبرنا سواءٌ: يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ، ويزيدُ بنُ هارونَ، والنَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، وأبو عاصمٍ النبيلُ، ووهبٌ بنُ جريرٍ، ومالكٌ في أحدِ القولينِ عنه، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وثعلبٌ، والطحاويُّ وصَنَّفَ فيه جزءاً سمعناهُ متصلاً وغيرُهم من أهلِ العلمِ وقد حكاهُ القاضي عياضٌ عن الأكثرينَ وكذا قالَ ابنُ فارسٍ: ذهب إليه أكثرُ علمائِنا، وذهبَ ابنُ جريجٍ، والأوزاعيُّ، والشافعيُّ وأصحابُهُ وابنُ

(1/398)


وَهْبٍ وجمهورُ أهلِ المشرقِ إلى الفرقِ بين اللفظين، فَجَوَّزُوا إطلاقَ: أخبرنا، ولم يُجَوِّزُوا إطلاقَ: حَدَّثَنَا، وعزاهُ محمدُ بنُ الحسنِ التَّمِيْمِيُّ الجوهريُّ في كتابِهِ "الإنصافِ" للنسائيِّ ولأكثرِ أصحابِ الحديثِ، وهو الشائعُ الغالبُ على أهلِ الحديثِ، كما قال ابنُ الصلاحِ وكأنَّهُ اصطلاحٌ للتمييزِ بين النوعينِ.
فقولي: (وبعدَهُ سُفيانُ) ، إشارةٌ إلى أَنّهُ ابنُ عيينةَ، لا الثَّوريُّ؛ لأَنَّ الثَّوريَّ متقدمُ الوفاةِ عَلَى مالكٍ، كَمَا سيأتي في تاريخِ الوفياتِ، وابنُ عيينةَ متأخرٌ، وقولي: (وابنُ جريج) مبتدأٌ وليسَ بمعطوفٍ.

395.... وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَا أَعَادَا ... قِرَاءَةَ الصَّحِيْحِ حَتَّى عَادَا
396.... فِي كُلِّ مَتْنٍ قَائِلاً: (أَخْبَرَكَا) ... إِذْ كَانَ قال أوَّلاً: (حَدَّثَكَا)
397.... قُلْتُ وَذَا رَأْيُ الَّذِيْنَ اشْتَرَطُوا ... إِعادَةَ اْلإِسْنَادِ وَهْوَ شَطَطُ
أي: وبعضُ مَنْ قالَ بالفرقِ بينَ اللَّفْظَيْنِ، وهو أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ يعقوبَ الهرويُّ، فيما حكاهُ البَرْقانيُّ عنهُ؛ أَنَّهُ قرأَ على بعضِ الشيوخِ عِن الفِرَبْرِيِّ صحيحَ البخاريِّ، وكان يقولُ لهُ في كلِ حديثٍ حدَّثَكُم الفِرَبْرِيُّ، فلمَّا فَرَغَ من الكتابِ سَمِعَ الشيخَ يذكرُ أنَّهُ إنَّمَا سَمِعَ الكتابَ من الفِرَبْرِيِّ قراءةً عليه، فأَعادَ قراءةَ الكتابِ كُلِّهِ، وقالَ لهُ في جميعهِ: أخبرَكُم الفِرَبْرِيُّ، قلتُ: وكأَنَّهُ كانَ يرى أَنَّهُ لابُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّنَدِ في كُلِّ

(1/399)


حديثٍ، وإنْ كانَ الإسنادُ واحداً إلى صاحبِ الكتابِ، وهو من مذاهبِ أهلِ التشديدِ في الروايةِ، وإلاَّ لاكتفى بقولهِ لهُ: أخبرَكُم الفِرَبْرِيُّ بجميعِ صحيحِ البخاريِّ. والصحيحُ أنَّهُ لا يحتاجُ إلى إعادةِ السَّنَد في كلِّ حديثٍ على ما سيأتي في موضوعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

تَفْرِيْعَاتٌ

398.... وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَمْسَكَ الأَصْلَ رِضَا ... وَالشَّيْخُ لاَ يَحْفَظُ مَا قَدْ عُرِضَا
399.... فَبَعْضُ نُظَّارِ الأُصُوْلِ يُبْطِلُهْ ... وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثْيِنَ يَقْبَلْهْ
400.... وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَإِنْ لَمْ يُعْتَمَدْ ... مُمْسِكُهُ فَذَلِكَ السَّمَاعُ رَدّْ
إذا كانَ الشيخُ الذي يُقْرَأُ عليه عَرْضَاً لا يحفظُ ذلك المقروءَ عليهِ، فإنْ كانَ أصلُهُ بيدِهِ، فالسَّماعُ صحيحٌ -كما تَقَدَّمَ- وإنْ كانَ القارئُ يقرأُ في أصلِهِ فهوَ صحيحٌ أيضاً، خلافاً لبعضِ أهلِ التشديدِ في الروايةِ. وإِنْ لَمْ تكنِ القراءةُ من الأَصلِ، ولكنَّ الأصلَ يُمسكُهُ أحدُ السامعينَ الثقاتِ، فاختلفوا في صحةِ السماعِ. فحكى القاضي عياضٌ: أنَّ القاضي أبا بكرٍ الباقلانيَّ تردَّدَ فيهِ. قالَ: وأكثرُ ميلِهِ إلى المنعِ. قال: وإليهِ نَحَا الجوينيُّ، يَعني: إمامَ الحرمينِ قالَ: وأجازَهُ بعضهُمْ، وصحَّحَهُ. وبهذا عملَ كافةُ الشيوخِ وأهلُ الحديثِ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّه المختارُ. أمَّا إذا كانَ المُمْسِكُ للأصلِ، والحالةُ هذه لا يُعتَمَدُ عليه ولا يُوْثَقُ به، فذلك السماعُ مردودٌ غيرُ مُعْتَدٍّ بِهِ.

(1/400)


401.... وَاخْتَلَفُوا إنْ سَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ ... يُقِرَّ لَفْظَاً، فَرآهُ الْمُعْظَمْ
402.... وَهْوَ الصَّحِيْحُ كَافِيَاً، وَقَدْ مَنَعْ ... بَعْضُ أولي الظَّاهِرِ مِنْهُ، وَقَطَعْ
403.... بِهِ (أبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ الرَّازِي) ... ثُمَّ (أبُو إِسْحَاقٍ الشِّيْرَازِيْ)
404.... كَذَا (أبُو نَصْرٍ) وَقال: يُعْمَلُ ... بِهِ وَألْفَاظُ الأَدَاءِ الأَوَّلُ
إذا قَرأَ القارئُ على الشَّيخِ، وسكتَ الشَّيخُ على ذلكَ، غيَر مُنْكِرٍ له مع إِصغائِهِ، وفهمِهِ، وَلمَ يُقِرَّ باللفظِ بقوله: نَعَمْ وما أشبهَ ذلك، فذهبَ جمهورُ الفقهاءِ، والمحدِّثِيْنَ، والنُّظَّارِ؛ - كَمَا قَالَ الْقَاضِي عياضٌ - إِلَى صحةِ السماعِ، وأَنَّ ذَلِكَ غيرُ شرطٍ، وقالَ: إنَّهُ الصحيحُ. قالَ: وشَرَطَهُ بعضُ الظاهريةِ. وبه عملَ جماعةٌ من مشايخِ أهلِ الشرقِ. وَقَالَ ابنُ الصلاحِ: وقَطَعَ بهِ أبو الفتحِ سُليمُ الرازيُّ، والشَّيخُ أبو إسحاقَ الشِّيْرَازيُّ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيِّينَ. قَالَ ابنُ الصباغِ: وله أَنْ يعملَ بِمَا قُرِئَ عليهِ، وإذا أرادَ روايتَهُ عنهُ، فليس لَهُ أَنْ يَقُوْل: حَدَّثَنِي، ولا أَخْبَرَنِي، بَلْ قرأتُ عَلَيْهِ، أو قُرِئَ عليهِ وَهُوَ يسمعُ. وهذا المرادُ بقولي: (وأَلْفَاظُ الأَدَاءِ الأُوَّلُ) ، أي: ويعبرُ في الأداءِ بالرتبةِ الأولى من الأداءِ في العَرْضِ، وَهُوَ ما تَقدَّمَ مِنْ قولي: (وجَوَّدُوْا فيهِ قرأتُ أوقُرِيْ) . وما قالَهُ ابنُ الصَّبَّاغِ من أَنَّهُ لا يُطْلِقُ فيهِ حَدَّثَنَا ولا أخبرنا

(1/401)


هو الذي صحَّحَهُ الغزاليُّ وحكاهُ الآمديُّ عن المتكلمِيْنَ وصحَّحَهُ. وحَكَى الآمديُّ تجويزَهُ عن الفقهاءِ والمحدِّثِيْنَ، وصححهُ ابنُ الحاجبِ وحكى عن الحاكمِ أنه مذهبُ الأَئمةِ الأربعةِ. وإِنْ أشارَ الشيخُ برأسِهِ أو أصبُعِهِ للإقرارِ بهِ، ولم يتلفَّظْ، فجزمَ صاحبُ " المحصولِ ": بأَنَّهُ لا يَقولُ في الأَداءِ: حَدَّثَنِي ولا أخبرني ولا سمعْتُ، وفيهِ نظرٌ.

405.... وَالْحَاْكِمُ اخْتَارَ الَّذِي قَدْ عَهِدَا ... عَلَيْهِ أَكْثَرَ الشُّيُوْخِ فِي الأَدَا
406.... حَدَّثَنِي فِي الْلَفْظِ حَيْثُ انْفَرَدَا ... وَاجْمَعْ ضَمِيْرَهُ إذا تَعَدَّدَا
407.... وَالْعَرْضِ إِنْ تَسْمَعْ فَقُلْ أَخْبَرَنَا ... أو قَارِئَاً (أَخْبَرَنِي) واسْتُحْسِنا
408.... وَنَحْوُهُ عَنِ (ابْنِ وَهْبٍ) رُوِيَا ... وَلَيْسَ بِالْوَاجِبِ لَكِنْ رُضِيَا

هذا بيانٌ لأَلفاظِ الأَداءِ التي ينبغي استعمالُها بحسَبِ تحملِ الحديثِ. قالَ الحاكمُ: الذي أَخْتَارُهُ في الروايةِ وعهدْتُ عليهِ أكثرَ شُيوخي وأَئِمَّةَ عصرِي، أَنْ يقولَ في الذي

(1/402)


يأْخذُهُ من المحدِّثِ لفظاً، وليسَ معهُ أَحدٌ: حَدَّثَنِي فلانٌ، وما كانَ مَعَهُ غيرُه: حَدَّثَنَا فلانٌ. وهذا معنى قولي: (واجْمَعْ ضَمِيرَه إذا تَعَدَّدَا) . قالَ الحاكمُ: وما قُرِئَ على المحدِّثِ بنفسِهِ: أخبرني فلانٌ، وما قُرِئَ على المحدِّثِ وهو حاضرٌ: أخبرنا فلانٌ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وهوَ حَسَنٌ رائِقٌ. ورَوَى الترمذيُّ في " العللِ " عن ابنِ وَهْبٍ قالَ: ما قلتُ: حَدَّثَنَا فهو ما سمعتُ مع الناسِ، وما قلتُ: حَدَّثَنِي فهو ما سمعتُ وحدي. وما قلتُ: أخبرنا فهو ما قُرِئَ على العالِمِ وأنا شاهدٌ. وما قلتُ: أخبرني فهو ما قرأتُ على العالمِ. وفي كلامِ الحاكمِ وابنِ وَهْبٍ أَنَّ القارئَ يقولُ: أخبرني سواءٌ سمعَ معهُ غيرُه، أَم لا. وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ في " الاقتراحِ": إنَّ القارئَ إذا كانَ مَعَهُ غيرُهُ يقولُ: أخبرنا فسوَّى بينَ مسألَتي التَّحْدِيثِ والإخبارِ في ذلكَ. ثُمَّ إِنَّ هذا التفصيلَ في أَلفاظِ الأَداءِ ليسَ بواجبٍ، ولكنَّهُ مستحبٌ، حكاهُ الخطيبُ عن أَهلِ العلمِ كافةً. فجائزٌ لِمَنْ سَمِعَ وحدَهُ أنْ يقولَ: أخبرنا وحَدَّثَنَا ولِمَنْ سَمِعَ معَ غيرهِ أَنْ يقولَ: أخبرني وحَدَّثَنِي، ونحوَ ذلكَ.

409.... وَالشَّكُ فِي الأَخْذِ أكَانَ وَحْدَهْ ... أو مَعْ سِوَاهُ؟ فَاعِتَبارُ الْوَحْدَهْ
410.... مُحْتَمَلٌ لَكِنْ رأى الْقَطَّانُ ... اَلْجَمْعَ فِيْمَا أوْ هَمَ الإِْنْسَانُ
411.... فِي شَيْخِهِ مَا قَالَ وَالْوَحْدَةَ قَدْ ... اخْتَارَ فِي ذَا الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَمَدْ

(1/403)


إذا شكَّ الراوي هلْ كانَ وحدَهُ حالةَ التحمُّلِ فيقولُ في الأَداءِ: حَدَّثَنِي، أو كانَ معهُ غيرُهُ، فيقولُ: حَدَّثَنَا؟! فيحتملُ أَنْ يُقالَ: يؤدى بلفظِ مَنْ سَمِعَ وحدَهُ؛ لأَنَّ الأصلَ عدمُ غيرِهِ. أَمَّا إذا شكَّ في تحمَّلِهِ هلْ هوَ مِنْ قَبيلِ: أَخبرنا، أو أَخْبَرَنِي؟ فقدْ جمعها ابنُ الصلاحِ معَ مسألةِ الشكِّ هلْ هوَ من قبيلِ: حَدَّثَنَا، أو حَدَّثَنِي؟! وأنه يحتملُ أن يقولَ: أخبرني؛ لأَنَّ عدمَ غيرهِ هو الأصلُ. وفيه نظرٌ؛ لأَنَّ قبيلَ أخبرني أن يكونَ هو الذي قَرَأَ بنفسِهِ على الشيخِ على ما ذكرهُ ابنُ الصلاحِ، وعلى هذا فهو يتحقَّقُ سماعَ نفسِهِ، ويشكُّ هل قَرَأَ بنفسِهِ أم لا؟ والأصلُ: أنَّهُ لَمْ يقرَأْ. وَقَدْ حَكَى الخطيبُ في " الكفايةِ " عن البَرْقانيِّ: أَنَّهُ ربُّما شَكَّ في الحديثِ هَلْ قرأَهُ هُوَ أو قُرِئَ وَهُوَ يَسْمَعُ فيقولُ فيهِ: قرأْنَا عَلَى فلانٍ؟! وهذا حَسَنٌ فإِن إِفرادَ الضميرِ يقتضي قراءَتَهُ بنفسِهِ، وجَمْعُهُ يُمكنُ حَمْلهُ على قراءةِ بعضِ مَنْ حَضَرَ لسماعِ الحديثِ، بل لو

(1/404)


تحققَ أَنَّ الذي قَرَأَ غيرُهُ فلا بأْسَ أَنْ يقولَ: قرأْنَا. قالَهُ أحمدُ بنُ صالحٍ حين سُئِلَ عنهُ. وقال النُفَيْليُّ: قرأْنَا على مالكٍ، وإنَّما قُرِئَ على مالكٍ، وهو يَسمَعُ.
وأما مسألةُ الشكِّ هلْ هوَ من قَبِيلِ: حَدَّثَنَا أو حَدَّثَنِي، فقدْ رأَى يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ: الإتيانَ بضميرِ الجمعِ حَدَّثَنَا في مسألةٍ تُشْبِهُهَا، وهيَ إذا شكَّ في لفظِ شيخِه، هلْ قالَ: حَدَّثَنِي أو حَدَّثَنَا؟ ومقتضاهُ هنا أَنْ يقولَ: حَدَّثَنَا، وكَأَنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ حَدَّثَنِي أَكملُ مرتبةً فيُقتصَرُ في حالةِ الشكِّ على الناقصِ، وقدِ اختارَ البيهقيُّ - بعد حكايتِهِ كلامَ ابنِ القَطَّانِ -: أَنَّهُ يوحِّدُ فيقولُ: حَدَّثَنِي. وقولي: (فيما أوهَمَ) ، أي: شَكَّ، ومنهُ حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: ((إذا أَوهَمَ أَحدُكُم في صلاتِهِ فلم يَدْرِ أَزادَ أو نَقَصَ، ... )) الحديثَ. وقالَ ثعلبٌ: أوهَمَ: تَرَكَ. وهذا لا يمشي في هذا الحديثِ، وحَكَى صاحبُ " المُحْكَمِ " عن ابنِ الأَعرابيِّ، قالَ: أوهَمَ وَوَهَم سواءٌ، وأَنشدَ:

(1/405)


فَإنْ أخْطَأْتُ أَوْ أوهَمْتُ شَيْئَاً ... فَقَدْ يَهِمُ المُصَافِيْ بالحبَيِبِ

وقال: قولُهُ: (شيئاً) منصوبٌ على المصدرِ.

412.... وَقَالَ (أَحْمَدُ) : اتَّبِعْ لَفْظَاً وَرَدْ ... لِلشَّيْخِ فِي أَدَائِهِ وَلاَ تَعَدْ
413.... وَمَنَعَ الإبْدَالَ فِيْمَا صُنِّفَا ... - الشَّيْخُ - لَكِنْ حَيْثُ رَاوٍ عُرِفَا
414.... بِأَنَّهُ سَوَّى فَفِيْهِ مَا جَرَى ... فِي النَّقْلِ باِلْمَعْنَى، وَمَعْ ذَا فَيَرَى
415.... بِأَنَّ ذَا فِيْمَا رَوَى ذُو الطَّلَبِ ... بِالْلَفْظِ لاَ مَا وَضَعُوا فِي الْكُتُبِ
قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: اتَّبِعْ لفظَ الشيخِ في قولهِ: حَدَّثَنَا وحَدَّثَنِي وسمعتُ وأَخبرنا ولا تَعْدَهُ. ومنعَ ابنُ الصلاحِ إبدالَ أخبرنا: بحَدَّثَنَا ونحوهِ في الكُتُبِ المصنَّفةِ، وإنْ كانَ في إِقامةِ أحدهِما مُقامَ الآخرِ خلافٌ؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ قائلُ ذلكَ لا يَرَى التسويةَ بينهُمَا، فإنْ عرفْتَ أنَّ قائلَ ذلك سَوَّى بينهُمَا ففيهِ الخلافُ في جوازِ الروايةِ بالمعنى -كما قالَ الخطيبُ - قالَ ابنُ الصلاحِ: الذي نراهُ الامتناعَ من إِجراءِ مثلِهِ فيما وُضِعَ في الكُتُبِ المصنَّفَةِ. وما ذكَرَه الخطيبُ محمولٌ عندَنا على ما يَسْمَعُهُ الطالبُ من لفظِ المحدثِ غيرَ موضوعٍ في كتابٍ مؤلفٍ. قال ابنُ دقيقِ العيدِ: وهذا

(1/406)


كلامٌ فيه ضَعْفٌ. قال: وأَقلُّ ما فيهِ أَنَّهُ يقتضِي تجويزَ هذا فيما ينقلُ مِنَ المصنفاتِ المتقدِّمَةِ إلى أجزائِنَا وتخاريجِنَا، فإنَّهُ ليسَ فيهِ تغييرُ التصنيفِ المتقدِّمِ. قالَ: وليسَ هذا جارياً على الاصطلاح. قلتُ: لا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يقتضي ذلك، بلْ آخرُ كلامِ ابنِ الصلاح يُشْعِرُ: أَنَّهُ إذا نُقِلَ حديثٌ مِنْ كتابٍ وعُزِيَ إليه، لا يجوزُ فيه الإبدالُ سواءٌ أَنقلَناهُ في تأَليفٍ لنا أَم لفظاً؟ واللهُ أعلمُ.

416.... وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ ... مِنْ نَاسِخٍ، فَقَالَ بَامْتِنَاعِ
417.... (الإِسْفَرَاييِنِيْ) مَعَ (الْحَرْبِيِّ) ... وِ (ابْنِ عَدِيٍّ) وَعَنِ (الصِّبْغِيِّ)
418.... لاَ تَرْوِ تَحْدِيْثاً وَإِخْبَاراً، قُلِ ... حَضَرْتُ وَالرَّازِيُّ وَهْوَ الْحَنْظَلِيْ
419.... وَ (ابْنُ الْمُبَارَكِ) كِلاَهُمَا كَتَبْ ... وَجَوَّزَ (الْحَمَّالُ) وَالشَّيْخُ ذَهَبْ
420.... بِأَنَّ خَيْراً مِنْهُ أَنْ يُفَصِّلاَ ... فَحَيْثُ فَهْمٌ صَحَّ، أولاَ بَطَلاَ
421.... كَماَ جَرَى لِلدَّارَقُطْنِي حَيْثُ عَدْ ... إِمْلاَءَ (إِسْمَاعِيْلَ) عَدّاً وَسَرَدْ
اختلفَ أهلُ العلمِ فيمَنْ ينسخُ في حالةِ السماعِ سواءٌ في ذلكَ الشيخُ المسُمِعُ، والطالبُ السامعُ؛ هَلْ يصحُّ السماعُ أم لاَ؟ فذهبَ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ الأُستاذُ،

(1/407)


وإبراهيمُ الحربيُّ، وأبو أحمدَ بنُ عديٍّ وغيرُ واحدٍ من الأَئِمَّةِ إلى مَنْعِ الصحةِ مطلقاً، وذهبَ الإمامُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ إِسحاقَ الصِّبْغيُّ إلى أَنَّهُ لا يقولُ في الأَداءِ: حَدَّثَنَا ولا أَخْبرنا، بلُ يقولُ: حَضَرْتُ، وذهبَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ إلى الصحةِ
مطلقاً. وقد كتبَ أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ إدريسَ الرازيُّ الحنظليُّ في حالةِ السماعِ عند عارمٍ، وعندَ عمرِو بنِ مرزوقٍ، وكتبَ أيضاً عبدُ اللهِ بنُ المباركِ وهو يَقْرَأُ عليهِ شيئاً آخرَ غيرَ ما يُقرأُ عليهِ. قال ابنُ الصلاحِ: وخيرٌ من هذا الإطلاقِ التفصيلُ، فنقولُ: لا يصحُّ السماعُ إذا كانَ النَّسْخُ بحيثُ يمتنعُ معهُ فَهْمُ الناسخِ لما يُقرأُ حَتى يكونَ الواصلُ إلى سمعِهِ كأَنّهُ صوتٌ غُفْلٌ، ويصحُّ بحيثُ إذا كانَ لا يمتنعُ معهُ الفهمُ كقصةِ الدارقطنيِّ إذْ حضرَ في حَدَاثَتِهِ مجلسَ إِسماعيلَ الصَّفَّارِ، فجلسَ ينسخُ جُزءَاً كانَ معَهُ وإِسماعيلُ يُمْلي فقالَ لهُ بعضُ الحاضرينَ: لا يصحُّ سماعُكَ وأنتَ تنسخُ، فقالَ: فَهْمِي للإملاءِ خِلافُ فَهْمِكَ، ثُمَّ قالَ: تحفظُ كمْ أَملى الشيخُ مَنْ حديثٍ إلى الآنَ؟

(1/408)


فقالَ: لا. فقالَ الدَّارقطنيُّ: أَملى ثمانيةَ عَشَرَ حديثاً، فعدَدْتُ الأحاديثَ فوجدْتُ كما قالَ. ثُمَّ قالَ: الحديثُ الأولُ منها: عن فلانٍ عن فلانٍ، ومتنُهُ كذا، والحديثُ الثاني عن فلانٍ عن فلانٍ، ومتنُهُ: كذا، ولم يزلْ يَذْكُرُ أسانيدَ الأحاديثِ ومتونَها على ترتيبهَا في الإملاءِ حتى أَتَى على آخِرِها فعجِبَ الناسُ منه.

422.... وَذَاكَ يَجْرِي فِي الْكَلاَمِ أو إذا ... هَيْنَمَ حَتَّى خَفِيَ الْبَعْضُ، كَذَا
423.... إِنْ بَعُدَ السَّامِعُ، ثُمَّ يُحْتَمَلْ ... فِي الظَّاهِرِ الْكَلِمَتَانِ أو أَقَلْ

أي: وما ذُكِرَ في النَّسْخِ من التفصيلِ يجري في الكلامِ في وقتِ السماعِ مِنَ السامعِ، أو الشيخِ. وكذا إذا هَيْنَمَ القارئُ والْهَيْنَمَةُ: الصوتُ الخفيُّ، قاله الجوهريُّ. وكذا إذا أَفْرَطَ في الإسراعِ بحيثُ يخفى بعضُ الكَلِمِ، أو كان السامعُ بعيداً عن القارئ وما أَشْبَهَ ذلكَ. ثُمَّ الظاهرُ أنَّهُ يُعْفَى في كلِّ ذلكَ عن القَدَرِ اليَسِيْرِ، نحوِ الكلمةِ والكلمتَيْنِ.

424.... وَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يُجِيْزَ مَعْ ... إِسْمَاعِهِ جَبْرَاً لِنَقْصٍ إنْ يَقَعْ
425.... قَالَ: ابْنُ عَتَّابٍ وَلاَ غِنَى عَنْ ... إِجَازَةٍ مَعَ السَّمَاعِ تُقْرَنْ
لما ذَكَرَ أَنَّهُ رُبَّما عَزَبَ عن السامعِ الكلمةُ والكلمتانِ، لعجلةِ القارئِ، أو هينمتِهِ، أو كلامٍ، ونحوِ ذلكَ، ذَكَرَ ما يَجْبُرُ ذلك، وهو أنَّهُ يُسْتَحَبُّ للشيخِ أَنْ يجيزَ للسامعيَن

(1/409)


روايةَ الكتابِ أو الجزءِ الذي سمعُوْهُ وإنْ شملَهُ السَّماعُ لاحتمالِ وقوعِ شيءٍ ممَّا تقدَّمَ فينجَبرُ بذلكَ. وكذلكَ ينبغي لكاتبِ السماعِ أَنْ يَكْتُبَ إِجازةَ الشَّيخِ عَقِبَ كتابةِ السَّماعِ، ويقالُ: إنَّ أولَ مَنْ كَتَبَ الإجازةَ في طِبَاقِ السَّماعِ: أبو الطاهرِ إسماعيلُ بنُ عبدِ المحسنِ الأنماطيُّ، فجزاهُ الله خَيْراً في سَنِّهِ ذلكَ لأَهْلِ الحديثِ، فلقدْ حَصَلَ به نفعٌ كثيرٌ، ولقدِ انقطعَ بسببِ تَرْكِ ذَلِكَ، وإهمالِهِ اتصالُ بعضِ الكُتُبِ في بعضِ البلادِ، بسببِ كونِ بعضِهِمْ كَانَ لَهُ فَوْتٌ، ولَمْ يذكرْ في طبقةِ السَّماعِ إجازةَ الشيخِ لهم، فاتَّفَقَ أنْ كانَ بعضُ المفوتينَ آخرَ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ سَمِعَ بعضَ ذلك الكتابَ فَتَعَذَّرَ قراءةُ جميعِ الكتابِ عليه كأبي الحسنِ بنِ الصَّوَّافِ الشَّاطبيِّ، راوي غالبِ سُنَنِ النسائيِّ عن ابنِ باقا، واللهُ أعلمُ. وقالَ أبو عبدِ الله بنُ عتابٍ الأندلسيُّ: ((لا غنَى في السماعِ عن الإجازَةِ؛ لأَنَّهُ قدْ يغلَطُ القارئُ، ويغفلُ الشيخُ، أو يَغلطُ الشيخُ إن كان القارئُ، ويغفلُ السامعُ فينجبِرُ لَهُ ما فاتهُ بالإجازةِ)) . واللهُ أعلمُ.

426.... وَسُئِلَ (ابْنُ حنبلٍ) إِن حَرْفَا ... أدْغَمَهُ فَقَالَ: أَرْجُو يُعْفَى
427.... لَكِنْ (أبو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ) مَنَعْ ... فِي الْحَرْفِ تَسْتَفْهِمُهُ فَلاَ يَسَعْ
428.... إِلاَّ بَأَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الشَّارِدَهْ ... عَنْ مُفْهِمٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ (زَائِدَهْ)

قال صالحُ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ: قلتُ لأبي: الشَّيْخُ يُدْغِمُ الحرفَ يَعْرفُ أَنَّهُ
كذا وكذا ولا يُفْهَمُ عنه، تَرَى أنْ يُروى ذلك عنه؟ قال: أرجو ألاَّ يُضَيَّقَ

(1/410)


هذا. وأما أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ فكانَ يَرَى فيما سَقَطَ عنهُ من الحرفِ الواحدِ والاسمِ مما سمعَهُ من سفيانَ والأعمشِ، واستفهمَهُ من أصحابهِ أَنْ يرويهِ عن أَصَحابِهِ لا يَرَى غيرَ ذلك واسعاً.
فقولي: (تلكَ الشَّارِدَهْ) ، أي: تلكَ الكلمةُ أو الحرفُ الذي شردَ عنه، فلم يَفْهَمْهُ عن شيخِهِ، وإنَّماْ فهِمَهُ عَنِ الشيخِ غيرُه، وهكذا جاءَ عن زائدةَ بنِ قُدامةَ، قال خَلَفُ بنُ تميم: سمعتُ من الثَّوريِّ عشرةَ آلافِ حديثٍ، أو نحوَها، فكنتُ أَستفهمُ جليسيَ، فقلتُ لزائدةَ: فقالَ لي: لا تُحَدِّثْ منها إلاّ بما تحفَظُ بقلبِكَ وسَمْع أُذُنِكَ. قالَ: فألْقَيْتُهَا.

429.... وَ (خَلَفُ بْنُ سَاِلمٍ) قَدْ قال: نَا ... إِذْ فَاتَهُ حَدَّثَ مِنْ حَدَّثَنَا
430.... مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ، وَسُفْيَانُ اكْتَفَى ... بِلَفْظِ مُسْتَمْلٍ عَنِ الْمُمْلِى اقْتَفَى
431.... كَذَاكَ (حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أَفْتَى: ... إِسْتَفْهمِ الَّذِي يَلِيْكَ، حَتَّى
432.... رَوَوْا عَنِ (الأَعْمَشِ) : كُنَّا نَقْعُدُ ... (لِلنَّخَعِيْ) فَرُبَّمَا قَدْ يَبْعُدُ
433.... البَعْضُ - لاَ يَسْمَعُهُ - فَيسأَلُ ... البَعْضَ عَنْهُ، ثَمَّ كُلٌّ يَنْقُلُ
434.... وَكُلُّ ذَا تَسَاهُلٌ، وَقَوْلُهُمْ: ... يَكْفِيِ مِنَ الْحَدِيْثِ شَمُّهُ، فَهُمْ
435.... عَنَوا إذا أَوَّلَ شَيءٍ سُئِلاَ ... عَرَفَهُ، وَمَا عَنَوْا تَسَهُّلاَ

(1/411)


قالَ الخطيبُ: بلغني عَنْ خَلَف بنِ سالمٍ الْمُخَرِّميِّ، قالَ: سمعتُ ابنَ عُيينةَ يقولُ: (نا) عمرُو بنُ دينارٍ، يريدُ: حَدَّثَنَا، فإذا قيِلَ له: قُلْ: حَدَّثَنَا عمرٌو، قالَ: لا أَقولُ لأَنِّي لم أَسْمَعْ مِنْ قولِهِ -حَدَّثَنَا- ثلاثَةَ أحْرُفٍ؛ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ، وهي ح د ث. وعن ابنِ عُيينةَ أَنهُ قالَ له أبو مُسْلِمٍ الْمُسْتَمْلي: إنَّ الناسَ كثيرٌ لا يسْمَعُونَ. قالَ: تسمعُ أَنْتَ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَأَسْمِعْهُم. قالَ: وهذا هوَ الذي عليهِ العملُ،
أي: أنَّ مَنْ سَمِعَ الْمُسْتَمْلي دونَ سَماعِ لفظِ المُمْلي جازَ له أَنْ يَرْوِيَهُ عن المُمْلي كالعَرْضِ، سواءٌ؛ لأَنَّ الْمُسْتَمْلي في حُكْمِ مَنْ يقرأُ على الشيخِ ويعرِضُ حديثَهُ عليه ولكن يُشْتَرَط أَنْ يَسْمعَ الشيخُ المُمْلي لَفْظَ الْمُسْتَمْلي، كالقارئِ عليه. ومَعَ هذا فليسَ لِمَنْ لم يسمعْ لفظَ المُمْلي أَنْ يقول: سمعْتُ فلاناً يقولُ - كما تقدَّمَ في العَرْض - سواءٌ، ولكنَّ الأَحوطَ أن يُبَيِّنَ حالةَ الأَداءِ أنَّ سماعَهُ لذلكَ، أو لبعضِ الأَلفاظِ، من الْمُسْتَمْلي، كما فَعَلَهُ الإمامُ أبو بكرِ بنُ خُزيمةَ، وغيرُهُ من الأَئِمَّةِ.

(1/412)


وقالَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنُ عَمَّارٍ الموْصليُّ: ما كتبتُ قطُّ مِنْ في المُسْتَمْلي، ولا التفَتْتُ إليهِ، ولا أَدْري أَيَّ شيءٍ يقولُ، إنَّما كنتُ أكتبُ عن فِي المحُدِّثِ. وأمَّا قولُ حَمَّادِ بنِ زيدٍ لمن استفهَمَهُ، كيف قُلتَ؟ فقالَ: استفهِم الذي يليكَ. وقولُ الأعمَشِ: كُنَّا نجلسُ إلى إبراهيمَ النخعيِّ فتتسعُ الحلقةُ فَرُبَّمَا يُحَدِّثُ بالحديثِ فلا يسمَعُهُ مَنْ تَنَحّى عنهُ، فَيَسْأَلُ بعضُهُم بَعْضَاً، عمَّا قالَ، ثُمَّ يروُونَهُ عنهُ، وما سمعُوهُ منهُ، فهذا وما أشبههُ تساهلٌ ممنْ فَعلَهُ، وقد قالَ أبو زُرْعَةَ - بعدَ أَنْ رَوَى حكايةَ الأعمشِ هذهِ-: رأيتُ أبا نُعَيمٍ لا يُعْجِبُهُ هذا، ولا يَرْضَى به لنفسِهِ، وأَمَّا قولُ عبدِ الرحمنَ بنِ مهديٍّ: يكفيكَ من الحديثِ شَمُّهُ، فقال حمزة بنُ محمدٍ الكنانيُّ: إنَّهُ يعني بهِ إذا سُئِلَ عن أوَّلِ شيءٍ عَرَفَهُ، وليسَ يعني التسهيلَ في السماعِ.

(1/413)


436.... وَإِنْ يُحَدِّثْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ ... - عَرَفْتَهُ بِصَوْتِهِ او ذِي خُبْرِ -
437.... صَحَّ، وَعَنْ شُعْبَةَ لاَ تَرْوِ لَنَا ... إنَّ بِلاَلاً، وَحَدِيْثُ أُمِّنَا

يَصحُّ السَّماعُ من وراءِ حجابٍ، إذا عرفَ صَوْتَ المحدِّثِ، أو اعتمدَ في معرفةِ صوتِهِ وحضورِهِ على خَبرِ ثقةٍ مِنْ أَهْلِ الخبرَةِ بالمحدِّثِ، وقالَ شعبةُ: إذا حدَّثَكَ المحدِّثُ فلمْ تَرَ وَجْهَهُ فلا تروِ عنهُ، فلَعَلَّهُ شيطانٌ قد تَصَوَّرَ في صورتِهِ، يقولُ: حَدَّثَنَا وأمرنا.
وقولي لنا إنَّ بلالاً إلى آخرِهِ، أي الْحُجَّةُ لنا في صحةِ السماعِ من وراءِ حِجَابٍ حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ الْمُتَّفَقُ عليهِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنَّ بلالاً يُؤَذِّنُ بليلٍ

(1/414)


فكلُوا واشربُوا حتى تسمعُوا آذانَ ابنِ أُمِّ مكتومٍ فأَمَرَ بالاعتمادِ على صوتِهِ مع غَيْبَةِ شَخْصِهِ عمَّنْ يَسْمَعَهُ وكذلكَ حديثُ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ وغيرِها مِن أُمَّهاتِ المؤمنينَ كنَّ يُحدِّثْنَ مِنْ وراءِ حجابٍ، وينقلُ عنهنَّ مَنْ سمعَ ذلكَ، واحْتَجَّ به في الصحيحِ. وهذا معنى قولي: (وحديثُ أُمِّنَا) .

438.... وَلاَ يَضُرُّ سَامِعاً أنْ يَمْنَعَهْ ... الشَّيْخُ أَنْ يَرْوِيَ مَا قَدْ سَمِعَهْ
439.... كَذَلِكَ التَّخْصِيْصُ أو رَجَعْتُ ... مَاَ لمْ يَقُلْ: أَخْطَأْتُ أو شَكَكْتُ

إذا سمعَ من شيخٍ حديثاً ثم قال له: لا تَرْوِهِ عَنِّي، أو ما أَذنْتُ لكَ في روايتهِ عني ونحوَ ذلكَ، فلا يضرُّهُ ذلكَ ولا يمنعُهُ أَنْ يرويَهُ عنهُ. وكذلكَ إذا خصَّصَ قوماً بالسَّماعِ، وسَمِعَ غيرُهُمْ مِنْ غيرِ أَنْ يَعْلَمَ المحدِّثُ بهِ، كما صَرَّحَ بهِ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ. وكذلكَ لوْ قالَ: إنِّي أخُبِرُكُم ولا أُخْبِرُ فلاناً فلا يضرُّ ذلكَ فلاناً في صحَّةِ سماعِهِ، وكذا إِنْ قالَ: رجعتُ عمَّا حدَّثْتُكُمُ بهِ ونحوَ ذلكَ مما لا ينفي أنَّهُ من حديثِهِ ما لم يكنِ المنعُ مُستنداً إلى أَنَّهُ أَخْطَأَ فيما حدَّثَ بهِ، أو شَكَّ في سماعِهِ ونحوِ ذلكَ، فليسَ لهُ أَنْ يرويَهُ عنهُ والحالةُ هذهِ.

(1/415)


الثَّالِثُ: الإجَاْزَةُ

440.... ثُمَّ الإِجَازَةُ تَلىِ السَّمَاعَا ... وَنُوّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا
441.... أرْفَعُهَا بِحَيْثُ لاَ مُنَاولَهْ ... تَعْيِيْنُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجْازَ لَهْ
442.... وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ... جَوَازِ ذَا، وَذَهَبَ (الْبَاجِيْ) إِلَى
443.... نَفْي الْخِلاَفِ مُطْلَقَاً، وَهْوَ غَلَطْ ... قال: وَالاخْتِلاَفُ فِي الْعَمَلِ قَطْ
444.... وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بأَِنْ للشَّافِعِي ... قَوْلاَنِ فِيْهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعي
445.... مَذْهَبِهِ (الْقَاضِي حُسَيْنٌ) مَنَعَا ... وَصَاحِبُ (الْحَاوي) بِهِ قَدْ قَطَعَا
446.... قَالاَ كَشُعْبَةٍ وَلَو جَازَتْ إِذَنْ ... لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ طُلاَّبِ السُّنَنْ
447.... وَعَنْ (أبي الشَّيْخِ) مَعَ (الْحَرْبِيِّ) ... إِبْطَالُهَا كَذَاكَ (لِلسِّجْزِيِّ)
448.... لَكِنْ عَلى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا ... عَمَلُهُمْ، وَالأَكْثَرُوْنَ طُرَّا
449.... قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوْبُ الْعَمَلِ ... بِهَا، وَقِيْلَ: لاَ كَحُكْمِ الْمُرْسَلِ
القسمُ الثالثُ من أَقسامِ الأَخذِ والتحمُّلِ: الإجازةُ. وهيَ دونَ السماعِ. وهيَ على تسعةِ أنواعٍ: النوعُ الأولُ: إجازةُ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ: كأَنْ يقول: أجزتُ لكُم، أو لفلانٍ الفلانيِّ: - ويصفُهُ بما يميّزُهُ - الكتابَ الفلانيَّ، أو ما اشتملَتْ عليهِ فِهْرِستي، ونحوَ ذلكَ. وهذا أرفعُ أنواعِ الإجازةِ المجردةِ عن المناولةِ. وسيأتي حُكْمُ المناولةِ مَعَ الإِجازةِ.

(1/416)


قالَ القاضي عياضٌ: ((فهذهِ عندَ بعضهِمِ التي لم يُخْتَلَفْ في جوازهِا، ولا خالفَ فيه أهلُ الظاهرِ، وإِنَّما الخلافُ بينهُم في غيرِ هذا الوجهِ)) . وقالَ القاضي أبو الوليدِ الباجيُّ: لا خلافَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ من سلفِ هذهِ الأمةِ وخَلَفِهَا، وادَّعَى فيها الإجماعَ، ولم يُفَصِّلْ، وذَكَرَ الخلافَ في العملِ بها. فقولي: (قالَ) ، أي: الباجيُّ، وما حكاهُ الباجيُّ من الإجماعِ في مُطْلَقِ الإجازةِ غَلَطٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ: هذا باطلٌ فقدْ خالَفَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ جماعاتٌ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ والأصوليينَ وذلكَ إِحدَى الروايتينِ عن الشافعيِّ، وقطعَ بإبطالِها القاضي حُسَيْنٌ، والماورديُّ، وبهِ قَطَعَ في كتابهِ " الحاوي " وعزاهُ إلى مذهبِ الشافعيِّ، وقالا جميعاً كما قالَ شُعبةُ: لو جازتِ الإجازةُ لبطلتِ الرِّحْلَةُ. وَمِمَّنْ قالَ بإبطالِها إبراهيمُ الْحَرْبيُّوأبو الشيخِ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ الأصبهانيُّ وأبو نصرٍ الوائليُّ السجزيُّ، وأبو طاهرٍ الدَّبَّاسُ من الحنفيةِ، وأبو بكرٍ محمَّدُ بنُ ثابتٍ الخُجَنْدِيُّ من الشافعيةِ، وحكاهُ الآمديُّ، عن أبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ. لكنَّ الذي استقرَّ عليه العملُ، وقالَ بهِ جماهيرُ أهلِ العلمِ من أَهْلِ الحديثِ وغيرِهم: القولُ بتجويزِ الإجازةِ وإِجازةِ الروايةِ بها، وحكاهُ

(1/417)


الآمديُّ عن أصحابِ الشافعيِّ وأكثرِ المحدِّثينَ.
وكما تجوزُ الروايةُ بالإِجازةِ، كذلكَ يجبُ العملُ بالمرويِّ بها. وقالَ بعضُ أهلِ الظاهرِ ومَنْ تَابَعَهُمْ: لا يجبُ العملُ بهِ كالحديثِ المرسلِ، قالَ ابنُ الصلاحِ: ((وهذا باطلٌ؛ لأَنَّهُ ليس في الإِجازةِ ما يقدحُ في اتِّصَالِ المنقولِ بها وفي الثقةِ بهِ)) ، واللهُ أَعْلَمُ.

450.... وَالثَّانِ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ ... دُوْنَ الْمُجَازِ، وَهْوَ أَيْضَاً قَبِلَهْ
451.... جُمْهُوْرُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلاَ ... وَالْخُلْفُ أَقْوَى فِيْهِ مِمَّا قَدْ خَلاَ

النوعُ الثاني منْ أَنواعِ الإِجازةِ: أَن يُعَيِّنَ الشخصَ المجُازَ له دونَ الكتابِ المجازِ، فيقول: أجزتُ لك جميعَ مسموعاتي، أو جميعَ مرويَّاتي، وما أَشْبَهَ ذلكَ. والجمهورُ على تجويزِ الروايةِ بها، وعلى وُجوبِ العملِ بما رُوِيَ بها بشرطِهِ، ولكنَّ الخلافَ في هذا النوعِ أَقوى مِنَ الخلافِ في النوعِ المتُقدِّمِ.

452.... وَالثَّالِثُ: التَّعْمِيْمُ فِي الْمُجَازِ ... لَهُ، وَقَدْ مَالَ إِلى الْجَوَازِ
453.... مُطْلَقَاً (الْخَطِيْبُ) (وَابْنُ مَنْدَهْ) ... ثُمَّ (أبو الْعَلاَءِ) أَيْضَاً بَعْدَهْ
454.... وَجَازَ لِلْمَوْجُوْدِ عِنْدَ (الطَّبَرِيْ) ... وَالشَّيْخُ لِلإِبْطَالِ مَالَ فَاحْذَرِ
والنوعُ الثالثُ من أنواعِ الإجازةِ: أَنْ يَعُمَّ المجُازَ لهُ فلا يُعيِّنُهُ، كأجزْتُ للمسلمينَ، أو لكلِّ أَحدٍ، أو لِمنْ أدْرَكَ زماني، ونحوِ ذلكَ، وقد فعلَهُ أبو عبدِ الله بنُ

(1/418)


مَنْدَه، فقالَ: أجزتُ لمنْ قالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ. وجَوَّزهُ أيضاً الخطيبُ وحكى الحازميُّ عَمَّنْ أَدرَكَهُ من الحفَّاظِ كأبي العلاءِ الحسنِ بنِ أحمدِ العطارِ الهمدانيِّ وغيرِهِ: أنَّهُم كانوا يميلون إلى الجوازِ. وحكى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيِّبِ الطبريِّ: أَنَّهُ جوَّزَ الإجازةَ لجميعِ المسلمينَ مَنْ كان منهُم موجوداً عند الإِجازةِ. قال ابنُ الصلاحِ: ولم نَرَ، وَلَم نَسْمَعْ عن أَحدٍ ممَّن يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هذهِ الإجازةَ، فَرَوَى بها، ولا عن الشِرْذِمَةِ المُستأخِرَةِ الذين سوَّغوها. والإجازةُ في أَصْلِها ضعيفةٌ وتزدادُ بهذا التوسُّعِ والاسترسالِ ضَعْفَاً كثيراً، لا ينبغي احتمالُهُ. قلتُ: مِمَّنْ أَجازَها أبو الفضلِ أحمدُ بنُ الحسينِ بنِ خَيْرُونَ البغداديُّ، وأبو الوليدِ بنُ رُشدٍ المالِكيُّ، وأبو طاهرٍ السِّلَفِيُّ، وغيرُهم. ورجَّحَهُ أبو عمرِو بنُ الحاجبِ، وصحَّحَهُ النَّوَوِيُّ من زياداتِهِ فِي "الرَّوضةِ". وقد جَمعَ بعضُهم مَنْ أَجَازَ هذهِ الإجازةَ العامّةَ في تصنيفٍ لهُ، جَمَعَ فيه خَلقاً كثيراً رتَّبَهُم على حروفِ المُعْجَمِ؛ لكَثرتِهِم، وهُو الحافظُ أبو جَعْفَرٍ محمدُ بنُ الحسينِ ابنِ أبي البدرِ الكاتبِ البغداديُّ، ومِمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنَ الحُفَّاظِ: أبو بكرِ بنُ خيرٍ الإشبِيليُّ، ومن الحفَّاظِ المتأخرينَ: الحافظُ شرفُ الدينِ عبدُ المؤمنِ بنُ خَلَفٍ الدمياطيُّ، بإجازَتِهِ العامةِ من المؤيِّدِ الطوسيِّ.
وسمعَ بِهَاالحفَّاظُ: أبو الحجَّاجِ المِزِّيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ، وأبو محمدٍ البِرْزَاليُّ عَلَى الركْنِ الطَّاوسي بإجازتِهِ العامَّةِ من أبي جعفرٍ

(1/419)


الصَّيدلانيِّ وغَيرِهِ. وقرأَ بِهَا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ عَلَى أبي العباسِ بنِ نعمةَ بإجازتهِ العامَّةِ من داودَ بنِ مَعْمَرِ بنِ الفاخرِ. وقرأْتُ بِهَا عدَّةَ أجزاءٍ عَلَى الوجيهِ عبدِ الرحمنِ العوفيِّ بإجازتِهِ العامَّةِ من عبدِ اللَّطيفِ بنِ القُبَّيْطِيِّ، وأبي إسحاقَ الكَاشْغَرِيِّ، وابنِ رواجِ، والسِّبْطِ، وآخرينَ من البغداديِّينَ والمصريِّينَ. وفي النفسِ من ذَلِكَ شئٌ وأنا أَتوقفُ عن الروايةِ بِهَا، وأهلُ الحديثِ يقولونَ: إذا كتبتَ فَقَمِّشْ، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ.

455.... وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ ... كَالْعُلَمَا يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْرِ
456.... فَإِنَّهُ إِلى الْجَوَازِ أَقْرَبُ ... قُلْتُ (عِيَاضٌ) قالَ: لَسْتُ أَحْسِبُ
457.... فِي ذَا اخْتِلاَفَاً بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَرَى ... إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا

والإجازةُ العامَّةُ إذا قُيِّدَتْ بوصفٍ حاصرٍ، فهي إلى الجوازِ أقربُ. قالهُ ابنُ الصلاحِ، وَمثَّلَهُ القاضي عِياضٌ بقولهِ: أجزتُ لِمَنْ هوَ الآنَ من طلبةِ العلمِ ببلدِ

(1/420)


كذا، أو لِمَنْ قرأَ علَيَّ قبلَ هذَا. وقالَ: فما أَحسَبُهُم اختلفوا في جَوَازِهِ ممَّنْ تَصحُّ عندَهُ الإجازةُ، ولا رأيتُ مَنْعَهُ لأَحدٍ؛ لأَنَّهُ محصورٌ موصوفٌ كقولهِ، لأولادِ فلانٍ، أو إخوةِ فلانٍ.

458.... وَالرَّابعُ: الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيْزَ لَهْ ... أو مَا أُجِيْزَ كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ
459.... بَعْضَ سَمَاَعاِتي، كَذَا إِنْ سَمَّى ... كِتَاباً او شَخْصَاً وَقَدْ تَسَمَّى
460.... بِهِ سِوَاهُ ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ ... مُرَادُهُ مِنْ ذَاكَ فَهْوَ لاَ يَصِحْ
461.... أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ ... فَلاَ يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالأَعْيَانِ
462.... وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَلَهُمْ ... مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ

والنوعُ الرابعُ من أنواعِ الإِجازةِ: الإِجازَةُ للمجهولِ، أو بالمجهولِ. فالأولُ كقولهِ: أجزتُ لجماعةٍ من الناسِ مسموعاتي. والثاني كقولِهِ: أجزتُ لَكَ بعضَ مَسْمُوْعَاتي. وقد جمعْتُ مثالَ الْجَهْلِ فيهما في مثالٍ واحدٍ، وهو: أجزتُ أَزْفَلَةً بعضَ مَسْمُوْعَاتي. والأَزْفَلةُ - بفتحِ الهمزةِ وإِسكانِ الزاي وفتحِ الفاءِ -: الجماعةُ مِنَ الناسِ. ومنه: أَنَّ عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها أَرسلَتْ إلى أَزْفَلَةٍ من الناسِ، وذلك في قِصَّةِ خُطبةِ عائشةَ في فضلِ أبيهَا. ومِنْ أَمثلةِ هذا النوعِ: أَنْ يُسَمِّيَ شخصاً، وقد تَسَمَّى به غيرُ واحدٍ في ذلكَ الوقتِ كأجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقيِّ - مثلاً - ويُسَمِّي كتاباً، كنحوِ: أجزتُ

(1/421)


لك أَنْ تَرويَ عَنِّي كتابَ السننِ وهُو يروي عدةً من السننِ المعروفةِ بذلك، ولم يَتِّضحْ مرادُهُ في المسألتينِ، فإِنَّ هذهِ الإجازةَ غيرُ صحيحةٍ. أَمَّا إذا اتَّضَحَ مرادُه بقرينةٍ بأَنْ قيلَ لهُ: أجزتَ لمحمَّدِ بنِ خالدِ بنِ عليِّ بنِ محمودٍ الدمشقيِّ - مثلاً - فحيثُ لا يلتبسُ فقالَ: أجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقِيِّ، أو قِيْلَ لَهُ: أجزْتَ لي روايةَ كتابِ السننِ لأبي داودَ - مثلاً - فقالَ: أجزتُ لكَ روايةَ السُّننِ. فالظاهرُ صحَّةُ هذهِ الإجازةِ، وأَنَّ الجوابَ خَرَجَ عَلَى الْمَسْؤُوْلِ عنهُ. وكذلكَ إذا سُمِّيَ للشَّيخِ المسؤولِ منهُ المجَازَ لهُ معَ البيانِ المزيلِ للاشتباهِ، ولكنَّ الشيخَ لا يعرفُ المسؤولَ لهُ بلْ يجهلُ عينَهُ، فلا يَضُرُّ ذلكَ، والإجازةُ صحيحةٌ.
كما لا يُشترَطُ معرفَةُ الشيخِ بِمَنْ سمعَ من الشَّيخِ، وإذا سُئِلَ الشيخُ الإجازةَ لجمَاعةٍ مُسمَّيْنَ مع البيانِ في استدعاءِ كما جرتْ بهِ العادةُ فأجازَ لهم مِنْ غيرِ معرفةٍ بهم، ولم يَعْرِفْ عددَهم ولا تصفَّحَ أسماءَهُم واحداً واحداً. قال ابنُ الصلاحِ: فينبغي أَنْ يَصحَّ ذلكَ أيضاً كما يصحُّ سماعُ مَنْ سمعَ منهُ على هذا الوصفِ.

463.... وَالْخَامِسُ: التَّعْلِيْقُ فِي الإِجَازَهْ ... بِمَنْ يَشَاؤُهَا الذَّيِ أَجَازَهْ
464.... أو غَيْرُهُ مُعَيَّنَاً، وَالأُولَى ... أَكْثَرُ جَهْلاً، وَأَجَازَ الْكُلاَّ
465.... مَعَاً (أبو يَعْلَى) الإِمَامُ الْحَنْبَلِيْ ... مَعَ (ابْنِ عُمْرُوْسٍ) وَقَالاَ: يَنْجَلِي
466.... الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا، وَالظَّاهِرُ ... بُطْلاَنُهَا أَفْتَى بِذَاك (طَاهِرُ)
467.... قُلْتُ: وَجَدْتُ (ابنَ أبي خَيْثَمَةِ) ... أَجَازَ كَالَّثانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ
468.... وَإِنْ يَقُلْ: مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا ... وَنَحْوَهُ (الأَزْدِي) مُجِيْزَاً كَتَبَا
469.... أَمَّا: أَجَزْتُ لِفُلاَنٍ إِنْ يُرِدْ ... فَالأَظْهَرُ الأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ

(1/422)


النوعُ الخامسُ من أنواعِ الإجازةِ: الإجازةُ المعُلَّقةُ بالمَشِيئةِ. ولم يُفردْ ابنُ الصلاحِ هذا بنوعٍ وأدخلَهُ في النوعِ قبلَهُ، وقال: فيهِ جهالةٌ وتعليقٌ بشرطٍ. وأفردتُهُ بنوعٍ، لأَنَّ بعضَ الأجائِزِ المعلَّقةِ لا جهالةَ فيها كما ستقفُ عليهِ هنا؛ وذلك لأَنَّ التعليقَ قد يكونُ مع إِبهام المُجَازِ، أو مع تعيينِهِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ المُجازِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ غيرِه مُعَّيناً، وقد يكونُ التعليقُ لنفسِ الإجازةِ، وقد يكونُ للروايةِ بالإجازةِ. فأمَّا تعليقُها بمشيئةِ المجازِ مبهماً، كقولهِ: مَنْ شاءَ أَنْ أُجِيزَ له فقدْ أَجزتُ له، أَو أَجزتُ لمنْ شاءَ فهو كتعليقِها بمشيئةِ غيرِه، وسيأتي حكمُهُ. قال ابنُ الصلاحِ: بلْ هَذِهِ أكثرُ جهالةً وانتشاراً من حيثُ إنَّها معلقةٌ بمشيئةِ من لا يُحَصرُ عددُهم بخلافِ تعليقِها بمشيئةِ معيَّنٍ. وأما تعليقُها بمشيئةِ غيرِ المجازِ: فإِنْ كان المُعَلَّقُ بمشيئتِهِ مبهماً فهذهِ باطلةٌ قطعاً، كقولهِ: أَجَزْتُ لِمَنْ شاءَ بعضُ الناسِ أَنْ يرويَ عنِّي، وإِنَ كانَ مُعَّيناً، كقولهِ: مَنْ شاء فلانٌ أَنْ أُجيزَهُ فقد أجزتُهُ، أو أجزتُ لِمَنْ يشاءُ فلانٌ ونحوُ ذلك؛ فقد حكى الخطيبُ في جزءٍ لهُ في ((الإجازةِ للمعدومِ والمجهولِ)) عن أبي يعلى محمدِ بنِ الحسينِ بنِ الفراءِ الحنبليِّ وأبي الفَضْلِ محمّدِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عُمْرُوسٍ: أنَّهُمَا أَجازَا ذلكَ واستُدِلَّ لهما بأنَّ هذهِ الجهالةَ ترتفعُ عندَ وجودِ المشيئةِ، ويتعَيَّنُ المُجَازُ لهُ عندَها. قالَ ابنُ الصلاحِ: والظاهرُ أَنَّه لا يصحُّ وبذلكَ أفتى القاضي أبو الطيبِ طاهرُ بنُ عبدِ اللهِ الطبريُّ إِذْ سألهُ الخطيبُ عن ذلكَ وَعَلَّلَهُ: بأَنَّهُ إجازةٌ لمجهولٍ، كقولهِ: أجزتُ لبعضِ الناسِ.
قالَ

(1/423)


ابنُ الصلاحِ: وقد يُعَلَّلُ أيضاً بما فيهِ مِنَ التَّعليقِ بالشرطِ فَإِنَّ ما يَفْسُدُ بالجهالةِ يَفْسُدُ بالتعليقِ عندَ قومٍ. قلتُ: وقد وجدْتُ عن جماعةٍ من أئمةِ الحدِيثِ المتقدِّمِينَ والمتأخِّرِينَ استعمالَ هذا. فمِنَ المتقدِّمِينَ: الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ ابنُ أبي خَيْثَمَةَ زُهيرِ بنِ حَرْبٍ صاحبِ يحيى بنِ معينٍ، وصاحبِ " التاريخِ ". قالَ الإمامُ أبو الحسنِ محمَّدُ ابنُ أبي الحسينِ بنِ الوزَّانِ: أَلْفَيْتُ بخطِ أبي بكرِ ابنِ أبي خيثمةَ: قد أَجَزْتُ لأبي زكريا يحيى بنِ مَسْلَمةَ أَنْ يرويَ عَنِّي ما أَحبَّ من كتابِ " التاريخِ " الذي سمعَهُ مِنِّي أبو محمَّدٍ القاسمُ ابنُ الأصبَغِ، ومحمدُ بنُ عبدِ الأعلى، كما سمعاهُ مِنِّي. وأذنتُ له في ذلكَ ولِمَنْ أحبَّ من أصحابهِ فإن أحبَّ أَنْ تكونَ الإجازةُ لأحدٍ بعدَ هذا فأنا أجزتُ له ذلك بكتابي هذا وكَتَبَ أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي خيثمةَ بيدِهِ في شَوَّالٍ منْ سنةِ ستٍّ وسبعينَ ومائتينِ. وكذلكَ أجازَ حفيدُ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وهذه نسختُها - فيما حكاهُ الخطيبُ - يقولُ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ يعقوبَ بنِ شيبةَ: قد أجزتُ لعمرَ بنِ أحمدَ الخلاَّلِ وابنِهِ عبدِ الرحمن بنِ عُمَرَ وَلِخَتَنِهِ عليِّ بنِ الحسنِ جميعَ ما فاتَهُ من حَدِيْثِي، مِمَّا لَمْ يُدْرِكْ سماعَهُ من المُسْنَدِ وغيرِهِ، وقد أجزتُ ذلكَ لِمَنْ أَحَبَّ عمرُ فلْيَرْوُوهُ عَنِّي إِنْ شَاؤُوا. وكَتَبْتُ لهم ذلكَ بخطِّي في صَفَرٍ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وثلاثينَ وثلاثمائةٍ. قالَ الخطيبُ بعدَ حكايةِ هذا: ورأيتُ مثلَ

(1/424)


هذهِ الإجازةِ لبعضِ المتقدمينَ، إلاَّ أَنَّ اسمَهُ ذهبَ من حفظِي. انتهى. وكأَنَّه أرادَ بذلكَ ابنَ أبي خيثمةَ، واللهُ أعلمُ.
وأمَّا إذا كانَ الْمُعَلَّقُ هُوَ الروايةَ كقولهِ: أجزتُ لمنْ شاءَ الروايةَ عنِّي، أَنْ يرويَ عنِّي، فقالَ ابنُ الصَّلاحِ: هذا أَولى بالجوازِ من حيثُ إِنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إِجازةٍ تفويضُ الروايةِ بها إلى مشيئةِ المجُازِ لَهُ، فكانَ هذا مَعَ كونِهِ بصيغةِ التعليقِ تصريحاً بما يقتضيهِ الإطلاقُ، وحكايةً للحالِ، لا تعليقاً في الحقيقةِ. قالَ: ولهذا أجازَ بعضُ أَئِمَّةِ الشَّافعيِّيْنَ في البيعِ أن يَقُوْلَ: بِعْتُكَ هذا بكذا إِن شئتَ، فيقولُ: قَبِلْتُ. قُلْتُ: الفَرْقُ بَيْنَهُمَا تَعْيِيْنُ الْمُبتاعِ هنا، بخلافِهِ في الإجازةِ، فإنَّهُ مُبْهَمٌ. نَعَمْ.. وِزَانُهُ في الإجازةِ أَنْ يقولَ: أجزتُ لك أَنْ ترويَ عَنِّي إِنْ شئتَ الروايةَ عنِّي. وأمَّا المثالُ الذي ذكرهُ فالتعليقُ وإِنْ لم يَضُرَّهُ فالجهالةُ مُبطِلةٌ لَهُ. وكذلكَ ما وُجِدَ بخطِ أبي الفتحِ الأَزْدِيِّ: أجزتُ روايةَ ذلكَ لجميعِ مَنْ أَحبَّ أَنْ يرويَ ذلكَ عنِّي. وأمَّا تعليقُ الروايةِ مَعَ التصريحِ بالمجُازِ لَه وتعيينِهِ، كقولِهِ: أجزتُ لكَ كذا وكذا إِنْ شئتَ روايتَهُ عَنِّي، أو أَجَزْتُ لكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ ترويَ عَنِّي، أو أجزْتُ لفلانٍ إِنْ شَاْءَ الروايةَ عَنِّي، ونحوَ ذلكَ؛ فالأظهرُ الأقوى أَنَّ ذلك جائزٌ إذْ قد انتفتْ فيه الجَهالةُ، وحقيقةُ التعليقِ، وَلَمْ يَبْقَ سوى صِيغتِهِ.
فقولي: (إنْ يرد) ، أي: إنْ يُرِدِ الروايةَ يَدُلُّ عليهِ قولي في البيتِ قبلَهُ: (مَنْ شاءَ يَرْوِي) ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ الأمرانِ معاً، أي: إِنْ أرادَ الروايةَ، أو الإجازة. والظاهرُ: أنَّهُ لا فرقَ وإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابنُ الصَّلاحِ بتعليقِ الإِجازةِ في الْمُعَيَّنِ فتعليلُهُ وبعضُ أمثلتِهِ يقتضي الصحَّةَ فيه لعمومِهِ.

(1/425)


470.... وَالسَّادِسُ: الإِذْنُ لِمَعْدُوْمٍ تَبَعْ ... كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِفُلاَنِ مَعْ
471.... أَوْلاَدِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ ... حَيْثُ أَتَوْا أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُوْمَ بِهْ
472.... وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الأَوَّلاَ ... (ابْنُ أبي دَاوُدَ) وَهْوَ مُثِّلاَ
473.... بِالْوَقْفِ، لَكِن (أَبَا الطَّيِّبِ) رَدْ ... كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيْحُ الْمُعْتَمَدْ
474.... كَذَا أبو نَصْرٍ. وَجَازَ مُطْلَقَا ... عِنْدَ الْخَطِيْبِ وَبِهِ قَدْ سُبِقَا
475.... مِنِ ابْنِ عُمْرُوْسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ ... وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلى اسْتِوَاءِ
476.... فِي الْوَقْفِ في صِحَّتِهِ مَنْ تَبِعَا ... أَبَا حَنِيْفَةَ وَمالِكاً مَعَا

والنوعُ السادسُ من أنواعِ الإِجازة: الإِجازةُ للمعدومِ، وهي على قسمينِ:
الأولُ: أَنْ يَعْطِفَ المعدومَ على الموجودِ، كقولهِ: أجزتُ لفلانٍ ولولدهِ وعَقِبهِ ما تَنَاسَلُوا، أو أجزتُ لكَ ولمنْ يولدُ لكَ، ونحوِ ذلكَ. وقد فعلَهُ أبو بكرٍ عبدُ الله ابنُ أبي داودَ السجستانيُّ، وقد سُئِلَ الإجازةَ، فقالَ: قَدْ أجزتُ لكَ ولأولادكَ ولِحَبَلِ الْحَبَلةِ، يعني: الذينَ لَمْ يُوْلَدُوا بَعْدُ.

(1/426)


والقسمُ الثاني: أَنْ يُخصِّصَ المعدومَ بالإجازةِ من غَيْرِ عَطْفٍ على موجودٍ، كقولهِ: أجزتُ لمنْ يُولدُ لفلانٍ، وهو أضعفُ من القسمِ الأولِ والأولُ أَقربُ إلى الجوازِ، وقد شُبِّهَ بالوقفِ على المعدومِ. وقد أجازهُ أصحابُ الشافعيِّ في القسمِ الأولِ دونَ الثاني، وحَكَى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيبِ الطبريِّ: أَنَّهُ منعَ صِحَّةَ الإجازةِ للمعدومِ مطلقاً، قالَ: وقدْ كانَ قالَ لي قديماً: إِنَّه يَصحُّ. وحكى ابنُ الصلاحِ عن أبي نَصْرِ بنِ الصَّبَّاغِ: أنَّهُ بَيَّنَ بُطلانَها، قالَ ابنُ الصلاحِ: وذلكَ هوَ الصحيحُ الذي لا ينبغي غيرُهُ؛ لأَنَّ الإِجازةَ في حُكمِ الإِخبارِ جملةً بالمُجازِ، فكما لا يصحُّ الإخبارُ للمعدومِ، لا تصحُ الإِجازةُ لهُ. وأَجازَ الخطيبُالإجازةَ للمعدومِ مطلقاً، وحَكَاهُ عن أبي يعلى بنِ الفَرَّاءِ وأبي الفَضْلِ بنِ عُمْرُوْسٍ، وقالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أجازهُ معظَمُ الشُّيُوْخِ المتأخِّرِينَ. قالَ: وبهذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ بَعدُ شرقاً وغرباً. انتهى وحَكَى الخطيبُ: أَنَّ أصحابَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، قَدْ أَجَازُوا الوَقْفَ عَلَى المعدومِ، وإِنْ لَمْ يكنْ أصلُهُ موجوداً حالَ الإيقافِ، مثلَ أَنْ يقولَ: وقفتُ هَذَا عَلَى مَنْ يُولد لفلانٍ وإِن لَمْ يَكُنْ وَقَفَهُ عَلَى فلانٍ.

477.... وَالسَّاِبعُ: الإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ ... لِلأَخْذِ عَنْهُ كَافِرٍ أو طِفْلِ
478.... غَيْرِ مُمَيِزٍ وَذَا الأَخِيْرُ ... رَأَى (أَبُو الطَّيِّبِ) وَالْجُمْهُوْرُ
479.... وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلاً، بَلَى ... بِحَضْرَةِ (الْمِزِّيِّ) تَتْرَا فُعِلا

(1/427)


480.... وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضَاً نَقْلاَ ... وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُوْمِ أولَى فِعْلاَ
481.... وَ (لِلْخَطِيْبِ) لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ ... قُلْتُ: رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ
482.... مَعْ أبويْهِ فَأَجَازَ، وَلَعَلْ ... مَا اصَّفَّحَ الأَسماءَ فِيْهَا إِذْ فَعَلْ
483.... وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلى مَا ذَكَرُوْا ... هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ؟ وَهَذَا أَظْهَرُ

والنوعُ السابعُ من أنواعِ الإجازةِ: الإجازةُ لمنْ ليسَ بأهلٍ حِيْنَ الإجازةِ للأَدَاءِ والأخذِ عنهُ، وذلكَ يشملُ صُوراً لَمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ مِنْهَا إلاَّ الصبيَّ، وَلَمْ يُفْرِدْهُ بنوعٍ، بلْ ذَكَرَهُ في آخرِ الكلامِ عَلَى الإجازةِ للمعدومِ، وزدتُ عليهِ في النَّظْمِ الإجازةَ للكافرِ. فأمَّا الإجازةُ للصبيِّ فَلاَ يخلوا إِمَّا أنْ يكونَ مُمَيَّزَاً أو لا، فإنْ كَانَ مُمَيِّزاً فالإجازةُ لَهُ صحيحةٌ كسماعهِ، وإن تَقَدَّمَ نقلُ خلافٍ ضعيفٍ في صحةِ سماعهِ فإنَّهُ لا يُعْتَدُّ بهِ. وإنْ كَانَ غيرَ مُمَيِّزٍ، فاختُلِفَ فيهِ. فَحَكَى الخطيبُ: أنَّ بعضَ أصحابِنَا قالَ: لا تصحُّ الإجازةُ لمنْ لا يصحُّ السماعُ لهُ. قالَ: وسألتُ القاضيَ أبا الطيبِ الطبريَّ، هلْ يُعتبرُ في صِحَّتِهَا سِنُّهُ أو تمييزُهُ كَمَا يعتبرُ ذلكَ في صحَّةِ سماعِهِ؟ فقالَ: لا يُعتبرُ ذلكَ. فذكرَ له الخطيبُ قولَ بعضِ أصحابِنا المتقدّمِ فقالَ: يصحُّ أَنْ يُجيزَ للغائبِ ولا يصحُّ سماعُهُ. قالَ الخطيبُ: وعلى هذا رأينا كافةَ شيوخِنا يجيزونَ للأطفالِ الغُيَّبِ عنهم مِن غيرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أسْنَانِهِم، وحَالِ تمييزِهِم. واحْتَجَّ لذلكَ بأَنَّ الإجازةَ إنَّما هيَ إباحةُ المجيزِ للمُجَازِ لهُ، أَنْ يرويَ عنهُ، والإبَاحةُ تصحُّ للعاقلِ، وغيرِ العاقلِ وقالَ ابنُ الصلاحِ: وكأَنَّهُم رَأَوا الطِّفْلَ أهْلاً لتحمُّلِ هذا النوعِ ليؤدِّيَ بهِ بعدَ حصولِ أَهليتهِ لبقاءِ

(1/428)


الإسنادِ.
وأمَّا الإجازةُ للكافرِ فلم أجدْ فيها نَقْلاً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ سماعَهُ صحيحٌ ولم أَجدْ عن أَحدٍ من المتقدِّمِيْنَ والمتأخِّرِينَ الإجازةَ للكافرِ، إلاَّ أنَّ شخصاً من الأَطباءِ بدمشقَ ممن رأيتُهُ بدمشقَ ولم أسمعْ عليهِ، يُقالُ لهُ محمَّدُ بنُ عبدِ السيدِ بنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ الحديثَ في حالِ يهوديتِهِ على أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ عبدِ المؤمنِ الصوريِّ، وكتبَ اسمهُ في طبقةِ السماعِ معَ السامعينَ وأَجازَ ابنُ عبدِ المؤمن لمنْ سمعَ وهوَ من جملتهِم. وكَاْنَ السماعُ والإجازةُ بحضورِ الحافظِ أبي الحجاجِ يوسف بنِ عبدِ الرحمنِ المِزِّيِّ، وبعضُ السماعِ بقراءتهِ وذلكَ في غيرِ ما جزءٍ منها: "جزءُ ابنِ عترةَ" فلولاَ أنَّ المِزِّيَّ يرى جوازَ ذلكَ ما أَقرَّ عليهِ. ثُمَّ هَدَى اللهُ ابنَ عبدِ السيدِ المذكورِ للإِسلامِ وحَدَّثَ وسَمِعَ منهُ أصحابُنا. ومن صُوَرِ الإجازةِ لغيِر أهلِ الأداءِ الإجازةُ للمَجْنُونِ، وهيَ صحيحةٌ وقد تقدَّمَ ذكرُها في كلامِ الخطيبِ. ومِنْ صُوَرِها الإجازةُ للفاسقِ والمبتدعِ، والظاهرُ جوازُها، وأولَى من الكافرِ، فإذا زالَ المانعُ من الأَداءِ صحَّ الأداءُ، كالسماعِ سواءٌ. وأمَّا الإجازةُ للحَمْلِ فلَمْ أَجدْ فيها أيضاً نَقْلاً غيرَ أنَّ الخطيبَ قالَ: لَمْ أَرَهُم أجازُوا لمنْ لَمْ يكنْ مولوداً في الحالِ، ولم يَتَعَرَّضْ؛ لكونهِ إذا وقعَ تصحُّ أو لا؟ ولا شكَّ أَنَّهُ أولى بالصِّحَّةِ مِنَ المعدومِ. والخطيبُ يرى صحتَها للمعدومِ - كما تقدَّمَ - وقدْ رأيتُ بعضَ شيوخِنَا المتأخِّرِينَ سُئِلَ الإجازةَ لِحَمْلٍ بعدَ ذِكْرِ أبويهِ قبلَهُ وجماعةٍ معهُم، فأجازَ فيها، وهوَ الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ.
ورأيتُ بعضَ أهلِ الحديثِ قدْ احترزَ عنِ الإجازةِ لهُ، بلْ عَمَّنْ

(1/429)


لَمْ يُسمَّ في الإجازةِ، وإِنْ كانَ موجوداً، فكتبَ: أجزْتُ للمسمِّيْنَ فيهِ، وهوَ المحدِّثُ الثقةُ أبو الثناءِ محمودُ بنُ خَلَفٍ المنبجيُّ. ومَنْ عَمَّمَ الإجازَةَ للحَمْلِ وغيرِهِ أَعْلَمُ وأَحفظُ وأَتقنُ. إلا أنهُ قد يُقالُ: لعلَّهُ ما اصَّفَّحَ أسماءَ الإجازةِ حتى يَعلمَ هلْ فيها حملٌ أم لا؟ فقدْ تقدَّمَ أَنَّ الإجازةَ تصحُّ وإِنْ لَمْ يَتَصَفَّحِ الشيخُ الْمُجيزُ أسماءَ الجماعةِ المسؤولِ لَهُمْ الإجازةَ. إلاَّ أَنَّ الغالبَ أَنَّ أَهْلَ الحديثِ لا يُجيزونَ إلاَّ بعدَ نَظَرِ المسؤولِ لَهُمْ، كَمَا شاهدناهُ مِنْهُمْ. قلتُ: وينبغي بناءُ الحكمِ في الإجازةِ للحملِ عَلَى الخلافِ في أَنَّ الحَمْلَ هلْ يُعْلَمُ أو لا؟ فإِن قلنا: إِنَّه لا يُعلمُ، فتكونُ كالإجازَةِ للمعدومِ ويجري فيهِ الخلافُ وإِن قُلنا: إِنَّهُ يُعْلَمُ - وهو الأَصَحُّ كما صحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ - صَحَّتِ الإجازةُ. ومعنى قولهِم: إِنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، أي: يُعامَلُ مُعامَلةَ المعلومِ وإِلاَّ فقدْ قالَ إِمامُ الحرمينِ: لا خلافَ أَنَّهُ لا يُعلمُ وقد جزمَ بهِ الرافعيُّ بعد هذا بنحوِ صفحةٍ في أثناءِ فَرقٍ ذَكَرَهُ. وقولي: (وَهَذَا أَظْهَرُ) ، أي: في أَنَّ الحملَ يُعْلمُ، وفي بناءِ الإجازةِ للحملِ على هذا الخلافِ، ففيهِ ترجيحٌ للأَمرينِ معاً.

(1/430)


484.... وَالثَّامِنُ: الإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ ... الشَّيْخُ، وَالصَّحِيْحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ
485.... وبعضُ عَصْرِيِّ عِيَاضٍ بَذَلَهْ ... وَ (ابْنُ مُغِيْثٍ) لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ
486.... وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ ... أو سَيَصِحُّ، فَصَحِيْحٌ عَمِلَهْ
487.... (الدَّارَقُطْنِيْ) وَسِواهُ أوحَذَفْ ... يَصِحُّ جَازَ الكُلُّ حَيْثُمَا عَرَفْ
والنوعُ الثامنُ من أنواعِ الإجازةِ: إجازةُ ما سَيَحْمِلُهُ المجُيزُ ممَّا لم يسمعْهُ قبلَ ذلكَ، ولم يتحمَّلْهُ، لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لهُ بعدَ أَنْ يتحمَّلَهُ المجُيزُ، قالَ القاضي عياضٌ في "الإلماع": ((فهذا لم أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ فيهِ من المشايخِ)) ، قالَ: ((ورأيتُ بعضَ المتأخِّرينَ والعَصْرِيينَ يَصْنَعُونَهُ، إلاَّ أَنِّي قرأتُ في فهرسةِ أبي مروانَ عبدِ الملكِ بنِ زيادةِ اللهِ الطُّبْنيِّ، قالَ: كنتُ عندَ القاضي بقُرْطُبَةَ أبي الوليدِ يونسَ بنِ مُغيثٍ، فجاءَهُ إنسانٌ فسأَلَهُ الإجازةَ لهُ بجميعِ ما رواهُ إلى تاريخِها، وما يرويهِ بَعْدُ، فلمْ يجبْهُ إلى ذلكَ، فغضبَ السائلُ، فنظرَ إليَّ يونُسُ فقلتُ لهُ: يا هذا يُعطيكَ ما لَمْ يأْخُذْ؟!! هذا محالٌ. فقالَ يُونُسُ: هذا جوابي. قالَ القاضي عياضٌ: وهذا هو الصَّحيحُ فإنَّ هذا يُخْبرُ بما لا خَبَرَ عندهُ منهُ، ويأذنُ لهُ بالحديثِ بما لَمْ يحدَّثْ بهِ بعدُ ويُبيحُ ما لا يَعْلَمُ، هلْ يصحُّ لهُ

(1/431)


الإذنُ فيهِ؟! فَمَنْعُهُ الصوابُ)) . وقالَ ابنُ الصلاحِ: ((ينبغي أنْ يُبنَى هذا على أَنَّ الإجازةَ في حُكمِ الإخبارِ بالمجُازِ جملةً، وهي إِذْنٌ. فإنْ جُعِلَتْ في حُكمِ الإخبارِ لم يصحَّ، إذْ كيفَ يخبرُ بما لا خَبرَ عندهُ منه؟ وإنْ جُعِلَتْ إذناً انْبَنَى على الإذْن في الوكالةِ فيما لم يملكْهُ الآذنُ بعدُ. وأجازَ ذلكَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ، قالَ: والصحيحُ بطلانُ هذهِ الإجازةِ. وقالَ النوويُّ: إنَّهُ الصوابُ. وعلى هذا يتعيَّنُ على مَنْ يَرْوِي عَنْ شيخٍ بالإجازةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذلكَ سمِعَه أو تحمَّلَهُ قَبْلَ الإجازةِ له.
وأمّا إذا قالَ: أجزتُ له ما صحَّ ويصِحُّ عندَه من مَسْمُوْعَاتي فهيَ إجازةٌ صحيحةٌ، وفَعَلَهُ الدَّارقطنيُّ وغيرُهُ ولهُ أنْ يرويَ عنهُ ما صحَّ عندَهُ بعدَ الإجازةِ أَنَّهُ سمعَهُ قبلَها، وكذلكَ لو لمْ يقلْ: ويصحُّ، فإنَّ المرادَ بقولهِ: مَا صَحَّ، أي: حالةَ الروايةِ، لا حالةَ الإجازةِ.
فقولي: (جَازَ الكُلُّ) ، أي: ما عَرَفَ حالةَ الأداءِ أَنُّه سماعُهُ.
وقولي: بذلَهُ بذالِ معجمةٍ، أي: أعطاهُ لِمَنْ سألَهُ.

488.... وَالتَّاسِعُ: الإِذْنُ بِمَا أُجِيْزَا ... لِشَيْخِهِ، فَقِيْلَ: لَنْ يَجُوْزَا
489.... وَرُدَّ، وَالصَّحِيْحُ: الاعْتِمَادُ ... عَلَيْهِ قَدْ جَوَّزَهُ النُّقَّاْدُ
490.... أبو نُعَيْمٍ، وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ ... وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ

(1/432)


491.... وَالَى ثَلاَثَاً بإِجَازَةٍ وَقَدْ ... رَأَيْتُ مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ
492.... وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الإِجازَهْ ... فحيثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَاْزَهْ
493.... بَلِفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ ... مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ
والنوعُ التاسعُ من أنواعِ الإجازةِ: إجازةُ المجُازِ، كقولِهِ: أجزتُ لكَ مُجَازَاتي، ونحوَ ذلكَ. فمَنَعَ جوازَ ذلكَ الحافظُ أبو البركاتِ عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ بنِ الأنماطيِّ - أحدُ شيوخِ ابنِ الجوزيِّ- وصنَّفَ جزءاً في مَنْعِ ذلكَ. وذلكَ أَنَّ الإجازةَ ضعيفةٌ؛ فيقْوَى الضَّعْفُ باجتماعِ إجازتينِ، وحكاهُ الحافظُ أبو عليٍّ البَرَدَانيُّ عن بعضِ مُنتحلي الحديثِ، وَلَمْ يُسمِّهِ، وقدْ أبهمَهُ ابنُ الصلاحِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بقولِهِ: بعضُ منْ لا يُعتدُّ بِهِ من المتأخِّرينَ، قالَ: والصحيحُ الَّذِيعليهِ العملُ أَنَّ ذلكَ جائزٌ، ولا يُشْبِهُ ذلكَما امتنعَ مِنْ توكيلِ الوكيلِ بغيرِ إذنِ المُوكِّلِ. وحَكَى الخطيبُ تجويزَهُ عن الدارقطنيِّ وأبي العباسِ بنِ عُقْدَةَ، وفعلَهُ الحاكمُ في "تأرْيخِهِ". قالَ ابنُ طاهرٍ: ولا يُعْرَفُ بين القائلينَ بالإجازةَ خلافٌ في العملِ بإجازةِ الإجازةِ، وقال أبو نُعيم: الإجازةُ على الإجازةِ قويةٌ جائزةٌ.

(1/433)


وقولي: (وَنَصْرٌ) هو مبتدأٌ، خبرُه: (وَالَى ثلاثاً) ، أي: بينَ ثلاثِ أجائزَ، ويجوز أَنْ يكونَ نصرٌ معطوفاً على الدارقطنيِّ، فإنَّ فِعْلَ نصرٍ له دالٌ على جوازهِ عندَهُ، وهوَ الفقيهُ: نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ، قالَ محمدُ بنُ طاهرٍ: سمعتُه ببيتِ المقدسِ يروي بالإجازة عنِ الإجازةِ، وربَّما تابعَ بين ثلاثٍ منها. وذكرَ أبو الفضلِ محمدُ بنُ ناصرٍ الحافظُ، أَنَّ أَبا الفتحِ ابنَ أبي الفوارسِ، حدَّثَ بجزءٍ من العلِلِ لأَحمدَ بإجازته من أبي عليًّ بنِ الصَّوَّافِ، بإجازتهِ من عبدِ الله بنِ أحمدَ، بإجازتهِ من أبيهِ. قلتُ: وقد رأَيتُ في كلامِ غيرِ واحدٍ مِنْ الأَئمة وأَهلِ الحديثِ، الزيادةَ على ثلاثِ أجائزَ، فرَوْوا بأربعِ أجائزَ متواليةٍ، وخمسٍ، وقدْ روى الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في " تاريخِ مصرَ " عن عبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ الأزديِّ بخمسِ أجائزَ متواليةٍ في عدَّةِ مواضعَ. وينبغي لِمَنْ يروِي بالإِجازةِ عن الإجازَةِ، أَنْ يتأَمَّلَ كيفيةَ إجازةِ شيخِ شيخِهِ لشيخهِ، ومُقْتَضَاهَا حَتَّى لا يروي بها ما لم يندرجْ تحتها، فربما قَيَّدَهَا بعضُهم بما صحَّ عند المجازِ، أو بما سمعهُ المجيزُ فقط، أو بما حدَّثَ به من مَسْمُوْعَاتِهِ أو غيرِ ذلكَ. فإنْ كان أجازَهُ بلفظِ: أجزتُ له ما صحَّ عندَهُ من سماعاتي؛ فليسِ للمجازِ الثاني أَنْ يروي عن المجُازِ الأولِ إلاّ ما علمَ أَنَّهُ صحَّ عنده أنَّهُ مِن سماعِ شيخِهِ الأَعْلَى. ولا يَكتَفي بمجرَّدِ صحةِ الإجازة)) ، وكذلك إنْ قيَّدَها بسماعهِ، لم يتعدَّ إلى مجازاتهِ.
وقد غلطَ غيرُ واحدٍ من الأئمة، وعَثَرَ بسببِ هذا. فمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الإمامَ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أحمدَ بنِ محمدٍ الأَنْدَرَشِيَّ، المعروفَ بابنِ اليَتِيْمِ، - أحَد مَنْ رحلَ وجالَ

(1/434)


في البلادِ، وسمعَ ببلادِ المغربِ، ومصرَ، والشامِ، والعراقِ، وخراسانَ، وأخذَ عن السِّلفيِّ وابنِ عساكرَ والسهيليِّ وابنِ بَشْكَوالَ وعبدِ الحقِّ الإشبيليِّ وخلقٍ - ذكرَ إسنادهُ في الترمذيِّ عن أبي طاهرٍ السِّلفيِّ عن أحمدَ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ سعيدٍ الحدَّادِ، عن إسماعيلَ بنِ يَنَالَ الْمَحْبُوْبيِّ، عن أبي العباسِ الْمَحْبُوْبيِّ، عن الترمذيِّ، هكذا ذكرَ الحافظُ أبو جعفرِ بنُ النَّرْسِيِّ: أَنَّهُ وجدَهُ بخطِّ ابنِ اليتيمِ.
وَوَجْهُ الغَلَطِ فيهِ: أَنَّ فيهِ إجازتينِ: إحداهُما: أنَّ ابنَ يَنَالَ أجازَ للحدَّادِ، ولم يسمعْهُ منهُ. والثانيةُ: أَنَّ الحدَّادَ أجازَ للسِّلَفيِّ ما سمعَهُ فقطْ، فلم يُدْخِلْ الترمذيَّ في إجازتِهِ للسِّلَفيِّ. وذكرَ النَّرْسِيُّ: أنَّ السِّلَفِيَّ وَهِمَ في ذلكَ قديماً ثمَّ تذكرَ ورجعَ عن هذا السندِ. قالَ: ومنْ هُنا تكَلَّمَ أبو جعفرِ بنُ الباذشِ في السِّلَفِيِّ، وعذرَ الناسُ السِّلَفِيِّ، فقدْ رجعَ عنهُ. قالَ: وتكلَّمَ الناسُ في ابنِ اليتيمِ: قالَ: وما أظنُّ الباعثَ لذلكَ إلاَّ ما ذكرتُهُ. انتهى. وقدْ بَيَّنَ السِّلَفِيُّ صورةَ إجازةِ الحدَّادِ له في " فهْرستِهِ " فيما أخبرني به محمدُ بنُ محمدِ بنِ يحيى القرشيُّ، قالَ: أخبرنا عيسى بنُ يحيى السبتيُّ، قالَ: أخبرنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ المجيدِ الصفراويُّ، أخبرني أبو طاهر السِّلَفيُّ، قال: كانَ أبو الفرجِ الحدَّادُ يرويهِ، أي: كتابَ الترمذيِّ، قالَ: ولم يُجِزْ لي ما أُجيزَ لهُ، بلْ ما سمعَهُ فقطْ، قال: كتبَ إليَّ إسماعيلُ بنُ يَنَالَ المحْبُوْبيُّ من مَرْو. انتهى.

(1/435)


قلتُ: وكانَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ دقيقِ العيدِ، لا يُجيزُ روايةَ سماعِهِ كُلِّهِ بلْ يُقَيّدُهُ بما حَدَّثَ بهِ مِنْ مَسْمُوْعَاتهِ، هكذا رأيتُهُ بخطِّهِ في عِدَّةِ إجازاتٍ، ولم أَرَ لهُ إجازةً تَشملُ مسموعَهُ؛ وذلك أَنَّهُ كَاْنَ شكَّ في بعضِ سماعاتهِ فَلَمْ يحدِّثْ بِهِ وَلَمْ يُجزْهُ، وَهُوَ سماعُهُ عَلَى ابنِ الْمُقَيَّرِ، فمَنْ حدَّثََ عنهُ بإجازتِهِ مِنْهُ بشيءٍ مِمَّا حَدَّثَ بهِ من مَسْمُوْعَاتِهِ فَهُوَ غيرُ صحيحٍ، وينبغي التنبهُ لهذا وأمثالِهِ.

لَفْظُ الإجَازَةِ، وَشَرْطُهَاْ

494.... أَجَزْتُهُ (ابْنُ فَارِسٍ) قَدْ نَقَلَهْ ... وَإِنَّمَا الْمَعْرُوْفُ قَدْ أَجَزْتُ لَهْ

قالَ أبو الحُسينِ أحمدُ بنُ فارسٍ: ((معنى الإجازةِ في كلامِ العربِ مأخوذٌ مِنْ جوازِ الماءِ الذي يُسْقَاهُ المالُ من الماشيةِ والْحَرْثِ، يُقالُ منهُ: استجزتُ فلاناً فأجازني، إذا سَقَاكَ ماءً لأرضِكَ أو ماشيتِكَ، كذلكَ طالبُ العلمِ يسألُ العالِمَ أنْ يجيزَهُ عِلْمَهُ،

(1/436)


فيجيزَهُ إيَّاهُ)) . قال ابنُ الصلاحِ: فللمجيزِ - على هذا - أنْ يقولَ: أجزتُ فلاناً مَسْمُوْعَاتي، أو مَرْوِيَاتي، فيُعَدِّيهِ بغيرِ حرفِ جرٍ، من غيرِ حاجةٍ إلى ذِكْرِ لفظِ الروايةِ، أو نحوِ ذلكَ. ويحتاجُ إلى ذلكَ مَنْ يجعلُ الإجازةَ بمعنى التسويغِ والإذنِ والإباحةِ، قالَ: وذلكَ هو المعروفُ. فيقولُ: أجزتُ له روايةَ مَسْمُوْعَاتي مثلاً. قالَ: وَمنْ يقولُ: أجزتُ له مَسْمُوْعَاتي فعلى سبيلِ الحذفِ الذي لا يَخْفَى نظيرُهُ.

495.... وَإِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الإِجَازَهْ ... مِنْ عَالِمٍ بِهِ، وَمَنْ أَجَازَهْ
496.... طَالِبَ عِلْمٍ (وَالْوَلِيْدُ) ذَا ذَكَرْ ... عَنْ (مَالِكٍ) شَرْطَاً وَعَنْ (أبي عُمَرْ)
497.... أَنَّ الصَّحِيْحَ أَنَّهَا لاَ تُقْبَلُ ... إِلاَّ لِمَاهِرٍ وَمَا لاَ يُشْكِلُ
498.... وَالْلَفْظُ إِنْ تُجِزْ بِكَتْبٍ أَحْسَنُ ... أو دُوْنَ لَفْظٍ فَانْوِ وَهْوَ أَدْوَنُ

هذا بيانٌ لشرطِ صحةِ الإجازة عند بعضهِمِ على الخلافِ المذكورِ. قال ابنُ الصلاحِ: إنَّمَا تُستَحْسَنُ الإجازةُ إذا كانَ الْمُجيزُ عالماً بما يُجيزُ، والمجازُ لهُ مِنْ أهلِ العلمِ؛ لأَنَّها تَوَسُّعٌ وترخيصٌ، يتأَهلُ لَهُ أهلُ العلمِ لِمسيسِ حاجتِهِم إليها. قَالَ: وبالغَ بعضُهم في ذَلِكَ فجعلَه شرطاً فِيْهَا، وحكاهُ الوليدُ بنُ بكرٍ المالكيُّ عن مالكٍ، وَقَالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ: الصحيحُ أَنَّها لا تجوزُ إلاّ لماهرٍ بالصناعةِ، وفي شيءٍ مُعيَّنٍ لا

(1/437)


يُشْكِلُ إسنادُهُ. ثُمَّ الإجازةُ قد تكونُ بلفظِ الشيخِ وقد تكونُ بالخطِّ، سواءٌ أجازَ ابتداءً أَمْ كتبَ بهِ على سؤالِ الإجازةِ؟ كما جرتِ العادةُ. فإنْ كانتِ الإِجازةُ بالخطِّ فالأحسنُ والأَولى أن يتلفَّظَ بالإجازةِ أيضاً، فإنِ اقتصرَ على الكتابةِ ولم يتلفظْ بالإجازةِ أيضاً، صحتْ إذا اقترنتِ الكتابةُ بقصدِالإجازةِ؛ لأنَّ الكتابةَ كتابةٌ وهذهِ دون الإجازةِ الملفوظِ بها في المرتبةِ. فإنْ لم يقصدِ الإجازةَ فالظاهرُ عدمُ الصحةِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وغيرُ مستبَعدٍ تصحيحُ ذلك بمجردِ هذهِ الكتابةِ في بابِ الروايةِ التي جُعلتْ فيه القراءةُ على الشيخِ، مع أَنَّهُ لم يلفظْ بما قُرِئَ عليه اخبارًا منه بذلك.

الرَّاْبِعُ: الْمُنَاولَةُ

499.... ثُمَّ الْمُنَاولاَتُ إِمَّا تَقْتَرِنْ ... بِالإِذْنِ أَوْ لاَ، فَالَّتِي فِيْهَا إِذِنْ
500.... أَعْلَى الإْجَازَاتِ، وَأَعْلاَهَا إذا ... أَعْطَاهُ مِلْكَاً فَإِعَارَةً كَذَا
501.... أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ لَهْ ... عَرْضاً وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاولَهْ
502.... وَالشَّيْخُ ذُوْ مَعْرِفَةٍ فَيِنَظُرَهْ ... ثُمَّ يُنَاولَ الْكِتَابَ مُحْضِرَهْ
503.... يقول: هَذَا مِنْ حَدِيْثِي فارْوِهِ ... وَقَدْ حَكَوْا عَنْ (مَالِكٍ) وَنَحْوِهِ

(1/438)


504.... بِأَنَّهَا تُعَادِلُ السَّمَاعَا ... وَقَدْ أَبَى الْمُفْتُوْنَ ذَا امْتِنَاعَا
505.... إِسْحَاقُ وَالثُّوْرِيْ مَعَ النُّعْمَانِ ... وَالشَّافِعيْ وَأحْمَدُ الشَّيْبَانِيْ
506.... وَ (ابْنُ الْمُبَارَكِ) وَغَيْرُهُمْ رَأوْا ... بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، قُلْتُ: قَدْ حَكَوْا
507.... إِجْمَاعَهُمْ بِأَنَّهَا صَحِيْحَهْ ... مُعْتَمَداً، وَإِنْ تَكُنْ مَرْجُوْحَةْ

القسمُ الرابعُ من أقسامِ الأَخذِ والتحمُّلِ: المناولةُ، وهي على نوعينِ: الأولُ: المناولةُ المقرونةُ بالإجازةِ، وهي أَعلى أنواعِ الإجازةِ على الإطلاقِ.
ثُمَّ لهذهِ المناولةِ العاليةِ صورٌ، أعلاها أنْ يُناولَهُ شيئاً من سماعِهِ، أصلاً أو فرعاً مقابلاً به، ويقولَ: هَذا مِنْ سَمَاعِي، أو رِوَايَتِي عن فلانٍ فاروهِ عنِّي، ونحو ذلكَ. وكذا لو لم يذكرْ شيخَهُ وكان اسمُ شيخِهِ في الكتابِ المُنَاول، وفيهِ بيانُ سماعِهِ منهُ، أو إجازتِهِ منهُ، ونحوِ ذلكَ، ويُمَلِّكُهُ الشيخُ لهُ، أو يقولُ له: خُذْهُ وانتسخْهُ، وقابلْ به، ثم رُدَّهُ إليَّ، ونحَو ذلك. ومنها أَنْ يناولَهُ له ثُمَّ يَرْتَجِعَهُ منهُ في الحالِ، وسيأتي حكمُ هذهِ الصورةِ في الأبياتِ التي تلي هذهِ، ومنها أَنْ يُحضِرَ الطالبُ الكتابَ - أَصْلَ الشيخِ أو فرعَهُ المُقابلَ بهِ - فيعرضَهُ عليهِ، وسَمَّاهُ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ عَرْضَاً، فيكونُ هذا عَرْضَ المناولِة، وقد تقَدَّمَ عَرْضُ السَّماعِ. فإذا عَرَضَ الطالبُ الكتابَ على الشَّيْخِ، تأَمَّلَهُ الشَّيْخُ، وهوَ عارفٌ مُتَيَقِّظٌ، ثمَّ يُنَاولُهُ للطالبِ، ويقولُ: هوَ روايتي عن فلانٍ أو عمَّنْ ذُكِرَ فيه، أو نحوَ ذلك، فاروِهِ عنِّي، ونحوَ ذلكَ. ولم يتعرضِ ابنُ الصلاحِ لكونِ الصورةِ الأُوْلى من صُوَرِ المناولةِ أعلى، ولكنَّهُ قَدَّمَها في الذِّكْرِ، وقالَ القاضي عياضٌ: أَرفعُها أَنْ يدفعَ الشَّيْخُ كتابَهُ للطالبِ فيقولَ: هذهِ روايتي فارْوِها عنِّي، ويدفَعَها إليهِ، أو يقولَ له: خذْها فَانْسَخْهَا، وقابلْ بها ثمَّ اصْرِفْهَا إليَّ، أو يأتيهِ الطالبُ بنسخةٍ

(1/439)


صحيحةٍ إلى آخرِ كلامِهِ. وهذهِ المناولةُ المقرونةُ بالإجازةِ حَالَّةٌ محلَّ السَّماعِ عندَ بعضهِم، كما حكاهُ الحاكمُ عن ابنِ شهابٍ، وربيعةَ الرأي، ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، ومالكٍ في آخرينَ مِن أهلِ المدينةِ، ومَكَّةَ والكوفةِ والبصرةِ والشامِ ومصرَ وخُراسانَ.
وفي كلامِهِ بعضُ تخليطٍ؛ إذْ خلطَ عَرْضَ المناولةِ بعرْضِ السَّمَاعِ، وقالَ الحاكمُ في هذا العرضِ: أما فقهاءُ الإسلامِ الذين أَفتوْا في الحلالِ والحرامِ فإنَّهم لم يَرَوْهُ سماعاً، وبهِ قالَ الشافعيُّ والأوزاعيُّ والبويطيُّ والْمُزَنيُّ وأبو حنيفةَ وسفيانُ الثوريُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ وابنُ المباركِ ويحيى بنُ يحيى وابنُ راهويهِ. قالَ: وعليهِ عَهِدْنَا أَئمَتَنا، وإليهِ ذهبوا، وإليهِ نَذْهَبُ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّهُ الصحيحُ وإنَّ هذا مُنْحَطٌّ عن التَّحْدِيثِ والإخبارِ.
وقولي: (قُلتُ: قَدْ حَكَوَا إجماعَهُمْ) ، أي: أجماعَ أهلِ النقلِ، وإنما زدْتُ نَقْلَ اتفاقِهم هنا؛ لانَّ الشيخَ حكى الخلافَ المتقدِّمَ في الإجازةِ، ولم يحكِ هنا إلاَّ كونَها مُوازيةً للسَّمَاعِ أولا، فأردْتُ نَقْلَ اتفاقِهِم على صَحَّتِهَا، وقد حكاهُ القاضي عياضٌ في " الإِلماعِ " بعد أنْ قالَ: وهي روايةٌ صحيحةٌ عند معظمِ الأئَمةِ والمحدِّثينَ، وسَمَّى جماعةً، ثُمَّ قالَ: وهو قولُ كافةِ أهلِ النقلِ والأَداءِ والتحقيقِ من أهلِ النَّظَرِ. انتهى.
وقولي: (مُعتَمَداً) ، هو بفتحِ الميمِ، وهو تمييزٌ، أي: صحيحةً اعتماداً.

(1/440)


508.... أَمَّا إذا نَاولَ وَاسْتَرَدَّا ... فِي الْوَقْتِ صَحَّ وَالْمُجَازُ أَدَّى
509.... مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ ... وَهَذِهِ لَيْسَتْ لَهَا مَزِيَّهْ
510.... عَلَى الذَّيِ عُيَّنَ فِي الاجَازَهْ ... عِنْدَ الْمُحَقِّقِيْنَ لَكِنْ مَازَهْ
511.... أَهْلُ الْحَدِيْثِ آخِراً وَقِدْمَا ... أَمَّا إذا مَا الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا
512.... أَحْضَرَهُ الطَّالِبُ لَكِنْ اعْتَمَدْ ... مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ مُعْتَمَدْ
513.... صَحَّ وَإِلاَّ بَطَلَ اسْتِيْقَانَا ... وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا
514.... ذَا مِنْ حَدِيْثِي، فَهْوَ فِعْلٌ حَسَنُ ... يُفِيْدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ
هذا أحدُ صورِ المناولةِ الذي تقدمَ الوعدُ بذكرِهِ، وهو أَنْ يُنَاولَهُ الشيخُ الكتابَ، ويجيزُ له روايتَهُ ثم يرتجِعَهُ منه في الحالِ. فالمناولةُ صحيحةٌ ولكنها دونَ الصُّوَرِ المتقدمَةِ لعدمِ احتواءِ الطالبِ عليهِ وغيبتِهِ عنهُ.
وقولي: (والمجُازُ) ، أي: والمجازُ له، وهو مبتدأٌ خبرُهُ: أدَّى، أي: ومَنْ تناولَ على هذهِ الصُّورَةِ فَلَهُ أَن يُؤَدِّيَ مِنَ الأَصْلِ الذي ناولَهُ لهُ الشيخُ واستردَّهُ، إذا ظَفَرَ بهِ، معَ غَلبَةِ ظنِّهِ بسلامتِهِ من التغييرِ، أو مِنْ فَرْعٍ مُقَاْبَلٍ بهِ كذلكَ، وهو المرادُ بقولي: (قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ) أي: الكتابَ الذي تناولَهُ، إمَّا بكونِهِ من الكتابِ المُنَاولِ نفسِهِ، مَعَ غَلَبَةِ السلامةِ، أو مِنْ نسخةٍ توافِقُهُ بمقابَلَتِهِ، أو إخبارِ ثقةٍ بموافقَتِها، ونحوِ ذلكَ.
وقولي: (وَهَذِهِ) ، أي: وهذهِ الصورةُ من صُوَرِ المناولةِ ليستْ لها مزيةٌ على الإجازةِ بكتابٍ مُعَيَّنٍ، قالَ القاضي عياضٌ: وعلى التحقيقِ فليسَ هذا بشيءٍ زائدٍ على

(1/441)


معنى الإجازَةِ للشيءِ المُعَيَّنِ من التصانيفِ المشهورةِ والأَحاديثِ المعروفةِ المُعَيَّنَةِ، ولا فرقَ بين إجازتِهِ إيَّاهُ أَنْ يُحَدِّثَ عنه بكتابِ " الموطأ " وهوَ غائبٌ أو حاضرٌ، إذ المقصودُ تعيينُ ما أَجَازَهُ لهُ. لكنْ قديماً وحديثاً شيوخُنُا من أَهلِ الحديث يَرَوْنَ لهذا مزيةً على الإجازةِ. قال: - ولا مزيةَ له عند مشايخِنا من أَهلِ النظرِ والتحقيقِ، بخلاف الوُجُوْهِ الأُوَلِ.
فقولي: (عِنْدَ المُحَقِّقينَ) مما زِدْتُهُ على ابنِ الصَّلاحِ من كلامِ القاضي عياضٍ. وابنُ الصلاحِ إنَّمَا حَكَى هذا عن غيرِ واحدٍ من الفقهاءِ والأُصوليينَ لا عن أَهلِ التحقيقِ، كما قالَ عياضٌ، واللهُ أعلمُ.
ومن صُوَرِ المناولةِ: أنْ يُحْضِرَ الطالبُ الكتابَ للشيخِ، فيقولَ: هذا روايتُكَ فناولْنِيْهِ وأَجِزْ لي روايتَهُ فلا ينظرُ فيه الشيخُ، ولا يتحقَقُ أَنَّهُ روايتُه، ولكنِ اعتمدَ خبرَ الطالبِ، والطالبُ ثقةٌ، يُعتمَدُ على مثلِهِ، فَأجابَهُ إلى ذلكَ؛ صحتِ المناولةُ والإجازةُ. وإنْ لم يكنِ الطالبُ موثوقاً بخبرِهِ ومعرفتِهِ، فإنَّهُ لا تجوزُ هذهِ المناولةُ، ولا تصحُّ، ولا الإجازةُ فإنْ ناولَهُ وأَجازَهُ، ثُمَّ تبيَّنَ بعدَ ذلكَ بخبرِ ثقةٍ يُعتمدُ عليه: أَنَّ ذلك كان من سماعِ الشيخِ أو مِنْ مرويَّاتِه فهل يُحكَمُ بصحةِ المناولةِ والإجازة السابقتَيْنِ؟ لَمْ يَنُصَّ عَلَى هذهِ صريحاً ابنُ الصلاحِ، وعمومُ كلامهِ يقتضي: أنَّ ذَلِكَ لا يصحُّ. وَلَمْ أرَهَ أيضاً في كلامِ غيرِهِ، إلاَّ في عمومِ كلامِ الخطيبِ الآتي. والظاهرُ الصحَّةُ؛ لأَنَّهُ تبيَّنَ بعدَ ذلكَ صحَّةُ سماعِ الشيخِ لما ناولَهُ وأجازَهُ، وزالَ ما كنَّا نخشى من عدمِ ثقةِ المُخْبِرِ، واللهُ أعلمُ. قالَ الخطيبُ: ولو قالَ: حَدِّثْ بما في هذا الكتابِ عنِّي إنْ كانَ مِنْ حَدِيْثِي، مع براءَتي

(1/442)


مِنَ الغَلَطِ والوَهْمِ، كانَ ذلكَ جائزاً حسناً. انتهى. ويدخلُ في كلامِ الخطيبِ الصورتانِ: ما إذا كان مَنْ أحضرَ الكتابَ ثقةً معتمداً؛ وما إذا كان غيرَ موثوقٍ به. فإنْ كانَ ثقةً، جازتِ الروايةُ بهذهِ المناولةِ والإجازةِ، وإن كانَ غيرَ موثوقٍ بهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ الإجازةِ بخبرِ مَنْ يوثَقُ به أَنَّ ذلك الذي ناولَهُ الشيخُ كانَ مِنْ مرويَّاتِهِ؛ جازتْ روايتُهُ بذلك. وأشرتُ إلى ذلكَ بقولي: (يُفيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ) . وهذا النصفُ الأخيرُ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ.

515.... وإنْ خَلَتْ مِنْ إذْنِ المُنَاْولَهْ ... قِيْلَ: تَصِحُّ والأَصَحُّ بَاْطِلَهْ
هذا النوعُ الثاني من نوعَيْ المناولةِ: وهو ما إذا تجرَّدَتِ المناولةُ عن الإجازة بأَنْ يُنَاولَهُ الكتابَ، ويقول: هذا مِنْ حَدِيْثِي، أو من سَمَاعَاتي، ولا يقولُ لهُ: ارْوِهِ عنِّي، ولا أَجزتُ لكَ روايتَهُ، ونحوَ ذلكَ. وقدِ اخْتُلِفَ فيها، فحكى الخطيبُ عن طائفةٍ من أهلِ العلمِ: أنَّهم صَحَّحُوها وأَجازوا الروايةَ بها، وقالَ ابنُ الصلاحِ: هذهِ إجازةٌ مختلةٌ، لا تجوزُ الروايةُ بها، قالَ: وعابَها غيرُ واحدٍ مِنَ الفقهاءِ والأصوليينَ على المحَُدِّثِيْنَ الَّذِيْنَ أَجازوها، وسَوَّغُوا الروايةَ بِهَا. وَقَالَ النوويُّ في "التقريبِ والتيسيرِ": لا تجوزُ الروايةُ بِهَا عَلَى الصحيحِ الَّذِي قَالَهُ الفقهاءُ، وأصحابُ الأصولِ. قلتُ: ما أطلقَهُ من أَنَّهُ قالَهُ الفقهاءُ وأصحابُ الأصولِ معَ كونهِ مخالفاً لكلامِ ابنِ الصَّلاَحِ في حكايتهِ لذلكَ عنْ غيرِ واحدٍ، فهوَ مخالِفٌ لما قالهُ جماعةٌ من أهلِ الأصُولِ، مِنْهُمْ صاحبُ "

(1/443)


المحصولِ"، فإنَّهُ لَمْ يشترطِ الإذنَ، بلْ ولا المناولةَ، بلْ إذا أشارَ الشيخُ إِلَى كتابٍ، وقالَ: هَذَا سَمَاعي من فلانٍ، جازَ لمنْ سمعَهُ أن يرويَهُ عنهُ، سواءٌ أَناولَهُ أم لا؟ خلافاً لبعضِ المحَُدِّثِيْنَ، وسواءٌ قالَ لهُ ارْوِهِ عنِّي أمْ لا. نعمْ..، مقتضى كلامِ السيفِ الآمِدِيِّاشتراطُ الإذْنِ في الروايةِ، وقدْ قالَابنُ الصَّلاحِ بعد هذا: إنَّ الروايةَ بها تترجَّحُ على الروايةِ بمجردِ إعلامِ الشيخِ، لما فيهِ مِنَ المناولةِ، فإنَّها لا تخلو من إشعارٍ بالإذْنِ في الروايةِ.

كَيْفَ يَقُوْلُ مَنْ رَوَى بِالمُنَاولَةِ وَالإِجَاْزَةِ؟

516.... وَاخْتَلَفُوا فِيْمَنْ رَوَى مَا نُوْوِلاَ ... (فَمَالِكٌ) وَ (ابْنُ شِهَابٍ) جَعَلاَ
517.... إِطْلاَقَهُ (حَدَّثَنَا) وَ (أَخْبَرَا) ... يَسُوْغُ وَهْوَ لاَئِقٌ بِمَنْ يَرَى
518.... الْعَرْضَ كَالسَّمَاعِ بَلْ أَجَازَه ... بَعْضُهُمُ في مُطْلَقِ الإِجَازَهْ
519.... وَ (الْمَرْزُبَانِيْ) وَ (أبو نُعَيْمِ) ... أَخْبَرَ، وَالصَّحِيْحُ عِنْدَ القَوْمِ
520.... تَقْيِيْدُهُ بِمَا يُبيِنُ الْوَاقِعَا ... إِجَازَةً تَنَاولاً هُمَا مَعَا
521.... أَذِنَ لِي، أَطْلَقَ لِي، أَجَازَنِي ... سَوَّغَ لِي، أَبَاحَ لِي، نَاولَنِي
522.... وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ لِلْمُجَازِ ... إِطَلاَقَهُ لَمْ يَكْفِ فِي الْجَوَازِ

اختلفوا في عبارةِ الراوي لما تحمَّلَهُ بطريقِ المناولةِ، فحُكِيَ عن جماعةٍ، منهم: أبو

(1/444)


بكرِ ابنُ شهابٍ الزهريُّ، ومالكُ بنُ أنسٍ، جوازُ إطلاقِ حدثنا وأخبرنا، وهو لائقٌ بمذهبِ مَنْ يرى عرضَ المناولةِ المقرونةِ بالإجازةِ سماعاً، ممَّنْ تَقَدَّمَتْ حكايتُهُ عنهم. وحُكِيَ عن قومٍ آخرينَ: جوازُ إطلاقِ: حدَّثَنا وأخبرنا في الروايةِ بالإجازَةِ مطلقاً، قالَ القاضي عياضٌ: وحُكِيَ ذلك عن ابنِ جُرَيْجٍ، وجماعةٍ من المتقدمينَ، وَحَكَى الوليدُ بنُ بكرٍ: أنَّهُ مذهبُ مالكٍ، وأهلِ المدينةِ، وذهبَ إلى جوازهِ إمامُ الحرمينِ، وخالفَهُ غيرُهُ من أهلِ الأُصُولِ. وأَطلقَ أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ، وأبو عُبيدِ اللهِ الْمَرْزُبانيُّ في الإجازةِ: أخبرنا من غيرِ بيانٍ. وحَكَى الخطيبُ: أَنَّ الْمَرْزُبانيَّ عِيْبَ بذلكَ.
فقولي: (والمَرْزُباني وأبو نُعَيم أَخْبَرَ) أي: أطلقا لفظَ أخبرَ في الإجازة، والصحيحُ المختارُ الذي عليهِ عملُ الجمهورِ، واختارهُ أهلُ التَّحَرِّي، والورعِ: المنعُ من إطلاقِ حَدَّثَنا وأخبرنا، ونحوهِما في المناولةِ والإجازةِ، وَتقييدُ ذلكَ بعبارةٍ تُبيِّنُ الواقعَ في كيفيةِ التحمُّلِ، وتُشْعِرُ بهِ، فنقولُ: أخبرنا أو حَدَّثَنا فلانٌ إجازةً، أو مناولةً،

(1/445)


أو إجازةً ومناولةً، أو إذْنَاً، أو في إذنهِ، أو أذِنَ لِي، أو أطلَقَ لي روايتَهُ عنه، أو أجازني، أو أجازَ لي، أو سوَّغَ لي أنْ أرويَ عنه، أو أباحَ لي، أو ناولَني، وما أشبهَ ذلكَ مِنَ العباراتِ الْمُبَيِّنَةِ لكيفيةِ التحمُّلِ. وإنْ أباحَ المجيزُ للمُجَازِ إطلاقَ أخبرنا أو حَدَّثَنَا في الإجازةِ، أو المناولةِ، لم يجزْ لهُ ذلكَ، كما يفعلُهُ بعضُ المشايخِ في إِجازتهِمِ، فيقولونَ عَمَّنْ أجازُوا لَهُ: إنْ شاءَ قالَ: حَدَّثَنا، وإنْ شاءَ قالَ: أخبرنا.

523.... وَبَعْضُهُمْ أَتَى بِلَفَظٍ مُوْهِمْ ... (شَافَهَنِي) (كَتَبَ لِي) فَمَا سَلِمْ
524.... وَقَدْ أَتَى بِـ (خَبَّرَ) الأوزَاعِيْ ... فِيْهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ
525.... وَلَفْظُ ((أَنَّ)) اخْتَارَهُ (الْخَطَّابي) ... وَهْوَ مَعَ الإِسْنَادِ ذُوْ اقْتِرَابِ
526.... وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الإِجَازَهْ ... (أَنْبَأَنَا) كَصَاحِبِ الْوِجَازَهْ
527.... وَاخْتَارَهُ (الْحَاكِمُ) فِيْمَا شَافَهَهْ ... بِالإِذْنِ بَعْدَ عَرْضِهِ مُشَافَهَهْ
528.... وَاسْتَحْسَنُوْا لِلْبَيَهْقَيْ مُصْطَلَحا ... (أَنْبَأَنَا) إِجَازَةً فَصَرَّحَا
529.... وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ اسْتَعْمَلَ عَنْ ... إِجَازَةً، وَهْيَ قَرِيْبَةٌ لِمَنْ
530.... سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيْهِ يَشُكّْ ... وَحَرْفُ (عَنْ) بَيْنَهُمَا فَمُشْتَرَكْ
531.... وَفِي الْبُخَارِيْ قَالَ لِي: فَجَعَلَهْ ... حِيْرِيُّهُمْ لِلْعَرْضِ وَالمُنَاولَهْ
هذهِ الألفاظُ استعملَها بعضُ أهلِ العلمِ في الروايةِ بالإجازةِ. فاستعملَ بعضُهم فيها: شَافَهَنِي فُلاَنٌ، أو أخبرنا مُشَافَهةً، إذا كانَ قدْ شَافهَهُ بالإجازةِ لفظاً. واستعملَ بعضُهُم في الإجازةِ بالكتابةِ كَتَبَ لي، أو إليَّ فلانٌ، أو أخبرنا كتابةً، أو في كتابهِ. وهذهِ الألفاظُ وإنِ استعملَهَا طائفةٌ من المتأخِّرِينَ، فلا يَسْلَمُ مَنِ استعملَها مِنَ الإيهامِ، وطَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيْسِ. أمَّا الْمُشَافَهَةُ فَتُوْهِمُ مُشافهتَهُ بالتَّحْدِيثِ. وأمَّا الكتابةُ فَتُوْهِمُ أَنَّهُ كَتَبَ إليهِ

(1/446)


بذلكَ الحديثِ بعينِهِ، كما كانَ يفعلُهُ المتقدِّمُوْنَ، ومِنْهَا لَفْظُ: خَبَّرَنا، وقد ورَدَ عَنِ الأوزاعيِّ: أَنَّه خَصَّصَ الإجازةَ بقولهِ: خَبَّرَنا -بالتشديدِ-، والقراءةَ عليهِ، بقولهِ: أخبرنا.
وقولي: (ولم يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ) أي: إنَّ معنى خَبَّرَ وأَخْبَرَ واحدٌ من حيثُ اللغةُ، ومن حيثُ الاصطلاحُ المتعارفُ بين أهلِ الحديثِ. ومنها لفظُ: ((أن)) فيقولُ في الروايةِ بالسماعِ عن الإجازةِ: أخبرنا فلانٌ أنَّ فلاناً حَدَّثَهُ، أو أخبرهُ. وحُكِيَ عن الْخَطَّابِيِّ: أنَّهُ اختارَهُ، أو حَكَاهُ. وهوَ بعيدٌ مِنَ الإشعارِ بالإجازةِ. وحَكَاهُ القاضي عياضٌعن اختيارِ أبي حاتِمٍ الرازيِّ، قالَ: وأَنكرَ هذا بعضُهُم، وحقُّهُ أَنْ يُنْكِرَ، فلا معنى لهُ يُتَفَهَّمُ منهُ المرادُ، ولا اعْتِيدَ هذا الوضْعُ في المسألةِ لغةً ولا عرفاً ولا اصطلاحاً. قالَ ابنُ الصلاحِ: وهو فيما إذا سمعَ منهُ الإسنادَ فحسبُ، وأجازَ لهُ ما رواهُ قريبٌ؛ فإنَّ فِيْهَا إشعاراً بوجودِ أصلِ الإخبارِ، وإنْ أَجْمَلَ المُخْبَرَ بهِ وَلَمْ يذكرْهُ تفصيلاً. ومنها: أَنْبَأَنَا، وَهِيَ عِنْدَ المتقدمين بمنْزِلةِ: أَخْبَرَنَا. وحَكَى الْقَاضِي عياضٌعن شعبةَ: أنَّهُ قَالَ في الإجازةِ مرةً: أَنْبَأَنَا، قَالَ: ورُوِي عَنْهُ أيضاً: أَخْبَرَنَا. قلتُ: وكلاهما بعيدٌ عَنْ شُعْبَةَ فإنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لايرى الإجَاْزَةَ كَمَا تقدَّمَ نَقْلُهُ عنهُ. واصطلحَ قومٌ من المتأخِّرينَ عَلَى إطلاقِها في الإجازةِ، واختارَهُ صاحبُ " الوِجَازَةِ "، وَهُوَ الوليدُ بنُ بكرٍ، وَقَالَ الحاكمُ: الَّذِي أَخْتَاْرُهُ وعهدْتُ عليهِ أكثرَ مشايخي، وأَئِمَّةَ عَصْرِي، أَنْ يقولَ فِيْمَا عُرِضَ عَلَى المحدِّثِ فأَجازَ لهُ روايتَهُ شفاهاً: أنبأني فلانٌ. وكانَ البيهقيُّ يقولُ في الإجازةِ: أَنْبَأَنَا إجازةً. وفي هَذَا التصريحُ بالإجازةِ معَ رعايةِ

(1/447)


اصطلاحِ المتأخِّرينَ.
ومنها لفظُ ((عَنْ)) ، وكثيراً ما يأتي بِهَا المتأخِّرُون في موضعِ الإجازةِ، قالَ ابنُ الصلاحِ: وذلكَ قريبٌ فِيْمَا إذا كانَ قدْ سمعَ منهُ بإجازتِهِ من شيخِهِ إنْ لَمْ يكنْ سماعاً فإنَّهُ شاكٌّ. (وحرفُ (عَنْ)) : مشتركٌ بين السماعِ والإجازةِ صادقٌ عليهما.
قولي: (فَمُشْتَرَكْ) ، دخلتِ الفاءُ في الخبِر على رأيِ الكسائيِّ. ومنها: قالَ لي فلانٌ، وكثيراً ما يُعبِّرُ بها البخاريُّ، فقالَ أبو عمرٍو محمدُ بنُ أبي جعفرٍ أحمدَ بنِ حَمْدَانَ الحِيْرِيُّ: كُلُّ مَا قالَ البخاريُّ: قالَ لي فلانٌ، فهو عَرْضٌ ومناولةٌ. وقد تقدَّمَ أَنَّها محمولةٌ على السَّماعِ، وأَنَّها كـ (أَخبرنا) وأَنَّهم كثيراً ما يستعملونها في المُذاكرةِ، وأنَّ بعضَهم جعلَها مِنْ أَقسامِ التعليقِ، وأَنَّ ابنَ مَنْدَه جعلَها إجازَةً.

(1/448)


الخَاْمِسُ: المُكَاتَبَةُ

532.... ثُمَّ الْكِتَابَةُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَوْ ... بِإِذْنِهِ عَنْهُ لِغَائِبٍ وَلَوْ
533.... لِحَاضِرٍ فَإِنْ أَجَازَ مَعَهَا ... أَشْبَهَ مَا نَاوَلَ أَوْ جَرَّدَهَا
534.... صَحَّ عَلى الصَّحِيْحِ وَالْمَشْهُوْرِ ... قَالَ بِهِ (أَيُّوْبُ) مَعْ (مَنْصُورِ)
535.... وَالْلَيْثُ وَالسَّمْعَانِ قَدْ أَجَازَهْ ... وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الإِجَازَهْ
536.... وَبَعْضُهُمْ صِحَّةَ ذَاكَ مَنَعَا ... وَصَاحِبُ الْحَاوِيْ بِهِ قَدْ قَطَعَا

القسمُ الخامسُ من أقسامِ تحمُّلِ الحديثِ: المكاتبةُ، وهيَ: أَنْ يكتُبَ الشيخُ شيئاً من حديثِهِ بخطِّهِ، أو يأْمرَ غيرَهُ فيكتُبَ عنهُ بإذْنِهِ، سواءٌ كتَبَهُ أو كَتَبَ عنهُ إلى غائبٍ عنهُ أو حاضرٍ عندَهُ، وهيَ أيضاً تنقسمُ إلى نوعينِ:
أحدُهما: الكتابةُ المقترنةُ بالإجازةِ بأَنْ يكتُبَ إليه ويقولَ: أَجزتُ لكَ ما
كتبتُهُ لكَ، ونحوِ ذلكَ. وهيَ شبيهةٌ بالمناولةِ الَمَقْرُونةِ بالإجازةِ في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ.
والنوعُ الثاني: الكتابةُ المجرَّدَةُ عنِ الإجازةِ. وإليها أَشرتُ بقولي: (أو جَرَّدَهَا) أي: مِنَ الإجازةِ فإنِّها صَحِيْحَةٌ تجوزُ الروايةُ بها على الصحيحِ المشهورِ بينَ أهلِ الحديثِ، وهوَ عندَهم معدودٌ في المُسْنَدِ الموصولِ، وهو قولُ كثيرٍ من المتقدِّمِينَ والمتأخِّرِيْنَ، منهم:

(1/449)


أيوبُ السِّخْتِيَانيُّ، ومَنصورٌ، والليثُ بنُ سعدٍ، وغيرُ واحدٍ من الشَّافِعيِّيْنَ، منهم: أبو المظفَّرِ السَّمْعَانيُّ، وجعلَها أَقوى من الإجازةِ. وإليهِ صارَ جماعةٌ من الأُصوليينَ منهم: صاحبُ "المحصولِ". وفي الصحيحِ أحاديثُ من هذا النوعِ، منها عندَ مسلمٍ: حديثُ عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ، قالَ: كتبتُ إلى جابرِ بنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلاَمي نافعٍ، أَنْ أَخْبَرَني بشيءٍ سمعتَهُ مِنْ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالَ: فكتبَ إليَّ: سمعتُ مِنْ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ جُمُعَةٍ، عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ، فذكرَ الحديثَ. وقالَ البخاريُّ في كتابِ الأَيْمانِ والنُّذُورِ: كتَبَ إِليَّ محمَّدُ بنُ بشَّارٍ. ومنعَ صحَّةَ ذلكَ قومٌ آخرونَ، وبهِ قَطَعَ الماوَرِديُّ في " الحاوي ". وقالَ السيفُ الآمديُّ: لا يرويهِ إلا بتسليطٍ مِنَ الشَّيْخِ، كقولِهِ: فارْوِهِ عَنِّي. أو أجزْتُ لكَ

(1/450)


روايتَهُ. وذهبَ ابنُ القَطَّانِ إلى انقطاعِ الروايةِ بالكتابةِ، قالَهُ عَقبَ حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ المذكورِ، وَرَدَّ ذلكَ عليهِ أبو عبدِ اللهِ ابنُ الموَّاقِ.

537.... وَيَكْتَفِي أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوْبُ لَهْ ... خَطَّ الَّذِي كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَهْ
538.... قَوْمٌ لِلاشْتِبَاهِ لَكِنْ رُدَّا ... لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ وَحَيْثُ أَدَّى
539.... فَاللَّيْثُ مَعْ مَنْصُوْرٍ اسْتَجَازَا ... (أَخْبَرَنَا) ، (حَدَّثَنَا) جَوَازَا
540.... وَصَحَّحُوْا التَّقِيْيْدَ بِالْكِتَابَهْ ... وَهْوَ الِذَّي يَلِيْقُ بِالنَّزَاهَهْ

يُكتفى في الروايةِ بالكتابةِ أن يَعْرِفَ المكتوبُ لهُ خطَّ الكاتبِ، وإنْ لم تَقُمْ البَيِّنَةُ عليهِ، ومنهُم مَنْ قالَ: الخطُّ يُشْبِهُ الخطَّ، فلا يجوزُ الاعتمادُ على ذلك، قال ابنُ الصلاحِ: وهذا غيرُ مرضي؛ لأنَّ ذلك نادرٌ، والظاهرُ أَنَّ خطَّ الإنسانِ لا يَشْتَبِهُ بغيرِهِ، ولا يَقَعُ فيه إِلْبَاسٌ. واختلفوا في اللَّفْظِ الذي يُؤدي به مَنْ تحملَ بالكتابةِ. فذهبَ غيرُ واحدٍ، منهم: الليثُ بنُ سعدٍ، ومنصورٌ، إلى جوازِ إطلاقِ: حَدَّثَنا

(1/451)


وأخبرنا، والمختارُ الصحيحُ اللائقُ بمذاهبِ أهلِ التحرِي والنَّزَاهةِ، أنْ يُقَيَّدَ ذلكَ بالكتابةِ، فيقول: حدَّثَنا أو أخبرنا كتابةً، أو مُكاتبةً، أو كَتَبَ إليَّ، ونحَو ذلك. وقالَ الحاكمُ: الذي أَخْتَارُهُ وعهدْتُ عليهِ أَكثرَ مشايخي وأَئِمَّةِ عَصْرِي أَنْ يقولَ فيما كَتَبَ إليهِ المحدِّثُ من مدينةٍ، ولم يُشَافِهْهُ بالإجازَةِ: كَتَبَ إليَّ فلانٌ.

السَّاْدِسُ: إعْلاَمُ الشَّيْخِ

541.... وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا ... يَرْوِيْهِ أَنْ يَرْوِيَهُ؟ فَجَزَمَا
542.... بِمَنْعِهِ (الطُّوْسِيْ) وَذَا الْمُخْتَارُ ... وَعِدَّةٌ (كَابْنِ جُرَيْجٍ) صَارُوْا
543.... إلى الْجَوَازِ وَ (ابْنُ بَكْرٍ) نَصَرَهْ ... وَصَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمَاً ذَكَرَهْ
544.... بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ لَوْ مَنَعَهْ ... لَمْ يَمْتَنِعْ، كَمَا إذا قَدْ سَمِعَهْ
545.... وَرُدَّ كَاسْتِرْعَاءِ مَنْ يُحَمَّلُ ... لَكِنْ إذا صَحَّ، عَلَيْهِ الْعَمَلُ
القسمُ السادسُ من أقسامِ أَخْذِ الحديثِ وتحمُّلِهِ: إعلامُ الشَّيخِ للطالبِ أَنَّ هذا الحديثَ، أو الكتابَ سماعُهُ من فلانٍ، أو روايتُهُ؛ من غيرِ أَنْ يأذنَ لهُ في روايتِهِ عنهُ، وقدِ اختُلِفَ في جوازِ روايتهِ لهُ بمجردِ ذلكَ: فذهبَ غيرُ واحدٍ من المحدِّثينَ وغيرِهِم، إلى المنعِ من ذلكَ، وبهِ قَطَعَ أبو حامدٍ الطوسيُّ مِنَ الشَّافِعِيِّيْنَ، ولم يذكرْ غيرَ ذلكَ،

(1/452)


فيما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عنهُ. والظاهرُ أنَّهُ أرادَ بأبي حامدٍ هذا الغزاليَّ، فإنَّهُ كذلكَ في " المستصفى"، فقالَ: أمَّا إذا اقتصرَ على قولِهِ: هذا مسمُوعي مِنْ فلانٍ، فلا تجوزُ الروايةُ عنهُ؛ لأَنَّهُ لم يأذنْ في الروايةِ، فلعلَّهُ لا يُجَوِّزُ الروايةَ لخللٍ يعرفُهُ فيهِ، وإنْ سَمِعَهُ. انتهى كلامُه. وفي الشَّافِعِيِّيْنَ غيرُ واحدٍ يُعْرَفُ بأبي حامدٍ الطّوسيِّ لكنْ لم يَذْكُرْ لهُ مصنفاتٍ ذَكَرَ فيها هذهِ المسألةَ. ومَا قالَهُ أبو حامدٍ مِنَ المنعِ، هو المختارُ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، وقد تقدَّمَ أنَّ مقتضى كلامِ السيفِ الآمديِّ اشتراطُ الإذنِ فيهِ. وذهبَ كثيرونَ، منهم: ابنُ جريجٍ، وعبيدُ اللهِ العُمَريُّ، وأصحابُهُ المدنيُّونَ، وطوائفُ من المحدِّثينَ، والفقهاءِ والأصوليِّيْنَ والظَّاهِريِّيْنَ، إلى الجوازِ. واختارَهُ ونَصَرَهُ الوليدُ بنُ بكرٍ الغَمْريُّ - بفتح الغين المعجمة - في كتابِ " الوِجَازِة " له. وبه قطعَ أبو نَصْرٍ ابنُ الصَّبَّاغِ صاحبُ " الشاملِ "، وحَكَاهُ القاضي عياضٌ عن الكثيرِ.
واختارَهُ أبو محمدِ بنُ خَلاَّدٍ الرامَهُرْمُزيُّ، وهوَ مذهبُ عبدِ الملكِ بنِ حبيبٍ من المالكيَّةِ - وهو

(1/453)


الذي ذكرهُ صاحبُ " المحصولِ " واتباعه، بل زادَ بعضُهم على هذا، وهو القاضي أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرامَهُرْمُزيُّ، فقالَ: حَتَّى لو قالَ لهُ: هذهِ روايتي، ولكنْ لا تروِها عنِّي، ولا أُجيزُهُ لكَ، لم يضرَّهُ ذلكَ. قالَ القاضي عياضٌ: ومَا قالَهُ صحيحٌ لا يقتضي النظرُ سواهُ؛ لأَنَّ مَنْعَهُ أنْ لا يُحَدِّثَ بما حَدَّثَهُ لا لعلةٍ ولا ريبةٍ في الحديثِ لا يُؤَثِّرُ؛ لأَنَّهُ قَدْ حدَّثَهُ، فهو شيءٌ لا يُرْجَعُ فيهِ، وردَّهُ ابنُ الصلاحِ بأنْ قالَ: إنَّمَا هذا كالشاهدِ إذا ذَكَرَ في غيرِ مجلسِ الحُكْمِ شهادتَهُ بشيءٍ، فليس لمنْ سمعَهَ أنْ يَشْهَدَ على شهادتهِ، إذا لم يَأذَنْ له ولم يُشْهِدْهُ على شهادتِهِ، قال: وذلك مما تساوَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ؛ لأَنَّ المعنى يجمعُ بينهما فيهِ، وإنِ افترقتا في غيرِهِ. وقالَ القاضي عياضٌ: قياسُ مَنْ قاسَ الإذنَ في الحديثِ في هذا الوجهِ وعدمِهِ على الإذنِ في الشهادةِ وعدمِهِ غيرُ صحيحٍ؛ لأَنَّ الشهادةَ على الشهادةِ لا تصحُّ إلاَّ مَعَ الإشْهادِ والإذنِ في كلِّ حالٍ، إلاَّ إذا سَمِعَ أَداءَها عندَ الحاكمِ، ففيهِ اختلافٌ، والحديثُ عن السماعِ والقراءةِ لا يُحتاجُ فيهِ إلى إذْنٍ باتِّفَاقٍ، فهذا يَكْسِرُ عليهم حُجَّتَهُم بالشهادةِ في مسألتِنا هنا، ولا فرقَ. وأيضاً فالشهادةُ مُفْترقةٌ مِنَ الروايةِ في أكثرِ الوُجُوْهِ. ثم عدَّدَ أشياءَ ممَّا يفترقانِ فيهِ.

(1/454)


وقولي: (ورُدَّ) أي: القولُ بالجوازِ، كمسألةِ استرعاءِ الشاهدِ لِمَنْ يُحَمِّلُهُ شهادتَهُ فلا يكفي إعلامَهُ، بل لابدَّ لهُ أَنْ يأذنَ لهُ أنْ يشهدَ على شهادتهِ، إلاَّ إذا سَمِعَهُ يؤدي عندَ الحاكمِ، كما تقدَّمَ، فهو نظيرُ ما إذا سمعَهُ يُحدِّثُ بالحديثِ فحينئذٍ لا يحتاجُ إلى إذْنِهِ في أن يَرْوِيَهُ عنهُ، ولا يضرُّهُ مَنْعُهُ إذا مَنَعَهُ، وهذا كُلُّه في الروايةِ بإعلامِ الشيخِ. أَمَّا العملُ بما أخبرَهُ الشيخُ أنَّهُ سماعُهُ فإنَّهُ يجبُ عليهِ إذا صحَّ إسنادُهُ، كما جزمَ به ابنُ الصلاحِ، وحكاهُ القاضي عياضٌ عن مُحَقِّقِي أصحابِ الأُصولِ: أَنَّهُم لا يختلفونَ في وجوبِ العملِ بهِ.

السَّاْبِعُ: الْوَصِيَّةُ بالكِتَاْبِ

546.... وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ لِلْمُوْصَى لَهُ ... بالْجُزْءِ مِنْ رَاوٍ قَضَى أَجَلَهُ
547.... يَرْوِيْهِ أَوْ لِسَفَرٍ أَرَادَهْ ... وَرُدَّ مَا لَمْ يُرِدِ الْوِجَادَهْ
القسمُ السابعُ من أقسامِ الأَخْذِ والتَّحَمُّلِ: الوصيةُ بالكُتُبِ، بأَنْ يُوصِيَ الراوي بكتابٍ يرويهِ عندَ مَوتِهِ، أو سَفَرِهِ لشخصٍ، فهل له أَنْ يروَيهُ عنهُ بتلكَ الوصيَّةِ؟ فرَوَى الرامَهُرْمُزِيُّ من روايةِ حَمَّادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ قالَ: قلتُ لمحمدِ بنِ سيرينَ:

(1/455)


إنَّ فلاناً أَوْصَى لي بكتبهِ، أَفأُحَدِّثُ بِهَا عنهُ؟ قالَ: نَعَمْ.. ثمَّ قالَ لي بعدَ ذلكَ: لا آمُرُكَ ولا أنهاكَ. قالَ حمَّادٌ: وكانَ أبو قِلابةَ قالَ: ادفعوا كُتُبي إلى أيوبَ إنْ كانَ حَيَّاً، وإلاّ فاحرقُوهَا. وعلَّلَهُ القاضي عياضٌ: بأَنَّ في دَفْعِهَا لهُ نَوعاً من الإذْنِ وشَبَهاً من العَرْضِ والمناولةِ. قالَ: وهو قريبٌ من الضَّرْبِ الذي قبلَهُ. قالَ ابنُ الصَّلاَحِ: ((هذا بعيدٌ جدَّاً وهو إمَّا زَلَّةُ عالِمٍ، أو مُتأوَّلٌ على أَنَّهُ أرادَ الروايةَ على سبيلِ الوِجَادةِ. قالَ: وإنَّهُ لا يصحُّ تشبيهُهُ بقسمِ الإعلامِ وقسمِ المناولةِ)) .

الثَّاْمِنُ: الْوِجَاْدَةُ

... ثُمَّ الوِجَادَةُ وَتِلْكَ مَصْدَرْ ... وَجَدْتُهُ مُوَلَّدَاً لِيَظْهَرْ
549.... تَغَايُرُ الْمَعْنَى، وَذَاكَ أَنْ تَجِدْ ... بِخَطِّ مَنْ عَاصَرْتَ أَوْ قَبْلُ عُهِدْ
... مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ ... فَقُلْ: بِخَطِّهِ وَجَدْتُ، وَاحْتَرِزْ
551.... إِنْ لَمْ تَثِقْ بِالْخَطِّ قُلْ وَجَدْتُ ... عَنْهُ، أَوْ اذْكُرْ قِيْلَ أَوْ ظَنَنْتُ
القسمُ الثامنُ من أقسامِ أَخْذِ الحديثِ وَنقْلِهِ الوِجَادَةُ بكسر الواو وهي مصدرٌ مُوَلَّدٌ لِـ وَجَدَ - يَجِدُ قالَ الْمُعَافَى بنُ زكريا النَّهْرَوَانيُّ إنَّ المولَّدِينَ

(1/456)


فَرَّعُوا قولَهم وِجَادَةً فيما أُخِذَ مِنَ العِلْمِ مِنْ صَحِيْفَةٍ من غيرِ سماعٍ ولا إجازةٍ ولا مُنَاوَلةٍ، من تفريقِ العَرَبِ بين مصادرِ وَجَدَ، للتمييزِ بينَ المعاني المختلفةِ قالَ ابنُ الصلاحِ يعني قولَهم وَجَدَ ضالَّتَهُ وِجْدَاناً، ومطلوبَهُ وُجُوداً، وفي الغَضَبِ مَوْجِدَةً، وفي الغِنى وُجْدَاً، وفي الحُبِّ وَجْداً قلتُ وَلِـ وَجَدَ مصدرانِ آخرانِ، لم يذكرْهُما وهما جِدَةٌ في الغَضَبِ وفي الغنى، وإِجْدَانٌ - بكسرِ الهمزةِ - حَكاهما ابنُ الأعرابيِّ، قالَ ابنُ سِيْدَه وهذا على بَدَلِ الهمزةِ من الواوِ، وليسَ معنى من المعاني التي ذكرَها مقتصراً على مصدرٍ واحدٍ إلاّ في الحُبِّ؛ فإنَّ مصدَرَهُ وَجْدٌ - بالفتح لا غيرُ كما قالَ ابنُ سِيْدَه وكذلكَ هو مصدرُ وَجَدَ بمعنى حَزِنَ قالَهُ الجوهريُّ وغيرُهُ وأمَّا في المَطْلُوبِ فلهُ مصدرانِ وُجُوْدٌ، ووِجْدانٌ حَكَاهما صاحبُ المشارقِ وأمَّا في الضَّالةِ فلهُ إجْدَانٌ أيضاً، كمَا تقدَّمَ وأمَّا بمعنى الغَضَبِ، فله مصادرُ مَوْجِدَةٌ وجِدَةٌ ووَجْدٌ -بالفتح- ووِجْدَانٌ، حَكَاها ابنُ سِيْدَه وأمَّا بمعنى الغِنَى، فلَهُ أيضاً مصادرُ

(1/457)


أربعةٌ وَُِجْدٌ - مثلَّثُ الواوِ - وَجِدَةٌ، حَكَاها الجوهريُّ وابنُ سِيْدَه وقُرِئَ بالثلاثةِ في قولهِ تعالى {أَسْكِنُوْهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}
وقولي وذَاكَ أي والوِجادةُ أن تجدَ بخطِّ مَنْ عاصرْتَهُ لقيتَهُ أوْ لم تلْقَهُ أو لم تُعاصِرْهُ، بلْ كانَ قبلَكَ؛ أحاديثَ يرويها، أو غيرَ ذلكَ ممَّا لم تسمَعْهُ منهُ، ولم يُجِزْهُ لكَ، فلكَ أنْ تقولَ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، أخبرنا فلانٌ، وتسوقَ الإسنادَ والمتنَ أو ما وجدْتَهُ بخطِّهِ، أو نحو ذلكَ هذا إذا وَثِقَ بأنَّهُ خطُّهُ، فإِنْ لم يَثِقْ بأنَّهُ خطُّهُ فليحترِزْ عن جَزْمِ العبارةِ بقولِهِ بلغني عَنْ فلانٍ، أو وجدْتُ عنهُ، أو وجدْتُ بخطٍّ قِيْلَ إنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو قالَ لي فلانٌ إنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو ظننْتُ أنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو ذَكَرَ كُنَاتُهُ أنَّهُ فلانُ بنُ فلانٍ، ونحوِ ذلكَ مِنَ العباراتِ الْمُفْصِحَةِ بالْمُستَنَدِ في كونهِ خطَّهِ قلتُ هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ الوِجادةَ بما إذا لَمْ يكنْ لَهُ إجازةٌ ممَّنْ وَجَدَ ذلكَ بخطِّهِ وقدِ استعملَ غيرُ واحدٍ من أهلِ الحديثِ الوِجادةَ معَ الإجازةِ، وهو واضحٌ كقولِهِ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ وأَجَازَهُ لي، وكذلكَ لم يذكرْهُ القاضي عياضٌ في الإلماعِ في مثالِ الوِجَادةِ، وإنِّما أرادَ الشيخُ أَنْ يَتَكَلَّمَ على الوِجَادَةِ الخاليةِ عن الإجازةِ، هلْ هيَ مُسْتَنَدٌ صحيحٌ في الروايةِ، أو العملِ؟ واللهُ اعلمُ

... وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ، وَالأَوَّلُ ... قَدْ شِيْبَ وَصْلاً مَا، وَقَدْ تَسَهَّلُوْا
553.... فيْهِ بِعَنْ، قالَ وَهَذَا دُلْسَهْ ... تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ أَنَّ نَفْسَهْ
... حَدَّثَهُ بِهِ، وَبَعْضٌ أَدَّى ... (حَدَّثَنَا) ، (أَخْبَرَنَا) وَرُدَّا

(1/458)


555.... وَقِيْلَ فِي الْعَمَلِ إِنَّ الْمُعْظَمَا ... لَمْ يَرَهُ، وَبالْوُجُوْبِ جَزَمَا
... بَعْضُ الْمَحُقِّقِيْنَ وَهْوَ الأَصْوَبُ ... وَ (لاِبْنِ إِدْرِيْسَ) الْجَوَازَ نَسَبُوْا
أي: وكُلُّ ما ذُكِرَ منَ الرّوايةِ بالوِجادةِ منقطعٌ، سواءٌ وَثِقَ بأنَّهُ خَطُّ مَنْ وَجَدَهُ عنهُ، أَم لا. ولكنَّ الأوَّلَ وهو إذا ما وثِقَ بأنَّهُ خطُّهُ أَخَذَ شوباً من الاتصالِ بقولهِ: وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، وقد تَسَهَّلَ مَنْ أَتى بلفظةِ: ((عَنْ فلانٍ)) في موضعِ الوِجادةِ، قالَ ابنُ الصلاحِ: وذلكَ تَدْلِيْسٌ قبيحٌ، إذا كانَ بحيثُ يُوهِمُ سماعَهُ منه على ما سبقَ في نوعِ التدليسِ.
فقولي: (أَنَّ نَفْسَهْ) أي: نَفْسَ مَنْ وَجَدَ ذلكَ بخطِّهِ حدَّثَهُ بِهِ. وجازَفَ بعضُهُمْ فأطْلَقَ في الوِجادةِ: حَدَّثَنَا وأخبرنا، وانتُقِدَ ذلكَ على فاعِلِه، قالَ القاضي عياضٌ: لا أعْلَمُ مَنْ يُقْتَدَى بهِ أجازَ النقلَ فيهِ بـ: حَدَّثَنَا، وأخبرنا، ولا مَنْ يَعُدُّهُ مَعَدَّ المُسْنَدِ. انتهى.
هذا الحكمُ في الروايةِ بالوِجادةِ، وأَمّا العملُ بها، فقالَ القاضي عياضٌ: اختلفَ أَئمةُ الحديثِ والفِقْهِ والأُصولِ فيهِ، مع اتفاقِهِم على مَنْعِ النَّقْلِ، والروايةِ بهِ، فمعظُمُ المحدِّثينَ والفقهاءِ من المالكيةِ وغيرِهم، لا يَرَوْنَ العملَ بهِ، قالَ: وحُكِيَ عن الشافعيِّ - رحمهُ اللهُ - جوازُ العملِ بهِ، وقالَتْ بهِ طائفةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصحابهِ، قالَ: وهوَ الذي

(1/459)


نصرَهُ الْجُوينيُّ وَاخْتَارَهُ غيرُهُ مِن أربابِ التحقيقِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: قطعَ بعضُ المحقِّقِينَ من أصحابهِ في أُصولِ الفِقْهِ بوجوبِ العملِ بهِ عندَ حصولِ الثقةِ بهِ، وقالَ: لو عُرِضَ ما ذكرناهُ على جُملةِ المحدِّثينَ لأَبَوْهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وما قطعَ بهِ هوَ الذي لا يَتَّجِهُ غيرُهُ في الأعصارِ المتأخِّرةِ، وقالَ النوويُّ: هذا هو الصحيحُ.

557.... وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ خَطّهِ فَقُلْ ... قالَ وَنَحْوَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ
... بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوْقُ قُلْ: (بَلَغَنِيْ) ... وَالْجَزْمُ يُرْجَى حِلُّهُ لِلْفَطِنِ

إذا أردْتَ نقلَ شَيءٍ من كتابٍ مُصَنَّفٍ، فإنْ كانتِ النُّسْخَةُ بخطِّ المُصَنِّفِ، وَوَثِقْتَ بأَنَّهُ خطُّهُ، فقُلْ: وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، واحْكِ كلامَهُ، كما تَقدَّمَ. وإنْ كانتْ بغيرِ خطِّ المُصَنِّفِ، فإنْ وَثِقْتَ بصِحَّةِ النسخةِ بأَنْ قابلَها المُصَنِّفُ، أو ثقةٌ غيرُهُ بالأَصلِ، أو بفرعٍ مُقَابَلٍ على ما تقدَّمَ؛ فقُلُ: قالَ فلانٌ، أو ذَكَرَ فلانٌ، ونحوَ ذلكَ مِنْ أَلفاظِ الجزمِ. وإنْ لَمْ تَثِقْ بصحَّةِ النسخةِ فقُلْ: بلغني عن فلانٍ، أو: وجدْتُ في نسخةٍ من الكتابِ الفلانيِّ، ونحوَ ذلكَ مِمَّا لا يقتضي الجزمَ. قالَ ابنُ الصلاحِ: فإنْ كانَ المطالِعُ عالماً فطناً بحيثُ لا يخفى عليهِ في الغالِبِ مواضعُ الإسقاطِ والسَّقَطِ، أَو ما أُحِيْلَ عَن

(1/460)


ْ جِهَتِهِ مِنْ غيرِها رجونا أَنْ يجوزَ له إطلاقُ اللَّفْظِ الجازِمِ فيما يحكيهِ من ذلكَ. قالَ: وإلى هذا فيما أَحسَبُ استروَحَ كثيرٌ من المصنِّفِينَ فيما نقلوهُ من كُتُبِ الناسِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى.