شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

طَبَقَاتُ الرُّوَاةِ

992.... وَلِلرُّوَاةِ طَبَقَاتٌ تُعْرَفُ ... بِالسِّنِّ وَالأَخْذِ، وَكَمْ مُصَنِّفُ
993.... يَغْلِطُ فِيْهَا، وَابْنُ سَعْدٍ صَنَّفَا ... فِيْهَا وَلَكِنْ كَمْ رَوَى عَنْ ضُعَفَا
منَ المُهِمَّاتِ معرفةُ طَبَقاتِ الرواةِ؛ فإنَّهُ قدْ يتفقُ اسمانِ في اللفظِ، فيُظنُّ أنَّ أحدَهُما الآخرُ، فيتميَّزُ ذلكَ بمعرفةِ طبقتيهما، إنْ كانا منْ طبقتينِ، فإنْ كانا منْ طبقةٍ واحدةٍ فربَّما أُشْكِلَ الأمرُ، وربَّما عُرِفَ ذلكَ بِمَنْ فوقَهُ، أوْ دونَهُ منَ الرواةِ، فربَّما كانَ أحدُ المتفقَيْنِ في الاسمِ لا يروي عمَّنْ رَوَى عنهُ الآخرُ، فإنِ اشتركا في الراوي الأعلى وفيمنْ روى عنهما، فالإشكالُ حينئذٍ أشدُّ. وإنما يُمَيِّزُ ذلكَ أهلُ الحفظِ والمعرفةِ.
ويُعرفُ كونُ الراويينِ أو الرواةِ منْ طبقةٍ واحدةٍ، بتقاربِهِمْ في السِّنِّ، وفي الشيوخِ الآخذينَ عنهمْ، إمَّا بكونِ شيوخِ هذا همْ شيوخُ هذا أو تقارب شيوخُ هذا منْ شيوخِ هذا في الأخذِ، كما تقدَّمتِ الإشارةُ إلى نحوِ ذلكَ في روايةِ الأقرانِ، فإنَّ مدلولَ الطبقةِ

(2/342)


لغةً: القومُ المتشابهونَ، وأما في الاصطلاحِ فالمرادُ: المتشابهُ في الأسنانِ، والإسنادِ، وربَّما اكتفوا بالمتشابهِ في الإسنادِ.
وبسببِ الجهلِ بمعرفةِ الطبقاتِ غَلِطَ غيرُ واحدٍ منَ المصنفينَ، فربَّما ظنَّ راوياً راوياً آخرَ غيرَهُ، وربَّما أدخلَ راوياً في غيرِ طبقتِهِ. وقدْ تقدَّمَ لذلكَ أمثلةٌ في أواخرِ معرفةِ التابعينَ.
وقدْ صنَّفَ في الطبقاتِ جماعةٌ، فمنهمْ منِ اختصرَ، كخليفةَ بنِ خياطٍ، ومسلمِ بنِ الحجاجِ، ومنهمْ مَنْ طوَّلَ كمحمدِ بنِ سعدٍ في " الطبقاتِ الكبرى "، ولهُ ثلاثةُ تصانيفَ في ذلكَ، وكتابُهُ الكبيرُ كتابٌ جليلٌ، كثيرُ الفائدةِ، وابنُ سعدٍ ثقةٌ في نفسهِ، وثَّقَهُ أبو حاتمٍ وغيرُهُ، ولكنَّهُ كثيرُ الروايةِ في الكتابِ المذكورِ عنِ الضعفاءِ، كمحمدِ بنِ عمرَ بنِ واقدٍ الأسلميِّ الواقديِّ. ويقتصرُ كثيراً على اسمهِ واسمِ أبيهِ من غيرِ نسبٍ، وكهشامِ بنِ محمدِ ابنِ السائبِ الكلبيِّ، ونصرِ بنِ بابٍ الخراسانيِّ في آخرينَ منهمْ. على أنَّ أكثرَ شيوخهِ أئمةٌ ثقاتٌ، كسفيانَ بنِ عيينةَ، وابنِ عليةَ، ويزيدَ بنِ هارونَ، ومعنِ بنِ عيسى، وهشيمٍ، وأبي الوليدِ الطيالسيِّ، وأبي أحمدَ الزبيريِّ، وأنسِ ابنِ عياضٍ، وغيرِهمْ، ولكنَّهُ أكثرَ الروايةَ في الكتابِ المذكورِ عنْ شيخَيْهِ الأولَيْنِ.
ثمَّ إنَّهُ قدْ يكونُ الراوي من طبقةٍ؛ لمشابهتِهِ لتلكَ الطبقةِ منْ وجهٍ، ومنْ طبقةٍ أخرى غيرِها؛ لمشابهتِهِ لها من وجهٍ آخرَ.

(2/343)


وأنسُ بنُ مالكٍ ونحوُهُ من صغارِ الصحابةِ من طبقةِ العشرةِ عندَ مَنْ عدَّ الصحابةَ كلَّهُمْ طبقةً واحدةً، كابنِ حبانَ في " الثقاتِ " لاشتراكهمْ في الصحبةِ وهوَ من طبقةٍ أخرى دونَ طبقةِ العشرةِ، عندَ مَنْ عدَّ الصحابةَ طباقاً، والتابعينَ طباقاً، كابنِ سعدٍ، وقدْ تقدَّمَ في معرفةِ الصحابةِ أنَّهم اثنتا عشرةَ طبقةً، أو أكثرُ، وتقدَّمَ في معرفةِ التابعينَ أنَّهمْ خمسَ عشرةَ طبقةً، واللهُ أعلمُ.

المَوَالِي مِنَ العُلَمَاءِ والرُّوَاةِ

994.... وَرُبَّمَا إلَى القَبِيْلِ يُنْسَبُ ... مَوْلَى عَتَاقَةٍ وَهَذَا الأغْلَبُ
995.... أَوْ لِوَلاَءِ الحِلْفِ كَالتَّيْمِيِّ ... مَالِكٍ اوْ لِلدِّيْنِ كَالْجُعْفِيِّ
996.... وَرُبَّمَا يُنْسَبُ مَوْلَى المَوْلَى ... نَحْوُ سَعِيْدِ بنِ يَسَارٍ أَصْلاَ

منَ المُهِمَّاتِ معرفةُ الموالي منَ العلماءِ والرواةِ، وأهمُّ ذلكَ أنْ يُنسبَ إلى القبيلةِ مولى لهمْ، معَ إطلاقِ النَّسبِ، فربَّمَا ظنَّ أنهمْ منهمْ صليبٌ بحكمٍ ظاهرِ الإطلاقِ، وربَّما وقعَ مِنْ ذلكَ خللٌ في الأحكامِ الشرعيةِ في الأمورِ المشترطِ فيها النسبُ، كالإمامةِ العظمى، والكفاءةِ في النكاحِ، ونحوِ ذلكَ.
وقدْ صنَّفَ في الموالي أبو عمرَ الكنديُّ، ولكنْ بالنسبةِ إلى المصريينَ لا مطلقاً. ثمَّ الموالي المنسوبونَ إلى القبائلِ منهمْ مَنْ يكونُ المرادُ بهِ مولى العتاقةِ، وهذا هوَ الأغلبُ،

(2/344)


كأبي البَخْتَريِّ الطائيِّ، وأبي العاليةِ الرِّيَاحيِّ، والليثِ ابنِ سعدٍ الفَهْمِيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ المباركِ الحَنْظَلِيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ صالحٍ الجهنيِّ - كاتبِ الليثِ - ونحوِهمْ.
ومنهمْ: مَنْ يكونُ المرادُ بهِ ولاءُ الحلفِ، كالإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ، هوَ أصبحيٌّ صَلِيْبَةً، وقيلَ لهُ: التَّيْمِيُّ؛ لكونِ نَفَرهِ (أصبحُ) مواليَ لتَيْمِ قريشٍ بالحلفِ، وقيلَ: لأنَّ جدَّهُ - مالكَ بنَ أبي عامرٍ - كانَ أجيراً لطلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ التَّيْمِيِّ، وطلحةُ مختلفٌ بالتِّجارةِ، وهذا قسمٌ آخرُ غيرُ هذا القسمِ الثاني الذي تقدَّمَ.
ومنهمْ: مَنْ أُريدَ بهِ ولاءُ الإسلامِ، كالإمامِ محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، وقيلَ لهُ: الجُعْفِيُّ؛ لأنَّ جدَّهُ كانَ مجوسِيّاً وأسلمَ على يدِ اليمانِ بنِ أخنسَ الجعفيِّ، وكالحسنِ ابنِ عيسى المَاسَرْجِسِيِّ، قيلَ لهُ: مولى ابنِ المباركَ لإسلامِهِ على يديهِ.
وربَّما نُسِبَ إلى القبيلةِ مَوْلَى مَوْلاَها، كأبي الحُبَابِ سَعيدِ بنِ يَسَارٍ، قيلَ لهُ: الهاشميُّ؛ لأنَّهُ مولى شُقْرانَ مولى رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
هكذا اقتصرَ ابنُ الصلاحِ على هذا القولِ. وقيلَ: إنَّهُ مولى ميمونةَ زوجِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيلَ: مولى الحسنِ بنِ عليٍّ، وقيلَ: مولى بني النجارِ. فليسَ حينئذٍ بمولًى لبني هاشِمٍ.
ومِنْ هذا القسمِ: عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ القُرَشِيُّ الفِهْريُّ المِصْرِيُّ، فإنَّهُ مولى يزيدَ بنِ رمانةَ، ويزيدُ بنُ رمانةَ مولى يزيدَ بنِ أنيسٍ الفِهْرِيِّ، وقد أدخلهُ ابنُ الصلاحِ في أمثلةِ القسمِ الأولِ، وهوَ بهذا أليقُ.

(2/345)


ثمَّ ذكرَ ابنُ الصلاحِ قِصَّةَ الزُّهريِّ معَ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ، وسؤالَهُ عمَّنْ يَسودُ أهلَ مكةَ، ثمَّ اليَمَنَ، ثمَّ مصرَ، ثمَّ الشامَ، ثمَّ الجزيرةَ، ثمَّ خراسانَ، ثمَّ البصرةَ، ثمَّ الكوفةَ، وجوابَ الزهريِّ لهُ، وأنَّ كلَّهم موالٍ إلاَّ الذي بالكوفةِ، وهوَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، فإنَّهُ منَ العربِ، وقولُ عبدِ الملكِ عندَ ذلكَ: ويلكَ يا زهريُّ فرَّجْتَ عنِّي، واللهِ ليسودَنَّ الموالي على العربِ، حتَّى يُخطَبَ لها على المنابرِ، والعَربُ تحتها، وهذا منْ عبدِ الملكِ، إمَّا فراسةٌ، أو بلَغَهُ منْ أهلِ العلمِ، أو أهلِ الكتابِ، فَاللهُ أعلمُ.