مشيخة القزويني

سلسلة الأجزاء والكتب الحديثية (33)

مشيخة
الإمام سراج الدين عمر بن علي القزويني

المحدث المقرئ القرشي الشافعي
إمام جامع الخلافة العباسية ببغداد

(683هـ - 750هـ)

حققه وقدم له وعلق عليه
الدكتور عامر حسن صبري

دار البشائر الإسلامية

الطبعة الأولى
1426 هـ - 2005 م

(/)


[افتتاحية]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العالم بأسرار القلوب، المطلع على خفيات الغيوب، ذي العظمة والكبرياء، والرأفة والعلياء، والنور والبهاء، مسبغ أصناف الآلاء، ودافع نوازل البلاء، وجاعل العلماء ورثة الأنبياء، ومؤيدهم بحسن توفيقه في حفظ سنة سيد الأنبياء، وحراسة حديثه عن قول أولي الكذب والافتراء، ومودعه في صدور الحفاظ الأصفياء الصلحاء، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ... )) الحديث، إلى غير ذلك من مناقبهم الواضحة السناء، المنشورة اللواء.
وصلى الله على نبيه محمدٍ، المستخرج من صميم العرب العرباء، ورسوله المؤيد بالكتاب الذي أفحم أفهام البلغاء، وأخرس ألسن الفصحاء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما نسخ حالك الظلام بناصع الضياء، ومسخ بأصل الأشقياء بظهور الحق على ألسنة الأتقياء.
ثم إن الله تعالى بعظيم منته، وجميل رأفته، اختص كل طبقةٍ وزمانٍ

(1/77)


وعصرٍ وأوان، بأئمةٍ جعلهم هداةً للمهتدين، وقادةً للمتبعين، تنتظم بهم أمور الشريعة المحمدية، وتستقيم بهم مناهج السنة النبوية.
فهم لها رعاةٌ، وإلى الاقتداء بها دعاةٌ، وهم جهابذة نقده، وموائد حله وعقده، وإليهم يرجع في تصحيحه، ولهم يعتمد في توضيحه، لا سيما الإمام العالم العامل، والحبر الفاضل الكامل، صاحب السيرة العمرية، ومقتدي السنة النبوية، حائز قصب السبق، والمجلي في حلبة الصدق، ذي الآراء السديدة، والمناهج الرشيدة، مقتفي آثار السلف الصالحين، وموضح سنن الحق للسالكين، مجتهد العراق ومسندها بالاتفاق، الذي شاع جميل ذكره في الآفاق، وامتدت شوقاً إلى جميل طلعته الأعناق، سراج الحق والملة والدين أبو حفص عمر بن علي بن عمر القزويني، أعز الله تعالى أهل السنة الغراء بشريف همته الفارعة، وقمع أهل البدعة الشنعاء عنيف سطوته المانعة، ولا زالت وفود الطالبين مزدحمةً على أبوابه، مقبلةً على ثرى أعتابه.
والمسؤول من جميل عوائده، وجزيل فوائده، أن يتصدق في حق أصغر تلامذته أبي الحسن علي بن أبي الحسين منصور بن علي الواسطي مولداً الأصبهاني أصلاً، ويلبسه الخرقة التي لبسها من المشايخ الثقات والصلحاء الأثبات، ويجيزه بما صح عنده سماعاً وقراءةً ومناولةً وإجازةً،

(1/78)


أو سمعه منه بقراءته أو قراءة غيره، وأن يذكر كل كتابٍ باسمه وطرقه على ما تيسر من ذلك عالياً ونازلاً، مغتنماً في ذلك جزيل الأجر، فائزاً برفيع القدر، وجميل الذكر.
أمتع الله الإسلام والمسلمين بطول حياته، ولا أخلى كافة المحبين من عميم أنسه وكريم لقائه، وطرز الأكوان بمحاسن ذكره، وحميد صفاته، وأبقى ذريته الطاهرة بقاءً لا تنوبه الأكدار، وجعل أعمارهم أطول الأعمار بمحمدٍ وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام المنتجبين.

(1/79)


[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ أبو حفص سراج الدين عمر ابن السيد علي بن عمر القزويني، المحدث الشافعي، الإمام بجامع الخليفة ببغداد، بلغه الله من فضل كرمه مآله، وختم بسعادتي الدنيا والآخرة أعماله:
أحمد الله على نعمه العظام، وأشكره على مننه الجسام، وأصلي وأسلم على نبيه محمدٍ سيد الرسل الكرام، المبعوث إلى كافة الخاص والعام، وعلى آله دعائم الإسلام، وأصحابه مبيني الشرائع والأحكام.
أما بعد:
فقد علم الأئمة الفضلاء، والمشايخ العلماء، والقادة الفقهاء -أعلى الله قدرهم ورفع في الدنيا والآخرة ذكرهم0 أن السنة بين أئمة الحديث في القديم والحديث أن لا يسوغ لأحدٍ رواية الحديث إلا بالإسناد إلى النقلة، أهل السداد والرشاد، لزيادة شرفه بالنسبة إلى سائر العلوم، وجلالة قدره، بأنه مغير العادات والرسوم، وكيف لا وعليه مدار الأحكام الدينية، وبه يتوسل إلى الدرجات العلية، من سلكه فقد نجا، ومن تركه فقد غوى، كما بينه غير واحدٍ من علماء السلف في كتبهم المصنفة في شرف أهل الحديث المتبعين سنن الرواية والتحديث.
فلهذا تفضل جماعةٌ منهم واستجازوا مني ما لي فيه حق الرواية: قراءةً وسماعاً، أو مناولةً وإجازةً، أو كتابةً أو تأليفاً، بعد معرفة كل واحدٍ منهم بقلة بضاعتي، وصرف عمري فيما لا يعنيني وإضاعتي، فتقبلت بالمنة قولهم

(1/80)


وأجبت بالسمع والطاعة مسؤولهم، وأجزت لكل واحدٍ منهم على حدته، ولمن أضافه في الاستجازة إلى نفسه من أهله وعشيرته، أن يروي عني ما يصل إليه ويصح لديه أنه من مقروءاتي ومسموعاتي على مشايخي، ومناولاتي ومستجازاتي منهم، وما كتبوا إلي من بلاد الإسلام بخطوطهم بعد التماسي ذلك منهم حجازاً وشاماً وعراقاً، عرباً وعجماً، من جميع أصناف العلوم من التفاسير والأحاديث وكتب القراءات السبعة والعشرة والشواذ والأخبار والسنن والآثار.
ومن كل ما يتعلق بالعلوم الدينية، والمعارف الربانية السنية من كتب التصوف وأحوال الصوفية المتمسكين بأحوط المذاهب وأشرف المطالب، وغير ذلك من كتب الأدب نحواً ولغةً وشعراً، وكتب الأصول والفروع.
ومن سائر ما للرواية فيه عرفاً، ويدخل للدراية فيه شرعاً مجالٌ، وجميع ما ألفته وجمعته من علم القرآن والحديث والفقه والتاريخ والتصوف، وما سؤألفه وأرويه، معتمداً في ذلك كله على شرائط صحة التحديث عند أرباب النقل والحديث.
وكتبت لكل منهم إجازةً، وذكرت فيها شروطاً وآداباً، وخرجت لكتب عينتها طرقاً على قدر ملتمسه وحسب حاله، فسارت بها الركبان، واختلفت بأصحابها البلدان.
وأكثرها إملاءً من حفظي من غير تقييد نسخةٍ عندي أتلو منها، فاختلفت لذلك طرق الكتب في كل إجازةٍ، إذ قد يكون في حفظي للكتاب الواحد طرقٌ كثيرةٌ إلى مؤلفه، فيخطر ببالي في وقت كتابة بعض الإجازات طريقٌ، وفي بعضها آخر، فيقف عليهما معاً من لا خبرة له بهذا الشأن، وهو الكل إلا شرذمةٌ يسيرةٌ، وهي أقل من القليل، فلا يكاد يشك في الغلط والتناقض.

(1/81)


وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
وأيضاً فإني صرت محتاجاً إلى كتابة إجازةٍ في كل وقتٍ لبعض العلماء بخطي تأليفاً أتكلف فيها على قدر حاله، حيث أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، فتفرق بذلك أكثر وقتي، وشغلني عما يعنيني.
[سبب تأليف الكتاب]
فلما كتبت لبعض الفضلاء إجازةً طلب كثيرٌ من السادة العلماء نقلها، فمنعهم من ذلك تخصيصها باسمه والإلحاقات التي فيها، أمروني -ومطلق الأمر عندي للوجوب- أن أبيضها لهم، وأضم إليها ما يعن لي من الكتب المصنفة في القراءات وغيرها، وأحذف منها ما يخص ذلك الفاضل مما سمعه [علي] وذكرته هناك، قائلين بأن هذه الإجازة تكون كالمشيخة لكل من يدرك زمانك مطلقاً، فأما ما يقرؤه عليك قارئٌ أو يسمعه منك سامعٌ، أو يلتمسه منك ملتمسٌ من زيادة كتبٍ مروية، وأحاديث نبوية، فإنه يخص به منفرداً عن هذه، مبيناً قراءاته أو سماعه أو إجازته، وما يرويه المختص من هذه الإجازة اختص به وأستجاز بموجبه، فرأيت ملتمسهم أرفه لسري وأسهل لأمري.
[رواية الأكابر عن الأصاغر]
هذا، ولعمري هو المشار إليه بقول المحدثين في باب رواية الأكابر

(1/82)


عن الأصاغر، فإنهم صنفوا في ذلك تصانيف، بينوا فيها من روى من الأكابر عن الأصاغر وطولوا، ومن أشهر ما يستدل به:
رواية الخلفاء الأربعة وغيرهم من عظماء الصحابة -رضوان الله عليهم- عن عائشة رضي الله عنها كثيراً من الأحكام.
حتى أن جماعةٌ رووا عمن روي عنهم، وجماعةٌ رووا شيئاً لغيرهم ثم نسوه، فلما أخبرهم به ذلك الغير رووه عنه عن أنفسهم، وقالوا فيه: حدثني فلانٌ عني.
وأعظم من ذلك: رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري على المنبر في حديث الجساسة.
وأعظم من هذا أيضاً: روايته صلى الله عليه وسلم عن أمه في حديثه عنها أنها أخبرت بإضاءة قصور الشام وبصرى عند ولادته.
فإذن لا نكير على من آثر الرواية عن هذا الفقير، وله مثل هؤلاء السادة سلفٌ، وهو في حسن التواضع لهم خلفٌ.

(1/83)


[شرط المصنف في كتابه]
مع أني لا أذكر إن شاء الله تعالى في هذه المشيخة طريقاً إلا بعد علمي أنه أعلى الطرق في زماني هذا، لا يدعي أحدٌ في زمننا أعلى منه إلا استدل بدعواه على كذبه أو جهله بالطرق، فإنه علمٌ لا يكاد يعرفه إلا ماهرٌ في كل حين، وهو علمٌ برأسه كالفرائض من الفقه، لا يجوز أن يقبل فيه كل أحدٍ من أهل الحديث، وليس في عصرنا من يفهمه إلا واحدٌ بالعراق كله ولم يمعن فيه، وبعض المشهورين بالشام.
وإن روى أحدٌ كتاباً أعلى مني عدداً -سماعاً أو إجازةً- علمت إمكان ذلك في زماني هذا، ولم أتمكن من مساواته بالإجازة العامة المعمول بها عند الأكثر قياساً على الوقف، بينت أنه قد يرويه بعض الموجودين في هذه الأيام أعلى مني عدداً، وهذا إنما يكون في الكتب المصنفة في هذه الأعصار المتأخرة، كـ (مشارق الأنوار) ، و (جامع الأصول) ، و (مفاتيح الغيب) ونحوها، وأما في كتب الأئمة المتقدمين على هؤلاء، وفي كتب الحديث المسندة، فليس لأحدٍ أن يدعي أعلى من ذلك، سوى واحدٍ بدمشق قد عبر المائة، سمع البخاري، وفي صحة السماع عليه أنظارٌ وبحوثٌ وفوق كل ذي علمٍ عليمٍ.

(1/84)


ولا تظنن أن قولي ذلك كله هو مجرد دعوى، فإن هذا أيضاً مما يفهمه أهل هذا الشأن، وأنه واجب القبول، مصرحٌ بعلمٍ شريفٍ من علوم الإسناد، والله أعلم.
وهذا ذكر بعض ما أرويه من الكتب على سبيل الاختصار طالباً مشاهيرها، المتداولة بين أهل الزمان دون ما لم يعرفوه في أكثر البلدان.
وإن طول الله في العمر وسهل في الأمر كتبت مشيخةً تحتوي على مجلدات، أذكر فيها جميع شيوخي وشيوخ أولادي، إذ شاركوني في أكثر مروياتي إجازةً وسماعاً، وأذكر جميع أسانيدنا بأعلى الطرق إلى المصنفين من جميع المذاهب الأربعة، ولا أبقي كتاباً مصنفاً مشهوراً متداولاً إلا وذكرت إسنادي فيه إلى مؤلفه من جميع أصناف العلوم الشرعية والأدبية وكتب الصوفية، بحيث لا يبقى لمعرضٍ عن فضيلة طلب الإسناد عذرٌ في إعراضه، ولا لطالب رواية جميع العلوم بالإسناد مانعٌ من أغراضه إن شاء الله تعالى.
وأقدم على ذكر الكتب الآن طرفاً نزراً من شروط رواية الحديث وآدابه وعلومه المذكورة في تلك الإجازة المشار إليها، مع إضافاتٍ قد لا آمن القلم أن يجري بها في إثباتها.
فمن الشروط التي اشترط على من يروم رواية الحديث:
[اشتراط الإسناد]
أن لا يقرأ شيئاً ولا يرويه إلا بإسنادٍ متصلٍ إلى راوي ذلك الحديث، أو مؤلف ذلك الكتاب، للراوي والمؤلف معاً، كيلا تنقطع سلسلة الإسناد،

(1/85)


الذي هو مما اختص الله تعالى به هذه الأمة دون سائر الأمم، وبين نقص غيرهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في إسقاط عدالتهم، وعدم جواز الرواية بالعنعنة عنهم بقوله: ((بينوا عني ولو آيةً، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) .
قال العلماء: أي ولا حرج في إسقاط الرواية عنهم، حيث لم يكونوا أهلاً للضبط والعدالة، وقد صح عن عبد الله بن المبارك الإمام أنه قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وقال أحمد بن حنبلٍ الإمام: طلب الإسناد العالي سنةٌ عمن سلف.
وقيل ليحيى بن معينٍ الإمام في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيتٌ خالٍ، وإسنادٌ عالٍ.
وقال محمد بن أسلم الطوسي الإمام الزاهد: قرب الإسناد قربةٌ إلى الله تعالى.
ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم ينهون عن إسقاط الإسناد غاية النهي، حتى أنهم لم يرووا حكايةً ولا شعراً إلا بالإسناد إلى المروي عنه، حتى لا يدعي أحدٌ كلام غيره أو شعر غيره، فقد فعله كثيرٌ ممن فضحه الله ببركة الإسناد وجهابذته، فما ظنك بالحديث والتفسير والفقه الذي هو علم الشريعة خاصةً من بين سائر العلوم، حتى لو أوصي لأهل العلم أو لعلماء الشرع لم يصرف إلا إلى علماء التفسير والحديث والفقه، وناهيك بهم شرفاً.
ولا اغترار بكثرة عدد من ترك الإسناد في علومه في أقطار البلاد، بل ربما أنكره مستغنياً عنه بسواد بياض منقطع الإسناد، محتملٍ للزيادة

(1/86)


والنقصان والتبديل والتحريف، يفتون بموجبه، ويروون عن مشاهدة خطه، فلو قيل لهم: من أين لكم أن هذا الكتاب تأليف فلانٍ، أو هذا الكلام للإمام الشافعي، أو أبي حنيفة -رحمة الله عليهما- لاشتغلوا بتأويلات يسوغون بها باطلهم، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، فهذا الزمان الذي أخبر بمعناه صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من أحاديثه الصحيحة، هذا مع أنهم يقرؤون في كتب الأصول حكاية اختلاف العلماء قديماً وحديثاً في قبول رواية المراسيل التي يرويها التابعي المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد إسقاط ذكر الصحابي المروي عنه، فإن الشافعي وجمهور المحدثين لم يقبلوها، وإن قبل الشافعي مراسيل سعيدٍ بن المسيب، فإنه إنما قبلها لكونه تتبعها فوجدها عنده مسانيد.
فإذا كان مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم من سادات التابعين، إذا أطلقوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسقطوا ذكر الصحابي لم يقبل ذلك احتجاجاً، به، فكيف [بغيرهم] ممن بعد سبعمائة ونيفٍ وعشرين سنةٍ؟!
يقولون في مثل كتاب (المصابيح) ، و (المشارق) ، و (الشهاب) ، وغيرها: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم؟! متأولين ثبوت أسانيدها عند أهلها، ويا له من خطأ ظاهرٍ عند أهله، فالواجب أن يذكر إسناد الكتاب المقروء أولاً، ويقول: أخبرنا فلان بن فلان بن فلان إجازةً أو قراءةً عليه، أو سماعاً، على ما تقتضيه روايته عن شيخه، قال: أخبرنا فلانٌ هكذا إلى مؤلفه، ثم يقول:

(1/87)


قال رحمة الله عليه كذا وكذا، وفي كل مجلسٍ يعيد ذلك الإسناد إلى مؤلفه، أو يقول بالإسناد المذكور إلى مؤلف هذا الكتاب: فلانٌ قال رحمة الله عليه كذا وكذا، ولا يهمل ذلك، فلا يجوز غيره، إذ ما من كتابٍ مصنفٍ في نوعٍ من أنواع العلوم إلا ولهذه الطائفة المنصورة على مؤلفه إسنادٌ معروفٌ عندهم يعرفه الباحث من جنسه، إما بطريقٍ عالٍ أو نازلٍ، سماعاً أو إجازةً.
[سماع الحديث وروايته]
ومنها: أن لا يروي شيئاً من العلوم من صحيفةٍ لم تقرأ، بل لا بد أن يكون ذلك الكتاب والحديث بخط المؤلف الراوي له أو مقروءٍ عليه، أو على من قرأ عليه وهلم جرا إلى أن يصل إلى أحد شيوخ نفسه ممن يروي هو عنه، وإن لم يكن كذلك فأقل مراتبه أن يكون مقابلاً بأصل، هذا شأنه، فإن قول القائل عن كتاب لم يقرأه ولم يقابل المقروء: أخبرنا فلانٌ بجميع هذا الكتاب إلى أن يسنده إلى مؤلفه -مع علمه باختلاف النسخ وزيادتها ونقصانها- يكون كذباً في الزيادة قطعاً، ورأس هذا الأمر وعموده الصدق والاحتياط.
وقد عد الحاكم أبو عبد الله الحافظ البيع في طبقات المجروحين من كان هذا شأنه، وقال: وهم يتوهمون أنهم في روايتها صادقون، حتى أن عبد الله بن لهيعة الإمام المصري ترك الاحتجاج بروايته مع جلالته لتساهله بأمر الكتب.

(1/88)


واعلم أن رواية مثل هذا الكتاب بالسماع أعظم كذباً من روايته بالإجازة، ولا اغترار بفعل أكثر بلاد العجم روايتهم كتاب (المصابيح) من أي نسخةٍ وقعت بأيديهم، خصوصاً إن قرئت على رجلٍ فاضلٍ أديبٍ جعلوا تلك النسخة معتمد النسخ، ولم يعلموا أنهم ربما زادوا سقماً بتصرف ذلك الفاضل في الألفاظ النبوية التي ضبطت من ألفاظ العلماء خلفاً عن سلفٍ آحاداً، كما ضبطت ألفاظ القرآن تواتراً.
فالحمد لله الذي لم يجعل للفضلاء في ألفاظ القرآن نصيباً، بل حفظه بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ، فجزى الله أهل البلاد الشامية أفضل الجزاء، فإن هذا الأمر عندهم مضبوطٌ.
[التثبت في الرواية]
ومنها: أن يحترز من الغلط والتصحيف والزلل والتحريف في الأسانيد والمتون، لكن إن كانت النسخة مضبوطة بخط بعض المعتمدين من الحفاظ الراوين له فبها ونعمت، وإلا فلا بد أن يكون القارئ أو المسمع أو بعض الحاضرين عارفاً بأسماء الرجال، والجرح والتعديل، وعلم العربية، وتصرفات اللغة، كيلا يقع غلطٌ في شيء من ذلك.
[حفظ ما جاء في الأصل وإن كان فيه خللٌ]
وإياه وتغيير ما في الأصول المقروء منها من الألفاظ التي يزعم أنها

(1/89)


غلطٌ، بل يبين ما يغلب على ظنه صحته، بعد تحقيقه على الحاشية: صوابه كذا، فإنه ربما ورد كذلك، وله وجهٌ صالحٌ لم يصل علمه إليه، أو وجهٌ ضعيفٌ وردت الرواية به، خصوصاً عند من لم يجوز الرواية بالمعنى، فالأمر فيه عنده شديدٌ، وأيضاً فإنه لا قائل بجواز رواية الحديث بالمعنى لمثل أهل هذا الزمان، فإنهم اتفقوا على عدم الجواز لهم، واختلفوا في جوازه لمن بلغ مرتبة الاجتهاد من العلماء.
وإذا أشكل حرفٌ في الرواية فليقل ما يغلب على ظنه صحته، ثم يردفه بقوله: أو كما قال، ليسلم من تبعته إن شاء الله تعالى، فهكذا فعله الأئمة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
[ألفاظ الأداء]
ومنها: أن لا يطلق اللفظ في كل ما يرويه بـ (حدثنا) أو (أخبرنا) كما يفعله بعض من لا فهم له ولا دين، بل يفصل، فيقول فيما سمعه من لفظ الشيخ مع غيره: حدثنا فلانٌ، وبمفرده: حدثني، فإن كان الشيخ حدثه من لفظه، قال: أملى من حفظه، وإن كان من الكتاب، قال: قراءةً من لفظه وكتابه.
ويقول فيما سمعه على الشيخ بقراءة نفسه: أخبرني فلانٌ، إما مطلقاً هكذا، أو مقيداً بقوله: بقراءتي عليه، وإن كان معه غيره، قال: أخبرنا فلانٌ، وكذلك إن قرأ غيره على الشيخ وهو يسمع مطلقاً أو مقيداً، إفراداً وجمعاً.
ويقول فيما ناوله بيده وقال: إروي هذا الكتاب، أو ما في هذا الكتاب عني: أخبرني فلانٌ مناولةً، ولا يطلق.
وكذلك إن أجاز له أن يروي عنه مطلقاً فليقل: أخبرني، أو أخبرنا في

(1/90)


الجمع، فلانٌ إجازةً من لفظه، أو خطه، أو كتابه، أو بلفظه وخطه وكتابه إلينا على ما يقتضيه الواقع، ولا يطلق في شيءٍ من الإجازة: أخبرنا، مطلقاً من غير تقييدٍ، فإذا أراد أن يطلق في شيءٍ من المناولة أو الإجازة فليقل: أنبأنا فلانٌ فقط، أو أجاز لنا فلانٌ، أو كتب لنا أو إلينا، فإذا لم يجز في هذه الصور إطلاق لفظ الإخبار، فإطلاق لفظ التحديث أولى، بل لا يجوز في هذه الصور: حدثنا، مقيداً أيضاً على الوجه المختار.
فأعلى هذه المراتب: حدثنا فلانٌ من حفظه، ثم حدثنا من لفظه وكتابه، وفيه خلافٌ، ثم بعدهما: حدثني، ثم أخبرنا، ثم أخبرني، ثم ناولنا، ثم ناولني، ثم أجاز لنا بلفظه وخطه، ثم أجاز لنا بلفظه، ثم بخطه، ثم كتب لنا، ثم إلينا، ثم وجدنا بخط فلانٍ، ثم وجدت بخطه على ما تقدم من تقديم الجمع على الإفراد في الكل، وهكذا إلى آخر أسانيد ذلك الكتاب بتحرير صورة الحال في كل شيخٍ من شيوخه.
فإن شك في شيءٍ من ذلك أخذ بأقلها مرتبةً، كما إذا شك في التحديث والإخبار أخذنا بالإخبار، أو شك في السماع والإجازة، وقال: أنبأنا إجازةً إن لم يكن سماعاً، هذا هو الاحتياط، في كل فصلٍ منه خلافٌ مذكورٌ في كتب الأئمة.
[مراعاة الأمانة في الحكم على الحديث]
ومنها: أن لا يطلق في شيء من أنواع الحديث غير ما هو لائقٌ به من الصحة والضعف، فيقول في الحديث الصحيح: هذا حديثٌ حسنٌ، فيكون قد أنزل [مرتبته] ، وفي الحسن أنه صحيحٌ، فيكون قد أعلى مرتبته،

(1/91)


وكذلك في جميع الأنواع التي يخالف بعضها بعضاً في القوة والضعف، فإنه يعد حينئذٍ كاذباً وخائناً.