مفتاح السعيدية في شرح الألفية الحديثية مَتَى يَصحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ أوْ
يُسْتَحَبُّ؟
قوله:
350 - وَقَبَلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمُّلاَ ... فِي كُفْرِهِ
كَذَا صَبِيٌّ حُمِّلاَ
351 - ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوْغِ وَمَنَعْ ... قَوْمٌ
هُنَا وَرُدَّ (كَالسِّبْطَيْنِ) مَعْ
352 - إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمّْ ...
قَبُوْلُهُمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ
الشرح: هذا الطرف الثالث في تَحَمُّلِ الحديث، وطُرُق نقله،
وضبطه، وروايته، وآداب ذلك وما يتعلق به، والكلام فيه، في
أنواع:
النوع الأول: في أهلية التَّحَمُّل: يَصِحُّ التَّحَمُّل قبلَ
الإسلام، ورَوَى بعده (1) قُبِلَ منه، لحديث جُبير بن مطعم
المتفق على صحته: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المغرب بالطور، وكان جاء في فداء أسارى بدر قبل أن يسلم، وفي
البخاري: «وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي».
وقوله: «كذا صبي» (خ) وكذا تقبل رواية من سمع قبل البلوغ، وروى
بعده.
وقوله: «ومَنَع» (خ) يعني أن بعضهم منع ذلك في مسألة الصبي،
وأخطأوا بذلك، لاتفاق الناس على قبول رواية [76 - أ] الحسن،
والحسين، وابني عباس، والزبير، والنعمان بن بشير، وغيرهم.
_________
(1) أي أن من تحمل الحديث تحمله حال كفره ثم رواه بعد إسلامه.
(1/214)
وقوله: «كالسِّبْطين». قلت: هو تثنية سِبْط
بكسر السين المهملة، وإسكان الباء الموحدة، وبعده طاء مهملة،
وهو وَلَد الولد. انتهى.
وقوله: «مع إحضار» (خ) يعني أن أهل العلم كانوا يُحْضِرُون
الصبيان مجالس الحديث، ويعتدُّون بروايتهم لذلك بعد البلوغ.
وقوله:
353 - وَطَلَبُ الْحَدِيْثِ فِي الْعِشْرِيْنِ ... عِنْدَ
(الزُّبَيْرِيِّ) أَحَبُّ حِيْن
354 - وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ (أَهْلُ الْكُوْفَهْ) ...
وَالْعَشْرُ فِي (الْبَصْرَةِ) كَالْمَألُوْفَهْ
355 - وَفِي الثَّلاَثِيْنَ (لأَهْلِ الشَّأْمِ) ...
وَيَنْبَغِي تَقْيِيْدُهُ بِالْفَهْم
356 - فَكَتْبُهُ بالضَّبْطِ، والسَّمَاعُ ... حَيْثُ يَصِحُّ،
وَبِهِ نِزَاعُ
357 - فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الحُجَّهْ ... قِصَّةُ
(مَحْمُوْدٍ) وَعَقْلُ الْمَجَّهْ
358 - وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ، وَقِيْلَ أَرْبَعَهْ ...
وَلَيْسَ فِيْهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
359 - بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا ... مُمَيِّزَاً
وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
الشرح: قال أبو محمد بن خَلَّاد الرَّامَهُرمزي في «المحدث
الفاصل» حكاية عن أبي عبد الله الزبيري: أنه يُسْتَحَبُّ كتب
الحديث في العشرين؛ لأنها مُجْتَمَعُ العقل.
فقوله: «في العشرين» بكسر النون على حد قول الشاعر:
وقد جاوزته حد الأربعين
وقوله: «عند الزُّبَيْرِي». قلت: هو بضم الزاي، وفتح الباء
الموحدة، هو أبو
(1/215)
عبد الله من الفقهاء الشافعية [76 - ب]،
واسمه الزبير بن أحمد.
وقوله: «وهو الذي» (خ) يعني أن أهل الكوفة كانوا لا يخرجون
أولادهم في طلب الحديث صغاراً حتى يستكملوا عشرين سنة.
وقوله: «والعشر» (خ) يعني أن أهل البصرة يثبتون لعشر سنين.
وقوله: «وفي الثلاثين» (خ) يعني وأهل الشام لثلاثين سنة.
قلت: «والشَّأْم» بفتح الشين مقصور مهموز، ومعناه بالسريانية
الطَّيِّب، سُميت بذلك لِطيبها وكَثْرَة خصبها، وقيل غير ذلك،
ونَقَلَ ابنُ عبد البر أن العرب كانت تقول: «من خرج إلى الشام
نقص عمره، وقَتَلَهُ نعيم الشام» وأنشد لثعلب:
إن الشَّأْمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ ... فمن لي إن لَمْ آتِه بخلود
وقوله: «وينبغي» (خ) يعني أن طلب الحديث، وكتابته بالضبط
والسماع من حيثُ يَصِحّ.
وقوله: «فَكَتْبُهُ» هو بالرفع عطفاً بالفاء على تقييده. وكذا
قوله: «والسماعُ» مرفوعٌ عطفاً على «فكتبُهُ».
وقوله: «وبه نزاع» يعني: أن في الوقت الذي يصح فيه السماع
نزاعاً بين العلماء انتهى إلى أقوال أربعة:
أحدها: مذهب الجُمْهُور أن أقلَّه خمس سنين، وحكاه عياض في
«الإلماع» عن أهل الصنعة قال ابن الصلاح: وهو الذي استقر عليه
عمل أهل الحديث المتأخرين.
(1/216)
وقوله: «ثم الحُجَّة» (خ) يعني أن حُجَّة
الجمهور في ذلك ما رواه البخاري في «صحيحه» [77 - أ]،
والنسائي، وابن ماجه، من حديث محمود بن الرَّبيع قال: «عقلت من
النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجها في وجهي من دلو وأنا
ابن خمس سنين» وبوب عليه (خ) «باب متى يصح سماع الصغير».
وقوله: «وقيل أربعة» هو بالتاء، وكذا خمسة، قصد العام، وهو
مُذَكَّر اقتداءً بالقرآن، .... (1)، ويعني أن سن محمود كان إذ
ذاك أربعة، ويشير بذلك إلى قول الحافظ أبي عُمر: يُحفظ ذلك عن
محمود وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين.
وقوله: «وليس» (خ) هذا هو القول الثاني من الأربعة أقوال: أنه
يعتبر في صحة سماعه تمييزه، فمتى فهم الخطاب ورَدَّ الجواب
صَحَّ سماعُه وإن كان أقل من ابن خمسة، وإن لم يكن كذلك لم يصح
وإن زاد على الخمس، وهذا هو الصواب.
وقوله:
360 - وَقِيْلَ: (لابْنِ حَنْبَلٍ) فَرَجُلُ ... قال: لِخَمْسَ
عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ
361 - يَجُوْزُ لاَ فِي دُوْنِهَا، فَغَلَّطَهْ ... قال: إذا
عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ
362 - وَقِيْلَ: مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ ...
فَرَّقَ سَامِعٌ، وَمَنْ لاَ فَحَضَرْ
363 - قال: بِهِ الَحْمَّالُ وابْنُ الْمُقْرِيْ ... سَمَّعَ
لاِبْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْر
_________
(1) عبارة لم تظهر لي ورسمت هكذا: نداولا بالغيب والبركة.
(1/217)
الشرح: يُستدل على اعتبار التمييز في صحة
سماع الصبي بقول الإمام أحمد وسئل متى يجوز سماع الصبي للحديث؟
فقال: إذا عَقل وضبط. فَذُكِرَ له عن رجل أنه قال: لا يجوز
سماعه حتى يكون [77 - ب] له خمس عشرة سنة فأنكر قوله، وقال:
بئس القول. وهذا هو القول الثالث.
وقوله: «إذا عقله». قلت: «عَقَله» بفتح العين المهملة والقاف،
يُقال عَقَل يَعْقِلُ عَقْلاً. انتهى.
وقوله: «وقيل» (خ) هذا هو القول الرابع، وهو قول موسى بن هارون
الحَمَّال وسُئل متى يجوز سماع الصبي للحديث؟ فقال: إذا
فَرَّقَ بين البقرة والدابة، وفي رواية: بين البقرة والحمار.
قلت: والحمال بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم، وبعده ألف،
فلام.
وقوله: «ومن لا فَحَضَر» يعني إن من لم يُفَرِّق بين البقرةِ
والحمار يُكتب له على مذهب الحَمَّال حَضَرَ أو أُحْضِر، لا
سَمِع.
وقوله: «وابن المقرئ» مبتدأ خبره «سَمَّع». ومعناه أن ابن
المقرئ سَمَّع لابن أربع سنين، وهو القاضي أبو محمد عبد الله
بن محمد بن عبد الرحمن بن اللَّبَّان الأصبهاني.
قال الخطيب: سمعته يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وأُحْضِرَت
عند أبي بكر بن المقرئ ولي أربع سنين، فأرادوا أن يُسَمِّعُوا
لي فيما حَضَرْت قراءته، فقال بعضهم: إنه يصغر عن السماع. فقال
لي ابنُ المقري: اقرأ سورة الكافرين. فقرأتها، فقال: اقرأ سورة
التكوير فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة
(1/218)
والمرسلات فقرأتها، ولم أَغْلَط فيها. فقال
ابن المقرئ: سَمِّعُوا له والعُهْدَةُ عليَّ.
وقوله: «ذي ذُكر». قلت: هو بضم الذال المعجمة، وكسرها، لغتان،
حكاهما الجوهري [78 - أ] في «صِحَاحه». انتهى.
تنبيه على وَهْم: قول ابن الصلاح بلغنا عن الجوهري أنه قال:
«رأيت صبياً ابن أربع سنين حُمل إلى المأمون، قرأ القرآن، ونظر
في الرَّأي، غير أنه إذا جاع يبكي».
قال شيخنا (ن): والذي يغلب على الظن عدم صحة هذه الحكاية، وقد
رواها الخطيب في «الكفاية» بإسناده، وفي السند أحمد بن كامل
القاضي، ومن (1) يعتمد على حفظه فيهم. وقال الدارقطني: كان
متساهلاً.
_________
(1) كذا، وفي المصدر: وكان ...
(1/219)
أَقْسَامُ التَّحَمُّلِ، وأوَّلُهَا:
سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيْخِ
قوله:
364 - أَعْلَى وُجُوْهِ الأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ...
وَهْيَ ثَمِانٍ: لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَم
365 - كتَاباً او حِفْظَاً وَقُلْ: (حَدَّثَنَا) ...
(سَمِعْتُ)، أَوْ (أَخْبَرَنَا)، (أَنْبَأَنَا)
366 - وَقَدَّمَ (الْخَطِيْبُ) أَنْ يَقُوْلاَ: ... (سَمِعْتُ)
إِذْ لاَ يَقْبَلُ التَّأْوِيْلاَ
367 - وَبَعْدَهَا (حَدَّثَنَا)، (حَدَّثَنِي) ... وَبَعْدَ
ذَا (أَخْبَرَنَا)، (أَخْبَرَنِي)
368 - وَهْوَ كَثْيِرٌ وَ (يَزِيْدُ) اسْتَعْمَلَهْ ...
وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ
369 - مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، وَبَعْدَهُ تَلاَ: ...
(أَنْبَأَنَا)، (نَبَّأَنَا) وَقَلَّلاَ
الشرح: هذا النوع الثاني في طُرُق تحمل الحديث، وهي ثمانية،
على اتفاقٍ في بعضها، واختلافٍ في بعض.
الطريق الأول، وهو أرفعها وأعلاها عند الأكثرين: السماع من لفظ
الشيخ، سواءً كان إملاءً أم تحديثاً من غير إملاء، وسواءً كان
من حفظه أم من كتابه.
وقوله: [78 - ب] «وقد» (خ) قال القاضي عياض لا خلاف أنه يجوز
في هذا أن يقول السامع منه إذا روى: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا،
وسمعت فلاناً يقول، وقال لنا فلان، وذَكَر لنا فلان.
وقوله: «وقَدَّم» (خ) يعني أن الخطيب قال: أرفع العبارات
سمعتُ، ثم
(1/220)
حدثنا، وحدثني، ثم أخبرنا، وهو كثير في
الاستعمال، ثم أنبأنا، ونبأنا، وهو قليل في الاستعمال.
وقوله: «إذ لا يَقْبَلُ التأويلا» يعني أن الخطيب استدلَّ على
ترجيح «سمعت» بأن أحداً لم يَقُلْها في الإجازة والمكاتبة
والتدليس لما (1) لم يسمعه، واستعمل بعضهم «حدثنا» في الإجازة،
ولقول الحسن: «حدثنا أبو هريرة».
قال ابن دقيق العيد: وهذا إذا لم يَقُم دليلٌ قاطع على أن
الحسن لم يسمع من أبي هريرة لم يجز أن يصار إليه.
قلت: قال أبو زرعة وأبو حاتم: من قال عن الحسن: حدثنا أبو
هريرة، فقد أخطأ. انتهى.
قال شيخنا: والذي عليه العمل أنه لم يسمع منه شيئاً فيما نصه
أيوب، و (ت)، و (ن) (2)، والخطيب، وغيرهم، بل قال يونس بن
عبيد: ما رآه قط.
وفي «صحيح مسلم» في حديث الذي يقتله الدَّجَّال فيقول: «أنت
الدجال الذي حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم» دلالة على
أن حدثنا ليست نصاً في سماع قائلها.
وقوله: «ويزيد» (خ) يعني أن يزيد بن هارون وغيره استعمل
«أخبرنا» فيما سمعه من لفظ الشيخ، فإذا رأيت [79 - أ] «حدثنا»
فمن خطأ الكاتب، وممن كان يفعل ذلك فيما نصه الخطيب: ابنُ
المبارك، وحمادُ بن سلمة، وجماعة.
_________
(1) في الأصل: ما. وعبارة الناظم (1/ 387): ولا في تدليس ما لم
يسمعه.
(2) أي: النسائي.
(1/221)
وقوله:
370 - وَقَوْلُهُ: (قَالَ لَناَ) وَنَحْوُهَا ... كَقُوْلِهِ:
(حَدَّثَنَا) لَكِنَّهَا
371 - الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ ... وَدُوُنَهَا
(قَالَ) بِلاَ مُجَارَرَهْ
372 - وَهْيَ عَلى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيْ ... لاَ
سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوْهُ فِي الْمُضِيْ
373 - أنْ لاَ يَقُوْلَ ذَا بِغَيْرِ مَا سَمِعْ ... مِنْهُ
(كَحَجَّاجٍ) وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ
374 - عُمُوْمُهُ عِنْدَ الْخَطيْبِ وَقُصِرْ ... ذَاكَ عَلى
الَّذِي بِذَا الوَصْفِ اشْتُهِرْ
الشرح: يعني أن قول الراوي: قال لنا فلان، أو قال لي، أو ذَكَر
لنا، أو ذكر، ونحوه، من قبيل حدثنا فلان في أنه متصل.
وقوله: «لكنها» (خ) يعني إلا أنهم كثيراً ما يستعملون هذا فيما
سمعوه حال المذاكرة.
وقوله: «ودونها [قال] (1) بلا مجاورة» هو بالجيم ورائين
مهملتين، ومعناه: أن دون هذه العبارة قول الراوي: قال فلان،
وذكر فلان، من غير ذكر الجار والمجرور، وهي أوضع العبارات، كما
نَصَّه ابن الصلاح.
وقوله: «وهي على السماع» (خ) يعني أن هذه العبارة محمولة على
السماع بالشرط في المعنعن، وهو أن يُعلم اللُّقي، ويَسْلَم
الراوي من التدليس، لا سيما من عُرف من حاله أنه لا يروي إلا
ما سمعه كحجاج بن محمد الأعور فروى كتب ابن جريج بلفظ «قال ابن
جريج» فحملها الناس عنه واحتجوا [79 - ب]
_________
(1) زيادة من الأبيات.
(1/222)
بها.
وقوله: «ولكن يمتنع» (خ) يعني أن الخطيب خَصَّ ذلك لمن عُرِفَ
من عادته مثل ذلك، فأما من لا يُعْرَف بذلك فلا يَحْمِلُه على
السماع.
الثَّاْنِي: القِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ
قوله:
375 - ثُمَّ الْقِرَاءَةُ الَّتِي نَعَتَهَا ... مُعْظَمُهُمْ
عَرْضَاً سَوَا قَرَأْتَهَا
376 - مِنْ حِفْظٍ أو كِتَابٍ او سَمِعْتَا ... والشَّيْخُ
حَافِظٌ لمِاَ عَرَضْتَا
377 - أولاَ، وَلَكِنْ أَصْلُهُ يُمْسِكُهُ ... بِنَفْسِهِ، أو
ثِقَةٌ مُمْسِكُهُ
378 - قُلْتُ: كَذَا إنْ ثِقَةٌ مِمَّنْ سَمِعْ ... يَحْفَظُهُ
مَعَ اسْتِماَعٍ فَاقْتَنِعْ
الشرح: الطريق الثاني من الطرق الثمانية في القراءة على الشيخ،
ويسميها أكثر قدماء المحدثين «عرضاً»؛ لأن القارئ يعرضه على
الشيخ، وسواءً قرأ هو على الشيخ من حفظه، أو من كتاب، أو سمع
بقراءة غيره من كتاب، أو حفظه، وسواءً كان الشيخ يحفظه أم لا
إذا كان يمسك أصله هو أو ثقة غيره.
وقوله: «قلت» من الزيادة على ابن الصلاح، وهو أن الأمر هكذا إن
كان ثقة من السامعين يحفظ ما يُقْرَأ على الشَّيخ، والحافظ
لذلك يستمع لما يُقرأ غير غافل عنه.
وقوله:
379 - وَأَجْمَعوُا أَخْذَاً بِهَا، وَرَدُّوا ... نَقْلَ
الخِلاَفِ، وَبِهِ مَا اعْتَدُّوا
(1/223)
380 - وَالْخُلْفُ فِيْهَا هَلْ تُساوي
الأوَّلاَ ... أو دُوْنَهُ أو فَوْقَهُ؟ فَنُقِلاَ
381 - عَنْ (مَالِكٍ) وَصَحبْهِ وَمُعْظَمِ ... (كُوْفَةَ) وَ
(الحِجَازِ أَهْلِ الْحَرَمِ) [80 - أ]
382 - مَعَ (البُخَارِي) هُمَا سِيَّانِ ... وَ (ابْنُ أبِي
ذِئْبٍ) مَعَ (النُّعْمَانِ)
383 - قَدْ رَجَّحَا الْعَرْضَ وَعَكْسُهُ أَصَحّْ ... وَجُلُّ
(أَهْلِ الشَّرْقِ) نَحْوَهُ جَنَحْ
الشرح: يعني أنهم أجمعوا على صِحَّة الرواية بالعرض، ورَدُّوا
ما حُكي عن بعض من لا يُعتد بخلافه أنه كان لا يراها، وهو أبو
عاصم النبيل، فيما رواه صاحب «المحدث» (1).
وروى الخطيب عن وكيع قال: ما أخذت حديثاً قط عرضاً، وأدرك عبد
الرحمن بن سلام الجمحي مالكاً والناس يقرأون عليه فلم يكتف
بالعرض، فقال مالك: أخرجوه عني.
والحقُّ صحة الرواية بالعرض، واستدلَّ البخاريُّ على ذلك بحديث
ضِمام بن ثعلبة.
وقوله: «والخلف» (خ) يعني أنهم اختلفوا في تساوي هذين الطريقين
والترجيح بينهما على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك وأصحابه ومعظم
علماء الحجاز والكوفة والبخاري التسوية بينهما، وحكاه الصيرفي
في «الدلائل» عن الشافعي.
_________
(1) أي كتاب «المحدث الفاصل».
(1/224)
وقوله: «وابن أبي ذئب» (خ) هذا القول
الثاني، وهو ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه،
وإليه ذهب من ذَكَر (ن)، وحكاه ابن فارس عن مالك وغيره، وكذا
رواه الخطيب عن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة، وجماعة عديدة
من الأئمة.
قلت: وابن أبي ذئب بضم الذال المعجمة وفتح الهمزة (1) بعدها هو
قبيصة. والنعمان هو أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.
وقوله: [80 - ب] «وجُلّ أهل الشرق» (خ) هذا هو القول الثالث،
وهو ترجيح السماع من لفظ الشيخ على القراءة عليه وهو الصحيح.
وقوله:
384 - وَجَوَّدُوا فِيْهِ قَرَأْتُ أو قُرِىْ ... مَعْ وَ
(أَنَا أَسْمَعُ) ثُمَّ عَبِّر
385 - بِمَا مَضَى فِي أولٍ مُقَيَّدَا ... (قِرَاَءةً
عَلَيْهِ) حَتَّى مُنْشِدَا
386 - (أَنْشَدَنَا قِرَاَءةً عَلَيْهِ) لاَ ... (سَمِعْتُ)
لَكِنْ بَعْضُهُمْ قَدْ حَلَّلاَ
387 - وَمُطْلَقُ التَّحْدِيْثِ وَالإِخْبَارِ ... مَنَعَهُ
(أَحْمَدُ) ذُوْ الْمِقْدَار
388 - (وَالنَّسَئِيُّ) وَ (التَّمِيْمِيُّ يَحْيَى) ... وَ
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) الْحَمِيْدُ سَعْيَا
389 - وَذَهَبَ (الزُّهْرِيُّ) وَ (الْقَطَّانُ) ... وَ
(مَالِكٌ) وَبَعْدَهُ (سُفْيَانُ)
390 - وَمُعْظَمُ (الْكُوْفَةِ) وَ (الْحِجَازِ) ... مَعَ
(الْبُخَارِيِّ) إلى الْجَوَاز
_________
(1) كذا قال!.
(1/225)
391 - وَابْنُ جُرَيِجٍ وَكَذَا
الأوزَاعِيْ ... مَعَ (ابْنِ وَهْبٍ) وَ (الإمَامُ
الشَّافِعِيْ)
392 - وَ (مُسْلِمٌ) وَجُلُّ (أَهْلِ الشَّرْقِ) ... قَدْ
جَوَّزُوا أَخْبَرَنَا لِلْفَرْق
393 - وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الإِنْصَافِ ... (للنَّسَئي)
مِنْ غَيْرِ مَا خِلاَف
394 - وَالأَكْثَرِيْنَ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرْ ...
مُصْطَلَحَاً لأَهْلِهِ أَهْلِ الأَثَر
الشرح: هذا تفريع على الطريق الثاني الفرع الأول: إذا روى
السامع بهذه الطريقة فله عبارات أحوطها وأجودها أن يقول: «قرأت
على فلان» إن كان هو الذي قَرَأ، و «قرئ عليه وأنا أسمع» إذا
سمع عليه بقراءة غيره.
فقوله: «وجودوا» أي: رأوه أَجْوَد [81 - أ].
وقوله: «ثم عَبر» (خ) يعني أنه يلي ذلك عبارات السماع من لفظ
الشيخ مقيدةً بالقراءة عليه فيقول: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا
قراءةً عليه، ونحوه، حتى إنهم استعملوا ذلك في الإنشاد فقالوا:
أنشده فلان قراءةً عليه، أو بقراءتي.
قال السبكي تاج الدين رحمه الله تعالى: أنشدني شيخنا أبو حيان
بقراءتي عليه:
عدَاتي لهم فَضْلٌ علي ومِنَّةٌ ... فلا أَذْهَبَ الرحمنُ عني
الأعاديا
هموا بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبتُ
المعاليا
وقوله: «لا سمعت» (خ) يعني أنهم لم يستثنوا مما يجوز في الطريق
الأول إلا لفظ «سمعت» فلم يجوزوها في العرض، وصرح بذلك أحمد بن
صالح فقال لا يجوز أن يقول: «سمعت». قال الباقلَّاني: وهو
الصحيح.
(1/226)
وقوله: «لكن» (خ) يعني أن بعضهم جَوَّزَه.
قال عياض: وهو قول رُوِيَ عن مالكٍ، والثوري، وابن عيينة.
وقوله: «مطلق» (خ) يعني أن إطلاق «ثنا» و «أنا» من غير تقييد
بقوله: «بقراءتي عليه»، أو «قراءةً عليه»، اختلفوا فيه على
مذاهب؛ فذهب ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التميمي، والإمام
أحمد، والنسائي، فيما حكاه عنه ابن الصلاح تبعاً لعياض، إلى
منع إطلاقهما، وصحَّحَهُ الباقلاني.
وقوله: «الحميد سعيا» قلت: هو صفة لابن المبارك «في سعيه
محمود»، فـ «سعيَا» منصوب على التفسير، ولا شك في ذلك، واجتمع
جماعةٌ من أصحابه مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، ومحمد بن
النضر [81 - ب]، فقالوا: تعالوا حتى نَعُدّ خصال ابن المبارك
من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو،
واللغة، والزهد، والشعر، والفَصَاحة، والوَرَع، والإنصات،
وقيام الليل، والعبادة، والشِّدَّة في رأيه، وقِلَّة الكلام
فيما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه.
وفي «الكمال» لعبد الغني بسنده إلى ابن القاسم قال: لما قدم
الرشيد الرَّقَّة أشرفت أم ولد الرشيد من قصرٍ من خَشَب فرأت
الغبرة قد ارتفعت، والنِّعَال قد انقطعت، وانحفل الناس، فقالت:
ما هذا؟ قالوا: عالم خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك.
قالت: هذا والله المُلْك لا مُلْك هارون الذي لا يجمع الناس
إلا بالسوط والخشب. انتهى.
فمن هو بهذه الصفات جدير أن يوصف بالحميد سعياً فصدق شيخنا (ن)
وبَرَّ، وتعدَّى الذهبي في «الكاشف» فقال: شيخ الإسلام. وشيخُ
الإسلام
(1/227)
إنما هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي
ثبت الزكاة، وقاتل أهل الردة، فاعرفْه، والله تعالى أعلم، وكان
ابن المبارك كثيراً ما يتمثل بقوله:
وإذا صاحبت فاصحب صاحباً ... ذا حياءٍ وعفاف وكرم
قوله للشيء: لا، إن قلتَ: لا ... وإذا قلت: نعم، قال نعم
رضي الله تعالى عنه، وأرضاه، ونفعنا بخيره، وعلومه، وبركاته.
وقوله: «وذهب الزهري» (خ) هذا المذهب الثاني في [82 - أ]
المسألة وهو جواز إطلاقهما، وإليه ذهب الزهري محمد بن شهاب،
ومالك تلميذه، والثوري، وأبو حنيفة، وصاحباه، وابن عيينة،
والقطان يحيى بن سعيد، ومن ذكره (ن) بعد، ومالك في أحد القولين
عنه، وأحمد، وثعلب، والطحاوي، وصنف فيه جزءاً، يرويه بالإجازة
عنه شيخنا (ن)، سمعه متصلاً، وغيرهم من العلماء.
وقوله: «وابن جريج» (خ) هذا المذهب الثالث في المسألة وهو
الفرق بين اللفظين، فيجوز إطلاق «أخبرنا» ولا يجوز إطلاق
«حدثنا»، وإليه ذهب من ذكره (ن).
وقوله: «وقد عزاه» (خ) يعني أن صاحب كتاب «الإنصاف» وهو محمد
بن الحسن التميمي الجوهري عزاه للنسائي ولأكثر أصحاب الحديث.
وقوله: «وهو الذي» (خ) قلت: «هُو» بضم الهاء من «وهُوَ» في لغة
أهل الحجاز يحركون الهاء من «هُو» بعد الواو، والفاء، وثُم،
واللام. ولغة نجد التسكين، وتسكينها بعد همزة الاستفهام، وكاف
الجر مخصوص بالشعر
(1/228)
فيما نصه ابن مالك انتهى. يعني أن هذا هو
الشائع الغالب على أهل الحديث كما نَصَّهُ ابن الصلاح.
وقوله: «وبعده سفيان» يريد ابن عُيينه لا الثوري؛ لأن الثوري
تقدمت وفاتُه على مالك، وابن عيينة متأخر.
وقوله:
395 - وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَا أَعَادَا ... قِرَاءَةَ
الصَّحِيْحِ حَتَّى عَادَا
396 - فِي كُلِّ مَتْنٍ قَائِلاً: (أَخْبَرَكَا) ... إِذْ
كَانَ قال أوَّلاً: (حَدَّثَكَا) [82 - ب]
397 - قُلْتُ وَذَا رَأْيُ الَّذِيْنَ اشْتَرَطُوا ...
إِعادَةَ اْلإِسْنَادِ وَهْوَ شَطَطُ
الشرح: يعني أن بعض من قال بالفرق بين اللفظين وهو الهروي أبو
حاتم محمد بن يعقوب في حكاية البرقاني عنه أنه قرأ على بعض
الشيوخ عن الفربري «صحيح البخاري» وكان يقول له في كل حديث:
«حدثكم الفربري»، فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر أنه إنما
سمع الكتاب من الفربري قراءةً عليه فأعاد قراءة الكتاب كله،
وقال له في جميعه: «أخبركم الفربري».
وقوله: «قلت» (خ) من الزيادة على ابن الصلاح، يعني أن هذا الذي
فعل ذلك لعله يرى أنه لا بد مِنْ ذكر السند في كل حديث، وإن
كان الإسنادُ واحداً إلى صاحب الكتاب وهو مذهب شَطَط في
الرواية، والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعادته في كل حديثٍ، والله
تعالى أعلم.
(1/229)
تَفْرِيْعَاتٌ
قوله:
398 - وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَمْسَكَ الأَصْلَ رِضَا ...
وَالشَّيْخُ لاَ يَحْفَظُ مَا قَدْ عُرِضَا
399 - فَبَعْضُ نُظَّارِ الأُصُوْلِ يُبْطِلُهْ ... وَأَكْثَرُ
الْمُحَدِّثْيِنَ يَقْبَلْهْ
400 - وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَإِنْ لَمْ يُعْتَمَدْ ...
مُمْسِكُهُ فَذَلِكَ السَّمَاعُ رَدّْ
الشرح: يعني أن الشيخ إذا قُرئ عليه عَرْضاً لا يحفظ ذلك
المقروء عليه، فإن كان أَصْلُهُ بيده صَحَّ السَّمَاع كما
تقدم، وإن كان القارئ يقرأ في أصله فصحيح أيضاً، خلافاً لمن
شَذَّ في [83 - أ] الرواية.
وإن لم تكن القراءة من الأصل ولكن الأصل يمسكه أحد السامعين
الثقات، فاختلفوا في صحة السماع؛ فحكي عياضٌ تردد الباقلاني
فيه، وأن أكثر ميله إلى المنع، وإليه ذهب الجويني إمام
الحرمين، وأجازه بعضهم، وصَحَّحَهُ وبه عمل كافة الشيوخ
والمحدِّثون، واختاره ابن الصلاح.
وقوله: «فإن لم يُعْتَمَد» (خ) هو بضم أوله مبنياً للمفعول،
ويعني أن الممسك للأصل لا يُعتمد عليه، ولا يُوثق به، فالسماع
مردودٌ لا يُعتد به.
وقوله:
401 - وَاخْتَلَفُوا إنْ سَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ ... يُقِرَّ
لَفْظاً، فَرآهُ الْمُعْظَمْ
(1/230)
402 - وَهْوَ الصَّحِيْحُ كَافِياً، وَقَدْ
مَنَعْ ... بَعْضُ أولي الظَّاهِرِ مِنْهُ، وَقَطَعْ
403 - بِهِ (أبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ الرَّازِي) ... ثُمَّ
(أبُو إِسْحَاقٍ الشِّيْرَازِيْ)
404 - كَذَا (أبُو نَصْرٍ) وَقال: يُعْمَلُ ... بِهِ
وَألْفَاظُ الأَدَاءِ الأَوَّلُ
الشرح: هذا الفرع الثاني من التفريعات، وهو إذا قُرِئ على
الشيخ «أخبرك فلانٌ» وهو مُصْغٍ، فاهم، غير مُنكِر، ولا مكرَه،
صَحَّ السماع، وجازت الرواية به، وإن لم ينطق الشيخ على
الصحيح.
وقوله: «المعظم» بضم الميم، وفتح الظاء، ويعني به الجمهور من
الفقهاء والمحدثين والنظار، كما نَصَّه عياضٌ.
وقوله: «وقد منع» (خ) يعني أن بعضهم شرط نُطْقَهُ، إليه مال
بعضُ الظاهرية، وبه عمل جماعة من شيوخ المشرق [83 - ب]، وبه
قطع من الشافعية من ذكره (ن)، و «أبو نصرٍ» هو ابن الصَّبَّاغ.
تنبيه: وقوله: «وقد مَنَعَ بعضُ أولي الظاهر منه»، فيه الإشارة
إلى أن الظاهرية على فرقتين ففرقةٌ تقول: لابد من النطق كما
قررنا، وفرقة تقول: يشترط إقراره به عند تمام السماع. هكذا
حَرَّرَهُ عنهم قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في «مختصره»
لابن الصلاح.
وقوله: «أبو الفتح سليم». قلت: هو بضم السين مصغراً.
وقوله: «وألفاظ» (خ) يعني أنه يُعَبَّرُ في الأداء بالرتبة
الأولى من الأداء في العَرْض، وهو ما تَقَدَّم من قوله:
«وجودوا فيه قرأت أو قرئ» هكذا نص ابن الصباغ، فقال: وله أن
يعمل بما قرئ عليه، وإذا أراد روايته عنه فليس له أن
(1/231)
يقول: «حدثني» ولا «أخبرني»، بل يقول:
«قرأتُ عليه» أو «قُرئَ عليه» وهو يسمع.
فإن أشار الشيخ برأسه أو أصبعه للإقرار به غير مُتَلَفِّظٍ،
فجزم في «المحصول» أنه لا يقول في الأداء «حدثني» ولا «أخبرني»
ولا «سمعت».
قال شيخنا (ن) (1): وفيه نظر.
وقوله:
405 - وَالْحَاْكِمُ اخْتَارَ الَّذِي قَدْ عَهِدَا ...
عَلَيْهِ أَكْثَرَ الشُّيُوْخِ فِي الأَدَا
406 - حَدَّثَنِي فِي الْلَفْظِ حَيْثُ انْفَرَدَا ...
وَاجْمَعْ ضَمِيْرَهُ إذا تَعَدَّدَا
407 - وَالْعَرْضِ إِنْ تَسْمَعْ فَقُلْ أَخْبَرَنَا ... أو
قَارِئاً (أَخْبَرَنِي) وَاسْتَحْسَنَا
408 - وَنَحْوُهُ عَنْ (ابْنِ وَهْبٍ) رُوِيَا ... وَلَيْسَ
بِالْوَاجِبِ لَكِنْ رَضِيَا [84 - أ]
الشرح: هذا الفرع الثالث من التفريعات، وهو: أنه يستحب أن يقول
فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ: «حدثني»، وفيما سمعه منه مع
غيره: «حدثنا»، وفيما قرأه عليه بنفسه: «أخبرني»، وفيما قُرئ
عليه وهو يسمع: «أخبرنا»، هذا الذي اختاره الحاكم، وحكاه عن
أكثر مشايخه وأئمة عصره.
فقوله: «وأَجْمَع ضميره» (خ) يعني يقول: «حدثنا»، «أخبرنا».
وروي عن ابن وهب فيما رواه (ت) في «العِلَل» عنه قال: ما قلت:
«حدثنا» فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت: «حدثني» فهو ما سمعت
وحدي، وما
_________
(1) (1/ 402).
(1/232)
قلت: «أخبرنا» فهو ما قُرِئَ على العالم
وأنا شاهدٌ، وما قلت: «أخبرني» فهو ما قرأتُ على العالم. فهذا
معنى قوله: «والعرض» (خ).
وقوله: «وليس بالواجب» (خ) يعني أن هذا التفصيل في الأداء لا
يجب إلا أنه مستحبٌ كما قررنا أولاً.
وقوله:
409 - وَالشَّكُ فِي الأَخْذِ أكَانَ وَحْدَهْ ... أو مَعْ
سِوَاهُ؟ فَاعِتَبارُ الْوَحْدَهْ
410 - مُحْتَمَلٌ لَكِنْ رأى الْقَطَّانُ ... اَلْجَمْعَ
فِيْمَا أوْ هَمَ الإِْنْسَانُ
411 - فِي شَيْخِهِ مَا قَالَ وَالْوَحْدَةَ قَدْ ... اخْتَارَ
فِي ذَا الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَمَدْ
الشرح: يعني أنه إن شَكَّ الراوي هل كان وحده حالة التحمل،
فالمختار أن يقول: «حَدَّثَني»، و «أخبرني»، أو كان معه غيره
فيقول: «حدثنا». [و] (1) محتمل أن يؤدي بلفظ الوحدة؛ لأن الأصل
عدم غيره [84 - ب].
وقوله: «لكن» (خ) يعني أن يحيى بن سعيد القَطَّان رأى الإتيان
بضمير الجمع.
وقوله: «فيما أَوْهَمَ» أي: شك. ومنه حديث الخدري: «إذا أوهم
أحدكم في صلاته فلم يَرَ زاد أو نقص» (ح) (2).
وقوله: «والوِحْدة» (خ) يعني أن البيهقي اختار أنه يُوَحِّد
فيقول: «حدثني».
_________
(1) زيادة من عندي.
(2) أي الحديث.
(1/233)
وقوله:
412 - وَقَالَ (أَحْمَدُ): اتَّبِعْ لَفْظَاً وَرَدْ ...
لِلشَّيْخِ فِي أَدَائِهِ وَلاَ تَعَدْ
413 - وَمَنَعَ الإبْدَالَ فِيْمَا صُنِّفَا ... - الشَّيْخُ -
لَكِنْ حَيْثُ رَاوٍ عُرِفَا
414 - بِأَنَّهُ سَوَّى فَفِيْهِ مَا جَرَى ... فِي النَّقْلِ
باِلْمَعْنَى، وَمَعْ ذَا فَيَرَى
415 - بِأَنَّ ذَا فِيْمَا رَوَى ذُو الطَّلَبِ ...
بِالْلَفْظِ لاَ مَا وَضَعُوا فِي الْكُتُب
الشرح: نَصَّ الإمامُ أحمد رضي الله تعالى عنه على اتباع لفظ
الشيخ في قوله: «حدثنا»، و «حدثني»، و «سمعت»، و «أخبرنا» ولا
تَعَدَّهُ.
فقوله: «ولا تَعَد» أي: لا تتعده، فَحَذَفَ إحدى التاءين
حَذْفَهَا في «لا تحاسدوا».
وقوله: «ومنع» (خ) يعني أن ابن الصلاح مَنَعَ إبدال «أخبرنا»
بـ «حدثنا» ونحوه في الكتب المصنَّفة.
وقوله: «لكن» (خ) يعني فإن عرفت أن قائل ذلك سَوَّى بينهما
ففيه الخلاف في جواز الرواية بالمعنى.
وقوله: «ومع ذا» (خ) يعني أن ابن الصلاح قال: الذي نراه
الامتناع من إجراء مثله فيما وُضِعَ في الكتب المصنَّفَة، وما
ذكره يعني الخطيب من إجراء الخلاف محمولٌ عندنا على ما يسمعه
الطالبُ [85 - أ] من لفظ الشيخ، غير موضوع في كتابٍ مؤلَّفٍ.
وفيه بحث للقشيري.
(1/234)
وقوله:
416 - وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ ... مِنْ نَاسِخٍ،
فَقَالَ بَامْتِنَاع
417 - (الإِسْفَرَاييِنِيْ) مَعَ (الْحَرْبِيْ) ... وِ (ابْنِ
عَدِيٍّ) وَعَنِ (الصِّبْغِيْ)
418 - لاَ تَرْوِ تَحْدِيْثَاً وَإِخْبَارَاً، قُلِ ...
حَضَرْتُ وَالرَّازِيُّ وَهْوَ الْحَنْظَلِيْ
419 - وَ (ابْنُ الْمُبَارَكِ) كِلاَهُمَا كَتَبْ ...
وَجَوَّزَ (الْحَمَّالُ) وَالشَّيْخُ ذَهَبْ
420 - بِأَنَّ خَيْرَاً مِنْهُ أَنْ يُفَصِّلاَ ... فَحَيْثُ
فَهْمٌ صَحَّ، أولاَ بَطَلاَ
421 - كَماَ جَرَى لِلدَّارَقُطْنِي حَيْثُ عَدْ ... إِمْلاَءَ
(إِسْمَاعِيْلَ) عَدَّاً وَسَرَدْ
الشرح: هذا الفرع الرابع من التفريعات، وهو: إذا كان السامع أو
المسمع ينسخ حال القراءة، ففي صحة سماعه خلافٌ، فذهب من
ذَكَرَهُ (ن) وغير واحدٍ من الأئمة إلى مَنْعِ الصِّحَّة
مطلقاً.
وقوله: «وعن الصِّبْغي» (خ) يعني: أن الصبغي ذهب إلى أنه لا
يقول في الأداء: «حدثنا»، ولا «أخبرنا»، بل يقول: «حضرت».
وقوله: «والرازي» (خ) يعني أن الحَمَّال ذهب إلى الصِّحَّة
مطلقاً، وقد كتب الرَّازي حالة السماع عند عارم، وعند عمرو بن
مرزوق، وكتب أيضاً عبد الله بن المبارك وهو يَقْرَأ عليه شيئاً
آخر غير ما يُقْرَأ عليه.
وقوله: «والشيخ» (خ) يعني أن ابن الصلاح قال: وخيرٌ من هذا
الإطلاق التفصيل، فإن مَنَعَ النسخُ فَهْمَهُ للمقروء لم يصح،
وإن فهمه صح.
وقوله: «كما جرى» (خ) [85 - ب] يعني كقصة الدارقطني لما حَضَرَ
في
(1/235)
حداثته مجلسَ إسماعيل الصَّفَّار فجلس ينسخ
جزءاً كان معه وإسماعيل يُملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح
سماعُك وأنت تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. ثم قال: تحفظ
كم أملى الشيخ مِن حديث إلى الآن؟ فقال: لا. فقال الدارقطني:
أملى ثمانية عشر حديثاً، فعددتُ الأحاديث فوجدته كما قال
بعددها، ومتونها، وأسانيدها، فتعجَّبَ منه.
وقوله: «الإسفرايني». قلت: هو بكسر الألف، وسكون السين
المهملة، وفتح الفاء، والراء، وكسر الياء المثناة تحت، نسبةً
إلى إسفرائين، بُلَيْدَة بنواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى
جُرْجَان، خرج منها جماعةٌ من العلماء في كل فن، ومنهم الأستاذ
أبو إسحاق هذا إبراهيم الإمام المشهور.
وقوله: «مع الحربي». قلت: هو بفتح الحاء، وإسكان الراء
المهملتين، وبعده باء موحدة، نسبةً إلى محلَّة ببغداد
غربيِّها، بها جامع وسوق، وهو الإمام إبراهيم بن إسحاق، إمام
فاضل، له تصانيف، يروي عن الإمام أحمد.
وقوله: «وابن عدي» هو بجر «ابن» عطفاً على «الحربي».
وقوله: «وعن الصِّبْغي» قلت: هو بكسر الصاد المهملة، وإسكان
الباء الموحدة، وبعده غين معجمة، نسبةً إلى الصِّبغ والصباغ هو
ما يُصْبَغ به من الألوان، ويُنْسَبُ إليه جماعةٌ، ومنهم
الإمام أبو بكر [86 - أ] أحمد بن إسحاق، أحد العلماء
المشهورين، له رحلةٌ إلى العراق والحجاز وغيرهما.
وقوله: «وهو الحنظلي»، قلت: هو بفتح الحاء المهملة، وإسكان
النون، وبعده ظاء مشالة، فلام، نسبةً إلى درب بالري يقال له:
درب حنظلة، وهو الإمام أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، روى عنه
صاحِبَا الشافعي يونس،
(1/236)
والربيع المصريان.
وقوله: «للدارقطني». قلت: هو بفتح الدال، وبعده ألف، فراء
مفتوحة، فقاف مضمومة، فطاء ساكنة مهملة، فنون نسبة، إلى دار
القُطْن، محلَّة كبيرة ببغداد، نُسِبَ إليها الحافظ هذا وهو
أبو الحسن علي بن عمر، ونسب إلى التشيع لحفظه في الدواوين
ديوان السيد الحميري. انتهى.
وقوله:
422 - وَذَاكَ يَجْرِي فِي الْكَلاَمِ أو إذا ... هَيْنَمَ
حَتَّى خَفِيَ الْبَعْضُ، كَذَا
423 - إِنْ بَعُدَ السَّامِعُ، ثُمَّ يُحْتَمَلْ ... فِي
الظَّاهِرِ الْكَلِمَتَانِ أو أَقَلْ
الشرح: يعني أن هذا التفصيل جاز فيما إذا كان القارئ يُفْرِطُ
في الإسراع، أو يُهَيْنِم، أو كان بعيداً من القارئ بحيث لا
يفهم كلامه، وما أشبه ذلك.
وقوله: «هَيْنَمَ» بفتح الهاء، وإسكان الياء المثناة تحت،
وبعده نون فميم، من الهينمة، وهو الصوت الخفي.
وقوله: «ثم يُحْتَمَل» (خ) يعني أنه يُعْفَي في الظاهر في كل
ذلك عن القدر اليسير، نحو الكلمة والكلمتين.
وقوله:
424 - وَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يُجِيْزَ مَعْ ...
إِسْمَاعِهِ جَبْرَاً لِنَقْصٍ إنْ يَقَعْ [86 - ب]
425 - قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ وَلاَ غِنَى عَنْ ... إِجَازَةٍ
مَعَ السَّمَاعِ تُقْرَنْ
الشرح: يعني إذا عزب عن السامع الكلمة والكلمتان لعجلة القارئ
أو
(1/237)
هينمته ونحو ذلك، فيُسْتَحب للشيخ أن يجيز
للسامعين رواية الكتاب أو الجزء الذي سمعوه وإن شمله السماع؛
لاحتمال وقوع شيء مما تقدم، فينجبر بذلك.
وكذلك ينبغي لكاتب السماع أن يكتب إجازة الشيخ عقيب كتابة
السماع.
وأول من كتب الإجازة في طباق السماع الأنماطي أبو طاهر إسماعيل
بن عبد المحسن فجزاه الله خيراً فيما استسنَّه، فلقد حصل به
نفعٌ كثير، ولقد انقطع بسبب ترك ذلك وإهماله اتصالُ بعض الكتب
في بعض البلاد، بسبب كون بعضهم كان له فوتٌ ولم يُذْكَر في
طبقة السماع إجازة الشيخ لهم، فاتفق أن كان بعض المفوتين آخر
من بقي ممن سمع بعض ذلك الكتاب، فتعذَّر قراءة جميع الكتاب
عليه، كأبي الحسن بن الصواف الشاطبي، رَوَى (1) غالب النسائي
عن ابن باقا.
وقوله: «قال ابن عَتَّاب» (خ) يعني أن ابن عتاب قال: لا غِنَى
في السماع عن الإجازة؛ لأنه قد يغلط القارئ، ويغفل الشيخ أو
يغلط إن كان القارئ ويغفل القسامع فينجبر له ما فاته بالإجازة.
قلت: «وابن عَتَّاب» بفتح العين المهملة [87 - أ]، وتشديد
التاء المثناة فوق، وبعده ألف، فباء موحدة، هو الإمام أبو عبد
الله محمد بن عتاب الجذامي القرطبي، أثنى عليه أبو علي
الغَسَّاني في كتاب رجاله الذين لقيهم، فقال: كان من جلة
الفقهاء، وأحد العلماء الأثبات، وممن عَنِىَ بالفقه وسماع
الحديث
_________
(1) في المصدر (1/ 410): راوي.
(1/238)
دهره، وقيده فأتقنه، وكتب بخطه علماً
كثيراً، وكان حسن الخط، جيد التقييد، وتقدم في المعرفة
بالأحكام، وكان على سنن أهل الفضل، جزل الرأي، حصيف العقل (1)،
على منهاج السلف المتقدم. انتهى.
وكان عالماً بالوثائق ومدتها، مدققاً لمعانيها، لا يُجَارى
فيها، وكتب الوثائق مدة حياته فلم يأخذ عليها من أحد أجراً،
وحُكي عنه أنه لم يكتبها حتى قرأ فيها أزيد من أربعين مؤلفاً،
وكان يَهابُ الفتوى، ويَخَاف عاقبتها في الآخرة، ويقول: من
يحسدني فيها جعله الله تعالى مفتياً.
وله في المذهب أقاويل انفرد بها، منها: أنه كان يقرأ في صلاة
الجمعة إذا لم يسمع الإمام بالفاتحة، ومنها أنه كان إذا لم
يسمع الخطبة في الجمعة والعيدين لبُعْدِه عن الإمام يُقْبِل
على الذكر والدعاء والقراءة والاستغفار، ومنها: أنه كان يبدأ
بالتكبير في العيدين من مساء ليلتهما إلى خروج الإمام وانقضاء
الصلاة رحمه الله تعالى.
وقوله: [87 - ب]
426 - وَسُئِلَ (ابْنُ حنبلٍ) إِن حَرْفَا ... أدْغَمَهُ
فَقَالَ: أَرْجُو يُعْفَى
427 - لَكِنْ (أبو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ) مَنَعْ ... فِي
الْحَرْفِ تَسْتَفْهِمُهُ فَلاَ يَسَعْ
428 - إِلاَّ بَأَنْ يَرْوِيْ تِلْكَ الشَّارِدَهْ ... عَنْ
مُفْهِمٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ (زَائِدَهْ)
الشرح: يعني أن الإمام سأله ابنه فقال: قلت لأبي: الحرف يدغمه
الشيخ فلا يُفْهَم، وهو معروف، هل يروي ذلك عنه؟ فقال: أرجو أن
لا يضيق هذا.
_________
(1) حصيف العقل: سديده.
(1/239)
وقوله: «لكن» (خ) يعني: وأما أبو نُعيم
الفضل بن دُكين -بضم الدال المهملة، وفتح الكاف وإسكان المثناة
تحته، وبعده نون- فكان يرى فيما سَقَطَ عنه من الحرف الواحد
والاسم مما سمعه من سفيان والأعمش واستفهم من أصحابه، أن يرويه
عن أصحابه، لا يرى غير ذلك واسعاً.
فقوله: «تلك الشاردة» أي: تلك الكلمة أو الحرف الذي شرد عنه
فلم يفهمه عن شيخه، وإنما فَهِمَهُ عن الشيخ غيره، والشَّاردة
بالشين المعجمة، والراء والدال المهملتين، من شَرَد البعير:
إذا نَفَر.
وقوله: «ونحوه» (خ) يعني: أن زائدة بن قُدَامة جاء عنه هكذا،
قال خلف بن تميم: سمعت من الثوري عشرة آلاف حديث أو نحوها،
فكنت أستفهم جليسي، فقلتُ لزائدة؟ فقال لي: لا تحدث منها إلا
بما تحفظ بقلبك، وسمع أُذُنك. قال: فألقيتها.
وقوله:
429 - وَ (خَلَفُ بْنُ سَاِلمٍ) قَدْ قال: نَا ... إِذْ
فَاتَهُ حَدَّثَ مِنْ حَدَّثَنَا [88 - أ]
430 - مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ، وَسُفْيَانُ اكْتَفَى ...
بِلَفْظِ مُسْتَمْلٍ عَنِ الْمُمْلِي اقْتَفَى
431 - كَذَاكَ (حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أَفْتَى: ...
إِسْتَفْهمِ الَّذِي يَلِيْكَ، حَتَّى
432 - رَوُوْا عَنِ (الأَعْمَشِ): كُنَّا نَقْعُدُ ...
(لِلنَّخَعِيْ) فَرُبَّمَا قَدْ يَبْعُدُ
433 - البَعْضُ - لاَ يَسْمَعْهُ - فَيسأَلُ ... البَعْضَ
عَنْهُ، ثَمَّ كُلٌّ يَنْقُلُ
434 - وَكُلُّ ذَا تَسَاهُلٌ، وَقَوَْلُهُمْ: ... يَكْفِيِ
مِنَ الْحَدِيْثِ شَمُّهُ، فَهُمْ
(1/240)
435 - عَنَوا إذا أَوَّلَ شَيءٍ سُئِلاَ
... عَرَفَهُ، وَمَا عَنَوْا تَسَهُّلاَ
الشرح: وهذا فرع آخر من التفريعات وهو أن الخطيب قال: بلغني عن
خلف بن سالم المُخَرِّمي قال: سمعت ابن عيينة يقول: نا عمرو بن
دينار، يريد: حدثنا، فإذا قيل له: قُل حدثنا عمرو، قال: لا
أقول؛ لأني لم أسمع من قوله حدثنا ثلاثة أحرف لكثرة الزحام،
وهي (ح د ث).
وقوله: «وسفيان» (خ) يعني أن سفيان بن عيينة قال له أبو مسلمٍ
المُسْتَمْلي: إن الناس كثير لا يسمعون. قال: تسمع أنت؟ قال:
نعم. قال: فأسْمِعْهم. وهذا هو الذي عليه العمل: أن من سمع
المستملي دون سماعه لفظ المملي، يجوز له أن يرويه عن المملي
كالعَرْض سواءً، إلا أن الأحوط أن يُبين ذلك حال الأداء: أن
سماعه كذلك كما فعل ابن خزيمة وغيره من الأئمة.
وقال محمد بن عمار الموصلي: ما كتبتُ قط مِن فيِّ المستملي،
ولا التفتُّ إليه، ولا أدري [أي] (1) شيء [88 - ب] يقول، إنما
كنت أكتب عن فيِّ المحدِّث.
وقوله: «كذاك» (خ) يعني أن قول حماد بن زيد لمن استفهمه: كيف
قلت؟ فقال: استفهم الذي يليك. وقول الأعمش: كنا نجلس إلى
إبراهيم النخعي فتتسع الحلقة، فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه
مَنْ تَنَحَّى عنه، فَيَسْأَل بعضُهم بعضاً عَمَّا قال، ثم
يروونه عنه وما سمعوه منه، فهذا ونحوه تساهلٌ من فاعله.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(1/241)
وقوله: «وقولهم» (خ) يعني أن عبد الرحمن بن
مهدي قال: يكفيك من الحديث شمه. فقال حمزة الكناني: يعني به:
إذا سُئِل عن أول شيء عرفه، وليس يعني التساهل في السماع.
وقوله:
436 - وَإِنْ يُحَدِّثْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ ... - عَرَفْتَهُ
بِصَوْتِهِ أو ذِي خُبْر
437 - صَحَّ، وَعَنْ شُعْبَةَ لاَ تَرْوِ لَنَا ... إنَّ
بِلاَلاً، وَحَدِيْثُ أُمِّنَا
الشرح: هذا فرع آخر من التفريعات، وهو: أنه يصح السماع مِنْ
وراء حجاب إذا عرف صوت المحدث إن حدث بلفظه، أو اعتمد في معرفة
صوته وحضوره على خبر ثقة من أهل الخبرة. هذا قول الجمهور.
وقوله: «وعن شعبة» (خ) يعني أن شعبة شَرَط رؤيته. وقال: إذا
حدث المحدث فلم يُرَ وجهُه فلا ترووا عنه، فلعلَّه شيطان قد
تصور في صورته، يقول: حدثنا وأخبرنا.
وقوله: «لنا» (خ) يعني أن الحجة لنا في صِحَّة السماع من وراء
حجاب، [89 - أ] حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل» (ح) فأمر بالاعتماد
على صوته مع غَيْبة شخصه عمن سمعه.
وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة، وغيرها من أمهات المؤمنين،
كُنَّ يحدثن مِنْ وراء حِجاب، ويَنْقُل عنهن مَنْ سمع ذلك،
واحتجَّ به في الصحيح.
(1/242)
وقوله:
438 - وَلاَ يَضُرُّ سَامِعَاً أنْ يَمْنَعَهْ ... الشَّيْخُ
أَنْ يَرْوِي مَا قَدْ سَمِعَهْ
439 - كَذَلِكَ التَّخْصِيْصُ أو رَجَعْتُ ... مَاَ لمْ
يَقُلْ: أَخْطَأْتُ أو شَكَكْتُ
الشرح: وهذا فرع آخر من التفريعات، وهو: إذا قال الشيخ بعد
السماع: لا ترو عني، أو رجعتُ عن إخبارك به، أو نحو ذلك، ولم
يسنده إلى خطأ أو شك أو نحوه، بل منعه جازماً بأنه روايته، لم
يمنع ذلك روايتَهُ.
وقوله: «كذلك» (خ) يعني: ولو خَصَّ بالسماع قوماً فَسَمِعَ
غيرُهم بغير علمه جاز له أن يرويه عنه. قاله الأستاذ
الإسفرايني أبو إسحاق.
(1/243)
الثَّالِثُ: الإجَاْزَةُ
قوله:
440 - ثُمَّ الإِجَازَةُ تَلىِ السَّمَاعَا ... وَنُوِّعَتْ
لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا
441 - ارْفَعُهَا بِحَيْثُ لاَ مُنَاولَهْ ... تَعْيِيْنُهُ
الْمُجَازَ وَالْمُجْازَ لَهْ
442 - وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ... جَوَازِ
ذَا، وَذَهَبَ (الْبَاجِيْ) إِلَى
443 - نَفْي الْخِلاَفِ مُطْلَقَاً، وَهْوَ غَلَطْ ... قال:
وَالاخْتِلاَفُ فِي الْعَمَلِ قَطْ [89 - ب]
444 - وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بأَِنْ للشَّافِعِي ... قَوْلاَنِ
فِيْهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعي
445 - مَذْهَبِهِ (الْقَاضِي حُسَيْنٌ) مَنَعَا ... وَصَاحِبُ
(الْحَاوي) بِهِ قَدْ قَطَعَا
446 - قَالاَ كَشُعْبَةٍ وَلَو جَازَتْ إِذَنْ ... لَبَطْلَتْ
رِحْلَةُ طُلاَّبِ السُّنَنْ
447 - وَعَنْ (أبي الشَّيْخِ) مَعَ (الْحَرْبِيِّ) ...
إِبْطَالُهَا كَذَاكَ (لِلسِّجْزِيِّ)
448 - لَكِنْ عَلى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا ... عَمَلُهُمْ،
وَالأَكْثَرُوْنَ طُرَّا
449 - قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوْبُ الْعَمَلِ ... بِهَا،
وَقِيْلَ: لاَ كَحُكْمِ الْمُرْسَل
الشرح: هذا الطريق الثالث من أقسام التحمُّل والأخذ: الإجازة
المجرَّدة، وهي دون السماع.
وقوله: «ونُوِّعَت» (خ) يعني أنها على تسعة أنواعٍ، أرفعها
وأعلاها إجازة
(1/244)
معين لمعين، كأجزتُكَ البخاري مثلاً، أو
أجزتُ فلاناً جميع ما اشتملت عليه فهرستي، ونحو ذلك، فهذا أعلى
أنواع الإجازة المجرَّدة عن المناولة.
فقوله: «تعيينُه» مرفوعٌ على الخبر لقوله: «أرفعُهَا». وقوله:
«المُجَاز» هو بضم الميم منصوبٌ بـ «تعيينه»، وكذا «المجاز
له».
وقوله: «وبعضُهُم» (خ) يعني أن عياضاً حكى عن بعضهم الاتفاق
على جواز الرواية بالإجازة.
وقوله: «وذَهَبَ» (خ) يعني أن الباجي نقل الاتفاق مطلقاً عن
السلف والخلف، وادعى فيها الإجماع، ولم يُفَصِّل.
وقوله: «والاختلاف» (خ) يعني أن الباجي قَصَرَ الخلاف على
العمل بها فقط، لا على جواز الرواية [90 - أ] بها.
قلت: «والبَاجِي» بالباء الموحدة، وبعده ألف، فجيمٌ، نسبةً إلى
باجَة مدينة بالأندلس، وهو أبو الوليد سليمان بن خَلف المالكي
الحافظ الأديب الفقيه الشاعر المتكلم، رحل إلى المشرق، وسمع
بمكة من أبي ذر الهروي، وبالعراق من جماعة أبي الطيب الطبري
رئيس الشافعية، وأبي إسحاق الشيرازي، ودرس الكلام بالموصل على
أبي جعفر السمناني عاماً كاملاً، فأقام بالمشرق نحو ثلاثة عشر
عاماً ثم رجع إلى الأندلس، فدرس وألَّف ونزل بسرقسطة على فقرٍ
متقعٍ (1)، وخمول، وكان يكتب الشروط، ثم توسل إلى السلطان
وعرفه وأقبل الناس عليه فكان يقول متعجباً من حاله: عجباً
للناس
_________
(1) كذا، ولعل صوابها: مدقع.
(1/245)
كأنهم لم يعلموا أني من أهل العلم، فلما
عرفني السلطان ونهض بي أقبلوا عليَّ، يَحِقُّ لكل عالمٍ أن
يتعرف بالسلطان.
ولي القضاء في بعض الثغور بالأندلس ثم تضرَكَهُ، ومِنْ شعره:
إذا كنت أعلمُ علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعه
فلِمَ لا أكون ضنيناً بها ... واجعلها في صلاح وطاعه
وقوله: «وهو غلط» يعني أن الباجي غُلِّطَ في ذلك، كما نص ابن
الصلاح، وخالفه جماعاتٌ من المحدثين والفقهاء والأصوليين،
فمنعوا الرواية بها، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي، وقطع به
من أصحابه [90 - ب] القاضيان حسين والماوردي، وعزاه في
«الحاوي» إلى مذهب الشافعي، وقالا جميعاً كما قال شعبة: لو
جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وأَبْطَلَهَا من المحدثين: إبراهيم
الحربي، وأبو الشيخ، والسِّجْزي، والدَّبَّاس أبو طاهر من
الحنفية، والخُجَنْدي أبو بكر محمد من الشافعية، وحكاه الآمدي
عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقوله: «لكن» (خ) يعني أن الذي استقرَّ عليه العمل، وقال به
الجماهير من المحدثين وغيرهم: القول بجواز الإجازة، والرواية
بها، ووجوب العمل بالمروي بها، خلافاً لبعض الظاهرية ومَنْ
تابعهم فمنع العمل بها كالحديث المرسل، وأبطله ابن الصلاح.
فقوله: «ولو جازت إذن»، قلت: «إذن» بالنون مرسومة، هو مذهب
المبرِّد والأكثرين، وفيها خلافٌ أشرنا إليه في كتابنا «الكافي
المُغْنِى في شرح المغني» نفع الله تعالى به.
(1/246)
قال أبو حيان: ووجد بخط الشيخ بهاء الدين
بن النحاس رحمه الله تعالى ما نصه: وجدتُ بخط عالي بن عثمان بن
جني: حكى أبو جعفر النَّحَّاس قال: سمعت علي بن سليمان يقول:
سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يَدَ مَنْ
كَتَبَ «إذَن» بالألف؛ لأنها مثل «أن» و «لن»، ولا يدخل
التنوين في الحروف. انتهى.
وقوله: «لبطلت رحلة». قلت: الرحلة بكسر الراء: الارتحال [91 -
أ].
وقوله: «وعن أبي الشيخ» قلت هو بفتح الشين المعجمة، وإسكان
المثناة تحته، وبعده خاء معجمة، وهو الإمام عبد الله بن محمد
الأصبهاني.
وقوله: «مع الحربي» هو إبراهيم.
وقوله: «كذاك للسِّجْزي». قلت: هو بكسر السين المهملة، وإسكان
الجيم، وبعده زاي، نسبةً إلى سجستان على غير قياسٍ، وهو أبو
نصر الوائلي.
وقوله: «طُرًّا» قلت: هو بضم الطَّاء، وتشديد الراء المهملتين،
أي: جميعاً.
وقوله:
450 - وَالثَّانِ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ ... دُوْنَ
الْمُجَازِ، وَهْوَ أَيْضَاً قَبِلَهْ
451 - جُمْهُوْرُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلاَ ... وَالْخُلْفُ
أَقْوَى فِيْهِ مِمَّا قَدْ خَلاَ
الشرح: هذا النوع الثاني من أنواع الإجازة، وهو أن يُعَين
الشخص المجاز له دون الكتاب المجاز، فيقول: أجزت لك جميع
مسموعاتي، أو مروياتي، ونحوه.
(1/247)
والجمهور على جواز الرواية بها، ووجوب
العمل، ولكن الخُلْف في هذا النوع أقوى منه في النوع الأول.
وقوله:
452 - وَالثَّالِثُ: التَّعْمِيْمُ فِي الْمُجَازِ ... لَهُ،
وَقَدْ مَالَ إِلى الْجَوَاز
453 - مُطْلَقَاً (الْخَطِيْبُ) (وَابْنُ مَنْدَهْ) ... ثُمَّ
(أبو الْعَلاَءِ) أَيْضَاً بَعْدَهْ
454 - وَجَازَ لِلْمَوْجُوْدِ عِنْدَ (الطَّبَرِيْ) ...
وَالشَّيْخُ لِلإِْبْطَالِ مَالَ فَاحْذَر
الشرح: النوع الثالث من أنواع الإجازة إجازة العموم: كقولك:
أجزتُ المسلمين، أو لمن أَدْرَكَ زماني، ونحوه.
واختلفوا في هذه [91 - ب]: فَجَوَّزَهَا الخطيبُ مطلقاً،
وفَعَلَه ابنُ منده أبو عبد الله فقال: أجزتُ لمن قال: لا إله
إلا الله. وحكى الحازمي عَمَّن أدركه من الحُفَّاظ كأبي العلاء
الحسن بن أحمد العَطَّار الهَمْدَاني وغيره أنهم كانوا يميلون
إلى الجواز.
وقوله: «وجاز» (خ) يعني: أن الطَّبَري أبا الطَّيِّب
جَوَّزَهَا لجميع المسلمين مَنْ كان منهم موجوداً عند الإجازة.
وقوله: «والشيخ» (خ) يعني ابن الصلاح قال: لم نَرَ ولم نسمع عن
أحدٍ ممن يُقْتَدَى به استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن
الشِّرْذِمَة المتأخرة الذين سَوَّغُوها، والإجازة في أصلها
ضعفٌ، وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفاً كثيراً لا ينبغي
احتماله.
(1/248)
قال ابن جماعة: وفيما قاله نظر. وجَّهَهُ
شيخُنا (ن) فقال (1): أجازها جماعة منهم أبو الفضل بن خيرون
البغدادي، والقاضي ابن رُشد من كبار علماء المذهب عند
المالكية، والسِّلَفي، ورجحه ابنُ الحاجب، وصححه النووي من
زياداته في «الروضة» قال: وأفردها بالتصنيف (2) على حروف
المعجم لكثرتهم الحافظُ أبو جعفر محمد بن أبي البدر الكاتب
البغدادي، وحَدَّثَ بها ابنُ خيرٍ الحافظ الأشبيلي، وبأخَرَةٍ
الدمياطي بإجازته العامة من المؤيد الطوسي.
وسمع بها من الحفاظ: المزي، والذهبي، والبرزالي أبو محمد على
الركن الطَّاووسي بإجازته العامة من الصيدلاني أبي جعفر وغيره.
قال (3): وقرأتُ بها عدة أجزاء [92 - أ] على الوجيه عبد الرحمن
العوفي بإجازته العامة من عبد اللطيف بن القُبَّيْطي وآخرين من
البغداديين والمصريين، وفي النفس من ذلك شيءٌ، وأنا أتوقفُ عن
الرواية بها، وأهل الحديث يقولون: إذا كتبتَ فَقَمِّش، وإذا
حدثتَ ففتش. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقوله:
455 - وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ ... كَالْعُلَمَا
يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْر
456 - فَإِنَّهُ إِلى الْجَوَازِ أَقْرَبُ ... قُلْتُ
(عِيَاضٌ) قالَ: لَسْتُ أَحْسِبُ
_________
(1) (1/ 419).
(2) أي: جمع من أجاز هذه الإجازة العامة في تصنيف مستقل.
(3) أي الناظم في شرحه (1/ 420).
(1/249)
457 - فِي ذَا اخْتِلاَفَاً بَيْنَهُمْ
مِمَّنْ يَرَى ... إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا
الشرح: يعني أن الإجازة العامة إذا قُيِّدَت بوصفٍ حاصرٍ فهذا
إلى الجواز أقرب. كقوله: «أجزتُ لمن هو الآن من طَلَبَةِ
العِلْم ببلدِ كَذَا، ولمَنْ قرأ علي قبل هذا».
قال عياض: فما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن تصح عنده الإجازة،
ولا رأيت منعه لأحدٍ؛ لأنه محصورٌ موصوفٌ، كقوله: لأولاد فلان،
أو أخوة فلان.
وقوله:
458 - وَالرَّابعُ: الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيْزَ لَهْ ... أو مَا
أُجِيْزَ كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ
459 - بَعْضَ سَمَاَعاِتي، كَذَا إِنْ سَمَّى ... كِتَاباً أو
شَخْصَاً وَقَدْ تَسَمَّى
460 - بِهِ سِوَاهُ ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ ... مُرَادُهُ مِنْ
ذَاكَ فَهْوَ لاَ يَصِحْ
461 - أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ ... فَلاَ
يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالأَعْيَان
462 - وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَلَهُمْ ... مِنْ غَيْرِ
عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ [92 - ب]
الشرح: النَّوْع الرابع من أنْوَاع الإجازة: الإجازة للمجهول
أو بالمجهول، فالأول أن يقول أجزتُ لجماعةٍ من الناس مسموعاتي،
والثاني: أجزتُ لك بعض مسموعاتي.
وقوله: «كأجزتُ» (خ) جَمَعَ في مثال واحد الجهل فيهما.
و «الأزفلة» بفتح الهمزة، وإسكان الزاي، وفتح الفاء، وبعده
لامٌ مفتوحة، فهاء تأنيث: الجماعة من الناس، ومنه إن عائشة
أَرْسَلَت إلى أزفلة من الناس،
(1/250)
في قصة خطبة عائشة في فضل أبيها.
وقوله: «كذا» (خ) من أمثلة هذا النوع أن يُسَمِّى شخصاً تسمى
به غير واحد ذلك الوقت: كأجزت لمحمد بن خالدٍ الدمشقي، أو
يُسمي كتاباً: كأجزتُ فلاناً كتاب «السُّنن» وهو يروي عِدَّة
كتب تُعْرَف بالسُّنن ولم يَتَّضِح مراده في المسألتين، فهذه
إجازة باطلة لا فائدة فيها.
وقوله: «أما المُسَمُّون» (خ) يعني إذا اتضح مرادَه بقرينة بأن
قيل له: أجزتَ لمحمد بن خالد بن علي بن محمود الدمشقي؟ -مثلاً
بحيث لا يلتبس-، فقال: أجزتُ لمحمد بن خالد الدمشقي. أو قيل
له: أجزتَ لي رواية «السُّنَن» لأبي داود؟ فقال: أجزتُ لك
روايةً السُّنَن. فالظاهر صحتها.
وكذا إذا سَمَّى الشيخ المسئول منه المجاز له مع البيان المزيل
للاشتباه، إلا أن الشيخ لا يعرف المسئول له بل يجهل عينه، فلا
يَضُرُّ ذلك والإجازة صحيحة.
وقوله: «وتنبغي» (خ) يعني أنه إذا سئل الشيخ الإجازة لجماعةٍ
مسمَّين [93 - أ] مع البيان في الاستدعاء جرياً للعادة، فأجاز
لهم من غير معرفة بهم، ولم يعرف عددهم، ولا تصفح أسماءهم
واحداً واحداً، فينبغي الصحة، كما يَصِحُّ سماعُ مَنْ سمع منه
على هذا الوصف.
وقوله:
463 - وَالْخَامِسُ: التَّعْلِيْقُ فِي الإِجَازَهْ ... بِمَنْ
يَشَاؤُهَا الذَّيِ أَجَازَهْ
464 - أو غَيْرُهُ مُعَيَّنَاً، وَالأُولَى ... أَكْثَرُ
جَهْلاً، وَأَجَازَ الْكُلاَّ
(1/251)
465 - مَعاً (أبو يَعْلَى) الإِمَامُ
الْحَنْبَلِيْ ... مَعَ (ابْنِ عَمْرُوْسٍ) وَقَالاَ:
يَنْجَلِي
466 - الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا، وَالظَّاهِرُ ...
بُطْلاَنُهَا أَفْتَى بِذَاك (طَاهِرُ)
467 - قُلْتُ: وَجَدْتُ (ابنَ أبي خَيْثَمَةِ) ... أَجَازَ
كَالَّثانِيَةِ الْمْبُهَمَة
468 - وَإِنْ يَقُلْ: مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا ...
وَنَحْوَهُ (الأَزْدِي) مُجِيْزَاً كَتَبَا
469 - أَمَّا: أَجَزْتُ لِفُلاَنٍ إِنْ يُرِدْ ...
فَالأَظْهَرُ الأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ
الشرح: هذا النوع الخامس من أنواع الإجازة: الإجازة المعلقة
بالمشيئة والتعليق قد يكون مع إبهام المجاز أو تعيينه، وقد
يُعَلَّق بمشيئة المجاز أو بمشيئة غيره معيناً، وقد يكون لنفس
الإجازة، وقد يكون للرواية بالإجازة.
فأما تعلقها بمشيئة المجاز مبهماً كأن يقول: من شاء أن أجيز له
فقد أجزت له.
وأما تعليقها بمشيئة غير المجاز فإن كان المعلق بمشيئته مبهماً
فهذه باطلة قطعاً، نحو: أجزتُ لمن شاء بعض الناس أن يروي عني.
وإن [93 - ب] كان معيناً كقوله: من شاء فلانٌ أن أجيز له فقد
أجزته.
وقوله: «والأولى» (خ) يعني: أن التعليق بمشيئة المجاز مبهماً
أكثر في الجهل من التعليق بمشيئة غير المجاز معيناً.
وقوله: «وأجاز» (خ) يعني: من ذَكَرَ أجاز هذا النوع بأسره؛ لأن
الجهالة ترتفع بالمشيئة.
وأبو يعلى هذا هو الإمام محمد بن الحسين بن الفراء.
(1/252)
وابن عَمْرُوس بفتح العين المهملة، وإسكان
الميم، وبعده راء مهملة مضمومة، فواوٌ ساكنةٌ، فسين مهملة، وهو
أبو الفضل محمد بن عبيد الله بن عَمْرُوس المالكي، حدث عن
المخلص وغيره، وكان إماماً في المذهب، ومتقدِّماً في علم
الكلام على مذهب الأشعري، وقُبِلَت شهادته، انتهى.
وقوله: «والظاهر» (خ) قال ابن الصلاح: والظاهر أنه لا يَصِحُّ،
وبذاك أفتى القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري لما سأله
الخطيب عن ذلك، وعلل بأنه إجازةٌ لمجهول، كقوله: أجزت لبعض
الناس.
وقوله: «قلت» (خ) هذا من الزيادة على ابن الصلاح، وهو أن جماعة
من أئمة الحديث المتقدمين والمتأخرين استعملوا هذا، ومن
المتقدمين: أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة زُهير بن حرب صاحب ابن
معين، وصاحب «التاريخ» فقال ابن الوَزَّان الإمام أبو الحسين
محمد: ألفيتُ بِخَطِّ ابن أبي خيثمة: قد أجزتُ لأبي زكريا يحيى
بن مسلمة أن يروي [94 - أ] عني ما أَحَبَّ من كتاب «التاريخ»
الذي سمعه مِنِّي أبو محمد القاسم بن الأصبغ، ومحمد بن عبد
الأعلى، كما سمعاه مِنِّي، فأذنت له في ذلك، ولمن أحب من
أصحابه، فإن أحب أن تكون الإجازة لأحدٍ بعد هذا فأنا أجزتُ له
ذلك بكتابي هذا، وكتب أحمد بن أبي خيثمة بيده في شوال من سنة
ست وسبعين ومائتين.
وقوله: «وإن يقل» (خ) يعني: إذا كان المعلَّق هو الرواية،
كقوله: أجزت لمن شاء الرواية عني أن يروي عني.
وقوله: «قَرُبَا» بضم الراء، معناه: قَرُب من التصريح بما
يقتضيه الإطلاق والحكاية للحال، لا أنه تعليقٌ حقيقةً، وبَنى
على هذا ابن الصلاح إجازة:
(1/253)
بعتك هذا بكذا إن شئت. فيقول: قبلت.
وفَرَّقَ بينهما (ن) بتعيين المبتاع هنا، بخلافه في الإجازة،
فإنه مبهمٌ ووِزَان الفرع في الإجازة أن يقول: أجزتُ لك أن
تروي عني إن شئت الرواية عني، بخلاف المثال الذي ذكره،
فالتعليق وإن لم يضره فالجهالة تبطله.
وقوله: «الأزدي» (خ) يعني أنه وُجِدَ بخط أبي الفتح الأزدي:
أجزتُ رواية ذلك لجميع من أَحَبَّ أن يروي عني ذلك.
وقوله: «أما أجزت» (خ) يعني أن تعليق الرواية مع التصريح
بالمجاز له وتعيينه كقوله: أجزتُ لك كذا وكذا إن شئت روايته
عني، أو أجزت لك إن شئت أن تروي [94 - ب] عني، ونحو ذلك،
فالأظهر الأقوى جوازه.
فقوله: «إن يُرِد» أي: الرواية، لقوله قبل «من شاء يروي».
قال (ن) (1): ويجوز أن يُراد الأمران، أي: إن أراد الرواية أو
الإجازة.
وقوله:
470 - وَالسَّادِسُ: الإِذْنُ لِمَعْدُوْمٍ تَبَعْ ...
كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِفُلاَنِ مَعْ
471 - أَوْلاَدِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ ... حَيْثُ أَتَوْا
أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُوْمَ بِهْ
472 - وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الأَوَّلاَ ... (ابْنُ أبي
دَاوُدَ) وَهْوَ مُثِّلاَ
473 - بِالْوَقْفِ، لَكِنْ (أَبَا الطَّيِّبِ) رَدْ ...
كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيْحُ الْمُعْتَمَدْ
_________
(1) (1/ 425).
(1/254)
474 - كَذَا أبو نَصْرٍ. وَجَازَ مُطْلَقَا
... عِنْدَ الْخَطِيْبِ وَبِهِ قَدْ سُبِقَا
475 - مِنِ ابْنِ عُمْرُوْسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ ... وَقَدْ
رَأَى الْحُكْمَ عَلى اسْتِوَاء
476 - فِي الْوَقْفِ في صِحَّتِهِ مَنْ تَبِعَا ... أَبَا
حَنِيْفَةَ وَمَالِكَاً مَعَا
الشرح: النوع السادس من أنواع الإجازة: الإجازة للمعدوم، وهي
على قسمين:
الأول: كقوله: أجزتُ لمن يولد لفلانٍ، أو لفلان، ولولده،
وعقبِهِ ما تناسلوا، ونحوه. وفَعَلَهُ أبو بكر عبد الله بن أبي
داود و [قد] (1) سُئل الإجازة فقال: أجزت لك، ولأولادك، ولحبل
الحبلة. يعني الذين لم يولدوا بعد.
وقوله: «أو خَصَّص» (خ) هذا القسم الثاني من قسمي هذا النوع،
وهو: أن يخصَّص المعدوم بالإجازة من غير عطفٍ عل موجودٍ،
كقوله: أجزت لمن يولد لفلان. وهو [95 - أ] أضعف من الأول،
والأول أقرب إلى الجواز، وشُبِّه بالوقف على المعدوم، وأجازه
الشافعية في الأول دون الثاني.
وقوله: «لكن» (خ) يعني أن الطبري فيما حكاه الخطيب عنه مَنَعَ
صحة الإجازة للمعدوم مطلقاً.
وقوله: «كذا أبو نصرٍ» يعني أن ابن الصَّبَّاغ بَيَّنَ
بطلانها.
وقوله: «وجاز مُطلقاً» (خ) يعني أن الخطيب أجازها مطلقاً،
وحكاه عن أبي يعلى، وابن عمروس.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(1/255)
قال القاضي عياض: وعليه مُعْظَم الشيوخ
المتأخرين، وبه استمر عَمَلُهم بعدُ شرقاً وغرباً.
وقوله: «وقد» (خ) يعني أن الخطيب حكى عن مالك وأبي حنيفة جواز
الوقف على المعدوم وإن لم يكن أصله موجوداً حال الإيقاف، كأن
يقول: وقفت هذا على من يولد لفلان، وإن لم يكن وَقَفَهُ على
فلان.
وقوله:
477 - وَالسَّاِبعُ: الإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ ... لِلأَخْذِ
عَنْهُ كَافِرٍ أو طِفْل
478 - غَيْرِ مُمَيِزٍ وَذَا الأَخِيْرُ ... رَأَى (أبو
الطَّيِّبِ) وَالْجُمْهُوْرُ
479 - وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلاً، بَلَى ...
بِحَضْرَةِ (الْمِزِّيِّ) تَتْرَا فُعِلا
480 - وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضَاً نَقْلاَ ...
وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُوْمِ أولَى فِعْلاَ
481 - وَ (لِلْخَطِيْبِ) لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ ...
قُلْتُ: رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ
482 - مَعْ أبويْهِ فَأَجَازَ، وَلَعَلْ ... مَا اصَّفَّحَ
الأَسماءَ فِيْهَا إِذْ فَعَلْ
483 - وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلى مَا ذَكَرُوْا ... هَلْ
يُعْلَمُ الْحَمْلُ؟ وَهَذَا أَظْهَرُ [95 - ب]
الشرح: هذا النوع السابع من أنواع الإجازة: الإجازة لمن ليس
بأهل حين الإجازة للأداء والأخذ عنه.
وقوله: «كافرٍ» (خ) لم يذكر ابن الصلاح إلا الصبي، وزاد (ن)
هنا الكافر.
فأما الصبي فلا يخلو إما أن يكون مميزاً أولاً، فإن كان
فالإجازة صحيحة كسماعه، وإن كان الثاني فاختُلِف فيه، فذهب
الجمهور والطبري أبو الطيب
(1/256)
إلى الجواز، وحكى الخطيب عن بعض الشافعية
المنع.
وقوله: «ولم أجد في كافر» (خ) يعني: أن الإجازة للكافر لم
نَجِد فيها نقلاً وإن صَحَّ سماعه، إلا أن شخصاً (1) من
الأطباء بدمشق ممن رأيته بدمشق ولم أسمع عليه يقال له: محمد بن
عبد السيد بن الدَّيَّان، سمع الحديث في حال يهوديته على أبي
عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري، وكتب اسمه في طَبَقَة
السماع مع السامعين، وأجاز ابن عبد المؤمن لمن سمع وهو من
جملتهم، وكان السماع والإجازة بحضور الحافظ المزي أبي الحجاج
يوسف، وبعض السماع بقراءته وذلك في غير ما جزء، فلولا أن المزي
يرى جواز ذلك ما أَقَرَّ عليه، ثُمَّ هدى الله اليهودي
للإسلام، وحدث، وسمع منه أصحابنا.
وقوله: «لغير أهل» يدخل تحته الإجازة للمجنون وهي صحيحة،
وللفاسق وللمبتدع والظاهر جوازها.
وقوله: «ولم أجد في الحمل» (خ) يعني: أن (ن) رحمه الله تعالى
قال (2): لم أجد أيضاً [96 - أ] نقلاً في الإجازة للحَمْل غير
أن الخطيب قال: لم نَرَهُم أجازوا لمن لم يكن مولوداً في
الحال. ولم يتعرض لكونه إذا وقع يصح أو لا.
وقوله: «وهو» (خ) يعني: أنه أولى بالصحة من المعدوم، والخطيب
يرى صحتها للمعدوم.
_________
(1) هذا من كلام الناظم في شرحه (1/ 429).
(2) (1/ 429).
(1/257)
وقوله: «قلت» يعني أن (ن) قال (1): رأيت
بعض شيوخنا المتأخرين سُئل الإجازة لحملٍ بعد ذكر أبويه قبله
وجماعة معهم، فأجاز فيها، وهو الحافظ أبو سعيد العلائي.
وقوله: «ولعل» (خ) يعني أَنَّ من عَمَّمَ الإجازة للحمل وغيره
أعلم وأحفظ وأتقن، إلا أنه يُقال: لعله ما اصَّفَّح أسماء
الإجازة حتى يعلم هل فيها حمل أم لا، فقد جوزوا الإجازة ولو لم
يتصفح الشيخ المجيز أسماء الجماعة المسئول لهم الإجازة.
وقوله: «وينبغي» يعني أنه ينبغي بناء الحكم في الإجازة للحمل
على الخلاف في أن الحمل هل يُعْلَم أم لا، فإن قلنا: لا
يُعْلَم، فكالإجازة للمعدوم، وفيه الخلاف، وإن قلنا: يُعْلَم،
وهو الأصح -قال (2): كما صَحَّحَهُ الرَّافعي- صَحَّت الإجازة.
قال: ومعنى «يُعْلَم» أن يُعامل معاملة المعلوم، قال (3): وإلا
فقد قال إمام الحرمين: لا خلاف أنه لا يُعْلَم، وجزم به
الرافعي.
وقوله: «وهذا أظهر»، يعني: أن الحمل يُعْلَم.
وقوله:
484 - وَالثَّامِنُ: الإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ ...
الشَّيْخُ، وَالصَّحِيْحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ
_________
(1) (1/ 429).
(2) (1/ 430).
(3) (1/ 430).
(1/258)
485 - وبعضُ عَصْرِيِّ عِيَاضٍ بَذَلَهْ
... وَ (ابْنُ مُغِيْثٍ) لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ [96 - ب]
486 - وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ ... أو
سَيَصِحُّ، فَصَحِيْحٌ عَمِلَهْ
487 - (الدَّارَقُطْنِيُّ) وَسِواهُ أوحَذَفْ ... يَصِحُّ
جَازَ الكُلُّ حَيْثُمَا عَرَفْ
الشرح: النوع الثامن من أنواع الإجازة: إجازة ما سيحمله (1)
المجيز مما لم يسمعه قبل ذلك ولم يتحمله، فيرويه المجاز له بعد
أن يتحمله المجيز.
وقوله: «وبعض» (خ) يعني أن عياضاً قال في «الإلماع»: لم نر
مَنْ تَكَلَّم عليه من المشايخ، ورأيت بعضَ المتأخرين
والعَصْرِيين يصنعونه، إلا أني قرأت في «فهرست أبي مروان عبد
الملك بن زيادة الله الطُّبْنِي» قال: كنت عند القاضي بقرطبة
أبي الوليد يونس بن مغيث، فجاءه إنسانٌ فسألَهُ الإجازة له
بجميع ما رواه إلى تاريخها، وما يرويه بعد، فلم يُجبه إلى ذلك،
فَغَضِبَ السائلُ، فنظر إليَّ يونس، فقلت له: يا هذا يعطيك ما
لم يأخذ؟ هذا محال. فقال يونس: هذا جوابي. قال عياض: وهذا هو
الصحيح.
فقوله: «وابن مُغيث» قلت: هو بضم الميم، وكسر الغين المعجمة،
وبعده ياء مثناة تحت ساكنة، فثاء مثلثة، هو مَنْ ذُكِر: قاضي
الجماعة بقرطبة، وصاحب الصلاة والخطبة بجامعها، ويُعرف بابن
الصفار، كَتَبَ إليه من المشرق الدارقطني وجماعة، وهو من أهل
العلم بالحديث والفقه، كثير الرواية، وافر الخط من عِلْم اللغة
والعربية، صَحِبَ الصَّالحين، من تَوَاليفه كتاب «التسلِّي عن
[97 - أ] الدنيا بتأمل خبر الآخرة»، رحمه الله، ونفع بعلومه.
_________
(1) في الأصل: يستحمله. وما أثبتناه من المصدر.
(1/259)
والخلاف في ذلك مبني على أن الإجازة هل
الإخبار بالمجاز جملةً أو إذنٌ؟ فعلى الأول لا يَصِحُّ إذ لا
يُخْبِر بما ليس عنده، وعلى الثاني فمبني على الإذن في الوكالة
بما لم يملكه الآذنُ بعد.
قال (ن) (1): وأجازه بعض الشافعية، والصحيح البطلان، قال:
وصوبه النووي.
وقوله: «وإن يَقُل» (خ) يعني إذا قال: أجزتُ له ما صَحَّ
ويَصِحُّ عنده من مسموعاتي فصحيحة، وفعله الدارقطني وغيره.
وقوله: «أو حَذَف يصح» (خ) يعني أنه لو قال له: أجزتُ ما صح
عنده من مسموعاتي، ولم يَقُل: «ويَصِحُّ» فله الرواية.
وقوله: «جاز الكل» أي: ما عُرِفَ حالة الأداء أنه سماعه.
وقوله: «بَذْلَهُ» هو بذال معجمة، أي: أعطاه لمن سأله.
وقوله:
488 - وَالتَّاسِعُ: الإِذْنُ بِمَا أُجِيْزَا ... لِشَيْخِهِ،
فَقِيْلَ: لَنْ يَجُوْزَا
489 - وَرُدَّ، وَالصَّحِيْحُ: الاعْتِمَادُ ... عَلَيْهِ قَدْ
جَوَّزَهُ النُّقَّاْدُ
490 - أبو نُعَيْمٍ، وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ ...
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ
491 - وَالَى ثَلاَثَاً بإِجَازَةٍ وَقَدْ ... رَأَيْتُ مَنْ
وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ
_________
(1) (1/ 432).
(1/260)
492 - وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الإِجازَهْ
... فحيثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَاْزَهْ
493 - بَلِفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ ... مَا صَحَّ
عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ
الشرح: النوع التاسع من أنواع الإجازة: إجازة المُجَاز مثل:
أجزتُ [97 - ب] لك مجازاتي ونحوه، فَمَنَعَ جوازه الحافظُ أبو
البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي من شيوخ ابن الجوزي،
وصَنَّفَ جزءاً في منع ذلك، وحكاه الحافظ أبو علي البَرَدَاني
بفتح الموحدة، والدال المهملة، وبعده ألف، فنون، عن بعض منتحلي
الحديث وما سَمَّاه.
وقوله: «ورُد» (خ) يعني القول بالمنع، والصحيح المعتمد عليه
جوازه، وقطع به الدارقطني، وأبو نعيم، وابن عُقدة، وفعله
الحاكم في «تاريخه».
وقوله: «ونَصْرٌ» (خ) هو بالرفع مبتدأ خبره «والى» أي بين ثلاث
أجايز. ويجوز عطف «ونصرٌ» على «الدارقطني».
وقوله: «وقد رأيت» (خ) يعني أن (ن) قال (1): رأيتُ في كلام غير
واحد من الأئمة وأهل الحديث الزيادة على ثلاث أجايز، فرووا
بأربع أجايز متواليةٍ، وبخمس. وروى الحلبي عبد الكريم في
«تاريخ مصر» عن عبد الغني بن سعيد الأزدي: خَمْسِ أجايز
متوالية في عِدَّة مواضع.
وقوله: «وينبغي» (خ) يعني أنه ينبغي لمن يَرْوي بالإجازة عن
الإجازة أن يتأمَّل كيفيةَ إجازة شيخ شيخه لشيخه ومقتضاها، حتى
لا يروي بها ما لم يندرج تحتها، فربما قَيَّدَهَا بعضهم بما
صَحَّ عند المجاز، أو بما سمعه المجيز
_________
(1) (1/ 434).
(1/261)
فقط، أو بما حَدَّث من مسموعاته، أو غير
ذلك.
وكان ابنُ دقيق العيد لا يجيز رواية سماعه، بل يُقيده بما حدث
به من مسموعاته.
قال (ن) (1): هكذا [98 - أ] رأيته بخطه في عِدَّة إجازات، ولم
أر له إجازةً تشمل مسموعه، و [ذلك] (2) أنه كان يَشُكُّ في بعض
سماعاته فلم يُحَدِّث به، ولم يجزه، وهو سماعه على ابن
المُقَيَّر فَمن حَدَّثَ عنه بإجازته منه بشيء مما حَدَّثَ به
من مسمُوعاته فهو غير صحيح.
وقوله: «وابن عُقدة».
قلت: هو بضم العين المهملة، وإسكان القاف، وبعده دال مهملة،
فهاء تأنيث، هو أبو العباس، يشتبه بعكب بن عُبْدَة بالباء
الموحدة بدل القاف أحد شهود علي يوم الحكمين، انتهى.
وقوله: «ونصر». قلت: بفتح النون، وإسكان الصاد المهملة، هو
الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي، قال محمد بن طاهر: سمعته ببيت
المقدس يروي بالإجازة عن الإجازة، وربما تابع بين ثلاث منها.
_________
(1) 1/ 436).
(2) زيادة من المصدر.
(1/262)
لَفْظُ الإِجَازَةِ وَشَرْطُهَا
قوله:
494 - أَجَزْتُهُ (ابْنُ فَارِسٍ) قَدْ نَقَلَهْ ...
وَإِنَّمَا الْمَعْرُوْفُ قَدْ أَجَزْتُ لَهْ
الشرح: قال ابن فارس: الإجازة في كلام العرب مأخوذة من جواز
الماء الذي يُسْقَاه المال من الماشية والحرث، يقال: استجزتُ
فلاناً فأجازني، إذا أسقاك ماءً لماشيتك أو أرضك، فكذا طالب
العلم يستجيز العالم علمه فيجيز له، وعليه فيجوز أن تُعَدِّي
الفعل بغير حرف الجر ولا ذكر «رواية» (1) فتقول: أجزتُ فلاناً
مسموعاتي.
قلت: «وابن فارس» هو أبو الحسين أحمد بن فارس اللُّغَوي، وألف
«المجمل [98 - ب] في اللغة» مختصراً جمع كثيراً من اللغة، له
رسائل أنيقة، ومسائل في اللغة يعاني (2) منها الفقهاء، ومنه
اقتبس الحريري في «المقامات» ذلك الأسلوب، ووضع المسائل
الفقهية في المقامة الطيبية وهي مائة مسألة، ومن شعره:
اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تبيت ... من الثقات على ثقه
انتهى.
_________
(1) أي دون ذكر لفظ: «رواية».
(2) في الأصل: يعايي.
(1/263)
وقوله: «وإنما المعروف» (خ) يعني أن
الإجازة إن كانت بمعنى الإذن والإباحة وهو المعروف، فيقول:
أجزت له رواية مسموعاتي. وإذا قال: أجزت له مسموعاتي فعلى حذف
مضاف.
وقوله:
495 - وَإِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الإِجَازَهْ ... مِنْ عَالِمٍ
بِهِ، وَمَنْ أَجَازَهْ
496 - طَالِبَ عِلْمٍ (وَالْوَلِيْدُ) ذَا ذَكَرْ ... عَنْ
(مَالِكٍ) شَرْطاً وَعَنْ (أبي عُمَرْ)
497 - أَنَّ الصَّحِيْحَ أَنَّهَا لاَ تُقْبَلُ ... إِلاَّ
لِمَاهِرٍ وَمَا لاَ يُشْكِلُ
498 - وَالْلَفْظُ إِنْ تُجِزْ بِكَتْبٍ أَحْسَنُ ... أو
دُوْنَ لَفْظٍ فَانْوِ وَهْوَ أَدْوَنُ
الشرح: يعني أن الإجازة تُستحسن إذا كان المجيز عالماً بما
يجيزه، والمجاز من أهل العلم؛ لأنها توسع يحتاج إليه أهل
العلم.
وقوله: «والوليد» (خ) يعني: أن بعضهم بالغ في ذاك فجعله شرطاً
فيها، وحكاه الوليد بن بكر المالكي عن مالك رحمه الله تعالى.
وقوله: «وعن أبي عمر» (خ) يعني أن ابنَ عبد البر أبا عمر قال:
الصحيح أنها لا تجوز [99 - أ] إلا لماهرٍ بالصناعة، وفي شيء
معين لا يُشكل إسناده.
وقوله: «واللفظ» (خ) يعني أن الإجازة قد تكون باللفظ من الشيخ،
أو بالخط، سواءً أجاز ابتداءً، أو كتب به على سؤال الإجازة كما
جرت العادة، فإن كانت بالخط فالأحسن والأولى التَلَفُّظ
بالإجازة، فإن اقتصر على الكتابة قاصداً الإجازة صَحَّت؛ لأن
الكتابةَ كنايةٌ، وهي دون الإجازة باللفظ في الرتبة، فإن لم
ينو فالظاهر عدم الصحة.
(1/264)
الرَّاْبِعُ: الْمُنَاوَلَةُ
قوله:
499 - ثُمَّ الْمُنَاولاَتُ إِمَّا تَقْتَرِنْ ... بِالإِذْنِ
أَوْ لاَ، فَالَّتِي فِيْهَا إِذِنْ
500 - أَعْلَى الإْجَازَاتِ، وَأَعْلاَهَا إذا ... أَعْطَاهُ
مِلْكَاً فَإِعَارَةً كَذَا
501 - أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ لَهْ ... عَرْضاً
وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاولَهْ
502 - وَالشَّيْخُ ذُوْ مَعْرِفَةٍ فَيِنَظُرَهْ ... ثُمَّ
يُنَاولَ الْكِتَابَ مُحْضِرَهْ
503 - يقول: هَذَا مِنْ حَدِيْثِي فارْوِهِ ... وَقَدْ حَكَوْا
عَنْ (مَالِكٍ) وَنَحْوِه
504 - بِأَنَّهَا تُعَادِلُ السَّمَاعَا ... وَقَدْ أَبَى
الْمُفْتُوْنَ ذَا امْتِنَاعَا
505 - إِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيْ مَعَ النُّعْمَانِ ...
وَالشَّافِعيْ وَأحْمَدُ الشَّيْبَانِيْ
506 - وَ (ابْنِ الْمُبَارَكِ) وَغَيْرِهِمْ رَأوْا ...
بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، قُلْتُ: قَدْ حَكَوْا
507 - إِجْمَاعَهُمْ بِأَنَّهَا صَحِيْحَهْ ... مُعْتَمَداً،
وَإِنْ تَكُنْ مَرْجُوْحَهْ
الشرح: الطريق الرابع من طرق الأخذ والتحمل: المناولة، وهي [99
- ب] نوعان:
أحدهما: المقرونة بالإجازة، وهي أنواعٌ، أعلاها الإجازة (1)
كما تقدم، ثم
_________
(1) كذا، وهو خطأ، وعبارة الناظم (1/ 439): وهي-أي الإجازة
المقرونة بالمناولة- أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق.
(1/265)
لها صور: أعلاها أن يناوله شيئاً من سماعه
أصلاً أو فرعاً مقابَلاً به فيقول هذا سماعي، أو روايتي عن
فلان فاروه عني، أو أجزت لك روايته، ثم يبقيه في يده تمليكاً،
أو إلى أن ينسخه.
وقوله: «كذا» (خ) هذه الصورة الثانية: أن يُحْضِرَ الطالبُ
الكتابَ -أصل الشيخ أو فرعه المقابل به- فيعرضه عليه، ويقول:
هو حديثي، أو سماعي، أو روايتي، فاروه عني. وسماه غير واحدٍ من
الأئمة عرضاً فيكون هذا عرض المناولة وذلك عرض القراءة.
وقوله: «والشيخ» (خ) يعني: إذا عرض الطالبُ الكتابَ على الشيخ،
تَأَمَّله الشيخ، وهو عارف متيقظ، ثم يناوله الطالبَ ويقول له:
هو روايتي أو من حديثي فاروه عني.
وقوله: «وقد حكوا» (خ) يعني: أن هذه المناولة المقرونة
بالإجازة حَالَّة محل السماع عند بعضهم، كما حكاه الحاكم عن
الزهري، وربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، في
جماعةٍ من أهل المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، ومصر،
وخراسان، وحكاه ابن جماعة عن مجاهد، والشعبي، وعلقمة،
وإبراهيم، وابن وهب، وابن القاسم.
وقوله: «وقد أبى» (خ) يعني أن الذين أفتوا في الحلال والحرام
فإنهم لم يروه سماعاً، وبه قال الشافعي [100 - أ]، والأوزاعي،
والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وابن المبارك.
(1/266)
قال الحاكم: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه
نذهب.
قلت: «والشيباني» بالشين المعجمة؛ لأن في نسبه ذهل بن شيبان بن
ثعلبة إلى عدنان، انتهى.
وقوله: «قلت» (خ) هذا من الزيادة على ابن الصلاح، وهو اتفاق
أهل النقل هنا، لما حكى ابن الصلاح الخلاف المتقدم في الإجازة،
ولم يحك هنا إلا كونها موازية للسماع أَولا، فزاد نقل الاتفاق
على صحتها تبعاً لنقل عياض في «الإلماع».
وقوله: «مُحضْرَهُ». قلت: بضم الميم وكسر الضاد ونَصَبَهُ
«يناول».
وقوله: «معتمداً» ضبطه (ن) بفتح الميم، منصوب على التمييز، أي:
اعتماداً.
فقوله: «المفتون».قلت: واحده مفتي، اسم فاعل مِنْ أفتى
رباعياً، فلما جُمِع جَمْعَ تصحيح بالواو والنون التقى ساكنان
الياء التي آخر الكلمة وواو الجمع، فحذفت الياء لالتقائهما،
ومثله المُهْدُون ونحوه.
وقوله: «وغيرِهم» قلت: هو بالجر عطفاً على المجرور بـ «مع»،
والله تعالى أعلم.
وقوله:
508 - أَمَّا إذا نَاولَ وَاسْتَرَدَّا ... فِي الْوَقْتِ
صَحَّ وَالْمُجَازُ أَدَّى
509 - مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ ... وَهَذِهِ
لَيْسَتْ لَهَا مَزِيَّهْ
(1/267)
510 - عَلَى الذَّيِ عُيَّنَ فِي
الاجَازَهْ ... عِنْدَ الْمُحَقِّقِيْنَ لَكِنْ مَازَهْ
511 - أَهْلُ الْحَدِيْثِ آخِراً وَقِدْمَا ... أَمَّا إذا مَا
الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا [100 - ب]
512 - أَحْضَرَهُ الطَّالِبُ لَكِنْ اعْتَمَدْ ... مَنْ
أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ مُعْتَمَدْ
513 - صَحَّ وَإِلاَّ بَطَلَ اسْتِيْقَانَا ... وَإِنْ يَقُلْ:
أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا
514 - ذَا مِنْ حَدِيْثِي، فَهْوَ فِعْلٌ حَسَنُ ... يُفِيْدُ
حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ
الشرح: من صور المناولة المقرونة بالإجازة أن يناوله الشيخُ
الكتابَ، ويجيز له روايته، ثم يرتجعه منه في الحال، فهي صحيحة،
ولكنها دون الصورة المتقدمة لعدم احتواء الطالب عليه وغيبته
عنه.
وقوله: «المجاز» (خ) يعني والمجاز له، وهو مبتدأ خبره «أَدَّى»
أي: ومن تناول على هذه الصورة فله أن يؤدي من الأصل الذي
نَاوَلَهُ الشيخُ واسترده إذا ظفر به، مع غلبة ظنه بسلامته من
التغيير، أو من فَرْعٍ مُقَابَلٍ به كذاك، وهذا معنى قوله: «قد
وافَقَت مَرْوِيَّه» أي: الكتاب الذي تناوله، إما بكونه من
الكتاب المناول نفسه مع غلبة السلامة، أو من نسخة موافقة
بمقابلته، أو إخبار ثقة بموافقتها، ونحو ذلك.
وقوله: «وهذه» أي: هذه الصورة من صور المناولة لا مَزِيَّةَ
لها على الإجازة بكتابٍ مُعَيَّنٍ عند المحققين على ما نقله
عياض، وبه رَدَّ على ابن الصلاح في حكايته ذلك عن غير أهل
التحقيق من الفُقَهَاء والأصوليين.
وقوله: «لكن» (خ) يعني لكن قديماً وحديثاً شيوخنا [101 - أ] من
أهل الحديث يرون لها مزية على الإجازة.
(1/268)
وقوله: «أما» (خ) من صور المناولة: أن
يُحْضِرَ الطالبُ الكتابَ للشيخ فيقول: هذا روايتك فناولنيه
وأَجِزْ لي روايته، فلا ينظر فيه الشيخ، ولا يتحقق أنه روايته،
ولكن اعتمد خَبَرَ الطالب، والطالب ثقة يعتمد على مثله، فأجابه
إلى ذلك، صَحَّت المناولة والإجازة.
وقوله: «وإلا» (خ) يعني وإن لم يكن الطالبُ موثوقاً به بخبره
ومعرفته، فإنه لا تجوز هذه المناولة ولا تَصِحُّ، ولا الإجازة.
وقوله: «وإن يَقُل» (خ) يعني: فإن ناولَهُ وأَجَازَه ثم
تَبَيَّنَ بعد ذلك بخبر ثقة يعتمد عليه أن ذلك كان من سماع
الشيخ أو من مروياته، فهل يحكم بصحة المناولة والإجازة
السابقتين؟ خلافٌ، واستظهر (ن) الصحة؛ لأنه تبين بعدُ صحةُ
سماع الشيخ لما ناوله وأجازه، وزال ما كان يُخْشَى من عدم ثقة
المخبر.
وقوله:
515 - وإنْ خَلَتْ مِنْ إذْنِ المُنَاْولَهْ ... قِيْلَ:
تَصِحُّ والأَصَحُّ بَاْطِلَهْ
الشرح: هذا النوع الثاني من نوعي المناولة، وهو المُجَرَّد عن
الإجازة، كأن يناوله كتاباً، ويقول: «هذا سماعي» مقتصراً عليه،
ولا يقول له: اروه عني، ولا أجزت لك روايته، ونحوه.
وفيها خلافٌ، فحكى الخطيبُ عن طائفةٍ صحتَهَا، والرواية بها،
وقال [101 - ب] ابن الصلاح: عَابَهَا غيرُ واحدٍ من الفقهاء
والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها.
وقوله: «والأصح» (خ) يعني: فلا يجوز الرواية بها.
(1/269)
كَيْفَ يَقُوْلُ مَنْ رَوَى بِالمُنَاولَةِ
وَالإِجَاْزَةِ؟
قوله:
516 - وَاخْتَلَفُوا فِيْمَنْ رَوَى مَا نُوْوِلاَ ...
(فَمَالِكٌ) وَ (ابْنُ شِهَابٍ) جَعَلاَ
517 - إِطْلاَقَهُ (حَدَّثَنَا) وَ (أَخْبَرَا) ... يَسُوْغُ
وَهْوَ لاَئِقٌ بِمَنْ يَرَى
518 - الْعَرْضَ كَالسَّمَاعِ بَلْ أَجَازَه ... بَعْضُهُمُ في
مُطْلَقِ الإِجَازَهْ
519 - وَ (الْمَرْزُبَانِيْ) وَ (أبو نُعَيْمِ) ... أَخْبَرَ،
وَالصَّحِيْحُ عِنْدَ القَوْم
520 - تَقْيِيْدُهُ بِمَا يُبيِنُ الْوَاقِعَا ... إِجَازَةً
تَنَاولاً هُمَا مَعَا
521 - أَذِنَ لِي، أَطْلَقَ لِي، أَجَازَنِي ... سَوَّغَ لِي،
أَبَاحَ لِي، نَاولَنِي
522 - وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ لِلْمُجَازِ ... إِطَلاَقَهُ
لَمْ يَكْفِ فِي الْجَوَاز
الشرح: هذا كالتفريع على المناولة، وهو أنهم اختلفوا في عبارة
الراوي لما تحمَّلَهُ بطريق المناولة.
فعن جماعة منهم الزهري، ومالك، إطلاق: «حدثنا» و «أخبرنا»، وهو
مقتضى قول بقية مَنْ جَعَلَهُ سماعاً (1).
_________
(1) وعبارة الناظم في «شرحه» (1/ 445): وهو لائقٌ بمذهب من يرى
عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعاً.
(1/270)
وقوله: «بل» (خ) يعني أنه حُكِىَ عن قومٍ
جواز إطلاق «حدثنا» و «أخبرنا» في الرواية بالإجازة مطلقاً،
وحكاه عياضٌ عن ابن جُرَيج وجماعةٍ من المتقدمين، وحكى الوليد
بن بكر أنه مذهب مالكٍ وأهل المدينة، وذَهَبَ إليه إمامُ
الحرمين، وخالفه غيرُهُ [102 - أ] من الأصوليين.
وقوله: «والمرزباني» (خ) يعني أَنَّ من ذُكِرَ أطلق في الإجازة
«أخبرنا» من غير بيان، وحكى الخطيبُ أن المرزباني عُيِّرَ
بذلك.
فقوله: «أخبرا» أي: أطلقا لفظ أخبر في الإجازة.
وقوله: «والصحيح» (خ) يعني: أن الصحيح المختار الذي عليه
الجمهور، واختاره أهل التحري والورع: المنع من إطلاق «حدثنا» و
«أخبرنا» ونحوهما، في المناولة والإجازة، وتقييد ذلك بعبارة
تبين الواقع في كيفية التحمل، وتُشْعِر به، كحدثنا إجازةً، أو
مناولةً، أو إذناً، أو أجازني، أو ناولني، ونحو ذلك.
وقوله: «وإن أباح» (خ) يعني إن أباح المجيز للمجاز إطلاق «أنا»
أو «ثنا» في الإجازة أو المناولة، لم يَجُزْ له ذلك، كما
يفعلُهُ بعض المشايخ على إجازتهم، فيقولون عَمَّن أجازوا له:
إن شاء قال: «حدثنا»، وإن شاء قال: «أخبرنا».
قلت: «والمرزباني» بفتح الميم، وسكون الراء، وضم الزاي، وبعده
باء موحدة، منسوب إلى المَرْزُبان، اسم جَدِّه، وهو محمد بن
أحمد بن محبوب
(1/271)
بن فضيل المروزي، أحد رواة كتاب (ت) عن (ت)
(1)، انتهى.
وقوله:
523 - وَبَعْضُهُمْ أَتَى بِلَفَظٍ مُوْهِمْ ... (شَافَهَنِي)
(كَتَبَ لِي) فَمَا سَلِمْ
524 - وَقَدْ أَتَى بِـ (خَبَّرَ) الأوزَاعِيْ ... فِيْهَا
وَلَمْ يَخْلُ مِنَ النِّزَاع
525 - وَلَفْظُ ((أَنْ)) اخْتَارَهُ (الْخَطَّابي) ... وَهْوَ
مَعَ الإِسْنَادِ ذُوْ اقْتِرَابِ [102 - ب]
526 - وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الإِجَازَهْ ...
(أَنْبَأَنَا) كَصَاحِبِ الْوِجَازَهْ
527 - وَاخْتَارَهُ (الْحَاكِمُ) فِيْمَا شَافَهَهْ ...
بِالإِذْنِ بَعْدَ عَرْضِهِ مُشَافَهَهْ
528 - وَاسْتَحْسَنُوْا لِلْبَيَهْقَيْ مُصْطَلَحا ...
(أَنْبَأَنَا) إِجَازَةً فَصَرَّحَا
529 - وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ اسْتَعْمَلَ عَنْ ...
إِجَازَةً، وَهْيَ قَرِيْبَةٌ لِمَنْ
530 - سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيْهِ يَشُكّْ ... وَحَرْفُ
(عَنْ) بَيْنَهُمَا فَمُشْتَرَكْ
531 - وَفِي الْبُخَارِيْ قَالَ لِي: فَجَعَلَهْ ...
حِيْرِيُّهُمْ لِلْعَرْضِ وَالمُنَاولَهْ
الشرح: هذه ألفاظ استُعْمِلَت في الرواية بالإجازة، منها:
«شافهني فلانٌ» أو «مشافهة»، إذا شافهه بالإجازة لفظاً، ومنها:
«كتب لي» في الإجازة بالكتابة، أو إلى فلان، أو كتابه، أو في
كتابه وهذه وإن استُعْمِلَت فلا يَسْلَمُ مَن استعملها من
الإبهام، وطَرْفٍ من التدليس، وهو واضح.
وقوله: «وقد أتى» (خ) ومنها لفظ خَبَّرَنَا (2) ورد عن
الأوزاعي تخصيص
_________
(1) أي أنه أحد رواة كتاب الترمذي عن مُصَنِّفه.
(2) في الأصل: أخبرنا. خطأ.
(1/272)
الإجازة بها، والقراءة بأخبرنا.
وقوله: «ولم يخل» (خ) يعني أن معنى خَبَّرَ وأَخْبَرَ واحدٌ
لغةً واصطلاحاً متعارفاً بينهم.
وقوله: «ولفظ أن» (خ) ومنها لفظ «أنَّ»، يعني: بفتح الهمزة،
وتشديد النون، فيقول في الرواية بالسماع عن الإجازة: «أخبرنا
فلانٌ أن فلاناً حدثه»، أو أخبره، واختاره الخطَّابي أو حكاه.
وقوله: «وهو» (خ) يعني أن ابن الصلاح قال: إن هذا الذي [103 -
أ] اختاره الخَطَّابي فيما إذا سَمِعَ منه الإسناد فحسب، وأجاز
له ما رواه قريبٌ، لما كان فيها من الإشعار بوجود أصل الإخبار،
وإن أجمل المخبر به.
وقوله: «وبعضهم» (خ) ومنها: «أنبأنا» في الإجازة، فهي عند
المتقدِّمين بمنزلة «أخبرنا» وحكى عياضٌ عن شعبة أنه قال في
الإجازة به (1) مرةً «أنبأنا» وأخرى «أخبرنا»، ومصطلحُ قومٍ من
المتأخرين إطلاقها في الإجازة، واختاره صاحب «الوجازة».
وقوله: «واختاره» (خ) يعني أن الحاكم قال: الذي اختاره، وعهدتُ
عليه أكبر مشايخي، وأئمة عصري، أن يقول فيما عُرِضَ على
المحدِّث فأجازه شفاهاً: «أنبأني»، وكان البيهقي يقول في
الإجازة: «أنبأنا إجازةً»، وفيه التصريح بالإجازة.
_________
(1) كذا، وكأن [به] حشو.
(1/273)
وقوله: «وبعض» (خ) ومنها لفظ «عن»، وكثيراً
يأتي بها بعض المتأخرين في مَوْضِع الإجازة.
وقوله: «وهي قريبةٌ» (خ) قال ابن الصلاح: وذلك قريبٌ فيما إذا
كان سَمِعَ منه بإجازته من شيخه إن لم يكن سماعاً فإنه شاك.
و «حرف عن» مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما.
وقوله: «فمشترك». قلت: خبرٌ عن المبتدأ الذي هو «وحرف عن»،
ودخلت الفاء على حد قوله: ويحدِّثُ ناسٌ والصغير فيكبر، وهو
مذهب الأخفش خاصةً.
وقول (ن) في (ش) (1) على رأي الكسائي [103 - ب] لا أعرفه،
ولعله من طُغْيَان القلم منه، أو من الناسخ، أو سهو، فاعرفه،
والله تعالى أعلم.
وقوله: «وفي البخاري» (خ) ومنها «قال لي»، وكثيراً يعبر بها
(خ)، كما قال الحيري: كلما قال البخاري: «قال لي فلان» فهو
عرضٌ ومناولة، وهي كأخبرنا، وكثيراً تستعمل في المذاكرة،
وجعلها بعضهم من التعليق، وابن منده جعلها إجازة.
وقوله: «حِيْرِتُهم». قلت: يعني به الحيري بكسر الحاء المهملة،
وإسكان الياء المثناة تحت، وبعده راء مهملة، فياء مُشَدَّدة،
نسبةً إلى الحِيَرة التي عند الكوفة، ومنها أبو عمروٍ محمد بن
أحمد بن حمدان النيسابوري، روى عنه أبو عبد الله الحاكم.
_________
(1) (1/ 448).
(1/274)
الْخَامِسُ: الْمُكَاتَبَةُ
قوله:
532 - ثُمَّ الْكِتَابَةُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَوْ ...
بِإِذْنِهِ عَنْهُ لِغَائِبٍ وَلَوْ
533 - لِحَاضِرٍ فَإِنْ أَجَازَ مَعَهَا ... أَشْبَهَ مَا
نَاوَلَ أَوْ جَرَّدَهَا
534 - صَحَّ عَلى الصَّحِيْحِ وَالْمَشْهُوْرِ ... قَالَ بِهِ
(أَيُّوْبُ) مَعْ (مَنْصُورِ)
535 - وَالْلَيْثُ وَالسَّمْعَانِ قَدْ أَجَازَهْ ...
وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الإِجَازَهْ
536 - وَبَعْضُهُمْ صِحَّةَ ذَاكَ مَنَعَا ... وَصَاحِبُ
الْحَاوِيْ بِهِ قَدْ قَطَعَا
الشرح: هذه الطريق الخامس من طُرُق التحمل للحديث، وهو:
المكاتبة، وهو: أن يكتبَ الشيخُ مسموعَه لغائبٍ، أو حاضرٍ [104
- أ] بخطِّه، أو بإذنه.
وهي أيضاً قسمان: الأول: الكتابة المقرونة بالإجازة، بأن يكتب
إليه ويقول: «أجزت لك ما كتبته لك»، ونحوه، وهي في الصِّحَّة
والقوة كالمناولة المقرونة بالإجازة.
وقوله: «أو جَرَّدَها» (خ) هذا القسم الثاني من قِسْمَي
الكتابة، وهي الكتابة المُجَرَّدة عن الإجازة، فهي صحيحة يجوز
الرواية بها على الصحيح المشهور بين أهل الحديث، وقال به
الكثير من المتقدمين والمتأخرين: السختياني، ومنصور، والليث،
وغيرهم. ومنهم: السمعاني أبو المظفر، وجَعَلَهَا أقوى من
(1/275)
الإجازة.
وفي الصحيح أحاديث من هذا النوع:
منها: حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص في مسلمٍ قال: كتبت إلى
جابر بن سَمُرَة مع غلامي نافع: أن أَخْبِرْني بشيء سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكتبَ إليَّ: سمعتُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعةٍ، عَشِيَّة رُجِمَ
الأَسْلَمي (ح).
وفي (خ) من كتاب الأيمان والنذور: كَتَبَ إليَّ محمد بن بشار.
وقوله: «وبعضهم» (خ) يعني أن قوماً آخرين منعوا صحة ذلك، وبه
قطع الماوردي في «الحاوي».
وقوله:
537 - وَيَكْتَفِي أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوْبُ لَهْ ... خَطَّ
الَّذِي كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَهْ
538 - قَوْمٌ لِلاشْتِبَاهِ لَكِنْ رُدَّا ... لِنُدْرَةِ
اللَّبْسِ وَحَيْثُ أَدَّى
539 - فَاللَّيْثُ مَعْ مَنْصُوْرٍ اسْتَجَازَا ...
(أَخْبَرَنَا)، (حَدَّثَنَا) جَوَازَا [104 - ب]
540 - وَصَحَّحُوْا التَّقْيِيْدَ بِالْكِتَابَهْ ... وَهْوَ
الِذَّي يَلِيْقُ بِالنَّزَاهَهْ
الشرح: يعني أنه يكتفي في الرواية بالكتابة أن يعرف المكتوبُ
له خَطَّ الكاتب، وإن لم تَقُم البينة عليه.
وقوله: «وأَبْطَلَه» (خ) يعني: أن منهم من قال: الخط يُشبه
الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك.
(1/276)
وقوله: «لكن» (خ) يعني أن هذا القول غير
مَرْضِي لنُّدرة الاشتباه، والظاهر أن خَطَّ الإنسان لا يشتبه
بغيره، ولا يقع فيه إلباس.
وقوله: «وحيث» (خ) يعني أنهم اختلفوا في اللفظ [الذي] (1) يؤدي
به مَنْ تَحَمَّل الكتابة، فذهب غيرُ واحدٍ ومنهم الليث ومنصور
إلى جواز إطلاق «حدثنا» و «أخبرنا».
وقوله: «وصححوا» (خ) يعني أن المختار الصحيح اللائق بمذاهب أهل
التحري والنزاهة، أن يُقَيّد ذلك بالكتابة، فيقول حدثنا أو
أخبرنا كتابةً، أو مكاتبةً ونحو ذلك.
قلت: «والنزاهة» بفتح النون، وبعده زاي، فألف، فهاء تأنيث (2).
قال في «الصحاح»: البُعد من السوء، انتهى.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(2) كذا، ولعله أراد: فهاء، فهاء تأنيث.
(1/277)
السَّادِسُ: إِعْلاَمُ الشَّيْخِ
قوله:
541 - وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا ...
يَرْوِيْهِ أَنْ يَرْوِيَهُ؟ فَجَزَمَا
542 - بِمَنْعِهِ (الطُّوْسِيْ) وَذَا الْمُخْتَارُ ...
وَعِدَّةٌ (كَابْنِ جُرَيْجٍ) صَارُوْا
543 - إلى الْجَوَازِ وَ (ابْنُ بَكْرٍ) نَصَرَهْ ...
وَصَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْماً ذَكَرَهْ
544 - بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ لَوْ مَنَعَهْ ... لَمْ
يَمْتَنِعْ، كَمَا إذا قَدْ سَمِعَهْ [105 - أ]
545 - وَرُدَّ كَاسْتِرْعَاءِ مَنْ يُحَمَّلُ ... لَكِنْ إذا
صَحَّ، عَلَيْهِ الْعَمَلُ
الشرح: الطريق السادس من طرق [أخذ] (1) الحديث وتحمله: إعلام
الشيخ للطالب أن هذا الحديث أو الكتاب سماعه من فلان، أو
روايته، من غير أن يأذن له في روايته عنه.
وقد اختُلِف في جواز روايته له بمجرَّد ذلك؛ فذهب غير واحدٍ من
المحدثين وغيرهم إلى المنع من ذلك، و [به] (2) قطع أبو حامد
الطوسي من الشافعية.
وقوله: «وعدَّة» (خ) يعني أنه ذهب الكثير ومنهم ابن جُرَيج إلى
الجواز.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(2) زيادة من المصدر.
(1/278)
وقوله: «وابن بكر» (خ) يعني أن الجواز نصره
ابن بكر الوليد الغَمْري -بفتح الغين المعجمة- في كتاب
«الوجازة» له، وبه قطع ابن الصَّبَّاغ صاحب «الشامل»، وهو مذهب
ابن حبيب من المالكية.
وقوله: «بل زاد» (خ) يعني أن بعضهم -وعنى به القاضي أبا محمد
بن خلَّاد الرامهرمزي- زاد على هذا فقال: حتى لو قال له هذه
روايتي لكن لا تروها عني، ولا أجيزه لك، لم يضره ذلك. قال
عياض: وما قاله صحيح لا نظر سواه (1) كما تقدم في السماع.
وقوله: «ورُدَّ» (خ) يعني أن ابن الصلاح رَدَّ هذا قياساً على
الشاهد يَذْكُرُ في مجلس الحكم شهادته بشيء، فليس لمن سمعه أن
يشهد على شهادته؛ لعدم الإذن له، ولم يُشْهِدْه على شهادته،
وذلك عنده مما تساوت فيه الرواية والشهادة.
ورَدَّ ذلك عياضٌ وفَرَّقَ بينهما [105 - ب] بكون الشهادة لا
تَصِح إلا مع الإشهاد والإذن في كل حالٍ، بخلاف الحديث عن
السماع والقراءة لا يحتاج فيه إلى إذنٍ باتفاق.
وقوله: «كاسترعاء» (خ) يعني أن مسألة استرعاء الشاهد لمن
يُحَمِّلُهُ شهادتَه لا يكفي فيها إعلامَه، بل لابُد من الإذن
أن يشهد على شهادته، إلا إذا سمعه يؤدي عند الحاكم، فهو نظيرُ
ما إذا سمعه يُحَدِّث بالحديث، فحينئذٍ لا يحتاج إلى إذنه في
أن يرويه عنه، ولا يَضُرُّه مَنْعُه إذا منعه.
_________
(1) عبارة عياض التي نقلها الشارح (1/ 454): لا يقتضي النظر
سواه.
(1/279)
وقوله: «لكن» (خ) يعني هذا كله في الرواية
بإعلام الشيخ أما العمل بما أخبره الشيخ أنه سماعه فإنه يجب
عليه إذا صح إسناده والله أعلم.
وقوله: «الطُّوسي»، قلت: هو بضم الطاء، وإسكان الواو، بعده سين
مهملة، نسبة إلى طُوس قرية من قرى بُخارى والمراد به أبو حامد
الغزالي، كذا قَرَّر (ن) (1) لوجود ذلك في نص «المستصفى».
قلت: ولد -رحمه الله- بطُوس، وكان والده رحمه الله يَغْزِلُ
الصُّوفَ، ويبيعه في دكانه بطوس. قال ابن الصلاح: ومن غرائب
الغزالي ما ذَكَرَهُ أخوه على رأس المنبر، قال: سمعت أخي حجة
الإسلام يقول: إن الميت من حين يوضع في النعش يوقَف في أربعين
موقف يُسَائِلُهُ رَبُّهُ عز وجل. انتهى.
_________
(1) (1/ 453).
(1/280)
السَّابِعُ: الوَصِيَّةُ بالكِتَابِ
قوله: [106 - أ]
546 - وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ لِلْمُوْصَى لَهُ ... بالْجُزْءِ
مِنْ رَاوٍ قَضَى أَجَلَهُ
547 - يَرْوِيْهِ أَوْ لِسَفَرٍ أَرَادَهْ ... وَرُدَّ مَا
لَمْ يُرِدِ الْوِجَادَهْ
الشرح: هذا الطريق السابع من طُرُق الأخذ والتحمل: الوصية.
وهو: أن الراوي عند موته أو سفره يوصي لشخصٍ بكتاب يرويه، فهل
له أن يروي عنه بتلك الوصية؟
فجوَّزَ بعضُ السلف الموصَى له رواية ذلك عن الموصي كالإعلام.
وروى الرامهرمزي من رواية حماد بن زيد عن أيوب قال: قلت لمحمد
بن سيرين إن فلاناً أوصى لي بكتبه أفأحدث بها عنه؟ قال: نعم.
ثم قال لي بَعْدَ ذلك: لا آمرك ولا أنهاك.
وقوله: «ورد» (خ) يعني: أن ابن الصلاح رد هذا بأنه إما زلة
عالمٍ أو مؤول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة.
(1/281)
الثَّامِنُ: الوِجَادَةُ
قوله:
548 - ثُّمَ الوِجَادَةُ وَتِلْكَ مَصْدَرْ ... وَجَدْتُهُ
مُوَلَّداً لِيَظْهَرْ
549 - تَغَايُرُ الْمَعْنَى، وَذَاكَ أَنْ تَجِدْ ... بِخَطِّ
مَنْ عَاصَرْتَ أَوْ قَبْلُ عُهِدْ
550 - مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ ... فَقُلْ:
بِخَطِّهِ وَجَدْتُ، وَاحْتَرِزْ
551 - إِنْ لَمْ تَثِقْ بِالْخَطِّ قُلْ: وَجَدْتُ ... عَنْهُ،
أَوْ اذْكُرْ (قِيْلَ) أَوْ (ظَنَنْتُ)
الشرح: الطريق الثامنة من طُرق أخذ الحديث ونقله: الوجادة بكسر
الواو، وبعده جيم، فألف، فدال مهملة، فهاء تأنيث، مصدر [106 -
ب] مُوَلّد لـ «وَجَدَ، يَجد»، وعن المعافى بن زكريا
النَّهْرَواني: أن المولَّدين فَرَّعوا قولهم: «وجادة» فيما
أُخذ من العلم من صحيفة، من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة،
من تفريق العرب بين مصادر «وَجَدَ» للتمييز بين المعاني
المختلفة.
قال ابن الصلاح: يعني قولهم: وَجَدَ ضالتَهُ وِجْدَاناً،
ومطلوبَهُ وجوداً، وفي الغضب مَوْجِدَةً، وفي الغِنَى: وجداً،
وفي الحب: وَجْداً. وفيه بحث (ن) استوفاه في (ش) (1).
وقوله: «وذاك» (خ) يعني أن الوجادة: أن تجد بخط من عَاصَرْتَهُ
لقيته أو لم
_________
(1) (1/ 457).
(1/282)
تلقه، أو لم تعاصِرْه بل كان قبلك، أحاديث
يرويها أو غير ذلك مما لم تسمعه منه، ولم يُجِزْهُ لك، فلك أن
تقول: وجدتُ بخط فلان أخبرنا فلان، وتسوق الإسناد والمتن، أو
ما وجدته بخطه ونحو ذلك، هذا إذا وثق بخطه، فإن لم يثق فليحترز
عن جزم العبارة فيقول: بَلَغني عن فلان، أو وجدتُ عنه، أو وجدت
بخط قيل إنه خط فلان، ونحوه من العبارات المفصحة بالمستَنَد في
كونه خَطِّه.
وقوله:
552 - وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ، وَالأَوَّلُ ... قَدْ شِيْبَ
وَصْلاً مَا، وَقَدْ تَسَهَّلُوْا
553 - فيْهِ (بِعَنْ)، قالَ: وَهَذَا دُلْسَهْ ... تَقْبُحُ
إِنْ أَوْهَمَ أَنَّ نَفْسَهْ
554 - حَدَّثَهُ بِهِ، وَبَعْضٌ أَدَّى ... (حَدَّثَنَا)،
(أَخْبَرَنَا) وَرُدَّا [107 - أ]
555 - وَقِيْلَ: فِي الْعَمَلِ إِنَّ الْمُعْظَمَا ... لَمْ
يَرَهُ، وَبالْوُجُوْبِ جَزَمَا
556 - بَعْضُ الْمَحُقِّقِيْنَ وَهْوَ الأَصْوَبُ ... وَ
(لاِبْنِ إِدْرِيْسَ) الْجَوَازَ نَسَبُوْا
الشرح: يعني أن كل ما ذُكر مِن الرواية بالوجادة منقطع، سواءً
وثق بأنه خط من وجده عنه أم لا.
وقوله: «والأول» (خ) يعني: أن الأول وهو ما إذا وثق بأنه
خَطُّهُ أخذ شوباً من الاتصال، بقوله: وجدت بخط فلان.
وقوله: «وقد تسهلوا» (خ) يعني أنه تسهل من أتى بلفظ «عن فلانٍ»
في موضع الوجادة.
(1/283)
قال ابن الصلاح: وذلك تدليسٌ قبيح إذا كان
بحيث يوهم سماعه منه.
فقوله: «أنَّ نفسه» (خ) يعني نفس من وجد ذلك بخطه حدثه به.
وقوله: «وبعض» (خ) يعني: أن بعضهم جازف فأطلق في الوجادة حدثنا
وأخبرنا، فانتُقِد عليه ذلك.
وقوله: «وقيل: في العمل» (خ) يعني: أن العمل بالوجادة لم يره
المعظم من المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم هكذا حكاه
عياض في «الإلماع».
وقوله: «وبالوجوب» (خ) يعني: أن بعض المحققين من أصحاب الشافعي
في أصول الفقه جزموا بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، هكذا
نقل ابنُ الصلاح عنهم.
وقوله: «ولابن إدريس» (خ) يعني أن محمد بن إدريس الشافعي -رضي
الله عنه- حُكِيَ عنه جواز العمل بها، وهو الذي نصره الجويني،
واختاره غيره من المحققين كما قررنا.
وقوله: [107 - ب]
557 - وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ خَطّهِ فَقُلْ: ... (قالَ)
وَنَحْوَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ
558 - بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوْقُ قُلْ: (بَلَغَنِيْ) ...
وَالْجَزْمُ يُرْجَى حِلُّهُ لِلْفَطِن
الشرح: يعني أنك إذا نقلت شيئاً من كتاب مصنِّف، فإن كانت بخط
المصنف ووثقت بأنه خطه، فقل: وجدت بخط فلان واحك كلامه كما
تقدم، وإن كانت بغير خطه فإن وثقت بصحة النسخة، بأن قابلها
المصنف، أو وثقه غيره بالأصل، أو بفرع مقابَل، فقل: قال فلان،
أو ذَكَر، ونحوه من ألفاظ
(1/284)
الجزم، وإن لم تَثِق فَقُل: بلغني عن فلانٍ
ونحوه مما لا جَزْم فيه.
وقوله: «والجزم» (خ) قال ابن الصلاح: إن كان المطالع عالماً
فَطِناً لا يخفَى عليه مواضع الإسقاط غالباً والسقط، رجونا أن
يُطْلِقَ اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك، واستروح إليه الكثير
من المصنفين فيما نقلوه من كُتُبِ الناس والعلم عند الله
تعالى.
(1/285)
|