مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت عتر النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ:
مُعْرِفَةُ مَنِ اشْتَرَكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ
رَاوِيَانِ:
مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، تَبَايَنَ وَقْتُ وَفَاتَيْهِمَا
تَبَايُنًا شَدِيدًا، فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا أَمَدٌ بَعِيدٌ،
وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَعْدُودٍ مِنْ
مُعَاصِرِي الْأَوَّلِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ
وَمِنْ فَوَائِدَ ذَلِكَ تَقْرِيرُ حَلَاوَةِ عُلُوِّ
الْإِسْنَادِ فِي الْقُلُوبِ.
وَقَدْ
(1/317)
أَفْرَدَهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ فِي
كِتَابٍ حَسَنٍ سَمَّاهُ " كِتَابَ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ ".
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ
الثَّقَفِيَّ السَّرَّاجَ النَّيْسَابُورِيَّ رَوَى عَنْهُ
الْبُخَارِيُّ الْإِمَامُ فِي تَارِيخِهِ، وَرَوَى عَنْهُ
أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَفَّافُ
النَّيْسَابُورِيُّ، وَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْبُخَارِيَّ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَمَاتَ الْخَفَّافُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَكَذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ حَدَّثَ عَنْهُ
الزُّهْرِيُّ وَزَكَرِيَّا بْنُ دُوَيْدٍ الْكِنْدِيُّ،
وَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً
أَوْ أَكْثَرُ، [[إذ مات مالك بن أنس سنة تسع وتسعين ومائة،]]
وَمَاتَ الزُّهْرِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَلَقَدْ حَظِيَ مَالِكٌ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/318)
النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ:
مَعْرِفَةُ مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلِمُسْلِمٍ فِيهِ كِتَابٌ لَمْ أَرَهُ، وَمِثَالُهُ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَهْبُ بْنُ خَنْبَشٍ - وَهُوَ فِي كِتَابَيِ
الْحَاكِمِ وَأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ فِي مَعْرِفَةِ
عُلُومِ الْحَدِيثِ هَرِمُ بْنُ خَنْبَشٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ
دَاوُدَ الْأَوْدِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَذَلِكَ خَطَأٌ -
صَحَابِيٌّ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الشَّعْبِيِّ.
وَكَذَلِكَ عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ صَفْوَانَ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
صَيْفِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ - وَلَيْسَا بِوَاحِدٍ وَإِنْ
قَالَهُ بَعْضُهُمْ - صَحَابِيُّونَ، لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ
غَيْرُ الشَّعْبِيِّ.
وَانْفَرَدَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ بِالرِّوَايَةِ عَنْ
أَبِيهِ، وَعَنْ دُكَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُزَنِيِّ،
وَالصُّنَابِحِ بْنِ الْأَعْسَرِ، وَمِرْدَاسِ بْنِ مَالِكٍ
الْأَسْلَمِيِّ، وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ.
وَقُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ مِنْهُمْ، لَمْ
يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَيْمَنَ بْنِ نَابِلٍ.
وَفِي الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ غَيْرُ
أَبْنَائِهِمْ مِنْهُمْ: شَكَلُ بْنُ حُمَيْدٍ، لَمْ يَرْوِ
عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ شُتَيْرٍ.
وَمِنْهُمْ: الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْنٍ الْقُرَشِيُّ
(1/319)
لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ.
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ
ابْنِهِ حَكِيمٍ وَالِدِ بَهْزٍ.
وَقُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ
مُعَاوِيَةَ.
وَأَبُو لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ
ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى.
ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حَكَمَ فِي "
الْمَدْخَلِ إِلَى كِتَابِ الْإِكْلِيلِ " بِأَنَّ أَحَدًا
مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَنُقِضَ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِ
الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ أَبِي
حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ: " يَذْهَبُ
الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ " وَلَا رَاوِيَ لَهُ
غَيْرُ قَيْسٍ.
وَبِإِخْرَاجِهِ - بَلْ بِإِخْرَاجِهِمَا - حَدِيثَ
الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، مَعَ
أَنَّهُ لَا رَاوِيَ لَهُ غَيْرُ ابْنِهِ.
وَبِإِخْرَاجِهِ حَدِيثَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ تَغْلِبَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَالَّذِي
أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ " وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عَمْرٍو غَيْرُ
الْحَسَنِ.
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ رَافِعِ
بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، وَلَمْ
(1/320)
يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الصَّامِتِ، وَحَدِيثَ أَبِي رِفَاعَةَ الْعَدَوِيِّ وَلَمْ
يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ.
وَحَدِيثَ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ: " إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى
قَلْبِي " وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي بُرْدَةَ، فِي
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ عِنْدَهُمَا فِي كِتَابَيْهِمَا عَلَى
هَذَا النَّحْوِ.
وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى مَصِيرِهِمَا إِلَى أَنَّ الرَّاوِيَ
قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولًا مَرْدُودًا
بِرِوَايَةِ وَاحِدٍ عَنْهُ.
وَقَدْ قَدَّمْتُ هَذَا فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ
وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْبَرِّ الْأَنْدَلُسِيِّ وِجَادَةٌ قَالَ: " كُلُّ
مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَهُوَ
عِنْدُهُمْ مَجْهُولٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَشْهُورًا
فِي غَيْرِ حَمْلِ الْعِلْمِ، كَاشْتِهَارِ مَالِكِ بْنِ
دِينَارٍ بِالزُّهْدِ، وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
بِالنَّجْدَةِ ".
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ مَنْ ذَكَرْنَا
تَفَرُّدَ رَاوٍ وَاحِدٍ عَنْهُ
(1/321)
خِلَافٌ فِي تَفَرُّدِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا حُمَيْدُ بْنُ كِلَابٍ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِثَالُ هَذَا النَّوْعِ فِي التَّابِعِينَ: أَبُو
الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيُّ، لَمْ يَرْوِ عَنْهُ - فِيمَا
يُعْلَمُ - غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَمَثَّلَ الْحَاكِمُ لِهَذَا النَّوْعِ فِي التَّابِعِينَ
بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ فِيمَا
يَعْلَمُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ تَفَرَّدَ الزُّهْرِيُّ عَنْ
نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ التَّابِعِينَ، لَمْ يَرْوِ
عَنْهُمْ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
تَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَكَذَلِكَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيُّ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَغَيْرُهُمْ.
وَسَمَّى الْحَاكِمُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِيمَنْ
تَفَرَّدَ عَنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مَعْبَدٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
فَرُّوخَ، وَفِيمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُمِ الزُّهْرِيُّ: عَمْرَو
بْنَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَسِنَانَ بْنَ أَبِي سِنَانٍ
الدُّؤَلِيَّ، وَفِيمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُمْ يَحْيَى: عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ.
وَمَثَّلَ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ بِالْمِسْوَرِ بْنِ
رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ
غَيْرُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ تَفَرَّدَ مَالِكٌ عَنْ زُهَاءَ
عَشَرَةٍ مِنْ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ فِي تَنْزِيلِهِ
بَعْضَ مَنْ ذَكَرَهُ بِالْمَنْزِلَةِ
(1/322)
الَّتِي جَعَلَهُ فِيهَا - مُعْتَمِدًا عَلَى الْحُسْبَانِ
وَالتَّوَهُّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. |