نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت الرحيلي

الباب الثاني: المتن
مدخل
مقدمة المؤلف
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ العلامة الرحلة شيخ الإسلام علَم الأعلام شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر، الشافعي، فسح الله في مدته، وأعاد على المسلمين من بركته:
[مقدّمة المؤلف]
الحمد لله الذي لم يزل عالماً قديراً، حياً قيوماً سَميعاً بَصيراً، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأُكَبِّرُه تَكبيراً، وصلّى اللهُ عَلى سَيدِنا مُحَمَّدٍ الذي أَرْسَلَهُ إِلى النَّاسِ كافةً بَشيراً ونَذيراً وعلى آلِ محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(1/193)


[المؤلفون في مصطلح الحديث ومؤلفاتهم]
أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ التَّصانيفَ في اصْطِلاحِ أَهلِ الحَديثِ، قَدْ كَثُرَتْ للأئمةِ في القديمِ والحَديثِ.
فمِن أوّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك:
1- القاضي أبو محمَّدٍ الرامَهُرْمُزِي في كتابه: "المحدِّثُ الفاصل"، لكنَّه لم يَستوعب.
2- والحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسَابوريُّ، لكنَّه لم يُهَذِّب، ولم يُرَتّب.
3- وتلاه أَبو نُعَيْم الأصْبهاني فعَمِل على كتابهِ مستخْرَجاً وأبقى أشياءَ للمُتَعَقِّب.
4- ثمَّ جاءَ بعدَهم الخطيبُ أبو بكرٍ البغداديُّ فصَنَّفَ في قوانينِ الروايةِ كتاباً سَمَّاهُ: "الكفايةَ"، وفي آدابِها كتاباً سَمَّاهُ: "الجامعَ لآدابِ الشَّيْخِ والسَّامِع"، وقَلَّ فَنٌّ مِن فُنونِ الحَديثِ إِلاَّ وقد صَنَّفَ فيهِ كتاباً مفْرَداً؛ فكانَ كما قال الحَافظُ أبو بكرِ بنُ نُقْطَةَ: كلُّ مَن أَنْصف عَلِم أَنَّ المحدِّثين بعدَ الخَطيبِ عيالٌ على كُتُبِهِ.
ثم جاء بعضُ مَنْ تَأَخَّرَ عنِ الخطيبِ، فأَخذ مِن هذا العلمِ بنصيبٍ:

(1/193)


5- فَجَمع القاضي عِياضٌ كتاباً لطيفاً سَمَّاهُ: "الإِلْماع".
6- وأبو حفْصٍ المَيَّانِجيُّ جُزءاً سَمَّاهُ: "ما لا يسعُ المحدِّثَ جَهْلُهُ". وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت، وبُسِطَتْ؛ لِيَتَوَفَّر علمها، واخْتُصِرَتْ؛ لِيَتَيَسَّر فهْمها، إِلى أَنْ جاءَ:
7- الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أبو عمرو عثمان بن الصلاح بن عبدِ الرحمنِ الشَّهْرَزُوْرِي نزيلُ دمشقَ فجَمَعَ -لَمّا وَلِيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ- كتابَهُ المَشهورَ، فهذَّب فُنُونَهُ، وأَملاهُ شيئاً بعدَ شيءٍ؛ فلهذا لم يَحْصُل ترتيبُهُ على الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرَّقة، فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدها، وضَمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائدها، فاجتَمَعَ في كتابِه ما تفرَّقَ في غيرهِ؛ فلهذا عَكَف الناسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصَى كم ناظمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستدرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له ومنتَصِرٍ.

(1/194)


[سبب تصنيف نزهة النظر]
فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ، سَمّيتها: "نُخْبَةَ الْفِكَرِ في مصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ ابتكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شوارِد الفرائدِ، وزوائدِ الفوائدِ. فَرَغِبَ إليَّ، ثانياً، أنْ أضَعَ عَليها شرحاً يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِّح ما خَفِيَ على المُبْتَدئ مِن ذلك، فأجبتُهُ إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلك المسالِك، فبالغتُ في شَرْحِها، في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونَبَّهتُ على خفايا زواياها؛ لأنَّ صاحبَ البيتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إيرادَهُ على صورةِ الْبَسْطِ أَلْيَقُ، ودمْجَها ضِمْن توضيحها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ. فأقولُ طالِِباً مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك:

(1/194)


[الفرق بين الخبر والحديث]
1- الخبر: عندَ علماءِ هذا الفنِّ مرادِفٌ للحديثِ.
2- وقيلَ: الحديثُ: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، والخَبَرُ: ما جاءَ عن غيِره، ومِن ثَمَّةَ قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شَاكَلَهَا: "الإِخْبَارِي"، ولمن يشتغلُ بالسنَّة النبويَّةِ: "المحدِّث".
3- وقيل: بيْنهما عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَق: فكلُّ حديثٍ خبرٌ، مِن غير عكسٍ، وعَبّر هنا بـ"الخبر" ليكون أشمل.

(1/195)


أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا
تعريف المتواتر
...
[أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا]
فهو باعتبارِ وصوله إلينا:
[1- تعريف المتواتر]
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ، أي أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأن طُرُقاً جَمْعُ طَرِيق
-و"فَعِيلٌ" في الكثرةِ يُجْمَع على "فُعُلِ" بضمَّتينِ، وفي القلة على "أَفْعُلٍ"- والمراد بالطرق الأسانيد.
والإسنادُ: حكايةُ طريقِ المتن.

(1/195)


[عددُ التواتر] :
وتلكَ الكثرةُ أحدُ شروطِ التَّواتُرِ، إِذا وَرَدَتْ- بلا حصرِ عددٍ مُعَيَّنٍ، بل تَكُوْن العادةُ قد أحالتْ تواطؤَهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُهُ منهُم اتِّفاقاً مِن غيرِ قصدٍ، فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ-.
ومِنْهم مَنْ عَيَّنه في الأربعةِ.
وقيلَ: في الخمْسةِ. وقيل: في السَّبعةِ. وقيل: في العشرة.
وقيل: في الاثني عشر. وقيل: في الأربعينَ. وقيلَ: في السَّبعينَ.
وقيلَ غيرُ ذلك.
وتَمَسَّك كلُّ قائلٍ بدليلٍ جاءَ فيه ذكرُ ذلك العدَدِ؛ فأفاد العلمَ. وليسَ بلازمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ؛ لاحتمالِ الاختصاص.
فإذا ورد الخبر كذلك، وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ

(1/195)


من ابتدائِه إلى انتهائهِ -والمرادُ بالاستواءِ: أَنْ لا تنقصَ الكثرةُ المذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ، لا أَنْ لا تزيد؛ إذ الزيادة مطلوبةٌ هنا مِن بابِ الأَولى- وأَنْ يكونَ مستندُ انتهائِهِ الأمْرَ المُشَاهَدَ أو المسموعَ، لا ما ثبت بِقَضِيِّةِ العقلِ الصِّرْف، كالواحد نصف الاثنين. [فهذا هو المتواتر] 1.
__________
1 زيادة من عندي؛ ليكون خبراً عن قوله: فإذا ورد. وهو الذي ورد في كلام المصنف فيما بعد.

(1/196)


[شروط المتواتر وتعريفه] :
فإِذا جَمَع هذهِ الشروطَ الأربعةَ، وهي:
1- عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤَهم، أو توافُقَهم، على الكذب.
2- رووا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ.
3- وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهم الحِسَّ.
4- وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحبَ خبرَهم إفادةُ العلمِ لِسامِعِهِ.
فهذا هو المتواتِرُ.
وما تخلَّفتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقَط، فكلُّ متواترٍ مشهورٌ من غيرِ عكسٍ.

(1/196)


[هذه الشروط الأربعة تفيد حصول العلم غالباً] :
وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزمتْ حصولَ العِلْمِ، وهُو كذلك في الغالِبِ، لكن، قد يتخلف عن البعض لمانعٍ.
وقد وَضَحَ بهذا تعريف المتواتر.
وخِلافُهُ قد يَرِدُ:
أ- بلا حصرٍ، أَيضاً، لكنْ، مع فَقْدِ بعضِ الشروط.
ب- أَو مَعَ حصرٍ:
2- بِما فَوْقَ الاثنيْنِ، أي بثلاثةٍ فصاعداً، ما لم تجتمع شروط التواتر.

(1/196)


3- أو بِهما، أي: باثْنَيْنِ فقطْ. 4- أو بواحدٍ.
والمرادُ بقولِنا: أَنْ يَرِدَ باثْنَيْنِ: أنْ لا يَرِدَ بأقلَّ منهما، فإن وَرَدَ بأكثرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يضر؛ إذ الأقل في هذا يَقْضي على الأكثر.
فالأول [وهو الذي ورد بلا حصر عدد معين هو] المتواتر.

(1/197)


[حكم المُتواتِرُ] :
وهو المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ -فأَخرجَ النظريَّ، على ما يأتي تقريره- بشروطه التي تقدمت.
واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ.
وهذا هو المعْتَمَدُ أن خبر التواتر يفيد العلم الضروري.

(1/197)


[مفهوم العلم الضروري]
وهو: الذي يُضْطر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكنه دفْعُهُ.
وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيّاً. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصلٌ لمن ليس لهُ أهليةُ النَّظرِ كالعاميِّ؛ إِذِ النَّظرُ: ترتيبُ أمورٍ معلومةٍ أَو مظنونةٍ يُتَوَصل بها إلى علومٍ أَو ظنونٍ، وليس في العاميِّ أهليةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيّاً لَمَا حَصَلَ لهُم.

(1/197)


[الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري]
ولاحَ بهذا التقريرِ الفرقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ والعِلْمِ النَّظَرِيِّ:
1- إِذِ الضَّرورِيُّ يفيدُ العلمَ بلا استدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ، لكنْ، مع الاستِدْلالِ على الإِفادةِ.
2- وأنَّ الضروريَّ يَحْصُلُ لكلِّ سامعٍ، والنظريَّ لا يَحْصُلُ إلا لمن فيه أهليةُ النظر.
وإنما أُبْهِمَتْ شروط المتواتر في الأَصْلِ؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ من مباحثِ علمِ الإسناد.

(1/197)


[تعريف علم الإسناد] :
إذْ علمُ الإسنادِ يُبحث فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أَوْ ضعفه؛ لِيُعْمَلَ به أَو يُتْرَكَ مِن حيثُ: صفاتُ الرِّجالِ وصِيَغُ الأداءِ، والمُتواتِرُ لا يُبْحَث عَنْ رجالِهِ، بل يجِبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ.
فائدةٌ:
ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ وجودُه، إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حديثِ: "مَنْ كَذَبَ عليَّ". وما ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ ممنوعٌ، وكذا مَا ادَّعاهُ غَيْرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلكَ نشأَ عن قلةِ اطِّلاعٍ على كثرةِ الطرقِ وأحوالِ الرجالِ وصفاتِهِم المقتضيةِ لإبعادِ العادةِ أن يَتَواطؤا على كذبٍ، أو يَحْصُلَ منهم اتِّفاقاً.

(1/198)


[أقسام الآحاد]
[2- تعريف الحديث المشهور]
والثاني -وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ-: ما لَهُ طرقٌ محصورةٌ بأكثرَ مِن اثْنَيْنِ، وهُو المَشْهورُ عندَ المُحَدِّثينَ.

(1/198)


[الفرق بين المشهور والمستفيض] :
سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، وهُوَ المُستفيضُ عَلى رأيِ جماعةٍ مِن أئمةِ الفقهاء، سُمِّيَ بذلك لانتشاره، مِن: فاضَ الماءُ يَفِيض فيضاً، ومِنْهُم مَنْ غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ والمَشْهورِ، بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابتدائه وانْتِهائِهِ سَواءً، والمَشْهورَ أعمُّ مِنْ ذلكَ.
ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مباحث هذا الفن.

(1/198)


[أقسام المشهور] :
ثمَّ المَشْهورُ يُطلَق:
1- على مَا حُرِّر هُنا.
2- وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ؛ فَيَشمل ما لَهُ إسنادٌ واحدٌ فصاعِداً، بل ما لا يوجد له إسنادٌ أصلاً.

(1/199)


[تعريف العزيز] :
والثَّالِثُ: العَزِيز: وهُو أَنْ لا يَروِيَه أقلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ.
وسُمِّيَ بذلك إِمَّا لقلةِ وجودِهِ، وإِمَّا لكونِهِ عَزَّ، أَيْ قَوِيَ بمَجيئِهِ مِن طريقٍ أُخْرى.
ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ، خِلافاً لمَنْ زَعَمَهُ، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائِي مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يومئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللهِ في علومِ الحديثِ، حيثُ قال: الصَّحيحُ أنْ يَرْوِيَهُ الصحابيُّ الزائلُ عنهُ اسمُ الجَهالة؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ، ثمَّ يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا، كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ.

(1/199)


[دعوى ابن العربي: بأن العزيز من شرط البخاري في صحيحه] :
وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في شَرْحِ البُخَارِيّ بأَنَّ ذلك شرطُ البُخَارِيِّ، وأَجاب عمَّا أُوْرِدَ عليهِ مِن ذلك بجوابٍ فيهِ نظر؛ لأنه قال: فإن قيل: حديثُ: الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ فَرْدٌ؛ لم يَرْوِهِ عَنْ عُمر إلا علقمة؟ قال: قلنا: قد خَطَبَ به عُمرُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ؛ فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنكروه. -كذا قال-.

(1/199)


[الرد على جواب ابن العربي] :
وتُعُقِّبَ بأنه لا يَلْزم من كونهم سكتوا عنه أن يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ علقمةَ ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عن محمدٍ، عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ، وقَدْ وردتْ لُهْم متابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها، وكذا لا يَسْلَمُ جوابُه في غيرِ حديثِ عُمرَ.
قال ابن رُشَيْدٍ: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضِيَ في بُطْلانِ ما ادّعَى أَنَّهُ شرطُ البُخَارِيِّ أولُ حديثٍ مَذكورٍ فيه.

(1/199)


[دعوى لابن حبان] :
وادّعَى ابنُ حِبّان نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ
لا توجد أصلاً.

(1/200)


[الرد على ابن حبان] :
قلت: إن أراد أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا يُوجد أَصْلاً فَيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأنْ لا يرويَهُ أقلُّ من اثنين عن أقلَّ من اثنين.

(1/200)


[مثال العزيز] :
مثالُهُ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حديثِ أَنَسٍ، والبخاريُّ مِن حديثِ أبي هريرة أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ" الحديث. ورواه عَنْ أَنَسٍ قَتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ شعبةُ وسعيدٌ، ورواهُ عَنْ عبدِ العزيزِ إِسماعيلُ بنُ عُليَّة وعبدُ الوارِثِ ورواه عن كُلٍّ جماعة.

(1/200)


[تعريف الغريب] :
والرابع: الغريب: وهُو ما يتفرَّد بِروايَتِهِ شخصٌ واحِدٌ في أيِّ موضعٍ وَقَعَ التفردُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ.
على ما سنقسم إليه الغريب المطلق والغريب النسب.
وكُلُّها أي الأَقْسَامُ الأربعةُ المذكورةُ سِوى الأوَّلِ -وهو المُتواتِرُ- آحادٌ، ويُقالُ لكلٍّ منها خَبَرُ واحدٍ.

(1/200)


[تعريف الآحاد وأقسامها وحكمها]
[تعريفها] :
وَخَبَرُ الواحدِ في اللغة: ما يرويه شخصٌ واحدٌ.
وفي الاصطلاح: ما لم يَجْمَعْ شروطَ التواتر.

(1/200)


أقسام الآحاد من حيث القبول والردّ
...
[أقسامها من حيث القبول والردّ] :
وفيها، أي الآحاد:
أ - المَقْبولُ: وهو ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجمهور.
ب- وفيها المردود: وهو الذي لم يَرْجَحْ صِدْقُ المُخْبِرِ بِهِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ، وهو المُتَوَاتِرُ، فكلُّهُ مقبولٌ؛ لإفادته القطعَ بصدْقِ مُخْبِرِهِ، بخلاف غيره من أخبار الآحاد.

(1/201)


[صُورُ القبول والردّ وأساسهما] :
لكنْ إِنَّما وَجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها لأَنَّها إِمَّا:
1- أَنْ يُوْجَدَ فيها أصْلُ صِفَةِ القَبولِ، وهُو ثبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ.
2- أَوْ أصْلُ صِفَةِ الرَّدِّ، وهُو ثبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ.
3- أوْ لاَ.
فالأول: يَغْلبُ على الظن صدقُ الخَبَرِ؛ لِثُبوتِ صدقِ ناقِلِهِ؛ فيؤخذُ بِهِ.
والثاني: يَغْلبُ على الظن كذبُ الخَبَرِ؛ لثبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ؛ فَيُطْرَح.
والثَّالِثُ: إنْ وُجِدَتْ قرينةٌ تُلْحِقه بأحدِ القِسْمَيْنِ الْتَحق، وإلا فَيُتَوَقَّفُ فيه، فإذا تُوُقِّف عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لثبوتِ صفةِ الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ فيه صفةٌ توجب القبول، والله أعلم.

(1/201)


[حكم أخبار الآحاد] :
وقد يَقعُ فيها-أي في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى: مَشْهورٍ، وعَزيزٍ، وغَريبٍ- مَا يُفيدُ العلم النظريَّ بالقَرائِنِ عَلى المُختارِ، خِلافاً لِمَنْ أَبى ذلك. والخِلافُ في التَّحْقيقِ لفظيٌّ، لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إطلاقَ العلمِ قَيّده بِكونِهِ نَظَريّاً، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَن أَبَى الإطلاقَ خَصَّ لَفْظَ العلمِ بالمتواتر، وما عَدَاهُ عنده ظنيٌّ، لكنه، لا ينفي أنّ ما احْتَفَّ بالقرائن أرجحُ مما خلا عنها.

(1/201)


[أنواع الخبر المُحْتَفّ بالقرائن] :
والخبرُ المُحْتَفُّ بالقرائن أنواعٌ:
أ - مِنْها: مَا أَخْرَجَهُ الشيخانِ في صَحيحَيْهِما، ممَّا لم يبلغ التواتر، فإِنَّهُ احتفَّتْ بِهِ

(1/201)


قرائنُ، منها:
- جلالتهما في هذا الشأن.
- وتقدُّمهما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما.
- وتلقِّي العلماء لكتابيهما بالقَبُولِ، وهذا التلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العِلْم مِن مجردِ كثرةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التواتر.

(1/202)


[الشرط في تلقّي حديث الصحيحين بالقبول] :
إلا أنّ هذا:
1- يختصُّ بما لم ينتقدْه أحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ مِمَّا في الكِتابينِ.
2- وبِما لم يقع التّخالُفُ بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا وَقَعَ في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ؛ لاستحالةِ أَنْ يُفيدَ المتناقِضَان العلمَ بصِدْقِهِما من غيرِ ترجيحٍ لأحدِهِما على الآخرِ، وما عَدا ذلك فالإِجماعُ حاصلٌ على تَسْليمِ صحته.
فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وجوبِ العملِ به لا على صحته، منعناه، وسَنَدُ المنعِ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وُجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ، ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ؛ فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مزيةٌ، والإِجماعُ حاصلٌ على أنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجع إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ.
ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرّجه الشيخان العلمَ النظريَّ:
1- الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني.
2- ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ أَبو عبدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ.
3- وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما. ويُحْتمل أَنْ يُقالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كونُ أَحادِيثِهِما أصحَّ الصحيح.
ب- ومِنها: المَشْهورُ إِذا كانَتْ لهُ طرقٌ متباينةٌ سالمةٌ مِن ضَعْفِ الرُّواةِ والعِلَلِ، وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العلمَ النظريَّ الأستاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ، والأسْتاذُ أبو بكر بن فُوْرَك، وغيرهما.

(1/202)


جـ- ومِنها: المسَلْسَلُ بالأئمةِ الحفاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريباً، كالحَديثِ الَّذي يَرْويهِ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، مَثلاً، ويُشارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ويُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أَنسٍ، فإنه يفيد العلمَ عند سامعِهِ بالاستدلال مِن جهةِ جَلالةِ رواتِهِ وأنَّ فيهِمْ مِن الصفاتِ اللائقةِ الموجِبةِ للقبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِن غَيْرِهِم، ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ أَدْنَى ممارسةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ أَنَّ مالِكاً، مَثلاً، لو شافَهَهُ بخبرٍ أنه صادقٌ فيه، فإذا انضاف إليه مَن هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ ازْدَادَ قُوَّةً، وبَعُدَ ما يُخْشَى عليه مِن السهو.

(1/203)


[القرائن هذه إنما تفيد العلم بصدق الحديث عند المختصين] :
وهذه الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصل العلمُ بصدقِ الخبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحديثِ المتبحرِ فيهِ العارفِ بأحوالِ الرواةِ، المطَّلِعِ عَلى العِلَلِ. وكونُ غيرِهِ لا يَحْصلُ لهُ العلمُ بصدْقِ ذلك -لقصوره عن الأوصاف المذكورة التي ذكرناها- لا يَنفي حصولَ العلمِ للمتبحّر المذكور.
ومحصَّل الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها أنَّ:
الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ.
والثاني: بِما لَهُ طرقٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ.
ويُمْكن اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حديثٍ واحد، ولا يَبْعُدُ حينئذ القطعُ بصدقه، والله أعلم.

(1/203)


[أقسام الغريب]
ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ:
1- في أَصلِ السَّنَدِ: أي في الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طَرَفُهُ الذي فيه الصحابي.
2- أَوْ لاَ يَكونُ كَذلكَ، بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أثنائه، كأَنْ يرويَه عَنِ الصَّحابيِّ أكثرُ مِن واحدٍ، ثم ينْفَرِدَ بروايته عن واحدٍ منهم شخصٌ واحد.

(1/203)


[الفرد المطلق وأمثلته] :
فالأول: الفرد المطْلَق:
كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ، تفرَّد بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عمر، وقد يَنْفَرِدُ به راوٍ عن ذلك المنْفَرد، كحديث شُعَبِ الإيمان، تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ، وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواته أو أكثرهم. وفي مسند البزار والمعجم الأوسط للطبراني أمثلةٌ كثيرة لذلك.

(1/204)


[الغريب النسبي والفرق بينه وبين الفرد] :
والثاني: الفرد النسبيّ:
سُمِّيَ بذلك لكونِ التفرُّدِ فيهِ حَصَلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ مُعَيَّنٍ، وإن كان الحديث في نفسه مشهوراً، ويقِلُّ إطلاقُ الفردِيّةِ عليهِ، لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مترادفان لغةً واصطلاحاً، إلا أن أهلَ الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كثرةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُه، فالفردُ أَكْثَرُ ما يُطْلقونه على الفَرْدِ المُطْلَقِ، والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلقونه عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ، وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما، وأما مِن حيثُ استعمالُهم الفعل المشتق فلا يُفَرِّقون، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ تفرَّد بِهِ فُلانٌ، أو أغرب به فلان.

(1/204)


[الفرق بين المنقطع والمرسل]
وقريبٌ مِنْ هذا اختلافُهم في المنقطعِ والمرسَل هلْ هُما مُتغايِرانِ أَوْ لاَ؟ فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ، فيَقولونَ: أَرْسَلَهُ فلانٌ، سواءٌ كانَ ذلكَ مُرْسَلاً أم مُنْقَطِعاً، ومِن ثَمَّ أَطلق غيرُ واحدٍ مِمَّن لم يلاحِظ مواقعَ استعمالهم على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ والمُنْقَطِعِ، وليسَ كذلك؛ لِما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَنْ نَبَّه على النُّكتة في ذلك، والله أعلم.

(1/204)


[أقسام الخبر المقبول]
[الصحيح لذاته] :
وخبرُ الآحادِ: بنقلِ عدلٍ تامٍّ الضبطِ، متصلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّل ولا شاذٍّ هو الصحيحُ لِذاته.
وهذا أولُ تقسيمِ المقبول إِلى أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أنْ يشتملَ مِن صفاتِ القَبولِ على:
1- أَعْلاها. 2- أوْ لاَ.
الأول: الصحيحُ لذاته.
والثَّاني: إنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصور ككثرة الطرق، فهو الصحيح أَيضاً، لكنْ، لا لذاتِهِ.
3- وحيثُ لا جُبْرَانَ فهُو الحسنُ لذاتِهِ.
4- وإِنْ قامَتْ قرينةٌ ترجِّح جانبَ قبول ما يتوقف فيه فهو الحسن، أيضاً، لا لذاتِهِ.
وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعلو رتبته.

(1/205)


[العدالة]
والمراد بالعدل: مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُه على مُلازَمة التَّقوى والمُروءةِ. والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْك أو فسقٍ أو بدعةٍ.

(1/205)


[أقسام الضبط وتعريفها]
والضبط:
أ - ضبطُ صَدْرٍ: وهُو أَنْ يُثْبِت ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ من استحضاره متى شاء.
ب- وضبطُ كتابٍ: وهُو صِيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤَدِّيَ منهُ. وقُيِّدُ بالتام إشارةً إلى الرتبةِ العُليا في ذلك.

(1/205)


[تعريف الحديث المتصل] :
والمُتَّصِلُ: ما سَلِم إسنادُه مِنْ سقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كلٌّ مِنْ رِجاله سمعَ

(1/205)


ذلكَ المرويَّ مِن شيخِهِ. والسَّنَدُ تقدَّمَ تعريفُهُ.

(1/206)


[تعريف الحديث المعلل] :
والمُعَلَّل لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحاً: ما فيه عِلَّةٌ خَفَيّةٌ قادحةٌ.

(1/206)


[تعريف الحديث الشاذ] :
والشاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أرجحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخَرُ سيأتي.

(1/206)


تنبيه: [حول القيود في تعريف الصحيح لذاته] :
أ - قوله: وخبر الآحاد: كالجنس، وباقي قُيودِهِ كالفصل.
ب- وقولُهُ: بِنَقْلِ عَدْلٍ: احترازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ عَدْلٍ.
جـ- وقوله: هُو: يُسمى فَصْلاً يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإِ والخَبَرِ، يُؤْذِن بأَنَّ ما بَعْدَهُ خبرٌ عَمَّا قبله، وليس بنعتٍ له.
د- وقوله: لذاته: يُخرِج ما يُسمى صحيحاً بأمرٍ خارجٍ عنهُ، كما تقدم.

(1/206)


[تفاوت مراتب الصحيح لتفاوت أوصاف الرواة]
وتتفاوت رُتَبُه، أي الصحيح، بسببِ تفاوُتِ هذه الأوصاف المقتضيةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ، فإِنَّها لَمّا كانَتْ مُفيدةً لغلبةِ الظنِّ الَّذي عليهِ مدارُ الصِّحَّةِ = اقْتَضَتْ أنْ يكونَ لها درجاتٌ، بعضُها فَوْقَ بعضٍ، بحَسَبِ الأمورِ المقوِّية، وإِذا كانَ كذلك فما تكون رُوَاتُه في الدَّرجةِ العُليا مِن: العدالَةِ، والضَّبْطِ، وسائر الصفات التي توجب الترجيح = كان أصحَّ مما دونَه.
فَمِن الرتبة العُلْيا في ذلك: ما أَطلق عليهِ بعضُ الأئمة أنه أصح الأسانيد.

(1/206)


[مراتب أصح الأسانيد وأمثلته] :
أ - كالزُّهْرِي، عن سالمٍ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عن أَبيهِ.
وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ، عن عَبِيدَةَ بن عمرو، عن علي.
وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ.

(1/206)


ب- ودُونَها في الرُّتبةِ:
كرِوايةِ بُرَيْد بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عن جَدِّه، عن أبيه، أبي موسى.
وكحماد بن سَلَمَة، عن ثابتٍ، عن أنس.
جـ- ودُونَها في الرُّتْبَةِ:
كسُهَيل بنِ أَبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن، عن أَبيهِ، عن أبي هريرة.
فإن الجميع شَمَلَهم اسم "العدالة والضبط"، إلا أن المرتبة الأولى فيهم مِن الصِّفاتِ المرجِّحة ما يقتَضي تقديمَ رِوَايَتِهم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِن قوّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقدِيْمَهَا على الثالثة، وهي -أي الثالثة- مقدَّمةٌ على روايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ به حَسَناً:
كمحمَّد بنِ إِسحاقَ، عن عاصمِ بنِ عمر، عن جابر.
وعَمْرو بنِ شُعَيب، عنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
وقِسْ على هذه المراتب ما يَشبهُها.
والمرتبةُ الأُولى هِيَ الَّتي أَطلقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أصحُّ الأسانيدِ.
والمعتَمدُ عدمُ الإطلاَقَ لترجمةٍ معيَّنةٍ منها.
نعمْ يُسْتَفَاد مِن مجْموع ما أَطْلَق عليه الأئمة ذلك أَرْجَحِيَّتُهُ على ما لم يُطلقوه.
ويَلْتحِقُ بهذا التفاضلِ ما اتَّفَقَ الشيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كتابيهما بالقبول، واختلافُ بعضهم في أيهما أرجحُ. فما اتَّفقا عليهِ أرجحُ مِنْ هذهِ الحيثيَّةِ مما لم يتفقا عليه.

(1/207)


[المفاضلة بين الصحيحين]
وقد صَرَّح الجمهورُ بتقديمِ صحيحِ البُخَارِيّ في الصحة، ولم يُوجَد عنْ أحدٍ التصريحُ بنقيضِهِ.
وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ، أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أَديمِ السماءِ أصحُّ مِن كتابِ مسلمٍ، فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أصحَّ مِن صحيحِ البُخَارِيِّ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابٍ مسلمٍ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تقتضيه صيغةُ "أَفْعَلَ"، من زيادةِ صحةٍ في كتابٍ شاركَ كتابَ مسلمٍ في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المساواةَ.
وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أنه فَضّلَ صحيحَ مسلمٍ على صحيحِ البُخَارِيّ فذلكَ فيما يَرْجعُ إِلى حُسْن السياقِ، وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ، ولم يُفْصِحْ أحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجعٌ إِلى الأصَحِّيَّة، ولو أَفْصَحوا به لردَّه عليهِمْ شاهدُ الوُجودِ.
فالصفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصحةُ في كتابِ البُخَارِيِّ أتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأشدّ، وشَرْطُهُ فيها أقوى وأسدّ.
أَمَّا رُجْحانه مِن حيثُ الاتصالُ: فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكون الراوي قد ثبت له لِقَاءُ مَنْ روى عنهُ، ولو مَرَّةً، واكْتَفى مسلمٌ بمطْلَقِ المُعاصَرَةِ.
وأَلزم البخاريَّ بأَنَّهُ يَحتاج أَنْ لا يَقبَل العنعنةَ أَصلاً، وما أَلْزَمَهُ به ليس بلازمٍ؛ لأن الراوي إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً لا يجْري في رواياته احتمالُ أن لا يكون سَمِع؛ لأنَّهُ يَلْزم مِن جَرَيَانِهِ أَنْ يكونَ مدلِّساً، والمسألة مفروضة في غير المدلِّس.
وأَمَّا رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ: فلأنَّ الرجالَ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ مسلمٍ أكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِنْ رجالِ البُخَارِيّ، معَ أَنَّ البخاريَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالبُهم مِن شيوخِهِ الذينَ أَخذ عنهُم، ومَارَسَ حَديثَهُم، بخلافِ مسلمٍ في الأمْرَينِ.
وأَمَّا رُجحانُه مِن حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ: فلأن ما انْتُقِدَ على البُخَارِيّ مِن الأحاديثِ أقلُّ عدداً مِمَّا انْتَقِدَ على مسلمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلم في العُلومِ، وأعرفَ بصناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ ولم يَزَلْ يستفيدُ منه ويَتَّبع آثارَه، حتَّى لقد قالَ الدارقطنيُّ: "لولا البخاريُّ لما راحَ مسلمٌ ولا جاء".

(1/208)


[مراتب الصحيح بحسب مصدره]
ومِن ثَمَّ، أَيْ: ومِن هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شرْط البُخَارِيّ على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البُخارِيّ على غيرِه من الكُتُبِ المصنَّفة في الحديثِ.
ثم صحيحُ مسلمٍ، لمُشارَكَتِه للبُخَارِيّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تلقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ، أَيضاً، سِوى ما عُلِّل.
ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ، مِن حيثُ الأَصَحِّيَّةُ، ما وافقَه شَرْطُهُما؛ لأن المراد به رواتهما معَ باقي شروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهُما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهُمْ مقدَّمون على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ.
فإِنْ كانَ الخبرُ على شرطهما معاً كان دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثلَه.
وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البُخَارِيّ وحدَه على شرطِ مسلمٍ وحْدَهُ تَبَعاً لأصلِ كلٍّ منهما.
فخرج لنا مِن هذا ستةُ أقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصحة.
وثَمّ قِسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً، وهذا التفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إلى الحيثية المذكورة.
[قد يُقَدَّمَ الأدنَى على ما فَوقَه لأمور خارجية] :
أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه بأمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ؛ إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفُوقِ مَا يَجْعله فائقاً.
كما لو كان الحديثُ عندَ مسلمٍ، مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ، حَفَّتْه قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّم على الحديثِ الذي يُخرجُه البُخَارِيّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً.
وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يخرِّجاه مِن ترجمةٍ وُصِفت بكونِها أصحَّ

(1/209)


[مراتب الصحيح بحسب مصدره]
ومِن ثَمَّ، أَيْ: ومِن هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شرْط البُخَارِيّ على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البُخارِيّ على غيرِه من الكُتُبِ المصنَّفة في الحديثِ.
ثم صحيحُ مسلمٍ، لمُشارَكَتِه للبُخَارِيّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تلقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ، أَيضاً، سِوى ما عُلِّل.
ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ، مِن حيثُ الأَصَحِّيَّةُ، ما وافقَه شَرْطُهُما؛ لأن المراد به رواتهما معَ باقي شروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهُما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهُمْ مقدَّمون على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ.
فإِنْ كانَ الخبرُ على شرطهما معاً كان دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثلَه.
وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البُخَارِيّ وحدَه على شرطِ مسلمٍ وحْدَهُ تَبَعاً لأصلِ كلٍّ منهما.
فخرج لنا مِن هذا ستةُ أقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصحة.
وثَمّ قِسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً، وهذا التفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إلى الحيثية المذكورة.

(1/209)


[قد يُقَدَّمَ الأدنَى على ما فَوقَه لأمور خارجية] :
أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه بأمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ؛ إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفُوقِ مَا يَجْعله فائقاً.
كما لو كان الحديثُ عندَ مسلمٍ، مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ، حَفَّتْه قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّم على الحديثِ الذي يُخرجُه البُخَارِيّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً.
وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يخرِّجاه مِن ترجمةٍ وُصِفت بكونِها أصحَّ

(1/209)


الأسانيدِ، كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ، فإِنه يُقدَّم على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما، مثلاً، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَنْ فيه مقال.

(1/210)


[الحسن لذاته]
فإنْ خَفَّ الضبطُ، أي قَلَّ -يُقال: خَفَّ القومُ خُفوفاً: قَلُّوا- والمُرادُ معَ بقيَّةِ الشُّروطِ المُتقدِّمَةِ في حدِّ الصَّحيحِ = فهُو الحسنُ لذاتِهِ، لا لشيء خارجٍ، وهو الذي يكون حُسْنُه بسببِ الاعتضاد، نحو حديثُ المستُور إِذا تعَدَّدَتْ طُرُقُه. وخَرَج باشتراطِ باقي الأوْصافِ الضعيفُ.
وهذا القِسمُ مِنَ الْحَسَنِ مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به، وإِنْ كان دُونَهُ، ومشابِهٌ لهُ في انْقِسامِه إِلى مراتبَ بعضُها فوقَ بعض.

(1/210)


[الصحيح لغيره]
وبكثرة طُرُقِه يُصَحَّحُ، وإنما نحكم لهُ بالصِّحَّةِ عندَ تعدُّدِ الطُّرُقِ، لأنَّ للصُّورةِ المجموعة قوّةً تَجْبرُ القدر الذي قَصُرَ به ضبط راوِي الحَسَنِ عن راوي الصحيحِ، ومِن ثَمَّ تُطْلَقُ الصحةُ على الإِسنادِ الَّذي يكونُ حسناً لذاتِه -لو تفرَّدَ- إِذا تَعَدَّدَ.
وهذا حيثُ ينفردُ الوصف.

(1/210)


[معنى قولهم: "حديث حسنٌ صحيحٌ"] :
فإِنْ جُمِعا، أي الصحيحُ والحسنُ، في وصفٍ واحدٍ، كقولِ التِّرمذيِّ وغيرِه: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، فللتَّرَدُّدِ الحاصلِ مِن المُجتهدِ في النَّاقِلِ: هل اجتمعتْ فيهِ شُروطُ الصِّحَّةِ أَو قَصُرَ عَنْها، وهذا حَيْثُ يَحْصل منهُ التَّفرُّدُ بتلكَ الرِّوايةِ.
وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بينَ الوصفينِ؛ فقالَ: الحَسَنُ قاصرٌ عنِ الصحيحِ؛ ففي الجمعِ بينَ الوَصفَيْنِ إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ!.
ومُحَصَّل الجواب: أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حالِ ناقلِهِ اقْتَضى للمُجتهدِ أَنْ لا يصفه بأحدِ الوصفين، فيُقال فيهِ: حَسَنٌ باعتبارِ وصْفِهِ عندَ قومٍ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيهِ أَنَّه حُذِف منهُ حرفُ التردُّدِ؛ لأنَّ حقَّهُ أَنْ يقولَ:

(1/210)


"حسنٌ أَو صحيحٌ"، وهذا كما حُذِفَ حَرْفَ العطف مِن الذي بَعْدَهُ.
وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ" دونَ ما قيلَ فيهِ صحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أقوى مِن التردد، وهذا حيث التفرد.
وإلا إِذا لم يَحْصُلِ التَّفرُّدُ فإِطلاقُ الوَصفَيْنِ معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين: أحدُهما صحيحٌ، والآخر حسنٌ.
وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حَسَنٌ صحيحٌ" فوقَ ما قيلَ فيهِ: "صحيحٌ" فقطْ
-إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي.

(1/211)


[الحسن عند الترمذي]
فإن قيل: قد صرَّح التِّرمِذيُّ بأنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أَنْ يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ؛ فكيفَ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ غَريبٌ، لا نعرِفُه إِلاَّ مِن هذا الوجه"؟ ...
فالجواب: أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منهُ وَقَعَ في كتابِه، وهُو ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ"، مِن غيرِ صفةٍ أُخرى؛ وذلك أَنَّهُ:
يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ".
وفي بعضِها: "صحيحٌ". وفي بعضِها: "غريبٌ".
وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ". وفي بعضِها: "حسنٌ غريبٌ".
وفي بعضها: "صحيحٌ غريبٌ". وفي بعضها: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ".
وتعريفه إنما وقعَ على الأوَّلِ فقطْ، وعبارتُه تُرْشِدُ إِلى ذلك؛ حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: وما قُلْنا في كتابِنا: "حديثٌ حَسَنٌ"، فإِنَّما أَرَدْنا به حُسْنَ إسناده عندنا: كُلُّ حديثٍ يُرْوَى، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ، ويُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك، ولا يكونُ شاذّاً = فهو عندنا حديثٌ حسنٌ.
فَعُرِفَ بهذا أَنَّهُ إِنَّما عَرَّفَ الَّذي يقولُ فيه: "حسنٌ"، فقطْ، أَمَّا ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ"، أو: "حسنٌ غريبٌ"، أو: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"، فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقولُ فيهِ: "صحيحٌ"، فقط، أو: "غريبٌ"،

(1/211)


فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً، لِشُهْرَتِه عندَ أَهلِ الفنِّ. واقْتصرَ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ في كتابهِ: "حسنٌ"، فقط؛ إِمَّا لغموضه، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله: عندنا، ولم ينسِبْه إِلى أَهلِ الحديثِ كما فعل الخَطَّابيُّ.
وبهذا التَّقريرِ يندفعُ كثيرٌ مِن الإِيراداتِ التي طالَ البحثُ فيها، ولمْ يُسْفِر وجْهُ توجيهِها، فللهِ الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم.

(1/212)


زيادة الثقة وأقسامها
أقسامها
...
[زيادة الثقة وأقسامها]
وزيادةُ راويهِما، أَيْ: الصَّحيحِ والحَسنِ، مقبولةٌ، مَا لمْ تَقَع مُنافِيَةً لروايةِ مَنْ هُو أَوْثَقُ ممَّن لم يَذْكر تلك الزِّيادةِ؛ لأنَّ الزِّيادةَ:
1- إِمَّا أَنْ تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يرويه عن شيخه غيرُه.
2- وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً، بحيثُ يَلْزم من قبولها ردُّ الرواية الأخرى؛ فهذه التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ مُعارِضها؛ فَيُقْبَلُ الراجحُ ويُرَدُّ المرجُوحُ.
واشْتُهِرَ عَنْ جمعٍ مِن العُلماءِ القولُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً، مِن غيرِ تفصيلٍ، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً، ثمَّ يُفسِّرون الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أوثقُ منهُ.
والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفل ذلك منهُم، معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انتفاءِ الشُّذوذِ في حدِّ الحديثِ الصَّحيحِ، وكذا الحسن!.

(1/212)


[رأيُ الأئمةِ في قبول الزيادة المنافية لرواية الأوثق] :
والمنقولُ عن أئمة الحديث المتقدمين: كعبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدي، ويحيى القطانِ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المدِيني، والبُخَارِيّ، وأبي زُرْعَة، وأَبي حاتمٍ، والنَّسائيِّ، والدَّارقطنيِّ، وغيرِهم، اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ منهُم إطلاقُ قبولِ الزيادةِ.
وأَعْجَبُ مِن ذلك إطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القولَ بقبولِ زيادةِ الثِّقةِ، معَ أَنَّ

(1/212)


نَصَّ الشافعي يدل على غير ذلك، فإنه قال -في أثناء كلامه على ما يَعْتَبَرُ بهِ حالُ الرَّاوي في الضبط ما نصه-: ويكونَ إذا شَرِكَ أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يخالِفْه، فإنْ خالَفَهُ فَوُجِد حديثُه أَنقصَ كانَ في ذلك دليلٌ على صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ. ومتى خالَفَ ما وَصفتُ أضَرّ ذلك بحديثه، انتهى كلامه، ومُقتَضاهُ أَنَّهُ إِذا خَالَفَ فوُجِد حديثُهُ أَزْيَدَ أَضرَّ ذلك بحديثِه، فدلَّ على أَنَّ زيادةَ العَدْلِ عندَه لا يلزَمُ قَبولُها مُطْلقاً، وإِنَّما تُقبَلُ من الحفاظ، فإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يكونَ حديثُ هذا المُخالِفِ أنقصَ مِن حديثِ مَنْ خَالفه مِنَ الحُفّاظ، وجَعَلَ نقصانَ هذا الرَّاوي مِن الحديثِ دليلاً على صحته؛ لأنه يَدُلُّ على تَحَرِّيهِ، وجَعَلَ ما عَدا ذلك مُضِرّاً بحديثِه؛ فدخلتْ فيهِ الزِّيادةُ؛ فلو كانتْ عندَه مقبولةً مُطْلقاً لم تكنْ مضِرّةً بحديثِ صاحبها.

(1/213)


[المحفوظ والشاذ]
فإن خولف بأرجحَ منهُ: لِمَزِيد ضبطٍ، أَوْ كثرةِ عددٍ، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: "المَحْفوظُ".
ومقابِلُهُ، وهو المرجوحُ، يُقالُ لهُ: "الشَّاذُّ".
مثالُ ذلك: ما رواهُ الترمذي، والنسائيّ، وابنُ ماجَة، مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ، عن عَمْرو بن دينار، عن عَوْسَجَةَ، عن ابن عباس: "أن رجلاً تُوُفِّيَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أعتقه ... "، الحديث، وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُرَيْجٍ وغيرُهُ، وخالفَهُم حمادُ بنُ زيدٍ؛ فرواهُ عَنْ عَمْرو بنِ دينارٍ، عَن عوسجةَ. ولم يَذْكر ابنَ عباسٍ. قال أبو حاتمٍ: المحفوظُ حديثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ. انتهى.
فحمادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك، رَجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَنْ هم أكثرُ عدداً منهُ.
وعُرِفَ مِن هذا التقريرِ أَنَّ الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَولى مِنهُ، وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريف الشاذ، بحسَبِ الاصطلاح.

(1/213)


المعروف والمنكر
تعريفه
...
[المعروف والمنكر]
وإنْ وقَعَتِ المخالفة معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: "المَعْروفُ"، ومقابلُهُ يقال له: "المنكَر".
مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حُبَيِّبٍ -وهو أَخو حَمزَةَ بنِ حُبَيِّبٍ الزَّيَّاتِ المقْرئ- عن أَبي إسحاقَ عَن العَيْزَار بنِ حُرَيْثٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم قالَ: "مَن أَقامَ الصَّلاةَ، وآتى الزَّكاةَ، وحَجَّ، وصامَ، وقَرَى الضيفَ = دَخَلَ الجنَّةَ".
قالَ أَبو حاتم: هو منكرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أبي إسحاقَ موقوفاً وهو المعروف.

(1/214)


[الفرقُ بين الشّاذ والمنكر] :
وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ عُموماً وخُصوصاً مِن وجهٍ؛ لأنَّ بينَهُما اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافتراقاً في أن الشاذَّ روايةُ ثقةٍ، أَوْ صَدُوْقٍ، والمنكَر روايةُ ضعيفٍ. وقد غَفَلَ مَنْ سَوّى بينَهُما، واللهُ تعالى أعلم.

(1/214)


المتابعة
أقسامها
...
[المتابعة]
وَما تقدَّم ذِكْره مِن الفَرْدِ النِّسبي، إِنْ وُجِد -بعدَ ظَنِّ كونِه فَرْداً- قد وافَقَهُ غيرُهُ فهو المتابِع بكسر الموحَّدة.
والمتابَعَةُ على مراتبَ:
- إِنْ حَصَلَتْ للرَّاوي نفْسِهِ فهِي التَّامَّةُ.
- وإِنْ حَصَلَتْ لشيخِهِ فَمَنْ فوقَهُ فهِيَ القاصِرةُ.
ويُستفادُ منها التقويةُ.

(1/214)


[أمثلة المتابعة التامة والقاصرة] :
مثال المتابعةِ: ما رواهُ الشَّافعيُّ في "الأمِّ"، عن مالِكٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمر، أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى

(1/214)


تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين".
فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعدَّوْهُ في غرائِبِه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسنادِ بلفظِ: "فإن غُمَّ علَيْكُم فاقْدُرُوا له". لكنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ متابِعاً، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، كذلك أَخرجَهُ البُخَارِيّ عنهُ، عن مالك، وهذه متابَعَةٌ تامة.
ووَجَدْنا لهُ، أَيضاً، متابَعَةً قاصِرَةً في صحيحِ ابنِ خُزَيمَةَ مِن روايةِ عاصمِ بنِ محمدٍ، عن أبيه -محمد بن زيدٍ- عن جدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، بلفظِ: "فكملوا ثلاثين"، وفي صحيح مسلم مِن روايةِ عُبَيْد اللهِ بنِ عُمَر، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، بلفظِ: "فاقْدُرُوا ثلاثينَ".
ولا اقْتِصارَ في هذه المُتَابَعَةِ -سواءٌ كانتْ تامَّةً أمْ قاصِرة- على اللَّفْظِ، بل لو جاءت بالمعنى كفى، لكنَّها مختصةٌ بكونِها مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ.

(1/215)


[الشاهد ومثاله]
وإنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُرْوَى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يَشْبَهُهُ في اللَّفظِ والمعنى، أَو في المعنى فقطْ = فهُو "الشَّاهِدُ".
ومثالُه في الحديثِ الَّذي قدَّمناهُ: ما رواهُ النَّسائيُّ مِن روايةِ محمد بن حُنَين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ فذَكَرَ مثلَ حديثِ عبد اللهِ بنِ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ سَواءٌ، فهذا باللَّفظِ.
وأَمَّا بالمَعْنى فهو ما رواهُ البُخَارِيّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ، عن أَبي هُريرةَ، بلفظِ: "فإن غُمِّيَ عليكم فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شعْبانَ ثلاثين".
وخَصَّ قومٌ المتابعةَ بما حَصَلَ باللَّفظِ، سواءٌ كانَ مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ أَم لا، والشاهدَ بما حصلَ بالمَعنى كذلك.
وقد تُطْلَقُ المتابعةُ على الشاهدِ، وبالعكسِ، والأمرُ فيهِ سهلٌ.

(1/215)


[الاعتبار]
واعْلم أَنَّ تَتَبُّعَ الطُرُقِ: مِن الجوامعِ، والمسانيدِ، والأَجْزَاءِ، لذلك الحديثِ الذي يُظَنُّ أَنَّه فَرْدٌ؛ ليُعْلَمَ: هل لهُ متابِعٌ أَم لا؟ هُو "الاعتبارُ".
وقولُ ابن الصلاح: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد قد يُوهِم أَنَّ الاعتبارَ قَسِيمٌ لهُما، وليسَ كذلك، بل هُو هيئةُ التوصُّلِ إِليهِما.
وجَميعُ ما تقدم من أقسام المقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مراتبه عند المعارضة، والله أعلم.

(1/216)


[المُحْكَم]
ثمَّ المقبولُ: ينقسِمُ، أَيضاً، إلى معمولٍ بهِ وغيرِ معمولٍ بهِ؛ لأنَّهُ إنْ سَلِم مِنَ المُعارَضَةِ، أَيْ: لم يأتِ خَبَرٌ يُضَادُّهُ، فهُوَ "المُحْكم"، وأَمثلتُه كثيرةٌ.
وإنْ عُورِضَ فلا يَخْلو: إما أنْ يكونَ مُعارِضُه مقبولاً مثلَه، أَو يكونَ مَردوداً.
فالثَّاني لا أثر له لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفةُ الضعيف.

(1/216)


مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر
تعريفه ومثاله
...
[مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر]
وإن كانت المعارضة بمثله؛ فلا يَخْلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بين مدلولَيْهِما بغيرِ تعسُّفٍ، أو لا، فإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو النَّوعُ المسمَّى: مختَلِفَ الحديث.
ومَثَّلَ لهُ ابنُ الصَّلاحِ بحديثِ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ"، مع حديثِ: "فِرَّ مِنَ المَجْذُوم فِرارَكَ مِنَ الأسَدِ" وكلاهُما في الصَّحيحِ وظاهِرُهما التَّعارُضُ.
ووجْه الجمعِ بينَهُما: أَنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدِي بطبعها، لكنّ الله سبحانه وتعالى جعلَ مخالَطَةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سبباً لإعدائِهِ مَرَضَه، ثمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سبَبِه كما في غيرِهِ من الأسبابِ. كذا جَمَعَ بينَهما ابنُ الصَّلاحِ، تَبَعاً لغيرِه.
والأَولى في الجمع أنْ يُقال: إنَّ نَفْيَه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للعَْدوى باقٍ على عُمومه، وقد صحَّ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "لا يُعْدِي شيءٌ شَيئا"ً، وقولُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ لِمَن عارَضَهُ بأَنَّ البعيرَ الأجربَ يكونُ في الإِبلِ الصَّحيحةِ فيخالِطها فتَجْربُ، حيثُ رَدَّ عليهِ بقولِه: "فَمَنْ أَعْدَى

(1/216)


الأول؟! ". يعني أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ بذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول.
وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمِن بابِ سدِّ الذَّرائعِ، لئلاَّ يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يخالِطه شيءٌ من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً، لا بالعَدْوى المَنْفِيَّة؛ فَيَظُنّ أَنَّ ذلك بسببِ مُخالطتِه؛ فَيَعْتَقِدَ صحةَ العدْوى؛ فيقعَ في الحرجِ؛ فأَمر بتجنُّبِه حَسْماً للمادَّةِ. والله أعلم.

(1/217)


[الكتب المؤلفة في مختلف الحديث] :
وقد صَنَّفَ في هذا النوع الشافعيُّ كتابَ "اختِلافِ الحديثِ"، لكنَّهُ لم يَقْصِدِ استيعابه، وصَنَّفَ فيهِ بعدَهُ ابنُ قُتَيْبَةَ، والطّحاوِيُّ، وَغَيْرُهما.
وإِنْ لم يُمْكن الجمع فلا يخْلو: إِمَّا أَنْ يُعْرَف التَّاريخُ، أوْ لاَ، فإنْ عُرِفَ وثَبَتَ المُتَأَخِّرُ -بهِ، أَو بأَصرحَ منه- فهو الناسخ، والآخَرُ المنسوخ.

(1/217)


النسخ وعلاماته
تعريفه وعلاماته
...
[النسخ وعلاماته]
والنسخُ: رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخرٍ عنه.
والناسخ: ما دل على الرفع المذكور.
وتسميته ناسخاً مجاز؛ لأنَّ النَّاسخَ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى.
ويُعْرَفُ النسخُ بأُمورٍ:
1- أصْرَحُها ما ورَدَ في النَّصِّ، كحديثِ بُرَيْدَة في صحيحِ مسلمٍ: "كنتُ نَهيتُكم عن زيارة القبورِ، فَزُورُوها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة".
2- ومِنها ما يَجْزِمُ الصَّحابيُّ بأَنَّه متَأَخِّرٌ، كقولِ جابرٍ: كانَ آخرُ الأَمْرين مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: "تركَ الوضوءِ ممّا مَسَّتِ النَّار" ُ، أَخرَجَهُ أَصحابُ السُّننِ.
3- ومِنْها ما يُعْرَفُ بالتَّاريخِ، وهُو كَثيرٌ.
- وليسَ مِنْها مَا يَرويهِ الصَّحابيُّ المتأخر الإسلام معارِضاً لمتقدمٍ عنه؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ سَمِعه مِن صحابيٍّ آخَرَ أقْدَمَ من المتقدم المذكور، أو مِثْلِه فأَرْسَلَهُ، لكنْ إِنْ وَقَعَ التَّصريحُ بسماعِه لهُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيتَّجِهُ أَنْ يكونَ ناسِخاً،

(1/217)


بشرطِ أنْ يكونَ لم يتحملْ عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ شَيْئاً قبلَ إِسلامِهِ.
وأَمَّا الإِجماعُ فليسَ بناسخٍ، بل يَدُلّ على ذلكَ.
وإِنْ لمْ يُعْرَف التاريخُ فلا يخلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ترجيحُ أَحدِهِما على الآخَرِ، بوجهٍ مِن وجوهِ التَّرجيحِ المُتعلِّقَةِ بالمتْنِ، أَو بالإِسنادِ، أوْ لاَ.
فإنْ أَمكن الترجيحُ تَعَيَّن المصيرُ إِليهِ، وإِلاَّ فلا.
فصارَ ما ظاهِرُهُ التَّعارُضُ واقِعاً على هذا التَّرتيبِ:
1- الجَمْعُ إِنْ أَمكَنَ.
2- فاعْتبارُ النَّاسِخِ والمَنْسوخِ.
3- فالتَّرْجيحُ إنْ تَعَيّن.
4- ثمَّ التوقُّفُ عنِ العَمَلِ بأَحَدِ الحديثين. والتَّعبيرُ بالتوقُّفِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأَنَّ خفاءَ ترجيحِ أحدِهما على الآخَرِ إِنَّما هُو بالنسبة لِلمُعْتَبِرِ في الحالةِ الرَّاهنةِ، معَ احتمالِ أَنْ يَظْهر لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ. واللهُ أعلمُ.

(1/218)


المردود وأقسامه
موجب الرد
...
[المردود وأقسامه]
ثم المردود:
ومُوجِبُ الردِّ: إِمَّا أَنْ يكونَ لسقطٍ مِن إسنادٍ، أو طعنٍ في راوٍ، على اختلافِ وُجوهِ الطَّعْنِ،، أعمُ مِن أَنْ يكونَ لأمرٍ يرجِعُ إِلى ديانةِ الراوي، أو إلى ضبطه.

(1/218)


[المردود للسقط]
فالسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ:
1- مِن مَبادئ السَّنَدِ مِن تَصَرُّفِ مُصَنِّفٍ.
2- أو مِن آخِرِهِ، أي الإِسنادِ، بعدَ التَّابعيِّ.
3- أو غير ذلك.

(1/218)


[المُعَلّق]
فالأول: المُعَلَّق، سواءٌ كان الساقطُ واحداً، أم أكثر.

(1/218)


[الفرق بين المعلق والمعضل] :
وَبَيْنَهُ وبين المُعْضَل، الآتي ذكْره، عمُومٌ وخصوصٌ مِن وجهٍ: فَمِن حيث تعريفُ المُعْضَل بأنه: سقط منهُ اثنانِ فصاعِداً؛ يجتَمِعُ معَ بعضِ صورِ المُعَلَّق، ومِن حيثُ تَقْييدُ المُعَلَّق بأَنَّه مِن تَصرُّف مصنِّفٍ مِن مبادئِ السَّنَدِ يَفْترقُ منهُ؛ إذ هو أعمُّ من ذلك.
ومِن صُوَرِ المُعَلَّق: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّندِ ويُقالَ مثلاً: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم.
ومنها: أن يَحْذِفَ إلا الصحابي، أو إلا التابعي والصحابي معاً.
ومنها: أَنْ يَحْذِفَ مَنْ حَدَّثَه، ويُضِيفَه إلى مَن هو فَوْقه.
فإِنْ كانَ مَنْ فوقَه شيخاً لذلك المصنِّف فقد اخْتُلِفَ فِيْهِ: هل يُسَمّى تعليقاً، أَوْ لاَ؟، والصَّحيحُ في هذا التفصيلُ: فإِنْ عُرِفَ بالنص أو الاستقراء أنَّ فاعلَ ذلك مُدَلِّسٌ قُضِيَ بهِ، وإِلاَّ فتعليقٌ.
وإِنَّما ذُكِرَ التَّعليقُ في قِسْمِ المردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ.

(1/219)


[قد يكون المعلقُ صحيحاً] :
وقد يُحْكَمُ بصحَّتِهِ إنْ عُرِفَ، بأَنْ يجيءَ مُسَمّىً مِن وجهٍ آخَرَ.
فإِنْ قالَ: جميعُ مَن أَحْذِفُهُ ثِقَاتٌ، جاءتْ مَسْأَلَةُ التَّعديلِ على الإِبهامِ، والجمهور: لا يُقْبَلُ حتَّى يُسَمَّى.
لكنْ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ هنا: إِنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ اُلْتُزِمَتْ صِحَّتُه، كالبُخَارِيّ، فما أتَى فيه بالجَزْمِ دلَّ على أَنَّه ثَبتَ إسنادُه عِندَه، وإِنَّما حُذِفَ لغرضٍ مِنَ الأَغْراضِ، ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ ففيهِ مقالٌ، وقد أوضَحْتُ أمثلةَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاح.

(1/219)


[المُرْسَل ومثاله]
والثَّاني: وهو ما سَقَطَ مِن آخِرِهِ مَنْ بَعد التابعي، هو "المرسل".
وصورتُهُ: أَنْ يقولَ التابعيُّ -سواءٌ كانَ كبيراً أم صغيراً-: قالَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلم

(1/219)


كذا، أو فعَلَ كذا، أو فُعِلَ بحضرتِه كذا، ونحو ذلك.
وإنما ذُكِرَ في قِسْم المردود للجهل بحالِ المحذوفِ؛ لأَنَّه يُحتمل أَنْ يكونَ صحابيّاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ تابعيّاً.
وعلى الثَّاني يُحتمل أَنْ يكونَ ضَعيفاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ ثقةً، وعلى الثَّاني يُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن صحابيٍّ، ويُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن تابعيٍّ آخَرَ، وعلى الثَّاني فيعودُ الاحتمالُ السابقُ، ويَتعدد. أَمَّا بالتَّجويزِ العقليِّ فإِلى ما لا نهايةَ لهُ، وأَمَّا بالاستقراءِ فإِلى ستةٍ أَو سبعةٍ، وهو أكثرُ ما وُجِدَ مِن روايةِ بعضِ التابعين عن بعض.

(1/220)


[حكم المرسل] :
فإنْ عُرِفَ مِن عادةِ التَّابعيِّ أَنَّه لا يُرْسِل إلا عن ثقةٍ، فذهب جمهور المحُدِّثينَ إِلى التوقُّفِ؛ لبقاءِ الاحتمالِ، وهُو أحَدُ قَوْلَي أَحمدَ، وثانيهِما- وهُو قولُ المالكيِّين والكوفيِّينَ-: يُقْبَلُ مطلقاً، وقال الشافعي: يُقْبَلُ إِنِ اعْتَضَد بمجيئِهِ مِن وجهٍ آخرَ يُبايِنُ الطريقَ الأُولى، مسنَداً أو مرسَلاً، لِيَرْجَحَ احتمالُ كونِ المحذوفِ ثقةً في نفسِ الأمرِ.
ونَقل أَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ، وأبو الوليدِ الباجِيُّ مِن المالِكيَّةِ: أَنَّ الرَّاويَ إِذا كانَ يُرْسِل عنِ الثِّقاتِ وغيرِهم لا يُقْبَلُ مُرْسَلُه اتّفاقاً.

(1/220)


والقِسْمُ الثَّالِثُ مِن أَقسامِ السَّقْطِ مِن الإِسنادِ:
[المعضل]
إِنْ كانَ باثنَيْنِ فصاعِداً، مَعَ التَّوالي، فهو "المُعْضَل".

(1/220)


[المنقطع]
وإلا، فإنْ كان الساقط باثنين غير متواليين، في موضعين مثلاً، فهُو المُنْقَطِعُ، وكذا إِنْ سَقَط واحدٌ، فقط، أو أكثر من اثنين، لكن، يُشْتَرَطُ عدم التوالي.

(1/220)


[أقسام السقط]
ثمَّ إِنَّ السَّقْط مِن الإِسنادِ قدْ:
1- يكونُ واضحاً يَحْصل الاشتراك في معرفَتِه، ككَوْنِ الرَّاوي، مثلاً، لم يعاصِرْ مَنْ رَوى عنهُ.
2- أَوْ يكونُ خَفِيّاً فلا يُدْرِكه إِلاَّ الأئمَّةُ الْحُذّاقُ المطَّلِعون على طرقِ الحديث وعِلل الأسانيدِ.
فالأَوَّلُ: وهُو الواضحُ، يُدْرَكُ بعَدمِ التَّلاقي بينَ الرَّاوِي وشيخِه، بكونِه لمْ يُدْرِكْ عَصْرَه، أو أدركه لكن، لم يجْتَمِعا، وليستْ لهُ منهُ إجازةٌ، ولا وِجَادة.
ومِنْ ثَم، احْتِيْجَ إِلى التَّاريخِ؛ لِتَضَمُّنِهِ تحريرَ مواليدِ الرواةِ ووفِيّاتِهم، وأوقاتِ طَلَبِهِم وارْتِحالِهم.
وقد افْتَضَح أقوامٌ ادَّعَوْا الرِّوايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتاريخ كذِبُ دعواهم.

(1/221)


[المُدَلَّس]
والقِسْم الثَّانِي: وهو الخَفِيُّ: المُدَلَّس -بفتحِ اللاَّمِ- سُمِّيَ بذلك لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَنْ حَدَّثَهُ، وأَوْهَمَ سماعَه للحَديثِ ممَّنْ لم يحدِّثْه بهِ.
واشتقاقُه مِن الدَّلَسِ بالتَّحريكِ، وهو اختلاطُ الظلام، سُمِّيَ بذلك لاشتراكهما في الخَفَاءِ.
ويَرِدُ المُدَلَّسُ بصيغةٍ مِن صِيَغ الأداءِ تَحْتَمِلُ وقوع اللُّقيّ بين المُدلِّس ومَنْ أَسنَد عنه، ك‍ "عن"، وَكذا "قَاَلَ". ومتى وقَعَ بصيغةٍ صريحةٍ لا تَجَوُّزَ فيها كان كَذِباً.
[حكم رواية المُدَلِّس] :
وحُكم مَنْ ثبتَ عنهُ التَّدليسُ-إِذا كانَ عَدْلاً-: أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إِلاَّ ما صَرَّح فيه بالتحديث، على الأصح.

(1/221)


[المُرْسَل الخفيّ]
وكَذا المرسَلُ الخَفِيُّ، إِذا صَدَرَ مِنْ معاصرٍ لَمْ يَلْقَ مَنْ حدَّث عنهُ، بل بينَه وبينه واسطةٌ.

(1/221)


[الفرق بين المُدَلَّس والمُرْسَل الخفي]
والفَرْقُ بينَ المُدَلَّس والمُرْسَل الخفيِّ دقيقٌ، حَصَل تحريرُه بما ذُكِر هنا: وهو أَنَّ

(1/221)


التدليس يَختص بمن روى عمّن عُرِفَ لقاؤه إياه.
فأَمَّا إِن عاصَرَهُ، ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ، فَهُو المُرْسَل الخَفِيُّ.
ومَنْ أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المعاصَرَةَ ولو بغيرِ لُقِيٍّ، لَزِمَهُ دخولُ المرسَل الخفيِّ في تعريفِهِ. والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما.
ويَدل على أَنَّ اعتبارَ اللُّقِيّ في التَّدليسِ -دونَ المعاصرةِ وحْدَها- لابُدَّ منهُ إِطباقُ أَهلِ العلم بالحديث على أنّ روايةَ المُخَضْرَمين، كأَبي عُثمانَ النَّهْدِي، وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبِيلِ الإِرسالِ، لا مِن قَبيلِ التدليس، ولو كان مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ لكانَ هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعرَف: هل لَقُوهُ أم لا.

(1/222)


[القائلون باشتراط اللقاء في التدليس] :
وممَّن قالَ باشتراطِ اللِّقاءِ في التَّدليسِ الإمامُ الشافعيُّ، وأَبو بكرٍ البزَّارُ، وكلامُ الخطيبِ في الكِفايةِ يقتَضيهِ، وهُو المُعْتَمَدُ.
ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاةِ بإِخباره عنْ نفسِهِ بذلك، أَو بجزْم إمامٍ مُطَّلِعٍ.
ولا يَكْفي أَنْ يَقَعَ في بعض الطرق زيادةُ راوٍ بينَهُما؛ لاحتمال أَنْ يكونَ مِن المزيدِ، ولا يُحْكم في هذه الصورة بحكمٍ كليٍّ، أيْ: جازمٍ؛ لِتَعارُضِ احتمالِ الاتصال والانقطاع.

(1/222)


[المؤلفات في معرفة المرسل والمزيد في متصل الأسانيد] :
وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتابَ "التَّفصيلِ لِمُبْهَمِ المراسيل"، وكتابَ "المَزيد في مُتَّصِل الأسانيد".
وانتهت هنا أقسامُ حكمُ الساقطِ من الإسناد.

(1/222)


الطعن في الراوي وأسبابه
أسبابه
...
[الطعن في الراوي وأسبابه]
ثم الطَّعْنُ يكون بِعَشَرَةِ أشياء بعضُها أشدُّ في القَدْحِ مِن بعضٍ: خمسةٌ منها تتعلَّقُ بالعدالَةِ، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْطِ.

(1/222)


ولم يَحْصل الاعتناءُ بتمييزِ أَحدِ القِسمينِ مِن الآخَرِ؛ لمصلحةٍ اقتضتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في موجبِ الردِّ على سَبيلِ التّدلِّي؛ لأنَّ الطَّعْنَ إِمَّا أَنْ يكونَ:
1- لِكَذِبِ الرَّاوِي في الحديثِ النبويِّ: بأَنْ يرويَ عنهُ صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْه، متعمِّداً لذلك.
2- أو تُهمتِهِ بذلكَ: بأَنْ لا يُرْوَى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكونَ مُخالِفاً للقواعِدِ المعلومةِ، وكذا مَن عُرِفَ بالكذبِ في كلامه، وإنْ لم يَظهر منهُ وقوعُ ذلك في الحَديثِ النبويِّ، وهذا دُونَ الأولِ.
3- أَو فُحْشِ غَلَطِهِ، أي: كَثْرَتِه.
4- أَو غفلتهِِ عن الإِتقان.
5- أَو فسقِهِ: أي: بالفعل أو القول، مما لم يَبْلُغ الكفر. وبينه وبين الأوَّلِ عموم، وإِنَّما أُفْرِدَ الأوَّلُ لكونِ القدْحِ بهِ أشدَّ في هذا الفن، وأما الفسق بالمعتقد فسيأتي بيانه.
6- أو وَهَمِهِ: بأَنْ يَرْوِي على سبيلِ التوهمِ.
7- أَو مخالفتِهِ، أي للثقات.
8- أو جهالتِهِ: بأن لا يُعْرَفَ فيه تعديلٌ ولا تَجْرِيحٌ مُعَيَّنٌ.
9- أَو بدعتِهِ: وهي اعتقادُ ما أُحْدِثَ على خِلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، لا بمعاندةٍ، بل بنوعِ شُبْهَةٍ.
10- أَو سوءِ حفظِهِ: وهي عبارةٌ عمن يكون غلطُهُ أقلَّ من إصابته.

(1/223)


[1-الموضوع]
فالقسمُ الأوَّلُ: -وهُو الطَّعْنُ بكَذِبِ الرَّاوي في الحَديثِ النبويِّ- هو المَوضوعُ.
والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إنما هو بطريقِ الظنِّ الغالبِ، لا بالقطْع؛ إِذ قَدْ يَصْدق الكَذوبُ، لكنَّ، لأهلِ العلمِ بالحديث ملَكَةٌ قويّةٌ يُمَيِّزون بها ذلك، وإِنَّما يَقوم بذلك منهُم مَن يكونُ اطِّلاعه تامّاً، وذِهْنه ثاقِباً، وفهْمه قويّاً، ومعرِفتُهُ بالقرائن

(1/223)


الدَّالَّةِ على ذلك متمكِّنة.
وقد يُعْرَف الوضعُ بإقرار واضعِهِ، قال ابن دقيق العيد: لكنْ لا يُقْطَع بذلك، لاحتمالِ أَنْ يكونَ كَذَب في ذلك الإقرار، انتهى. وفَهِم منه بعضُهم أنه لا يُعمل بذلك الإِقرارِ أَصلاً، وليسَ ذلكَ مُرادَه، وإِنَّما نَفْيُ القطعِ بذلك، ولا يلزَمُ مِن نَفْيِ القَطْعِ نَفْيَ الحكْمِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يقعُ بالظَّنِّ الغالِبِ، وهُو هُنا كذلك، ولولا ذلك لَما ساغَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بالقتلِ، ولا رَجْمُ المعترفِ بالزِّنى؛ لاحتمالِ أَنْ يكونا كاذبيْنِ فيما اعْتَرَفا به.
ومِن القَرائنِ، الَّتي يُدرَكُ بها الوضعُ، ما يُؤخذُ مِن حالِ الرَّاوي.
كما وقع للمأمون بنِ أَحمدَ أَنَّه ذُكِرَ بحضرَتِه الخلافُ في كون الحَسَن سَمِعَ مِن أَبي هُريرةَ أَوْ لاَ، فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَّهُ قالَ: سَمِعَ الحسنُ مِن أَبي هريرة.
وكما وَقَع لغياث بن إبراهيم، حيث دخَلَ على المَهْدي فوجَدَهُ يلعبُ بالحَمَام؛ فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، أنه قال: "لا سَبَق إِلاَّ في نَصْلٍ أَو خُفٍّ أَو حافرٍ أَو جَناحٍ"، فزادَ في الحديثِ: "أَو جَناحٍ"؛ فَعَرف المهديُّ أَنَّه كذَب لأجلِهِ فأَمر بذَبْحِ الحَمَامِ.
ومِنها ما يُؤخَذُ مِن حالِ المروي، كأنْ يكون مناقضاً لنصِّ القرآن، أَو السُّنَّةِ المُتواتِرَةِ، أَو الإِجماعِ القطعيِّ، أَو صريحِ العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبلُ شيءٌ مِن ذلك التأويلَ.

(1/224)


[طرق الوضع]
ثم المروي:
1- تارةً يخترعه الواضع.
2- وتارةً يأخذ كلامِ غيرِهِ: كبعضِ السَّلفِ الصَّالحِ، أَو قُدماءِ الحُكماءِ، أَو الإِسرائيليَّاتِ.
3- أَو يأْخُذُ حَديثاً ضعيفَ الإسنادِ فيركِّبَ له إسناداً صحيحاً لِيَرُوْجَ.

(1/224)


[دوافع الوضع]
والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ:
1- إِمَّا عدمُ الدِّينِ كالزَّنادقةِ.
2- أَو غلبةُ الجَهلِ كبعضِ المتعبِّدين.
3- أَو فَرْط العَصبيَّةِ، كبعضِ المقلِّدين.
4- أَو اتِّباع هوى بعضِ الرؤساءِ.
5- أو الإغرابُ لقصْدِ الاشتهارِ.

(1/225)


[حكمُ الوضعِ] :
وكلُّ ذلك حرامٌ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بهِ، إِلاَّ أَنَّ بعضَ الكِرّامية، وبعضَ المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهم إباحةُ الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأٌ مِن فاعلِهِ، نشأَ عَن جهلٍ، لأنَّ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ مِن جُمْلة الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، واتَّفقوا على أَنَّ تعمُّدَ الكذبِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الكَبائِرِ، وبالَغَ أَبو مُحمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/225)


[حكمُ رواية الموضوع] :
واتَّفَقوا على تَحْريمِ روايةِ الموضوعِ إِلاَّ مقروناً ببيانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلَّمَ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرَى أَنَّهُ كذِبٌ فهو أحدُ الكاذِبَين، أخرجه مسلم.

(1/225)


[2- المتروك]
وَالقسمُ الثَّاني مِن أَقسامِ المَردودِ: -وهو ما يكون بسببِ تُهمة الراوي بالكذب- هو المتروك.

(1/225)


[3، 4، 5- المنكر]
والثَّالِثُ: المنكَر -على رأيِ مَنْ لا يَشترط في المنكَرِ قَيْدَ المُخالفةِ- وكذا الرَّابِعُ، والخَامِسُ، فَمَنْ فَحُشَ غلَطُهُ، أَو كَثُرَتْ غَفْلَتُهُ، أَو ظَهَرَ فِسْقُهُ، فحديثه منكَرٌ.

(1/225)


[6- الوهم]
ثمَّ الوَهَمُ: -وهُو القِسْم السَّادسُ، وإِنَّما أُفْصِحَ بهِ لِطولِ الفَصْلِ- إِنِ اطُّلِعَ عَليهِ، أي الوَهَمِ، بِالقَرائِنِ الدَّالَّةِ على وهَم راويهِ -مِن وصْلِ مرسلٍ أَو منقطعٍ أَو إِدخالِ حديثٍ في حديثٍ، أَو نحوِ ذلك مِن الأشياءِ القادحة، وتَحْصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجَمْع الطرق- فهذا هو المعلّل.

(1/226)


[المعلَّل]
وهو مِن أَغْمضِ أنواعِ علومِ الحديثِ وأدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرِفةً تامَّةً بمراتِبِ الرُّواةِ، وملَكَةً قويَّةً بالأسانيدِ والمُتونِ؛ ولهذا لم يَتكلم فيهِ إِلاَّ القليلُ مِن أَهلِ هذا الشأْنِ: كعليِّ
ابن المَدينيِّ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، والبُخَارِيّ، ويَعقوبَ بنِ أبي شَيْبةَ، وأَبي حاتمٍ، وأَبي زُرْعَةَ، والدَّارَقُطنيُّ.
وقد تَقْصُرُ عبارةُ المعلِّلِ عَن إقامةِ الحجةِ على دَعْواهُ، كالصَّيْرَفيِّ في نَقْد
الدِّينارِ والدِّرهَمِ.

(1/226)


[7- المخالفة]
ثم المخالفة، وهي القسم السابع:

(1/226)


[أ- المُدْرج]
إن كانت واقعةً بسببِ:
1- تَغَيّرِ السياقِ، أَيْ: سياقِ الإسنادِ، فالواقعُ فيهِ ذلك التغيير هو مُدْرَجُ الإسناد.

(1/229)


[أقسام المدرج باعتبار الإسناد] :
وهو أقسامٌ:
الأوَّلُ: أَنْ يرويَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ فيَجمع الكُلَّ على إسنادٍ واحدٍ مِنْ تلكَ الأسانيدِ ولا يُبَيِّن الاختلافَ.
الثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ فإِنَّه عندَه بإسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ

(1/226)


عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ.
ومنهُ أَنْ يسمعَ الحديثَ مِن شيخه إلا طرفاً منه فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تماماً بحذْفِ الواسِطةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أحدِ الإسنادين، أو يروي أحدَ الحديثين بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ، يَزيدُ فيهِ مِن المتن الآخَرِ ما ليس في الأول.
الرابع: أن يسوقَ الإسناد فَيَعْرِض له عارض، فيقولَ كلاماً مِنْ قِبَل نفسِهِ، فَيَظن بعضُ مَن سَمِعه أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ ذلكَ الإسنادِ؛ فيَرويهِ عنهُ كذلك.
هذهِ أَقسامُ مُدْرَج الإسناد.

(1/227)


[أقسام المدرج باعتبار المتن] :
وأَمَّا مُدْرَج المَتْنِ: فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ. فتارةً يكونُ في أوّله، وتارةً في أثنائه، وتارةً في آخِرِهِ، وهو الأكثرُ؛ لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جملةٍ على جُملةٍ، أو بدمْجِ موقوفٍ مِن كلامِ الصَّحابةِ، أَو مَنْ بَعْدَهم، بمرفوعٍ مِن كلامِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، مِن غيرِ فصلٍ، فهذا هُو مُدرج المتن.

(1/227)


[ما يُعرفُ به الإدراج] :
ويُدْرَكُ الإِدراجُ بِوُرُوْدِ روايةٍ مُفَصِّلَةٍ للقَدْرِ المُدْرَج فيهِ. أَو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن الرَّاوي، أَو مِنْ بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ، أو باستحالةِ كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

(1/227)


[المؤلفات في المدرج] :
وقد صَنَّفَ الخَطيبُ في المدْرَج كتاباً، ولَخَّصْتُهُ، وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذَكَر مرَّتينِ، أَو أكثر، ولله الحمد.

(1/227)


[ب- المقلوب]
2- أَوْ إِنْ كانَتِ المخالفةُ بتقديمٍ أَو تأخيرٍ أي في الأسماء كمُرَّةَ بن كَعْبٍ، وكَعْبٍ بن
مُرَّة؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ، فهذا هو المقلوب، وللخطيب فيه كتابُ: "رافع الارتياب". وقد يقع القلب في المتن، أيضاً، كحديث أبي هريرة عند مسلمٍ في السبعة الذين يظلهم الله في عرشِهِ، ففيه: "ورجل تصدَّقَ بصدقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنفِق شِمالُهُ". فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: حتَّى لا تَعلم شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينُهُ كما في الصَّحيحينِ.

(1/228)


[جـ- المزيد في الأسانيد]
3- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بزيادةِ راوٍ في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقنُ ممَّن زادَها، فهذا هُو المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ.
وشرْطه أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في موضعِ الزِّيادةِ، وإِلاَّ فمتى كانَ مُعَنْعَناً، مثلاً، تَرجَّحتِ الزيادة.

(1/228)


[د- المضطرب]
4- أو كانت المخالفة بإبداله، أَيْ: الراوي، ولا مرجِّحَ لإحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو المُضْطَرِبُ.
وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً. وقد يقعُ في المتْن.
لكنْ قَلَّ أنْ يُحْكَمَ المحدِّث على الحديث باضطرابٍ بالنسبة إلى اختلافٍ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ.
وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً لمَن يُرادُ اختبارُ حفْظِهِ، امتحاناً مِن فاعِلِهِ، كما وَقَع للبُخَارِيّ، والعُقَيْلي، وغيرِهِما.
وشرْطه أن لا يستمر عليه، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ، فلو وَقَعَ الإِبدالُ عَمْداً، لا لمصلحةٍ، بل للإِغرابِ، مثلاً، فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وَقَعَ غَلَطاً فهُو من المقلوب، أو المُعَلَّلِ.

(1/228)


[هـ‍ - المصحَّف]
5- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بتَغْييرِ حرْفٍ، أَو حروفٍ، مَعَ بقاءِ صورةِ الخَطِّ في
السِّياقِ: فإنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَقْطِ فَالمُصَحَّفُ.
وَإِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ فالمُحَرَّفُ.
ومعرفةُ هذا النَّوعِ مهمةٌ.
وقد صَنَّفَ فيهِ العَسْكَريُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، وغيرُهما.
وأكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ.
ولا يَجُوزُ تعمُّد تغييرِ صورةِ المتنِ مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه بالنقص، ولا إبدالُ اللفظ المرادِفِ باللفظِ المرادِفِ لهُ، إِلاَّ لعالمٍ بمَدْلولاتِ الألْفاظِ، وبِما يحيل المعاني، على الصحيح في المسألتين.

(1/229)


[اختصار الحديث]
أَمَّا اخْتِصارُ الحَديثِ: فالأكْثَرونَ على جَوازِهِ، بشرطِ أَنْ يكونَ الَّذي يَخْتَصِرُهُ عالِماً؛ لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُص مِن الحديثِ إِلاَّ ما لا تَعَلُّقَ لهُ بما يُبْقيه منهُ، بحيثُ لا تختِلفُ الدِّلالةُ، ولا يختلُّ البَيانُ، حتَّى يكونَ المَذكورُ والمَحذوفُ بمنزِلَةِ خَبَرَيْنِ، أَو يَدُلُّ ما ذَكَرَهُ على ما حَذَفَهُ، بخِلافِ الجاهِلِ فإِنَّهُ قد يُنْقِص ما لَهُ تَعَلُّقٌ، كترك الاستثناء.

(1/229)


[الرواية بالمعنى]
وأما الرواية بالمعنى: فالخِلافُ فيها شهيرٌ:
1- والأكثرُ على الجَوازِ أَيضاً، ومِن أَقوى حُججهِم الإِجماعُ على جوازِ شرحِ الشَّريعةِ للعَجَمِ بلسانِهِم للعارِفِ بهِ، فإِذا جازَ الإِبدالُ بلغةٍ أُخرى فجوازُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ أَولى.
2- وقيل إنما تجوز في المفردات دون المركَّبات.
3- وقيل إنما تجوز لمَن يَسْتَحْضِرُ اللفظَ؛ ليتَمَكَّنَ مِن التَّصرُّفِ فيه.
4- وقيل إنما تجوز لمَن كانَ يحفَظُ الحَديثَ فنَسِيَ لفظَهُ وبقيَ معناهُ مُرْتَسماً في ذِهنِه، فلهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بالمعنى لمصلحةِ تحصيل الحكم منه، بخلافِ مَن كانَ مُسْتَحْضِراً لِلَفْظِهِ.

(1/229)


وجَميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجَوازِ وعَدَمِه، ولا شكَّ أَنَّ الأوْلى إِيرادُ الحَديثِ بأَلفاظِهِ، دُونَ التصرف فيه.
5- قال القاضي عياض: ينبغي سَدُّ بابِ الرواية بالمَعْنَى؛ لئلاَّ يَتَسلَّطَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ، ممَّن يَظُنّ أَنّهُ يُحْسِن، كما وقَعَ لكثيرٍ مِن الرُوَاةِ، قديماً وحديثاً. والله الموفق.

(1/230)


[غريب الحديث]
فإنْ خَفِي المَعْنَى، بأَنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بِقِلَّةٍ، احْتيجَ إِلى الكتبِ المصنَّفةِ في شرْح الغريب.
1- ككتاب أبي عبيد القاسِمِ بنِ سلامٍ، وهو غيرُ مرتَّبٍ، وقد رتَّبه الشيخ موفق الدين بن قُدَامَة على الحُروفِ.
2- وأجمعُ منهُ كتابُ أَبي عُبيدٍ الهَرَوِيِّ، وقد اعتَنَى بهِ الحافظُ أَبو موسى المدين، فَنَقَّب عليهِ واسْتَدْرَكَ.
3- وللزَّمَخْشَرِيِّ كتابٌ اسمُهُ "الفائِقُ" حَسَنُ التَّرتيبِ.
4- ثمَّ جَمَعَ الجميعَ ابنُ الأثيرِ، في "النِّهايةِ"، وكتابُهُ أسهلُ الكُتُبِ تناوُلاً، مع إعْوَازٍ قليلٍ فيهِ.
وإِنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بكثرةٍ، لكنَّ، في مَدلُولِهِ دِقَّةٌ، احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المصنَّفة في شَرْحِ معاني الأخْبارِ، وبيانِ المشكل منها.
وقد أَكْثَرَ الأَئِمَّةُ من التَّصانيفِ في ذلك كالطَّحاويِّ والخَطَّابيِّ وابنِ عبدِ البر وغيرهم.

(1/230)


[8- الجهالة وسببها]
ثمَّ الجَهالةُ بالرَّاوِي: -وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطعنِ- وسبَبُها أمران:
أَحَدُهُما: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تكثُر نُعُوتُه: مِن اسمٍ، أو كُنيةٍ، أَو لَقَبٍ، أَو صِفةٍ، أَو حِرْفَةٍ، أَو نَسَبٍ، فَيُشْتَهَرُ بشيءٍ مِنها، فُيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِر بِهِ، لغرضٍ مِن الأغْراضِ فَيُظَنُّ أَنَّه آخَرُ، فَيَحْصُل الجهل بحاله.

(1/230)


وصنَّفُوا فِيهِ أي في هذا النَّوعِ "المُوضِح لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ"، أَجادَ فيهِ الخطيبُ، وسبَقَهُ إليه عبد الغني هو ابن سعيد المصري، وهو الأزدي، أيضاً، ثم الصوْريّ.

(1/231)


[الوحدان]
ومِن أَمثلتِهِ: محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرِ الكلْبي، نَسَبَهُ بعضُهم إِلى جَدِّهِ، فقالَ: محمَّدُ بنُ بِشرٍ، وسَمَّاهُ بعضُهم حمادَ بنَ السَّائبِ، وكناه بعضُهم: أبا النضر، وبعضُهم: أَبا سعيدٍ، وبعضُهم: أَبا هِشامٍ؛ فصارَ يُظَنُّ أَنَّهُ جماعةٌ، وهو واحِدٌ، ومَن لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيهِ لا يعرِفُ شيئاً مِن ذلك.
وَالأمرُ الثَّاني: أَنَّ الرَّاويَ قد يكونُ مُقِلاًّ مِن الحديثِ؛ فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ.
وَقد صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدان، وهو مَن لم يروِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ، ولو سُمِّيَ.
فَمِمَّنْ جَمَعَهُ: مسلمٌ، والحسن بن سفيان، وغيرهما.

(1/231)


[المُبْهَم]
أوْ لاَ يُسَمَّى الرَّاوِي، اختِصَاراً مِن الرَّاوي عنهُ.
كقولِه: أَخْبَرَني فلانٌ، أَو شيخٌ، أَو رجلٌ، أَو بعضُهم، أَو ابنُ فلانٍ.
ويُستدل على معرفَةِ اسمِ المُبْهَم بوُرودِه مِن طريقٍ أخرى مسمَّىً.
وصَنَّفوا فيه المُبْهَمات.
ولا يُقْبَلُ حديثُ المُبْهَم، ما لم يُسَمَّ، لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُه لا يُعرفُ عَيْنهُ؛ فكيف عدالته.
وكذا لا يُقْبَل خبره وَلَو أُبْهِمَ بلفظِ التَّعْديلِ، كأَنْ يقولَ الرَّاوي عنهُ: أَخْبَرَني الثِّقُة؛ لأنَّهُ قد يكونُ ثقةً عندَه مجروحاً عندَ غيرِه. وهذا عَلى الأصَحِّ في المسألة، ولهذه النكتة لم يُقْبَلِ المُرْسَلُ، ولو أَرسَلَهُ العدلُ جازِماً بهِ؛ لهذا الاحتمالِ بعينِه. وقيلَ: يُقْبَل تمسُّكاً بالظَّاهِرِ؛ إِذ الجَرْحُ على خلافِ الأصل، وقيل: إن كان القائل عالماً أجزأه ذلك في حق مَن يوافِقُهُ في مَذْهَبِهِ، وهذا ليسَ مِن مباحث علوم الحديث، والله تعالى الموفق.

(1/231)


[مجهول العين]
فإن سُمِّيَ الرَّاوي، وانْفَرَدَ راوٍ واحدٌ بالرِّوايةِ عنه، فهو مجهول العين، كالمبهم، إلا أن يوثقه غير مَن ينفرد به عنه على الأصح، وكذا مَن ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك.

(1/232)


[مجهول الحال]
أَوْ إنْ روى عنهُ اثنانِ فصاعِداً، ولم يُوَثَّقْ1 فهو مَجْهولُ الحالِ، وهُو المَسْتورُ.
وقد قَبِلَ رِوَايَتَهُ جَمَاعَةٌ بغيرِ قيدٍ، وردَّها الجمهورُ.
والتحقيقُ أَنَّ روايةَ المستورِ، ونحوِهِ، ممَّا فيهِ الاحتِمالُ؛ لا يُطْلَقُ القولُ بردِّها، ولا بِقَبولِها، بل يقال: هي موقوفةٌ إِلى اسْتِبانَةِ حالِه، كما جَزَمَ بهِ إِمامُ الحَرمينِ، ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَن جُرِحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّر.
__________
1 ليس المراد أنه لم يَرِد فيه توثيق، وإنما المراد أنه لم يَرِد فيه جرحٌ أو تعديل.

(1/232)


[9- البدعة ورواية المبتدع]
ثمَّ البِدْعَةُ: وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي: وهي إِمَّا أَنْ تَكونَ بمكَفِّرٍ:
1- كأَنْ يَعتقد ما يَسْتلزم الكفرَ. 2- أو بمُفَسِّقٍ.
فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَهَا الجمهورُ.
وقيلَ: يُقبل مُطلقاً.
وقيلَ: إِنْ كانَ لا يَعْتقد حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه قُبِلَ.
والتحقيقُ أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكَفَّرٍ ببدعةٍ؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتدعةٌ، وقد تُبالغ فتكفِّر مخالفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطوائفِ.
فالمعتمد أن الذي تُرَدُّ روايته مَن أَنكر أَمراً مُتواتِراً مِن الشَّرعِ معلوماً من الدين

(1/232)


بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ، فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ، مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ، فلا مانع مِن قبوله.
والثاني: وهو مَنْ لا تَقْتَضي بدعتُهُ التكفيرَ أصلاً، وقد اختُلِف، أَيضاً، في قَبولِهِ وَرَدِّهِ:
فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً. وهُو بَعيدٌ، وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذكره، وعلى هذا فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوَى عنْ مبتدعٍ شيءٌ يُشاركه فيهِ غيرُ مبتدعٍ.
وقيلَ: يُقْبَل مُطْلقاً، إِلاَّ إن اعتقد حلَّ الكذب، كما تقدم.
وقيلَ: يُقْبَلُ مَن لَمْ يكنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تحريفِ الرواياتِ وتَسويَتِها على ما يَقْتضيه مذهبُهُ، وهذا في الأصَحِّ.
وأغربَ ابنُ حِبَّانَ؛ فادَّعى الاتفاقَ على قبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، مِن غيرِ تفصيلٍ.
نعمْ، الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، إلا أنْ يَروي ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ، على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوزَجاني، شيخُ أَبي داودَ والنَّسائِيِّ، في كتابِه "معرفة الرِّجال"، فقالَ في وصْف الرُّواةِ: ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ -أَيْ عنِ السُّنَّةِ- صادقُ اللَّهجَةِ؛ فليسَ فيهِ حيلةٌ إِلاَّ أَنْ يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكَراً، إذا لم يُقَوِّ به بدعته انتهى.
وما قاله مُتَّجِهٌ؛ لأنَّ العلةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المرويِّ يوافِق مذهبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، والله أعلم.

(1/233)


[10- سوء الحفظ والشاذ والمختلط]
ثمَّ سوءُ الحِفْظ: وهو السببُ العاشِرُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ، والمُرادُ بهِ: مَنْ لم يَرْجَحْ جانبُ إِصابتِه على جانِبِ خَطَئهِ، وهو على قِسْمَين:
1- إِنْ كانَ لازِماً للرَّاوي في جَميعِ حالاتِه فهُو الشاذُّ، على رأيِ بعضِ أَهلِ الحديث.
2- أَوْ إن كانَ سوءُ الحفظِ طارِئاً على الرَّاوي؛ إِمَّا لِكِبَره، أَو لذَهابِ بصرِه، أَوْ لاحتِراقِ كُتُبِه أَو عدَمِها، بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها فَرَجَعَ إِلى حفظِهِ فساءَ فهذا هو المُخْتَلِطُ.

(1/233)


سوء الحفظ والشاذ والمختلط
...
والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّث بهِ قَبْل الاختلاطِ إِذا تَمَيَّز قُبِل، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مِن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإنما يُعرف ذلك باعتبارِ الآخذين عنه.

(1/224)


[الحسن لغيره]
ومتى تُوبعَ السيءُ الحفظ بمُعْتَبَرٍ: كأَنْ يكونَ فَوْقَهُ، أَو مِثلَهُ، لا دُونَه، وكَذا المختلِط الَّذي لم يتميز، والمستور، والإِسنادُ المُرْسَلُ، وكذا المدلَّس إِذا لم يُعْرف المحذوفُ منهُ = صارَ حديثُهم حَسناً، لا لذاتِهِ، بل وصْفُهُ بذلك باعتبارِ المَجْموعِ، مِن المتابِع والمتابَع؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم احتمالُ أن تكون روايته صواباً، أو غير صوابٍ، على حدٍّ سواءٍ، فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرِين روايةٌ موافِقةٌ لأحدِهِم رَجَحَ أحدُ الجانِبينِ من الاحتمالين المذكورين، وَدَلَّ ذلك على أَنَّ الحديثَ محفوظٌ؛ فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقف إلى درجة القبول. ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ فهُو مُنحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه، ورُبَّما تَوقَّف بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ.
وقد انْقَضى ما يتعلق بالمتن من حيثُ القبولُ والردُّ.
ثمَّ الإِسْنادُ: وهُو الطَّريقُ الموصِلةُ إِلى المتنِ.
والمتنُ: هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام.

(1/234)


المرفوع تصريحاً أو حكماً
تعريفه
...
[المرفوع تصريحاً أو حكماً]
وهُو:
1 إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم ويقتضي لفظُهُ-:
أ- إما تصريحاً.
ب- أَوْ حُكْماً-أَنَّ المنقولَ بذلك الإسنادِ مِن قوله صلى الله عليه وسلَّمَ، أَوْ مِن فِعْله، أو مِن تَقريرِهِ.
مثالُ المَرفوعِ مِن القولِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصحابي: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ كذا، أَو: حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكذا، أو يقول، هو أو غيرُه: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أَو: عنْ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال كذا، ونحو ذلك.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم

(1/234)


فَعَل كذا، أَو يقولَ، هُو أَو غيرُه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ يفعَلُّ كذا.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ تَصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ: فعلتُ بحضرَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا، أَو يقولَ، هو أَو غيرُه: فَعَل فلان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يَذْكر إنكاره لذلك.
ومثال المرفوع مِن القول، حكماً لا تصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ -الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ- ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، ولا لهُ تعلُّقٌ ببيانِ لغةٍ أَو شرحِ غريبٍ، كالإِخبار عن الأمور الماضية: مِن بَدْءِ الخلق، وأَخبارِ الأنبياء، أَو الآتيةِ: كالملاحمِ، والفِتَنِ، وأَحوالِ يومِ القيامةِ، وكذا الإخبارِ عمَّا يَحْصل بفِعْلِهِ ثوابٌ مخصوصٌ، أَو عقابٌ مَخْصوصٌ.
وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ؛ لأنَّ إِخْبَارَهُ بذلك يقتَضي مُخْبِراً لهُ، وما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي موقِّفاً للقائلِ بهِ، ولا مُوَقِّفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أَو بعضُ مَنْ يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ؛ فلهذا وَقَعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني.
فإذا كانَ كذلك، فلهُ حُكمُ ما لو قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهُو مرفوعٌ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ، أو عنه بواسطة.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً: أَنْ يَفْعل ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، فَيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، كما قال الشافعي في صلاة عَلِيٍّ في الكُسوفِ في كلِّ ركعةٍ أكثرَ مِن رُكوعَيْنِ.
ومثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ حُكْماً: أَنْ يُخْبِرَ الصحابيُّ أَنَّهُم كانُوا يفْعَلونَ في زمانِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ كذا، فإِنَّهُ يكونُ لهُ حُكْم الرَّفعِ مِن جهةِ أنَّ الظاهر اطِّلاعُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ على ذلك؛ لِتَوَفُّرِ دَواعِيهِم على سُؤالِهِ عن أمور دينهم، ولأن ذلك الزمانَ زمانُ نزولِ الوحي؛ فلا يقع من الصحابة فِعْل شيءٍ ويستمرُّونَ عليهِ إِلاَّ وهُو غيرُ ممنوعِ الفعل.
وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما على جوازِ العَزْل بأَنَّهُم كانوا يفعَلونَه والقرآنُ يَنْزل، ولو كانَ ممَّا يُنْهَى عنه لَنَهَى عنه القرآن.

(1/235)


[الألفاظ الدالة على الرفع حكماً] :
1- ويَلتحق بقوله "حُكْماً" ما وردَ بصيغةِ الكنايةِ في موضعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنِّسبةِ إِليه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كقولِ التَّابعيِّ عنِ الصَّحابيِّ: يَرْفع الحَديثَ، أو يَرْويه، أو يَنْمِيه، أَو روايةً، أَو يَبْلُغُ بهِ، أَو رواهُ.
2- وقد يَقْتَصِرونَ على القول مع حَذْفِ القائلِ. ويُرِيْدُونَ بهِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كقولِ ابنِ سيرينَ عنْ أَبي هُريرةَ قالَ: قالَ: "تُقاتِلونَ قَوْماً ... "، الحديث، وفي كلامِ الخطيب أنه اصطلاحٌ خاصٌّ بأهل البصرة.

(1/236)


[قول الصحابيّ: "مِن السُّنَّةِ كذا"] :
3- ومِن الصِّيَغِ المحتَمَلَةِ قولُ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّة كذا:
أ- فالأكثر أَنَّ ذلك مرفوعٌ، ونَقل ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ الاتِّفاقَ، قالَ: وإِذا قالَها غيرُ الصَّحابيِّ فكذلك، ما لم يُضِفْها إِلى صاحِبِها، كسُنَّةِ العُمَرَيْن، وفي نقْل الاتِّفاقِ نظرٌ؛ فعَنِ الشَّافعيِّ في أصل المسألة قولان.
ب-وذَهَبَ إِلى أَنَّهُ غيرُ مرفوعٍ أَبو بكرٍ الصَّيرفيُّ مِن الشَّافعيَّةِ، وأَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفية، وابن حزم مِن أَهلِ الظَّاهِرِ، واحتَجُّوا بأَنَّ السُّنَّةَ تتردَّدُ بين النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وبينَ غيرِه.
وأُجِيبوا: بأَنَّ احْتِمالَ إرادةِ غيرِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ، وقد روى البُخَارِيّ في صحيحِه في حديثِ ابنِ شِهابٍ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ في قصَّتِه معَ الْحَجَّاج حينَ قالَ لهُ: إِنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بالصلاة قالَ ابنُ شِهابٍ: فقلتُ لسالمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّمَ؟ فقالَ: وهل يَعْنون بذلك إِلاَّ سُنَّتَهُ؟!، فَنَقَلَ سالمٌ -وهو أحدُ الفُقهاءِ السَّبعَةِ مِن أهل المدينة، وأحدُ الحفَّاظِ مِن التَّابعينَ- عنِ الصَّحابةِ أَنَّهم إِذا أَطلقوا السُّنَّة لا يُريدونَ بذلك إِلاَّ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وأما قول بعضهم: إنْ كانَ مرفوعاً فَلِمَ لا يقولونَ فيهِ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟.
فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً، ومِن هذا قولُ أَبي قِلابة عن

(1/236)


أَنسٍ: "مِن السُّنَّة إِذا تزوجَ البكرَ على الثيب أقام عندها سبعاً" أخرجاه في الصحيح.
قال أبو قِلابة: لو شئتُ لقلتُ: إِنَّ أَنساً رفَعَهُ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. أَيْ: لو قلتُ لمْ أَكذبْ؛ لأَنَّ قولَه: "مِن السُّنَّةِ" هذا معناه، لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابة أَولى.

(1/237)


[قول الصحابي: "أُمِرنا أو نُهِينا عن كذا"] :
4- ومِنْ ذلك قولُ الصَّحابيِّ: "أُمِرنا بكَذا"، أَو "نُهِينا عنْ كذا"، فالخِلافُ فيهِ كالخلافِ في الَّذي قَبْلَهُ؛ لأنَّ مُطْلَق ذلك ينصَرِفُ بظاهِرِه إِلى مَنْ لهُ الأمرُ والنَّهْيُ، وهُو الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم.
وخالف في ذلك طائفةٌ تَمَسّكوا باحتمالِ أَنْ يَكونَ المرادُ غيرُهُ، كأَمرِ القرآن، أو الإجماع، أو بعض الخلفاء، أَو الاستِنْباطِ؟ وأُجيبوا: بأَنَّ الأصلَ هو الأوَّلُ، وما عداهُ محتَمِلٌ، لكنَّهُ بالنسبةِ إليهِ مرجوحٌ، وأيضاً، فَمَن كان في طاعةِ رئيسٍ إِذا قالَ: أُمِرْتُ، لا يُفْهَمُ عنهُ أَنَّ آمِرَه إِلاَّ رئيسُهُ.
وأَمَّا قولُ مَن قالَ: يُحْتمل أنْ يُظَنَّ ما ليسَ بأَمْرٍ أَمْراً، فلا اختصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل هُو مذكورٌ فيما لو صَرَّح؛ فقالَ: أَمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّمَ بكذا، وهو احتمالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ عدْلٌ عارفٌ باللِّسانِ؛ فلا يُطْلِقُ ذلك إِلاَّ بعد التحقيق.

(1/237)


[قول الصحابي: "كنا نفعل كذا"] :
5- ومِن ذلك قولُه: كنَّا نفعَلُ كذا، فلهُ حكم الرفع، أيضاً، كما تقدم.
ومِن ذلك أن يَحْكم الصحابيُّ على فعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للهِ، أو لرسوله، أَو معصيةٌ، كقولِ عمارٍ: " مَن صامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فيهِ فقدْ عَصى أَبا القاسِمِ صلى الله عليه وسلم". فهذا حُكْمُهُ الرفعُ، أَيضاً؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذلك ممَّا تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم.

(1/237)


[الموقوف]
2 أو ينتهي غايةُ الإِسنادِ إلى الصَّحابِيِّ كَذلكَ، أَيْ: مِثْلُ ما تقدَّمَ في كونِ اللَّفْظِ يَقْتَضي التصريحَ بأنّ المنقولَ هُو مِن قولِ الصَّحابيِّ، أَو مِن فِعْلِهِ، أو مِن

(1/237)


تقريرِهِ، ولا يَجِيءُ فيهِ جميعُ ما تَقدمَ، بل معظمُهُ، والتَّشبيهُ لا تُشترط فيهِ المُساواةُ مِنْ كلِّ جهةٍ.
ولَمَّا كان هذا المختصَر شاملاً لجميعِ أنواعِ علومِ الحَديثِ اسْتطردْتُ منهُ إِلى تَعريفِ الصَّحابيِّ ما هو فقلت:

(1/238)


تعريف الصحابي
تعريفه
...
[تعريف الصحابي]
وهو مَن لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تَخَلَّلتْ رِدَّةٌ
في الأصح.
والمرادُ باللِّقاءِ: ما هُو أعمُّ: مِن المُجالَسَةِ، والمُماشاةِ، ووصولِ أَحدِهِما إِلى الآخَرِ، وإِنْ لم يكالِمْهُ، ويَدْخُل فيهِ رؤيةُ أحدِهما الآخَرَ، سواءٌ كانَ ذلك بنفْسِهِ أم بغيرِهِ.
والتعبير باللُّقيِّ أَولى مِن قولِ بعضِهم: الصحابيُّ مَنْ رأَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يُخْرِج ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ونحوَه مِن العُمْيان، وهُمْ صحابةٌ بلا تردُّدٍ.

(1/238)


[شرح التعريف] :
و"اللُّقِيُّ" في هذا التعريف كالجنس.
1- وقولي: "مؤمناً به" كالفصْلِ، يُخْرِجُ مَنْ حصَل لهُ اللِّقاءُ المذكورُ، لكنْ، في حالِ كونِه كافراً.
2- وقَوْلي: "بهِ". فصْلٌ ثانٍ يُخْرجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً، لكنْ، بغيره من الأنبياء. لكنْ، هل يُخْرِج مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً بأَنَّهُ سيبعث ولم يُدْرِك البعثة؟. فيه نَظَرٌ.
3- وقَوْلي: "وماتَ على الإِسلامِ"، فصْلٌ ثالثٌ يُخْرِجُ مَن ارتدَّ، بعد أن لقيه مؤمناً، وماتَ على الرِّدَّةِ، كعُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ، وابن خَطَلٍ.
4- وقَوْلي: "ولو تخلَّلت رِدَّةٌ"، أي: بينَ لُقِيِّهِ لهُ مُؤمِناً بهِ، وبينَ موتِه على الإِسلامِ، فإِنَّ اسمَ الصُحْبَةِ باقٍ لهُ، سواءٌ رجع إِلى الإسلامِ في حياتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم، أم بعده، سواءٌ لقيه ثانياً أَمْ لا.

(1/238)


5- وقَوْلي: "في الأصحِّ" إشارةٌ إِلى الخِلافِ في المسأَلةِ، ويدلُّ على رُجْحانِ الأوَّلِ قصةُ الأشعثِ بنِ قيسٍ؛ فإِنَّه كانَ ممَّنِ ارتدَّ، وأُتِيَ به إلى أبي بكر الصديق أسيراً؛ فعاد إلى الإسلام فقَبِلَ منه وزَوَّجه أُخْتَهُ، ولم يتخلَّفْ أحدٌ عنْ ذكْرِه في الصَّحابةِ، ولا عنْ تخريجِ أحاديثِهِ في المسانيد وغيرها.
تنبيهان:
لا خَفاءَ برجحانِ رتبةِ مَنْ لازَمَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ وقاتَلَ معَهُ أَو قُتِلَ تحتَ رايتِه على مَنْ لم يلازمْه، أَو لم يَحْضر معه مَشْهَداً، وعلى مَن كلَّمَهُ يَسيراً، أَو ماشاهُ قَليلاً، أَو رآه على بُعْدٍ، أو في حال الطفولية، وإن كان شرفُ الصحبةِ حاصلاً للجميع.
ومَنْ ليسَ لهُ مِنهُم سماعٌ منهُ فحديثُهُ مرسَلٌ مِن حيثُ الروايةُ، وهُم معَ ذلك معدودون في الصَّحابةِ؛ لما نالوهُ مِن شرفِ الرُّؤيةِ.
ثانيهِما: يُعْرَفُ كَوْنُه صحابيّاً.
1- بالتَّواتُرِ. 2- أَو الاستفاضَةِ أَو الشُّهْرةِ.
3- أَو بإخبارِ بعضِ الصحابةِ. 4- أَو بعضِ ثقاتِ التَّابِعينَ.
5- أَو بإِخباره عنْ نفسِهِ بأنه صحابي، إذا كانت دعواهُ ذلكَ تدخُلُ تحتَ الإِمكانِ.
وقد اسْتَشْكل هذا الأخيرَ جماعةٌ مِن حيثُ إِنَّ دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أَنا عدْلٌ، ويَحْتاج إلى تأمُّلٍ.

(1/239)


[التابعي]
3 أَوْ تنتَهي غايةُ الإِسنادِ إِلى التَّابِعيَ.
وهو مَن لَقِيَ الصَّحابِيَّ كذلكَ. وهذا متعلِّقٌ باللُّقِيِّ وما ذُكِر معهُ، إِلاَّ قيدُ الإِيمانِ بهِ، فذلك خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هُو المُختارُ، خلافاً لِمَن اشْتَرَطَ في التَّابعيِّ طولَ الملازمة، أو صحةَ السماعِ أو التمييز.

(1/239)


[المُخَضْرَمون]
وبَقِيَ بين الصحابةِ والتابعين طبقةٌ أُخرى، اخْتُلِفَ في إِلحاقِهِم بأيِّ القِسمين،
وهُم: المُخَضْرَمون الذين أدركوا الجَاهِليَّةَ والإِسلامَ، ولم يَرَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
فعدَّهم ابنُ عبدِ البرِّ في الصَّحابةِ، وادَّعى عياضٌ، وغيرُهُ، أنَّ ابنَ عبدِ البرِّ يقولُ: إِنَّهُم صحابةٌ، وفيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّهُ أَفصح في خطبةِ كتابِهِ بأَنَّهُ إِنَّما أَورَدَهُم لِيَكونَ كتابُه جامِعاً مستوعِباً لأهل القَرْن الأول.
والصحيح أنهم معدودون في كبار التابعين، سواءٌ عُرِف أَنَّ الواحِدَ منهُم كانَ مُسلماً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كالنجاشي أم لا، لكنْ، إنْ ثبتَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسْراءِ كُشِفَ لهُ عن جَميعِ مَنْ في الأرْضِ فرَآهُمْ؛ فيَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً بهِ في حياتِه إِذْ ذاكَ، وإنْ لمْ يُلاقِهِ، في الصَّحابةِ، لحُصولِ الرؤية في حياته صلى الله عليه وسلم.

(1/240)


[تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع
تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع
...
[تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع]
فالقِسم الأوَّلُ ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ، مِن الأقسامِ الثلاثةِ -وهو ما تنتهي إليه غايةُ الإِسنادِ- هُو المَرْفوعُ، سواءٌ كانَ ذلك الانتهاء بإسنادٍ متصل أم لا.
والثاني المَوْقوفُ -وهو: ما انْتَهَى إلى الصَّحابيِّ-.
والثَّالِثُ: المقطوع، وهو ما انتهى إلى التابعي.
ومَنْ دون التابعي مِن أَتْباع التابعين، فَمَنْ بعدهم، فيهِ، أَيْ: في التَّسميةِ مثلُهُ، أَي: مثلُ ما ينتَهي إِلى التَّابعيِّ في تسميةِ جميعِ ذلك مَقطوعاً، وإِنْ شئتَ قلتَ: موقوفٌ على فلان.

(1/240)


[الفرقُ بين المقطوع والمنقطع]
فحصَلَت التفرقةُ في الاصطِلاحِ بين المَقطوعِ والمُنْقَطِعِ؛ فالمُنْقَطِعُ مِن مباحِثِ الإِسنادِ -كما تقدَّمَ- والمَقْطوعُ مِن مباحِثِ المَتْنِ، كما ترى، وقد أَطلقَ بعضُهم هذا في موضعِ هذا، وبالعكس، تجوُّزاً عن الاصطلاح.
ويقال للأخيرين، أي الموقوف والمقطوع: الأثر.

(1/240)


[المسند]
والمُسْنَدُ في قولِ أَهلِ الحَديث: "هذا حديثٌ مسندٌ" هو: مرفوعُ صحابيٍ بسندٍ ظاهرُهُ الاتِّصالُ.
فَقَوْلي: "مرفوعُ" كالجِنس.
وَقَوْلي: "صحابيٍ" كالفصلِ، يَخْرج به ما رَفَعَهُ التابعيُّ؛ فإِنَّه مرسَلٌ، أَو مَنْ دونَه؛ فإِنَّه معضَلٌ، أو معلَّقٌ.
وَقَوْلي: "ظاهرُهُ الاتصال"، يَخْرج به ما ظاهرُهُ الانقطاعُ، ويَدْخل ما فيه الاحتمالُ، وما يوجَدُ فيه حقيقةُ الاتصالِ، مِن بابِ الأَولى. ويُفْهَم مِن التَّقييدِ بالظُّهورِ أنَّ الانقطاعَ الخفيَّ، كعنعَنَةِ المدلِّس، والمعاصِرِ الذي لم يَثْبُتْ لُقِيُّه = لا يُخْرِجُ الحديثَ عن كونِه مسنَداً؛ لإِطباقِ الأئمَّةِ الَّذينَ خَرَّجُوا المسانيد على ذلك.
وهذا التَّعريفُ موافِقٌ لقَولِ الحاكمِ: الْمُسْنَد: "ما رواهُ المحدِّث عن شيخٍ يَظْهر سماعُهُ منهُ، وكذا شيخه عن شيخه، متصِلاً إِلى صحابيٍ إِلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم".
وأمَّا الخَطيبُ فقالَ: المسنَدُ: المُتَّصلُ.
فعلى هذا: الموقوفُ إِذا جاءَ بسندٍ متصلٍ يسمَّى عندَه مسنَداً، لكنْ، قال: إنَّ ذلك قد يأْتي، لكنْ، بِقِلَّةٍ. وأَبْعَدَ ابنُ عبدِ البرِّ حيثُ قالَ: المسنَدُ المرفوعُ، ولم يَتعرض للإِسنادِ، فإِنَّهُ يَصْدق على المرسَل والمعضَل والمُنقطِعِ، إِذا كان المتن مرفوعاً، ولا قائل به.

(1/241)


العالي
تعريفه
...
[العالي]
فإنْ قلَّ عَدَدُهُ، أَيْ: عددُ رجالِ السندِ، فإِمَّا:
1- أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم بذلك العدد القليل بالنسبة إلى سندٍ آخَرَ، يَرِدُ به ذلك الحديثُ بعَيْنِهِ بعددٍ كثيرٍ.
2- أَوْ ينتهيَ إِلى إمامٍ مِنْ أَئمَّةِ الحَديثِ ذي صفةٍ عَلِيَّةٍ: كالحفظِ، والفقهِ، والضبطِ، والتصنيفِ، وغيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ المُقتَضِيَةِ للتَّرجيحِ، كشعبةَ ومالكٍ، والثوريِّ، والشافعيِّ، والبُخَارِيّ، ومسلمٍ، ونحوِهِمْ.

(1/241)


[العلو المطلق]
فالأوَّلُ: -وهُو ما ينتَهي إِلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ-: العلوُّ المطْلَق، فإِن اتَّفَقَ أَنْ يكونَ سندُهُ صحيحاً كانَ الغايةَ القُصْوى، وإِلاَّ فصورةُ العلوِّ فيهِ موجودةٌ، ما لم يكُنْ موضوعاً؛ فهو كالعدم.

(1/242)


[العلو النسبي]
والثَّانِي: العلوُّ النِّسْبِيُّ، وهُو ما يَقِلُّ العَدد فيه إلى ذلك الإمام، ولو كان العدد مِن ذلك الإِمامِ إِلى مُنتهاهُ كَثيراً.
وقد عَظُمَتْ رغبةُ المُتأَخِّرينَ فيهِ، حتَّى غَلب ذلك على كثيرٍ منهُم، بحيثُ أَهملوا الاشتِغالَ بما هُو أَهمُّ منهُ.
وإِنَّما كانَ العلوُّ مَرغوباً فيهِ لكونِه أَقربَ إِلى الصحةِ وقلةِ الخطأِ؛ لأنَّهُ ما مِن راوٍ مِن رجالِ الإِسنادِ إِلاَّ والخطأُ جائزٌ عليهِ، فكلَّما كَثُرَت الوسائطُ وطالَ السندُ كَثُرَت مظانُّ التجويز، وكلَّما قلَّتْ قلَّتْ.

(1/242)


[قد يترجح النزولُ على العُلوِّ] :
فإِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ: كأنْ تكونَ رجاله أوثقَ منهُ، أَو أحفظَ، أَو أفقَهَ، أَو الاتصالُ فيه أظهَرُ، فلا تردُّد أَنَّ النزولَ، حينئذٍ، أَولى.
وأَمَّا مَن رجَّح النُّزولَ مُطلقاً واحتجَّ بأنَّ كَثرةَ البحثِ تقتَضي المشقةَ؛ فَيَعْظُمُ الأجْرُ، فذلك ترجيحٌ بأمرٍ أَجنبيٍّ عما يتعلق بالتصحيح والتضعيف.

(1/242)


[أقسام العلوّ النسبيِّ ومعنى الموافقة والبدل والمساواة والمصافحة] :
1- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ الموافَقَةُ، وهي: الوُصولُ إلى شيخِ أحدِ المصنِّفين مِن غيرِ طريقِهِ، أَي: الطَّريقِ التي تصل إلى ذلك المُصَنِّفِ المعَيَّنِ.
مثالُه: روى البُخَارِيّ عن قُتيبةَ عن مالكٍ حديثاً، فلو رَوَيْناهُ مِن طريقِهِ كانَ بينَنا وبين قتيبةَ ثمانيةٌ، ولو رَوْينا ذلك الحديثَ، بعَيْنِهِ، مِن طريقِ أبي العباس السَرَّاج، عن قُتيبةَ، مثلاً، لكانَ بينَنا وبينَ قتيبةَ فيه سبعةٌ؛ فقد حَصَلَ لنا

(1/242)


الموافقةُ معَ البُخَارِيّ في شيخِهِ بعَيْنِهِ معَ عُلُوِّ الإسناد إليه.
2- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ البَدَلُ: وهو الوُصولُ إِلى شيخِ شيخِهِ كذلك، كأنْ يَقَعَ لنا ذلك الإسنادُ، بعَيْنِهِ، مِن طريقٍ أُخرى إِلى القَعْنَبِي عن مالكٍ؛ فيكونُ القعنبيُّ بَدَلاً فيهِ مِن قتيبةَ. وأكثرُ ما يَعْتبرون الموافقةَ والبدَلَ إِذا قارَنَا العلوَّ، وإِلاَّ فاسمُ الموافقةِ والبدَلِ واقعٌ بدُونِه.
3- وفيهِ، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ المساواةُ: وهي استواءُ عددِ الإِِسنادِِ مِن الرَّاوي إِلى آخِرِهِ، أَي: الإِسنادِ مَعَ إسنادِ أحدِ المصنِّفِين. كأَنْ يَرْوِي النسائيُّ، مَثلاً، حَديثاً يقعُ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ أحدَ عشرَ نفساً، فيقعُ لنا ذلك الحديثُ، بعَيْنِهِ، بإسنادٍ آخرَ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم يَقَع بيننا وبينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدَ عشرَ نفساً؛ فَنُساوي النسائيَّ، مِن حيثُ العددُ، معَ قطْع النظرِ عن ملاحظةِ ذلك الإِسنادِ الخاصِّ.
4- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ، أَيضاً، الْمُصَافَحَةُ: وهي: الاستواءُ مَعَ تلميذِ ذلكَ المصنِّف، على الوجه المَشروحِ أوَّلاً، وسُمِّيت مُصافحةً لأنَّ العادةَ جَرَت، في الغالبِ، بالمُصافحةِ بينَ مَن تَلاقَيَا، ونحنُ في هذهِ الصُّورةِ كأَنَّا لَقِيْنَا النسائيَّ؛ فكأَنَّا صافحناه.

(1/243)


[النزول]
ويُقابِل العلوَّ، بأَقْسَامِهِ المَذكورةِ، النزولُ؛ فيكونُ كلُّ قِسْمٍ مِن أَقسامِ العلوِّ يُقابِله قِسْمٌ مِن أَقسام النُّزولِ، خِلافاً لِمَن زعمَ أَنَّ العلوَّ قد يقع غيرَ تابعٍ لنزولٍ.

(1/243)


[رواية الأقران والمدبَّج]
فإنْ تَشارَكَ الرَّاوِي ومَنْ رَوى عَنْهُ، في أمرٍ مِن الأمورِ المتعلِّقَةِ بالرِّوايةِ: مثلَ السِّنِّ، واللقيّ، والأَخْذِ عن المشايخِ = فهُو النُّوعُ الَّذي يُقال لهُ: روايةُ الأَقْران؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قَرِينِهِ.
وإنْ رَوى كلٌّ مِنْهُما، أَي: القَرِينين، عن الآخر فهو المُدبَّج. وهو أَخصُّ مِن الأوَّلِ؛ فكلُّ مُدَبَّجٍ أَقرانٌ، وليسَ كلُّ أَقرانٍ مُدَبَّجاً.

(1/243)


وقد صَنَّفَ الدَّارقطنيُّ في ذلك، وصَنَّفَ أَبو الشيخِ الأصبهانيُّ في الَّذي قبلَه.
وإِذا روى الشَّيخُ عن تلميذِهِ صدَقَ أنَّ كلاًّ منهُما يَرْوِي عن الآخر؛ فهل يُسَمَّى مُدَبَّجاً؟ فيهِ بحثٌ، والظَّاهرُ: لا؛ لأنَّهُ مِن روايةِ الأكابِرِ عَنِ الأصاغِرِ، والتَّدبيجُ مأْخوذٌ مِن دِيباجَتَيْ الوجهِ؛ فَيَقْتَضِي أَن يكونَ ذلك مُستوِياً مِن الجانبَيْنِ؛ فلا يجيءُ فيهِ هذا.

(1/244)


رواية الأكابر عن الأصاغر
تعريفه
...
[رواية الأكابر عن الأصاغر]
وإن روى الراوي عمن هو دونه في السنِّ، أَو في اللُّقِيِّ، أَو في المِقْدار = فهذا النَّوعُ هو روايةُ الأكابِرُ عَنِ الأصاغر.

(1/244)


[الآباء عن الأبناء]
ومِنْهُ، أَيْ: مِن جُمْلةِ هذا النوعِ -وهو أَخَصُّ مِن مُطْلقِهِ- روايةُ الآباءُ عَنِ الأبْناءِ، والصحابةِ عنِ التَّابعينَ والشيخِ عن تلميذِهِ، ونحوِ ذلك.
وفي عكسه كثرةٌ؛ لأنه هو الجادّةُ المسْلوكةُ الغالبةُ.
ومِنْه مَن رَوى عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
وفائدةُ معرفةِ ذلك التمييزُ بينَ مراتِبِهِم، وتنزيلُ الناسِ منازِلَهم.
وقد صَنَّفَ الخطيب في روايةِ الآباءِ عنِ الأبناءِ تصنيفاً، وأَفرد جُزءاً لطيفاً في روايةِ الصَّحابةِ عن التَّابِعينَ. وجَمَع الحافظُ صلاح الدين العَلائيُّ، مِن المتأَخِّرينَ، مُجلَّداً كبيراً في معرفةِ مَن رَوى عن أَبيهِ، عن جدِّهِ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وقسَّمه أَقساماً:
فَمِنْه ما يعودُ الضَّميرُ في قولِه عن جدِّهِ على الرَّاوي.
ومنهُ ما يعودُ الضَّميرُ فيهِ على أَبيهِ.
وبَيَّنَ ذلك وحقَّقَهُ، وخَرّج في كلِّ ترجمةٍ حديثاً مِن مَرْوِيِّهِ، وقد لخّصْتُ كتابَهُ المذكورَ وزِدْتُ عليهِ تَرَاجِمَ كثيرةً جِدّاً. وأَكثرُ ما وقعَ فيه ما تسلسلتْ فيه الرواية عن الآباء بأربعةَ عشرَ أباً.

(1/244)


[السابق واللاحق]
وإن اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شيخٍ وتَقدَّم موتُ أحدِهما على الآخَرِ؛ فهُوَ السَّابِقُ واللاَّحِقُ.
وأكثرُ ما وَقَفْنا عليهِ مِن ذلك ما بينَ الرَّاوْيَيْنِ فيه في الوفاة مائة وخَمْسونَ سنةً، وذلك أَنَّ الحافظَ السِّلَفِيَّ سَمِع منهُ أَبو عليٍّ البَرَدَاني-أحدُ مشايخِهِ- حَديثاً، ورواه عنه، ومات على رأس الخمسمائة، ثمَّ كانَ آخِرَ أصحابِ السِّلَفِيّ بالسماعِ سِبْطُهُ أبو القاسمِ عبدَ الرحمنِ بن مَكِّيٍّ، وكانتْ وفاتُهُ سنةَ خمسين وستمائة.
ومِن قديمِ ذلك أَنَّ البُخَارِيّ حدَّث عن تلميذه أبي العباس السَّرَّاج أشياء، في التَّاريخِ وغيرِه، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتين، وآخِرُ مَن حَدَّث عن السَّرَّاج، بالسَّماعِ، أَبو الحسين الْخَفَّاف، وماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثِ مئةٍ.
وغالِبُ ما يقعُ مِن ذلك أَنَّ المسموعَ منه قد يتأخر بعد أحدِ الرَّاويينِ عنهُ زماناً؛ حتَّى يسمَعَ منهُ بعضُ الأحداث، ويعيش بعد السماع، دَهْراً طويلاً؛ فَيَحْصل مِن مجموعِ ذلك نحوُ هذه المدة. والله الموفق.

(1/245)


[الرواية عن مُتَّفِقي الاسم]
وإنْ رَوى الرَّاوي عَنِ اثْنَيْنِ مُتَّفِقِي الاسْمِ، أَو معَ اسمِ الأبِ، أَو معَ اسمِ الجدِّ، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يَخُصُّ كلاً منهما = فإنْ كانا ثقتين لم يَضُرَّ.
ومِن ذلك ما وقع في البُخَارِيّ في روايتِه عن أَحمدَ، غيرَ منسوبٍ، عن ابنِ وَهْبٍ؛ فإِنَّهُ إِمَّا أَحمدُ بنُ صالحٍ، أَو أَحمدُ بنُ عيسى.
أَو عن محمدٍ، غيرَ منسوبٍ، عن أَهلِ العراقِ؛ فإِنَّهُ إِمَّا محمَّدُ بنُ سَلاَمٍ، أَو محمَّدُ بنُ يَحْيى الذُّهْلِي. وقدِ استوعبتُ ذلك في مقدِّمةِ شرحِ البُخَارِيّ.
ومَن أراد لذلك ضابطاً كُلِّياً يمتاز أَحدُهما عنِ الآخَرِ فباختصاصِهِ، أَي الشيخِ المرويِّ عنه، بأَحَدِهِما يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ، ومتى لم يتَبَيَّنْ ذلك، أَو كانَ مختَصّاً بهما معاً، فإِشكاله شديدٌ؛ فَيُرْجَع فيه إلى القرائنِ والنظرِ الغالب.

(1/245)


[إنكار الراوي لحديثه]
وإنْ رَوى عن شيخٍ حَديثاً فَجَحَد الشيخُ مَرْوِيَّهُ:
فإنْ كانَ جزْماً: كأَنْ يقولَ: كذِبٌ عليَّ، أَو: ما رويتُ هذا، أَو نحوَ ذلك، فإنْ وَقَع منه ذلك رُدَّ ذلك الخبرُ لِكَذِب واحدٍ منهما، لا بِعَيْنِه، ولا يكونُ ذلك قادِحاً في واحدٍ منهُما؛ للتَّعارُضِ.
أَوْ كانَ جحْدُه احْتِمالاً، كأنْ يقولَ: ما أَذكر هذا، أَو لا أعرفه = قُبِلَ ذلك الحديثُ في الأصَحِّ؛ لأَنَّ ذلك يُحْمَل على نِسيانِ الشَّيخِ، وقيلَ: لا يُقْبل؛ لأنَّ الفرعَ تبعٌ للأَصل في إِثباتِ الحَديثِ، بحيث إذا أَثْبَتَ الأصلُ الحديثَ ثَبتَتْ روايةُ الفرع، وكذلك ينْبَغي أَنْ يكونَ فرعاً عليهِ، وتَبَعاً لهُ -في التحقيق-في النفي.
وهذا مُتَعَقَّبٌ فإن عدالَةَ الفرعِ تقتَضي صِدْقَهُ، وعدمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنافيهِ، فالمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النَّافي. وأَمَّا قياسُ ذلك بالشَّهادةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ شهادةَ الفرعِ لا تُسْمَع معَ القُدرةِ على شَهادةِ الأَصلِ، بخلاف الرواية؛ فافترقا.
وفيه، أي: في هذا النَّوعِ، صَنَّفَ الدَّارقطني كتابَ: "مَنْ حَدَّث ونَسِيَ"، وفيه ما يدلُّ على تَقْوِيَةِ المذهب الصَّحيحِ؛ لكونِ كثيرٍ مِنهُم حدَّثوا بأَحاديثَ فلما عُرِضَتْ عليهم لم يتذكروها، لكنَّهُم؛ لاعْتِمادِهم على الرُّواةِ عنهُم، صارُوا يَرْوونها عنِ الَّذينَ رَوَوْها عنهُم، عن أَنْفُسِهِم، كحَديثِ سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ مرفوعاً في قِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمينِ، قالَ عبدُ العزيزِ بنُ محمَّدٍ الدَّراوَرْدِي: حدَّثني بهِ ربيعةُ بنُ أَبي عبدِ الرحمنِ عن سهيل، فلقيتُ سُهيلاً فسأَلتُه عنهُ فلم يَعْرِفْهُ، فقلتُ: إنَّ ربيعةَ حدَّثني عنكَ بكذا، فكانَ سُهَيْلٌ بعد ذلك يقول: حدثني ربيعةُ عَنِّي أَنِّي حدَّثتُه عن أَبِي بهِ. ونظائرُهُ كثيرة.

(1/246)


[المُسَلْسَل]
وإن اتفق الرَّواةُ في إسنادٍ مِن الأسانيدِ في صِيِغِ الأداء: كسمعت فلاناً، قالَ: سمعتُ فُلاناً، أَوْ: حدَّثنا فُلانٌ، قال: حدثنا فلان، وغير ذلك من الصِّيَغِ، أَوْ غَيْرِها مِن الحالاتِ القولية، كسمعت فلاناً يقول: "أشهد بالله لقد حدثني فلان ... "، إلى آخره، أَو الفِعليَّةِ كقولِه: دَخَلْنا على فُلانٍ فأَطْعَمَنا تمراً إلى آخره، أو القولية والفعلية معاً كقوله: "حدثني فلان وهو آخذ بلحيته قال: آمنتُ بالقَدَر ... "، إلى آخره = فهو المسَلْسَلُ.
وهو مِن صفات الإِسنادِ، وقد يقعُ التَّسلسُلُ في مُعْظم الإِسنادِ، كحديثِ المسلسَل بالأوَّلية، فإِنَّ السَّلْسَلَةَ تنْتَهي فيهِ إِلى سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ فقط، ومَنْ رواهُ مسلسلاً إلى منتهاه فقد وَهِمَ.

(1/247)


صيغ الأداء ومراتبها
مراتبه
...
[صيغ الأداء ومراتبها]
وصِيغ الأداء المشار إليه على ثمانية مراتِبَ:
الأولى: سمعتُ وحَدَّثَني.
ثمَّ أخْبَرَني وقرأتُ عليهِ وهي المرتبةُ الثَّانيةُ.
ثمَّ قُرِئ عَلَيْهِ وأَنا أَسْمَعُ وهي الثالثةُ.
ثمَّ أَنْبَأَني وهي الرَّابعةُ.
ثمَّ ناوَلَني وهي الخامسةُ.
ثمَّ شافَهَني أَيْ بالإِجازةِ وهي السَّادسةُ.
ثمَّ كَتَبَ إليَّ أَيْ بالإجازة وهي السابعة.
ثم "عن"، ونحوها: مِن الصِّيَغ المحتَمِلَةِ للسَّماعِ والإِجازةِ، ولِعدمِ السَّماعِ أَيضاً، وهذا مثل: قال وذَكر ورَوَى.

(1/247)


[محل استعمال تلك الصِيَغِ]
واللفظان الأَوَّلان مِن صِيَغ الأداءِ، وهُما: سمعتُ وحدَّثني صالِحانِ لِمَنْ سَمِع وَحْدَهُ مِن لَفْظِ الشَّيْخِ. وتخصيصُ التحديث بما سُمِع من لفظ الشيخ هو الشَّائعُ بينَ أَهلِ الحَديثِ اصطِلاحاً، ولا فرقَ بينَ التَّحديثِ والإِخبارِ مِن حيثُ اللُّغةُ، وفي ادِّعاءِ الفرقِ بينَهما تكلُّفٌ شديدٌ، لكنْ، لما تقرَّر الاصطلاحُ صارَ ذلك حقيقةً

(1/247)


عُرفِيةً فَتُقَدَّمُ على الحقيقةِ اللُّغويةِ، معَ أَنَّ هذا الاصطلاحَ إِنَّما شاعَ عندَ المَشارِقة ومَنْ تَبِعَهُم، وأَمَّا غالِبُ المَغارِبَةِ فلمْ يستَعْمِلوا هذا الاصطلاح، بل الإخبارُ والتحديثُ عندَهُم بمعنىً واحدٍ.
فإنْ جَمع، الرَّاوي أَيْ: أَتى بصيغةِ الجَمْعِ في الصِّيغةِ الأولى، كأنْ يقولَ: حدَّثَنا فلانٌ، أَو: سَمِعْنا فلاناً يقولُ = فهُو دليلٌ على أَنَّه سَمِعَ منهُ مَعَ غَيْرِهِ، وقد تكونُ النُّونُ للعظمة، لكن، بِقِلِّةٍ.
وأَوَّلُها، أَيْ: المراتِبِ أَصْرَحُها، أَيْ: أصرحُ صِيِغِ الأَداءِ في سماع قائلها؛ لأنها لا تحتمل الواسطة، لكن، "حدثني" قد تُطلق في الإِجازةِ تدليساً. وأرفَعُها مِقداراً ما يقعُ في الإِمْلاءِ؛ لِمَا فيهِ مِن التثبُّتِ والتحفُّظِ.
والثالث: وهو أخبرني، والرابع: وهو قرأت = لمن قرأ بنفسه على الشيخ، فإن جَمَع كأنْ يقولَ: أخبرنا، أو: قرأنا عليه، فهو كالخامس، وهو: قُرِئَ عليهِ وأَنا أَسمعُ. وَعُرِفَ مِن هذا أَنَّ التعبيرَ "بِقَرَأْتُ" لِمَن قرأَ خيرٌ مِن التَّعبيرِ بالإِخبارِ؛ لأنَّهُ أَفصحُ بصورةِ الحالِ.
تنبيهٌ:
القراءةُ على الشَّيخِ أَحَدُ وجوهِ التحمُّلِ عندَ الجُمهورِ، وأَبْعَدَ مَنْ أَبى ذلك مِن أَهلِ العِراقِ، وقد اشتدَّ إنكارُ الإِمامِ مالكٍ، وغيرِهِ مِن المدنيِّينَ، عليهِم في ذلك، حتى بالغَ بعضُهُم فرجَّحها على السَّماعِ مِن لفظِ الشَّيخِ، وذهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ، منهُم البُخَارِيّ -وحكاهُ في أَوائلِ صحيحِهِ عن جماعةٍ مِن الأئمَّةِ- إِلى أَنَّ السماعَ مِن لفظِ الشيخِ والقراءةَ عليهِ -يعني في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ- سواءً، واللهُ أعلم.

(1/248)


[مفهوم الإنباءِ لغةً واصطلاحاً]
والإنباءُ مِن حيثُ اللغةُ واصطلاحُ المتقدِّمينَ بمعْنَى الإخبارِ، إِلاَّ في عُرْف المُتَأَخِّرينَ فهُو للإِجازَةِ كـ"عن"، لأنها في عرف المتأخرين للإجازة.

(1/248)


[المعنعن وحكمه]
وعَنْعَنَةُ المعاصِرِ محمولةٌ عَلى السَّماعِ، بخلافِ غيرِ المُعاصِرِ فإِنَّها تكونُ مرسَلةً أَو مُنقطِعَةً، فشرْطُ حملها على السماع ثبوت المعاصَرَةِ، إلا مِن المَدّلِّس فإنها ليست محمولةً على السماع.
وقيلَ: يُشْترط في حملِ عنعنةِ المعاصِرِ على السماع ثبوتُ لقائهما، أَيْ: الشيخ والراوي عنه، ولو مرةً واحدةً؛ لِيَحْصل الأمنُ مِن باقي مَعُنْعَنِهِ عن كونِهِ من المرسَل الخفيِّ، وهُو المُخْتارُ، تبعاً لعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخَارِيّ، وغيرهما من النُّقَّاد.

(1/249)


[أحكام طرق التحمل والأداء]
وأَطْلَقُوا المشافهةَ في الإِجازَةِ المتلفَّظ بِها تجوُّزاً، وَكذا الْمُكاتَبَةُ في الإِجازَةِ المكتوبُ بِها: وهُو موجودٌ في عبارةِ كثيرٍ مِن المُتأَخِّرينَ، بخلافِ المتقدمين؛ فإنهم إنما يطلقونها فيما كَتب بهِ الشَّيخُ مِن الحديثِ إِلى الطَّالبِ، سواءٌ أَذِن لهُ في رِوايتِه أَم لا، لا فيما إذا كَتَب إليه بالإجازة فقط.

(1/249)


[شرط الرواية بالمناولة]
واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ الرِّوايةِ بالمُناوَلَةِ اقترانَها بالإِذْنِ بالرِّوايةِ، وهِيَ إذا حَصَل هذا الشَّرطُ أرفعُ أنواعِ الإِجازَةِ؛ لِما فيها مِن التَّعيينِ والتَّشخيصِ.
وصُوْرَتُها: أَنْ يَدفع الشيخُ أصلَهُ، أَو ما قامَ مقامَهُ للطَّالِبِ، أَو: يُحْضِر الطالبُ الأصلَ للشيخ، ويقول له في الصورتين: هذا روايتي عن فلان فارْوِهِ عَنِّي، وشرْطه، أَيضاً، أَنْ يُمَكِّنَهُ منهُ: إِمَّا بالتَّمليكِ، وإِمَّا بالعاريَّةِ؛ لِيَنْقُلَ منهُ ويقابلَ عليهِ، وإِلاَّ إنْ ناولَهُ واستردَّ في الحال فلا يتبين لها زيادةُ مزيةٍ على الإِجازةِ المعَيَّنة، وهيَ: أن يُجِيزه الشيخُ بروايةِ كتابٍ معَيَّنٍ ويُعَيِّن لهُ كيفيَّةَ روايتِهِ لهُ.
وإِذا خَلَت المُناولَةُ عن الإِذنِ لم يُعْتَبَرْ بها عندَ الجُمهورِ، وجَنَح مَن اعْتَبَرَها إِلى أنَّ مُناولَتَهُ إِيَّاهُ تقومُ مقامَ إرسالِهِ إليهِ بالكتابِ مِن بلدٍ إلى بلد.
وقد ذهب إلى صحةِ الرواية بالكتابة المجرَّدةِ جماعةٌ مِن الأئمة، ولو لم يُقْرَنْ

(1/249)


ذلك بالإِذنِ بالرِّوايةِ، كأَنَّهُم اكْتَفَوْا في ذلك بالقرينةِ، ولمْ يَظْهر لي فرقٌ قويٌّ بينَ مناولةِ الشيخ مِن يده للطالب، وبينَ إِرسالِهِ إِليهِ بالكتابِ مِن موضعٍ إِلى آخَرَ، إِذا خَلا كلٌّ منهُما عن الإِذنِ.

(1/250)


[شرط الوِجَادة والوصيّة بالكتاب والإعلام]
وكَذا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادة:
وهي: أَنْ يَجِدَ بخطٍّ يعْرِفُ كاتِبَهُ فيقولُ: وجَدْتُ بخطِّ فلانٍ، ولا يَسُوغُ فيهِ إِطلاقُ أَخْبَرَني بمجرَّدِ ذلك، إِلاَّ إِنْ كانَ لهُ مِنه إذْنٌ بالرواية عنه، وأَطْلَقَ قومٌ ذلك فَغُلِّطوا.
وكذا الوصية بالكتاب:
وهو: أن يوصي عندَ موتِه، أَو سفرِهِ، لشخصٍ مُعَيَّنٍ، بأَصلِه، أَو بأُصولِهِ، فقد قالَ قومٌ مِن الأئمَّةِ المتقدمين: يجوز له أَنْ يروِيَ تلكَ الأصولَ عنهُ بمجرَّدِ هذه الوصيَّةِ، وأَبَى ذلك الجُمهورُ، إِلاَّ إنْ كانَ له منه إجازةٌ.
وكذا اشترطوا الإذن بالرواية في الإِعْلامِ:
وهُو: أَنْ يُعْلِمَ الشيخُ أحدَ الطَّلبةِ بأَنَّني أَروي الكِتابَ الفُلانيَّ عن فُلانٍ، فإِنْ كانَ لهُ منهُ إجازةٌ اعْتُبِرَ، وإِلاَّ فلا عِبْرَةَ بذلك.
كالإِجَازَةِ العَامَّةِ في الْمُجَازِ لهُ، لا في المُجازِ بهِ، كأَنْ يقولَ: أجزت لجَميعِ المُسلمينَ، أَو لِمَن أَدرك حَياتِي، أَو لأهل الإقليم الفلاني، أو لأهل البلد الفُلانيَّةِ، وهُو أَقربُ إِلى الصِّحَّةِ؛ لقُرْبِ الانحصارِ.
وكذا الإِجازةُ للمَجْهُولِ، كأَنْ يَكونَ مُبْهَماً أَوْ مُهْمَلاً.
وكذا الإِجازةُ للمَعْدومِ كأنْ يقولَ: أجَزْتُ لِمَنْ سَيولَدُ لفلان، وقد قيل: إنْ عَطَفَه على موجودٍ صحّ، وكأنْ يقول: أجزت لك ولِمَن سيولد لك، وقد قيل: الأقرب عدمُ الصحة، أيضاً، وكذلك الإِجازةُ لموجودٍ، أَو معدومٍ، عُلِّقَتْ بشرطِ مشيئةِ الغيرِ، كأنْ يقولَ: أجزتُ لكَ إِنْ شاءَ فلانٌ، أَو أجزتُ لِمَن شاءَ فُلانٌ، لا أَنْ يقولَ: أَجزْتُ لك إِنْ شئْتَ. وهذا في الأصح في جميع ذلك.

(1/250)


وقد جَوَّز الرِّوايةَ بجَميعِ ذلك -سِوى المَجْهولِ، ما لم يَتَبَيَّنِ المُرادُ منهُ- الخطيبُ، وحَكاهُ عن جماعةٍ مِن مشايخِهِ، واستعمَلَ الإجازةَ للمَعدومِ مِن القُدماءِ أَبو بكرِ بنُ أَبي دَاودَ، وأبو عبدِ اللهِ بنُ مَنْدَه، واستَعْمَلَ المعلَّقةَ منهُم، أَيضاً، أَبو بكرِ بنُ أَبي خَيْثَمَة، ورَوى بالإجازة العامَّةِ جَمْعٌ كَثيرٌ جَمَعَهُمْ بعضُ الحُفّاظ في كتَاب، ورتَّبهم على حُروف المعجَمِ لكَثْرَتِهم.
وكلُّ ذلك، كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ، توسُّعٌ غيرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ الإِجازةَ الخاصَّةَ المُعَيَّنَةَ مُخْتَلَفٌ في صحَّتِها اختِلافاً قويّاً عندَ القُدماءِ، وإِنْ كانَ العملُ استقرَّ على اعْتبارِها عندَ المتأَخِّرينَ، فهِيَ دونَ السماع بالاتِّفاقِ، فكيفَ إِذا حَصَل فيها الاسترسالُ المَذكورُ! فإِنَّها تَزدادُ ضَعفاً، لكنَّها، في الجُملةِ، خيرٌ مِن إِيرادِ الحَديثِ مُعْضَلاً. واللهُ تعالى أَعلمُ.
وإلى هُنا انْتَهى الكلامُ في أَقسامِ صِيَغِ الأداءِ.

(1/251)


[المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ]
ثمَّ الرُّواةُ:
1- إِنِ اتفقتْ أَسماؤهم وأَسْماءُ آبائِهِمْ فَصاعِداً، واختلفتْ أَشْخَاصُهُمْ، سواءٌ اتَّفَقَ في ذلك اثنان منهم أو أكثر، وكذلك إذا اتفق اثْنانِ فصاعِداً في الكُنيةِ والنِّسبةِ = فهُو النَّوعُ الذي يُقالُ لهُ: المُتَّفِقُ والْمُفْتَرِقُ.
وفائدةُ معرفَتِه: خشيةُ أَنْ يُظَنَّ الشخصانِ شَخْصاً واحِداً، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً حافِلاً، وقد لَخَّصتُه وزدتُ عليه شيئاً كثيراً.
وهذا عَكسُ ما تقدَّمَ مِن النَّوعِ المسمَّى بالمُهْمَلِ؛ لأنَّهُ يُخشى منهُ أَن يُظَنَّ الواحِدُ اثنَيْنِ، وهذا يُخشى منهُ أَنْ يُظَنَّ الاثنانِ واحداً.

(1/251)


[المُؤتَلِفُ والمُخْتَلِفُ]
2-وإِنِ اتَّفَقَتِ الأَسْماءُ خَطّاً واخْتَلَفَتْ نُطْقاً سواءٌ كان مرجع الاختلاف النَّقْط أم الشَّكْل فهُو الْمُؤْتَلِفُ والْمُخْتَلِفُ.
ومعرِفَتُه مِن مهمَّات هذا الفنِّ حتَّى قالَ عليُّ بنُ المَدينيِّ: أشدُّ التَّصحيفِ ما يقعُ في الأسماءِ. ووجَّهَهُ بعضُهم بأنه شيء لا يَدْخله القياسُ، ولا قَبْله شيءٌ يَدُلُّ عليهِ، ولا بَعْدَهُ، وقد صَنَّفَ فيهِ أَبو أَحمدَ العسكريُّ، لكنَّه، أضافه إلى كتابِ التَّصحيفِ له، ثمَّ أَفرَدَهُ بالتَّأْليفِ عبدُ الغنيِّ بن سعيد فَجَمع فيه كتابين: كتاب في مُشْتَبَهِ الأسماء، وكتاب في مُشْتَبَهِ النِّسبةِ، وجَمَع شيخُهُ الدَّارقطنيُّ في ذلك كتاباً حافلاً ثم جَمَع الخَطيبُ ذَيلاً.
ثمَّ جَمَع الجميعَ أَبو نصر بن ماكولا في كتابه "الإكمال"، واسْتَدْرَكَ عليهِم في كتابٍ آخرَ جَمَع فيهِ أَوهامَهُمْ وبَيَّنها، وكتابُه مِنْ أجمعِ ما جُمِعَ في ذلك، وهُو عمدُة كلِّ محدِّثٍ بعدَه.
وقد استَدْرَكَ عليهِ أَبو بكرٍ بنُ نقطةَ ما فاتَه، أو تَجدَّد بعدَه في مجلدٍ ضَخْمٍ، ثمَّ ذَيّل عليهِ منصورُ بنُ سَليم -بفتحِ السَّينِ- في مجلدٍ لطيفٍ، وكذلك، أَبو حامد بن الصَّابونيِّ، وجَمَع الذهبيُّ في ذلكَ كِتاباً مختصَراً جِدّاً اعتَمَدَ فيهِ على الضَّبْطِ بالقَلَمِ؛ فَكَثُرَ فيهِ الغَلَطُ والتَّصحيفُ الْمُبَايِنُ لموضوعِ الكِتابِ.
وقد يَسَّر الله تعالى بتوضيحه في كتاب سَمَّيتُه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، وهو مجلدٌ واحدٌ؛ فضبطتُه بالحُروفِ على الطَّريقةِ المرْضِيَّة، وزدتُ عليهِ شيئاً كثيراً ممَّا أَهْمَلَهُ، أَو لَمْ يَقِفْ عليهِ، وللهِ الحمدُ على ذلك.

(1/252)


شُيوخِ البُخَارِيّ = فهُو النَّوعُ الَّذي يُقالُ لهُ: المُتشابِهُ.
وكَذا إنْ وَقَعَ ذلك الاتِّفَاقُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، والاختلافُ في النِّسبَةِ، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً جَليلاً سَمَّاهُ "تَلخيصَ المتشابه" ثم ذيّل عليهِ أَيضاً بما فاته أَوَّلاً وهُو كثيرُ الفائدةِ.
ويَتَرَكَّبُ مِنْهُ ومِمَّا قَبْلَهُ أَنْواعٌ: مِنها: أَنْ يَحْصل الاتِّفاقُ أو الاشتِباهُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، مثلاً، إلاَّ في حرفٍ أَو حَرْفَيْنِ، فأكثرَ، مِن أَحدِهِما، أو مِنهُما. وهُو على قسمين:
أ- إما بأن يكونَ الاخْتِلافُ بالتَّغييرِ، معَ أَنَّ عدَدَ الحُروفِ ثابتةٌ في الجهتين.
ب- أو يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصانِ بعضِ الأسماءِ عن بعضٍ.
فَمِن أَمثِلَةِ الأول: محمد بن سِنان -بكسر المُهمَلَةِ ونونينِ بينَهُما أَلِفٌ- وهُمْ جماعةٌ، منهُم العَوَقِيّ -بفتح العين والواو ثم القافِ- شيخُ البُخَارِيّ، ومحمَّدُ بنُ سَيَّار -بفتحِ المهملة وتشديد الياء التحتانية وبعد الألف راء- وهُمْ أيضاً جماعةٌ، منهم: اليماني شيخُ عُمرَ بنِ يونُسَ.
ومنها: محمَّدُ بنُ حُنَين -بضم المُهمَلَةِ ونونينِ الأولى مفتوحةٌ بينَهما ياءٌ تحتانيَّةٌ- تابعيٌّ يَروي عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، ومحمَّدُ بنُ جُبَيْر -بالجيم بعدها موحدة وآخره راء- وهو محمد بن جُبَيْر من مُطْعِم، تابعيٌّ مشهورٌ، أَيضاً.
ومِن ذلك: مُعَرِّف بنُ واصِلٍ كوفِيٌّ مشهورٌ، ومُطَرِّفُ بنُ واصِلٍ -بالطَّاءِ بدلَ العينِ- شيخٌ آخرُ يروي عنهُ أَبو حُذيفَةَ النَّهْدِي.
ومنهُ، أَيضاً: أَحمدُ بنُ الحسين صاحب إبراهيم بن سعد، وآخرون، وأَحْيَدُ ابن الحُسينِ، مثلُهُ، لكِنْ، بدلَ الميمِ ياءٌ تحتانيَّةٌ، وهو شيخٌ بخاريٌّ يروي عنهُ عبدُ اللهِ بن محمد البِيكَنْدِي.
ومِن ذلك، أَيضاً: حفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ، شيخٌ مشهور من طبقة مالك، وجعفر ابن مَيْسَرَةَ شيخٌ لعُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوسى الكُوفيِّ، الأوَّلُ بالحاءِ المُهْمَلَةِ والفاءِ بعدَها

(1/253)


صاد مهملة، والثاني بالجيم والعين المُهْمَلَةِ بعدَها فاءٌ ثمَّ راءٌ.
ومِن أَمثلَةِ الثاني: عبد الله بن زيد، وهُم جماعةٌ:
منهُم في الصَّحابةِ:
- صاحِبُ الأذانِ، واسمُ جدِّهِ عبدُ ربِّهِ.
- وراوِي حديثِ الوُضوءِ، واسمُ جده عاصم. وهما أَنصاريَّانِ.
وعبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ، بزيادةِ ياءٍ في أَوَّلِ اسمِ الأبِ والزَّايُ مكسورةٌ، وهُم أيضاً جَماعةٌ:
منهُم في الصَّحابةِ:
-الخَطْمِي يُكْنَى أبا موسى وحديثه في الصحيحين.
- والقارئ، له ذكْرٌ في حديث عائشة. وقد زعَمَ بعضُهم أَنَّه الخطْمِيُّ. وفيهِ نظرٌ.
ومنها: عبد الله بن يحيى، وهم جماعةٌ، وعبد اللهِ بنُ نُجَيّ -بضمِّ النُّونِ وفتحِ الجيمِ وتشديدِ الياءِ- تابعيٌّ معروفٌ يَرْوِي عن عليٍّ.

(1/254)


[المتشابه من الرُّواة]
3- وإن اتفقت الأسماء: خَطّاً ونُطْقاً، واختلف الآباء نُطْقاً، مع اختلافهما خَطّاً: كمحمَّدِ بنِ عَقيل -بفتحِ العينِ- ومحمَّدِ بن عُقَيْل -بضمها-: الأول نيسابوريٌّ، والثاني فِرْيابيّ، وهما مشهوران وطبقتُهُما متقاربة.
أو بالعكس: كأنْ تختلف الأسماء: نُطْقاً، وتَأْتَلِف خَطّاً، وتتَّفقَ الآباءُ: خَطّاً ونُطْقاً: كشُرَيْح بنِ النُّعمانِ، وسُرَيْج بنِ النُّعمانِ، الأوَّلُ بالشِّينِ المُعجمةِ والحاءِ المُهملةِ وهو تابعيٌّ يروي عن علي رضي الله عنهُ، والثَّاني بالسِّينِ المُهمَلَةِ والجيمِ وهُو مِن

(1/252)


[المتشابه والمقلوب]
4- أَوْ يَحْصُلُ الاتفاقُ في الخَطِّ والنُّطْقِ، لكنْ، يحصل الاختلاف أو الاشتباه بالتقديم والتَّأْخيرِ: إِمَّا في الاسمينَ جُملةً، أَو نَحْوَ ذلكَ، كأَنْ يقَعَ التقديمُ والتأخيرُ في الاسمِ الواحِدِ في بعضِ حُروفِهِ بالنِّسبةِ إِلى ما يشتَبِهُ بهِ.
مثالُ الأوَّلِ: الأسودُ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ الأسوَدِ وهُو ظاهِرٌ، ومنهُ عبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ.
ومثالُ الثَّانِي: أَيُّوبُ بنُ سَيّار، وأَيُّوبُ بنُ يَسار، الأوَّلُ مدَنيُّ مشهورٌ ليسَ بالقويِّ، والآخَرُ مجهول.

(1/254)


خاتِمَةٌ
ومِن المهم عند المحدثين معرفةُ طبقاتِ الرواة.
[طبقات الرواة]
وفائدته: الأمْنُ مِن تَداخُلِ المُشتَبِهينَ. وإِمكانُ الاطِّلاعِ على تبيين المدلِّسين.
والوقوفُ على حَقيقةِ المُرادِ مِن العَنْعَنَةِ.
والطَّبَقَةُ في اصْطِلاحِهِم: عبارةٌ عنْ جماعةٍ اشْتَركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ.
وقد يكونُ الشَّخصُ الواحِدُ مِن طبَقَتَيْنِ باعْتِبارينِ، كأَنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه، فإنه من حيثُ ثبوتُ صحبتِهِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعَدُّ في طبقةِ العشرةِ، مثلاً، ومِن حيثُ صِغَرُ السِّنِّ يُعَدُّ في طبقةٍ بعدَهُم، فمَنْ نَظَرَ إِلى الصَّحابةِ باعْتِبارِ الصُّحبَةِ جَعَلَ الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حِبّان، وغيرُه، ومَنْ نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ قدرٍ زائدٍ، كالسَّبْقِ إِلى الإِسلامِ، أَو شهودِ المَشاهِدِ الفاضِلَةِ، جعَلهم طبقاتٍ، وإِلى ذلك جَنَح صاحِبُ الطَّبقاتِ أَبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ سعدٍ البَغداديُّ، وكتابُه أجمعُ ما جُمِعَ في ذلك.
وكذلك مَن جاءَ بعدَ الصَّحابةِ، وهُم التَّابعونَ: مَن نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ الأخذِ عن بعضِ الصحابةِ = فقد جعَل الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حبان، أيضاً، ومَن نَظر إِليهِم باعتبارِ اللِّقاءِ قسَّمهم، كما فعَلَ محمَّدُ بنُ سعدٍ، ولكلٍ منهُما وجْهٌ.

(1/255)


[التاريخ]
ومِن المهم، أيضاً، معرفة مواليدهم، ووفياتهم.
لأنَّ بمعرفتِها يَحْصل الأمْنُ مِنْ دَعوى المدِّعي لِلِقاءِ بعضِهِم، وهو في نفس الأمر ليس كذلك.

(1/355)


[أوطان الرواة]
وَمِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ بُلْدانهم وأَوطانِهم، وفائدتُهُ الأمنُ مِن تداخل الاسمين إذا اتَّفقا، لكن، افترقا بالنسب.

(1/355)


معرفة الثقات والضعفاء
أهميته
...
[معرفة الثقات والضعفاء]
ومِن المُهِمِّ، أَيضاً، معرفةُ أَحْوالِهِمْ: تَعْديلاً وتَجْريحاً، وجَهالةً؛ لأنَّ الرَّاويَ إِمَّا أَنْ تُعرَفَ عدالتُهُ، أو يُعرَفَ فِسْقُهُ، أوْ لا يُعرَف فيه شيءٌ مِن ذلك.
ومِن أهم ذلك، بعدَ الاطِّلاعِ، معرفةُ مراتبِ الجَرْحِ والتَّعديلِ.
لأنَّهُم قد يَجْرحون الشخصَ بما لا يستَلْزِمُ رَدَّ حديثِه كلِّهِ، وقد بَيَّنَّا أسبابَ ذلك فيما مَضى، وحَصَرْناها في عشرةٍ، وتقدَّم شرحُها مُفَصَّلاً.
والغرضُ هُنا ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطلاحهم على تلك المراتب.

(1/256)


[مراتب الجرح]
وللجرح مراتب:
أسوأُها الوَصْفُ بما دلَّ على المُبالَغَةِ فيهِ، وأصرح ذلك التعبير بأَفْعَلَ، كأكذب النَّاسِ، وكذا قولُهم: إِليهِ المُنْتَهى في الوضعِ، أو رُكْن الكذبِ، ونحوُ ذلك.
ثمَّ: دجَّالٌ، أو وَضّاع، أو كَذَّابٌ؛ لأنَّها وإِنْ كانَ فيها نوعُ مبالغةٍ، لكنها دون التي قبلها.
وأَسْهَلُها، أَي: الألفاظِ الدَّالَّةِ على الجَرْح = قولُهم: فلانٌ لَيِّنٌ، أو سَيِّءُ الحفظ، أو: فيه أدنى مقالٍ.
وبَيْنَ أسوأِ الجرح وأسهلِهِ مراتبُ لا تخفى.
قولهم: متروكٌ، أو ساقطٌ، أَو فاحشُ الغلطِ، أَو منكرُ الحديثِ، أشدُّ مِن قولهم: ضعيفٌ، أَو ليسَ بالقويِّ، أَو فيهِ مقالٌ.

(1/256)


[مراتب التعديل]
ومِن المهمِّ، أَيضاً: معرِفةُ مراتِبِ التَّعديلِ:
وأَرْفَعُها الوَصْفُ، أَيضاً، بما دَلَّ على المُبالغةِ فيهِ، وأصْرَحُ ذلك: التعبيرُ بأفعلَ، كأوثقِ النَّاسِ، أَو أثبتِ النَّاس، أَو إِليهِ المُنْتَهى في الثبتِ.
ثمَّ ما تَأَكَّدَ بصفةٍ مِن الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على التعديل، أو وصفين: كثقةٍ ثقةٍ، أو

(1/256)


ثبتٍ ثبتٍ، أَوْ ثقةٍ حافظٍ، أَو عدلٍ ضابطٍ، أو نحو ذلك.
وأدناها ما أَشْعَر بالقربِ من أسهل التجريح: كشيخٍ، وَيُرْوَى حديثه، ويُعْتَبَرْ بهِ، ونحوِ ذلك.
وبَيْنَ ذلك مراتبُ لا تَخْفَى.

(1/257)


[أحكام الجرح والتعديل]
وهذه أحكامٌ تتعلق بذلك، ذُكِرَتْ ها هُنا لتكملةِ الفائدةِ، فأَقولُ:
تُقبَل التزكيةُ مِن عارفٍ بأسبابها، لا مِن غير عارفٍ؛ لئلا يُزَكِّيَ بمجردِ ما ظهر له ابتداءً، مِن غير ممارسةٍ واختبارٍ، ولو كانت التزكية صادرةً من مُزَكٍّ واحدٍ، عَلى الأصَحِّ، خلافاً لِمَن شرَط أَنَّها لا تُقبَل إِلاَّ مِن اثْنَيْنِ؛ إِلْحاقاً لها بالشَّهادَةِ، في الأصحِّ، أَيضاً.
والفَرْقُ بينَهُما: أَنَّ التزكيةَ تُنَزَّلُ منزلةَ الْحُكْم؛ فلا يُشتَرَط فيها العدد، والشهادةُ تقع مِن الشاهد عندَ الحاكِمِ؛ فافْتَرقا.
ولَوْ قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إِذا كانتِ التَّزكيةُ في الرَّاوي مُستَنِدَةً مِن المزكِّي إِلى اجْتِهادِهِ، أَو إِلى النَّقْل عنْ غيرِه لكان مُتَّجِهاً؛ فإنه إنْ كان الأولَ، فلا يُشترط العَدَدُ أَصلاً؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ بمنزلةِ الحاكمِ، وإن كان الثانِيَ، فَيَجْرِي فيه الخلافُ. وتبيّنَ أنه، أيضاً، لا يُشترط العدد؛ لأنَّ أَصلَ النَّقلِ لا يُشترط فيهِ العددُ؛ فكذا ما تَفرَّع عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/257)


[ليس كل جرح جارحٍ يُقْبَل]
وينبغي أَنْ لا يُقْبل الجَرْحُ والتَّعْديلُ إِلاَّ مِن عدلٍ مُتَيَقِّظٍ؛ فلا يُقْبل جرحُ مَن أَفْرَطَ فيه؛ فَجَرَحَ بما لا يقتضي ردَّ حديث المحدِّث، كما لا تُقبل تزكيةُ مَن أَخذ بمجرَّدِ الظَّاهِرِ؛ فأَطلق التزكيةَ.
وقال الذهبي -وهو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-: لمْ يَجتمع اثْنانِ مِن عُلماءِ هذا الشَّأنِ قطُّ على توثيقِ ضعيفٍ، ولا على تضعيفِ ثقةٍ انتهى.

(1/257)


ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يُترَكُ حديثُ الرجلِ حتَّى يجتمعَ الجميعُ على تَرْكِهِ.
وَلْيَحْذَر المتكلمُ في هذا الفنِّ مِن التَّساهُلِ في الجَرْحِ والتَّعديلِ؛ فإِنَّهُ إنْ عدّلَ بغيرِ تثبتٍ كانَ كالمُثْبِتِ حُكْماً ليسَ بثابتٍ، فَيُخْشَى عليهِ أَنْ يَدْخل في زُمرةِ مَن روى حَديثاً وهُو يُظَن أَنَّهُ كَذِبٌ، وإِنْ جَرَحَ بغيرِ تحرزٍ أَقدَمَ على الطَّعنِ في مسلمٍ بريءٍ مِن ذلك، ووَسَمه بِمِيْسَمِ سوءٍ يَبْقى عليهِ عارُهُ أَبداً.
والآفةُ تَدْخل في هذا تارةً مِن الهَوى والغرضِ الفاسدِ. وكلامُ المتقدِّمينَ سالِمٌ مِن هذا، غالباً. وتارةً مِن المخالفةِ في العَقائدِ، وهُو موجود كثيراً، قديماً وحَديثاً.
ولا ينْبَغي إِطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قدَّمنا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المبتدعة.

(1/258)


[تقديم الجرح على التعديل]
والجَرْحُ مقدَّمُ عَلى التَّعْديلِ، وأَطلقَ ذلك جماعةٌ، ولكنَّ، محلُّهُ إنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِن عارفٍ بأسبابه؛ لأنَّه إِنْ كانَ غيرَ مُفَسَّرٍ لم يَقدح فيمن ثبتت عدالتُهُ، وإنِ صدَرَ مِن غيرِ عارفٍ بالأسبابِ لم يُعتبر بهِ، أيضاً.
فإنْ خَلا المَجْروحُ عَنِ تعديلٍ قُبِلَ الجرحُ فيهِ مُجمَلاً غيرَ مُبَيَّنِ السَّببِ، إذا صدَر مِن عارفٍ على المختار، لأنه إذا لم يكُنْ فيهِ تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المَجهولِ، وإعمالُ قولِ المجرِّح أَوْلى مِن إِهمالِه.
ومالَ ابنُ الصَّلاحِ في مثلِ هذا إلى التوقُّفِ فيهِ.

(1/258)


الأسماء والكنى
أهميته
...
فصل: [الأسماء والكنى]
ومِن المُهِمَّ، في هذا الفنِّ:
معرفُةُ كُنى المسمَّيْنَ ممَّن اشْتُهِرَ باسمِهِ ولهُ كُنيةٌ لا يُؤْمَن أن يأتي في بعض الروايات مَكْنِيّاً؛ لئلاَّ يُظَنَّ أَنّه آخَرُ.
وَمعرفةُ أَسْمَاءِ المُكَنيّن، وهو عكس الذي قبله.
وَمعرِفةُ مَن اسمُهُ كُنْيَتُهُ، وهُمْ قليلٌ.

(1/258)


وَمعرِفةُ مَن اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ، وهُمْ كثيرٌ.
ومعرفةُ مَنْ كَثَُرتْ كُناه، كابنِ جُرَيْج، لهُ كُنيتانِ: أَبو الوليدِ، وأبو خالدٍ، أَوْ كثُرت نعوته وأَلقابُه.
وَمعرِفةُ مَن وافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسمَ أَبيهِ، كأَبي إِسحاقَ إبراهيمَ بنِ إِسحاقَ المَدنيِّ، أَحدِ أَتْباعِ التابعين، وفائدةُ معرِفَتِه نَفْيُ الغَلَطِ عمَّن نَسَبَهُ إِلى أَبيهِ فقالَ: أَخبرنا ابنُ إِسحاقَ؛ فَنُسِبَ إِلى التصحيف، وأن الصواب: أنا أَبو إِسحاقَ.
أَو بالعَكْسِ: كإِسحاقَ بنِ أَبي إسحاق السَّبِيعي.
أَوْ وافقتْ كُنيتُهُ كنيةَ زَوْجَتِهِ، كأَبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ، وأُم أَيُّوبَ، صحابيَّانِ مشهورانِ.
أَو وافقَ اسمُ شيخِهِ اسمَ أَبيِه، كالرَّبيعِ بنِ أَنسٍ، عن أَنسٍ، هكذا يأْتي في الرِّوايات فَيُظن أنه يروي عن أبيه، كما وقعَ في الصَّحيحِ عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن سعدٍ، وهو أبوهُ، وليسَ أنسٌ -شيخُ الرَّبيعِ-والدَه، بل أَبوهُ بكريٌّ، وشيخُهُ أنصاريٌّ، وهو أنس بنُ مالكٍ الصَّحابيُّ المشهورُ، وليسَ الربيعُ المذكورُ مِن أولاده.

(1/259)


[المنسوبون لغير آبائهم]
وَمعرِفةُ مَنْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ أَبيهِ:
كالمِقدادِ بنِ الأسودِ نُسِبَ إلى الأسودِ الزُّهْرِيِّ لكونِه تبناه، وإنما هو المقداد ابن عمرو.
أو إِلى أُمِّهِ، كابنِ عُلَيّة، هُو إِسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ مِقْسَمٍ، أحدُ الثِّقاتِ، وعُلَيَّةُ اسمُ أُمِّهِ، اشتُهِرَ بها، وكانَ لا يُحِبُّ أَنْ يُقالَ لهُ: ابنُ عُلَيَّة؛ ولهذا كانَ يَقولُ الشَّافِعيُّ: أَخْبَرَنا إِسْماعِيلُ الَّذي يُقالُ لَهُ: ابنُ عُلَيَّة.

(1/259)


[نسب على خلاف ظاهرها]
أَوْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ مَا يَسبق إِلى الفهم:
كالحَذَّاء، ظاهرُهُ أَنّه منسوبٌ إِلى صِناعتها أو بَيْعِها، وليس كذلك، وإِنما كانَ يجالِسُهم؛ فَنُسِب إليهِم.
وكسُليمانَ التَّيميِّ، لم يكنْ مِن بَني التيم، ولكنْ، نَزَل فيهِم.
وكَذا مَن نُسِب إِلى جده؛ فلا يُؤْمَن التباسه، كَمَن وافق اسْمُهُ واسمُ أبيهِ اسمَ الجد المذكور.
وَمعرِفةُ مَن اتَّفَقَ اسمُهُ، واسمُ أَبيهِ، وجَدِّهِ، كالحسنِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بن أبي طالب، وقد يَقَعُ أكثرُ مِن ذلك. وهُو مِن فُروعِ المسَلسَل.
وقد يتَّفِقُ الاسمُ واسمُ الأبِ مع الاسمِ واسمِ الأبِ فصاعداً، كأبي اليمن الكِنْدي هُو زيدُ بنُ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسن بن زيد بن الحسن.
أو يتفق اسمُ الرَّاوي واسمُ شيخِهِ، وشَيْخِ شَيْخِهِ، فصاعِداً: كعمران عن عمران عن عمران، الأول: يُعْرف بالقَصِيرِ، والثَّاني: أبو رَجاءٍ العُطَارِديّ، والثَّالثُ: ابنُ حُصَين الصحابي، وكسُليمانَ عن سُليمانَ عن سُليمانَ، الأوَّلُ: ابنُ أحمدَ بنِ أيوبَ الطَّبرانيُّ، والثَّاني: ابنُ أَحمدَ الواسطيُّ، والثَّالثُ: ابنُ عبد الرحمنِ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابنِ بنتِ شُرَحْبيل.
وقد يقعُ ذلك للرَّاوي ولشيخه معاً، كأبي العلاء الهَمَدَاني العطّار، مشهور بالرِّوايةِ عن أَبي عليٍّ الأصبهانيِّ الحدَّادِ، وكلٌّ منهُما اسمُه الحسنُ بنُ أَحمدَ بنِ الحَسنِ بنِ أَحمدَ بن الحسن بن أحمد فاتَّفقا في ذلك، وافْتَرقا في الكُنيةِ والنِّسْبَةِ إِلى البلد والصناعة. وصَنَّفَ فيه أبو موسى المديني جزءاً حافلاً.
وَمعرفةُ مَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ والرَّاوِي عَنْهُ، وهو نوعٌ لطيفٌ، لم يتعرَّضْ لهُ ابنُ الصَّلاحِ، وفائدتُه رَفْع اللَّبْسِ عمَّن يُظُنُّ أَنَّ فيهِ تَكراراً أو انقلاباً.
فَمِن أَمثلتِه:
البُخَارِيّ، روى عَن مُسْلمٍ وروى عنهُ مُسلمٌ، فشيخُهُ مسلمُ بن إبراهيم الفَرادِيسي البصري، والراوي عنه مسلم بن الحجَّاج القُشَيري صاحِبُ الصَّحيحِ.
وكذا وقعَ ذلك لعَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ، أيضاً: روى عن مُسلمِ بنِ إبراهيم، وروى

(1/260)


عنهُ مُسلمُ بنُ الحجَّاجِ في صحيحِه حديثاً بهذه التَّرجمةِ بعينها.
ومنها: يحيى بنُ أَبي كَثيرٍ: روى عن هِشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ: فشيخُهُ هشام ابن عُروةَ، وهو مِنْ أَقرانِهِ، والرَّاوي عنهُ هِشامٌ بن أبي عبد الله الدستوائي.
ومنها: ابنُ جُريْجٍ روى عن هشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ، فالأعْلى ابنُ عُروةَ، والأدْنى ابنُ يوسف الصنعاني.
ومنها: الحَكَم بن عُتَيْبةَ يروي عن ابن أبي ليلى، وعنه ابنُ أبي لَيْلى، فالأعْلى عبدُ الرَّحمنِ، والأدْنى محمد بن عبد الرحمن المذكور، وأمثلته كثيرة.

(1/261)


[الثقات والضعفاء]
وَمِن المهمِّ، في هذا الفنِّ: مَعْرِفَةِ الأَسْماءِ المجرَّدة، وقد جَمَعَها جماعةٌ مِن الأئمَّةِ.
فمنهُم مَنْ جَمَعَها بغيرِ قيدٍ، كابنِ سعدٍ في الطبقات، وابن أبي خَيْثَمَةَ، والبُخَارِيّ في تاريخهما، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل.
ومنهم مَنْ أفرد الثقات، كالعِجْلي، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ شاهينَ.
ومنهُم مَنْ أَفْرَدَ المَجْروحينَ، كابنِ عَدِيّ، وابنِ حِبّانَ، أَيضاً.
ومنهم مَنْ تَقَيَّدَ بكتابٍ مخصوصٍ، كرجالِ البُخَارِيّ، لأبي نصرٍ الكلاباذي، ورجالِ مسلم، لأبي بكرِ بنِ مَنْجَوَيْهِ، ورجالِهما معاً لأَبي الفضل ابن طاهر، ورجالِ أبي داودَ، لأبي عليٍّ الجِيَانيّ، وكذا رجالُ التِّرمذي، ورجالُ النِّسائي، لجماعةٍ مِن المَغاربةِ، ورجالِ السِّتَّةِ: الصَّحيحينِ، وأَبي داودَ، والتِّرمذيِّ، والنَّسائيِّ، وابنِ ماجة، لعبدِ الغنيِّ المقدِسيِّ في كتابِه "الكمالِ"، ثمَّ هذَّبه المِزِّيُّ في "تهذيبِ الكَمالِ"، وقد لَخّصتُه، وزِدتُ عليهِ أشياءَ كثيرةً وسمَّيْتُه "تهذيب التَّهذيب"، وجاءَ معَ ما اشتَمَلَ عليهِ مِن الزِّياداتِ، قَدْرَ ثلثِ الأصلِ.

(1/261)


[الأسماء المفردة]
ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرِفةُ الأسماءِ المُفْرَدَةِ.
وقد صَنَّفَ فيها الحافظُ أَبو بكرٍ أَحمدُ بنُ هارون البَرْديجي، فذكر أشياء تَعَقَّبُوا عليه بعضَها:
مِن ذلك قولُه: صُغْدِيُّ بنُ سِنانٍ، أحدُ الضعفاء، وهو بضم المُهملةِ، وقد تُبْدَلُ سِيناً مُهملة، وسكونِ الغينِ المُعجمةِ بعدها دالٌ مهمَلة ثمَّ ياءٌ كياءِ النسب، وهو اسمُ عَلَمٍ بلفظِ النَّسبِ، وليسَ هُو فرداً؛ ففي "الجَرحِ والتَّعديلِ"، لابنِ أَبي حاتمٍ: صُغْدِي الكوفيُّ، وثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ، وفرَّق بينَه وبينَ الَّذي قبلَه فضعفه، وفي تاريخِ العُقَيْلي: صُغْدِي بنُ عبدِ اللهِ يروي عن قَتادةَ: قال العُقيلي: حَديثُهُ غيرُ محفوظ. انتهى. وأَظنُّهُ هُو الَّذي ذكرَهُ ابنُ أَبي حاتمٍ، وأَمَّا كونُ العُقَيْليِّ ذكرَه في "الضُّعفاءِ" فإِنَّما هُو للحديثِ الذي ذكَرَهُ، وليستِ الآفةُ منهُ، بل هِيَ مِن الرَّاوي عنهُ: عَنْبَسَةُ بنُ عبدِ الرحمن. والله أعلم.
ومِن ذلك: سَنْدَر -بالمهملة والنون- بوزن جَعْفَر، وهو مولى زِنْباع الجُذَاميّ، له صحبة ورواية، والمشهور أَنَّه يُكْنَى أَبا عبدِ اللهِ، وهُو اسمُ فردٍ لم يَتَسَمَّ بهِ غيرُهُ، فيما نعلمُ. لكنْ ذَكَر أَبو موسى، في "الذَّيْلِ على معرفةِ الصَّحابةِ"، لابنِ منده: سَنْدَر أَبو الأسودِ، وروى لهُ حديثاً، وتُعُقِّب عليهِ ذلك، فإِنَّه هُو الذي ذكَرَهُ ابنُ منده، وقد ذَكَرَ الحديثَ المذكورَ محمدُ ابن الربيع الجيزيّ، في "تاريخِ الصَّحابةِ الَّذين نَزلوا مِصرَ"، في ترجمةِ سَنْدَرٍ مولى زِنْباع، وقد حَرَّرْتُ ذلك في كتابي في الصحابة.

(1/262)


[الألقاب]
وكذا معرفة الكنى المجردة والألقاب وهي تارةً تكون بلفظِ الاسم، وتارةً تكون بلفظ الكُنْية، وتقع نسبةً إلى عاهةٍ أو حِرْفَة.

(1/262)


[الأنساب]
وكذا الأنساب وهي تارةً تقع إلى القبائل، وهو في المتقدمين أكثريٌّ، بالنسبة إلى المتأَخِّرينَ، وَتارةً إِلى الأوْطانِ، وهذا في المتأَخِّرينَ أكثريٌّ، بالنِّسبةِ إِلى المتقدِّمين، والنِّسبةُ إِلى الوطنِ أعمُّ مِن أن تكون بلاداً أو ضِياعاً أو سِكَكاً أو

(1/262)


مجاوَرَةً، وتقع إِلى الصَّنائعِ، كالخَيَّاطِ، والحِرَفِ كالبَزَّازِ.
ويقع فيه الاتِّفاقُ والاشتباهُ كالأسماءِ.
وقد تَقعُ الأنْسابُ أَلقاباً، كخالِدِ بنِ مَخلَدٍ القَطَوَانيِّ، كانَ كوفيّاً ويُلَقَّبُ القَطَوانيِّ، وكان يَغضب منها.
ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ أسباب ذلك، أَيْ: الألقاب.

(1/263)


[الموالي]
ومعرفة الموالي مِن أعلى أو أسفل، بالرِّق وبالحِلْفِ، أو بالإِسلامِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك يُطلَق عليهِ مَوْلَى، ولا يُعرَف تمييزُ ذلك إِلاَّ بالتَّنْصيصِ عليه.

(1/263)


[الأخوة]
ومعرفةُ الإخوةِ والأخواتِ: وقد صَنَّفَ فيهِ القُدماءُ، كعليِّ بنِ المديني.

(1/263)


[آداب الشيخ والطالب]
ومِن المهمِّ، أَيضاً، معرفةُ آدابِ الشَّيْخِ والطَّالِبِ.
ويشتركان في تصحيح النية، والتّطهر مِن أَعراضِ الدُّنْيا، وتَحسينِ الخُلُقِ.
وينفَرِدُ الشَّيخُ بأَنْ يُسْمِع إِذا احْتِيج إِليهِ، ولا يحدِّثَ ببلدٍ فيه أَوْلى منهُ، بل يُرْشِد إِليهِ، ولا يَتْرُك إسماعَ أحدٍ لنيةٍ فاسدةٍ، وأَنْ يتطهرَ ويجلسَ بوقارٍ، ولا يُحَدِّث قائماً، ولا عَجِلاً، ولا في الطَّريقِ إِلاَّ إِنِ اضطُرَّ إِلى ذلك، وأن يُمْسِكَ عنِ التَّحديثِ إِذا خَشِيَ التَّغَيُّرَ، أَو النسيان؛ لِمَرَضٍ أو هَرَمٍ. وإِذا اتَّخَذَ مجلسَ الإملاءِ أَنْ يكونَ لهُ مُسْتَمْلٍ يَقِظٍ.
وينفرد الطالب بأَنْ يُوَقِّر الشيخَ، ولا يُضْجِرَه، ويُرشدُ غَيْرَهُ لِمَا سَمِعَهُ، ولا يَدَع الاستفادَةَ لحياءٍ أَو تَكَبُّرٍ، ويَكتبُ ما سمِعَهُ تامّاً، ويُعْتَنِي بالتَّقييدِ والضبط، ويُذَاكِر بمحفوظِهِ؛ لِيَرْسَخَ في ذهنه.
ومِن المهم: معرِفةُ سِنِّ التحمُّل والأداءِ. والأصحُّ اعتبارُ سِنِّ التحمُّل بالتَّمييزِ، هذا في السَّماعِ، وقد جَرَتْ عادة المحدثين بإحضارهم الأطفالَ مجالسَ الحديث، ويكتبون

(1/263)


لهم أنهم حضروا، ولابد في مثلِ ذلك مِن إجازةِ الْمُسْمِع.
والأصحُّ في سن الطلب بنفسه أن يتأهل لذلك. ويَصِحُّ تحمُّلُ الكافِرِ، أَيضاً، إِذا أَدّاه بعدَ إسلامه، وكذا الفاسق مِن باب الأَوْلى، إِذا أَدَّاهُ بعدَ توبتِه وثبوتِ عدالَتِه.
وأَمَّا الأداءُ: فقد تَقدم أَنَّه لا اختصاصَ له بزمنٍ معَيَّنٍ، بل يُقيَّد بالاحتياجِ والتأَهُّلِ لذلك، وهُو مختلِفٌ باخْتِلافِ الأشخاصِ. وقالَ ابنُ خُلاَّدٍ: إِذا بلَغَ الخَمسينَ، ولا يُنْكَر عندَ الأربعينَ، وتُعُقِّبَ بِمَن حدَّث قبلها، كمالكٍ.

(1/264)


كتابة الحديث
صفة كتابة الحديث
...
[كتابة الحديث]
ومِن المهمِّ: معرفةُ صفةِ كتابةِ الحديثِ:
وهو أَنْ يكتُبَهُ مُبَيَّناً مفسَّراً، ويَشْكُلَ الْمُشْكِلَ منهُ ويَنْقُطَهُ، ويكتبَ الساقطَ في الحاشيةِ اليُمنى، ما دامَ في السَّطرِ بقيَّةٌ، وإِلاَّ ففي اليُسرى.
وصفةِ عَرْضِه وهُو مُقابَلتُهُ معَ الشَّيخِ المسمِع، أَو معَ ثقةٍ غيرِه، أَو معَ نفسِه شيئاً فشيئاً.
وصفةِ سَمَاعِهِ بأن لا يتشاغلُ بما يُخِلُّ به: مِن نَسْخٍ أو حديثٍ أو نُعاسٍ.
وصفةِ إسماعه، كذلك، وأن يكون ذلك مِن أصله الذي سَمِع فيه، أَو مِن فرعٍ قُوبِلَ على أَصلِه، فإنْ تعذَّر فَلْيَجْبُرْه بالإِجازةِ لِما خالَفَ، إِنْ خالَفَ.

(1/264)


الرحلة للحديث
صفة الرحلة
...
[الرحلة للحديث]
وصفةِ الرِّحْلةِ فيهِ، حيثُ يَبْتَدِئُ بحديثِ أَهلِ بلدِهِ، فيستوْعِبُهُ، ثمَّ يرحلُ، فيحصِّل في الرِّحلةِ ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه بتكثيرِ المَسموعِ أَوْلى مِن اعتنائِهِ بتكثيرِ الشُّيوخِ.

(1/264)


وصفةِ تصنيفه.
وذلك: إما على المسانيد بأن يَجْمع مسندَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ، فإنْ شاءَ رتَّبه على سوابِقِهِم، وإِنْ شاءَ رتَّبه على حُروفِ المُعْجَمِ، وهو أَسهَلُ تناوُلاً.
أَوْ تصنيفِه على الأبواب الفِقهيَّةِ، أَو غيرِها، بأَنْ يَجْمع في كلِّ بابٍ ما ورَدَ

(1/264)


فيهِ ممَّا يدلُّ على حُكمِه، إِثْباتاً أَو نفياً، والأَوْلى أن يَقْصُرَ على ما صَحَّ أَو حَسُنَ، فإنْ جَمع الجميعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضعيف.
أَوْ تصنيفِه على العِلَلِ، فَيَذْكر المتنَ وطُرُقَهُ، وبيانَ اختلافِ نَقَلَتِه، والأَحسنُ أنْ يُرَتِّبها على الأبوابِ؛ لِيَسْهل تناوُلُها.
أَوْ يجمَعُهُ على الأطْرافِ، فَيَذْكُر طرفَ الحديثِ الدَّالَّ على بقيَّتِه، ويجْمَعُ أَسانيدَه، إِمَّا مستوعِباً، وإِمَّا متقيِّداً بكُتُبٍ مخصوصةٍ.

(1/265)


[أسباب الحديث]
ومِن المهم: معرفةُ سببِ الحديثِ.
وقَدْ صَنَّفَ فيهِ بَعْضُ شُيوخِ القَاضي أَبي يَعْلى بنِ الفَرَّاءِ الحنبليِّ، وهو أبو حفص العُكْبُري. قد ذَكر الشيخ تقيّ الدِّين ابن دَقيقِ العيدِ أَنَّ بعضَ أَهلِ عصرِه شرعَ في جمع ذلك، وكأنه ما رأى تصنيفَ العُكْبري المذكور.
وصَنَّفوا في غالبِ هذهِ الأنْواعِ، على ما أَشَرْنا إِليهِ غالباً، وهي أَيْ: هذه الأنواع المذكورة في هذه الخاتمة نقْلٌ مَحْضٌ، ظاهرةُ التَّعْريفِ، مستغنيةٌ عنِ التَّمْثيلِ، وحصْرها متعسِّرٌ، فَلْتُراجَع لَها مَبْسوطاتُها؛ لِيَحْصُل الوقوفُ على حقائقها.
والله الموفق والهادي، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أُنيب.

(1/265)