تهذيب اللغة (الطَّبَقَة الثَّانِيَة)
وَمن الطَّبَقَة الَّذين خلفوا هَؤُلَاءِ الَّذين قدَّمنا ذكرَهم
وَأخذُوا عَن هَؤُلَاءِ الَّذين تقدَّموهم خَاصَّة وَعَن الْعَرَب
عامَّة، وعُرفوا بالصِّدق فِي الرِّوَايَة، والمعرفة الثاقبة، وَحفظ
الشّعْر وَأَيَّام الْعَرَب:
أَبُو زيدٍ سعيد بن أَوْس الْأنْصَارِيّ؛ وَأَبُو عَمْرو إِسْحَاق بن
مُرَاد الشَّيْبَانِيّ مولى لَهُم، وَأَبُو عُبَيْدَة معمر بن المثنَّى
التَّيْمِيّ من تيم قريشٍ مولى لَهُم؛ وَأَبُو سعيد عبد الْملك بن
قُريب الأصمعيّ؛ وَأَبُو مُحَمَّد يحيى بن الْمُبَارك اليزيديّ،
وَإِنَّمَا سمي اليزيدي لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدب ولد يزِيد بن مَنْصُور
الحميريّ خَال الْمهْدي، وَلَا يقدَّم عَلَيْهِ أحدٌ من أَصْحَاب أبي
عَمْرو بن الْعَلَاء فِي الضَّبْط لمذاهبه فِي قراءات الْقُرْآن.
وَمن هَذِه الطَّبَقَة من الْكُوفِيّين: أَبُو الْحسن عَليّ بن حَمْزَة
الْكسَائي: وَعنهُ أَخذ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن زِيَاد الفرَّاء
النَّحْو والقراءاتِ والغريبَ والمعاني، فتقدَّم جَمِيع تلامدته
الَّذين أخذُوا عَنهُ، إلاّ عليّ بن الْمُبَارك الْأَحْمَر، فَإِنَّهُ
كَانَ مقدَّماً على الفرَّاء فِي حَيَاة الْكسَائي لجودة قريحته
وتقدّمه فِي علل النَّحْو ومقاييسه. وأسرع إِلَيْهِ الموتُ فِيمَا ذكر
أَبُو مُحَمَّد سَلمَة بن عَاصِم، وبقيَ الفرَّاء بعده بَقَاء طَويلا
فبرَّز على جَمِيع من كَانَ فِي عصره.
(1/11)
وَمن هَذِه الطَّبَقَة: أَبُو مُحَمَّد عبد
الله بن سعيد: أَخُو يحيى بن سعيدٍ الأمويّ الَّذِي يروي عَنهُ أَبُو
عبيدٍ، وَكَانَ جَالس أعراباً من بني الْحَارِث بن كَعْب، وسألهم عَن
النَّوَادِر والغريب، وَكَانَ مَعَ ذَلِك حَافِظًا للْأَخْبَار وَالشعر
وَأَيَّام الْعَرَب.
وَمن هَذِه الطَّبَقَة: النَّضر بن شُميل الْمَازِني: سكن الْبَصْرَة
وَأقَام بهَا دهراً طَويلا، وَسمع الحَدِيث وجالس الخليلَ بن أَحْمد،
وَأَبا خَيرة الأعرابيَّ، وَأَبا الدُّقيش، واستكثر عَنْهُم.
وَمِنْهُم: أَبُو الْحسن سعيد بن مسْعدَة الْمَعْرُوف بالأخفش: وَكَانَ
الْغَالِب عَلَيْهِ النَّحْو ومقاييسه، وَلم يكن حَافِظًا للغريب وَلَا
مُلحقاً بطبقته الَّتِي ألحقناه بهَا فِي معرفَة الشّعْر والغريب.
وَمِنْهُم: أَبُو مَالك عَمْرو بنِ كِرْكِرَة: وَكَانَ الْغَالِب
عَلَيْهِ النَّوَادِر والغريب.
فَأَما أَبُو زيد سعيد بن أَوْس الأنصاريّ: فَإِنَّهُ سمع من أبي
عَمْرو بن الْعَلَاء الْقرَاءَات وجَمعها، وَرَوَاهَا عَنهُ أَبُو
حَاتِم الرَّازِيّ وَغَيره، وَهُوَ كثير الرِّوَايَة عَن الأَعراب،
وَقَرَأَ دواوين الشُّعَرَاء على الْمفضل بن مُحَمَّد الضبيّ، وجالس
أَبَا الدُّقيش الأعرابيّ، ويونسَ النحويّ وَأَبا خيرةَ العدويّ.
وَالْغَالِب عَلَيْهِ النَّوَادِر والغريب؛ وَله فضلُ معرفةٍ بمقاييس
النَّحْو، وَعلم الْقُرْآن وَإِعْرَابه. روى عَنهُ أَبُو عبيد
الْقَاسِم بن سلاَّم ووثّقه. وروى عَنهُ أَبُو حَاتِم السِّجزي وقدّمه
واعتد بروايته عَنهُ. وروى عَنهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن
مُحَمَّد بن هَانِيء النيسابوريُّ النوادرَ وَالشعر، وَرُبمَا جمع
بَينه وَبَين أبي مَالك عَمْرو بن كِرْكِرة فِيمَا يرْوى عَنْهُمَا من
الْأَمْثَال والغريب والألفاظ.
وَلأبي زيد من الْكتب الْمُؤَلّفَة كتاب (النَّوَادِر الْكَبِير) ،
وَهُوَ كتابٌ جامعٌ للغرائب الْكَثِيرَة والألفاظ النادرة والأمثال
السائرة والفوائد الجمَّة. وَله (كتابٌ فِي النَّحْو) كَبِير، وَله
(كتابٌ فِي الْهَمْز) ، وكتابٌ فِي (مَعَاني الْقُرْآن) ، وكتابٌ فِي
(الصِّفَات.
وروى أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى عَن أبي نجْدة عَن أبي زيد
الْأنْصَارِيّ، أَخْبرنِي بذلك الْمُنْذِرِيّ عَن أبي الْعَبَّاس.
وروَى أَيْضا عَن أبي إِسْحَاق الحرْبي عَن أبي عدنان عَنهُ. وروى
أَبُو عمر الورّاق عَن أبي الْعَبَّاس عَن ابْن نجدة عَن أبي زيد
شَيْئا كثيرا.
وحدّثني الْمُنْذِرِيّ عَن أبي بكر الطلحي قَالَ: حدّثني عسْل بن
ذَكوان الْبَصْرِيّ عَن رُفيع بن سَلمَة عَن أبي زيد أَنه قَالَ: دخلتُ
على أبي الدُّقيش الأعرابيّ وَهُوَ مريضٌ فَقلت: كَيفَ تجدُك يَا أَبَا
الدُّقيش؟ فَقَالَ: أجد مَا لَا أشتهي، وأشتهي مَا لَا أجد، وَأَنا فِي
زمَان سوءٍ، زمَان من وجد لم يجُد، وَمن جاد لم يَجدْ.
(1/12)
وَمَا كَانَ فِي كتابي لأبي عبيد عَنهُ،
فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي تَفْسِير (غَرِيب الحَدِيث) فَهُوَ مِمَّا
أَخْبرنِي بِهِ عبد الله بن هاجَك عَن أَحْمد بن عبد الله بن جَبَلَة
عَن أبي عبيد. وَمَا كَانَ فِيهِ من الْغَرِيب والنوادر فَهُوَ مِمَّا
أَخْبرنِي أَبُو بكر الْإِيَادِي عَن شِمر لأبي عبيد عَنهُ. وَمَا
كَانَ فِيهِ من الْأَمْثَال فَهُوَ مِمَّا أَقْرَأَنِيهِ الْمُنْذِرِيّ
وَذكر أَنه عرضه على أبي الْهَيْثَم الرازيّ. وَمَا كَانَ فِيهِ من
(نَوَادِر أبي زيد) فَهُوَ من (كتاب ابْن هَانِيء) عَنهُ. وَمَا كَانَ
فِي كتابي لأبي حَاتِم فِي الْقُرْآن عَن أبي زيد فَهُوَ مِمَّا سمعتُه
من أبي بكر بن عُثْمَان السِّجزي، حَدثنَا بِهِ عَن أبي حَاتِم.
وأفادني الْمُنْذِرِيّ عَن ابْن اليزيدي عَنهُ فَوَائِد فِي الْقُرْآن
ذكرتها فِي موَاضعهَا من الْكتاب.
وَأما أَبُو عَمْرو الشَّيباني: فاسمُه إِسْحَاق بن مُراد: وَكَانَ
يُقَال لَهُ أَبُو عَمْرو الْأَحْمَر جاورَ بني شَيبَان بِالْكُوفَةِ
فنُسب إِلَيْهِم، ثمّ قدم بَغْدَاد وَسمع مِنْهُ أَبُو عبيدٍ وروى
عَنهُ الكثيرَ ووثّقه. وَكَانَ قَرَأَ دواوين الشِّعر على الْمفضل
الضَّبِّيّ، وسمعها مِنْهُ أَبُو حسان، وَابْنه عَمْرو بن أبي عَمْرو.
وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ النوادرَ وحفظَ الْغَرِيب وأراجيز
الْعَرَب. وَله كتابٌ كَبِير فِي (النَّوَادِر) قد سَمعه أَبُو
الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى من ابْنه عَمْرو عَنهُ. وَسمع أَبُو
إِسْحَاق الحربيُّ هَذَا الْكتاب أَيْضا من عَمْرو بن أبي عَمْرو.
وسمعتُ أَبَا الْفضل الْمُنْذِرِيّ يروي عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو
بن أبي عمروٍ جملَة من الْكتاب، وأودعَ أَبُو عُمرَ الورَّاقُ كِتَابه
أكثرَ نوادره. رَوَاهَا عَن أَحْمد بن يحيى عَن عَمْرو عَن أَبِيه.
وَكَانَ أَبُو عمروٍ عمّر عُمراً طَويلا، نَيف على الْمِائَة، وروى
عَنهُ ابْن السّكيت وَأَبُو سعيد الضَّرِير وَغَيرهمَا، وَكَانَ ثِقَة
صَدُوقًا.
وَأما أَبُو عُبَيْدَة معْمر بن المثنَّى: فَإِن أَبَا عبيدٍ ذكر أَنه
تيميٌّ من تيم قُرَيْش، وَأَنه مولى لَهُم، وَكَانَ أَبُو عبيدٍ يوثقه
وَيكثر الرِّوَايَة عَنهُ فِي كتبه.
فَمَا كَانَ فِي كتابي لأبي عبيد عَنهُ فِي (غَرِيب الحَدِيث) فَهُوَ
مِمَّا حَدثنِي بِهِ عبد الله بن هاجَك عَن ابْن جبلة عَن أبي عبيد،
وَمَا كَانَ من الصِّفَات والنوادر فَهُوَ مِمَّا أَخْبرنِي بِهِ
الْإِيَادِي عَن شمر لأبي عبيد عَنهُ، وَمَا كَانَ من (غَرِيب
الْقُرْآن) فَهُوَ مِمَّا أسمعنيه الْمُنْذِرِيّ عَن أبي جَعْفَر
الغسانيِّ عَن سَلمَة عَن أبي عُبَيْدَة.
وَله كتابٌ فِي (الْخَيل وصفاتها) ، ناولنيه أَبُو الْفضل
الْمُنْذِرِيّ، وَذكر أَنه عرضه على أبي الْهَيْثَم الرَّازِيّ. وَله
كتبٌ كَثِيرَة فِي أَيَّام الْعَرَب ووقائعها، وَكَانَ الْغَالِب
عَلَيْهِ الشّعْر، والغريب وأخبار الْعَرَب، وَكَانَ مُخلاً بالنحو
كثير الْخَطَأ، وَكَانَ مَعَ ذَلِك مغرًى بنشر مثالب الْعَرَب، جَامعا
لكل غثَ وسمين، وَهُوَ مذمومٌ من هَذِه الْجِهَة، وموثوق بِهِ
(1/13)
فِيمَا يروي عَن الْعَرَب من الْغَرِيب.
وَأما أَبُو سعيد عبد الْملك بن قُرَيب الْأَصْمَعِي: فإنَّ أَبَا
الْفضل المنذريَّ أَخْبرنِي عَن أبي جَعْفَر الغساني عَن أبي مُحَمَّد
سَلمة بن عَاصِم أَنه قَالَ: كَانَ الْأَصْمَعِي أذكى من أبي عُبَيْدَة
وأحفظ للغريب مِنْهُ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة أَكثر رِوَايَة مِنْهُ.
قَالَ: وَكَانَ هَارُون الرشيد استخلص الْأَصْمَعِي لمجلسه، وَكَانَ
يرفعهُ على أبي يُوسُف القَاضِي ويجيزه بجوائز كَثِيرَة. وَكَانَ أَكثر
علمه على لِسَانه.
وَأَخْبرنِي المنذريّ عَن الصَّيْدَاوِيُّ عَن الرياشيّ قَالَ: سمعتُ
الأصمعيَّ يَقُول: خير الْعلم مَا حاضرت بِهِ. قَالَ: وَكَانَ شَدِيد
التوقِّي لتفسير الْقُرْآن، صَدُوقًا صَاحب سنة، عمّرَ نيفاً وَتِسْعين
سنة، وَله عقب. وَأَبُو عبيدٍ كثير الرِّوَايَة عَنهُ. وَمن رُوَاته
أَبُو حَاتِم السجسْتانِي وَأَبُو نصر الْبَاهِلِيّ صاحبُ كتاب
(الْمعَانِي) .
وَكَانَ أمْلى بِبَغْدَاد كتابا فِي (النَّوَادِر) فَزِيد عَلَيْهِ مَا
لَيْسَ من كَلَامه. فَأَخْبرنِي أَبُو الْفضل الْمُنْذِرِيّ عَن أبي
جَعْفَر الغسانيّ عَن سَلمَة قَالَ:
جَاءَ أَبُو ربيعَة صَاحب عبد الله بن ظَاهر صديقُ أبي السمراء،
بِكِتَاب (النَّوَادِر) الْمَنْسُوب إِلَى الْأَصْمَعِي فَوَضعه بَين
يَدَيْهِ، فَجعل الْأَصْمَعِي ينظر فِيهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا
كَلَامي كُله، وَقد زِيد فِيهِ عليَّ، فَإِن أَحْبَبْتُم أَن أعْلِم
على مَا أحفظه مِنْهُ وأضرب على الْبَاقِي فعلتُ وإلاّ فَلَا تقرءوه.
قَالَ سَلمَة بن عَاصِم: فَأعْلم الْأَصْمَعِي على مَا أنكر من
الْكتاب، وَهُوَ أرجحُ من الثُّلُث، ثمَّ أمرَنا فنسخناه لَهُ.
وَجمع أَبُو نصر عَلَيْهِ كتاب (الْأَجْنَاس) ، إلاّ أَنه ألحق بأبوابه
حروفاً سَمعهَا من أبي زيد وَأتبعهُ بِأَبْوَاب لأبي زيد خَاصَّة.
وَله كتابٌ فِي (الصِّفَات) يشبه كَلَامه، غير أَن الثقاتِ لم يرووه
عَنهُ.
وروى أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى عَن أبي نصر عَن الأصمعيّ
نَوَادِر وأمثالاً وأبياتاً من الْمعَانِي؛ وَذكر أنَّ أَبَا نصر
ثِقَة، وَأَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ كثير الرِّوَايَة عَن أبي نصر.
وَمَا وَقع فِي كتابي لأبي عبيد عَن الْأَصْمَعِي فَمَا كَانَ مِنْهُ
فِي تَفْسِير (غَرِيب الحَدِيث) فَهُوَ مِمَّا أَخْبرنِي عبد الله بن
مُحَمَّد بن هاجَك عَن أَحْمد بن عبد الله عَن أبي عبيد. وَمَا كَانَ
مِنْهَا فِي (الصِّفَات) و (النَّوَادِر) والأبواب المتفرقة فَهُوَ
مِمَّا أَخْبرنِي بِهِ أَبُو بكر الْإِيَادِي عَن شِمر
(1/14)
لأبي عبيد.
وَمَا وَقع فِي كتابي لإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَن أبي نصر عَن
الْأَصْمَعِي فَهُوَ مِمَّا أفادنيه الْمُنْذِرِيّ عَن الْحَرْبِيّ.
وَمَا كَانَ من جِهَة أَحْمد بن يحيى رِوَايَة عَن أبي نصر عَن
الْأَصْمَعِي فَهُوَ من كتاب أبي عمر الورَّاق.
وَمَا رَأَيْت فِي رِوَايَته شَيْئا أنكرته.
وَأما أَبُو الْحسن عليّ بن حَمْزَة الْكسَائي: فَإِن أَبَا الْفضل
الْمُنْذِرِيّ حَدثنِي عَن أبي جَعْفَر الغسانيّ عَن أبي عُمَر المقرىء
أَنه قَالَ: كَانَ الكسائيّ قَرَأَ الْقُرْآن على حَمْزَة الزّيات فِي
حداثته، وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهِ، وأُولع بالعلل وَالْإِعْرَاب،
وَكَانَت قبائل الْعَرَب مُتَّصِلَة بِظَاهِر الْكُوفَة، فَخرج
إِلَيْهِم وسمِع مِنْهُم اللغاتِ والنوادر، أَقَامَ مَعَهم شهرا وتزيا
بزيِّهم، ثمَّ عَاد إِلَى الْكُوفَة وحضرَ حمزَةَ وَعَلِيهِ شَمْلتان
قد ائتزر بِإِحْدَاهُمَا وارتدى الْأُخْرَى، فَجَثَا بَين يَدَيْهِ
وَبَدَأَ بِسُورَة يُوسُف، فَلَمَّا بلغ {الذِّئْبُ} (يُوسُف: 13) لم
يهمز وهمزَ حمزةُ، فَقَالَ الكسائيّ: يُهمَز وَلَا يُهمَز. فَسكت عَنهُ
فَلَمَّا فرغَ من قِرَاءَته قَالَ لَهُ حَمْزَة: إنّي أشبه قراءتك
بِقِرَاءَة فَتى كَانَ يأتينا يُقَال لَهُ عَليّ بن حَمْزَة. فَقَالَ
الكسائيّ: أَنا هُوَ. قَالَ: تَغيَّرتَ بعدِي فأينَ كنت؟ قَالَ: أتيتُ
الْبَادِيَة وَكَانَ فِي نَفسِي أشياءُ سألتُ الْعَرَب عَنْهَا
ففرَّجوا عني، فلمّا دخلتُ الْمَسْجِد لم تَطِب نَفسِي أَن أجوز
المسجدَ حَتَّى أسلم عَلَيْك.
قَالَ أَبُو عُمر: ثمّ دخل بَغْدَاد أيامَ المهديّ، وطُلب فِي شهر
رَمَضَان قارىء يقْرَأ فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي التَّرَاوِيح،
فذُكر لَهُ الكسائيُّ، فصلَّى بِمن فِي الدَّار، ثمَّ أُقعِدَ مؤدباً
لِابْنِ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم
وَكِسْوَة وبرّ، وَدَار وبرذون.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَكَانَ الْكسَائي مولى بني أسَد. وَلما نَهَضَ
هَارُون الرشيد إِلَى خُرَاسَان أنهضه مَعَه، فَكَانَ يزاملهُ فِي
سَفَره، وَلما انْتهى إِلَى الريّ ماتَ بهَا.
قلت: وللكسائيّ كتابٌ فِي (مَعَاني الْقُرْآن) حسنٌ، وَهُوَ دونَ كتاب
الْفراء فِي (الْمعَانِي) وَكَانَ أَبُو الْفضل المنذريّ ناولَني هَذَا
الْكتاب وَقَالَ فِيهِ: أخبرتُ عَن مُحَمَّد بن جَابر، عَن أبي عُمر
عَن الكسائيّ. وَله كتابٌ فِي (قراءات الْقُرْآن) ، قرأته على أَحْمد
بن عليّ بن رَزِين وَقلت لَهُ: حدّثكم عبد الرَّحِيم بن حبيب عَن
الكسائيّ. فأقرَّ بِهِ إِلَى آخِره. وَله كتابٌ فِي (النَّوَادِر)
رَوَاهُ لنا الْمُنْذِرِيّ عَن أبي طَالب عَن أَبِيه عَن الْفراء عَن
الْكسَائي.
فَمَا كَانَ فِي كتابي لسَلمَة عَن الفرّاء عَن الْكسَائي فَهُوَ من
هَذِه الْجِهَة، وَمَا كَانَ فِيهِ لأبي عبيدٍ عَن الكسائيّ فَهُوَ
مِمَّا أسمعنيه الإياديّ عَن شِمر لأبي عبيد، أَو أسمعنيه ابْن هاجَك
عَن ابْن جبلة عَن أبي عبيد فِي (غَرِيب الحَدِيث) .
(1/15)
وَكَانَ الْغَالِب على الكسائيّ اللغاتِ
والعِللَ وَالْإِعْرَاب، وعلْم الْقُرْآن وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون،
واختياراته فِي حُرُوف الْقُرْآن حَسَنَة، وَالله يغْفر لنا وَله.
وَأما أَبُو مُحَمَّد يحيى بن المبارَك اليزيدي: فَإِنَّهُ جالسَ أَبَا
عَمْرو بن الْعَلَاء دهراً، وَحفظ حروفَه فِي الْقُرْآن حِفظاً زيْناً،
وَضبط مذاهبه فِيهَا ضبطاً لَا يتقدمه أحد من أَصْحَاب أبي عَمْرو.
وَكَانَ فِي النَّحْو والعلل ومقاييسها مبرِّزاً، وجالسَه أَبُو عبيد
فاستكثَر عَنهُ.
وأقرأني الإياديّ عَن شِمر لأبي عبيدٍ عَن اليزيدي أَنه قَالَ:
سَأَلَني المهديّ وَسَأَلَ الكسائيّ عَن النِّسْبَة إِلَى الْبَحْرين،
وَعَن النِّسْبَة إِلَى حصْنَين لم قَالُوا رجل حصْنيّ وَرجل بحرانيّ؟
قَالَ: فَقَالَ الكسائيّ: كَرهُوا أَن يَقُولُوا حِصْناني لِاجْتِمَاع
النُّونين. قَالَ: وَقلت أَنا: كَرهُوا أَن يَقُولُوا بحريّ فَيُشبه
النِّسْبَة إِلَى الْبَحْر.
قَالَ شِمر: وَقَالَ اليزيديُّ بَيْتا فِي الكسائيّ:
إِن الكسائيَّ وَأَصْحَابه
ينحطُّ فِي النَّحْو إِلَى أَسْفَل
ولليزيديّ كتابٌ فِي (النَّحْو) ، وكتابٌ فِي (الْمَقْصُور والممدود) ،
وَبَلغنِي أنّ لَهُ كتابا فِي (النَّوَادِر) ، وَهُوَ فِي الْجُمْلَة
ثِقَة مَأْمُون حسنُ الْبَيَان جيّد الْمعرفَة، أحدُ الْأَعْلَام
الَّذين شُهِروا بِعلم اللُّغَات وَالْإِعْرَاب.
وَأما النَّضر بن شُمَيل المازنيّ: فإنّه لزمَ الخليلَ بن أَحْمد
أعواماً، وَأقَام بِالْبَصْرَةِ دهراً طَويلا. وَكَانَ يدخُل المِرْبَد
وَيلقى الْأَعْرَاب ويستفيد من لغاتهم وَقد كتب الحديثَ ولقيَ
الرِّجال. وَكَانَ ورِعاً ديِّناً صَدُوقًا. وَله مصنفاتٌ كَثِيرَة فِي
(الصِّفَات) و (الْمنطق) و (النَّوَادِر) . وَكَانَ شِمْر بن
حَمْدُويةَ صرفَ اهتمامه إِلَى كتبه فسمِعها من أَحْمد بن الحَريِش،
القَاضِي كانَ بَهرَاةَ أَيَّام الطاهرية.
فَمَا عَزَيت فِي كتابي إِلَى ابْن شُميل فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة،
إلاّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي تَفْسِير (غَرِيب الحَدِيث) ، فإنّ تِلْكَ
الْحُرُوف رَوَاهَا عَن النَّضر أَبُو دَاوُد سُليمان بن سَلْم
المصاحفي، رَوَاهَا عَن أبي دَاوُد عبد الصَّمد بن الْفضل الْبَلْخِي،
وَرَوَاهَا لنا عَن عبد الصَّمد أَبُو عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى
القَرَّاب، شيخ ثِقَة من مَشَايِخنَا. وحملتْ نسختُه المسموعة بعد
وَفَاته إليّ. فَمَا كَانَ فِي كتابي معزيا إِلَى النَّضر رِوَايَة أبي
دَاوُد فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة.
وَتُوفِّي النَّضر سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ ح.
وَمن متأخّري هَذِه الطَّبَقَة عليّ بن الْمُبَارك الْأَحْمَر: الَّذِي
يروِي عَنهُ أَبُو عبيد.
(1/16)
وحدّثني المنذريّ عَن أبي جَعْفَر الغسّاني
عَن سَلمَة أَنه قَالَ: كَانَ الْأَحْمَر يحفظ ثَلَاثِينَ ألف بيتٍ من
الْمعَانِي والشواهد، فَأَتَاهُ سيبويهِ فناظرَه، فأفحمه الْأَحْمَر.
وَكَانَ مَرُّوذياً وَهُوَ أوّل من دوّن عَن الْكسَائي. قَالَ: وَقَالَ
الْفراء: أتيتُ الكسائيَّ وَإِذا الأحمرُ عِنْده، غلامٌ أشقر، يسْأَله
ويكتُب عَنهُ فِي ألواحٍ وَقد بَقَلَ وجههُ. ثمَّ برَّز حَتَّى كَانَ
الْفراء يَأْخُذ عَنهُ. وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ النَّحْو والغريب
والمعاني.
وَمَا وَقع فِي كتابي لأبي عبيد عَن الْأَحْمَر فَهُوَ سماعٌ على مَا
بيّنتُه لَك من الْجِهَات الثَّلَاث.
وَمِنْهُم: أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن زِيَاد الفرّاء: وَكَانَ أَخذ
النَّحْو والغريبَ والنوادر والقراءات ومعاني الْقُرْآن عَن الكسائيّ،
ثمَّ برَّز بعده وصنَّف كتبا حسانا أملاها بِبَغْدَاد عَن ظهر قلبه.
وَمن مؤلّفاته كِتَابه فِي (مَعَاني الْقُرْآن وَإِعْرَابه) ،
أَخْبرنِي بِهِ أَبُو الْفضل بن أبي جعفرٍ المنذريّ عَن أبي طَالب بن
سَلمَة عَن أَبِيه عَن الْفراء، لم يفُتْهُ من الْكتاب كلِّه إلاّ
مِقْدَار ثَلَاثَة أوراق فِي سُورَة الزخرف. فَمَا وَقع فِي كتابي
للفراء فِي تَفْسِير الْقُرْآن وَإِعْرَابه فَهُوَ مِمَّا صحَّ
رِوَايَة من هَذِه الْجِهَة. وللفراء كتابٌ فِي (النَّوَادِر) أسمَعنيه
أَبُو الْفضل بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَله بعدُ كتبٌ مِنْهَا كتابٌ فِي
(مصَادر الْقُرْآن) ، وكتابٌ فِي (الْجمع والتثنية) ، وكتابٌ فِي
(التَّأْنِيث والتذكير) ، وكتابٌ فِي (الْمَمْدُود والمقصور) ، وكتابٌ
يُعرَف بيافع ويَفَعةٍ. وَله فِي النَّحْو (الْكتاب الْكَبِير) .
وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون. قَالَه أَبُو عبيدٍ وَغَيره. وَكَانَ من أهل
السُّنّة، ومذاهبه فِي التَّفْسِير حَسَنَة.
وَمن هَذِه الطَّبَقَة: عَمْرو بن عُثْمَان، الملقّب بسيبويه، النحويّ:
وَله (كتابٌ) كَبِير فِي النَّحْو. وَكَانَ علاّمةً حسنَ التصنيف،
جَالس الْخَلِيل بن أَحْمد وَأخذ عَنهُ مذاهبَه فِي النَّحْو، وَمَا
علمت أحدا سمع مِنْهُ (كتابَه) هَذَا، لأنّه اخْتُضِرَ وأسرعَ إِلَيْهِ
الْمَوْت. وَقد نظرتُ فِي كِتَابه فرأيتُ فِيهِ علما جمًّا. وَكَانَ
أَبُو عُثْمَان المازنيّ وَأَبُو عُمَر الجرميُّ، يحتذيان حذوَه فِي
النَّحْو، وربّما خالفوه فِي العَلَل. وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ قدِم
بَغْدَاد ثمَّ عَاد إِلَى مسْقط رَأسه بالأهواز فَمَاتَ وَقد نيَّف على
الْأَرْبَعين.
وَمِنْهُم: عبد الرَّحْمَن بن بُزْرُج: وَكَانَ حَافِظًا للغريب
وللنوادر. وقرأتُ لَهُ كتابا بخطّ أبي الْهَيْثَم الرازيّ فِي
(النَّوَادِر) ، فاستحسنتُه ووجدتُ فِيهِ فوائدَ كَثِيرَة. ورأيتُ لَهُ
حروفاً فِي كتب شِمْر الَّتِي قرأتُها بخطِّه. فَمَا وَقع فِي كتابي
لِابْنِ بُزْرُجَ فَهُوَ من هَذِه الْجِهَات.
(1/17)
|