درة الغواص في أوهام الخواص

بَاب الْألف
[1] أرب:
من قَبِيح أوهامهم أَنهم يجمعُونَ الإرب، وَهُوَ الْعُضْو، على إرب فَيَقُولُونَ: قطعته إربا إربا (بِفَتْح الرَّاء) ، أَي أَجزَاء، فيقعون فِي الْوَهم وَالصَّوَاب أَن يُقَال: قطعته إربا إربا (بتسكين الرَّاء) ، أَي عضوا عضوا، لِأَن الإرب يجمع على آرَاب وَلَيْسَ على إرب. ... وَمن أوهامهم أَنهم يطلقون على مَكَان عرض الْأَشْيَاء، معرض (بِفَتْح الرَّاء) ، وعَلى مَكَان اللِّقَاء، موعد (بِفَتْح الْعين) ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: معرض وموعد (بخفض الرَّاء وَالْعين) ، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن اسْم الزَّمَان وَالْمَكَان يُؤْتى بهما من الْفِعْل الثلاثي على وزن مفعل، إِذا كَانَ الْفِعْل صَحِيحا مكسور الْعين فِي الْمُضَارع، نَحْو: عرض يعرض معرض، أَو إِن كَانَ الْفِعْل مِثَالا واويا، نَحْو: وعد يعد موعد.
[2] أم س:
وَيَقُولُونَ: رَأَيْته أمسا، تَشْبِيها بقَوْلهمْ: رَأَيْته البارحة، فيوهمون لِأَن لَفْظَة أمس الَّتِي تَعْنِي

(1/257)


الْيَوْم الَّذِي قبل يَوْمك مُبَاشرَة لَا تبنى على الْفَتْح بِحَال إِن كَانَت بِهَذَا الْمَعْنى.
وللعرب فِيهَا ثَلَاث لُغَات:
أولاها: الْبناء على الْكسر مُطلقًا، وَهُوَ لُغَة أهل الْحجاز، فَيَقُولُونَ: مضى أمس بِمَا فِيهِ وزرته أمس، وَعَجِبت من أمس: أَي بِالرَّفْع وَالنّصب والجر على التوالي.
وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(منع الْبَقَاء تقلب الشَّمْس ... وطلوعها من حَيْثُ لَا تمسي)
(الْيَوْم أعلم مَا يَجِيء بِهِ ... وَمضى بِفعل قَضَائِهِ أمس)
وَالثَّانيَِة: إعرابه إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف فِي حَالَة الرّفْع فَقَط، وبناؤه على الْكسر فِي حالتي النصب والجر وَهِي لُغَة جُمْهُور بني تَمِيم، فَيَقُولُونَ: ذهب أمس (بِغَيْر تَنْوِين) ، وقابلته أمس، وَعَجِبت من أمس، فيكسرونه فيهمَا.
وَالثَّالِثَة: إعرابه إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف مُطلقًا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمْسا)
(يأكلن مَا فِي رحلهن همسا ... لَا ترك الله لَهُنَّ ضرسا)
أما إِذا أُرِيد بأمس يَوْم من الْأَيَّام الْمَاضِيَة، أَو إِذا دَخلته أل التَّعْرِيف، أَو إِذا جمع، أَو إِذا أضيف أعرب بِإِجْمَاع، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فجعلناها حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس} .
فالكسرة فِي أمس كسرة إِعْرَاب لدُخُول أل التَّعْرِيف عَلَيْهَا مَعَ وجود

(1/258)


حرف الْجَرّ.
وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(مرت بِنَا أول من أموس ... تميس فِينَا ميسة الْعَرُوس)
وأموس: جمع أمس، وَهِي مجرورة بالكسرة لهَذَا السَّبَب.
وَقَول نصيب بن رَبَاح:
(فَإِنِّي وقفت الْيَوْم والأمس قبله ... ببابك، حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب)
وَالشَّاهِد فِي لَفْظَة أمس، أَنه ظرف مُعرب لدُخُول أل التَّعْرِيف عَلَيْهِ.

بَاب الْبَاء
[3] ب ل ط:
وَمن أَوْهَام بعض المتحذلقين من الْخَواص أَنهم يفرقون بَين البلاط (بِفَتْح الْبَاء) والبلاط (بخفضها) فيوهمون بِأَن الأول هُوَ قصر الْملك وَالثَّانِي هُوَ مَا ترصف بِهِ الأَرْض من حِجَارَة وآجر.
وَالصَّحِيح أَنه لَا وجود للفظة بلاط فِي الْعَرَبيَّة، فكلا اللَّفْظَيْنِ ورد فِي جَمِيع المعاجم بِفَتْح الْبَاء، وَمِنْه قَول أبي دَاوُد الْإِيَادِي:
(وَلَقَد كَانَ والكتائب خضر ... وبلاط يشاد بالأجرون)
وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا أَنهم يطلقون على الْمَكَان المتسع من الأَرْض لَفْظَة منْطقَة (بِفَتْح الْمِيم وخفض الطَّاء) ، وعَلى النطاق الَّذِي تنتطق بِهِ الْمَرْأَة لَفْظَة منْطقَة (بخفض الْمِيم وَفتح الطَّاء) ، فيوهمون، لِأَنَّهُ لَا وجود للفظة الأولى فِي الْعَرَبيَّة، فالمنطقة هِيَ الْمَكَان المتسع والنطاق مَعًا، وَالْجمع مناطق، وَقد ورد فِي اللِّسَان أَن المنطقة هِيَ شبه إِزَار فِيهِ تكة تنتطق بِهِ الْمَرْأَة.
وَقيل: إِن هَاجر أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام هِيَ أول من اتَّخذت النطاق.
وَيُقَال لأسماء بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا، ذَات النطاقين، لِأَنَّهَا كَانَت تطارق نطاقين، تلبس أَحدهمَا، وَتحمل فِي الآخر الزَّاد إِلَى سيدنَا رَسُول الله

(1/259)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وهما فِي الْغَار.
وَمِنْه قَول جرير فِي هجاء بني تغلب:
(والتغلبيون، بئس الْفَحْل فحلهم ... قدما، وأمهم زلاء منطيق)
(تَحت المناطق أشباه مصلبة ... مثل الدوي بهَا الأقلام والليق)

بَاب التَّاء
[4] ت أم:
وَيَقُولُونَ: أنجبت زَوْجَة فلَان توأما فيغلطون، ذَلِك أَن التوأم هُوَ كل جَنِين ولد مَعَ غَيره من بطن وَاحِد، فِي الْإِنْسَان كَمَا فِي الْحَيَوَان، سَوَاء أكانا اثْنَيْنِ أَو أَكثر، وَالْجمع توائم وتؤام.
فَإِن كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر أُنْثَى، قيل: هَذَا توأم تِلْكَ، وَتلك توأمة هَذَا، فهما مَعًا توأمان.
وَالشَّاهِد على التَّذْكِير قَول عنترة:
(بَطل كَأَن ثِيَابه فِي سرحه ... يحذى نعال السبت لَيْسَ بتوأم)
وَشَاهد التَّأْنِيث قَول الأخطل بن ربيعَة:
(وَلَيْلَة ذِي نصب بتها ... على ظهر توأمة ناحلة)
أما شَاهد الْجمع على توائم، فَقَوْل المرقش:
(يحلين ياقوتا وشذرا وصيعة ... وجزعا ظفاريا ودرا توائما)

(1/260)


وَشَاهد الْجمع على تؤام مَا أنْشدهُ ابْن سيدة من قَول الشَّاعِر:
(قَالَت لنا ودمعها تؤام ... على الَّذين ارتحلوا السَّلَام)

بَاب الْجِيم
[5] ج ر ر:
وَمن أوهامهم الَّتِي لَا تغتفر، اسْتِعْمَال حُرُوف الْجَرّ الْوَاحِد مَكَان الآخر مِمَّا يشوه الْمَعْنى، فَيَقُولُونَ: خطب الْمَرْأَة من ذويها.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: خطب الْمَرْأَة إِلَى ذويها.
وَيَقُولُونَ: أجَاب على سُؤَاله.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أجَاب عَن سُؤَاله.
وَيَقُولُونَ: جلس على الْمَائِدَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: جلس إِلَى الْمَائِدَة.
وَيَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: رَضِي الله عَلَيْك، والأفصح أَن يُقَال: رَضِي الله عَنْك.
وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الإطار قَوْلهم: تَوَضَّأت وَمن ثمَّ صليت (بِضَم الثَّاء) ، ويعنون، بعد ذَلِك، فيقعون فِي الْوَهم، لأَنهم أدخلُوا حرف الْجَرّ على حرف الْعَطف، الْأَمر الَّذِي لَا تسمح بِهِ اللُّغَة. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: تَوَضَّأت وَمن ثمَّ صليت (بِفَتْح الثَّاء) ، لِأَن الظّرْف (ثمَّ) يسمح بِدُخُول حرف الْجَرّ عَلَيْهِ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(نعاقرهم من دنان الْخُمُور، وَمن ثمَّ يسكرهم من شدا)
وَرب متسائل يَقُول: كَيفَ لَا تسمح اللُّغَة بِدُخُول الْحَرْف على الْحَرْف، فِي حِين أَدخل الشَّاعِر حرف الْجَرّ على، على الْحَرْف الْمُشبه بِالْفِعْلِ أَن فِي قَوْله:
(فوَاللَّه لَا أنسى قَتِيلا رزئته ... بِجَانِب قوسي مَا بقيت على الأَرْض)

(1/261)


(على أَنَّهَا تَعْفُو الكلوم، وَإِنَّمَا ... نوكل بالأدنى إِن جلّ مَا يمْضِي)
لهَذَا المتسائل نقُول: إِن حرف الْجَرّ على هُوَ فِي هَذَا الشَّاهِد حرف جر شَبيه بِالزَّائِدِ، وبالتالي فَهُوَ غير مُتَعَلق بِشَيْء، وَقد أَتَى بِهِ الشَّاعِر بِقصد الِاسْتِدْرَاك أَي بِمَعْنى لَكِن، وَمثله فِي الشّعْر كثير، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(بِكُل تداوينا فَلم يشف مَا بِنَا ... على أَن قرب الدَّار خير من الْبعد)
(على أَن قرب الدَّار لَيْسَ بِنَافِع ... إِذا كَانَ من تهواه لَيْسَ بِذِي ود)
وَنَظِيره السماح بِإِدْخَال حرف الْجَرّ من على حرف الْجَرّ على بِحَيْثُ يصير الْأَخير اسْما للاستعلاء بِمَعْنى فَوق، كَأَن تَقول: خطب الْخَطِيب من على الْمِنْبَر، أَي من فَوْقه، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(غَدَتْ من عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمّ ظمؤها
)
[6] ج ن ز:
وَمن أوهامهم أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين الْجِنَازَة (بِالْفَتْح) والجنازة (بالخفض) ، وَقد تباينت آراء اللغويين حولهما، فَقَالَ بَعضهم: كِلَاهُمَا بِمَعْنى، وتعنيان الْمَيِّت. ... وَقَالَ بَعضهم الآخر: الْجِنَازَة (بالخفض) تَعْنِي الْمَيِّت على سَرِيره، فَإِن لم يكن عَلَيْهِ فَهُوَ النعش.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْجِنَازَة (بالخفض) هُوَ السرير الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْمَيِّت. ... وَالصَّوَاب أَن الْجِنَازَة (بالخفض) هِيَ الجثة، وَتقول الْعَرَب: ضرب الرجل حَتَّى ترك جَنَازَة، أَي جثة هامدة، وَمِنْه قولم الْكُمَيْت يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(كَانَ مَيتا جَنَازَة خير ميت ... غيبته حفائر الأقوام)
واستعار بعض مجان الْعَرَب الْجِنَازَة لزق الْخمر الفارغ، فَقَالَ عَمْرو بن قعاس:
(وَكنت إِذا أرى زقا مَرِيضا ... يناح على جنَازَته، بَكَيْت)
وَأما الْجِنَازَة (بِالْفَتْح) فَتطلق على وجود الْمَيِّت دَاخل سَرِيره، فهما مَعًا جَنَازَة، فَإِن

(1/262)


انفصلا، فواحدهما جَنَازَة (بالخفض) وَالْآخر نعش وَهُوَ الْآلَة الحدباء الَّتِي كنى عَنْهَا كَعْب بن زُهَيْر بقوله:
(كل ابْن أُنْثَى وَإِن طَالَتْ سَلَامَته ... يَوْمًا على آلَة حدباء مَحْمُول)
وَجَمِيع مَا تقدم مَأْخُوذ من الْفِعْل جنز الشَّيْء يجنزه جنزا) أَي ستره.
وَمِمَّا يذكر أَن النوار لما احتضرت أوصت أَن يُصَلِّي عَلَيْهَا الْحسن رَضِي الله عَنهُ، فَقيل لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: إِذا جنزتموها فآذنوني، وَالْمعْنَى: إِذا كفنتموها بعد الْغسْل وَوَضَعْتُمُوهَا فِي النعش بِحَيْثُ تصير جَنَازَة فارسلوا فِي طلبي.
[7] ج هـ ز:
وَيَقُولُونَ لما يحملهُ الْمُسَافِر، وَلما تحمله الْعَرُوس مَعهَا إِلَى بَيتهَا من مَتَاع مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ: جهاز (بخفض الْجِيم بدل فتحهَا) فيوهمون لِأَن الجهاز (بالخفض) هُوَ الْآلَة كالهاتف والمذياع والمرياء، بَيْنَمَا الصَّوَاب أَن يُقَال جهاز الْعَرُوس (بِالْفَتْح) .
وَيَقُول اللَّيْث: سَمِعت أهل الْبَصْرَة يخطئون الجهاز بِالْكَسْرِ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْقُرَّاء كلهم على فتح الْجِيم فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} وبالكسر لُغَة رَدِيئَة.
وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تجهزي بجهاز تبلغين بِهِ ... يَا نفس قبل الردى، لم تخلقي عَبَثا)
وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب من استبدالهم الفتحة بالكسرة، قَوْلهم للعرق الَّذِي يخرج من الورك فيستبطن الْفَخْذ ثمَّ يمر بالعرقوب حَتَّى يبلغ الْحَافِر أَو الْقدَم، عرق النسا (بخفض النُّون) ، وَهُوَ وهم ظَاهر لِأَن النسا وَالنِّسَاء تَعْنِي النسْوَة، وَهُوَ جمع امْرَأَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال عرف النسا (بِفَتْح النُّون) ، وَمِنْه قَول لبيد:

(1/263)


(من نسا الناشط إِذْ ثورته ... أَو رَئِيس الأخدريات الأول)
وَنَظِيره قَول فَرْوَة:
(لما رَأَيْت مُلُوك كِنْدَة أَعرَضت ... كَالرّجلِ، خَان الرجل عرق نسائها)

بَاب الْحَاء
[8] ح ر ج:
وَمن قَبِيح أوهامهم تسميتهم الْأَشْجَار الكثيفة الملتفة الضيقة المسالك، الحرش (بالشين) ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال الْحَرج (بِالْجِيم) ، وَالْجمع أحراج، وحراج وحرجات وَمِنْه قَول ابْن ميادة:
(أَلا طرقتنا أم أَوْس ودونها ... حراج من الظلماء يعشى غرابها)
وَقَول الشَّاعِر:
(أيا حرجات الْحَيّ يَوْم تحملوا ... بِذِي سلم، لَا جادكن ربيع)
والحرج والحرجة والحراج، جَمِيعه مَأْخُوذ من الْفِعْل، حرج صَدره يحرج حرجا، أَي ضَاقَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} .
أما الْفِعْل حرش الْكلاب (بالشين) ، يحرشها حرشا وتحريشا، فَهُوَ تهييج بَعْضهَا على بعض لحملها على الْقِتَال.
وَفِي الحَدِيث أَنه نهى عَن التحريش بَين الْبَهَائِم، وَمِنْه قَول العجاج:

(1/264)


(وَكَأن أصوات كلاب تحترش ... هَاجَتْ بولوال ولجت فِي حرش)
ومثيله فِي الْوَهم تسميتهم الْمَكَان الَّذِي يَدُور فِيهِ الرقص والغناء والتمثيل: مسرحا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ: المرسح، وَالْجمع مراسح، لِأَن المسرح هُوَ الْمَكَان الَّذِي تقصده السارحة، أَي الْمَاشِيَة، بِالْغَدَاةِ للرعي وَمِنْه مَا جَاءَ فِي رِسَالَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أكيدر دومة الجندل: لَا تعدل سارحتكم وَلَا تعد فاردتكم.
أَي لَا تصرف ماشيتكم عَن مرعى.
أما المرسح، فَهُوَ الْمَكَان المستوي، وَلذَا سمي المرسح مرسحا، وَهُوَ مَأْخُوذ من الرسح، أَي خفَّة لحم الإليتين ولصوقهما، والرسحاء من النِّسَاء، هِيَ الزلاء الضامرة العجيزة بِحَيْثُ تصير مستوية مَعَ استقامة الظّهْر.
وَفِي الحَدِيث: لَا تسترضعوا أَوْلَادكُم الرسح وَلَا العمش فَإِن اللَّبن يُورث الرسح.

بَاب الْخَاء
[9] خَ ط ب:
وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الْخطْبَة (بِضَم الْخَاء) وَالْخطْبَة (بخفضها) ، فَالْأولى من قَوْلك: خطب الرجل على الْمِنْبَر يخْطب خطْبَة، وَالْجمع خطب، وَهُوَ اسْم كَلَام الخطباء.
وَالثَّانيَِة من قَوْلك: خطب الرجل الْمَرْأَة إِلَى ذويها، يخطبها خطْبَة وخطيبى، أَي رغب فِي الاقتران بهَا، وَالْجمع خطاب.
وَمِنْه قَول عدي بن زيد يذكر خطْبَة الزباء بجذيمة الأبرش الَّتِي أَجَابَتْهُ ثمَّ خاست بالعهد فَقتلته.
(لخطيبى الَّتِي غدرت وخانت ... وَهن ذوأت غائلة لحينا)
وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَنهم يطلقون على الْوَاحِدَة من عِظَام عَمُود الظّهْر،

(1/265)


وَكَذَلِكَ على المقطع من صفحة الْكتاب لَفْظَة فقرة (بِفَتْح الْقَاف) فيوهمون، لِأَن الْفَقْرَة جمع فَقير نَحْو: بررة، وعجزة، وَعَبدَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فقرة (بتسكين الْقَاف) أَو فقرة (بخفض الْفَاء وتسكين الْقَاف) وَالْجمع فقر وفقار، وَمِنْه قَوْلهم: لَا فَتى إِلَّا عَليّ، لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار.

بَاب السِّين
[10] س وف:
وَمن أقبح أَوْهَام جمهرة من كتاب الْعَصْر قَوْلهم: سَوف لن أفعل ذَلِك، وسوف لَا أفعل ذَلِك، فيفصلون بَين سَوف وَالْفِعْل ب لَا وَلنْ وسواهما، وَهَذَا مَالا تجيزه اللُّغَة.
ذَلِك أَن السِّين وسوف حرفان يختصان بالمضارع ويمحضانه للاستقبال، وَلَا يجوز أَن يفصل بَينهمَا وَبَين الْفِعْل فاصل.
فَإِذا أردْت الْحَال قلت: أَنا أسافر.
وَإِذا أردْت الِاسْتِقْبَال قلت: أَنا سأسافر، أَو سَوف أسافر.
وَإِذا أردْت النَّفْي قلت: لن أسافر غَدا.
وَرب معترض على هَذِه الْقَاعِدَة بقوله تَعَالَى: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} .
ونجيب هَذَا الْمُعْتَرض بالْقَوْل: إِن لَام التوكيد دخلت على الْفِعْل لَا على الْحَرْف، لِأَن الْعَرَب اشْتقت من سَوف فعلا فَقَالَت: سوفت الرجل تسويفا، أَي ماطلته وصبرته.
وَمِنْه مَا ورد فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن المسوفة من النِّسَاء، وَهِي الَّتِي لَا تجيب زَوجهَا إِذا دَعَاهَا إِلَى فرَاشه.
وَنَظِيره مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ لِابْنِ مقبل:
(لَو سوفتنا بسوف من تجنبها ... سَوف العيوف، لراح الركب قد قنعوا)
[11] س ي ح:

(1/266)


وَمن أوهامهم أَنهم يجمعُونَ سائحا على سواح، وهم الضاربون فِي الأَرْض للتفرج والنزهة.
وَهَذَا وهم ظَاهر، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: سياح، لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْفِعْل: ساح المَاء يسيح سياحة، إِذا جرى على وَجه الارض.
وَمِنْه قَول الفرزدق:
(وَكم للْمُسلمين أسحت فيهم ... بِإِذن الله من نهر ونهر)
وَنَظِيره فِي الِاشْتِقَاق قَوْلهم: هَذَا مكتب لتعليم السواقة، يعنون قيادة السيارات، فيخطئون.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مكتب لتعليم السِّيَاقَة، لِأَنَّهَا من الْفِعْل: سَاق السيارة يَسُوقهَا سِيَاقَة، نَحْو: قاد يَقُود قيادة، وحاك يحوك حياكة، وصاغ يصوغ صياغة.
وَفِي الْمثل قَوْلهم: إِلَيْك يساق الحَدِيث، وَقَوْلهمْ: هُوَ يَسُوق الحَدِيث أحسن سِيَاق.

بَاب الشين
[12] ش ر ب:
وَيَقُولُونَ لشعر السبلة شَارِب، فيوهمون.
وَالصَّحِيح أَن يُقَال: شاربان وَفِي ذَلِك يَقُول سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يُسَمِّي السبلة كلهَا شاربا وَاحِدًا، وَلَيْسَ بصواب، وَهُوَ من الْوَاحِد الَّذِي فرق فَجعل كل وَاحِد مِنْهُ شاربا، وَالْجمع شوارب.
وَنَظِيره قَوْلهم: انتعل خفه وَنَعله وسبته، فيفردونها، وَالصَّوَاب أَن تثنى جَمِيعًا فَيُقَال: انتعل خفيه ونعليه وسبتيه، كَمَا قَالَ سيدنَا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْدَمَا شَاهد رجلا بَين الْقُبُور فِي سبتيه: يَا صَاحب السبتين اخلع سبتيك.
وَنَظِيره مَا جَاءَ فِي تَثْنِيَة الْخُف قَوْلهم فِي الْمثل: عَاد بخفي حنين.
وَمِنْه

(1/267)


قَول الشَّاعِر:
(يَا لَيْت لي نَعْلَانِ من جلد الضبع ... وشركا من استها لَا يَنْقَطِع)
وَمِمَّا يستطاب ذكره فِي هَذَا الْمقَام، أَن أَعْرَابِيًا دخل على معن بن زَائِدَة، وَكَانَ يَوْمئِذٍ أَمِيرا على الْعرَاق، وَهُوَ يَنْوِي أَن يختبر حلمه، فأنشده يذكرهُ بأيام فقره وَقلة مَاله قبل أَن يصير أَمِيرا:
(أَتَذكر إِذْ لحافك جلد شَاة ... وَإِذ نعلاك من جلد الْبَعِير)
فَلم يغْضب الْأَمِير من الْأَعرَابِي كَمَا توقع جُلَسَاؤُهُ، وَأجَاب الشَّاعِر بقوله: بلَى، أذكر ذَلِك وَلَا أنساه.
فتابع الْأَعرَابِي قَوْله:
(فسبحان الَّذِي أَعْطَاك ملكا ... وعلمك الْجُلُوس على السرير)
فَقَالَ معن: يَا أَخا الْعَرَب، وشأنك فِي الْأَمِير فَقَالَ الْأَعرَابِي:
(سأرحل عَن بِلَاد أَنْت فِيهَا ... وَلَو جَار الزَّمَان على الْفَقِير)
فَقَالَ معن: يَا أَخا الْعَرَب: إِن جاورتنا فمرحبا بك، وَإِن رحلت فمصحوب بالسلامة، فَقَالَ الْأَعرَابِي:
(فجد لي يَا ابْن نَاقِصَة بِشَيْء ... فَإِنِّي قد عزمت على الْمسير)
فَقَالَ معن: اعطوه ألف دِينَار يَسْتَعِين بهَا على سَفَره، فَأَخذهَا الْأَعرَابِي وَقَالَ:
(قَلِيل مَا أتيت بِهِ وَإِنِّي ... لأطمع مِنْك بِالْمَالِ الْكثير)

(1/268)


فَقَالَ معن: اعطوه ألفا أُخْرَى، فَأَخذهَا الْأَعرَابِي وَقَالَ:
(سَأَلت الله أَن يبقيك ذخْرا ... فَمَا لَك فِي الْبَريَّة نَظِير)
فَقَالَ معن: اعطوه ألفا آخر.
فَقَالَ الْأَعرَابِي: أَيهَا الْأَمِير: مَا جئْتُك إِلَّا مختبرا حلمك لما بَلغنِي عَنهُ، فقد جمع الله فِيك من الْحلم مَا لَو قسم على أهل الأَرْض لكفاهم.
[12] ش ق ق:
وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الشق (بِفَتْح الشين) ، وَيَعْنِي الصدع، والشق (بخفض الشين) ، وَيَعْنِي الْمَشَقَّة والعنت، فيضعون هَذَا مَكَان ذَاك ويقعون فِي الْوَهم، لِأَن الأول مَأْخُوذ من: شقّ الْجِدَار يشقه شقا، أَي صدعه وَجعل فِيهِ شقوقا.
وَمِنْه قَوْلهم: شقّ الْخَوَارِج عَصا الْمُسلمين، أَي فرقوا جمعهم وكلمتهم، وصدعوا تلاحمهم ووحدتهم.
أما الثَّانِي (بخفض الشين) فمأخوذ من شقّ عَلَيْهِ الْأَمر يشق شقا ومشقة، أَي ثقل وصعب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس} أَي بالتعب والجهد، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(وَالْخَيْل قد تجشم أَرْبَابهَا ... الشق، وَقد تعتسف الراوية)
وَمثله من الْفِعْل قَول شوقي:
(لحاها الله أنباء توالت ... على سمع الْوَلِيّ بِمَا يشق)

(1/269)


[14] ش ور:
وَمن أَوْهَام بعض الْخَواص قَوْلهم: خرجنَا فِي مشوار إِلَى منتزه، وهم يعنون: فِي نزهة إِلَى منزه، فيخطئون مرَّتَيْنِ.
الأولى: تسميتهم النزهة بالمشوار، لِأَن المشوار هُوَ اسْم آلَة على وزن مفعال، نَحْو: مِفْتَاح ومنشار، وَهُوَ مُشْتَقّ من الْفِعْل: شار الْعَسَل واشتاره، أَي اجتناه من خلاياه.
والمشوار هُوَ الْآلَة الَّتِي يشتار بهَا الْعَسَل، والشور هُوَ الْعَسَل نَفسه، وَمِنْه قَول سَاعِدَة بن جؤبة:
(فَلَمَّا دنا الْإِفْرَاد حط بشوره ... إِلَى فضلات مستحير جمومها)
والمشوار أَيْضا الْهَيْئَة وَالصُّورَة.
يُقَال: فلَان حسن المشوار، أَي الْهَيْئَة، وَالْأُنْثَى شيرة.
وَالثَّانيَِة من أوهامهم فِي هَذِه الْعبارَة قَوْلهم لمَكَان النزهة منتزها، وَهُوَ وهم وَاضح، لِأَن اسْم الْمَكَان يُؤْخَذ من الْفِعْل الثلاثي (نزه) على وزن مفعل، أَي منزه، وَمِنْه قَول أبي بكر بن زهر الأندلسي:
(عَيْش يطيب ... ومنزه كالعروس عِنْدَمَا تجلى)
أما إِذا كَانَ الْفِعْل مزيدا، فَإِن الزِّيَادَة فِيهِ تُضَاف إِلَى الْمَوْزُون، فَنَقُول فِي تعثر: متعثر، وَفِي تدرج: متدرج، وَفِي تنزه: متنزه، وَلَا نقُول: منتزه.

(1/270)


بَاب الصَّاد
[15] ص ل ح:
وَيَقُولُونَ: صلح الْمعلم مَوْضُوع الْإِنْشَاء وَعمل الْحساب، ويريدون: صحّح، وَهَذَا وهم ظَاهر وَإِن تقَارب المعنيان، لِأَن التصليح يكون لما فسد أَو تعطل من الْآلَة وَالشَّيْء، فَتَقول: أصلحت السيارة وأعطالها وَكَذَلِكَ صلحتها.
بَيْنَمَا التَّصْحِيح يكون لتصويب مَا فسد مساره، كتصحيح الْخَطَأ فِي الْكِتَابَة وَالْقِرَاءَة، وَتَصْحِيح المسار والنهج والفكرة.
وَأما الْإِصْلَاح فَيكون فِي القضايا المعنوية الْمُتَعَلّقَة بِالنَّفسِ وَالْإِنْسَان وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} والإصلاح خلاف الْفساد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون} ، وَمِنْه: إصْلَاح ذَات الْبَين.
وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الإطار قَوْلهم: ضعف الْمَرَض جسده، يُرِيدُونَ أضعفه، فيقلبون الْمَعْنى إِلَى ضِدّه، لِأَن الْفِعْل ضعف يضعف تضعيفا، وَكَذَلِكَ ضاعف يُضَاعف مضاعفة، وواحدها الضعْف (بخفض الضَّاد) وَالْجمع أَضْعَاف كلهَا تَعْنِي الزِّيَادَة وَالْكَثْرَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} .
بَيْنَمَا أَضْعَف يضعف إضعافا وضعفا وضعفا، وضعفا وَالْوَاحد ضَعِيف، وَالْجمع ضِعَاف وضعفاء وَهِي جَمِيعًا تَعْنِي الْقلَّة وَالنُّقْصَان فِي الْقُوَّة الجسدية والعقلية، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا} .
وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(وَلَا أشارك فِي رَأْي أَخا ضعف ... وَلَا أَلين لمن لَا يَبْتَغِي ليني)
وأخا ضعف تَعْنِي: الضعْف فِي الرَّأْي وَالْعقل.
وَأما قَول الشَّاعِر:
(وَمن يلق خيرا يغمز الدَّهْر عظمه ... على ضعف من حَاله وفتور)

(1/271)


فيعني الضعْف فِي الْجِسْم.
[16] ص م م:
وَيَقُولُونَ للفتحة الَّتِي تصل بَين الأذين والبطين دَاخل الْقلب، وَالَّتِي تنظم عملية مُرُور الدَّم فِي الأوردة والشرايين بانسدادها تلقائيا منعا لعودة الدَّم فِي الاتجاه المعاكس، صمام الْقلب (بِفَتْح الصَّاد وتضعيف الْمِيم) فيخطئون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال صمام (بخفض الصَّاد وَمنع التَّضْعِيف) لِأَن هَذَا اللَّفْظ هُوَ من الْفِعْل الثلاثي: صم رَأس القارورة، يصمه صمًّا، أَي سَده وَجعل لَهُ صماما، أَي سدادا.
والصمام هُوَ مَا أَدخل فِي فَم القارورة.
أما الصمام فَهُوَ صِيغَة الْمُبَالغَة للرجل الْكثير التصميم، وَهُوَ من الْفِعْل الرباعي: صمم على الْأَمر، أَي ذهب مِنْهُ على رَأْيه وَمضى، وَنَظِيره فِي صفة الْمُبَالغَة، علام وقتال وجرار، وَمِنْه قَول حميد:
(وحصحص فِي صم الْحَصَى ثفناته ... وناء بسلمى نوأة ثمَّ صمما)
وَقد أَكثر المحدثون من اسْتِخْدَام هَذَا اللَّفْظ لكل فَتْحة تمنع الانفجار كتلك الَّتِي تزَود بهَا طناجر الضغط، وَالَّتِي تسمح بمرور بخار المَاء من خلالها أثْنَاء الغليان منعا للإنفجار.
وَمن الْمجَاز اسْتِخْدَام هَذَا اللَّفْظ كمانع لوُقُوع الْحَرْب، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(يَقُولُونَ لي: غامرت فِي كل محنة ... وَأَنت على العلات أقسى وأقدر)
(فَإِن كَانَ صمام الْأمان رجوته ... وَإِن كَانَ تضليلا تعود فتنظر)
وَيَأْتِي هَذَا اللَّفْظ بِالسِّين (سمام وسم وسم) بدل الصَّاد.
وسمام كل شَيْء وسمه وسمه، هُوَ خرقه وثقبه، وَمِنْه سم الْخياط فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} أَي فَتْحة الإبرة.
وسمة الْمَرْأَة: ثقبة فرجهَا.
وَفِي حَدِيث الْوَطْء: فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم سماما وَاحِدًا.
أَي من مَكَان وَاحِد، وَهُوَ الْفرج.
وَرُوِيَ صماما وَاحِدًا، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى.
وَمِنْهَا مسام الْجلد: أَي ثقبه الَّتِي يبرز مِنْهَا الْعرق.

(1/272)


بَاب الطَّاء
[17] ط ب ع:
وَمن أَوْهَام بعض المتحذلقين أَنهم يفرقون بَين الطابع (بِفَتْح الْبَاء) والطابع (بخفضها) ، فيوهمون بِأَن الأول هُوَ الطَّبْع والسجية وَمَا فطر عَلَيْهِ الْإِنْسَان من الْخلال، بَيْنَمَا الثَّانِي هُوَ مَا يلصق على الرسَالَة.
وَالصَّوَاب أَن كليهمَا بِمَعْنى، وَالْجمع طباع وطبائع وطوابع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(لَهُ طَابع يجْرِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ... تفاضل مَا بَين الرِّجَال الطبائع)
والطابع والطابع أَيْضا يعنيان الْخَاتم، وَهُوَ ميسم الْفَرَائِض.
وكل مَا طبع أَو ختم بِهِ.
وَمِنْه مَا جَاءَ فِي حَدِيث الدُّعَاء: اختمه بآمين فَإِن آمين مثل الطابع على الصَّحِيفَة.
وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا، أَنهم يفرقون بَين الْخَاتم (بِفَتْح التَّاء) والخاتم (بخفضها) فيوهمون بِأَن الأول هُوَ مَا نختم بِهِ الرسَالَة على الطينة، وَالثَّانِي مَا يلبس فِي الإصبع.
وَالصَّوَاب أَن كليهمَا بِمَعْنى.
وَيُقَال مَا يلبس فِي الإصبع أَيْضا الْخَتْم والخيتام والخاتام، كَأَنَّهُ أول وهلة ختم بِهِ فَدخل لذَلِك بَاب الطابع.
ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله لذَلِك وَإِن كَانَ أعد الْخَاتم لغير الطَّبْع، وَالْجمع خَوَاتِم وخواتيم.
وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن لبس الْخَاتم إِلَّا لذِي سُلْطَان، أَي إِذا لبسه لغير حَاجَة وَكَانَ للزِّينَة الْمَحْضَة فكره لَهُ ذَلِك ورخصها للسُّلْطَان لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا فِي ختم الْكتب والرسائل، وَقيل: لقد جَاءَهُ رجل وَعَلِيهِ خَاتم حَدِيد، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لي أرى عَلَيْك حلية أهل النَّار لِأَن الْخَاتم كَانَ من زِيّ الْكفَّار.
وَمِنْه مَا قَالَه الشَّاعِر فِي الخيتام:

(1/273)


(يَا هِنْد ذَات الجورب المنشق ... أخذت خيتامي بِغَيْر حق)
وَنَظِيره فِي الخاتام قَول شَاعِر بني عقيل:
(لَئِن كَانَ مَا حدثته الْيَوْم صَادِقا ... أَصمّ فِي نَهَار القيظ للشمس باديا)
(وأركب حمارا بَين سرج وفروة ... وأعر من الخاتام صغرى شماليا)

بَاب الْعين
[18] ع ق ر:
وَمن أوهامهم أَنهم يطلقون على الْبَيْت أَو الْبُسْتَان أَو الأَرْض وَمَا شابهها من الْأَمْلَاك لَفْظَة عقار (بخفض الْعين) فيوهمون، لِأَن الْعقار هُوَ جمع عقرى، وَهُوَ صفة الْأُنْثَى اللَّازِمَة لمكانها، تَقول: نَاقَة عقرى، ونوق عقار، نَحْو عطشى وعطاش، أَي الملازمات لمكانهن المحجوبات عَن الرَّعْي، وَالْأَصْل من الْعقر، أَي الْمَنْع وَالْحَبْس والملازمة للشَّيْء، وَهُوَ من الْفِعْل عَاقِر الشَّيْء معاقرة وعقارا، أَي لزمَه، وَبِه سميت الْخمر عقارا (بِضَم الْعين) لِأَنَّهَا تعاقر الْعقل والدن، أَي تلازمهما، وَمِنْه قَول أبي نواس:
(منع الصَّوْم العقارا ... وذرى اللَّهْو فغارا)
(أسقني حَتَّى تراني ... أَحسب الديك حمارا)
وَالصَّوَاب أَن يُقَال للبيت وَالْأَرْض عقار (بِفَتْح الْعين) ، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي الحَدِيث: من بَاعَ دَارا أَو عقارا، أَي الضَّيْعَة وَالْبَيْت، وَالنَّخْل.
وَمِنْه قَول طفيل:
(عقار تظل الطير تخطف زهوه ... وعالين أعلاقا على كل مفأم)
وَمن الْعقار والعقر بِمَعْنى الدَّار الْكَبِيرَة أَو الْقصر قَول لبيد بن ربيعَة:

(1/274)


(كعقر الهاجري إِذا ابتناه ... بأشباه خذين على مِثَال)
[19] ع ق ص:
وَيَقُولُونَ: عقصته النحلة، فيوهمون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: لسعته النحلة، لِأَن العقص هُوَ لُغَة الالتواء والعطف.
والعقصاء من المعزى، هِيَ الَّتِي التوى قرناها على أذنيها، والتيس أعقص.
والعقصة والعقيصة: الضفيرة والخصلة من الشّعْر الملتوية، وَالْجمع عقص وعقاص وعقائص، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس يصف محبوبته:
(غدائره مستشزرات إِلَى العلى ... تضل العقاص فِي مثنى ومرسل)
حَيْثُ وصفهَا بكثافة الشّعْر والتفافه.
والعقص: أَن تَأْخُذ الْمَرْأَة كل خصْلَة من شعرهَا فتلويها ثمَّ تعقدها حَتَّى يصير فِيهَا التواء ثمَّ ترسلها، وَرُبمَا اتَّخذت عقيصة من شعر غَيرهَا.
وعقصت الْمَرْأَة شعرهَا تعقصه عقصا: شدته فِي قفاها.
والعقص فِي لُغَة الشّعْر يَقع فِي زحاف الوافر، وَهُوَ إسكان الْخَامِس من مفاعلتن، فَيصير مفاعلتن، ثمَّ تحذف النُّون مِنْهُ مَعَ الخرم فَيصير الْجُزْء مفعول كَقَوْل الشَّاعِر:

(1/275)


(لَوْلَا ملك رؤوف رَحِيم ... تداركني برحمته هَلَكت)
والعقص من الرِّجَال: الألوى، الصعب الْأَخْلَاق، وَمِنْه حَدِيث ابْن عَبَّاس: لَيْسَ مثل الْحصْر العقص، يَعْنِي ابْن الزبير، تَشْبِيها لأخلاقه بالقرن الملتوي.
[20] ع م د:
وَمن أوهامهم المشينة أَنهم يزِيدُونَ حرفا أَو ينقصُونَ حرفا من الْكَلِمَة كَمَا يفعل الْعَوام.
فَمن أَمْثِلَة الزِّيَادَة تسميتهم للخشبة الْقَائِمَة وسط الخباء، وَكَذَلِكَ للعصا ولدعامة الْمنزل وأشباهها مِمَّا يعْتَمد عَلَيْهِ عامودا، وَهَذَا وهم، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: عَمُود وعماد، وَالْجمع أعمدة وَعمد، وَمِنْه قَول الشَّاعِر يكنى عَن الخباء:
(وَمَا أهل العمود لنا بِأَهْل ... وَلَا النعم السآم لنا بِمَال)
وَقَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ بِمَعْنى الْعَصَا:
(يهدي العمود لَهُ الطَّرِيق إِذا هم ... ظعنوا، ويعمد للطريق الأسهل)
وَاسم الْجمع عمد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي رفع السَّمَاوَات بِغَيْر عمد ترونها ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} .
والخباء المعمد: الْمقَام على أعمدة، وَمِنْه قَول طرفَة بن العَبْد:
(وتقصير يَوْم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تَحت الخباء المعمد)
وَمن أَمْثِلَة إنقاص حرف أَنهم يجمعُونَ خضرَة وخضراء على خضروات، ويعنون الْبُقُول الخضراء، فيوهمون.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: خضراوات، لِأَن الْعَرَب تَقول لهَذِهِ الْبُقُول خضراء، وَهِي لَا تُرِيدُ لَوْنهَا وَإِنَّمَا اسْمهَا، لذا صَار هَذَا اللَّفْظ اسْما لَهَا وَلَيْسَ صفة، وَلَو أَنه كَانَ صفة لَكَانَ جمعه على خضر بِإِسْكَان الضَّاد نَحْو أَزْرَق وأصفر

(1/276)


وأحمر، فَإِنَّهَا تجمع على زرق وصفر وحمر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
وكل مَهْمُوز الآخر نَحْو صحراء وبطحاء وخضراء تقلب همزته فِي الْجمع واوا، فَيُقَال: صحراوات وبطحاوات وخضراوات، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة يَعْنِي بِهِ الْفَاكِهَة الرّطبَة والبقول.

بَاب الْغَيْن
[21] غ ر ق:
وَيَقُولُونَ: أغرق الرجل فِي الضحك واستغرق، إِذا اشْتَدَّ ضحكه ولج فِيهِ.
والأفصح أَن يُقَال: اسْتغْرب فِي الضحك، إِذا بلغ الْحَد والمنتهى.
فَفِي الحَدِيث: ضحك حَتَّى اسْتغْرب، أَي بَالغ فِيهِ.
وَفِي حَدِيث الْحسن رَضِي الله عَنهُ: إِذا اسْتغْرب الرجل ضحكا فِي الصَّلَاة، أعَاد الصَّلَاة.
قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، وَيزِيد عَلَيْهِ إِعَادَة الْوضُوء وَفِي حَدِيث ابْن هُبَيْرَة: أعوذ بك من كل شَيْطَان مستغرب: أَي المتناهي فِي الْخبث.
وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(فَمَا يغربون الضحك إِلَّا تبسما ... وَلَا ينسبون القَوْل إِلَّا تخافيا)

(1/277)


[22] غ ي ر:
وَيَقُولُونَ: قبضت ألفا لَا غير، فيوهمون.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: قبضت ألفا لَيْسَ غير، لِأَن الأَصْل: لَيْسَ الْمَقْبُوض غير ذَلِك، فأضمر اسْم لَيْسَ، وَحذف مَا أضيف إِلَيْهِ غير، وينيت غير على الضَّم تَشْبِيها لَهَا بقبل وَبعد لإبهامها.
وَيرى ابْن هِشَام فِي شرح شذور الذَّهَب أَنه من الْمُحْتَمل أَن يكون التَّقْدِير: لَيْسَ غير ذَلِك مَقْبُوضا، ثمَّ حذف خبر لَيْسَ وَمَا أضيفت إِلَيْهِ غير، وَتَكون الضمة على هَذَا ضمة إِعْرَاب، وَلكنه رجح الْوَجْه الأول.
وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه لَا يجوز حذف مَا أضيفت إِلَيْهِ غير إِلَّا بعد لَيْسَ فَقَط.
وَأما مَا يردد على لِسَان بعض الْخَواص من قَوْلهم: لَا غير، فَلَا تَتَكَلَّم بِهِ الْعَرَب.

بَاب الْفَاء
[23] ف ج ج:
وَمن أوهامهم أَنهم ينعتون مَا لم ينضج من الْفَاكِهَة بقَوْلهمْ: فَاكِهَة فجة (بِفَتْح الْفَاء) فيخطئون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: فَاكِهَة فجة (بخفض الْفَاء) ، لِأَن الْفَج من كل شَيْء هُوَ مَا لم ينضج، وَمِنْه مَا قَالَه رجل من الْعَرَب: الثِّمَار كلهَا فجة فِي الرّبيع حِين تَنْعَقِد حَتَّى ينضجها حر القيظ.
وَأما الْفَج (بِفَتْح الْفَاء) فَهُوَ الطَّرِيق الْوَاسِع بَين جبلين، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {من كل فج عميق} وَالْجمع فجاج، وَالِاسْم الفجج، وَهُوَ تبَاعد الرُّكْبَتَيْنِ.
وفج الرجل رجلَيْهِ،

(1/278)


وفاج: باعد مَا بَينهمَا.
وَالرجل الأفج: الشَّديد التباعد بَين فَخذيهِ، وَهُوَ عيب فِي الْإِنْسَان، كالأعرج والأعور والأصك والأحدل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(الله أعطانيك غير أحد لَا ... وَلَا أصك أَو أفج فنجلا)

بَاب الْقَاف
[24] وَمن أقبح أوهامهم أَنهم يبدلون حَرَكَة حرف المضارعة فِي المضاعف فيغيرون الْمَعْنى ويقلبون المبنى، فَلَا يفرقون بَين يقل (بِضَم الْيَاء) ويقل (بِفَتْح الْيَاء) ، فَالْأول من الْفِعْل قل الشَّيْء يقلهُ قلا، أَي حمله وَرَفعه وَالثَّانِي من قل الشَّيْء يقل قلا، فَهُوَ قَلِيل، وَهُوَ خلاف كثر، وَمِنْه حَدِيث ابْن مَسْعُود: الرِّبَا وَإِن كثر فَهُوَ إِلَى قل.
وَنَظِيره قَول خَالِد بن عَلْقَمَة الدَّارمِيّ:
(قد يقصر القل الْفَتى دون همه ... وَقد كَانَ لَوْلَا القل طلاع أنجد)
وَنَظِيره فِي استبدال حركات الْمُضَارع الْفِعْل يمد وَالْفِعْل يمد.
فَالْأول من الامتداد والاستطالة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون} ، وَالثَّانِي من الْإِمْدَاد والمساعدة كَقَوْلِه تَعَالَى: {ألن يكفيكم أَن يمدكم ربكُم بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة} .

(1/279)


وَمثله الفعلان يعد ويعد.
فَالْأول من عد الشَّيْء، والنقود يعد عدا، بِمَعْنى أحصى وَحسب، وَمِنْه قَول أبي ذُؤَيْب:
(رددنا إِلَى مولى بنيها فَأَصْبَحت ... يعد بهَا وسط النِّسَاء الأرامل)
وَالثَّانِي من أعد الزَّاد يعد إعدادا وعدة.
وَمِنْه قَوْلهم: يعد لِلْأَمْرِ عدته، أَي يستعد ويتهيأ لَهُ.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} .
[25] ق ن ن:
وَيَقُولُونَ لمحبس الدَّجَاج وقفص الدواجن وَالطير: الْقِنّ، فيوهمون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ: الخم، لِأَن الْقِنّ هُوَ العَبْد الَّذِي ولد من أَب مَمْلُوك، وَالْجمع قنان وأقنة، وَمِنْه قَول جرير:
(إِن سليطا فِي الخسار إِنَّه ... أَبنَاء قوم خلقُوا أقنه)
وَمِنْه أَيْضا أَنهم يطلقون على الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ السروال والمنطق.
اسْم الدكة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ التكة.
وَيَقُولُونَ لموجودات الْمنزل ومتاعه: عفش وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهَا: شوار أَو أثاث.
وَيَقُولُونَ للبلعوم: الحنجرة (بِضَم الْحَاء وَالْجِيم) ، وَالصَّوَاب الحنجرة (بفتحهما) ، وَالْجمع حناجر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} .
وَمن أوهامهم أَنهم يسمون رجيع الْبَقر الفلط.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ الثلط (بالثاء الْمُعْجَمَة وتسكين اللَّام) ، لِأَن الفلط والفلاط تعنيان الْأَمر المفاجئ، وَمِنْه قَول المنخل الْهُذلِيّ:
(بِهِ أحمى الْمُضَاف إِذا دَعَاني ... وَنَفْسِي، سَاعَة الْفَزع الفلاط)

(1/280)


أَي سَاعَة الْفَزع المفاجئ.

بَاب الْمِيم
[26] م ن ذ:
وَيَقُولُونَ فِي جَوَاب من يسالهم عَن صديق: مَا رَأَيْته مُنْذُ وَقت طَوِيل، فيهمون، لِأَن مجرور هَذَا الْحَرْف، وَكَذَلِكَ مذ، لَا يكون إِلَّا اسْم زمَان، وَلَا يكون ذَلِك الزَّمَان إِلَّا معينا لَا مُبْهما، فِي الْمَاضِي أَو الْحَاضِر وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَقْبل.
وَالصَّوَاب أَن تَقول: مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْم الْجُمُعَة، ومذ يَوْم الْجُمُعَة وَلَا تقل: مذ غَد وَلَا مُنْذُ وَقت، لِأَن الأول يَقع فِي الْمُسْتَقْبل، وَالْآخر مُبْهَم.
ومذ أَصْلهَا مُنْذُ، فخففت.
ومنذ أَصْلهَا من الجارة وإِذْ الظَّرْفِيَّة، فجعلتا كلمة وَاحِدَة، وَلذَا كسرت ميمها فِي بعض اللُّغَات بِاعْتِبَار الأَصْل فَقَالُوا: مُنْذُ.
وَأما مذ فقد حركوا آخرهَا بِالضَّمِّ عِنْد دُخُولهَا على معرفَة وَلم يحركوها بِالْكَسْرِ كعادتهم منعا من التقاء الساكنين لِأَن الذَّال مضموم فِي مُنْذُ.
وللنحاة فِي هذَيْن الحرفين آراء.
فَمنهمْ من يرى أَن الْخَفْض وَاجِب بعد مذ لما مضى وَمَا لم يمض وَبَعْضهمْ يرفع بمنذ مَا مضى وَمَا لم يمض.
وَالصَّوَاب أَن يخْفض بمذ مَا لم يمض وَيرْفَع مَا مضى، ويخفض بمنذ مَا لم يمض مَا مضى.
وَمعنى هذَيْن الحرفين ابْتِدَاء الْغَايَة مثل من إِن كَانَ الزَّمَان مَاضِيا، كَقَوْل زُهَيْر:
(لمن الديار بقنة الْحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر)
أَي: من حجج وَمن دهر.
وَنَظِيره قَول امْرِئ الْقَيْس:
(قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... وَربع عفت آثاره مُنْذُ أزمان)
وَإِن كَانَ الزَّمَان حَاضرا فمعناهما الظَّرْفِيَّة، كَقَوْلِك: مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْمنَا.
أما إِذا كَانَ الزَّمَان معدودا فهما بِمَعْنى (من وَإِلَى) نَحْو: مَا رَأَيْته مذ يَوْمَيْنِ، أَي من يَوْمَيْنِ وَإِلَى الْآن.

(1/281)


وَقد يدخلَانِ على اسْم مَرْفُوع أَو جملَة، فيكونان حِينَئِذٍ اسْمَيْنِ كَقَوْلِك: مَا رَأَيْته مذ يَوْمَانِ، أَو مُنْذُ يَوْم الْجُمُعَة، وَالشَّاهِد على الْجُمْلَة الفعلية قَول الشَّاعِر:
(مَا زَالَ مذ عقدت يَدَاهُ إزَاره ... فسما فَأدْرك خَمْسَة الأشبار)
وَالشَّاهِد على الْجُمْلَة الفعلية قَول الْأَعْشَى:
(مَا زلت أبغي الْخَيْر مذ أَنا يافع ... وليدا وكهلا حِين شبت وأمردا)
وَرب متسائل عَمَّا أوردهُ الزجاجي فِي بِنَاء مَا بعد مذ على الْفَتْح خلافًا لرأي النُّحَاة فِي قَول الشَّاعِر:
(لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمْسا)
(يأكلن مَا فِي رحلهن همسا ... لَا ترك الله لَهُنَّ ضرسا)
ونجيب هَذَا المتسائل بِأَن لَفْظَة أمس فِي هَذَا الشَّاهِد هِيَ اسْم مجرور بمنذ وعلامة جَرّه الفتحة عوضا عَن الكسرة لِأَنَّهُ مَمْنُوع من الصّرْف لعلمية وَالْعدْل، وَهِي لُغَة بني تَمِيم، وَأَن الزجاجي وهم فِي إِيرَاد الشَّاهِد تَأْكِيدًا لزعمه أَن من الْعَرَب من يَبْنِي أمس على الْفَتْح.
[27] م وت:
وَيَقُولُونَ لمن قضى نحبه ميت (بتسكين الْيَاء) ، وَلمن لَا يزَال حَيا ميت (بِتَضْعِيف الْيَاء) ، فيوهمون فِي ذَلِك لِأَن اللَّفْظَيْنِ يحْملَانِ نفس الْمَعْنى، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي

(1/282)


التَّنْزِيل الْعَزِيز قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} .
وَقد جمع الشَّاعِر بَين اللغتين فَقَالَ:
(لَيْسَ من مَاتَ واستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء)
(إِنَّمَا الْمَيِّت من يعِيش شقيا ... كاسفا باله قَلِيل الرَّجَاء)
(فأناس يمصصون ثمادا ... وأناس حُلُوقهمْ فِي المَاء)
فقد جعل الْمَيِّت بالتضعيف كالميت بِالتَّخْفِيفِ.
وَيَقُول الزّجاج: الْمَيِّت هُوَ الْمَيِّت، إِلَّا أَنه يُخَفف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} وَلم يقل ميتَة مَعَ أَن الْبَلدة مُؤَنّثَة.
وَقَالَ بَعضهم: إِن أصل اللَّفْظ ميوت، على وزن فيعل، ثمَّ أدغموا الْوَاو فِي الْيَاء.
وَقَالَ آخَرُونَ: أصل اللَّفْظ مويت نَحْو سيد وسُويد حَيْثُ أدغمت الْيَاء فِي الْوَاو.
أما الْحَالة من هَذَا الْفِعْل فَهِيَ الْميتَة نَحْو: الجلسة والقعدة، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي حَدِيث الْفِتَن: فقد مَاتَ ميتَة الْجَاهِلِيَّة.
أَي كَمَا يَمُوت أهل الْجَاهِلِيَّة من الضَّلَالَة، وَالْجمع: ميت.
وَالْعرب تسْتَعْمل هَذَا الْفِعْل كِنَايَة عَن النّوم والجهالة وَالْخَوْف والفقر وَسُكُون المتحركات.
وَمِنْه بِمَعْنى النّوم مَا جَاءَ فِي حَدِيث دُعَاء الانتباه: الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانًا بعد مَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور.
وَمِنْه بِمَعْنى الْجَهَالَة قَوْله تَعَالَى: {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} وَقَوله: {فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} وَمِنْه بِمَعْنى الْخَوْف قَوْله عز وَجل {ويأتيه الْمَوْت من كل مَكَان} .
وَمِنْه بِمَعْنى الْفقر حَدِيث مُوسَى، على نَبينَا وَعَلِيهِ

(1/283)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: إِن هامان قد مَاتَ.
فَلَقِيَهُ مُوسَى، فَسَأَلَ ربه، فَقَالَ لَهُ: أما تعلم أَن من أفقرته فقد أمته.
وَمِنْه بِمَعْنى سُكُون المتحركات قَول الشَّاعِر:
(إِنِّي لأرجوا أَن تَمُوت الرّيح ... فأسكن الْيَوْم واستريح)
وَرب متسائل عَن معنى قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ: اللَّبن لَا يَمُوت.
أَرَادَ أَن الصَّبِي إِذا رضع امْرَأَة ميتَة، حرم عَلَيْهِ من وَلَدهَا وقرابتها مَا يحرم عَلَيْهِ مِنْهُم كَمَا لَو كَانَت حَيَّة وَقد رضعها.
وَقيل: مَعْنَاهُ إِذا فصل اللَّبن من الثدي وأسقيه الصَّبِي، فَإِنَّهُ يحرم بِهِ مَا يحرم بِالرّضَاعِ وَلَا يبطل عمله بمفارقة الثدي، فَإِن كل مَا انْفَصل من الْحَيّ ميت إِلَّا اللَّبن وَالشعر وَالصُّوف لضَرُورَة الِاسْتِعْمَال.
وَيُقَال: أَمَاتَهُ الله وَمَوته، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(فعروة مَاتَ موتا مستريحا ... وَهَا أَنا ذَا أَمُوت كل يَوْم)
وَقد تسْتَعْمل لَفْظَة ميت مَعَ تَاء التَّأْنِيث للدلالة على الْمُفْرد الْمُؤَنَّث فَيُقَال: امْرَأَة ميتَة وميتة.
والعامة يَقُولُونَ: امْرَأَة ميتاء، على وزن حَمْرَاء، وَهُوَ وهم فَاحش، لِأَن الميتاء تَعْنِي الْمُحَاذَاة وَالطَّرِيق المسلوك، وَمِنْه حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي أَنه استفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللّقطَة، قَالَ: مَا وجدت فِي طَرِيق ميتاء فَعرفهُ سنة.
وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(إِذا اضطم ميتاء الطَّرِيق عَلَيْهِمَا ... مَضَت قدما موج الْجبَال زهوق)

بَاب النُّون
[28] ن ز ف:
وَيَقُولُونَ لخُرُوج الدَّم الحاد من الْجرْح نزيفا، فيوهمون.
وَالصَّوَاب أَن يُقَال نزفا لِأَن النزيف صفة لمن أُصِيب بالنزف، وَهُوَ على وزن فعيل نَحْو: قَتِيل وجريح ونزيف، وَالْمعْنَى: مقتول ومجروح ومنزوف، وَهُوَ من الْفِعْل نزف فلَان دَمه ينزفه نزفا، فَهُوَ نزيف ومنزوف إِذا استخرجه بحجامة أَو فصد.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك كُله: نزفت مَاء الْبِئْر، أَي نزحت وَذهب مَاؤُهَا.
وَفِي الحَدِيث: زَمْزَم لَا تنزف وَلَا تذم، أَي لَا يفنى

(1/284)


مَاؤُهَا على كَثْرَة الاستقاء، وَقَوله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} أَي لَا يَنْقَطِع شرابهم.
وَنَظِيره قَول العجاج:
(وَصرح ابْن معمر لمن ذمر ... وأنزف الْعبْرَة من لَاقَى العبر)
وَيُقَال للسكران أَيْضا النزيف والمنزوف، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لَا يصدعون عَنْهَا وَلَا ينزفون} أَي يسكرون.
وَنَظِيره قَول الأبيرد فِي هجاء آل أبجر:
(لعمري لَئِن أنزفتم أَو صحوتم ... لبئس الندامى كُنْتُم آل أبجر)
(شربتم ومدرتم وَكَانَ أبوكم ... كذاكم إِذا مَا يشرب الكأس مدرا)
وَيُقَال للرجل إِذا عَطش حَتَّى يَبِسَتْ عروقه وجف لِسَانه نزيف ومنزوف، وَمِنْه قَول جرير:
(قَالَت: وعيش أبي وَحُرْمَة إخوتي ... لأنبهن الْحَيّ إِن لم تخرج)
(فَخرجت خيفة أَهلهَا فتبسمت ... فَعلمت أَن يَمِينهَا لم تحرج)
(فلثمت فاها آخِذا بقرونها ... شرب النزيف بِبرد مَاء الحشرج)
[29] ن ش د:
وَمن أوهامهم فِي غير المضاعف من الْمُضَارع أَنهم لَا يفرقون بَين ينشد (بِضَم الْيَاء وخفض الشين) ، وينشد (بِفَتْح الْيَاء وَضم الشين) .
فَالْأول من أنْشد القصيدة ينشدها إنشادا: إِذا رفع صَوته فِي إلقائها.
وَالثَّانِي من نَشد ضالته ينشدها نشدانا: إِذا طلبَهَا وَبحث عَنْهَا، وَمِنْه قَول النَّابِغَة الْجَعْدِي:

(1/285)


(أنْشد النَّاس وَلَا أنشدهم ... إِنَّمَا ينشد من كَانَ أضلّ)
وَنَظِيره فِي الْمُضَارع أَنهم لَا يفرقون بَين يُشْرك (بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء) ويشرك (بِضَم الْيَاء وخفض الرَّاء) .
فَالْأول من الْفِعْل شركه فِي الْأَمر يشركهُ مُشَاركَة، أَي صَار شَرِيكه، وَمِنْه الْأَمر الْمُشْتَرك والمتشرك الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ المتقاسمون، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(لَا يَسْتَوِي المرآن، هَذَا ابْن حرَّة ... وَهَذَا ابْن أُخْرَى ظهرهَا متشرك)
وَالثَّانِي من أشرك بِاللَّه يُشْرك شركا وإشراكا، أَي جعل لَهُ شَرِيكا فِي ملكه، فَهُوَ كَافِر مُشْرك.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى عَن عَبده لُقْمَان أَنه قَالَ لِابْنِهِ: {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(أَمْرَانِ لَا يسلم الْإِنْسَان شرهما ... الشّرك بِاللَّه والإضرار بِالنَّاسِ)
وَنَظِيره فِي هَذَا الْبَاب أَنهم لَا يفرقون بَين يهدي (بِفَتْح الْيَاء) وَيهْدِي (بِضَم الْيَاء) .
فَالْأول من قَوْلك: هداه للدّين يهديه هدى وهديا وهداية، أَي بَين لَهُ طَرِيق الرشاد.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} .
وَالْهَادِي: المرشد وَالدَّلِيل لِأَنَّهُ يتَقَدَّم الْقَوْم فيتبعونه، وَلذَا سميت الْعَصَا هاديا لِأَن الْأَعْمَى يمْسِكهَا فتتقدمه وترشده إِلَى طَرِيقه.
وَمِنْه قَول طرفَة:
(للفتى عقل يعِيش بِهِ ... حَيْثُ تهدي سَاقه قدمه)
أَي ترشده وتدله:
والهاديات: أَوَائِل الْوَحْش وَالْإِبِل وكل جمَاعَة، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس وَفِي وصف فرسه:

(1/286)


(كَأَن دِمَاء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل)
بَيْنَمَا الثَّانِي (يهدي) هُوَ من الْفِعْل أهْدى لَهُ وَإِلَيْهِ هَدِيَّة، أَي أتحفه بِشَيْء من غير مُقَابل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة الملكة بلقيس مَعَ نَبِي الله سُلَيْمَان عَلَيْهِ وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء السَّلَام: {وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} ، وَالْجمع هَدَايَا على الْقيَاس، وَأهل عليا معد يجمعونها على هداوى.
وَيُقَال: تهادى الْقَوْم، إِذا تبادلوا الْهَدَايَا، وَفِي الحَدِيث: تهادوا تحَابوا، لِأَن الْهَدَايَا تؤلف الْقُلُوب.
[30] ن وخَ:
وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين المناخ (بِفَتْح الْمِيم) والمناخ (بِضَم الْمِيم) فَيَقُولُونَ: مناخ لبنان رائع، يُرِيدُونَ اعْتِدَال هوائه، وغزارة مياهه، واخضراره الدَّائِم، مِمَّا يَجعله مُوَافقا للصِّحَّة ومسرة للعين، فيوهمون، لِأَن المناخ (بِضَم الْمِيم) هُوَ مبرك الْإِبِل، وَالْمَكَان الَّذِي تنوخ فِيهِ، والنوخة: الْإِقَامَة. ... أما المناخ (بِفَتْح الْمِيم) فَهُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ لفظ لاتيني مُعرب أَصله الماناك، أَي التَّقْوِيم، وَهُوَ جدول زمني يحتوي على تعداد الْأَيَّام وَالْأَشْهر، مَعَ زمَان طُلُوع الشَّمْس وَالْقَمَر وغروبهما، وأوقات الأعياد، إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد.

بَاب الْهَاء
[31] هـ ر ع:
وَيَقُولُونَ: هرع الرجل لنجدة أَخِيه (بِفَتْح الْهَاء) ، فيوهمون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هرع الرجل (بِضَم الْهَاء) ، لِأَن هَذَا الْفِعْل لَا يَأْتِي إِلَّا على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمِنْه قَوْله

(1/287)


تَعَالَى {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} وَقَوله عز وَجل: {فهم على آثَارهم يهرعون} ، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر:
(فجاؤوا يهرعون وهم أُسَارَى ... يقودهمء على رغم الأنوف)
وَقَول الآخر:
(كَأَن حمولهم مُتَتَابِعَات ... رعيل يهرعون إِلَى رعيل)
وأصل الْفِعْل من الهرع والهراع والإهراع، وَهُوَ سرعَة الْعَدو وَشدَّة السُّوق وَمَا يصحبهما من رعدة وفزع.
[32] هـ م م:
وَكَثِيرًا مَا تحملهم أوهامهم إِلَى عدم التَّمْيِيز بَين أَفعَال المضارعة ذَات الأَصْل الْوَاحِد، بِسَبَب اخْتِلَاف حركاتها، فيضعون هَذَا مَكَان ذَاك ويخلطون الحابل بالنابل، الْأَمر الَّذِي يخل بِالْمَعْنَى وَيُؤَدِّي إِلَى فَسَاد المبنى.
فَمن أَمْثِلَة ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين يهم (بِفَتْح الْيَاء وَضم الْمِيم) ويهم (بِضَم الْيَاء وخفض الْهَاء) ، ويهم (بِفَتْح الْيَاء وخفض الْهَاء) .
فَالْأول من من الاهتمام، كَأَن تَقول: يهمني أَن أَرَاك ناجحا.
وَالثَّانِي من الْهم أَي الْحزن، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(برا، يهمه أَن يرى أبناءه ... متعسرين بغصة أَو زَاد)
وَالثَّالِث من الْفِعْل: هم بِالْأَمر يهم ويهم هما وهمة: أَي نَوَاه وأراده وعزم عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة زليخا وَالنَّبِيّ يُوسُف، على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه}

(1/288)


) ، وَقَوله تَعَالَى أَيْضا: {وهموا بِمَا لم ينالوا} .
وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب أَنهم لَا يفرقون بَين يحل (بِفَتْح الْيَاء وَضم الْحَاء) وَيحل (بِضَم الْيَاء وخفض الْحَاء) وَيحل (بِفَتْح الْيَاء وخفض الْحَاء) ، فيشوهون الْمَعْنى.
فَالْأول من قَوْلك: حل بِالْمَكَانِ يحل حلا وحللا وحلولا، أَي نزل بِهِ، وَهُوَ نقيض ارتحل.
وَمِنْه قَول المثقب الْعَبْدي:
(أكل الدَّهْر حل وارتحال ... أما تبقي عَليّ وَلَا تقيني)
وَالثَّانِي من الْفِعْل: أحل البيع يحله حلا وإحلالا، فَهُوَ حَلَال خلاف الْحَرَام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} .
وَقَوله أَيْضا: {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} .
أما الثَّالِث فَهُوَ من الْفِعْل: حل الْهَدْي يحل، أَي وَجب، وَالْمحل (بخفض الْحَاء) مَكَان النَّحْر وزمانه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} .
وَنَظِيره فِي الْمُضَارع قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} ، أَي يسْتَوْجب الْعَذَاب الدَّائِم.

بَاب الْوَاو
[33] وف ي:
وَيَقُولُونَ لمن أَصَابَهُ الْمَوْت: المتوفي (بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَة) ، فيوهمون، لِأَن الْمُتَوفَّى

(1/289)


هُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ اسْم الْفَاعِل من غير الثلاثي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل الْحَكِيم {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} أَي يَسْتَوْفِي عدد آجالهم فِي الدُّنْيَا.
أما الْمَيِّت الَّذِي توفاه الله، أَي أَمَاتَهُ فَيُقَال لَهُ الْمُتَوفَّى (بِالْألف الْمَقْصُورَة) وَهُوَ اسْم الْمَفْعُول من غير الثلاثي. ... وَمِمَّا يذكر فِي هَذَا السِّيَاق مَا رَوَاهُ أحد اللغويين، فَقَالَ: مَرَرْت فِي طريقي فَرَأَيْت جَنَازَة تشيع، وَسمعت رجلا يسْأَل: من المتوفي (بِالْيَاءِ) فَقلت لَهُ: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَضربت حَتَّى كدت أَمُوت.
وَمِنْه قَول مَنْظُور الوبري:
(إِن بني الأدرد لَيْسُوا من أحد ... وَلَا تَوَفَّاهُم قُرَيْش فِي الْعدَد)
وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم} وَهُوَ من تَوْفِيَة الْعدَد، وَلَيْسَ من الْوَفَاة، أَي يقبض أرواحكم أَجْمَعِينَ بِأَمْر ربه، فَلَا ينقص وَاحِدًا مِنْكُم، كَأَن تَقول: توفيت من فلَان مَالِي واستوفيته، أَي لم يبْق لي عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ.
وَيُقَال: ووفي الرجل، نَحْو ووري، إِذا أَصَابَته الْوَفَاة.
وتوفاه الله، إِذا قبض نَفسه، وَمِنْه قَول عبيد الله بن قيس الرقيات:
(لَيْت الْقِيَامَة يَوْم ووفي مُصعب ... قَامَت على مُضر وَحقّ قِيَامهَا)
أَي: توفاه الله.

(1/290)


[34] وح د:
وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الْوحدَة (بِفَتْح الْوَاو) والوحدة (بخفضها) فَيَقُولُونَ: الْوحدَة الْعَرَبيَّة ويعنون انصهار الدول الْعَرَبيَّة فِي دولة وَاحِدَة، فيوهمون، لِأَن الْوحدَة (بِالْفَتْح) تَعْنِي الِانْفِرَاد، بَيْنَمَا الْوحدَة (بالخفض) تَعْنِي الارتباط والانصهار وَجمع الْأَجْزَاء.
وَمن الأولى مَا جَاءَ فِي الحَدِيث: شَرّ أمتِي الوحداني المعجب بِدِينِهِ الْمرَائِي بِعَمَلِهِ.
يَعْنِي الْمُنْفَرد بِنَفسِهِ المفارق للْجَمَاعَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْوحدَة والانفراد بِزِيَادَة الْألف وَالنُّون للْمُبَالَغَة.
وعَلى هَذَا تكون الْوحدَة من الِانْفِرَاد، وَتَكون الْوحدَة من الِاتِّحَاد.
وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب قَوْلهم: اضْرِب بِهِ عرض الْحَائِط (بِفَتْح الْعين) وَعرض الْحَائِط (بخفضها) يقصدون ناحيته وجانبه، فيوهمون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: عرض الْحَائِط (بِضَم الْعين) ، لِأَن الْعرض هُوَ الْجَانِب والناحية، وَمِنْه حَدِيث ابْن الْحَنَفِيَّة: كل الْجُبْن عرضا.
أَي اشتره وَكله وَلَا تسْأَل عَنهُ أَمن عمل أهل الْكتاب هُوَ أم من عمل الْمَجُوس أَي من ناحيتهم.
وَالْجمع عرُوض وعراض، وَمِنْه قَول أبي ذُؤَيْب يصف برذونا:
(أمنك برق أَبيت اللَّيْل أرقبه ... كَأَنَّهُ فِي عراض الشَّام مِصْبَاح)
أما الْعرض (بِفَتْح الْعين) فَهُوَ خلاف الطول، وَالْجمع أَعْرَاض، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(يطوون أَعْرَاض الفجاج الغبر ... طي أخي التَّجر برود التَّجر)
وَقَول ذِي الرمة:
(فعال فَتى بنى، وَبنى أَبوهُ ... فَأَعْرض فِي المكارم واستطالا)

(1/291)


وَأما الْعرض (بخفض الْعين) فَهُوَ الْحسب وَمَوْضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان.
وَمِنْه حَدِيث نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل الْمُسلم على الْمُسلم حرَام، دَمه وَمَاله وَعرضه.
وَالْجمع أَعْرَاض.
وَنَظِيره قَول حسان بن ثَابت يمدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء)
وَمِمَّا يَقع فِي هَذَا الإطار أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين الْحيرَة (بِفَتْح الْحَاء) والحيرة (بخفضها) .
فَالْأولى مُشْتَقَّة من الْفِعْل حَار يحار حيرة، فَهُوَ حائر وحيران، أَي لم يهتد لسبيله، وَالْأُنْثَى حيرى، وَالْجمع حيارى، وَمِنْه قَول الطرماح:
(يطوي الْبعيد كطي الثَّوْب هزته ... كَمَا تردد بالديمومة الْحَار)
أَرَادَ الحائر، فَحذف الْهمزَة.
أما الْحيرَة (بخفض الْحَاء) فَهِيَ بَلْدَة قرب الْكُوفَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا حيري على الْقيَاس، وحاري على غير قِيَاس، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(فَلَمَّا دخلناه أضفنا ظُهُورنَا ... إِلَى كل حاري قشيب مشطب)
يَقُول: إِنَّهُم احتبوا بِالسُّيُوفِ.

(1/292)