الأصول في النحو ذكر الأسماء
المرتفعة
مدخل
...
ذكر الأسماء المرتفعة:
الأسماء التي ترتفع خمسة أصناف:
الأول: مبتدأ له خبر.
والثاني: خبر لمبتدأ بنيته عليه.
والثالث: فاعل بني على فعل, ذلك الفعل حديثًا عنه.
والرابع: مفعول به بني على فعل فهو حديث عنه ولم تذكر من فعل به فقام
مقام الفاعل.
والخامس: مشبه بالفاعل في اللفظ.
(1/58)
شرح الأول: وهو المبتدأ:
المبتدأ: ما جردته من عوامل الأسماء ومن1 الأفعال والحروف وكان القصد
فيه أن تجعله أولًا لثانٍ مبتدأ به دون الفعل/ 29 يكون ثانيه خبره ولا
يستغنى واحد منهما عن صاحبه, وهما مرفوعان أبدًا فالمبتدأ رفع
بالابتداء, والخبر رفع بهما, نحو قولك: الله ربنا, ومحمد نبينا,
والمبتدأ لا يكون كلامًا تامًّا إلا بخبره وهو معرض لما يعمل في
الأسماء نحو: كان وأخواتها, وما أشبه ذلك من العوامل, تقول: عمرو
أخونا, وإن زيدًا أخونا, وسنذكر العوامل التي تدخل على المبتدأ وخبره
فتغيره عما كان عليه في موضعها إن شاء الله.
والمبتدأ يبتدأ فيه بالاسم المحدث عنه قبل الحديث, وكذلك حكم كل مخبر,
والفرق بينه وبين الفاعل: أن الفاعل مبتدأ بالحديث قبله, ألا ترى أنك
إذا قلت: زيد منطلق فإنما بدأت "بزيد" وهو الذي حدثت عنه بالانطلاق
والحديث عنه بعده, وإذا قلت: ينطلق زيد فقد بدأ بالحديث وهو انطلاقه,
ثم ذكرت زيدًا المحدث عنه بالانطلاق بعد أن ذكرت الحديث. فالفاعل مضارع
للمبتدأ من أجل أنهما جميعًا محدث/ 30 عنهما وإنهما جملتان
__________
1 الواو: ساقطة من "ب".
(1/58)
لا يستغني بعضهما عن بعض, وحق المبتدأ أن
يكون معرفة أو ما قارب المعرفة من النكرات الموصوفة خاصة, فأما المعرفة
فنحو قولك: عبد الله أخوك, وزيد قائم, وأما ما قارب المعرفة من النكرات
فنحو قولك: رجل من تميم جاءني, وخير منك لقيني. وصاحب لزيد جاءني.
وإنما امتنع الابتداء بالنكرة المفردة المحضة لأنه لا فائدة فيه, وما
لا فائدة فيه فلا معنى للتكلم به, ألا ترى أنك لو قلت: رجل قائم أو رجل
عالم, لم يكن في هذا الكلام فائدة لأنه لا يستنكر أن يكون في الناس رجل
قائمًا أو عالمًا, فإذا قلت: رجل من بني فلان أو رجل من إخوانك أو
وصفته بأي صفة كانت تقربه من معرفتك حسن لما في ذلك من الفائدة, ولا
يكون المبتدأ نكرة مفردة إلا في النفي خاصة, فإن الابتداء فيه بالنكرة
حسن بحصول الفائدة بها, كقولك: ما أحد في الدار, وما في البيت رجل ونحو
ذلك, في لغة بني تميم خاصة: وما أحد حاضر, وإنما يراعى في هذا الباب
وغيره الفائدة فمتى ظفرت بها في المبتدأ وخبره فالكلام/ 31 جائز, وما
لم يفد فلا معنى له في كلام غيرهم.
وقد يجوز أن تقول: رجل قائم إذا سألك سائل فقال: أرجل قائم أم امرأة.
فتجيبه فتقول: رجل قائم, وجملة هذا أنه1 إنما ينظر إلى ما فيه2 فائدة,
فمتى كانت3 فائدة بوجه من الوجوه فهو جائز وإلا فلا فإذا اجتمع اسمان
معرفة ونكرة, فحق المعرفة أن تكون4 هي المبتدأ وأن تكون النكرة الخبر
لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدُك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه
ليتوقع الخبر بعده, فالخبر هو الذي ينكره ولا يعرفه ويستفيده, والاسم
لا فائدة له لمعرفته به, وإنما ذكرته لتسند إليه الخبر, وقد يجوز أن
تقدم الخبر على المبتدأ ما لم يكن فعلًا خاصة, فتقول: منطلق زيد, وأنت
تريد: زيد
__________
1 أنه: ساقطة في "ب".
2 فيه: ساقطة في "ب".
3 كانت: ساقطة في "ب".
4 في الأصل "هو" فقد يكون أراد: فحق الاسم المعرفة أن يكون هو المبتدأ.
(1/59)
منطلق, فإن أردت أن تجعل منطلقا في موضع
"ينطلق" فترفع زيدًا بمنطلق على أنه فاعل كأنك قلت: ينطلق زيد قبح إلا
أن يعتمد اسم الفاعل وهو "منطلق" وما أشبهه على شيء قبله, وإنما يجري
مجرى الفعل إذا كان صفة جرت على موصوف نحو قولك: مررت/ 32 برجل قائم
أبوه, ارتفع "أبوه" "بقائم" أو يكون مبنيًّا على مبتدأ نحو قولك: زيد
قائم أبوه وحسن عندهم: أقائم أبوك, وأخارج أخوك, تشبيهًا بهذا إذا
اعتمد"قائم" على شيء قبله, فأما إذا قلت قائم زيد, فأردت أن ترفع زيدا
"بقائم" وليس قبله ما يعتمد عليه البتة فهو قبيح, وهو جائز عندي على
قبحه, وكذلك المفعول لا يعمل فيه اسم الفاعل مبتدأ غير معتمد على شيء
قبله, نحو: ضارب وقاتل, لا تقول: ضارب بكرًا عمرو فتنصب بكرًا "بضارب"
وترفع عمرًا به, لا يجوز أن تعمله عمل الفعل حتى يكون محمولًا على
غيره, فتقول: هذا ضارب بكرًا, جعلوا بين الاسم والفعل فرقًا, فإذا قلت:
قائم1 أبوك, "فقائم" مرتفع بالابتداء وأبوك رفع بفعلهما وهما قد سدا
مسد الخبر, ولهذا نظائر تذكر في مواضعها إن شاء الله.
فأما قولك: كيف أنت, وأين زيد وما أشبهما مما يستفهم به من الأسماء
"فأنت وزيد" مرتفعان بالابتداء "وكيف وأين" خبران, فالمعنى في: كيف
أنت, على أي حال أنت, وفي: "أين زيد" في أي مكان, ولكن الاستفهام الذي
صار فيهما جعل لهما صدر الكلام وهو في الحقيقة/ 33 الشيء المستفهم عنه,
ألا ترى أنك إذا سئلت: كيف أنت, فقلت: صالح, إنما أخبرت بالشيء الذي
سأل عنه المستخبر, وكذلك إذا قال: أين زيد, فقلت: في داري, فإنما أخبرت
بما اقتضته أين, ولكن جميع هذا وإن كان خبرًا فلا
__________
1 قد يرفع الوصف بالابتداء، إن لم يطابق موصوفه تثنية أو جمعا فلا
يحتاج إلى خبر، بل يكتفي بالفاعل أو نائبه فيكون مرفوعا به سادا مسد
الخبر، بشرط أن يتقدم الوصف نفي أو استفهام، وتكون الصفة حينئذ بمنزلة
الفعل، ولذلك لا تثني ولا تجمع ولا توصف ولا تعرف.
(1/60)
يكون إلا مبدوءًا به, وقد تدخل على المبتدأ
حروف ليست من عوامل الأسماء, فلا1 تزيل المبتدأ عن حاله, كلام
الابتداء2 وحروف الاستفهام "وأما وما" إذا كانت نافية في لغة بني تميم
وأشباه ذلك, فتقول: أعمرو "قائم" ولبكر أخوك, وما زيد قائم, وأما بكر
منطلق, فهذه الحروف إنما تدخل على المبتدأ وخبره لمعان فيها, ألا ترى
أن قولك: عمرو منطلق, كان خبرًا موجبًا فلما أدخلت عليه "ما" صار نفيًا
وإنما3 نفيت "بما" ما أوجبه غيرك حقه أن تأتي بالكلام على لفظه, وكذلك
إذا استفهمت إنما تستخبر خبرًا قد قيل, أو ظن كأن قائلًا قال: عمرو
قائم4, فأردت أن تحقق ذلك فقلت أعمرو قائم, وقع5 في نفسك أن ذلك يجوز
وأن يكون وأن لا يكون فاستخبرت6 مما وقع في نفسك/ 34 بمنزلة ما سمعته
أذنك فحينئذ تقول: أعمرو قائم أم لا؟ لأنك لا تستفهم عن شيء إلا وهو
يجوز أن يكون7 عندك موجبه أو منفيه واقعًا, ولام الابتداء تدخل لتأكيد
الخبر وتحقيقه, فإذا قلت: لعمرو منطلق, أغنت اللام بتأكيدها عن إعادتك
الكلام8 فلذلك احتيج إلى جميع حروف المعاني لما في ذلك من الاختصار ألا
ترى أن الواو العاطفة في قولك: قام زيد وعمرو لولاها لاحتجت إلى أن
تقول: قام زيد, قام عمرو, وكذلك جميع الحروف ويوصل بلام القسم9
فيقال10: والله لزيد خير منك؛ لأنك
__________
1 في "ب" لا.
2 في الأصل "هي" قبل حروف الاستفهام.
3 في "ب" وإنها، وهو تصحيف.
4 في "ب" منطلق بدلا من قائم.
5 في "ب" أو وقع.
6 في "ب" واستخبرت.
7 يكون: ساقطة في "ب".
8 في "ب" ولذلك.
9 في الأصل "باللام" للقسم، والتصحيح من "ب".
10 في "ب" فيقول.
(1/61)
لا تقسم إلا مع تحقيق الخبر, "وأما" فإنما1
تذكرها بعد كلام قد تقدم أخبرت فيه عن اثنين أو جماعة بخبر فاختصصت2
بعض من ذكر وحققت الخبر عنه, ألا ترى أن القائل يقول: زيد وعمرو في
الدار, فتقول: أما زيد, ففي الدار, وأما عمرو ففي السوق, وإنما دخلت
الفاء من أجل ما تقدم؛ لأنها إنما تدخل في الكلام لتتبع شيئًا بشيء
وتعلق ما دخلت عليه من الكلام بما قبله, "ولأما" موضع تذكر فيه/ 35 وما
لم أذكر من سائر الحروف التي لا تعمل في الأسماء فالمبتدأ والخبر بعدها
على صورتهما.
__________
1 في "ب" إنما".
2 في "ب" واختصصت.
(1/62)
شرح الثاني, وهو خبر المبتدأ:
الاسم1 الذي هو خبر المتبدأ هو2 الذي يستفيده السامع ويصير به المبتدأ
كلامًا, وبالخبر يقع التصديق والتكذيب. ألا ترى أنك إذا قلت: عبد الله
جالس فإنما الصدق والكذب وقع في جلوس عبد الله لا في عبد الله, لأن
الفائدة هي في جلوس3 عبد الله, وإنما ذكرت عبد الله لتسند إليه
"جالسًا" فإذا كان خبر المبتدأ اسمًا مفردًا فهو رفع نحو قولك: عبد
الله أخوك, وزيد قائم, وخبر المبتدأ ينقسم على قسمين: إما أن يكون هو
الأول في المعنى غير ظاهر فيه ضميره نحو: زيد أخوك, وعبد الله منطلق,
فالخبر هو الأول في المعنى, إلا أنه لو قيل لك, من أخوك هذا الذي
ذكرته؟ لقلت: زيد, أو قيل لك: من المنطلق؟ لقلت: عبد الله, أو يكون غير
الأول ويظهر فيه ضميره, نحو قولك: عمرو ضربته وزيد رأيت أباه, فإن لم
يكن على أحد هذين فالكلام محال. وخبر المبتدأ الذي هو/ 36 الأول في
المعنى على ضربين, فضرب يظهر فيه الاسم الذي هو الخبر نحو ما ذكرنا من
قولك: زيد أخوك,
__________
1 في "ب" والاسم.
2 في "ب" وهو.
3 في "ب" جلوسه.
(1/62)
وزيد قائم, وضرب يحذف منه الخبر, ويقوم
مقامه ظرف له وذلك الظرف على ضربين: إما أن يكون من ظروف المكان, وإما
أن يكون من ظروف الزمان. أما الظروف من المكان فنحو قولك: زيد خلفك,
وعمرو في الدار. والمحذوف معنى الاستقرار والحلول وما أشبههما, كأنك
قلت: زيد مستقر خلفك, وعمرو مستقر في الدار, ولكن هذا المحذوف لا يظهر
لدلالة الظرف عليه واستغنائهم به في الاستعمال. وأما الظرف من الزمان
فنحو قولك: القتال يوم الجمعة, والشخوص يوم الخميس, كأنك قلت: القتال
مستقر يوم الجمعة أو وقع في يوم الجمعة, والشخوص واقع في يوم الخميس
فتحذف الخبر وتقيم الظرف مقام المحذوف, فإن لم ترد هذا المعنى. فالكلام
محال؛ لأن زيدًا الذي هو المبتدأ ليس من قولك: "خلفك" ولا في الدار
شيء؛ لأن في الدار ليس بحديث وكذلك خلفك وإنما هو موضع الخبر. واعلم/
37: أنه لا يجوز أن تقول: زيد يوم الخميس, ولا عمرو في شهر كذا, لأن
ظروف الزمان لا تتضمن الجثث, وإنما يجوز ذلك في الأحداث, نحو الضرب
والحمد, وما أشبه ذلك, وعلة ذلك أنك لو قلت: زيد اليوم, لم تكن فيه
فائدة, لأنه لا يخلو أحد من أهل عصرك1 من اليوم, إذ كان الزمان لا
يتضمن واحدًا دون الآخر, والأماكن ينتقل عنها فيجوز أن تكون خبرًا عن
الجثث وغيرها كذلك. والظرف من الأماكن تكون إخبارًا عن المعاني التي
ليست بجثث -يعني المصادر- نحو قولك: البيع في النهار, والضرب عندك, فإن
قال قائل فأنت قد تقول: الليلة الهلال, والهلال جثة, فمن أين جاز هذا؟
فالجواب في ذلك2: أنك إنما أردت: الليلة حدوث الهلال, لأنك إنما تقول
ذلك عند توقع طلوعه, ألا ترى أنك لا تقول: الشمس اليوم, ولا القمر
الليلة؛ لأنه غير متوقع, وكذلك إن قلت: اليوم زيد, وأنت تريد هذا
__________
1 في "ب" عصره.
2 ذلك: ساقط في "ب".
(1/63)
المعنى جاز, وتقول: أكل1 يوم لك عهد, لأن
فيه معنى الملك, ويوم الجمعة عليك ثوب, إنما2 جاز ذلك لاستقرار الثوب
عليك3 فيه/ 38 وأما القسم الثاني من خبر المبتدأ: وهو الذي يكون غير
الأول ويظهر فيه ضميره فلا يخلو من أن يكون الخبر فعلًا فيه ضمير
المبتدأ نحو: زيد يقوم, والزيدان يقومان, فهذا الضمير وإن كان لا يظهر
في فعل الواحد لدلالة المبتدأ عليه يظهر في التثنية والجمع وذلك ضرورة
خوف اللبس, ومضمره كظاهره, وأنت إذا قلت: زيد قائم, فالضمير لا يظهر في
واحده ولا في تثنيته ولا في جمعه, فإن قال قائل: فإنك قد تقول: الزيدان
قائمان, والزيدون قائمون قيل له: ليست الألف ولا الواو فيهما ضميرين4,
إنما الألف تثنية الاسم, والواو جمع الاسم وأنت إذا قلت: الزيدون
قائمون, فأنت بعد محتاج إلى أن يكون في نيتك ما يرجع إلى الزيدين, ولو
كانت الواو ضميرا والألف ضميرا لما جاز أن تقول: القائمان الزيدان, ولا
القائمون الزيدون, أو يكون جملة فيها ضميره, والجمل المفيدة على ضربين:
إما فعل وفاعل وإما مبتدأ وخبر, أما الجملة التي هي مركبة من فعل
وفاعل/ 39 فنحو قولك: زيد ضربته, وعمرو لقيت أخاه, وبكر قام أبوه, وأما
الجملة التي هي مركبة من ابتداء وخبر فقولك: زيد أبوه منطلق, وكل جملة
تأتي بعد المبتدأ فحكمها في إعرابها كحكمها إذا لم يكن قبلها مبتدأ,
ألا ترى أن إعراب "أبوه منطلق" بعد قولك: بكر, كإعرابه لو لم يكن بكر
قبله, فأبوه مرتفع بالابتداء "ومنطلق" خبره, فبكر مبتدأ أول وأبوه
مبتدأ ثانٍ ومنطلق خبر الأب, والأب "منطلق" خبر بكر,
__________
1 الهمزة في "أكل" زيادة من "ب".
2 في "ب" وإنما.
3 في "ب" عليه.
4 في سيبويه جـ1/ 4 واعلم: أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زيادتان: الأولى
منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون، وتكون في
الرفع ألفا ولم تكن واوا ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد
التثنية.
(1/64)
وموضع قولك: "أبوه منطلق" رفع, ومعنى
قولنا: الموضح, أي: لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعًا, وقد
يجوز أن يأتي مبتدأ بعد مبتدأ [بعد مبتدأ] 1, وأخبار كثيرة بعد مبتدأ
وهذه المبتدآت إذا كثروها فإنما هي شيء قاسه النحويون ليتدرب به
المتعلمون2, ولا أعرف له في كلام العرب نظيرًا, فمن ذلك قولهم: زيد هند
العمران منطلقان إليهما من أجله, فزيد مبتدأ أول, وهند مبتدأ ثان,
والعمران مبتدأ ثالث, وهند وما بعدها خبر لها, والعمران وما بعدهما خبر
لهما, وجميع ذلك خبر/ 40 عن زيد, والراجع الهاء في قولك, من أجله,
والراجع إلى هند "الهاء" في قولك: إليها والمنطلقان هما العمران, وهما
الخبر عنها. وفيهما ضميرهما, فكلما سئلت عنه من هذا؟ فهذا أصله فإذا
طال الحديث عن المبتدأ كل الطول وكان فيه ما يرجع ذكره إليه جاز نحو
قولك: "عبد الله قام رجل كان يتحدث مع زيد في داره" صار جميع هذا خبرًا
عن "عبد الله" من أجل هذه الهاء التي رجعت إليه بقولك: "في داره" وموضع
هذا الجملة كلها رفع من أجل أنك لو وضعت موضعها "منطلقًا" وما أشبهه ما
كان إلا رفعًا, فقد بان من جميع ما ذكرنا أنه قد يقع في خبر المبتدأ
أحد أربعة أشياء, الاسم أو الفعل أو الظرف, أو الجملة.
واعلم أن المبتدأ أو الخبر من جهة معرفتهما أو نكرتهما أربعة:
الأول: أن يكون المبتدأ معرفة والخبر نكرة نحو: عمرو منطلق: وهذا الذي
ينبغي أن يكون عليه3 الكلام4.
الثاني: أن يكون المبتدأ معرفة والخبر معرفة نحو: زيد أخوك, وأنت
__________
1 بعد مبتدأ: ساقط من "ب".
2 انظر المقتضب: 4/ 59، ويظن أن ابن السراج قد قلد شيخه في هذا الباب.
3 في "ب" يكون الكلام عليه.
4 لأن الأصل في الخبر أن يكون نكرة مشتقة، والمراد بالمشتقة ما فيها
معنى الوصف نحو "عمرو منطلق" وهو يتحمل ضميرا يعود إلى المبتدأ إلا إذا
رفع الظاهر، فلا يتحمله نحو: عمر منطلق أخواه.
(1/65)
تريد أنه أخوه/ 41 من النسب, وهذا ونحوه
إنما يجوز إذا كان المخاطب يعرف زيدًا على انفراده ولا يعلم أنه أخوه
لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ويعلم أن له أخًا ولا يدري أنه زيد هذا
فتقول له: أنت1 زيد أخوك, أي: زيد هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت
علمته, فتكون الفائدة في اجتماعهما وذلك هو الذي استفاده المخاطب, فمتى
كان الخبر عن المعرفة معرفة فإنما الفائدة في مجموعهما, فأما أن يكون
يعرفهما مجتمعين وإن هذا هذا فذا2 كلام لا فائدة فيه, فإن قال قائل:
فأنت3 تقول: الله ربنا ومحمد نبينا, وهذا معلوم معروف, قيل له: هذا
إنما هو معروف عندنا وعند المؤمنين وإنما نقوله ردًّا على الكفار4 وعلى
من لا يقول به ولو لم يكن لنا مخالف على هذا القول لما قيل إلا في
التعظيم والتحميد5 لطلب الثواب به, فإن المسبح يسبح وليس يريد أن يفيد
أحدًا شيئًا وإنما يريد أن يتبرر6 ويتقرب7 إلى الله بقول الحق, وبذلك
أمرنا وتعبدنا, وأصل ذلك الاعتراف بمن الله عليه8 بأن عرفه نفسه وفضله/
42 على من لا يعرف ذلك, وأصل الكلام موضوع للفائدة وإن اتسعت المذاهب
فيه, ولكن لو قال قائل: النار حارة والثلج بارد لكان هذا كلامًا لا
فائدة فيه, وإن كان الخبر فيهما نكرة.
الثالث: أن يكون المبتدأ نكرة والخبر نكرة وقد بينا أن الجائز من ذلك
ما كانت فيه فائدة. فأما الكلام إذا كان منفيا فإن النكرة فيه حسنة لأن
الفائدة فيه واقعة نحو قولك: ما أحد في الدار, وما فيها رجل.
__________
1 في "ب" أنت له.
2 في "ب" فهذا.
3 في "ب" فإنك.
4 في "ب" على الكافرين.
5 في "ب" التحميد قبل التعظيم.
6 يتبرر ساقطة في "ب".
7 في الأصل "من" والذي أثبت من "ب".
8 عليه: ساقطة في "ب".
(1/66)
الرابع: أن يكون المبتدأ نكرة والخبر
معرفة, وهذا قلب ما وضع عليه1 الكلام وإنما جاء مع الأشياء التي تدخل
على المبتدأ والخبر فتعمل لضرورة الشاعر, نحو قوله:
كأنَّ سلافةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مزاجَهَا عَسلٌ ومَاءُ2
فجعل اسم "كان" عسل وهو نكرة وجعل مزاجها الخبر وهو معرفة بالإِضافة
إلى الضمير ومع ذلك فإنما حسن هذا عند قائله أن عسلًا وماءً نوعان
وليسا كسائر النكرات التي تنفصل بالخلقة والعدد نحو: تمرة وجوزة,
والضمير الذي في/ 43 "مزاجها" راجع إلى نكرة وهو قوله: سلافة, فهو مثل
قولك: خمرة ممزوجة بماء.
وقد يعرض الحذف في المبتدأ وفي الخبر أيضًا لعلم المخاطب بما حذف,
والمحذوف على ثلاث جهات:
__________
1 في "ب" له بدلا من عليه.
2 من شواهد سيبويه 1/ 23 على وقوع اسم "يكون" نكرة محضة وخبرها معرفة
للضرورة، وجعله ابن السراج من القلب محضة وخبرها معرفة للضرورة، وجعله
ابن السراج من القلب الذي يشجع عليه أمن الالتباس.
ويروى البيت: برفع "مزاجها" وكأن سبيئة.. وكذلك يروى: كأن خبيئة,
والسلافة: الخمر، وقيل: خلاصة الخمر. وبيت رأس في معجم البلدان: اسم
لقريتين في كل واحدة منهما كروم ينسب إليها الخمر، إحداهما ببيت
المقدس: وقيل: بيت كورة بالأردن. والأخرى من نواحي حلب. وقال البغدادي:
بيت: موضع الخمر ورأس اسم للخمار وقصد إلى بيت هذا الخمار لأن خمره
أطيب، وقيل: الرأس هنا بمعنى: الرئيس. أي: من بيت رئيس, لأن الرؤساء
إنما تشرب الخمر ممزوجة. والبيت لحسان بن ثابت.
وانظر المقتضب 4/ 92، والكامل/ 72، ومعجم البلدان 1/ 520، وشرح
السيرافي 1/ 312، والمحتسب 1/ 279. والمفصل للزمخشري/ 157. وابن يعيش
7/ 93، والديوان/ 9.
(1/67)
الأولى: حذف المبتدأ وإضماره إذا تقدم من
ذكره ما يعلمه السامع فمن ذلك أن ترى جماعة يتوقعون الهلال فيقول
القائل: الهلال والله, أي: هذا الهلال فيحذف هذا, وكذلك لو كنت منتظرًا
رجلًا فقيل: عمرو, جاز على ما وصفت لك, ومن ذلك: مررت برجل زيد؛ لأنك
لما قلت: مررت1 برجل, أردت أن تبين من هو, فكأنك قلت هو زيد وعلى هذا
قوله تعالى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّار} 2.
الجهة الثانية: أن تحذف الخبر لعلم السامع, فمن ذلك أن يقول القائل: ما
بقي لكم أحد, فتقول: زيد أو عمرو, أي: زيد لنا, ومنه لولا عبد الله
لكان كذا وكذا, فعبد الله مرتفع بالابتداء والخبر محذوف وهو في مكان
كذا وكذا, فكأنه قال: لولا عبد الله بذلك المكان, ولولا القتال كان في
زمان كذا وكذا, ولكن حذف حين كثر استعمالهم إياه وعرف المعنى/ 44 فأما
قوله: لكان "كذا وكذا" فحديث متعلق بحديث "لولا" وليس من المبتدأ في
شيء ومن ذلك: هل من طعام, فموضع "من طعام" رفع كأنك3 قلت: هل طعام
والمعنى: هل طعام في زمان أو مكان و"من" تزاد توكيدًا مع حرف النفي
وحرف الاستفهام إذا وليهما نكرة وسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
وقد أدخلوها على الفاعل والمفعول أيضًا كما أدخلوها على المبتدأ
فقالوا: ما أتاني من رجل, في موضع: ما أتاني رجل. {وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 4 و {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَد}
5. وكذلك قولك: هل من طعام, وإنما هو: هل طعام,6 فموضع "من طعام" رفع
بالابتداء.
__________
1 في الأصل "ممرت".
2 الحج: 72.
3 زيادة: من "ب".
4 الأعراف: 102.
5 مريم: 98.
6 الجملة مكررة في السطر الثاني قبل الأخير ص75.
(1/68)
الجهة الثالثة: أنهم ربما حذفوا شيئًا من
الخبر في الجمل وذلك المحذوف على ضربين: إما أن يكون فيه الضمير الراجع
إلى المبتدأ نحو قولهم: السمن منوان بدرهم, يريد: منه, وإلا كان كلامًا
غير جائز, لأنه ليس فيه ما يرجع إلى الأول. وإما أن يكون المحذوف شيئا
ليس فيه راجع ولكنه متصل بالكلام نحو قولك: الكر1 بستين درهمًا, فأمسكت
عن ذكر الدرهم بعد ذكر الستين لعلم/ 45 المخاطب. وتعتبر خبرًا لمبتدأ
بأنك متى سألت عن الخبر جاز أن يجاب بالمبتدأ؛ لأنه يرجع إلى أنه هو هو
في المعنى. ألا ترى أن القائل2 إذا قال: عمرو منطلق, فقلت3: من
المنطلق؟ قال: عمرو, وكذلك إذا قال4: عبد الله أخوك, فقلت: من أخوك؟
قال: عبد الله, وكذلك لو قال: عبد الله قامت جاريته في دار أخيه, فقلت:
من الذي قامت جاريته5 في دار أخيه؟ لقال: عبد الله, وخبر المبتدأ يكون
جواب "ما"6 وأي, وكيف, وكم, وأين, ومتى, يقول القائل: الدينار ما هو؟
فتقول: حجر, فتجيبه بالجنس, ويقول7 الدينار8 أي الحجارة هو؟ فتقول:
ذهب, فتجيبه بنوع9 من ذلك الجنس, وهذا إنما10 يسأل عنه من سمع بالدينار
ولم يعرفه. ويقول: الدينار كيف هو؟ فتقول: مدور أصفر حسن منقوش, ويقول:
الدينار كم قيراطًا هو؟ فتقول: الدينار عشرون قيراطًا, فيقول: أين
__________
1 الكر: مكيال لأهل العراق، وهو عندهم ستون قفيزا.
2 أن القائل: ساقط في "ب".
3 في "ب" قلت.
4 إذا قال: ساقط في "ب".
5 في "ب" جارته.
6 في "ب" "لما".
7 في "ب" فيقول.
8 الدينار: ساقط في "ب".
9 في "ب" بالنوع.
10 زيادة من "ب".
(1/69)
هو؟ فتقول: في بيت المال والكيس ونحو ذلك,
ولا يجوز أن تقول: الدينار متى هو, وقد بينا أن ظروف/ 46 الزمان لا
تتضمن الجثث إلا على شرط الفائدة, والتأول, ولكن تقول: القتال متى هو؟
فتقول: يوم كذا وكذا, فأما إذا كان الخبر معرفة أو معهودًا فإنما يقع
في جواب "من وأي" نحو قوله: زيد من هو؟ والمعنى: أي الناس هو؟ وأي
القوم هو؟ فتقول: أخوك المعروف1 أو أبو عمرو, أي: الذي من أمره كذا,
وتقول: هذا الحمار, أي الحمير هو؟ فتقول: الأسود المعروف بكذا وما
أشبهه. واعلم: أن خبر المبتدأ إذا كان اسمًا من أسماء الفاعلين وكان
المبتدأ هو الفاعل في المعنى وكان جاريًا عليه إلى جنبه أضمر فيه ما
يرجع إليه وانستر2 الضمير نحو قولك: عمرو قائم وأنت منطلق, فأنت وعمرو
الفاعلان في المعنى, لأن عمرًا هو الذي قام, وقائم جار على "عمرو"
وموضوع إلى جانبه, لم يحل بينه وبينه حائل, فمتى كان الخبر بهذه الصفة
لم يحتج إلى أن يظهر الضمير إلا مؤكدًا, فإن أردت التأكيد, قلت: زيد
قائم هو, وإن لم ترد التأكيد فأنت/ 47 مستغن عن ذلك وإنما احتمل "ضارب
وقائم" وما أشبههما من أسماء الفاعلين ضمير الفاعل ورفع الأسماء التي
تبنى عليه لمضارعته الفعل فأضمروا فيه كما أضمروا في الفعل إلا أن
المشبه بالشيء [ليس] 3 هو ذلك الشيء بعينه فضمنوه الضمير متى كان
جاريًا على الاسم الذي قبله, وإنما يكون كذلك في ثلاثة مواضع: إما أن
يكون خبرًا لمبتدأ نحو قولك: عمرو منطلق كما ذكرنا أو يكون صفة نحو:
مررت برجل قائم, أو حالًا نحو: رأيت زيدًا قائمًا, ففي اسم الفاعل ضمير
في جميع هذه المواضع, فإن وقع بعدها اسم ظاهر ارتفع ارتفاع الفاعل
بفعله, ومتى جرى اسم الفاعل على غير من هو له فليس يحتمل أن يكون فيه
ضمير الفاعل, كما يكون في الفعل, لأن انستار ضمير الفاعل إنما هو
للفعل,
__________
1 زيادة من "ب".
2 المشهور: استتر.
3 أضفت كلمة "ليس" لأن المعنى يتطلبها.
(1/70)
ولذلك بنيت لام "فعل" مع ضمير الفاعل
المخاطب في "فعلت" والمخاطب والمخاطبة أيضًا في "فعلتَ"/ 48 وفعلتِ كما
بينا فيما مضى. فإن قلت: هند زيد ضاربته, لم يكن بد من أن تقول: هي, من
أجل أن قولك: "ضاربته" ليس لزيد في الفعل نصيب, وإنما الضرب كان من هند
ولم يعد عليها شيء من ذكرها, والفعل لها, فإنما "ضاربته" خبر عن زيد
وفاعله هند في المعنى, ولم يجز إلا إظهار الضمير, فقلت حينئذ هي مرتفعة
"بضاربته" كما ترتفع هند إذا قلت: زيد ضاربته هند, فالمكنى1 ههنا
بمنزلة الظاهر, ولا يجوز أن تتضمن "ضاربته" ضمير الفاعل, فإن أردت أن
تثني قلت: الهندان الزيدان ضاربتهما هما, لأن "ضاربه" ليس فيه ضمير
الهندين إنما هو فعل فاعله المضمر, هذا على قول من قال: أقائم أخواك2,
فأما من قال: أكلوني البراغيث3 فيجعل في الفعل علامة التثنية والجمع
ولم يرد الضمير ليدل على أن فاعله مثنى أو مجموع كما كانت التاء في
"فعلت هند" فرقًا بين فعل المذكر والمؤنث, فإنه يقول: الهندان الزيدان
ضاربتاهما هما فإذا قلت: هند زيد ضاربته/ 49 هي "فهند" مرتفعة
بالابتداء, "وزيد" مبتدأ ثان, وضاربته خبر زيد "وهي" هذه اللفظة مرتفعة
بأنها فاعلة, والفعل "ضاربته" والهاء ترجع إلى زيد, وهي ترجع إلى هند
والجملة خبر عنها, فإن جعلت موضع فاعل, يفعل فقلت: زيد هند تضربه,
أضمرت الفاعل ولم تظهره, فهذا مما خالفت فيه الأسماء الأفعال, ألا ترى
أنك تقول: زيد أضربه وزيد تضربه. فإن
__________
1 المكني أو الكناية: اصطلاح كوفي، ومعناه الضمير عند البصريين,
واصطلاح الضمير أدق من اصطلاح المكنى لأن الكناية تشمل كل ما يكنى به
من إشارة أو موصول أو عدد بخلاف الضمير فإنه لا يدخل فيه شيء من ذلك
اللهم إلا إذا ذهب به مذهب من يجعل الكلمة أقساما أربعة من المحدثين
ويجعل الضمير هو القسم الرابع، ويدخل فيه العدد وأسماء الإشارة
والأسماء الموصولة، انظر: من أسرار العربية للدكتور أنيس/ 196.
2 أقائم مبتدأ، وأخواك فاعل سد مسد الخبر.
3 البراغيث هي الفاعل والواو في الفعل علامة تدل على الجمع.
(1/71)
كان في موضع الفعل اسم الفاعل لم تقل إلا
زيد ضاربه أنا أو أنت1 لأن في تصاريف الفعل ما يدل على المضمر ما هو2,
كما قد ذكرنا فيما قد تقدم, وليس ذلك في الأسماء وحكم اسم المفعول حكم
اسم الفاعل3, تقول: زيد مضروب, فتكون خبرًا لزيد كما تكون "ضارب" ويكون
فيه ضميره كما يكون في الفاعل, فتقول: عمرو الجبة مكسوته إذ كان في
"مكسوته", ضمير الجبة مستترًا, فإن كان فيه ضمير "عمرو" لم يجز حتى
تقول: عمرو الجبة مكسوها هو, فحكم المفعول/ 50 حكم الفاعل, كما أن
فُعِلَ "كفَعَلَ" في عمله, وحق خبر المبتدأ إذا كان جملة أن يكون خبرًا
كاسمه يجوز4 فيه التصديق والتكذيب, ولا يكون استفهامًا ولا أمرًا ولا
نهيًا وما أشبه ذلك مما لا يقال فيه صدقت ولا كذبت, ولكن العرب قد5
اتسعت في كلامها فقالت: زيد كم مرة رأيته, فاستجازوا6 هذا لما كان زيدٌ
في المعنى والحقيقة داخلًا في جملة ما استفهم عنه, لأن الهاء هي زيدٌ,
وكذلك كل ما اتسعوا فيه من هذا الضرب.
__________
1 بإبراز الضمير.
2 أي: إن قاما يدل على التثنية, وقاموا: يدل على الجمع، وقمن، يدل على
جماعة الإناث.
3 إلا أنه يختلف عنه بجواز إضافته إلى ما هو مرفوع نحو: الورع محمود
المقاصد اسم مفعول. وزيد مكسو العبد ثوبا. ثم إن اسم الفاعل يبنى من
اللازم كما يبنى من المتعدي، كقائم وذاهب واسم المفعول إنما يبنى من
فعل متعد لأنه جاز على "فعل" ما لم يسم فاعله، فكما أنه لا يبنى إلا من
المتعدي كذلك اسم المفعول.
4 أضفت كلمة "يجوز" لإيضاح المعنى.
5 في "ب" إذا بدلا من "قد".
6 في "ب" واستجازوا.
(1/72)
شرح الثالث من
الأسماء المرتفعة وهو الفاعل:
الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل.
ويجعل الفعل حديثًا عنه مقدمًا قبله كان فاعلًا في الحقيقة أو لم يكن
(1/72)
كقولك: جاء زيدٌ ومات عمروٌ, وما أشبه ذلك,
ومعنى قولي: بنيته على الفعل الذي بني للفاعل, أي: ذكرت الفعل قبل
الاسم, لأنك لو أتيت بالفعل بعد الاسم لارتفع الاسم بالابتداء, وإنما
قلت على الفعل/51 الذي بني للفاعل, لأفرق بينه وبين الفعل الذي بني
للمفعول إذ كانوا قد فرقوا بينهما فجعلوا "ضرب" للفاعل مفتوح الفاء
و"ضرب" للمفعول مضموم الفاء مكسور العين, وقد جعل بينهما في جميع
تصاريف الأفعال ماضيها ومستقبلها وثلاثيها ورباعيها وما فيه زائد منها
فروق في الأبنية, وهذا يبين لك في موضعه إن شاء الله. وإنما قلت: كان
فاعلًا في الحقيقة أو لم يكن, لأن الفعل ينقسم قسمين: فمنه حقيقي, ومنه
غير حقيقي, والحقيقي ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون1 الفعل لا يتعدى
الفاعل إلى من سواه ولا يكون فيه دليل على مفعول, نحو: قمت وقعدت,
والآخر أن يكون فعلًا واصلًا إلى اسم بعد اسم الفاعل, والفعل الواصل
على ضربين: فضربٌ واصل مؤثر نحو: ضربت زيدًا وقتلت بكرًا, والضرب2
الآخر واصل إلى الاسم3 فقط4 غير مؤثر/ 52 فيه نحو: ذكرت زيدًا ومدحت
عمرًا, وهجوت بكرًا, فإن هذه تتعدى إلى الحي والميت والشاهد والغائب,
وإن كنت إنما تمدح الذات وتذمها إلا أنها غير مؤثرة5.
ومنها الأفعال الداخلة على الابتداء والخبر وإنما تنبئ عن الفاعل بما
هجس في نفسه أو تيقنه غير مؤثرة بمفعول, ولكن أخبار6 الفاعل بما7 وقع
عنده نحو: ظننت زيدًا أخاك. وعلمت زيدًا خير الناس.
__________
1 أن يكون ساقط في "ب".
2 الضرب: ساقط في "ب".
3 الاسم: ساقط في "ب".
4 فقط: ساقطة في "ب".
5 في "ب" مؤيدة.
6 في "ب" أخبارًا بالنصب.
7 في "ب" إنما.
(1/73)
القسم الثاني: من القسمة الأولى1: وهو
الفعل الذي هو غير فعل حقيقي, فهو على ثلاثة أضرب, فالضرب الأول: أفعال
مستعارة للاختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو: مات
زيدٌ, وسقط الحائط, ومرض بكر.
والضرب الثاني: أفعال في اللفظ وليست بأفعال حقيقية, وإنما تدل على
الزمان فقط, وذلك قولك: كان عبد الله أخاك, وأصبح عبد الله عاقلًا,
ليست تخبر بفعل فعله إنما تخبر أن عبد الله أخوك فيما مضى/ 53 وأن
الصباح أتى عليه وهو عاقل.
والضرب الثالث: أفعال منقولة يراد بها غير الفاعل الذي جعلت له نحو
قولك: لا أرينك2 ههنا, فالنهي إنما هو للمتكلم كأنه ينهي نفسه في اللفظ
وهو للمخاطب في المعنى. وتأويله: لا تكونن ههنا فإن3 "من" حضرني رأيته
ومثله قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 4
لم ينههم عن الموت في وقت لأن5 ذلك ليس المهم تقديمه وتأخيره ولكن
معناه: كونوا على الإسلام. فإن الموت لا بد منه, فمتى صادفكم صادفكم
عليه, وهذا تفسير أبي العباس6 رحمه الله.
فالاسم الذي يرتفع بأنه فاعل7 هو والفعل جملة يستغني عليها8
__________
1 في "ب" الأول والصواب ما أثبت.
2 في "ب" لا آتينك.
3 في "ب" فإنه.
4 البقرة: 132.
5 في "ب" فإن.
6 أبو العباس: محمد بن يزيد المبرد نحاة البصرة في عصره، أخذ عن الجرمي
والمازني. مات سنة 285 وترجمته في طبقات الزبيدي/ 108 وأخبار النحويين
البصريين للسيرافي/ 72, والفهرست/ 449، وفي نزهة الألباء/ 279، ومعجم
الأدباء جـ7/ 279.
7 في "ب" والفعل والفاعل.
8 في "ب" بنفسها.
(1/74)
السكوت وتمت بها1 الفائدة للمخاطب, ويتم
الكلام به دون مفعول والمفعول فضلة في الكلام كالذي تقدم, فأما2 الفعل
فلا بد له من فاعل, وما يقوم مقام الفاعل بمنزلة الابتداء والخبر, ألا
ترى أنك إذا قلت: قام زيد فهو بمنزلة قولك: القائم زيد. فالفاعل رفع
إذا أخبرت عنه أنه "فَعَلَ" وسيفعل أو هو في حال/54 الفعل أو استفهمت
عنه هل يكون فاعلًا أو نفيت أن يكون فاعلًا نحو: قام عبد الله ويقوم
عبد الله. وسيقوم عبد الله. وفي الاستفهام: أيقوم عبد الله؟ وفي الجزاء
إِنْ يذهب زيد أذهب. وفي النفي, ما ذهب زيد, ولم يقم عمرو, فالعامل هو
الفعل على عمله أين نقلته لا يغيره عن عمله شيء أدخلت عليه ما يعمل فيه
أو لم يعمل, فسواء كان الفعل مجزومًا أو منصوبًا أو مرفوعًا أو موجبًا
أو منفيا أو خبرًا أو استخبارًا هو في جميع هذه الأحوال لا بدّ من أن
يرفع به الاسم الذي بني له, فالأفعال كلها ماضيها وحاضرها ومستقبلها
يرفع بها الفاعل بالصفة التي ذكرناها, ومن الأفعال ما لا يتصرف في
الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل, ويقتصر به على زمان واحد3,
فلا يتصرف في جميع تصاريف الأفعال, وقد أفردناها, وقد أعملوا اسم
الفعل, وتأملت جميع ذلك فوجدت الأشياء التي ترتفع بها الأسماء ارتفاع
الفاعل ستة أشياء: فعل متصرف, وفعل غير/ 55 متصرف, واسم الفاعل والصفة
المشبهة باسم الفاعل والمصدر والأسماء التي سموا فيها الفعل في الأمر
والنهي.
فأما الأول: وهو الفعل المتصرف فنحو: قام وضربَ, وتصرفه أنك تقول: يقوم
وأقوم وتقوم. وضربَ, ويضرب, وأضرب, وجميع تصاريف الأفعال جارية عليه
ويشتق منه اسم الفاعل, فتقول: ضارب,
__________
1 في الأصل وتجب، والتصحيح من "ب".
2 في "ب" وأما.
3 وذلك نحو: دام وليس من الأفعال الناقصة. وعسى، وكرب من أفعال
المقاربة، وفعل التعجب، ونعم وبئس.
(1/75)
والثاني: وهو الفعل الذي هو غير متصرف نحو:
ليس وعسى وفعل التعجب ونعم وبئس لا تقول منه, يفعل ولا فاعل1. ولا يزول
عن بناءٍ واحدٍ, وسنذكر هذه الأفعال بعد في مواضعها إن شاء الله.
الثالث: وهو اسم الفاعل الجاري على فعله, نحو قولك: قام يقوم فهو قائم:
وضرب يضرب فهو ضارب, وشرب, يشرب فهو شارب, فضارب وشارب2 وقائم أسماء
الفاعلين. وقد بينا أن اسم الفاعل لا يحسن أن يعمل إلا أن يكون معتمدا
على شيء قبله. وذكرنا ما يحسن من ذلك وما يقبح في باب/ 56 خبر
الابتداء.
والرابع: الصفة المشبهة باسم الفاعل, نحو قولك: حسن, وشديد تقول: الحسن
وجه زيد, [و] 3 الشديد ساعدك, وما أشبهه.
والخامس: المصدر نحو قولك, عجبت من ضرب زيدٍ عمرو, وتأويله: من أن ضربَ
زيدًا عمرو.
السادس: الأسماء التي يسمى الفعل بها في الأمر والنهي نحو قولهم:
تراكها ومناعها, يريدون: أترك, وأمنع, ورويد زيدًا وهلم الثريد وصه,
ومه يريدون: اسكت, وعليك زيدًا فهذه الأسماء إنما جاءت في الأمر وتحفظ
حفظًا ولا يقاس عليها, وسنذكر جميع هذه الأسماء التي أوقعت موقع الفعل
في بابها مشروحة إن شاء الله.
__________
1 لأن اسم الفاعل يشتق من الأفعال المتصرفة.
2 في الأصل: وشاتم، وأظنها تحريفا عن "وشارب".
3 أضفت "واوا" لأن الكلام يحتاجه.
(1/76)
شرح الرابع من
الأسماء المرتفعة:
وهو المفعول الذي لم يسم من فَعَلَ به, إذا كان الاسم مبنيا على فعلٍ
بني للمفعول ولم يذكر من فعلَ به فهو رفع وذلك قولك: ضرب بكر وأخرج
خالد, واستخرجت الدراهم, فبني الفعل للمفعول على "فعل" نحو:
(1/76)
"ضُرِبَ" وأفعلَ نحو: "أكرِمَ"/ 57 وتفعل
نحو: تضرب, ونفعل نحو: نضرب فخولف بينه وبين بناءِ الفعل الذي بني
للفاعل, لئلا يلتبس المفعول بالفاعل, وارتفاع المفعول بالفعل الذي
تحدثت به عنه كارتفاع الفاعل إذا كان الكلام لا يتم إلا به ولا يستغني
دونه, ولذلك قلت: إذا كان مبنيا على فعلٍ بني للمفعول أردت به ما أردت
في الفاعل من أن الكلام لا يتم إلا به وقلت ولم تذكر من فعل به لأنك لو
ذكرت الفاعل ما كان المفعول إلا نصبًا, وإنما ارتفع لما زال الفاعل
وقام مقامه. واعلم: أن الأفعال التي لا تتعدى لا يبنى منها فعل
للمفعول, لأن ذلك محال, نحو: قام, وجلس. لا يجوز أن تقول: قيم زيد ولا
جلس عمرو, إذ كنت إنما تبني الفعل للمفعول, فإذا كان الفعل لا يتعدى
إلى مفعول فمن أين لك مفعول تبنيه له, فإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول
واحد نحو: ضربت زيدًا, أزلت الفاعل وقلت: ضرب زيد, فصار المفعول يقوم
مقام/ 58 الفاعل وبقي الكلام بغير اسم منصوب لأن الذي كان منصوبًا قد
ارتفع, وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين نحو: أعطيت زيدًا درهمًا,
فرددته إلى ما لم يسم فاعله قلت: أُعطي زيد درهمًا, فقامَ أحد
المفعولين مقامَ الفاعلِ, وبقيَ منصوب واحد1 في الكلام, وكذلك إن كان
الفعل يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو: أعلم الله زيدًا بكرًا خير الناس,
إذا رددته إلى ما لم يسم فاعله قلت: أعلم زيد بكرًا خير الناس. فقام
أحد المفعولين مقام الفاعل. وبقي في الكلام اسمان منصوبان, فعلى هذا
يجري هذا الباب. وإن كان الفعل لا يتعدى لم يجز ذلك فيه, وإن كان يتعدى
إلى مفعول واحدٍ بقي الفعل غير متعد, وإن كان يتعدى إلى اثنين بقي
الفعل متعديًا إلى واحد, وإن كان يتعدى إلى ثلاثة, بقي الفعل يتعدى إلى
اثنين, فعلى هذا فقس متى نقلت "فعل" الذي هو
__________
1 في سيبويه جـ1/ 19 إذا قلت: كسى عبد الله الثوب وأعطى عبد الله
المال، رفعت عبد الله ههنا كما رفعته في "ضرب" حين قلت: ضرب عبد الله
وشغلت به كسى وأعطى كما شغلت به "ضرب" وانتصب الثوب والمال لأنهما
مفعولان تعدى إليهما فعل هو بمنزلة الفاعل.
(1/77)
للفاعل مبني إلى "فُعِلَ" الذي هو مبني
للمفعول فانقص من المفعولات/ 59 واحدًا. وإذا نقلت "فَعَلَت" إلى
أفعلتَ, فإن كان الفعل لا يتعدى في "فعلت" فعدهِ إلى واحدٍ إذا نقلته
إلى "أفعلت" تقول: قمت فلا يتعدى إلى مفعول, فإن قلت "أفعلت" منه قلت:
أقمت زيدا, وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد فنقلته من "فعلت" إلى
"أفعلت" عديته إلى اثنين نحو قولك: رأيت الهلال هو متعد إلى مفعول
واحدٍ فإن قلت: أريت زيدًا الهلال فيتعدى إلى اثنين, وإن كان الفعل
يتعدى إلى مفعولين فنقلته من "فعلت" إلى "أفعلت" تعدى إلى ثلاثة
مفعولين, تقول علمت بكرًا خير الناس, فإن قلت: أعلمتُ, قلت: أعلمتُ
بكرًا زيدًا خير الناس فتعدى إلى ثلاثة, فهذان النقلان مختلفان, إذا
نقلت "فعلتُ" إلى "فعلتُ" نقصت من المفعولات واحدًا أبدًا, وإذا نقلت
"فعلت" إلى "أفعلت" زدت في المفعولات واحدًا أبدًا, فتبين ذلك فإني
إنما ذكرت "فعّلتُ" وإن لم يكن من هذا الباب, لأن الأشياء تتضح بضمها
إلى أضدادها/ 60 واسم المفعول الجاري على فعله يعمل عمل الفعل نحو
قولك: مضروب, ومعط, يعمل عمل أعطى, ونعطي تقول: زيد مضروب أبوه فترفع
"أبوه" بمضروب, كما كنت ترفعه بضاربٍ إذا قلت: زيد ضارب أبوه عمرًا,
وتقول: زيد معط أبوه درهمًا "فترفع الأب" "بمعط" وتقول: دفَع إلى زيد
درهم, فترفع الدرهم لأنك جررت زيدًا فقام الدرهم مقام الفاعل, ويجوز أن
تقول: سير بزيد, فتقيم "بزيد" مقام الفاعل, فيكون موضعه رفعًا ولا
يمنعه حرف الجر1 من ذلك, كما قال: ما جاءني من أحد, فأحد فاعل, وإن كان
مجرورًا "بمن" وكذلك قوله تعالى: {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُم} 2.
__________
1 على شرط أن لا يكون حرف الجر للتعليل، فلا يقال: وقف لك.. لا من أجلك
لا إذا جعلت نائب الفاعل ضمير الوقوف المفهوم من "وقف" فيكون التقدير:
وقف الوقوف الذي تعهد لك. أو من أجلك، وإذا كان نائب الفاعل مؤنثًا لا
يؤنث فعله، بل يجب أن يبقى مذكرا. تقول: ذهب بفاطمة. ولا يقال: ذهبت
بفاطمة.
2 البقرة: 105.
(1/78)
فإن أظهرت زيدًا غير مجرور قلت: أعطى زيد
درهمًا, وكسى زيد ثوبًا, فهذا وجه الكلام, ويجوز أن تقول: أعطى زيدًا
درهم, وكسى زيدًا ثوب, كما كان الدرهم والثوب مفعولين, وكان لا يلبس
على السامع الآخذ من المأخوذ جاز, ولكن لو قلت: أعطى/61 زيد عمرًا,
وكان زيد هو الآخذ لم يجز أن تقول: أعطى عمرو زيدًا, لأن هذا يلبس إذ
كان يجوز أن يكون كل واحد منهما آخذًا لصاحبه, وهو لا يلبس في الدرهم
وما أشبه, لأن الدرهم لا يكون إلا مأخوذًا, وإنما هذا مجاز والأول
الوجه. ومن هذا: أدخل القبر زيدًا, وألبستُ الجبة زيدًا, ولا يجوز على
هذا, ضرب زيدًا سوطٌ, لأن سوطًا في موضع قولك: ضربةً بسوطٍ1 فهو مصدر.
واعلم: أنه يجوز أن تقيم المصادر والظروف من الأزمنة والأمكنة مقام
الفاعل في هذا الباب إذا جعلتها مفعولات على السعة وذلك نحو قولك: سير
بزيد سير شديد, وضرب من أجل زيد عشرون سوطًا, واختلف به شهران, ومضى به
فرسخان, وقد يجوز نصبها على الموضع, وإن كنت لم تقم المجرور مقام
الفاعل, أعني قولك: بزيد على أن تحذف ما يقوم مقام الفاعل وتضمره/62
وذلك المحذوف على ضربين: إما أن يكون الذي قام مقام الفعل مصدرًا
استغني عن ذكره بدلالة الفعل عليه, وإما أن يكون مكانًا دلَّ الفعل
عليه أيضًا إذ كان الفعل لا يخلو من أن يكون في مكان كما أنه لا بد من
أن يكون مشتقا من مصدره نحو قولك: سير بزيد فرسخًا أضمرت السير, لأن
"سير" يدل على السير, فكأنك قلت: سير السير بزيد فرسخًا, ثم حذفت السير
فلم تحتج إلى ذكره معه, كما تقول: من كذب كان شرا له, تريد: كان الكذب
شرا له. ولم تذكر الكذب لأن "كذب" قد دل عليه ونظيره قوله تعالى: {لا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُم} 2. يعني البخل الذي دل عليه "يبخلون"
وأما الذي يدل عليه الفعل من المكان فأن تضمر في
__________
1 في الأصل "بصوت" وليس له معنى.
2 آل عمران: 108.
(1/79)
هذه المسألة ما يدل عليه "سير" نحو الطريق
وما أشبهه من الأمكنة. ألا ترى أن السير لا بد أن يكون في طريق, فكأنك/
63 قلت: سير عليه الطريق فرسخًا, ثم حذفت لعلم المخاطب بما تعني, فقد
صارَ في "سيرَ بزيدٍ" ثلاثة أوجه:
أجودها أن تقيم, "بزيد" مقام الفاعل, فيكون موضعه رفعًا, وإن كان
مجرورًا في اللفظ, وقد أريناك مثل ذلك.
والوجه الثاني: الذي يليه في الجودة أن تريد المصدر فتقيمه مقام الفاعل
وتحذفه.
والوجه الثالث: وهو أبعدها أن تريد المكان فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه.
واعلم: أنك إذا قلت: سير بزيد سيرًا, فالوجه النصب في "سير" لأنك لم
تفد بقولك "سيرًا" شيئًا لم يكن في "سير" أكثر من التوكيد, فإن وصفته
فقلت: شديدًا أو هينًا, فالوجه الرفع لأنك لما نعته قربته من الأسماء
وحدثت فيه فائدة لم تكن في "سير" والظروف بهذه المنزلة, لو قلت: سير
بزيد مكانًا أو يومًا لكان الوجه النصب, فإن قلت: يوم كذا أو مكانًا
بعيدًا أو قريبًا اختير الرفع والتقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار
في الاسم الذي قام مقام الفاعل ولم/ 64 يسم من فعل به مثله في الفاعل
يجوز فيه ما جاز في ذلك لا فرق بينهما في جميع ذلك, وتقول: كيف أنت إذا
نحى نحوك ونحوك على ما فسرنا, فإن قلت: نحى قصدك فالاختيار عند قوم من
النحويين النصب لمخالفة لفظ الفعل لفظ المصدر, والمصادر والظروف من
الزمان والمكان لا يجعل شيء منها مرفوعًا1 في هذا الباب حتى يقدر فيه
أنه إذا كان
__________
1 مذهب البصريين إلا الأخفش، أنه إذا وجد بعد الفعل المبني لما لم يسم
فاعله مفعول به ومصدر. وظرف وجار ومجرور، تعين إقامة المفعول به مقام
الفاعل، ولا يجوز إقامة غيره مقامه مع وجوده، وما ورد من ذلك شاذ أو
مئول، ومذهب الكوفيين أنه يجوز إقامة غيره وهو موجود: تقدم أو تأخر،
فتول: ضرب ضرب شديد زيدا، وضرب زيدا ضرب شديد، وكذلك في الباقي،
واستدلوا لذلك بقراءة أبي جعفر: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} .. شرح ابن عقيل: 2/ 67.
(1/80)
الفاعل معه أنه مفعول صحيح فحينئذ يجوز أن
يقام مقام الفاعل إذا لم تذكر الفاعل. فأما الحال والتمييز, فلا يجوز
أن يجعل واحد منهما في محل الفاعل, إذا قلت: سير بزيد قائمًا أو تصبب
بدن عمرو عرقًا, لا يجوز أن تقيم "قائمًا وعرقًا" مقام الفاعل, لأنهما
لا يكونان إلا نكرة, فالفاعل وما قام مقامه يضمر كما يظهر, والمضمر لا
يكون إلا معرفة وكذلك المصدر الذي يكون علة لوقوع الشيء نحو: جئتك
ابتغاء الخير لا يقوم مقام الفاعل ابتغاء الخير, لأن المعنى لابتغاء
الخير, ومن أجل ابتغاء الخير/ 65 فإن أقمته مقام الفاعل زال ذلك
المعنى, وقد أجاز قوم في "كان زيد قائمًا" أن يردوه إلى ما لم يسم
فاعله فيقولون: كين قائم.
قال أبو بكر: وهذا عندي لا يجوز من قبل أن "كان" فعل غير حقيقي, وإنما
يدخل على المبتدأ والخبر, فالفاعل فيه غير فاعل في الحقيقة, والمفعول
غير مفعول على الصحة فليس فيه مفعول, يقوم مقام الفاعل, لأنهما غير
متغايرين إذ كان إلى شيء واحد1, لأن الثاني هو الأول في المعنى. وقد
نطق بما لم يسم فاعله في أحرف ولم ينطق فيها بتسمية الفاعل, فقالوا:
أنيخت الناقة, وقد وضع زيد في تجارته, ووكس2, وأغرى به وأولع به, وما
كان من نحو هذا مما أَخذ عنهم سماعًا وليس بباب يقاس عليه.
__________
1 في سيبويه 1/ 21، وإن شئت قلت: كان أخاك عبد الله "فقدمت كما فعلت
ذلك في ضرب لأنه فعل مثله" وحال التقديم والتأخير فيه. كحاله في ضرب،
إلا اسم الفاعل والمفعول فيه. لشيء واحد.
2 وَكَسَ: نَقَصَ، والوكس: النقص، في حديث أبي هريرة: "من باع بيعتين
في بيعة فله أوكسهما أو الربا" انظر اللسان مادة: وَكَسَ.
(1/81)
شرح الخامس: وهو المشبه بالفاعل في اللفظ.
المشبه بالفاعل على ضربين: ضرب منه ارتفع "بكان وأخواتها" وضرب آخر
ارتفع بحروف شبهت "بكان" والفعل, وأخوات "كان": صار, وأصبح, وأمسى/ 66
وظل, وأضحى, وما دام, وما زال, وليس, وما أشبه ذلك مما يجيء عبارة عن
الزمان فقط وما كان في معناهن مما لفظه لفظ الفعل, وتصاريفه تصاريف
الفعل1, تقول: كان, ويكون, وسيكون, وكائن, فشبهوها بالفعل لذلك, فأما
مفارقتها للفعل الحقيقي فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى وزمان نحو
قولك: ضرب يدل على ما مضى من الزمان وعلى الضرب الواقع فيه "وكان" إنما
يدل على ما مضى من الزمان فقط "ويكون" تدل على ما أنت فيه من الزمان
وعلى ما يأتي, فهي تدل على زمان فقط, فأدخلوها على المبتدأ وخبره,
فرفعوا بها ما كان مبتدأ تشبيهًا بالفاعل و [نصبوا2 بها الخبر] تشبيهًا
بالمفعول فقالوا: كان عبد الله أخاك, كما قالوا: ضرب عبد الله أخاك,
إلا أن المفعول في "كان" لا بد من أن يكون هو الفاعل, لأن أصله المبتدأ
وخبره, كما كان خبر المبتدأ لا بد من أن يكون هو المبتدأ فإذا قالوا/
67 "كان زيد قائمًا" فإنما معناه: زيد قام فيما مضى من الزمان, فإذا
قالوا: أصبح عبد الله منطلقًا, فإنما المعنى: أتى الصباح وعبد الله
منطلق, فهذا تشبيه لفظي, وكثيرًا ما يعملون الشيء عمل الشيء إذا أشبهه
في اللفظ وإن لم يكن مثله في المعنى وسترى ذلك إن شاء الله, فقد بان
شبه "كان وأخواتها" بالفعل إذ كنت تقول: كان يكون, وأصبح يصبح وأضحى,
ويضحى, ودام يدوم, وزال يزال, فأما ليس, فالدليل على أنها فعل وإن كانت
لا تتصرف3 تصرف الفعل قولك: لست, كما تقول: ضربت ولستما كضربتما,
ولسنا, كضربنا ولسن, كضربن,
__________
1 في الكتاب 1/ 21 فهو كائن ونكون، كما كان ضارب ومضروب.
2 أضفت ما بين القوسين لإيضاح المعنى.
3 قال سيبويه 1/ 21 وأما ليس فإنه لا يكون فيها ذلك "أي: التصرف" لأنها
وضعت موضعا واحدا ومن ثم لم تصرف تصرف الفعل الآخر.
(1/82)
ولستن, كضربتن, وليسوا, كضربوا, وليست أمة
الله ذاهبة كقولك: ضربت أمة الله زيدًا.
وإنما امتنعت من التصرف, لأنك إذا قلت "كان" دللت على ما مضى, وإذا قلت
"يكون" دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع, وإذا قلت: ليس زيد قائمًا
الآن أو غدًا أدت ذلك المعنى الذي في يكون,/ 68 فلما كانت تدل على ما
يدل عليه المضارع استغني عن المضارع فيها, ولذلك لم تبن بناء الأفعال
التي هي من بنات الياء مثل باع وبات. وإذا اجتمع في هذا الباب معرفة
ونكرة فاسم "كان" المعرفة كما كان ذلك في الابتداء هو المبتدأ لا فرق
بينهما في ذلك, تقول: كان عمرو منطلقًا, وكان بكر رجلًا عاقلًا, وقد
يكون الاسم معرفة والخبر معرفة كما كان ذلك في الابتداء أيضًا, تقول:
كان عبد الله أخاك, وكان أخوك عبد الله, أيهما شئت جعلته اسم "كان"
وجعلت الآخر خبرًا لها, والشعراء قد يضطرون فيجعلون الاسم نكرة والخبر
معرفة1 لعلمهم أن المعنى يئول إلى شيء واحد, فمن ذلك قول حسان:
كأنَّ سلافةً منْ بيت رأسٍ ... يكون مزاجَها عسَل وماءُ2
وقال القطامي:
قفي قبل التفرقِ يا ضباعا ... ولا يك موقف منكِ الوداعا3
__________
1 في المقتضب 1/ 91 واعلم: أن الشعراء يضطرون فيجعلون الاسم نكرة،
والخبر معرفة, وإنما حملهم على ذلك معرفتهم أن الاسم والخبر يرجعان إلى
شيء واحد.
2 مر تفسير هذا البيت، ص42.
3 استشهد بالشطر الأول سيبويه 1/ 331 على ترخيم "ضباعة" والوقف على
الألف بدلا من الهاء. واستشهد بالشطر الثاني ابن هشام في المغني على
جعل اسم "كان" نكرة وخبرها معرفة للضرورة، وأراد "بضباعة" ضباعة بنت
زفر بن الحارث، ولا يك موقف يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على الطلب
والرغبة كأنه قال: لا تجعلي هذا الموقف آخر وداعي منك. والوجه الآخر:
أن يكون على الدعاء كأنه قال: لا جعل الله موقفك هذا آخر الوداع، وفيه
حذف مضاف، أي: "موقف" والبيت، مطلع قصيدة للقطامي في مدح زفر بن
الحارث، وكان بنو أسد أحاطوا به وأسروه يوم الخابور وأرادوا قتله، فحال
زفر بينه وبينهم وحماه وحمله، وكساه مائة ناقة، فمدحه بهذه القصيدة:
وانظر: المقتضب 4/ 93، وابن يعيش 7/ 91، وارتشاف الضرب 356، والديوان/
37.
(1/83)
وقد مضى تفسير هذا, وقد تخبر في هذا الباب
بالنكرة عن النكرة إذا كان فيه فائدة وذلك قولك: ما كان/ 69 أحد مثلك,
وليس أحد خيرًا منك, وما كان رجل قائمًا مقامك, وإنما صلح هذا هنا, لأن
قولك: "رجل" في موضع الجماعة إذا جعلوا رجلًا رجلًا, يدلك على ذلك
قولك: ما كان رجلان أفضل منهما.
والمعول في هذا الباب وغيره على الفائدة, كما كان في المبتدأ والخبر.
فما كانت فيه فائدة فهو جائز فأنت إذا قلت: ليس فيها أحد فقد نفيت
الواحد والاثنين وأكثر من ذلك, ومثل هذا لا يقع في الإيجاب ونظير أحد
عريب1 وكتيع2, وطورئ3 وديار, قال الراجز:
وبلدة ليس بها ديار
ومن هذه الأسماء ما يقع بعد "كل" لعمومها, تقول: يعلم هذا كل أحد, وأما
قول الشاعر4:
__________
1 عريب: من الألفاظ الملازمة للنفي ومعناها: لا أحد.
2 كتيع: الكتيع: المنفرد من الناس. يقال: ما بالدار كتيع، أي: لا أحد.
3 طورئ: تقول العرب: ما بالدار طورئ، ولا دوري، أي: أحد، ولا طوراني
مثله. ومثله قول الحجاج: وبلدة ليس بها طوري.
انظر اللسان مادة "طور".
4 نسبه السيرافي للأخطل، وروى: لقد ظهرت، ولم يوجد في ديوان الأخطل،
وإنما وجدته في ديوان ذي الرمة، ويروى كذلك:
لقد بهرت فما تخفى على أحدٍ
وذهب ابن السراج مذهب سيبويه ورأى أن أحدا الثانية حكاية لأحد الأولى،
انظر شرح السيرافي 1/ 325، والموشح/ 182، والديوان/ 191.
(1/84)
حتى ظهرت فما تخفى على أحدٍ ... إلا على
أحدٍ لا يعرف القمرا
فقد فسر هذا البيت على ضربين:
أحدهما: أن يكون "أحد" في معنى واحد كأنه قال: إلا على واحد لا يعرف
القمرا, فأحد هذه هي التي تقع في قولك/70: أحد وعشرون وتكون على قولك
"أحد" التي تقع في النفي فتجريه في هذا الموضع على الحكاية لتقديم ذكره
إياه, ونظير ذلك أن يقول القائل: أما في الدار أحد, فتقول مجيبًا بلى,
وأحد, إنما هو حكاية للفظ ورد عليه, وتقول: ما كان رجل صالح مشبه زيدًا
في الدار, إذا جعلت في الدار خبرًا, ومعنى هذا الكلام أن زيدًا صالح
فمشبهه مثله. فإن نصبت "مشبهًا" فقد ذممت زيدًا أو أخبرت أن ما كان
صالحًا غير تشبيه. فإذا قلت: ما كان أحد مثلك, وما كان مثلك أحد فكلها
نكرات لأن "مثل وشبه" يكن نكرات, وإن أَضفن إلى المعارف لأنهن لا يخصصن
شيئًا بعينه لأن الأشياء تتشابه من وجوه, وتتنافى من وجوه, فإن أردت
"بمثلك" المعروف "بشبهك" خاصة كان معرفة كأخيك. وتقول: ما كان في الدار
أحد مثل زيد, إذا جعلت "في الدار" الخبر, وإن جعلت "في الدار" لغوًا
نصبت المثل/ 71 قال الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد} 1.
__________
1 الإخلاص: 4.
والآية: تكلم عنها سيبويه في 1/ 27، فقال: وجميع ما ذكرت لك من التقديم
والتأخير، والإلغاء، والاستقرار عربي جيد كثير فمن ذلك قوله عز وجل:
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد} وأهل الجفاء من العرب يقولون: ولم
يكن كفوا له أحد "كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقر" وفي البحر المحيط
1/ 528-529 وقال مكي: سيبويه يختار أن يكون الظرف خبرا إذا قدمه وقد
خطأه المبرد بهذه الآية، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبرا، انظر المقتضب
4/ 90، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم وإنما أجاز أن
يكون خبرا وألا يكون خبرا.
(1/85)
والظروف يجوز أن يفصل بها بين "كان" وما
عملت فيه لاشتمالها على الأشياء فتقديمها وهي ملغاة بمنزلة تأخيرها,
واعلم: أن جميع ما جاز في المبتدأ وخبره من التقديم والتأخير, فهو جائز
في "كان" إلا أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه فإن فصلت
بظرف ملغى جاز, فأما ما يجوز فقولك: كان منطلقًا عبد الله, وكان
منطلقًا اليوم عبد الله, وكان أخاك صاحبنا, وزيد كان قائمًا غلامه,
والزيدان كان قائمًا غلامهما, تريد كان غلامهما قائمًا, وكذلك: أخوات
"كان" قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِين} 1. وتقول: من كان أخاك إذا كانت "من" مرفوعة, كأنك قلت:
أزيد كان أخاك, وتقول: من كان أخوك, إذا كانت "من" منصوبة, كأنك قلت:
أزيدًا كان أخوك, وهذا كقولك: من ضرب أخاك؟ ومن ضرب أخوك؟ فما أجزته في
المبتدأ والخبر من التقديم والتأخير/ 72 فأجزه فيها, ولكن لا تفصل
بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه, ولا تقل: كانت زيدًا الحمى
تأخذ, ولا: كان غلامه زيد يضرب, لا تجز هذا إذا كان "زيد والحمى" اسمين
لكان. فإن أضمرت في "كان" الأمر أو الحديث أو القصة وما أشبه ذلك وهو
الذي يقال له: المجهول. كان ذلك المضمر اسم "كان" وكانت هذه الجملة
خبرها, فعلى ذلك يجوز, كان زيدًا الحمى تأخذ, وعلى هذا أنشدوا:
فَأَصْبَحُوا والنَّوى عَالي مُعَرّسِهم ... وَلَيَس كُلَّ النّوى
يَلقَى المَسَاكِين2
كأنه قال: وليس الخبر يلقى المساكين كل النوى ولكن هذا المضمر
__________
1 الروم: 47.
2 من شواهد الكتاب 1/ 35، وجـ1/ 73 على الإضمار في ليس لأنها فعل،
والدليل على ذلك إيلاؤها المنصوب.
وكذلك ذكره بعض النحويين شاهدا على إضمار الشأن والحديث في "ليس" فنصب
كل النوى بـ"يلقى" فتخلو الجملة لذلك من ضمير ظاهر, أو مقدر يعود على
مرفوع "ليس" لأن ضمير الشأن لا يعود عليه من الجملة المخبر بها عنه
ضمير، لأن هذا المخبر عنه هو الخبر في المعنى.. والمعرس: المنزل الذي
ينزله المسافر آخر الليل، والتعريش: النزول في ذلك الوقت، يقول: أصبحوا
وقد غطى النوى لكثرته على منزلهم، ولا يلقى المساكين أكثر النوى ولكنهم
يأكلونه من الجهد والجوع وكان الشاعر معدودا من بخلاء العرب، ونزل به
قوم فأطعمهم تمرا. والشاهد: لحميد بن مالك الأرقط.
وانظر المقتضب 4/ 100، وشرح السيرافي 1/ 357، وأمالي ابن الشجري 2/
203، وابن يعيش 7/ 104.
(1/86)
لا يظهر وأصحابنا1 يجيزون: غلامه كان زيد
يضرب, فينصبون الغلام "بيضرب" ويقدمونه, لأن كلَّ ما جاز أن يتقدم من
الأخبار جاز تقديم مفعوله, فلو قلت: غلامه ضرب زيد كان جيدًا2, فكان
هذا بمنزلة: ضرب زيد غلامه.
ولو رفعت الغلام, كان غير جائز, لأنه إضمار قبل الذكر3 فلا يجوز أن
ينوي به/ 73 غيره فإن قال قائل: فأنت إذا نصبت فقد ذكرته قبل الاسم؟
قيل له4: إذا قدم ومعناه التأخير فإنما تقديره والنية فيه أن يكون
مؤخرًا, وإذا كان في موضعه لم يجز أن تعني5 به غير موضعه, ألا ترى أنك
تقول: ضرب غلامه زيد, لأن الغلام في المعنى مؤخرًا, والفاعل على
الحقيقة قبل المفعول6, ولكن لو قلت: ضرب غلامه زيدًا, لم يجز لأن
الغلام فاعل وهو في موضعه, فلا يجوز أن تنوي به غير ذلك الموضع7,
__________
1 أي البصريون: قال المبرد: ولو قلت: غلامه كان زيد يضرب، كان جيدا أن
تنصب الغلام بـ"يضرب" لأن كل ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم
مفعوله. انظر: المقتضب 4/ 101.
2 انظر المقتضب 4/ 102.
3 عاد على متأخر لظفا ورتبة، وهذا غير جائز.
4 أضيفت "له" لأن المعنى يقتضيها.
5 أي تنوي به.
6 عاد على متأخر لفظا لا رتبة، وهذا جائز.
7 في المقتضب 4/ 102 "ولو قلت: ضرب غلامه زيدا" كان محالا: لأن الغلام
في موضعه. لا يجوز أن تنوي به غير ذلك الموضع.
(1/87)
وتقول: كان زيد قائمًا أبوه وكان زيد1
منطلقة جارية يحبها, والتقديم والتأخير في الأخبار المجملة بمنزلتها في
الأخبار المفردة ما لم تفرقها, تقول: أبوه منطلق كان زيد تريد, كان زيد
أبوه منطلق, وقائمة جارية يحبها كان زيد, تريد: كان زيد قائمة جارية
يحبها. وفي داره ضرب عمرو خالدًا كان زيد. فإن قلت: كان في داره زيد
أبوه, وأنت تريد: كان زيد في داره أبوه, لم يجز؛ لأن الظرف للأب فليس2
من/ 74 كان في شيء وقد فصلت به بينها وبين خبرها ولو قلت: كان في داره
أبوه زيد, صلح لأنك قدمت الخبر بهيئته3 وعلى جملته فصار مثل قولك: كان
منطلقًا زيد, ومثل ذلك: كان زيدًا أخواك يضربان4, هذا لا يجوز, فإن
قدمت: "يضربان زيدًا" جاز, وتجوز هذه المسألة إذا أضمرت في "كان"
مجهولًا وتقول: زيد كان منطلقا أبوه, فزيد مبتدأ وما بعده خبر له, وفي
"كان" ضمير زيد وهو اسمها, ومنطلقًا أبوه "خبره", وإن شئت رفعت "أبا"
بـ"كان" وجعلت "منطلقا" خبره, وتقول: زيد5 منطلقًا أبوه كان, تريد:
زيد6 كان منطلقًا أبوه. مثل المسألة التي قبلها.
وقال قوم: أبوه قائم كان "زيد" خطأ لأن ما لا تعمل فيه "كان" لا يتقدم
قبل "كان" والقياس ما خبرتك به إذ كان قولك: أبوه قائم في موضع قولك:
"منطلقًا" فهو بمنزلته فإذا لم يصح سماع الشيء عن العرب لُجئ فيه إلى
القياس, ولا يجيزون أيضًا/75: كان أبوه قائم زيد. وكان أبوه زيد أخوك,
وكان أبوه يقوم أخوك. هذا خطأ عندهم لتقديم المكنى على الظاهر. وهذا
جائز عندنا لأنك تقدم المكنى على الظاهر في الحقيقة وقد مضى تفسير
المكنى: أنه إذا كان في غير
__________
1 في "ب" عبد الله بدلا من "زيد".
2 في "ب" و"ليس".
3 في "ب" هيئة.
4 في "ب" يضربانه.
5 في "ب" وتقول زيدا منطلقا.
6 في "ب" كان زيد منطلقا أبوه.
(1/88)
موضعه وتقدم جاز تقدمه, لأن النية فيه أن
يكون متأخرًا, والذي لا يجوز عندنا أن يكون قد وقع في1 موقعه وفي2
مرتبته فحينئذ لا يجوز أن ينوى به غير موضعه, ولأصول التقديم والتأخير
موضع يذكر فيه إن شاء الله. ولا يحسن عندي أن تقول: "آكلًا كان زيد
طعامك" من أجل أنك فرقت بين آكل, وبين3 ما عمل فيه بعامل آخر, ومع ذلك
فيدخل لبس في بعض الكلام, وإنما يحسن4 مثل هذا في الظروف نحو قولك:
راغبًا كان زيد فيك, لاتساعهم5 في الظروف, وأنهم6 جعلوا لها فضلًا على
غيرها في هذا المعنى, ولا أجيز أيضًا: آكلًا كان زيد أبوه طعامك, أريد7
به8: كان زيد آكلا/76 أبوه طعامك, للعلَّة التي ذكرت لك, بل هو ههنا
أقبح, لأنك فرقت بين "آكل" وبين ما ارتفع به, وفي تلك المسألة إنما9
فرقت بينه وبين ما انتصب به, والفاعل ملازم لا بد منه, والمفعول فضلة,
وقوم لا يجيزون: كان خلفك أبوه زيد, وهو جائز عندنا وقد مضى تفسيره,
ويقولون10: لا يتقدم "كان" فعل11 ماضٍ ولا مستقبل. وما جاز أن يكون
خبرًا فالقياس12 لا يمنع من تقديمه إذ كانت الأخبار تقدم إلا أني لا
أعلمه مسموعًا من العرب. ولا
__________
1 في: ساقطة في "ب".
2 في: ساقطة في "ب".
3 بين: ساقطة في "ب".
4 في "ب" حسن.
5 في "ب" لأنهم اتسعوا.
6 وأنهم: ساقطة في "ب".
7 في "ب" تريد.
8 به: ساقطة في "ب".
9 في "ب" أيضا بدلا من "إنما".
10 ويقولون: ساقطة في "ب".
11 فعل: ساقط في "ب".
12 في "ب" والقياس.
(1/89)
يتقدم خبر "ليس" قبلها1 لأنها لم تصرف تصرف
"كان"2 لأنك لا تقول: منها يفعل ولا فاعل, وقد شبهها بعض العرب بـ"ما"3
فقال: ليس الطيب إلا المسك, فرفع وهذا قليل, فإذا أدخلت على "ليس" ألف
الاستفهام كانت تقريرًا ودخلها معنى الإيجاب فلم يجىء معها أحد لأن
أحدًا إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول: أليس أحد في الدار؛ لأن
المعنى يئول إلى قولك: أحد في الدار, وأحد لا يستعمل في الواجب, ولذلك
لا يجوز4 أن تجيء إلا مع التقرير, لا يجوز5 أن تقول/ 77 فيها, لأن
المعنى يئول إلى قولك: زيد إلا فيها وذا لا يكون كلامًا, وقد أدخلوا
الباء في خبر "ليس" توكيدًا للنفي تقول: ألست بزيد, ولست بقائم:
وقالوا: أليس إنما قمت. ولا يجيء "إنما" إلا مع إدخال الألف كذا حكى
وتقول: ليس عبد الله بحسن ولا كريمًا6, فتعطف "كريمًا" على "بحسن" لأن
موضعه نصب, وإنما تدخل الباء هنا تأكيدًا للنفي. وتقول: ليس عبد الله
بذاهب ولا خارج عمرو, على أن تجعل عمرًا "مبتدأ" وخارجًا خبره, ولك أن
تنصب فتقول: ليس عبد الله بذاهب ولا خارجًا عمرو, على أنه معطوف على
خبر "ليس" قبل الباء, ولا يحسن, ليس عبد الله بذاهب ولا خارج زيد, فتجر
بالباء ويرتفع زيد بـ"ليس" لا يجوز هذا لأنك قد عطفت بالواو على عاملين
وإنما تعطف حروف العطف على عامل واحد ولكن تقول: ليس زيد بخارج ولا
ذاهب أَخوه, فتجري "ذاهبًا" على "خارج"
__________
1 في "ب" عليها بدلا من قبلها.
2 مذهب الكوفيين: أنه لا يجوز تقديم خبر "ليس" عليها، بينما ذهب
البصريون: إلى أنه يجوز تقديم خبر "ليس" عليها كما يجوز تقديم خبر كان
عليها، ولكل من الطرفين حجج مشروحة في الإنصاف جـ1/ 92-93.
3 أي تغلب عليها الحرفية فهي نافية فقط.
4 في "ب" لم يجز.
5 في "ب" فلا.
6 انظر الكتاب 1/ 33.
(1/90)
وترفع الأخ بـ"ذاهب" لأنه ملبس بـ"زيد" وهو
من سببه, فكأنك قلت: ليس زيد بذاهب ولا خارج, ولو حملت "الأخ"/ 78 على
"ليس", لم يجز, من أجل أنك تعطف على عاملين, على "ليس" وهي عاملة وعلى
"الباء" وهي عاملة, وقالوا: ما كان عبد الله ليقوم, ولم يكن ليقوم,
فأدخلوا اللام مع النفي ولا يجوز هذا في أخوات "كان". ولا تقول: ما كان
ليقوم, وهذا يتبع فيه السماع.
واعلم: أن خبر "كان" إذا كنيت عنه جاز أن يكون منفصلًا ومتصلًا, والأصل
أن يكون منفصلًا, إذ كان أصله أنه خبر مبتدأ, تقول: كنت إياه, وكان
إياي, هذا الوجه, لأن خبرها خبر ابتداء وحقه الانفصال, ويجوز كأنني
وكنته كقولك: "ضربني وضربته", لأنها متصرفة تصرف الفعل, فالأول استحسن
للمعنى, والثاني لتقديم اللفظ قال أبو الأسود:
فإنْ لا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فإنَّهُ ... أَخُوها غَذَتهُ أُمهُ
بِلِبَانِهَا1
و"لكان" ثلاثة مواضع:
الأول: التي يكون لها اسم وخبر.
الثاني: أن يكون بمعنى وقع وخلق2 فتكتفي بالاسم وحده ولا
__________
1 استشهد به سيبويه 1/ 21، على أن "كان" تجري مجرى الأفعال الحقيقية في
عملها فيتصل بها خبرها الضمير اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في
نحو: ضربته.
وكان أبو الأسود يخاطب به مولى له كان حمل له تجارة إلى الأهواز وكان
إذا مضى إليها يتناول شيئا من الشراب فاضطرب أمر البضاعة.
واللبان, بكسر اللام، تقول: هو أخوه بلبان أمه، ولا يقال: بلبن أمه.
ويريد الشاعر: نبيذ الزبيب, وانظر المقتضب 3/ 98، وأدب الكاتب/ 32،
وشرح السيرافي 1/ 307، وإصلاح المنطق/ 297 والإنصاف/ 49، وابن يعيش/ 3/
107، وتفسير المسائل المشكلة للفارقي/ 70.
2 أي: التامة. قال سيبويه: وقد يكون "لكان" موضع آخر يقتصر على الفاعل
فيه، تقول: قد كان عبد الله، أي: قد خلق عبد الله وقد كان الأمر، أي:
وقع الأمر. انظر الكتاب 1/ 21.
(1/91)
تحتاج إلى خبر, وذلك قولك: أنا أعرفه مذ
كان زيد, أي: مذ خلق, وقد كان الأمر, أي: وقع, وكذلك أمسى/ 76 وأصبح
تكون مرة بمنزلة "كان" التي لها خبر ومرة بمنزلة استيقظ ونام فتكون
أفعالًا تامة تدل على معان وأزمنة. ولا ينكر أن يكون لفظ واحد لها
معنيان وأكثر, فإن ذلك في لغتهم كثير. من ذلك قولهم وجدت عليه من
الموجدة1, ووجدت يريدون. وجدان الضالة2, وهذا أكثر من أن يذكر هنا.
الثالث: أن تكون توكيدًا زائدة نحو قولك: زيد كان منطلق, إنما معناه:
زيد منطلق, وجاز الغاؤها لاعتراضها3 بين المبتدأ والخبر.
ذكر الضرب الثاني: وهو ما ارتفع بالحروف المشبهة بالأفعال. فمن ذلك
"ما" وهي تجري مجرى "ليس" في لغة أهل الحجاز, شبهت بها في النفي خاصة
لأنها نفي, كما أنها نفي, يقولون: ما عمرو منطلقًا, فإن خرج معنى
الكلام إلى الإيجاب لم ينصبوا كقولك: ما زيد إلا منطلق/80 وإن قدموا
الخبر على الاسم رفعوا أيضًا فقالوا: "ما منطلق زيد"4 فتجتمع
__________
1 الموجدة: الكرة.
2 ويكون من وجدت، في معنى علمت وذلك قولك: وجدت زيدا كريما، ومن ذلك
أيضا "رأيت" تكون من رؤية العين، وتكون من العلم كقوله عز وجل: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل} . وقال الشاعر خداش بن زهير:
رأيت الله أكبر كل شيء ... محافظة وأكثرهم جنودا
3 في "ب" باعتراضها.
4 اشترط سيبويه لعمل ما الحجازية شروطا، منها: أن لا يتقدم خبرها على
اسمها، وذلك لأنها فرع على ليس فلا تقوى قوة الفعل ولم تتصرف تصرفه،
وأن لا ينتقض نفيها بإلا، فإن انتقض بطل عملها كبطلان معنى "ليس" فلذلك
ارتفع قولك: ما زيد إلا منطلق، واستوت فيه اللغتان ومن ذلك قوله عز
وجل: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وذلك أن عملها إنما كان
لأجل النفي الذي به شابهت "ليس" فكيف تعمل مع زوال المشابهة، وأن لا
يبدل من خبرها موجب، فإن أبدل بطل عملها نحو: ما أنت إلا شيء لا يعبأ
به. وأن لا يقترن اسمها "بأن" الزائدة نحو: ما أن زيد ذاهب وقول
الشاعر:
وما أن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
انظر الكتاب 1/ 29، 362، 475.
(1/92)
اللغة الحجازية والتميمية فيهما معًا, لأن
بني تميم لا يعملونها في شيء ويدعون الكلام على ما كان عليه قبل النفي,
يعني الابتداء فإذا قلت: ما يقوم زيد فنفيت ما في الحال حسن. فإن قلت:
ما يقوم زيد1 غدًا كان أقبح, لأن هذا الموضع خصت2 به "لا"3 يعني نفي
المستقبل. ولو قلت: "ما قام زيد" كان حسنًا كأنه قال: "قام" فقلت أنت5:
ما قام, فإن6 أخرت فقلت: ما زيد قام أو يقوم, كان حسنًا أيضًا, وتقول:
ما زيد بقائم فتدخل الباء كما أدخلتها في خبر "ليس" فيكون موضع "بقائم"
نصبًا, فإن قدمت الخبر لم يجز لا تقول: ما بقائم زيد, من أجل أن خبرها
إذا كان منصوبًا لم يتقدم, والمجرور كالمنصوب, ولو قلت: ما زيد بذاهب
ولا بخارج أخوه: وأنت تريد أن تحمل "الأخ" على ما لم يكن كلامًا لأن
"ما" لا تعمل في الاسم إذا قدم خبره, وتقول: ما كل يوم مقيم فيه زيد
ذاهب فيه عمرو منطلقًا فيه خالد تجعل "مقيمًا"/ 81 صفةً "ليوم" وذاهب
فيه7 صفة "لكل" و"منطلقًا" موضع الخبر, هذا على لغة أهل الحجاز, وتقول:
ما كل ليلة مقيمًا فيها زيد, وإذا قلت: ما طعامك زيد آكل, وما فيك زيد
راغب ترفع الخبر لا غير, من أجل تقديم مفعوله, فقد قدمته في التقدير
لأن مرتبة8 العامل قبل المعمول فيه, ملفوظًا به أو مقدرًا, وقوم
__________
1 زيد: ساقطة في "ب".
2 في "ب" يكون.
3 في "ب" للا.
4 زيد: ساقطة في "ب".
5 أنت: ساقطة في "ب".
6 في "ب" وإن.
7 فيه: ساقطة في "ب".
8 مرتبة: ساقطة في "ب".
(1/93)
يجيزون إدخال الباء في هذه المسألة
فيقولون: ما طعامك زيد بآكل, وما فيك زيد براغب. إلا أنهم يرفعون الخبر
إذا لم تدخل الباء, ولا يجيزون نصب الخبر في هذه المسألة.
وتقول: ما زيد قائمًا, بل قاعد1 لا غير لأن النفي نصبه, ومن أجل النفي
شبهت "ما" بليس فلا يكون بعد التحقيق إلا رفعًا, وتقول زيد ما قام,
وزيد ما يقوم, ولا يجوز: زيد ما قائمًا ولا زيد ما قائم, ولا زيد ما
خلفك حتى تقول: ما هو قائمًا, وهو خلفك لأن "ما" حقها أن يستأنف بها
ولا يجوز أن تضمر فيها إذ كانت حرفًا ليس بفعل وإنما يضمر في
الأفعال/82 ولا يجوز: طعامك ما زيد آكل أبوه, على ما فسرت لك, وقد حكي
عن بعض من تقدم من الكوفيين إجازته, ويجوز إدخال من على الاسم الذي
بعدها إذا كان نكرةً تقول: ما من أحد في الدار, وما من رجل فيها. ويجوز
أن تقول: ما من رجل غيرك وغيرك بالرفع والجر, ويكون موضع رجل رفعا قال
الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} 2 وغيره على المعنى وعلى
اللفظ. وإنما تدخل "من" في هذا الموضع لتدل على أنه قد نفى كل رجل وكل
أحد. ولو قلت: ما رجل في الدار لجاز أن يكون فيها رجلان وأكثر, وإذا
قلت: ما من رجل في الدار, لم يجز أن يكون فيها أحد البتة. وقال
الأخفش3: إن شئت قلت -وهو رديء: ما
__________
1 تعرب "قاعد" خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: هو قاعد.
2 الأعراف: 59. وهود: 50. وقد قرئ في السبعة جميعها برفع الراء وضم
الهاء من "غيره" كما قرئ بكسر الراء والهاء، انظر النشر 2/ 270.
والإتحاف/ 226، غيث النفع/ 104.
3 الأخفش: هو الأخفش الأوسط: أخذ النحو عن سيبويه، وكان معتزليا حاذقا
في الجدل.
قال المبرد: كان الأخفش أكبر سنا من سيبويه. وكانا جميعا يطلبان، قال:
فجاء الأخفش يناظره، بعد أن برع، فقال له الأخفش: إنما ناظرتك لأستفيد
لا لغيره، فقال سيبويه: أتراني أشك في هذا؟ ومات سنة 210هـ ترجمته في
أخبار النحويين البصريين/ 38، وطبقات الزبيدي/ 74، وإنباه الرواة 2/
36، ونزهة الألباء/ 185.
(1/94)
ذاهبا إلا أخوك1, وما ذاهبا إلا جاريتك
تريد: ما أحد ذاهبًا, وهذا رديء لا يحذف "أحد" وما أشبهه حتى يكون معه
كلام نحو: ما منهما مات حتى رأيته يفعل كذا وكذا, و"مات" في موضع نصب
على مفعول "ما" في لغة أهل الحجاز/ 83 وفي كتاب الله تعالى: {وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِه} 2. والمعنى: ما من
أهل الكتاب أحد, {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} 3. أي: وإن أحد
منكم, ومعنى: "إن" معنى: "ما" فقد بان أن في "ما" ثلاث لغات: ما زيد
قائمًا وما زيد بقائم وما زيد قائم, والقرآن جاء بالنصب4 وبالباء ومما
شبه من الحروف بـ"ليس" "لات" شبهها بها أهل الحجاز وذلك مع الحين خاصة,
قال الله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاص} 5 قال سيبويه6: تضمر فيها
مرفوعًا, قال: نظير "لات" في أنه لا يكون إلا مضمرًا فيها "ليس" و"لا
يكون" في الاستثناء إذا قلت: أتوني ليس زيدًا, ولا يكون
__________
1 في "ب" أخواك.
2 النساء: 159، قال الزمخشري في الكشاف جـ1/ 312، جملة "ليؤمن به" جملة
قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: "وإن من أهل الكتاب أحد إلا
ليؤمن به". والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته
بعيسى، وبأنه عبد الله ورسوله. وفي البحر المحيط 3/ 392: قال الزجاج:
وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي. يدخله الاستثناء نحو: ما قام إلا زيد
معناه: ما قام أحد إلا زيد.
وقال: قال أبو حيان مشيرا إلى كلام الزمخشري: وهو غلط فاحش، صفة "أحد"
الجار والمجرور، وهو من أهل الكتاب. وجملة "ليؤمنن به" جواب القسم
المحذوف، القسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو "أحد" المحذوف،
وانظر المغني 1/ 166.
3 مريم: 71.
4 من ذلك قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} . {مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ} .
5 ك ص: 3.
6 سيبويه: هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريين في النحو
غير منازع، أصله من فارس. ونشأ بالبصرة، وكان في لسانه حبسة، أخذ النحو
عن أعلم العلماء العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي، وعيسى بن عمرو،
ويونس بن حبيب، وكتابه أعظم كتب النحو منذ دون للآن.
قيل: مات بشيراز سنة 180هـ عن 32 سنة. وقيلت أقوال كثيرة غير ذلك. وقد
ذكر السيرافي نسبه بالتفصيل: انظر شرح الكتاب جـ1/ 308 وأخبار
النحويين/ 37.
(1/95)
بشرًا, قال: وليست لات كـ"ليس" في المخاطبة
والإِخبار عن غائب, تقول: لست وليسوا. وعبد الله ليس منطلقًا, ولا
تقول: عبد الله لات منطلقًا, ولا قومك لاتوا منطلقين. قال: وزعموا: أن
بعضهم قرأ: ولات حين مناص وهو عيسى1 بن عمر وهي قليلة كما قال بعضهم في
قول سعيد بن مالك:
مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحُ2
فجعلها بمنزلة "ليس"3 قال: و"لات" بمنزلة "لا" في هذا الموضع في/ 84 في
الرفع ولا يجاوز بها الحين4 يعني: إذا رفعت ما بعدها تشبيهًا "بليس"
فلم يجاوز بها الحين أيضًا وأنها لا تعمل إلا في "الحين" رفعت أو
__________
1 عيسى بن عمر: مولى خالد بن الوليد المخزومي إمام النحو في عصره، وله
فيه كتابان: الجامع والإكمال وفيهما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
توفي سنة 149هـ ترجمته في طبقات الزبيدي رقم 12، والإرشاد لياقوت جـ1/
100، ونزهة الألباء/ 25، وأخبار النحويين للسيرافي/ 25.
2 من شواهد الكتاب 1/ 28، على إجراء "لا" مجرى ليس في بعض اللغات كما
أجريت "ما" مجراها في لغة أهل الحجاز.
3 وقوله: ابن قيس: أي: قيس بن ثعلبة الحصن المعروفة بشجاعتها والبراح،
مصدر: برح براحا إذا زال من مكانه. وانظر: الكتاب 1/ 354. والمقتضب 4/
36. وشرح السيرافي 3/ 62. والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 54. وشرح
الحماسة 2/ 73. والإنصاف/ 367. وابن يعيش 1/ 108. وأمالي ابن الشجري 1/
282. والمغني 1/ 264. والخزانة 1/ 223. والعيني 2/ 60. والأشباه
والنظائر 4/ 60. والسيوطي 208، والتصريح 1/ 199، والأشموني 1/ 422.
4 انظر الكتاب جـ1/ 28.
(1/96)
نصبت. وقال الأخفش الصغير1 أبو الحسن سعيد
بن مسعدة: إنها لا تعمل في القياس2 شيئًا.
قال أبو بكر: والذي قال سيبويه: أنه يضمر في "لات" إن كان يريد أن يضمر
فيها كما يضمر في الأفعال فلا يجوز لأنها حرف من الحروف والحروف لا
يضمر فيها, وإن كان يريد أنه حذف الاسم بعدها وأضمره المتكلم كما فعل
في قوله في "ما" ما منهما مات أراد "أحدًا"3 فحذف وهو يريده فجائز.
وقوم يدخلون في باب "كان" عودة الفعل كقولك: لأن ضربته لتضربنه السيد
الشريف وقولك: عهدي بزيد قائمًا, وهذا يذكر مع المحذوف والمحذوفات,
ومما شبه أيضًا بالفاعل في اللفظ أخبار الحروف التي تدخل على المبتدأ
وخبره فتنصب الاسم وترفع الخبر وهي إن وأخواتها, وسنذكرها مع ما ينصب,
وهذه الحروف/85 أعني "إن واخواتها" خولف بين عملها وبين عمل الفعل بأن
قدم فيها المنصوب على المرفوع. وإنما أعملوا "ما" على "ليس" لأن معناها
معنى "ليس" لأنها نفي كما أنها نفي ومع ذلك فليس كل العرب يعملها عمل
"ليس" إنما روي ذلك عن أهل الحجاز, وكان حق "ما" أن لا تعمل شيئًا إذ
كانت تدخل على الأسماء والأفعال ورأيناهم4 إنما أعملوا من الحروف في
الأسماء ما لا يدخل على الأفعال وأعملوا منها في الأفعال ما لا يدخل
على الأسماء. فأما ما يدخل على الأسماء والأفعال منها فألغوه من
العمل5, وقد بين هذا فيما مضى, وإذ قد ذكرنا ما يرتفع من الأسماء فكان
__________
1 الأخفش الصغير عندنا في الوقت الحالي، هو أبو الحسن علي بن سليمان،
وكان قد قرأ على ثعلب والمبرد، مات سنة 315هـ، وهو من معاصري ابن
السراج، فربما أراد المؤلف: أنه صغير عنده بالنسبة للأخفش الكبير أبي
الخطاب، وفي نسخة "ب" لم يذكر "الصغير" فقد يكون الناسخ أضاف هذه
الكلمة.
2 القياس: ساقطة في "ب".
3 في الأصل "أحدا" بالرفع.
4 في "ب" ولم نرهم.
5 العمل: ساقطة في "ب".
(1/97)
ما يرتفع منها بأنه مبتدأ وخبر, مبتدأ,
معنيان فقط, لا يتشعب منهما فنون كما عرض في الفعل أن منه متصرفًا أو
غير متصرف, ومنه أسماء شبهت بالفعل, وقد ذكرنا الفعل المتصرف فلنذكر
الفعل الذي هو غير متصرف, ثم نتبعه بالأسماء إن شاء الله.
(1/98)
|