الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 108- مسألة: [هل يجوز نقل حركة همزة الوصل
إلى الساكن قبلها؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
وأجمعوا على أنه يجوز نقل حركة همزة القطع إلى الساكن قبلها كقولهم
"مَنْ ابُوكَ، وكم ابِلُكَ".
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على ذلك: النقل، والقياس.
أما النقل فقد قال الله تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
[آل عمران: 1-2] فنقل فتحة الهمزة: "اللَّهُ" إلى الميم قبلها، وحكى
الكسائي قال: قرأ عليَّ بعض العرب سورة {ق} فقال: "مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبًا الذي" [ق: 25] بفتح التنوين؛ لأنه نقل فتحة همزة
"الَّذِي" إلى التنوين قبلها، وحكي أيضا عن بعض العرب "بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ" [الفاتحة: 1-2] بفتح
الميم؛ لأنه نقل فتحة همزة: "الْحَمْدُ" إلى الميم قبلها، وقرأ أبو
جعفر يزيد بن القَعْقَاع المدني وهو من سادات أئمة القراء وهو أحد
القَرَأَة العشرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة:
34] فنقل ضمة همزة "اسْجُدُوا" إلى التاء قبلها؛ فدلّ على جوازه.
وأما القياس فلأنها همزة متحركة؛ فجاز أن تنقل حركتها إلى الساكن قبلها
كهمزة القطع في قولهم "من ابُوكَ، وكم ابِلُكَ" وما أشبه ذلك.
والذي يدلّ على صحة ما ذكرناه أنهم يقولون "وَاحِدِ اثنانْ" فيكسرون
الدال من "وَاحِد" وأجمعنا وإياكم على أن كسرة الدال إنما كانت لإلقاء
حركة همزة "اثنانِ" عليها لالتقاء الساكنين، ولا خلاف أن همزة "اثنانِ"
همزة وصل، فدلَّ على صحة ما ذكرناه,
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص1320 – 1323".
(2/610)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما
قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الهمزة إنما يجوز أن تنقل حركتها إذا ثبتت في
الوصل نحو: "مَنَ ابوك" في "مَنْ ابوك" و"كَمِ ابِلُكَ" في "كَمْ
إِبلكَ" فأما همزة الوصل فتسقط في الوصل؛ فلا يصح أن يقال إن حركتها
تنقل إلى ما قبلها؛ لأن نقل حركة معدومة لا يتصور، ولو جاز أن يقال إن
حركتها تنقل لكان يجب أن يثبتها في الوصل فيقول: قال ألرّجُل، وذهب
ألغلام، حتى يجوز له أن يقدر نقل حركتها، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال:
"أخذت عن ألرجل" بسكون النون وقطع الهمزة وبفتح النون على نقل الحركة
كما يقال: "من أبوكَ، ومن ابوكَ" فلما لم يَقُلْ ذلك بالإجماع دلّ على
فساد ما ذهبتم إليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {الم،
اللَّهُ} [آل عمران: 1-2] فلا حجة لهم فيه؛ لأن حركة الميم إنما كانت
لالتقاء الساكنين -وهما الميم واللام من "الله" وزعم بعضهم أن الساكنين
هما الميم والياء قبلها، وهذا عندي باطل؛ لأنه لو كان التحريك في قوله:
{الم، اللَّهُ} لسكونها وسكون الياء قبلها لكان يجب أن تكون متحركة في
قوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] فلما كانت ساكنة دلّ على
أنها حركت ههنا لسكونها وسكون اللام بعدها؛ لا لسكونها وسكون الياء
قبلها، وكانت الحركة فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن قبلها
ياء قبلها كسرة فلو كسر لأدّى ذلك إلى اجتماع كسرة قبلها ياء قبلها
كسرة، والياء تعدُّ بكسرتين؛ فيؤدّي في التقدير إلى اجتماع أربع كسرات
متواليات، وذلك ثقيل جدا فعدلوا عنه إلى الفتح لأنه أخفُّ الحركات.
وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة بعض العرب "مُرِيبِنَ الذي" فإن
الفتحة في التنوين ليس عن إلقاء حركة همزة "الَّذِي" وإنما حركت
لالتقاء الساكنين -وهما التنوين، واللام من "الَّذِي" وكانت الحركة
فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن ما قبل التنوين كسرة وقبل
الكسرة ياء قبلها كسرة، فالياء تعد بكسرتين على ما بينا؛ فعدل في هذه
القراءة عن الكسر لئلا يجمع في التقرير بين خمس كسرات متواليات، وعدل
عنه إلى الفتح لأنه أخف الحركات، وإذا كانوا قد فتحوا "أين، وكيف" لئلا
يجمعوا بين ياء وكسرة مع كثرة الاستعمال، ولا يوجد فيه من الاستثقال ما
يوجد ههنا، فلأن يفتحوا ههنا كان ذلك من طريق الأولى، على أنه لا يجوز
لأحد أن يقرأ بهذه القراءة لأنه لا إمام لها، وكذلك ما حكاه عن بعض
العرب من فتح الميم من: "الرَّحِيمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ" لأنها لا إمام
لها، على أنه لا وجه للاحتجاج بها؛ لأن فتح الميم فتحة إعراب؛ لأنه لما
(2/611)
تكرر الوصف عدل به إلى النصب على المدح
بتقدير أعني، كما قالت امرأة من العرب1:
[295]
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازلون بكل مُعْتَرِكٍ ... والطَّيِّبين مَعَاقِدَ الأَزْرِ
وهذا كثير في كلامهم، وقد بينا ذلك قبل:
وأما قراءة أبي جعفر {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا}
[البقرة: 34] فضعيفة في القياس جدا والقُرَّاء على خلافها، على أنها لا
حجة لهم فيها. وذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الخلاف إنما وقع في نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها،
وههنا ليس ما قبلها ساكنا، وإنما هو متحرك؛ لأن التاء من
"الْمَلائِكَةِ" متحركة، فهذا احتجاج على غير محل الخلاف.
والثاني: أن هذا لا تقولون به؛ فإنه لا يجوز عندكم نقل حركة همزة الوصل
إلى المتحرك قبلها.
الثالث: أنا نقول: إنما ضمت هذه التاء إتباعا لضمة الجيم في
"اسْجُدُوا" وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يكون قد نَوَى الوقف فسكنت
التاء وضمها تشبيهًا بضمة التاء في قراءة من قرأ: {وَقَالَتُ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31] بإتباع ضمة التاء ضمة الراء؛ لئلا يخرجوا من
كسر إلى ضم كما ضموا الهمزة، ونحو هذا الإتباع قراءة من قرأ أيضا:
{جَنَّاتٍ وَعُيُونٌ ادخلوها} [الحجر: 45] بضم التنوين إتباعا لضمة
الخاء من: "ادْخُلُوهَا" وهذا كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب.
والثاني: أنه أتبع الضم الضم، كما أتبع الكسر في قراءة الحسن البصري:
"الْحَمْدِ لِلَّهِ" فكسر الدال إتباعا لكسرة اللام، وكقولهم "منتن"
بكسر الميم، والأصل فيه "منتن" بضم الميم، فكسروها إتباعا لكسرة التاء،
ومنهم من يقول "منتن" بضم التاء، والأصل فيها الكسر، إتباعا لضم الميم،
كقراءة ابن أبي عبلة: "الْحَمْدُ لُلَّهِ" بضم اللام والأصل فيها الكسر
إتباعا لضمة الدال.
وعلى كل حال فهذه القراءة ضعيفة في القياس، قليلة في الاستعمال.
وأما قولهم "إنها همزة متحركة فجاز أن تنقل حركتها إلى الساكن قبلها
كهمزة القطع" قلنا: قد بينا الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع بما يغني
عن الإعادة؛ فلا يجوز أن تحمل إحداهما على الأخرى.
__________
1 هي الخرنق أخت طرفة بن العبد لأمه كما تقدم ذكره في شرح هذا الشاهد
سابقا.
(2/612)
وأما قولهم "أجمعنا على أن كسرة الدال في
قولهم واحد اثنان إنما كان لإلقاء حركة همزة اثنان، وهمزة اثنان همزة
وصل" قلنا: إنما جاز ذلك ههنا لأن "واحد" في حكم الوقف كنحوه في العدد،
و"اثنان" في حكم المستأنف المبتدأ به، وإذا كان في حكم المستأنف
المبتدأ به كانت همزته بمنزلة همزة القطع، وإن كانت همزة وصل؛ لأن همزة
القطع وهمزة الوصل تستويان في الابتداء؛ ولهذا يقولون "واحد إثنان"
فيثبتون فيه الهمزة وإن كانت همزة وصل؛ لأن "واحد" في حكم الوقف،
و"إثنان" في حكم المستأنف، ولذلك يقولون "ثلاثة اربعة" فيحذفون الهمزة
من "أربعة" ولا يقبلون الهاء من ثلاثة تاء؛ لأن الثلاثة عندهم في حكم
الوقف والأربعة في حكم المستأنف، وهم إنما يقلبون الهاء تاء في حالة
الوصل، وإذا كانت في تقدير الوقف بقيت هاء، وإن ألقيت عليها حركة ما
بعدها، كما تكون هاء إذا لم يكن بعدها شيء والله أعلم.
(2/613)
109- مسألة: [هل يجوز مد المقصور في ضرورة
الشعر؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز مَدُّ المقصور في ضرورة الشعر، وإليه ذهب
أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
وأجمعوا على أنه يجوز قصر الممدود في ضرورة الشعر، إلا أن الفراء من
الكوفيين اشترط في مد المقصور وقصر الممدود شروطًا لم يشترطها غيره؛
فذهب إلى أنه لا يجوز أن يمد من المقصور ما لا يجيء في بابه ممدود، نحو
فَعْلَى تأنيث فَعْلَان نحو سكرى وعطشى؛ فهذا لا يجوز أن يمد؛ لأن
مذكره سكران وعطشان، وفَعْلَى تأنيث فعلان لا تجيء إلا مقصورة، وكذلك
حكم كل ما يقتضي القياس أن يكون مقصورًا وكذلك لا يجوز أن يُقْصَرَ من
الممدود ما لا يجيء في بابه مقصور، نحو تأنيث أفعل نحو بيضاء وسوداء؛
فهذا لا يجوز أن يقصر؛ لأن مذكره أبيض وأسود، وفعلاء تأنيث أفعل لا
يكون إلا ممدودًا، وكذلك حكم كل ما يقتضي القياس أن يكون ممدودًا، فأما
ما عدا ما يوجب القياس أن يكون مقصورا أو ممدودا من المقصور والممدود
فإنه يجوز أن يمد منه المقصور ويقصر منه الممدود إذ كان له نظير من
المقصور أو الممدود؛ فيجوز عنده مَدُّ "رحًى، وهدًى، وحِجًى" لأنها إذا
مدت صارت إلى مثل سماء ودعاء ورداء، ويجوز عنده قصر "سماء، ودعاء،
ورداء" لأنها إذا قصرت صارت إلى مثال رحى وهدى وحجى، فأما ما لا مثال
له من المقصور والممدود إذا مُدَّ وقُصِرَ فلا يخرج عن بابه من المد
والقصر؛ فهذا تفصيل المذاهب.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز مد المقصور أنه قد
جاء ذلك عن العرب في أشعارهم، قال الشاعر:
[454]
قد علمتْ أمُّ أبي السِّعْلاء ... وعَلِمَتْ ذَاكَ مع الجَرَاء
__________
[454] هذه خمسة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشدها -إلا الثاني- ابن
منظور "ل هـ ا" =
__________
1 انظر في المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 91" وتصريح الشيخ
خالد الأزهري "2/ 368".
(2/614)
أنْ نِعْمَ مَأكُولًا على الخَواء ... يا
لك من تمر ومن شَيشَاءِ
يَنْشَبُ في المَسْعَل واللهَاءِ
والسعلاءُ والخواءُ واللهاءُ كله مقصور في الأصل، ومده لضرورة الشعر؛
فدل على جوازه، وقال الآخر:
[455]
إنما الفقر والغناء من ... الله؛ فهذا يعطي، وهذا يُحَدُّ
فمدَّ الغناء وهو مقصور، فدل على جوازه، وقال الآخر:
[456]
سيغنيني الذي أغناك عنِّي ... فلا فقر يدوم ولا غناء
__________
= وأنشد رابعها وخامسها ابن يعيش "ص801" والأشموني "رقم 1157" وابن
عقيل "رقم 353" وقد قال الفراء: إن هذا الرجز لأعرابي من أهل البادية،
ولم يسمه، وقال أبو عبيد البكري: هو لأبي المقدام الراجز. والسعلاء
-بكسر السين وسكون العين- أصله السعلاة، قيل: هي الغول، وقيل: ساحرة
الجن، وتجمع على السعالي، والعرب تشبه المرأة العجوز بالسعلاة، قال
الراجز:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزًا مثل السعالي خمسا
وقال الأعشى:
رب رفد هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقتال
وشيوخ حربي بشطي أريك ... ونساء كأنهن السعالي
والجراء -بفتح الجيم أو كسرها- الفتاء، تقول: هذه جارية بينة الجراء،
والجراية والجرائية، والجري، أي بينة الصبا والفتاة، والخواء: الخلاء،
تقول: خوي الربع يخوى، إذا خلا من أهله، لكن الأصمعي حكى في مصدر هذا
الفعل أنه ممدود في الأصل والشيشاء -بشينين معجمتين أولاهما مكسورة
وبينهما ياء- هو الشيص، وهو أردأ التمر، وينشب: يعلق، والمسعل: موضع
السعال من الحلق، واللهاء -بفتح اللام، وبالمد، وأصله القصر- جمع لهاة،
وهي هنة مطبقة في أقصى سقف الفم. ومحل الاستشهاد من هذه الأبيات قوله
"السعلاء" وقوله "اللهاء" فإن أصل هاتين الكلمتين القصر فأصل الأولى
السعلاة، وأصل الثانية اللهاة، ولكن الراجز قد مدهما حين اضطر، وقد زعم
المؤلف أن "الخواء" أصله القصر، ولكن الراجز مدّه أيضا، ولكن الأصمعي
كما حدثناك قد حكى أن أصل "الخواء" ممدود، والخطب في ذلك سهل، فإنه
يكفي الاستشهاد بالكلمتين السابقتين.
[455] يحد -بالبناء للمجهول- أي يمنع ويحرم، والاستشهاد بهذا البيت في
قوله "والغناء" فإن هذه الكلمة في الأصل مقصورة، والغنى -بكسر الغين
مقصورا- ضد الفقر، وفي الحديث "خير الصدقة ما أبقت غنى" وفي رواية "خير
الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وأصله مصدر "غني يغنى" بوزن رضي يرضى، وقد
مدّه الشاعر في هذا البيت حين اضطر لإقامة وزن البيت.
[456] هذا البيت من شواهد الأشموني "رقم 1156" وأوضح المسالك "قم 537"
وشرحه العيني "4/ 513 بها مش الخزانة" وأنشده ابن منظور "غ ن ي" ومحل
الاستشهاد منه قوله "ولا غناء" فإن أصل هذه الكلمة "ولا غنى" بكسر
الغين مقصورا، ولكن الشاعر مدّه حين =
(2/615)
وقول الآخر:
[457]
لم نرحِّبْ بأن شَخَصْتَ، ولكن ... مرحبا بالرِّضَاءِ منك وأَهْلَا
فهذه الأبيات كلها تدل على جوازه.
وأما من جهة القياس فإنما قلنا إنه يجوز مد المقصور لأنا أجمعنا على
أنه يجوز في ضرورة الشعر إشباع الحركات التي هي الضمة والكسرة والفتحة
فينشأ عنها الواو والياء والألف؛ فإشباع الضمة كقوله:
[8]
كأن في أنيابها القَرَنْفُولُ
__________
= اضطر لإقامة وزن البيت، وزعم قوم أنه بفتح الغين من قولهم "هذا رجل
لا غناء عنده" فيكون ممدودا أصالة، وزعم آخرون أنه بكسر الغين وأنه
مصدر "غانيته أغانيه غناء -مثل راميته أراميه رماء" إذا فاخرته وباهيته
في الغنى بكسر الغين وبالقصر، قال ابن منظور "وأما قوله:
سيغنيني الذي أغناك.... البيت
فإنه يروى بالفتح والكسر، فمن رواه بالكسر أراد مصدر غانيت، ومن رواه
بالفتح أراد الغني نفسه، قال أبو إسحاق: إنما وجهه ولا غناء -يعني بفتح
الغين- لأن الغناء غير خارج من معنى الغنى، وكذلك أنشده من يوثق بعلمه"
ا. هـ. وقال ابن هشام "واختلفوا في جواز مد المقصور للضرورة، فأجازه
الكوفيون متمسكين بنحو قوله:
فلا فقر يدوم ولا غناء
ومنعه البصريون، وقدروا الغناء في البيت مصدرا لغانيت لا مصدرا لغنيت،
وهو تعسف" ا. هـ.
[457] شخص الرجل يشخص -مثل فتح يفتح- شخوصًا، إذا ذهب من بلد إلى بلد،
والرضاء: ضد السخط؛ ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "بالرضاء" فإن
أصله الرضا مقصورا، لكن الشاعر لما اضطر لإقامة الوزن مده، وبهذا يستدل
الكوفيون على أنه يجوز للشاعر إذا ألجأته الضرورة أن يمد المقصور، كما
يجوز له عند الضرورة أن يقصر الممدود، ولكن الأخفش -على ما في اللسان-
حكى أن مصدر "رضي" هو الرضا بالقصر، ومنه قول القحيف العقيلي:
إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
والاسم الرضاء بالمد، فيجوز -إن صح هذا- أن يكون الرضاء في بيت الشاهد
اسما لا مصدرا، فيكون ممدودا أصالة، وبهذا يسقط استدلال الكوفيين بهذا
البيت وقد أنشد الكوفيون للاستلال على ما ذهبوا إليه قول العجاج:
والمرء يبليه بلاء السربال ... كرّ الليالي وانتقال الأحوال
وهذا البيت من شواهد الأشموني في المسألة "رقم 1155" وإنما يتم
الاستدلال لهم بهذا البيت إذا قرئ "بلاء السربال" بكسر الباء، فإنه
يقال: بلي الثوب يبلى بلى مثل رضي يرضى رضى -وأما إذا فتحت الباء فإنه
ممدود أصالة، قال ابن منظور "بلي الثوب يبلى بلى، وبلاء، وأبلاه
صاحبه.. إذا فتحت الباء مددت، وإذا كسرت قصرت، ومثله القرى والقراء،
والصلى والصلاء" ا. هـ.
(2/616)
أراد "القُرُنْفُلَ" وإشباعُ الكسرة كقوله:
[16]
لا عهد لي بِنِيضَالْ
أراد بِنِضالٍ، وإشباع الفتحة كقوله:
[10]
أقول إِذْ خرَّت على الكَلْكَال
أراد الكَلْكَلَ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في غير هذه المسألة1، فإذا كان
هذا جائزا في ضرورة الشعر بالإجماع جاز أن يشبع الفتحة قبل الألف
المقصورة فتنشأ عنها الألف فيلتحق بالممدود.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز مد المقصور
لأن المقصور هو الأصل، والذي يدل على أن المقصور هو الأصل أن الألف
تكون فيه أصلية وزائدة، والألف لا تكون في الممدود إلا زائدة، والذي
يدل على ذلك أيضا أنه لو لم يعلم الاسم هل هو مقصور أو ممدود لوجب أن
يلحق بالمقصور دون الممدود؛ فدلّ على أنه الأصل، وإذا ثبت أن المقصور
هو الأصل فلو جوّزنا مدّ المقصور لأدّى ذلك إلى أن نردّه إلى غير أصل،
وذلك لا يجوز، وعلى هذا يخرج قصر الممدود؛ فإنه إنما جاز لأنه رَدٌّ
إلى أصل، بخلاف مد المقصور؛ لأنه ردٌّ إلى غير أصل، وليس من ضرورة أن
يجوز الردّ إلى أصل أنه يجوز الردّ إلى غير أصل، وهذا لا إشكال فيه:
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول الشاعر:
[454]
قد علمت أم أبي السَّعْلَاءِ
الأبيات إلى آخرها -فلا حجة فيها؛ لأنها لا تعرف، ولا يعرف قائلها، ولا
يجوز الاحتجاج بها، ولو كانت صحيحة لتأولناها2 على غير الوجه الذي
صاروا إليه.
وأما قول الآخر:
[455]
إنما الفقر والغناء من الله
وقول الآخر:
[456]
فلا فقر يدوم ولا غناء
فلا حجة لهم فيه أيضا، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن الإنشاد بفتح
__________
1 انظر المسألة الثانية من مسائل هذا الكتاب.
2 في ر "لتناولناها" وظاهر أن ذلك تحريف عما أثبتناه.
(2/617)
الغين والمدّ، والغناء ممدوح بمعنى
الكفاية، قال طرفة:
[458]
ولا تجعليني كامرئ ليس هَمُّهُ ... كهمِّي، ولا يغني غَنَائِي
ومَشْهَدِي
والوجه الثاني: أنا نسلم أن الرواية بكسر الغين، ولكن تكون مصدرًا
لغانيته:
أي فاخرته بالغني، يقال: غانيته أغانيه غناء، كما يقول: والَيْتهُ
أُوَالِيهِ ولاء، وعاديته أعاديه عداء بمعنى واليته؛ قال امرؤ القيس:
[459]
فَعادَى عداء بين ثور ونعجة ... دِرَاكا، ولم يَنْضَخْ بماء فَيُغْسَلِ
__________
[458] هذا هو البيت الرابع والتسعون من قصيدة طرفة بن العبد البكري
المعلقة "انظر شرح التبريزي ص96" وقبله قوله:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا ابنة معبد
وانعيني: أي اذكري من أفعالي ما أنا خليق به وأهل له، وليس همه كهمي:
يريد ليس عزمه مثل عزمي ولا طلبه للمعالي مثل طلبي، ولا يغني غنائي: أي
لا ينفع في المواطن التي أنفع فيها ولا يسد كما أسد، يريد أنه لا يكون
مثله في المواطن التي تظهر فيها قيم الرجال كمواطن الحرب ومجالس
الخصومات والمفاخرات. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "غنائي" فإنه
بفتح الغين، وهو ممدود أصالة، ومعناه النفع والكفاية، والمؤلف يريد
بإنشاد هذا البيت أن يقول: إنه يجوز أن يكون "الغناء" في الشاهد رقم
455 و"غناء" في الشاهد رقم 456 مثل "غنائي" في بيت طرفة هذا بفتح الغين
وبمعنى الكفاية والنفع، وعلى هذا يكون ممدودا أصالة، ولا يكون فيه شاهد
للكوفيين لأن الشاعر أتى به على أصله، وقد ذكرنا لك هناك أن هذا الكلام
لا يصح أن يؤخذ به وذكرنا لك كلام ابن هشام في الردّ على هذا الكلام،
وقال في آخره: إن تمحلات البصريين في الردّ على الكوفيين تعسف.
[459] هذا هو البيت السادس والستون من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي
"انظر شرح التبريزي على المعلقات ص46 ط السلفية" وقد أنشده ابن منظور
"ع د ي" وعزاه إليه، وعادى: معناه والى بين اثنين في طلق واحد ولم
يعرق، تقول: عادى الفارس بين صيدين، وبين رجلين، إذا طعنهما طعنتين
متواليتين، والعداء: مصدر هذا الفعل، وهو بكسر العين ممدودًا، ومعناه
الموالاة والمتابعة بين الاثنين يصرع أحدهما على إثر الآخر في طلق
واحد، ودراكًا: أي مداركة، وهو مصدر في موضع الحال، يصف امرؤ القيس
فرسه بالسرعة وأنه يدرك الوحش ويمكن راكبه من صيدها من غير أن يظهر
عليه أثر الجهد والتعب حتى إنه لا يعرق مع شدة جريه. ومحل الاستشهاد من
هذا البيت قوله "عداء" فإنه بكسر العين المهملة مصدر عادى، وهو ممدود
قياسي، وغرض المؤلف من إنشاد هذا البيت ههنا أن يقول: إنه يجوز أن يكون
"الغناء" في البيتين "رقم 455 و456" واللذين أنشدهما الكوفيون بكسر
الغين كما قالوا، لكن لا على أنهما مصدر غني كرضي، بل على أنهما مصدر
"غانى" أي فاخر في الغنى، ولست في حاجة إلى أن نعيد عليك هنا قول ابن
هشام "وهو تعسف" وقد وافق الكوفيين في هذه المسألة ابن ولاد وابن خروف،
وقد قرأ طلحة بن مصرف في قوله تعالى: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار"
بمد السّنا وأصله =
(2/618)
فكذلك ههنا، وهذا هو الجواب عن قول الآخر:
[457]
.................. ولكن ... مرحبًا بالرِّضَا منك وأَهْلَا
لأن "الرضاء" مصدر راضيته مُرَاضاة ورضاء، فلا يكون فيه حجة.
وأما قولهم: "إنه يجوز إشباع الحركات فتنشأ عنها الحروف -إلى آخر ما
ذكروه" فنقول: الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن إشباع الحركات هناك يؤدِّي
إلى تغيير واحد، وهو زيادة هذه الحروف فقط، وأما ههنا فإنه يؤدي إلى
تغييرين: زيادة الألف الأولى، وقلب الثانية همزة؛ وليس من ضرورة أن
يجوز ما يؤدي إلى تغيير واحد أن يجوز ما يؤدي إلى تغييرين وأكثر من
ذلك.
وأما ما ذهب إليه الفراء -من اشتراطه في قصر الممدود أن يجيء في بابه
مقصور- فباطل، لأنه قد جاء القصر فيما لم يجئ في بابه مقصور، قال
الشاعر:
[460]
والقارح العدَّاء وكل طِمِرَّةٍ ... ما إن تنال يد الطويل قَذَالَهَا
فقصر "العداء" وهو فَعَّال من العَدْو، وفعَّال لتكثير الفعل، نحو
__________
= مقصور، فإذا صحت رواية هذه القراءة دل على جواز مد المقصور في سعة
الكلام، ولم يقصر الجواز على الضرورة.
[460] هذا هو البيت السادس والعشرون من قصيدة للأعشى ميمون مطلعها قوله
"وانظر ديوانه ص22-27":
رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبي عليك، فما تقول بدالها؟
وقبل البيت المستشهد به قوله:
الواهب المائة الهجا وعبدها ... عوذا تزجي بينها أطفالها
وأنشد ابن منظور بيت الشاهد "ع د ا" وعزاه إليه، غير أنه روى عجزه "لا
تستطيع يد الطويل قذالها" ورواية الديوان كرواية المؤلف، والعوذ -بضم
العين- جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج، والقارح: أراد به الفرس الذي
اكتمل سنة، والطمرة -بكسر الطاء والميم جميعا مع تشديد الراء- الوثابة،
ويقال: هي المشرفة، أي العالية، وهذا هو الذي يتنساب عجز البيت، ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "العداء" فإن أصله "العداء" صيغة مبالغة
فعلها عدا يعدو، فأصله ممدود قياسي، ولكن الشاعر قصره حين اضطر لإقامة
وزن البيت، قال ابن منظور "أراد العداء، فقصره للضرورة، وأراد لا
تستطيع يد الطويل نيل قذالها، فحذف للعلم بذلك" ا. هـ. وأراد المؤلف من
الاستشهاد بهذا البيت الردّ على الفرّاء الذي اشترط لجواز قصر الممدود
أن يكون قد ورد في بابه مقصور، ووجه الرد من هذا البيت أن الشاعر قد
قصر "العداء" وهو صيغة مبالغة كما قلنا فعلها عدا يعدو، ولم يأتِ في
صيغ المبالغة مقصور حتى يحمل هذا عليه.
(2/619)
"ضرَّاب وقتَّال"1 ولا يجيء في بابه مقصور،
وقال الآخر:
[461]
ولكنَّما أُهْدِي لِقَيْس هَدِيَّةً ... بِفِيَّ مِنِ اهداها لك
الدَّهر إِثْلِبُ
فقصر "إهْدَاهَا" وهو مصدر أَهْدَى يُهْدِي إهداء، ولا يجيء في بابه
مقصور، ألا ترى أن نظيره من الصحيح أكرم إكراما وأخرج إخراجا، وما أشبه
ذلك، وقال الآخر:
[245]
فلو أنَّ الأطِبَّا كان حَوْلِي ... وكان مع الأطباء الأُسَاةُ
فقصر "الأطباء" وهو جمع طبيب، ولا يجيء في بابه مقصور؛ لأن القياس يوجب
مده؛ لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طُبَبَاء على مثال فعلاء، كشريف
وشرفاء وظريف وظرفاء؛ إلا أنه اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد
فاستثقلوا اجتماعهما، فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فصار أَطْبِبَاء،
فاستثقلوا أيضا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فنقلوه كسرة الباء
الأولى إلى الطاء، فرارًا من الاستثقال، وأدغموا الباء في الباء، فصار
أطِبَّاء، وكذلك حكم ما جاء على هذا المثال في جمع فَعِيل من المضاعف،
كقولهم: حبيب وأحبَّاء، وخليل وأخِلَّاء، وجَلِيل وأجِلَّاء، وما أشبه
ذلك، ولا يجوز في القياس أن يقع شيء من هذا الجمع إلا ممدودا، فلما قال
"الأَطِبَّاء" فقصر ما يوجب القياس مادة دلّ على فساد ما ذهب إليه،
والله أعلم.
__________
[461] أنشد ابن منظور هذا البيت "ث ل ب" ولم يعزه، وقوله "بفي" أي
بفمي، وهو متعلق بقوله أهدي، يريد أنه يهديه كلاما، و"له الدهر إثلب"
جملة مستأنفة، يريد: له الدهر إثلب من إهدائي إياها، والإثلب: التراب
والحجارة، وقال شمر: الأثلب بلغة أهل الحجاز الحجر، وبلغة تميم التراب،
وهمزة الإثلب مكسورة أو مفتوحة، والفتح أكثر. ومحل الاستشهاد من هذا
البيت قوله "اهداها" فإن أصل هذه الكلمة "إهدائها" لأنه مصدر أهدى إليه
هدية يهديها إهداء -مثل أكرمه يكرمه إكراما- فهو ممدود قياسي، ولم يجئ
في باب مصدر "أفعل يفعل" مقصور حتى يحمل هذا عليه، فأنت تقول: أعطى
يعطي إعطاء. وأبقى يبقي إبقاء، وأرضى يرضي إرضاء، وهلم جرا؛ وهذا رد
على الفراء الذي اشترط لجواز قصر الممدود أن يكون قد جاء في بابه
مقصور، ووجه الردّ ما ذكرنا مثله في شرح الشاهد السابق.
__________
1 في ر "وقفال".
(2/620)
مسألة هل يحذف آخر
المقصور والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفهما؟
...
110- مسألة: [هل يحذف آخر المقصود والممدود عند التثنية إذا كثرت
حروفها؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المقصور إذا كَثُرَتْ حروفه سقطت ألفه في
التثنية؛ فقالوا في تثنية "خَوْزَلَى، وقَهْقَرَى": خَوْزَلَانِ،
وقَهْقَرَانِ، وذهبوا أيضا فيما طال من الممدود إلى أنه يحذف الحرفان
الآخران، فأجازوا في "قَاصعَاء، وحَاثِيَاء": قاصعان، وحاثيان.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز حذف شيء من ذلك في مقصور ولا ممدود.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ذلك لأنه لما كثرت
حروفهما وطال اللفظ بهما، والتثنية توجب زيادة ألف ونون أو ياء ونون
عليهما ازدادا كثرة وطولا؛ فا جتمع فيهما ثقلان: ثقل أصليّ، وثقل طارئ؛
فجاز أن يحذف منها لكثرة حروفهما كما يحذفون لكثرة الاستعمال.
والذي يدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف قولهم
"اشْهَابَّ اشْهِبَابًا، واحْمَارَّ احْمِرَارًا"، وأصله اشهيبابًا
واحميرارا، فحذفوا الياء لطول الكلمة وكثرة حروفها، وكذلك زعمتم أن
"كينونة" أصلها كيَّنونة بالتشديد، ثم أوجبتم الحذف لطول الكلمة طلبا
للتخفيف؛ فدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف؛ فكذلك
ههنا، وعلى هذا يخرج ما لم يكثر حروفه منهما؛ فإنه لا يجوز أن يحذف منه
شيء لقلة حروفه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنه لا يحذف منهما شيء؛ لأن التثنية
إنما وردت على لفظ الواحد؛ فينبغي أن لا يحذف منه شيء، قَلَّتْ حروفُهُ
أو كثرت.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص598 و600" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "4/ 94 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "2/ 371".
(2/621)
والذي يدل على ذلك أن العرب لم تحذف فيما
كثرت حروفه، كما حُذِفَ في ما قلت حروفه، فقالوا في تثنية جمادى:
"جُمَادَيَيْنِ" من غير حذف، قال الشاعر:
[462]
شَهْرَيْ ربيع وجُمَادَيَيْنَهْ
وقال الأخر:
[463]
جُمَادَيَيْنِ حُسُومًا
__________
[462] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد رضي الدين في باب المثني
من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 338" وذكر أنه لا مرأة
من فقعس، وأنشد قبله:
يا رب خال لك من عرينه ... حج على قليص جوينه
فسوته لا تنقضي شهرينه
والقليص: تصغير القلوص، وهي الناقة الشابة، وجوينة: تصغير جون، والجون
من الإبل ومن الخيل أيضا: الأدهم الشديد السواد، وقوله "فسوته.... إلخ"
الفسوة بفتح الفاء وسكون السين- ريح يخرج من البطن من غير صوت، والكلام
على حذف مضاف، وكأنه قال: نتن فسوته.... إلخ، وشهرينه: منصوب على
الظرفية والعامل فيه تنقضي، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه
مثنى، والهاء في آخره للسكت، وقوله "شهري ربيع" بدل من الشهرين،
وجماديينه معطوف على شهري ربيع، والهاء في آخره للسكت أيضا. ومحل
الاستشهاد هنا قوله "جماديينه" فإنه مثنى جمادى، والألف فيه خامسة، وقد
قلبها الراجز ياء، ولم يحذفها، فيكون ردا على الكوفيين الذين ذهبوا إلى
أن الاسم المقصور إذا كثرت حروفه سقطت ألفه في التثنية، ونحب أن ننبهك
إلى أن الكوفيين لم يذهبوا إلى أن سقوط الألف في تثنية الاسم الذي كثرت
حروفه أمر واجب لا يجوز غيره، بل ذهبوا إلى أنه يجوز أن تسقط ألفه
ويجوز أن تذكر وتقلب ياء، فلا يرد عليهم بأن العرب قد أبقت الألف
وقلبتها ياء في "جماديينه" وفي ألف كلمة أخرى، وقد قالت العرب في تثنية
الخوزلي "الخوزلان" بحذف الألف، ولو أبقوها لقالوا: الخوزليان، وقالوا
أيضا: خنفسان، وقرفصان، وعاشوران، في تثنية خنفساء، وقرفصاء، وعاشوراء،
فحذفوا في التثنية الهمزة والألف التي قبلها، ولو أبقوا ذلك لقالوا:
خنفساوان، وقرفصاوان، وعاشوراوان. وقد استشهد الرضي بالبيت على أن من
العرب من يفتح نون المثنى بعد الياء، وبعد الألف كما في قول الراجز:
أعرف منها الجيد والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا
[463] الاستشهاد من هذا الشاهد في قوله "وجماديين" فإنه مثنى جمادى،
والألف فيه خامسة، ولم يحذفها الشاعر، بل قلبها ياء على قاعدة أن
الألفات إذا كانت رابعة فأكثر قلبت ياء مطلقا، وهذا -فيما زعم المؤلف-
يرد على مذهب الكوفيين الذين يقولون: إن المقصور إذا كانت حروفه كثيرة
جاز حذف هذه الألف عند التثنية، وإن الممدود إذا كانت همزته بعد حروف
كثيرة جاز حذف هذه الهمزة والألف التي قبلها، وقد بينا لك في شرح
الشاهد =
(2/622)
وقال الآخر:
[464]
جماديين حرام
فثنوا ذلك على تمام الاسم على الأصل من غير حذف، والعدول عن الأصل
والقياس والنقل من غير دليل لا وجه له.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنه يحذف لكثرة
حروفهما وطول ألفاظهما" قلنا: كثرة الحروف لا تكون علة موجبة للحذف،
وإنما يوجد ذلك في ألفاظ يسيرة نُقِلَتْ عنهم على خلاف الأصل والقياس،
فيجب الاقتصار على تلك المواضع، ولا يقاس عليها غيرها؛ إذ ليس الحذف
للكثرة قياسا مطردا؛ فإذا وجب الاقتصار على ما نقل من الحذف للكثرة
بَطَلَ أن الحذف ههنا للكثرة؛ لورود النقل بخلافه.
وأما استشهادهم باشهباب وكَيْنُونة والأصل فيهما اشهيباب وكَيَّنونة
بالتشديد فمخالف لما وقع الخلاف فيه؛ لأن الثقل فيهما لازم في أصل
الكلمة غير عارضٍ،
__________
= السابق أن هذا الشاهد والكثير من أمثاله لا يرد مذهب الكوفيين من قبل
أنهم لا يقولون بوجوب حذف ألف المقصور ولا بوجوب حذف همزة الممدود،
وإنما يقولون: يجوز للمتكلم إذا استطال حروف الكلمة أن يحذف الألف أو
الهمزة ويجوز له أن يأتي بالكلمة على الأصل ويقلب الألف ياء ويقلب
الهمزة واوا أو يبقيها على تفصيل في الممدود معروف لك، وإذا كانوا لا
يقولون بوجوب الحذف فمجيء الشواهد العديدة بالإثبات والقلب لا يرد
مذهبهم؛ لأن هذه الشواهد جاءت على الوجه الآخر الذي يجوزونه أيضًا.
[464] والاستشهاد بهذا الشاهد في قوله "جماديين" أيضا، والكلام فيه
كالكلام فيما قبله، وقول المؤلف بعد إنشاد هذه الشواهد "والعدول عن
الأصل والقياس والنقل من غير دليل لا وجه له" غير مسلم له، فإنهم لم
يقولوا ما قالوه من غير دليل، فقد حكوا أن العرب تثني الخوزلي والقهقري
على الخوزلين والقهقرين، بحذف الألف، وتثني القاصعاء والحاثياء على
القاصعين والحاثيين، بحذف الهمزة والألف التي قبلها؛ وقد نقلنا لك
زيادة على هذه الكلمات في شرح الشاهد 462 أنهم يثنون الخنفساء
والقرفصاء وعاشوراء بحذف الألف والهمزة التي قبلها، فكيف يقال: إنهم
عدلوا عن الأصل والنقل والقياس من غير دليل؟ وإذا كان القياس يثبت بعدد
الكلمات فإن كلام الكوفيين أحرى بالثبوت، لأن الكلمات التي ذكروا أن
العرب حذفت منها ألف المقصور وهمزة الممدود مما عددناه هنا سبع كلمات،
بينما لم يأتِ هو لمذهب البصريين إلا بكلمة واحدة، وهي جمادى على تعدد
ما أتى به من الشواهد لهذه الكلمة، ومع هذا كله نرى لك أن تأخذ بمذهب
البصريين، لا لضعف الحجة التي أتى بها الكوفيون ولكن لأن الأصل أن
علامة التثنية تزاد على حروف الكلمة كلها، وأن الحذف من الكلمة قد يوقع
في اللبس بين الكلمة المراد تثنيتها وكلمة أخرى تشبهها في الحروف التي
أبقيت بعد الحذف، فإن أمن اللبس كان لكلامهم وجه.
(2/623)
بخلاف ما وقع الخلاف فيه فإنه غير لازم في
أصل الكلمة، بل هو عارض، لأن التثنية عارضة وليست لازمة، ثم أيضا
استشهادهم بكينونة وأن أصلها كيَّنونة بالتشديد لا يستقيم؛ لأنه شيء لا
يقولون به؛ لأن الأصل عندهم في كينونة كونونة، فأبدلوا من الواو ياء،
فكيف يستشهدون على صحة مذهبهم بشيء لا يعتقدون صحته؟ فدل ذلك على صحة
ما قلناه، والله أعلم
(2/624)
|