شرح ألفية ابن مالك للحازمي

عناصر الدرس
* إعادة شرح الترجمة (الحال) وحده
* الأصل في الحال الأنتقال والإشتقاق. وقد يكون مخالفاً
* الأصل في الحال (التنكير) والعمل إذاخالف
* يقع الحال مصدرا منكراُ كثيراُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى: الْحَالُ، عرفنا الحال من حيث اللفظ ومن حيث المعنى اللغوي ومن حيث التذكير والتأنيث، وسبق ذلك، وعرف الناظم الحال قال:
الْحَالُ وَصْفٌ فَضْلَةٌ مُنْتَصِبُ ... مُفْهِمُ فِي حَالِ كَفَرْدَاً أَذْهَبُ

فالحال ما جمع هذه الأوصاف الأربعة أن يكون وصفاً، والمراد بالوصف أن يكون مشتقاً، المراد به في هذا الموضع: إما أن يكون اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفةً مشبهة أو اسم تفضيل .. أفعل التفضيل أو صيغ المبالغة، هذه كلها تدل على ذاتٍ وحدث، هذا المراد بالوصف عند النحاة، وخاصةً في هذا الموضع.
ويشمل قوله: وَصْفٌ سواءٌ كان الوصف صريحاً أو مؤولاً بالصريح؛ لأن الحال كما سيأتي الأصل فيها أنها مفردة، وقد تأتي جملة وقد تأتي ظرفاً .. جملة اسمية أو جملة فعلية، وكلا النوعين الجملة والظرف ومنه الجار والمجرور مؤول بالمفرد حينئذٍ نقول: مرده إلى الوصف.
إذاً: وَصْفٌ سواءٌ كان صريحاً أو مؤولاً بالصريح، فدخلت الجملة وشبه الجملة، فالوصف حينئذٍ يشمل الحال وغير الحال.
فَضْلَةٌ هذا أخرج العمدة؛ لأن الوصف قد يقع خبراً، وقد يقع مبتدأً، وقد يقع غير ذلك، حينئذٍ إذا وقع عمدةً لا نقول: إنه حال؛ لأن الحال من شرطها أن لا يكون ركناً في الإسناد، أقائمٌ الزيدان؟ قائمٌ: هذا وصف اسم فاعل وهو مبتدأ، وليس بحال، وأوَمضروبٌ العبدان؟ مضروبٌ: هذا اسم مفعول، فحينئذٍ نقول: ليس بحال وإن كان وصفاً؛ لأنه مبتدأ؛ لأن شرط الحال أن لا يكون ركناً في الإسناد؛ لا يكون مبتدأً ولا خبراً، زيدٌ فاضلٌ أو زيدٌ قائم .. نقول: قائم هذا ليس بحال؛ لأنه ركن في الإسناد وهو خبر، حينئذٍ كل ما كان ركناً في الإسناد لا يصدق عليه حد الحال، رجعت القهقرى: قال النحاة: القهقرى هذا مصدر يدل على معنى، خارج بقوله: وَصْفٌ؛ لأنه لما اشترط الوصفية حينئذٍ الوصفية الخاصة هنا المراد بها ما دل على ذاتٍ وحدثٍ، إذا دل على حدثٍ فقط كالمصدر حينئذٍ نقول: هذا خارجٌ ليس بحالٍ، ولذلك سيأتي أنه يقع المصدر حالاً بكثرة، ولكنه سماعي ليس بقياسي؛ لأن الأصل أن يكون الحال وصفاً، حينئذٍ رجعت القهقرى هذا قد يُقال بأنه حال؛ لأن القهقرى المراد به الرجوع إلى الخلف، فهو وصفٌ لكنه وصفٌ من حيث الدلالة على المعنى فحسب؛ لأن اللفظ المفرد قد يدل على وصفٍ مع ذات، وقد يدل على وصفٍ حدثٍ فقط لا مع ذات، الثاني هو المصدر في الأصل، والأول هو الذي نعنيه في هذا المقام، حينئذٍ وَصْفٌ أخرج به المصادر، الأصل فيه أنها لا توصف أو لا تقع حالاً، وما ورد من ذلك يعتبر سماعاً ومؤولا بالمشتق.


وَصْفٌ فَضْلَةٌ مُنْتَصِبُ .. مُنْتَصِبُ: هذا حكمٌ، وإدخاله في الحد خلاف الأولى؛ لأن الأصل في الحد أن يكون خالياً من الأحكام؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولكن قيل بأنه أراد بالمنتصب هنا المنتصب على جهة اللزوم لا على جهة الجواز، وهذا واضح؛ لأن حكم الحال لا ينفك عنها بحال من الأحوال، فهي واجبة النصب، وسمع جرها بالباء الزائدة لكنه يعتبر سماعياً، يحفظ ولا يقاس عليه، جئت بمبكرٍ، جئت مبكراً، دخلت عليها الباء، حينئذٍ نقول: هذه الباء زائدة، ومبكرٍ هذا حالٌ منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، فالأصل فيه أن يكون لازم النصب.
قيل: خرج به النعت فيما إذا كان مرفوعاً أو مخفوضاً أو منصوباً كذلك؛ لأن النعت ليس بلازم النصب، جاء رجل راكبٌ؛ راكبٌ هذا نعت، إذاً لا يمكن أن يكون حالاً؛ لأن الحال منصوب، وهذا يعتبر مرفوعاً، مررت برجل راكبٍ؛ راكبٍ بالخفض، نقول: هذا لا يمكن أن يكون حالاً؛ لأن الحال واجب النصب، يبقى الأشكال فيما إذا وقع النعت منصوباً؟ رأيت رجلاً راكباً؛ راكباً هذا نقول: نعت لرجل وليس بحال، وهذا نحكم عليه من جهتين:
أولاً: بكون المنعوت هنا نكرة، وصاحب الحال لا يكون نكرة، بل لا بد أن يكون معرفة أو نكرة بمسوغ؛ لأن حكمه حكم المبتدأ.
ثانياً: نقول: رجلاً راكباً, راكباً هذا النصب ليس بلازم، ولذلك يجوز أن يعدل عنه إلى الخفض مثلاً، وإلى الرفع، وأما الحال لا يمكن أن تقع في حالٍ من الأحوال إلا وهي واجبة النصب؛ جاء زيدٌ راكباً .. رأيت زيداً راكباً .. مررت بزيدٍ راكباً .. في الأحوال كلها، لكن النعت لا، يكون تابعاً لمنعوته: جاء رجلٌ راكبٌ .. رأيت رجلاً راكباً .. مررت برجلٍ راكبٍ، إذاً يتغير بتغير متبوعه؛ إن كان مرفوعاً تبعه، وإن كان مخفوضاً تبعه، وإن كان منصوباً تبعه، فالنصب لا يكون لازماً، بخلاف الحال فتلزمُ النصبَ سواءٌ كان صاحبها مرفوعاً أو مخفوضاً أو منصوباً.
حينئذٍ نقول: مُنْتَصِبُ المراد به النصب اللازم، أخرج النعت؛ لأنه ليس بلازم النصب، والمراد منتصب وجوباً، فالنصب من أحكام الحال اللازمة له.
مُفْهِمُ فِي حَالِ: قلنا: فِي حَالِ هذا بدون تنوين؛ يعني بترك التنوين؛ لأن المضاف إليه محذوف، وقد نوي، حينئذٍ بقي على أصله، كما سيأتي في باب الإضافة.
فِي حَالِ يعني: في حال كذا، مُفْهِمُ فِي حَالِ: هذا أراد به ما اشتهر عند النحاة في التعبير من كونه للدلالة على هيئة، وهذا يُراد به أن الحال إنما تأتي لكشف الانبهام؛ إن صح التعبير، وهو الذي يعبر به النحاة .. انبهام الهيئة لا الذات بخلاف التمييز؛ فإنما يكون كاشفاً للذات نفسها لا لهيئتها، والحال يكون كاشفاً للهيئة .. للصفة التي عليها الذات, الذات تكون معلومة، ولذلك يُشترط في صاحب الحال أن يكون معرفة، إذاً الذات معلومة, فتقول: جاء زيدٌ راكباً, راكباً ما فائدتها؟ كشفت ماذا؟ كشفت هيئة زيد، وإلا زيد فهو معلومٌ بذاته، جاء رجلٌ راكبٌ، نقول: راكبٌ هذا نعت، ماذا فعل؟ هل كشف لنا الذات؟ لا، إنما بين هيئته.


السيوطي رحمه الله لم يخرج النعت بقوله: مُنْتَصِبُ، وإنما أخرجه بقوله: مُفْهِمُ فِي حَالِ، والإفهام في حال كذا على نوعين: إفهام قصدي وإفهامٌ تبعي ضمني؛ إفهامٌ قصدي: أن يكون الأصل من إيراد المتكلم للفظ .. أن يكون الأصل كشف هيئة الموصوف الذي هو صاحب الحال، وهذا خاصٌ بالحال، وأما النعت فيكون فيه انكشافٌ ورفعٌ لهيئةٍ، لكن لا بالقصد، وإنما بالتبع، وهذا فرقٌ دقيق بين النعت والحال.
إذاً مُفْهِمُ فِي حَالِ أخرج النعت إذا لم نعتبر النصب قيداً لما سبق، يعني: إذا لم نعتبره فصلاً بأن قال: الحال هو وصفٌ فضلةٌ مفهم في حال، هكذا اعتبره السيوطي؛ لأن مُنْتَصِبُ هذا حكم، وليس بداخل في الحد، وإذا كان كذلك حينئذٍ لا يُخرج به، وإنما يُخرج بالجنس والفصول التي تكون تاليةً بعده، والمرادي جعله فصلاً؛ لأن الحال منصوب لازم، فهذا في قوة الفصل فأخرج به النعت المنصوب كما خرج به النعت المرفوع والمخفوض.
إذاً مُفْهِمُ فِي حَالِ أخرج شيئين: التمييز وأخرج النعت إذا لم نخرجه بالأول.
مُفْهِمُ فِي حَالِ قلنا: هذا على ترك التنوين؛ لأن المضاف إليه محذوف.
مُفْهِمُ فِي حَالِ كذا أي: مبينٌ لحال صاحبه، مُفْهِمُ الإفهام هنا بمعنى البيان والإيضاح والكشف، مبينٌ لحال صاحبه أي الهيئة التي هو عليها، فإن راكباً في: جاء زيد راكباً مفهمٌ في حال الركوب لا في حال مطلقاً، راكباً في قولك: جاء زيد راكباً, راكباً هذا حال، هل كشف الحال مطلقاً أو بقيد، هل هو كاشفٌ للهيئة مطلقاً أو بقيد؟ إذا قيل: جاء زيد راكباً, راكباً هذا حال نقول: ليس مطلقاً، لم يكشف هيئة زيد مطلقاً، لماذا؟ لأنه مقيد للعامل، النظر في الحال باعتبارين: باعتبار صاحبها وباعتبار العامل، فحينئذٍ جاء زيد راكباً, راكباً هذا حال قيدٌ للعامل، وهو المجيء لأن المجيء يقع على نوعين: مجيء الركوب ومجيء بدون ركوب، هنا قيد أو لا؟ قيده، كونه في المعنى صفة لصاحب الحال، نقول: قيده بالركوب دون غيره.
إذاً أثر في جهتين: تأثير بالتقييد في صاحب الحال وتقييد للعامل بكونه على وجهٍ دون آخر، لو قلت: جاء رجلٌ راكبٌ, راكب هنا نقول: هذا وصف لرجل فحسب، وليس له أي علاقة بـ (جاء)، حينئذٍ يصير جاء هذا مطلق، وجاء زيد راكباً، جاء هذا مقيد, هذا يستفيد منها الأصولي هناك في الأحكام الشرعية، فإذا كان العامل مقيداً بالحال حينئذٍ صار مخصصاً، وإذا صار النعت ليس مقيداً للحال حينئذٍ يصير مخصصاً للعامل لا للموصوف.
إذاً مُفْهِمُ فِي حَالِ نقول: مبين لحال صاحبه أي الهيئة التي هو عليها، فإن راكباً في جاء زيد راكباً حال، مفهم في حال الركوب فحسب، الركوب هذا هو الذي أراده بتقييد العامل لا في حال مطلقاً، كما هو شأن النعت، فقوله: في حال كذا، الحال بمعنى الهيئة، وإضافته إلى كذا من إضافة العام إلى الخاص للبيان.


النعت إنما يؤتى به لتقييد المنعوت فحسب، ولا علاقة له بالعامل، ثَمَّ انفصال بين النوعين، هذا معنى دقيق، يحتاج إلى تأمل، وخاصةً إذا كان ينبني عليه أحكام .. إنما يؤتى به لتقييد المنعوت فهو لا يفهم في حال كذا بطريق القصد، وإنما يفهمه بطريق اللزوم؛ لأنه مبين للهيئة قطعاً، ما نستطيع أن ننفي نقول: جاء رجل راكب, راكب ليس مبيناً للهيئة؛ لأن الحال مبين للهيئة لا، نقول: فيه بيان وإيضاح وكشف للهيئة لكن بطريق التبع والضمن، لا بطريق القصد، على العكس من الحال, وإنما يُفهمه بطريق اللزوم، والمراد بالإفهام عند الإطلاق الإفهام القصدي؛ لأنه المتبادر لا الإفهام العرضي الذي يكون تابعاً.
مُفْهِمُ فِي حَالِ: هنا كذلك أخرج التمييز، وإن كان التمييز أمره واضح بين، سيأتي في محله: الفوارق بين الحال والتمييز.
أبرز ما يفصل بينهما أن الحال على معنى في، والتمييز على معنى من، إذاً فرق بينهما، ولذلك الحال إذا قلت: جاء زيد راكباً، يعني في حال ركوب، تقدرها هكذا بكلمة حال، ولذلك النحاة دائماً إذا أعربوا الحال قالوا: في حال كونه كذا، لا بد أن تأتي بحال؛ لأنه هيئة، فحينئذٍ إذا قلت: جاء زيد راكباً يعني: جاء زيد في حال ركوبه، جئت بفي، بخلاف التمييز فإنه يكون على معنى من، وابن هشام رحمه الله تعالى جعل الضابط للحال في شرح القطر بأنه ما جاء أو صح إيقاعه في جواب كيف، فكل حال صح إيقاعها في جواب كيف؛ حينئذٍ نعربها حال، نقول: جاء زيد راكباً، كيف جاء زيد؟ راكباً، ضربت اللص كيف؟ مكتوفاً، جاء زيد ماشياً، كيف جاء زيد؟ ماشياً، حينئذٍ ((قَائِماً بِالْقِسْطِ))، ((بِالْقِسْطِ)) قَائِماً نقول: هذا حال، هل يصح إيقاعه في جواب كيف؟ نقول: نعم وليس المراد بكيف هنا كيف المنفية في باب المعتقد؛ لأن كيف هنا المراد به إيضاح وكشف اللفظ فحسب، يعني معنى الصفة لا تكييف الصفة نفسها، فلا يلتبس هذا بذاك، فإذا قيل: دعوت الله سميعاً، كيف دعوت؟ سميعاً، هذا حال، ((قَائِماً بِالْقِسْطِ))؛ قَائِماً نقول: هذا حال وقع في جواب كيف، هل وقعنا في المحذور الذي ينفيه أهل السنة والجماعة من تكييف الصفات؟ نقول: لا، لأننا لم نقصد بهذا التكييف بيان كيفية الصفة، وإنما المراد النظر في الصفة من حيث إثباتها فحسب، نقول: قائماً، صفة، حينئذٍ صفة على أي وجه؟ على كونه حالاً، حينئذٍ جاء لسان العرب بوصف الشيء بكونه على جهة الحالية، وعلى جهة النعتية، حينئذٍ التمييز بين هذا وذاك في اللفظ فحسب؛ لا بأس بأن يقال بأنه الواقع في جواب كيف.
الْحَالُ وَصْفٌ فَضْلَةٌ مُنْتَصِبُ ... ... مُفْهِمُ فِي حَالِ، يعني: في حال كذا بمعنى هيئة كذا.
كَفَرْدَاً أَذْهَبُ: كَفَرْدَاً أي كقولك: أذهب فرداً, فَرْدَاً هل هو وصف؟ هل هو اسم فاعل .. اسم مفعول .. صفة مشبهة .. ؟ إذاً هو مصدر، إذاً لا بد من تأويله لنرده إلى الوصف، فحينئذٍ نقول: كَفَرْدَاً أَذْهَبُ يعني منفرداً، أذهب في حال كوني منفرداً، فمنفرداً نقول: هذا اسم فاعل، منفرد: انفرد ينفرد فهو منفرد، حينئذٍ نردها إلى الوصف على التأويل كما سيأتي في قوله: وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ بِكَثْرَةٍ


أَذْهَبُ: هذا هو عامل الحال، فَرْدَاً: هذا حال، في تأويل منفرداً، صاحب الحال هو الضمير المستتر في قوله: أذهب .. أنا، أذهب منفرداً، وهو وصف من حيث المعنى، وفضلة لأنه ليس بعمدة .. ليس بركن في الإسناد، وهو منتصب، كذلك واجب الانتصاب، ومفهم في حال مبين للهيئة، أذهب، كيف تذهب؟ منفرداً معك أحد .. الخ؟
حينئذٍ نقول: مُنْفَرِداً، هذا بين هيئة صاحب الحال من كونه يذهب على جهة معينة. قال: خرج بقوله: فَضْلَةٌ الوصف الواقع عمدة، زيد قائم، وبقوله: الدلالة على الهيئة التمييز المشتق؛ قد يقع التمييز مشتقاً، لكن في مسائل معدودة يأتي في محلها، والأصل في التمييز أن يكون نكرة بخلاف الحال، وهذا من الفوارق بينهما كما سيأتي.
"لله دره فارساً", فارساً هذا وصف وهو فضلة، وهو منتصب، لكنه ليس مفهماً للهيئة؛ لأن المراد به التعجب: لله دره فارساً عالماً فصيحاً خطيباً، لله دره خطيباً، المراد هنا ليس الكشف والإيضاح عن الهيئة، وإنما المراد به التعجب، وهذا هو القصد الأولي، قد يقال بأنه فيه كشف هيئة نعم، لكنه ليس بالقصد، وإنما هو بالتبع, فالنظر في الفوارق بين التمييز المشتق والحال والنعت هذه متداخلة، والكل فيها لا بد وأن يكون فيه معنى الكشف والهيئة، لا بد من هذا، لكن المراد في الهيئة أن يكون الأصل .. المجيء بالحال كاشفاً للهيئة، وما عدا ذلك في التمييز المشتق وفي النعت المنصوب حينئذٍ نقول: هو مبين للهيئة، لكن بالتبع لا بالقصد ففرقٌ بين النوعين، "لله دره فارساً" فإنه تمييز لا حال على الصحيح، ولذلك وقع فيه خلاف هل هو تمييز أم لا؟ قيل: حال، إذ لم يقصد به الدلالة على الهيئة، لم يقصد به الدلالة على الهيئة مع أنه دل على هيئة لا بد، لكن دلالته على الهيئة ليست بالقصد الأولي، وإنما هو بالقصد التبعي، يعني: أمر تابع وليس بأصلي. بل التعجب من فروسيته، فهو لبيان المتعجب منه لا لبيان هيئته، وكذلك: رأيت رجلاً راكباً، فإن راكباً لم يسق للدلالة على الهيئة قصداً بل وقع ذلك تبعاً ضمناً، بل لتخصيص الرجل، فقول المصنف: مُفْهِمُ فِي حَالِ هو معنى قوله: للدلالة على الهيئة.
إذاً الوصف جنس يشمل الخبر والنعت والحال، وفضلة مخرج للخبر، ومنتصب مخرج لنعتي المرفوع والمخفوض كجاءني رجل راكب ومررت برجل راكب، ومفهم في حال كذا مخرج للنعت المنصوب كرأيت رجلاً راكباً، فإنه إنما سيق لتقييد المنعوت فحسب، لا علاقة له بالعامل، فهو لا يُفهم في حال كذا بطريق القصد، وإنما يفهمه بطريق اللزوم.
وَكَوْنُهُ مُنْتَقِلاً مُشْتَقَّا ... يَغْلِبُ لكِنْ لَيْسَ مُسْتَحَقَّا

مُسْتَحَقَّا .. مُسْتَحِقَّا يجوز فيه الوجهان كَوْنُهُ: أي الحال، هنا قال: كَوْنُهُ ولم يقل: كونها مراعاة للأفصح؛ لأن الأفصح في إرجاع الضمير إلى لفظ الحال وهو مذكر من حيث اللفظ .. الأفصح أن يرجع إليه بالتذكير مع جواز التأنيث، كونها جائز، لكن الأفصح هنا كَوْنُهُ، رده إلى الأفصح.
وَكَوْنُهُ أي الحال.
مُنْتَقِلاً مُشْتَقَّا: ذكر وصفين للحال لا بد من وجودهما، ولكن الوجود هنا أغلبي، ليس بلازم في كل حال، بل قد تخرج الحال عما ذكره من قيدٍ.


مُنْتَقِلاً: المراد بالانتقال التحول، ولذلك قيل: الحال مأخوذة من التحول وهو التنقل.
إذاً أصل اسم الحال لا بد أن يكون موجوداً في الحال الاصطلاحية، فالحال حول، مأخوذ من التحول وهو التنقل؛ حينئذٍ إما أن يكون الوصف دالاً على صفة لازمة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وإما أن يكون العكس؛ بأن يكون الوصف دالاً على صفةٍ قابلة للزوال.
ما هو ضابط الحال؟ أن تكون منتقلة.
إذاً إذا جاءت الحال وصفاً لازماً لا يتغير .. ملازم لموصوفه ثابت راسخ نقول: هذا خلاف الأصل، قد تأتي، لكن خلاف الأصل، فالأصل أن تكون منتقلاً، وَكَوْنُهُ مُنْتَقِلاً: أي عن صاحبه غير لازم له، لا ثابتاً، ومعنى الانتقال أن لا تكون ملازمة للمتصف بها؛ جاء زيد راكباً، راكباً هذا حال، نقول: الركوب وصف لزيد؛ لأن الحال في المعنى صفة، إذاً راكباً هذا وصف لزيد، زيد هل ينفك عن الركوب؟ نعم ينفك عنه، قد يكون راكباً ويكون ماشياً ويكون مضطجعاً مستلقياً ويكون زاحفاً .. إلى غير ذلك، حينئذٍ راكباً نقول: هذا وصف منتقل، هذا هو الأصل فيه، فإذا جاء الوصف لازماً ثابتاً غير منتقل؛ حينئذٍ قلنا: هذا خلاف الأصل، وقد تأتي الحال كذلك غير منتقلة، مثل ماذا؟ قالوا: دعوت الله سميعاً؛ دعوت الله فعل وفاعل ومفعول به، سميعاً هذا حال، وهو وصف .. صفة ذاتية لله عز وجل، حينئذٍ نقول: هذه الصفة الذاتية لازمة لا تنفك عن موصوفها، لا يكون الله تعالى في وقت يسمع وفي وقت لا يسمع، بخلاف الصفات الفعلية كالنزول ونحوه، حينئذٍ نقول: تلك قد تنتقل، ولا بأس بهذا القول، وإنما الكلام في الصفات اللازمة الذاتية التي لا تنفك بحال من الأحوال عن موصوفه؛ دعوت الله سميعاً؛ إذاً سميعاً هذا حال، وهل هو وصف منتقل؟ الجواب: لا، ليس وصفاً منتقلاً، كذلك خلق الله الزرافة: فعل وفاعل ومفعول به، والزرافة بفتح الزاي وتضم زُرافة زَرافة، وزُرافة أفصح، يديها أطول من رجليها، أطول هذا أفعل تفضيل، دلت على الطول، إذاً فيها معنى الوصف، وهي فضلة وهي منتصبة، مُفْهِمُ فِي حَالِ؟ نعم، لكنها ليست منتقلة؛ لأن الذي يُفهم في حال قد يكون لازماً وقد يكون ثابتاً، أطول نقول: هذا حال من يديها، يديها: هذا بدل بعض من كل، خَلَقَ اللهُ الزَّرَافَةَ, الزَّرَافَةَ مفعول به منصوب، يَدَيْهَا بدل من الزرافة، يَدَيْهَا تثنية، ولذلك نُصب .. بدل بعض من كل، أطْولَ حال من يديها، مِنْ رِجْلَيْهَا هذا جار ومجرور متعلق بقوله: أطْولَ لأنه أفعل تفضيل.
إذاً أطْولَ نقول: هذا حال لازمةٌ لا تنفك عن الزرافة؛ لأنه لا تكون الزرافة في وقت يديها أطول من رجليها وفي وقت لا، بل هي ملازمة لهذا الوصف:
فَجَاءَتْ بهِ سَبْطَ العِظامِ كَأَنَّما ... ... ... عِمَامتُهُ بَيْنَ الرِّجالِ لِواءُ
فسميعاً وأطول وسبط أحوال، وهي أوصاف لازمة، فحينئذٍ نقول: تأتي الحال غير منتقلة بمعنى أنها وصف لازم ثابت لموصوفها، وهذا خلاف الأصل في الحال؛ لأن الأصل في الحال وصف في المعنى، وكونها مشتقة من التحول لزم منه أن تكون موجودة معدومة, موجودة وقت الوصف معدومة في غير الوصف؛ جاء زيدٌ راكباً, راكباً إذاً هو في وقت يركب، وفي وقت لا يركب.


ضبط النحاة المسائل الثلاث التي يكون فيها الوصف بالحال المنتقلة أو غير المنتقلة .. الحال متى تكون وصفاً لازماً؟ قالوا في ثلاث مسائل لا تخرج عنها. الأولى: أن يكون العامل فيها مشعراً بتجدد صاحبها؛ أن يكون العامل فيها، يعني في الحال، خلق الله الزرافة، قالوا: خلق هذا عامل مشعر بتجدد صاحبها، أي حدوثه بعد أن لم يكن، خَلْقُه لم يكن ثم كان، إذاً مشعر بتجدد صاحبها أي حدوثه بعد أن لم يكن، ومأخذ اللزوم أنها مقارنة للخلق، أي الإيجاد، فهي خِلقية جبلية لا تتغير، ولا يرد خلق الإنسان طفلاً ثم بعد ذلك يكبر، ثم بعد ذلك يشيب إلى أن يموت، نقول: هذا الخلق في كل طور هو وصف لازم، كونه طفلاً نقول: هذا خلق، هل هي صفة لازمة أو لا؟ صفة لازمة، طيب سيكبر بعد أشهر .. بعد سنة، سيمشي، نقول: في المرحلة الأولى الوصف لازمٌ له، ثم إذا انتقل إلى مرحلة ثانية .. الوصف لتلك المرحلة الثانية وصف لازم له، وليس الاعتبار بالإنسان؛ إذا قيل: ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) من أول خلقه إلى موته، وهو ضعيف، لكن الضعف يختلف، حينئذٍ نقول: الخلق هنا متغير، لكن تغيره باعتبار المراتب، وفي كل مرتبة هو وصف لازم لموصوفها، حينئذٍ لا إشكال.
إذاً المراد بكون العامل هنا مشعراً بتجدد صاحبها أنه حدث بعد أن لم يكن؛ في أول المراحل حصل الخلق ثُم ثَمَّ مرتبة، في وقت تلك المرتبة نقول: الوصف له لازم، إذا انتقل انتقل إلى وصف لازم آخر، حينئذٍ انتقل من وصف ثابت راسخ إلى وصف ثابت راسخ آخر، ومأخذ اللزوم أنها مقارنة للخلق أي: الإيجاد، فهي خِلقية جبلية لا تتغير، ولا يرد خلق الإنسان طفلاً؛ لأن انتقاله من طور إلى طور بمنزلة خلق له متجدد، فتكون الحالُ الأولى لازمةً للخلق الأول والثانية والثالثة .. الخ .. متى ما كانت المراتب تعددت، هذه المسألة الأولى: أن يكون العامل فيها مشعراً بتجدد صاحبها نحو قوله تعالى: ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) والمثال السابق: خَلَقَ اللهُ الزَّرَافَةَ يَدَيْهَا أطْولَ مِنْ رِجْلَيْهَا.
المسألة الثانية التي تكون فيها الحال غير منتقلة بل وصف لازم: وذلك في الحال المؤكدة، وهذا سيأتي بحثه في محله، والمؤكدة إما أن تكون مؤكدة لعاملها: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً، وقوله سبحانه: ((وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً)) نقول: هذا وصفٌ غير منتقل، وإما مؤكدة لصاحبها ((لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)) جَمِيعاً هذا حال مؤكدة مِن (مَنْ) وهو اسم موصول، وإما مؤكدة لمضمون جملةٍ قبلها نحو قولهم: زيدٌ أبوك عطوف، حال بأنواعه الثلاثة كما سيأتي في محله، المراد هنا أن الحال المؤكدة هذه غير منتقلة، والحد الذي يُذكر في أوائل الكلام على الحال إنما المراد به الحال المؤسسة المبينة، وأما الحال المؤكدة هذه لا تستقل بمعنى.
الثالثة: في أمثلة مسموعة لا ضابط لها، يعني أمثلة تُحفظ ولا يقاس عليها كقولهم: دعوت الله سميعاً، وقوله تعالى: ((أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)) وقوله: ((قَائِماً بِالْقِسْطِ)).


إذاً في هذه الأحوال الثلاثة نقول: تأتي الحال غير منتقلة بل وصف لازم ثابت لموصوفه، أن يكون العامل فيها مشعراً بتجدد صاحبها، في الحالة المؤكدة بأنواعها الثلاث: مؤكدة لعاملها .. لصاحبها .. لمضمون جملة قبلها، الثالث: ما كان مسموعاً من مفردات وردت عن العرب، وما جاء في القرآن كذلك يكون من قبيل المسموع، ولذلك مثَّل بـ: ((قَائِمَاً بِالْقِسْطِ)).
وَكَوْنُهُ مُنْتَقِلاً مُشْتَقَّا: يعني من المصدر ليدل على مُنْتَصِبُ، وهذا فيه تأكيد للمعنى الذي أخذه جنساً في التعريف؛ لأنه قال: الْحَالُ وَصْفٌ، وهذا معنى الاشتقاق، فكونه مشتقاً هنا تأكيد لذلك المعنى، أو إن شئت قل: تبيين بالمراد بالوصف؛ لأن الوصف قلنا: يُطلق ويُراد به الوصف المجرد بالدلالة على الذات كرجعت القهقرى، وكذلك يشمل ما دل على ذاتٍ معنى.
قوله: مُشْتَقَّا يؤكد المعنى السابق، وقد حمل بعض الشراح قوله: الْحَالُ وَصْفٌ بالمعنى الأعم، وهذا ليس كذلك، بل الصواب أن يُعين قوله: الوصف -وكلام النحاة في جميع كتبهم على هذا المعنى- أن يُقيد الوصف بكونه مشتقاً من المصدر، وحينئذٍ يكون دالاً على ذات متصفة بوصف، وأما الوصف الذي لا يدل على ذات حينئذٍ لا يكون داخلاً في الحال؛ إن جاء صار خلاف الأصل، ولذلك قال: مُشْتَقَّا يَغْلِبُ، إذاً غير الغالب في المشتق أن يكون جامداً، ولذلك قال: وَيكْثُرُ الْجُمُودُ، ثم قال: وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ بِكَثْرَةٍ فدل على أن المصدر ليس مراداً بقوله: وَصْفٌ، تنبه لهذا، بعض الشراح حمل الوصف على العموم.
وَكَوْنُهُ أي الحال، مُنْتَقِلاً يعني لا يلزم الموصوف؛ لأنه جيء به للدلالة على الهيئة، والهيئة الأصل فيها أنها تتبدل وتتغير، فليست وصفاً ثابتاً, مُشْتَقَّا أي من المصدر؛ لأنها وصف في المعنى، يَغْلِبُ وجوده في كلامهم؛ يعني في كلام العرب، الأكثر في استعمالهم لهذا المصطلح الذي هو الحال، أن يكون منتقلاً مشتقاً، ولكِنْ لَيْسَ مُسْتَحَقَّا؛ لَيْسَ مُسْتَحَقَّا بمعنى أن هذا الوصف وهو الانتقال قد يخرجون عنه في بعض كلامهم، وكذلك الوصف بالاشتقاق قد يخرجون عنه في بعض كلامهم، فما خرج من كلامهم عن ذلك الأصل المطرد -وهو الأعم- يحمل عليه.
إذاً إذا تكلموا في لسان العرب أتوا بالحال منتقلة، وقد يتكلمون بالحال غير منتقلة؛ إذا جاءت غير منتقلة نردها إلى الانتقال، وكذلك إذا جاءت غير مشتقة نردها إلى الاشتقاق.


لكِنْ لَيْسَ ذلك مُسْتَحَقَّا هذا تتميمٌ للبيت قيل: لجواز الاستغناء عنه بـ (يَغْلِبُ)، يعني: كثير، يغلب وجوده في كلامهم، وقيل: ليس حشواً .. ليس تتميماً للبيت؛ لأن قوله: يَغْلِبُ قد يوهم أنه واجب في الفصيح؛ يعني: لا تتكلم بحالٍ غير منتقلة، فإن تكلمت بحالٍ غير منتقلة وقعت في الشذوذ أو غيره، وكذلك لا تتكلم بحال غير مشتقة، لا، ليس هذا المراد، وإنما المراد أن كلاً منهما فصيح؛ إلا أن الأفصح أن تكون الحال منتقلة، وأن الأفصح أن تكون الحال مشتقة، إذا لم تأت بالحال منتقلة ولا مشتقة حينئذٍ لم تخرج عن الفصيح، لذلك قال: لكِنْ لَيْسَ مُسْتَحَقَّا، فدفع به توهمَ أن يكون الغالب واجباً لا يجوز العدول عنه .. دفع توهمَ أن يكون الغالب واجباً في الفصيح، وضمير لَيْسَ إما للكون، وَكَوْنُهُ، لكِنْ لَيْسَ: ليس الكون مستحقاً، وحينئذٍ يكون مستحَقاً بفتح الحاء، وإما للحال لكن ليس الحال مستحقاً، حينئذٍ يكون بكسر الحاء، لَيْسَ أين اسمها؟ ضمير مستتر، ما مرجعه؟ يحتمل وجهين: إما أن يكون الكون: وَكَوْنُهُ مُنْتَقِلاً، إذاً كونه منتقلاً هذا محكوم به، لَيْسَ مُسْتَحَقَّا بالفتح، ولَيْسَ ذلك مُسْتَحَقَّا ليس الحال مستحقاً لكونه منتقلاً أو مشتقاً، مستحقاً بفتح الحاء على أنه اسم مفعول، والضمير فيه عائدٌ على الكون، وقيل: على الفاعل لـ (يَغْلِبُ)، أي: ليس كونه منتقلاً مشتقاً مستحقاً، ويجوز كسر الحاء على أنه اسم فاعل، ويكون الضمير فيه عائداً على الحال، ولا بد حينئذٍ من مجرورٍ محذوف، ويكون معمولاً لـ مستحقاً، والتقدير ليس الحال مستحقاً لكونه منتقلاً مشتقاً، إذا جعلناه بالكسر لا بد من مجرور محذوف، وليس ذلك مستحقاً لكونه منتقلاً مشتقاً، وإذا جعلناه لكون أو فاعل يغلب حينئذٍ لا نحتاج إلى المحذوف.
إذاً: الأكثر في الحال أنها تكون منتقلة مشتقة.
وقد تأتي الحال جامدة، وقد ذكر الناظم بعضاً منها؛ ذكر ثلاثاً أو أربع مسائل مما جاء فيه الحال جامداً.
وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي
كَبِعْهُ مُدّاً بِكَذَا يَدّاً بِيَدْ ... مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ
وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَدَاً أَيْ كَأَسَدْ

وَيكْثُرُ الْجُمُودُ، يكْثُرُ، قال: هناك يَغْلِبُ، غير الغالب كثير أو قليل؟ غير الغالب الأصل أنه قليل، وهنا قال: وَيكْثُرُ الْجُمُودُ، الكثرة هنا باعتبار الاشتقاق أو الجمود؟ الجمود، إذاً هنا الكثرة نسبية فباعتبار الجامد الْجُمُودُ فِي السِِّعْرٍ نقول: هذا أكثر من غيره، فثم الجامد نوعان: يكْثُرُ فِي سِعْرٍ، فما كان هذا الباب -باب سعرٍ ونحوه يَدّاً بِيَدْ أو بِعْهُ مُدّاً بِكَذَا- نقول: هذا الباب الجمود فيه كثير من وقوع الجمود في غير هذا الباب كـ مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ .. وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَداً أَيْ كَأَسَدْ.
إذاً الجمود يختلف، فالأبواب ليست متحدة، أكثر ما يكون الجمود في سعر، وما عداه من الأبواب فهو أقل، وكلاهما باعتبار غير الغالب قليل؛ كلا البابين ما كثر فيه الجمود وما قل باعتباره غير غالب قليل.


إذاً: مفهوم قوله: يَغْلِبُ؛ مفهومه أن غير الغالب يكون قليلاً، ثم هذا القليل نقول: على جهتين: كثير وقليل، والكثرة هنا نسبية باعتبار الأبواب الأخرى التي ورد فيها الجامد، ولذلك قال: وَيكْثُرُ الْجُمُودُ، الْجُمُودُ جمع جامد، والمراد بالجامد هنا ما دل على معنًى فحسب، ولم يدل على ذات، وهذا يدخل فيه المصدر، ولذلك فصله لكثرة ما ورد فيه أنه وقع حالاً.
وَيكْثُرُ الْجُمُودُ أي: ويقل في غير المذكورات، يكْثُرُ الْجُمُودُ: أي جمود الحال، والجامد المراد به ما دل على معنى فقط، يعني لا يدل على ذات، في ماذا يكثر الجمود؟ قال: فِي سِعْرٍ، يعني في الحال الدال على سعرٍ، إذا جاء لفظ الحال وأعربناه حال؛ إن دل على سعر حينئذٍ نقول: هذا جامد، مثل: بِعْهُ مُدّاً بِكَذَا .. بعت البر مداً بدرهم، بِكَذَا ليس المراد (بِكَذَا) قيد، لا، بِكَذَا يعني بدرهم مثلاً، بعت البر مداً بكذا، نقول: بعت البر فعل وفاعل ومفعول به، وَمُدّاً حال منصوبة، هل هي مشتقة أم جامدة؟ نقول: جامدة، دلت على سعرٍ، بدرهم نقول: هذا جار ومجرور متعلق بقوله: مداً، تعلق به لماذا وهو جامد؟ لأنه مؤول بالمشتق، بعت البر مسعِّراً بدرهم، فكأنه أوقع مُدّاً موقع مسعِّراً, مسعِّراً يجوز فيه الوجهان: بالكسر فاعل، وحينئذٍ يكون مداً حالاً من التاء بعتُ، حالاً من الفاعل، ويحتمل أنه مسعَّراً بدرهم باسم مفعول، حينئذٍ يكون الحال من البر .. من المفعول به، فيحتمل هذا وذاك.
إذاً يكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ، يعني في لفظٍ دلَّ على السعر، فإذا جاءت الحال دالة على السعر حينئذٍ نقول: هي جامدة، وتؤول بالمشتق، وهذا مذهب الجمهور خلافاً لابن هشام في الأوضح، فقد جعلها جامدة غير مؤولة، وَيكْثُرُ الْجُمُودُ أي: جمود الحال في الحال الدالة على سعرٍ.
كَبِعْهُ مُدّاً بِكَذَا، كَبِعْهُ الكاف هنا للتمثيل، وحينئذٍ نفهم أن ما يذكره الناظم ليس المراد به الحصر، وإنما أراد به التمثيل على ما يقع الجامد موقع الحال المشتقة، بِعْهُ مُدّاً أي: بعه البر مثلاً مداً, مُدّاً هذا حال؛ لفظٌ منصوبٌ على الحال، وهو جامد إلا أنه مؤول بالمشتق؛ لأنه في معنى مسعَّراً، ويجوز أن يقدر مسعِّراً مسعَّراً، مسعِّر اسم فاعل، فيكون حالاً من الفاعل أو بالفتح مسعَّراً فيكون حالاً من المفعول به، يعني: بعته البر مسعَّراً، فالبر مسعَّراً، بعته البر مسعِّراً أنا, أنا مسعِّراً بدرهم، مُدّاً نقول: هذا حال، وبِكَذَا صفةٌ لمد، أي كائنات بكذا، ويجوز رفع مُدٌ على الابتداء أن تقول: مُدٌ، وبِكَذَا يكون خبر، والجملة حال، بعته البر مدٌ بكذا، ما خرجنا عن الحال، بعته البر مدٌ بكذا، مدٌ بالرفع، حينئذٍ يصير مبتدأً، وبكذا متعلق بمحذوف خبر، والرابط محذوف، مدٌ منه بكذا، والجملة في محل نصب حال، إذاً انتقل من الحال المفرد إلى الحال الجملة، وكلاهما داخلان في قوله: وَصْفٌ.
إذاً بعته البر مُدٌ بكذا .. مُداً بكذا، والشاهد في قوله: مُداً بالنصب.


وَفِي مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ: وَفِي يعني يكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ، وَفِي مُبْدِي، يعني: وفي حالٍ مبدي، أو في كل مبدي، مُبْدِي يعني مظهر، تَأَوُّلٍ بمشتقٍ، بِلاَ تَكَلُّفٍ وتعسفٍ، يعني الجامد إذا وقع حالاً حينئذٍ الشراح اختلفوا في كلام ابن مالك هذا؛ هل يعني ابن مالك رحمه الله أن الجامد الذي يقع حالاً منه ما يؤول بمشتقٍ ومنه ما لا يؤول بالمشتق؟ فتصير القسمة ثنائية، أم كل جامد يؤول بمشتق؟ على قولين: بعضهم قسم الجامد إلى نوعين: جامد يؤول بمشتق، وجامد غير مؤول بمشتق، والسبب في هذا: تعبيره هو قال: وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ، ثم قال: وَفِي مُبْدِي عطف، والأصل في العطف يقتضي المغايرة، إذاً ابن مالك مثل للجامد بنوعيه: جامد يكثر فيه الجمود ولم يؤول بمشتق؛ يبقى على ظاهره كما هو؛ لأن تأويله بمشتق هذا فيه تكلف فيبقى على ظاهره، وفي جامدٍ يمكن تأويله بدون تكلف وتعسف، فالقسمة ثنائية، وعلى هذا مشى ابن هشام رحمه الله تعالى في التوضيح، وأكثر الشراح لا؛ على أن الجامد نوعٌ واحد، فكل جامد يقع حالاً حينئذٍ لا بد من تأويله، وابن الناظم على هذا .. جامد ثم كل جامد يمكن تأويله بدون تكلف؛ حينئذٍ قوله: بِلاَ تَكَلُّفِ هذا صفة لبيان الواقع، فكل حال وقعت جامدة حينئذٍ أُوِّلت بمشتق، بِلاَ تَكَلُّفِ نقول: هذه صفه لازمة أو لبيان الواقع؟ يعني هل هي للاحتراز أم لبيان الواقع؟ إذا قلنا: كل جامد يؤول بمشتق فهي لبيان الواقع، وعليه يكون قوله: مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ من عطف العام على الخاص، ولذلك قال المكودي: ظاهر كلامه وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ أن الدال على سعر ليس داخلاً في مُبْدِي تَأَوُّلٍ، وليس كذلك، ظاهر كلامه -وهو الصحيح هذا ظاهر كلامه- أن الدال على السعر ليس داخلاً في المبدي للتأول، وليس كذلك بل منه، وحينئذٍ يعتذر للناظم بأنه عطف العام على الخاص، وهذا لا إشكال فيه، وابن هشام وقف مع الظاهر قال: لا بل الجامد نوعان: جامد لا يؤول وهو المبدي، وهو الدال على السعر، وعطف عليه بعض المسائل، والجامد الذي يمكن تأويله، هذا قسم آخر، فجعل القسمة ثنائية.
وَفِي كل مُبْدِي أبدا الشيء إذا أظهره، تَأَوُّلٍ بمشتق، بِلاَ تَكَلُّفِ يعني بلا تعسف، مثل: يداً بيد .. ما دل على مناجزة ومقابضة، يَدًّا بِيَدْ .. بعته يَدًّا بِيَدْ، يَدًّا نقول: هذا حال، يَدًّا لوحدها، وبِيَدْ هذا جار ومجرور متعلق به، والإعراب فيه كالسابق .. يجوز فيه الوجهان: على النصب يداً كائنة مع يدٍ، وعلى الرفع يدٌ منه على يدٍ مني، إذاً ما دل على مقابضة أو مفاعلة أو مناجزة نقول: هذا حال، في الأصل أنه جامد لأن يد هذا جامد، فحينئذٍ ما مراده إذا قال: بعته يَدًّا بِيَدْ؟ يعني مقابضة أو مناجزة، إذاً ما دل على مفاعلة بين اثنين .. إذا وقعت الحال دالة على مفاعلة بين اثنين حينئذٍ نقول: هي جامدة لكن مؤولة بالمشتق.


يَدًّا بِيَدْ .. وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَداً, أَسَدَاً هذا حال وهو جامد، واضح من التمثيل أنه أراد: كر زيد شجاعاً؛ لأن المناسبة بين المشبه والمشبه به .. الوصف والموصوف المراد به هنا الشجاعة، فحينئذٍ إذا قال: كَرَّ زَيْدٌ أَسَداً فالمراد به أنه شجاع، ولذلك قال: أَيْ كَأَسَدْ، أي: مثل أسدٍ، في ماذا؟ في الشجاعة، فـ أَيْ هنا تفسيرية، وما بعدها يُعرب عطف بيان عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين، ولذلك هي حرف عطف، أي: تفسيرية، ما بعدها يكون عطف بيان لما قبله عند البصريين، وعند الكوفيين لا، يجعلونها مثل الواو، كأنه قال: كر زيد أسداً أو كأسد، فما بعده يكون معطوفاً على ما قبله.
وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَداً أَيْ كَأَسَدْ، فـ كَأَسَدْ، نقول: الكاف هنا اسمٌ بمعنى مثل؛ لأن الحال أصلها أن تكون وصفاً، ويجوز كونه حرفاً، فيكون قصد تفسير المعنى لا أنها الحال بنفسها.
إذاً وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ يعني: قد تأتي الحال جامدة، ويكثر الجمود في الحال الدالة على سعرٍ، وهل هو مؤول بالمشتق أو لا؟ فيه قولان.
وَفِي مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَعَسُّفٌ، أي: ويكثر إذا ظهر مؤولا بالمشتق غير متكلف فيه ولا متعسف.
كَبِعْهُ مُدّاً بِكَذَا يَدًّا بِيَدْ، كَبِعْهُ أي: براً، مُدّاً هذا حال، يَدًّا بِيَدْ كذلك حال بعد حال، لكن على تقدير جملة، يعني بعه يداً بيد، وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَدَاً أَيْ كَأَسَدْ.
قال الشارح: يكثر مجيء الحال جامدة إن دلت على سعرٍ، نحو: بعه مداً بدرهم، يعني مسعراً بدرهم، وعلى رأي ابن هشام أنه جامد لا يُؤول يبقى على حاله، فنقول: مداً، هذا جامد، وجاء استثناؤه من قولهم: إن الحال لا يكون إلا مشتقاً، حينئذٍ هو جامد، ولا نُؤوله، ولا نقول: في معنى المسعَّر أو المسعِّر، بل يبقى على حاله، فمداً حال جامدة، وهي في معنى المشتق، إذاً المعنى بعه مسعَّراً كل مد بدرهم.


إذاً ابن عقيل يرى أن قوله: مُبْدِي تَأَوُّلٍ من عطف العام على الخاص، فقوله: وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ مع التأول، إذاً وافق أكثر الشراح، وخالف ابن هشام رحمه الله تعالى، ويكثر جمودها أيضاً فيما دل على تفاعل .. مفاعلة، نحو بعته يداً بيد، يعني مناجزةً متقابضَين، أو دلت على تشبيه كالمثال الذي ذكره آخراً كَرَّ زَيْدٌ أَسَداً، أي مشبهاً الأسد، فيداً وأسداً جامدان، وصح وقوعهما حالاً لظهور تأولهما بمشتق كما تقدم، وإلى هذا أشار بقوله: وَفِي مُبْدِي تَأَوُّلٍ أي: يكثر مجيء الحال جامدةً حيث ظهر تأولها بمشتق، وحينئذٍ قول النحاة: إن الحال يجب أن تكون منتقلة مشتقة معناه أنه غالب لا لازم، وهل هذه المسائل الثلاث التي ذكرها الناظم رحمه الله تعالى محصورة في الجامد أم لا؟ لا، بل وصلت إلى العشر، وزادت على ذلك، ذكر الشارح ثلاثة أمثلة وهي فيما دل على سعر، هذا أولاً، والثاني: فيما دل على مناجزة مفاعلة مقابضة، والثالث: ما دل على تشبيه، الرابع: أن تدل الحال على ترتيب كقولك: ادخلوا الدار رجلاً رجلاً، ادخلوا الدار: فعل وفاعل ومفعول به، رجلاً رجلاً، رجلاً الأول حال وهو جامد، رجلاً الثاني هذا فيه قولان: أولاً أنه معطوف بعاطف مقدر وهو الفاء رجلاً فرجلاً، معطوف على ما قبله، رجلاً فرجلاً، القول الثاني: أنه صفة على تقدير حذف مضاف رجلاً ذا رجلٍ، إذاً الثاني لا يكون حالاً، إذا دلت الحال على ترتيب: ادخلوا الدار رجلاً رجلاً أوَّلَ أوَّلَ، فالأول اللفظ الأول هو الحال، والثاني إما أن يكون معطوفاً عليه بحذف حرف العطف وهو الفاء على جهة الخصوص، وإما أنه على حذف مضاف: ادخلوا الدار رجلٌ ذا رجلٍ أول ذا أولٍ، وضابط هذا النوع أن يذكر المجموع أولاً ثم يفصل هذا المجموع بذكر بعضه مكرراً، ادخلوا الواو مجموع .. كلهم ذكروا، ثم قال: رجلاً رجلاً. إذاً فصَّل بعد إجمال، فجاء على وجه التكرير، فالمجموع في المثال الأول هو الذي تدل الواو عليه، والحال عند التحقيق هو مجموع اللفظين، ولكنه لما تعذر أن يكون المجموع حالاً، جُعل كل واحدٍ منهم حالاً، كما في الخبر المتعدد بغير عاطفٍ في نحو قولك: الرمان حلو حامض، وذهب ابن جني إلى أن الحال هو الأول والثاني معطوفٌ عليه بعاطفٍ مقدر وهو أولى، أن لا يجعل رجلاً رجلاً .. لأنه ليس مركباً ليس مثل أحد عشر وغلام زيد حتى نقول هو في معنى كلمة واحدة لا، رجلاً رجلاً لا يمكن أن يجعل كلمة واحدة، ولا يمكن أن يجعل حالاً واحدة، وليست هي كالخبر المتعدد، بل الأول هو حال، والثاني يكون معطوفاً عليه كما ذهب إليه ابن جني.


الخامس: أن تكون الحال موصوفةً، نحو قوله تعالى: (قُرآناً عَرَبِيّاً) (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً)، سَوِيّاً .. عَرَبِيّاً هو الحال، وتسمى هذه الحال الحال الموطئة، الحال الموطئة: هي الاسم الجامد الموصوف بصفةٍ هي الحال على وجه التحقيق، فكأن الاسم الجامد قد وطئ الطريق ومهده لما هو الحال بسبب مجئه قبله، (قُرآناً عَرَبِيّاً) ((فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً))، نقول الاسم الجامد الموصوف بصفةٍ هي الحال، أين الاسم الجامد الموصوف .. ؟ بَشَراً وعَرَبِيّاً هما هما الحال، فصارت موطئة لذكر ما بعدها من الصفة، صارت موطئة كأنها ممهدة قُرآناً مهد هذا اللفظ لذكر عَرَبِيّاً، فالمقصود حينئذٍ بالذات هو كونه عَرَبِيّاً، والثاني: كونه سَوِيّاً فبشراً هذا حال موطئة وطأت ما بعدها للذكر.
السادس: أن تكون الحال دالة على عدد، نحو قوله تعالى: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) في حال كونها أربعين.
السابع: أن تدل الحال على طورٍ فيه تفصيل، هذا بسراً أطب منه رطباً .. وهذا سيأتي في أفعل التفضيل .. أن تدل الحال على طورٍ فيه تفصيل.
الثامن: أن تكون الحال نوعاً من صاحبها، هذا مالك ذهباً، هذا مالك، مالك هو صاحب الحال، ذهباً هذا نوع منه .. المال ليس كله الذهب، إنما بعضه ذهب، حينئذٍ ذهباً نقول: هذا بعض من المال، أو تكون الحال فرعاً لصاحبه، هذا حديدك خاتماً، خاتم فرع؛ لأن الحديد أعم منه، وكقوله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً) بُيُوتاً هذا حال وهو جامد، وأعربها الزمخشري حالاً مقدرة، وقيل هذا من دقائقه، أو تكون الحال أصلاً لصاحبها، كقولك: هذا خاتمك حديداً، وكقوله تعالى: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) طِيناً نقول هذا حالٌ تبين كونها أصل لصاحبها، (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) طِيناً هذه بينت أصله.
وقد أجمع النحاة على أن المواضع التي ذكرها الناظم الثلاثة والدالة على الترتيب، يجب تأويلها بمشتقٍ، والإجماع هذا فيه نظر؛ لأن ابن هشام يخالف في هذا، يرى أن ما دل على سعرٍ هذا جامد ليس بمشتق، وما عداها .. وهو كون الحال موصوفة ودالة على عدد ودالة على طورٍ فيه تفصيل، أو تكون الحال نوعاً من صاحبها، هذه الأنواع هي التي نوزع فيها .. هل هي جامدةٌ لا يقبل التأويل أصلاً؟ أم أنها جامدةٌ وداخلة فيما سبق؟ من قسم الجامد إلى قسمين جعل الأربع الأولى في الجامد المؤول بالمشتق، وجعل البقية في الجامد الذي ليس مؤولا بمشتق، وابن هشام على هذا، لكنه أخرج من الأربع الأولى مادل على سعر، فجعله في الجامد غير المؤول, فعنده الجامد المؤول بمشتق ثلاثاً فحسب، وينفي كل جامد مؤول مشتق ماعدا الثلاثة وهي: مادل على ترتيب، ودل على مقابضة، وتشبيه، هذه الثلاث عند ابن هاشم: جامد وقابل للتأويل، وما عداه فهو جامد غير مؤول, والجماهير على خلافه أن كل جامد قابل للتأويل.
قال ابن هشام: أكثر هذه الأنواع وقوعاً مسألة التسعير، والمسائل الثلاث الأول التي ذكرها ابن مالك رحمه الله تعالى بعد .. وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ .. وهي الثلاث الذي ذكرناها التي دل على تشبيه أو على مفاعلة أو على ترتيب.


ثم قال: ويُفهَم منه أنها تقع جامدة في مواضع أُخَر بقلة، نعم، وهو كذلك، لأنه قال: وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ، وما عُطَف عليه داخل في الكثرة، هذا إذا جعلنا المناط واحدا، وإذا فصَلنا بين الجملتين لا، صارت الكثرة في ما دلّ على سعر وما عداه لا، وابن هشام يرى أن البيت كله دال على الكثرة، وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ .. وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي مُبْدِي تَأَوُّلٍ، وما أبدا تأول حينئذٍ يكون مقابضةً ويكون ترتيباً ويكون تشبيهًا وما عداه فهو قليل، ولذلك قال: ويُفهَم منه أنها تقع جامدة في مواضع أُخر بقلة وأنها لا تُؤوّل بالمشتق، كما لا تؤول الواقعة في التسعير؛ يعني لا تُؤول بمشتق، وزعم ابنُه: أن الجميع مُؤوّل بالمشتق؛ يعني يردّ على ابن الناظم لأنه ادّعى أن الجميع مؤوّل بالمشتق. قال ابن هشام: وزعم ابنه أن الجميع مُؤوّل بالمشتق وهو تكلف، وإنما قلنا به في الثلاث الأول: تدلّ على تشبيه أو على مفاعلة أو ترتيب لأن اللفظَ فيها مُراد به غير معناه الحقيقي، فالتأويل فيها واجب، فحينئذٍ المسألة فيها نزاع اختر ما شئت.
وَيكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي ... مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ

يقول هذا من عطف العام على لخاص؛ كأنه قال ويكثرُ الجمود في كل مُبدي تأولٍ بلا تكلف؛ منه ما دل على سعر وما عطف عليه.
كَبِعْهُ مُدّاً بِكَذَا يَدًّا بِيَدْ ... وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَداً أَيْ كَأَسَدْ

ثم قال:
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً فَاعْتَقِدْ ... تنْكِيرَهُ مَعْنى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ

الأصلُ في الحال أن تكون نكرة؛ قوله: وَالْحَالُ مبتدأ، أين خبره؟ هل الْحَالُ مُبتدأ ولا خبر له أو له خبر؟ الْحَالُ مبتدأ قطعاً، هل له خبر أو لا؟ الواو الذي يكون مانعاً من الخبرية ما بعدَ المبتدأ؛ لو قال: الحال وإن عرِّفَ قلنا لا؛ لابد أن نُقدّر خبراً قبلَ الواو، لكن هنا سبقَ وَالْحَالُ الواو هنا عاطفة أو استئناف، وَالْحَالُ مبتدأ؛ قيل لا خبرَ له في مثل هذا التركيب، وقيل: الخبر جملة الشرط، وقيل جواب الشرط، وقيل جملتا الجواب والشرط وهو أصح، أربعة أقوال.
إذا قيل: (زيدٌ إن جاء فأكرمه)، زيدٌ: مبتدأ، ثم ما تلاه إلا جملة الشرط: إن جاء فأكرمه، أين الخبر؟ ماذا تصنع؟ جملة الشرط مُركّبة؛ يعني لا تتفك؛ لا ينفصل بعضها عن بعض؛ قيل: هذا لا خبر له، حينئذٍ أُقيمت جملة الشرط مقام الخبر؛ مثل القائم من الزيدان؛ الزيدان هذا فاعل سدّ مسد الخبر. جملة الشرط تسد مسد الخبر في مثل هذا التركيب هذا قول, وقيلَ: زيدٌ إن جاء, (إن جاء) الجملة هذه هي الخبر، وقيل: فأكرمه .. جملة الجواب، وقيل: هما معاً، والصواب: أنهما معاً، هذا الصحيح.


وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ، إذن الْحَالُ مُبتدأ؛ جملة: إِنْ عُرِّفَ لَفْظاً فَاعْتَقِدْ تنْكِيرَهُ مَعْنًى في محل رفع خبر المبتدأ؛ إِنْ عُرِّفَ يعني دخل عليه التعريف؛ عُرِّفَ: أَلْ حَرْفُ تَعْرِيفٍ، حينئذٍ التعريف هنا إما أن يكون بـ (أل)، وإما أن يكون بالإضافة، لا يتصور إلا هذا أوذاك، (أرسلها العراكَ) (ادخلوا الأولَ فالأولَ) (جاء زيدٌ وحدَه). أرسلها العراك, العراك دخلت عليها (أل)، (جاء زيدٌ وحدَه) أضيف (وحد) إلى الضمير، حينئذٍ صار معرفةً. هل التعريف هنا الذي حصلَ لهذا اللفظ –الحال-؛ هل هو معنوي مؤثّر أم أنه من جهة اللفظ فحسب؟ الثاني، ولذلك قالَ: لَفْظَاً ابن مالك هنا، وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً لا معنى؛ لأنه إذا قيل حال حينئذٍ لزم التنكير، ثم لزومه للتنكير إما يكون لفظاً ومعنى، وإما أن يكون معنى دون لفظ وهو المعرف. إذا دخلت (أل) على الحال حينئذٍ نقول: (أل) هذه زائدة أو اللفظ كله مؤوّل بالنكرة؛ يحتمل هذا ويحتمل ذاك، وإذا دخلت أو كان مضافاً كـ (وحده) حينئذٍ نقول: هذا مؤوّل بالنكرة.
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً (لَفْظَاً) هذا تمييز؛ يعني في اللفظ دون المعنى، فلو عرف معنىً نقول هذا امتنع كونه حالاً؛ لا يمكن؛ (فَاعْتَقِدْ) الفاء واقعة في جواب الشرط. إذن الاعتقاد هنا محلّه القلب. اعتقد لأن اللفظَ لا يمكن تغييره، إما إن تنطق به مباشرة نكرة، فإن نُطِق به معرفة، وهذا ليس لك أنت؛ يعني إذا جاء في لسان العرب ما هو معرفة في اللفظ حينئذٍ نقول اعتقد أنه في المعنى نكرة، وأما في اللفظ فتنطق به كما هو، فصار اعتقاد التنكير محلّه القلب، وأما اللفظُ فحينئذٍ يبقى على ظاهره، وليس لك أنت أن تبتدئ كلاما تأتي بحال معرفة، وإنما الكلامُ هنا في التخريج لما سُمِع في لسان العرب.
فَاعْتَقِدْ الفاء وقع في جواب الشرط، تنْكِيرَهُ هذا مفعولٌ به، مَعْنىً هذا تمييز.
فَاعْتَقِدْ تنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ؛ كقولك: (اجتهد وحدك)، وَحْدَكَ هنا وحد: حال أُضيف إلى الكاف وهو معرفة فاكتسبَ التعريف؛ اجتهد وحدك: أي مُنفرداً؛ فمُنفرداً نقول: هذا حال نكرة دلَّ عليه وحدَك وهو في اللفظ معرفة:
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً أي في لسان العرب فالإتيان بها معرفةً لفظاً مقصور على السماع، وحقّ الحال أن يكون نكرة؛ لأن المقصود به بيان الهيئة، والأصل كما سبق في الاسم أن يكون نكرة، والتعريف فرعٌ عنه؛ فمتى ما أمكنَ الدلالة على الهيئة بالنكرة لا يجوزُ العدول عن النكرة إلى المعرفة؛ لأن المعرفة نكرة وزيادة؛ فحينئذٍ إذا دلّت النكرة على بيان الهيئة لماذا تعدلُ على ماهو زائدٌ عليه؟ صارت الزيادة على النكرة (أل) أو الإضافة أو العلمية أو الإشارة الخ نقول هذه صارت حشواً؛ لماذا؟ لأنه جِيءَ بها لا في محلّها؛ لأنك قصدتَ بهذه الكلمة بيان هيئة صاحب الحال؛ فإذا حصلَ بالتنكير .. بالنكرة حينئذٍ لا تعدل إلى الفرع. وحقّ الحال أن يكون نكرة؛ لأن المقصود به بيان الهيئة وذلك حاصل بلفظ التنكير فلا حاجة لتعريفه صوناً للفظ عن الزيادة والخروج عن الأصل لغير غرض.


وقد يجيءُ بصورة المعرّف بأل فيُحكم بزيادتها؛ إذا جاء بـ (أل) نحكم بزيادتها (ادخلوا الأولَ فالأولَ) يعني ادخلوا أول أول؛ فيؤوّل بالنكرة؛ كذلك اجتهد وحدك أي منفرداً. إذن نقولُ الأصل في الحال أن تكون نكرة؛ لأنه لا حاجة إلى تعريفه صوناً للفظ عن الزيادة والخروج عن الأصل لغير غرض؛ لأنه إنما يُجاء بالزيادة للدلالة على التعريف لغرضٍ ما، حينئذٍ إذا جاء محلى بـ (أل)؛ (أرسلها العراكَ) إما أن نقول بأن العراك هنا مؤوّل بنكرة (معتركة)، وإما أن يُقال بأن (أل) هنا زائدة، وكذلك إذا جاء مضافاً حينئذٍ اكتسب التعريف، (اجتهد وحدَك) حينئذٍ نقول وحدَك المراد به منفرد، ادخلوا الأول فالأول, الأول حال وما بعده معطوفاً عليه بالفاء؛ كما ذكرناه أولاً؛ والمؤوّل بالنكرة هنا قيل مجموع الاسمين؛ أي ادخلوا مترتبين، وقيل كل واحد من الاسمين يؤوّل بوصفٍ منكر؛ أي ادخلوا واحداً فواحداً، وقيل الأول أقرب إلى الثاني.
إذن: هذا التعليل لماذا كان الأصل في الحال أن تكون نكرة؟ وعُلّل أيضاً بتعليل آخر إنما التزم تنكير الحال لئلا يُتوهّم كونه نعتاً؛ لأن الحال لها شبه بالخبر، ولها شبه بالنعت، فلذلك هي من حيث الأحكام مركّبة؛ لها شبه بالخبر فأخذت بعض أحكامه، ولها شبه بالنعت فأخذت بعض أحكامه؛ خوفاً من توهّم أن يكون اللفظ نعتاً لا حالا التُزِم تنكيرها، وإنما التُزم التنكير لئلا يتوهم كونه نعتاً؛ لأن الغالب كونه مشتقاً وصاحبه معرفة، هذا عند جمهور البصريين؛ أن الحال لا بد أن تكون نكرة، فإن جاءت معرفة وجب تأويلها، قال:
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً فَاعْتَقِدْ ... تنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ


أي مُنفرداً، هذا مذهب جمهور النحاة؛ لئلا تلتبس بالنعت، فلذلك في (رأيتُ زيداً الراكبَ)، لو قيل: رأيتُ زيداً الراكبَ هل تريدُ به النعت أم الحال؟ هذا وقعَ فيه لبس، (رأيت زيداً الراكب) إذا لم نشترِط التنكير في الحال ما إعراب الراكب هنا؟ يحتملُ أنه نعت ويحتمل أنه حال، لكن قلتَ رأيت زيداً راكباً حصلَ تخالفٌ بين المنعوت ونعته، إذن لا يمكن أن يكون نعتاً، إذ لو كان نعتاً لوجب تعريفه؛ لأن المنعوت وهو زيد معرفة، وشرط النعت مع منعوته التطابق. إذن رأيتُ زيداً الراكبَ يمتنع أن يكون الراكب هنا حال لأن شرط الحال أن تكون نكرة، وهذا مذهب جمهور النحاة، وأجاز يونس تعريفه مُطلقاً بلا تأويل، فأجاز جاء زيدٌ الراكبَ، جاء فعل ماضي، وزيد فاعل، والراكب هذا حال، وما الفرق بينه وبين النعت؟ وهنا وقعَ إشكال. وفصّلَ الكوفيون فقالوا إن تضمّنت الحال معنى الشرط صحّ تعريفها لفظاً، نحو: عبد الله المحسنَ أفضل منه المسيئَ؛ عبد الله المحسنَ يعني إذا أحسنَ، أفضلُ منه المسيءَ؛ فالمحسن والمسيء حالان وصحّ مجيئهما بلفظ المعرفة لتأوّلهما بالشرط؛ إذ التقدير عبد الله إذا أحسنَ أفضلُ منه إذا أساء. إذن إذا تضمّنت معنى الشرط جاز التعريفُ عند الكوفيين، فإن لم تتضمن الحال معنى الشرط لم يصح مجيئهما بلفظ المعرفة؛ فلا يجوز أن يُقال جاء زيدٌ الراكبَ على أنه حال؛ لماذا؟ لأنه لا يُقال (جاء زيدٌ إن رَكِب) بالشرط لا يُقال هذا. إذن: في الحال من جهة كونها نكرة أو معرفة ثلاثةُ مذاهب؛ مذهبُ جمهور البصريين والنحاة أنه يُشترط فيها أن تكون نكرة؛ فإن جاءت معرفة وجبَ التأويل، عكسهم يونس ووافقه البغداديون أنه لا يُشترط؛ مطلقاً سواءٌ تضمنت الشرط أم لا. حينئذٍ (جاء زيدٌ الراكبَ) هذا حال، (رأيتُ زيداً الراكبَ) هذا حال، فلا يُشترَط فيها التنكير، والكوفيون على التفصيل إن تضمّنت معنى الشرط جازَ تعريفها لفظاً كالمثال الذي ذكرناه؛ وإلا فحينئذٍ لا يجوز لأنه لا يُقال جاء زيد الراكبَ.
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً فَاعْتَقِدْ ... تنْكِيرَهُ مَعْنًى ..................

إذن الأصل فيها التنكير، وعُلّل بعلتين؛ الأولى أن لا يُتوهم أنه نعت؛ ففرقٌ بين النعت والحال؛ فالأصل في النعت أن يكون مُشتقّاً. حينئذٍ الأصل فيه كذلك التطابق مع منعوته، والأصل في الحال أن تكون نكرة، من أجل المفارقة بين النوعين اشتُرِط التنكير في الحال، وعُلّل بأن الأصل في اللفظ في الاسم أنه نكرة فإذا أمكن الدلالة على الغرض والفائدة من مجيئ الحال وهو الدلالة على الهيئة بالنكرة لا يُعدل عنه إلى الزيادة؛ لأن المعرفة نكرة وزيادة، إذا قيلَ (جاء زيدٌ راكباً) راكباً: هذا أفهمَ بيان وكشف وإيضاح هيئة زيد؛ حصلَ أو لا؟ حصل الغرض، إذن لماذا تزيده شيئاً زائداً على مجرد التنكير؟ تقول: جاء زيد الراكبَ زدته (أل)؟ نقول هذا يُعتبر حشواً في الكلام، كلُّ لفظٍ خروجه ودخوله لا يؤدّي معنىً حينئذٍ صار حشواً في الكلام.
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ


قيلَ هذا الأولى تقديمه على قوله: (وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً)؛ لماذا؟ لأن المصدرَ جامد وإذا كان كذلك فالأصل أن يقول: (كَبِعْهُ مُدّاً بِكَذَا) ثم يقول: (وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ) هذا الأصل فيه، لكنه فصلَ بينه وبين ما سبقَ في الجمود بقوله: (وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظَاً).
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ ما هو المصدر؟ الاسم الجاني على الحدث وهو دالٌّ على معنىً فقط لا يدل على ذات. إذن تخلّفَ فيه شرطٌ؛ وهو كونه ليس بوصف، الأصلُ في الحال أن تكون وصفاً مشتقّا دالّةً على ذات ومعنى، المصدر لا يدلّ إلا على معنى (قتل؛ ضرب؛ مشي؛ أكل؛ شرب) هذه كلها لا تدلّ إلا على معاني (عدل؛ فسق) نقول هذه كلها لا تدل إلا على معنى، ولا تدل على الذات، فالأصل حينئذٍ لا يوصف بها الذات؛ لأن الأصل في الحال أن تكون هي صاحب الحال في المعنى؛ إذا قيل جاء زيدٌ راكباً, راكباً هذا دلّ على ذات؛ زيدٌ ذات أو لا؟ ذات، وراكباً دلّ على ذات، إذن أُعيدت الذات لكنها مُبهمة في ضمن الحال، إذن هي نفسها صاحب الحال وزيادة، إذا قلت جاء زيد راكباً, راكباً هذا دلّ على ذات؛ ما هي هذه الذات؟ هي نفسها صاحب الحال؛ دلت على صاحب الحال وزيادة؛ ما هي هذه الزيادة؟ وصفه بالركوب. إذن الأصل في الحال أن تكون مُتضمّنة لصاحب الحال، طيب إذا قيل: طلع زيد بغتة .. فجأة، هذا ليس دالاً على الذات، حينئذٍ كيف تكون الحال مُتضمّنة لمعنى متضمناً لصاحب الحال؟ امتنع ذلك.
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ

قيل هذا البيت الأولى تقديمه على البيت السابق لأن المصدر من الجوامد مما يُؤوّل بمشتق، وَمَصْدَرٌ يعني جامد لأنه يدلّ على حدث فقط، وَمَصْدَرٌ هذا مبتدأ، مُنكَّرٌ هذا صفة له، وهو المسوغ للابتدا بالنكرة، يَقَعْ: الجملة خبر، وحَالاً حالٌ .. حَالاً إعرابه حالٌ، إذن حَالاً هذا حالٌ متقدّمة على يقع، وهو حالٌ من الفاعل الضمير المستتر. يَقَعْ سماعاً مطلقاً عند سيبويه، وبِكَثْرَةٍ هذا متعلق بقوله يَقَعْ، ومنه قوله تعالى: (فَادْعُوهُ خَوْفاً) أي خائفين، خَوْفاً وَطَمَعاً أي طامعين. إذن وقعَ المصدر حالاً في القرآن، وكثير هذا، (فَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) خَوْفاً إعرابه أنه حال، وَطَمَعاً معطوف عليه؛ لأنه إذا تعددت الحال .. شرطُ إعرابِ الثاني حالاً أن لا يُعطف عليه بواوٍ؛ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ: كقولك: (زيد طلع بغتةً) بَغْتَةً: فعلة من البَغت؛ يعني أن يفجأك بشيء، زيد طلع بغتةً أي فجأةً، وجاء زيدٌ ركضاً؛ وقتلته صبراً، وهو عند سيبويه والجمهور على التأويل بالوصف. زيدٌ طلع بغتةً أي باغتاً؛ تأويل بالوصف؛ يعني نؤوّله باسم فاعل أو اسم مفعول، طلعَ زيد بغتةً أي باغتاً، وجاء زيد ركضاً أي راكضاً، وقتلته صبراً أي مصبوراً، وهذا يؤوّل باسم مفعول؛ قتلته أي المقتول فهنا صبراً حال من المفعول؛ أي مصبورا: يعني محبوساً.


(بِكَثْرَةٍ) قوله: بِكَثْرَةٍ دلَّ على أنه غير مقيس؛ يعني يُحفَظ ولا يُقاس عليه، وهو رأي سيبويه والجمهور. دلَّ على أنه غير مقيس وأنه خلاف الأصل؛ لأن الأصل لا يُقال فيه قليل وكثير. إذا النحاة عبّروا بالقلة والكثرة دلّ على أنه غير موافق للأصل وإنما يُقال فيه مقيس وغير مقيس، هذا الأصل فيه، وأما إذا قيل ندر، وقيل قليل أو كثير قالوا هذا خلاف الأصل.
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ لمَ قيّدَ المصدر بكونه منكراً؟ هل هو احتراز عن المعرّف؟ هل ورد المعرف وهو مصدر حال في لسان العرب؟ نقول نعم؛ له مفهومه وهو معتبر، وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ مفهومُه أن وقوع المصدر المعرف حالاً قليل في لسان العرب وهو كذلك. إذن مُنكَّرٌ نقول أرادَ به الاحتراز عن المعرف؛ لأنه ليس بكثير، وهو أراد ضبط المصدر الذي يقع حالاً بكثرة، وأما ما عدا الكثرة فهو راجع إلى القلة، وذلك ضربان –نوعان- المصدر المعرّف الذي وقعَ حالاً هذا على نوعين؛ أولاً: علم جنس كقولهم: جَاءَتِ الْخَيْلُ بَدَادِ؛ كحذامي، هذا حال وهو علم جنس للتبديد بمعنى التفرق، جاءت الخيل مُتفرّقة مُتبددة يعني، مبنيٌّ على الكسر كحذامي، ووقع حالاً لتأوله بوصف، وهو قولهم مُتبدّدا. إذن علمُ جنسٍ كبدادِ وهو كحذامي مبنيّ على الكسر، نقول جَاءَتِ الْخَيْلُ بَدَادِ أي متبددة يعني متفرقة.
الثاني: أن يكون معرفا بـ (أل)؛ ليس بعلم جنس، وإنما معرفاً بـ (أل)؛ كالشاهد المشهور: أرسلها العراكَ, العراكَ دخلت أل عليها، حينئذٍ نقول هو مؤوّل بنكرة؛ أي معتركة، وزِيدَ عليه المعرف بالإضافة (جاء زيد وحدَه) أي منفرداً.
إذن وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ احتراز من المعرف فإنه وقعَ في لسان العرب لكن بقلة، وهو في نوعين علم جنس كبدادِ، وجاء كذلك في النوع الثاني معرف بأل أو الإضافة.
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ بِكَثْرَةٍ كقولك زيد طلع بغتة أي باغتاً.
قال ابنُ عقيل حقُّ الحال أن يكون وصفاً .. هذا الأصل فيها أن يكون وصفاً، وهو مادلَّ على معنى وصاحبه يعني الذات؛ كقائم وحسن ومضروب؛ فوقوعها مصدراً على خلاف الأصل، إذا جاءت مصدر لم تدل على الذات بل دلّت على معنى، وحيئنذٍ يكون على خلاف الأصل. إذ لا دلالة فيه على صاحب المعنى، وشرط الحال أن تكون نفسَ صاحبها في المعنى. لا بد من ذلك .. شرطُ الحال -وهو زاده ابن هشام في الأوضح- أن تكون الحال نفس صاحبها في المعنى، حينئذٍ يكون مُكرراً مبهماً، جاء زيد راكباً هذا دلَّ على الذات وهو زيد السابق، ثم زاد عليه وصف، وهو الدلالة على الركوب، وقد كثُر مجي الحال مصدراً نكرة، ولكنه ليس بمقيس لمجيئه على خلاف الأصل، وأجاز المبرد القياس عليه في النوع لا مطلقاً، نحو جاء زيد سرعة، يعني ما كان نوعاً من الفعل أجازَ المبرد قياسه، وذهب الأخفش والمبرد إلى أنه منصوب على المصدرية؛ حينئذٍ يكون مفعولاً مطلقاً والعامل فيه محذوف من لفظ المصدر؛ بغتةً زيد طلع؛ طلع زيد بغتةً؛ يبغت بغتةً، حينئذٍ صارَ مفعولاً مطلقاً والعامل فيه محذوف، فيبغتُ عندهم هو الحال لا بغتة، و (جاء زيد ركضاً) أي يركض ركضاً، و (قتلته يصبر صبراً) فالحال عندهم الجملة لا المصدر.


القول الثالث- وهو مذهب الكوفيين-: أنه منصوب على المصدرية كذلك؛ مثل مذهب الأخفش والمبرد، ولكن الناصب له عندهم الفعل المذكور وهو طلع في المثال الذي ذكره الناظم لتأويله بفعل من لفظِ المصدر، والتقدير في قولك: (زيد طلع بغتةً) زيدٌ بغتَ بغتةً، وردّوه إلى المفعول المطلق، فيؤوّلون طلع ببغتَ، وينصبون به بغتةً، أو ليس على المفعول المطلق وإنما يُضمّن الفعل معنى المصدر الذي ذُكِرَ، يعني (طلع زيد بغتةً) طلعَ بمعنى بغت؛ فكأنه ضُمّن معنى بغتَ، فصارَ ناصباً للمذكور، وقيل: هي مصادر على حذف مصادر، والتقدير (طلع زيد طلوع بغتة) و (جاء مجيء ركضٍ) و (قتلته قتل صبر)، وقيل هي مصادر على حذف مضاف، والتقدير طلع ذا بغتة، وهذا المشهور عند النحاة في الإعراب، (زيد عدل) ذا عدل، (جاء زيد بغتةً) أي ذا بغتة، هذا المشهور في الإعراب، وجاء ذا ركضٍ، وقتلته ذا صبرٍ.
إذن خمسة مذاهب في وقوع المصدر حالاً
وَمَصْدَرٌ مُنكَّرٌ حَالاً يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ

أنه غير مقيس عند سيبويه وغيره، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!