شرح ألفية ابن مالك للعثيمين

كان وأخواتها

عمل كان

توسط خبر كان وأخواتها

حكم تقدم خبر دام

حكم تقدم خبر كان وأخواتها على ما النافية

كم تقدم خبر ليس عليها

ما يجيء تاماً وناقصاً من كان وأخواتها وما يلازم النقص

حكم مجيء معمول خبر كان بعدها

خصائص كان

زيادة كان

حذف كان واسمها

حذف كان وتعويض (ما) عنها

حذف نون مضارع كان في حالة الجزم

فصل: في ما ولات وإن المشبهات بليس

شروط إعمال ما عمل ليس

حكم تقدم معمول خبر ما الحجازية

رفع المعطوف بلكن أو ببل على خبر ما المنصوب

جر خبر ما وليس ولا وكان المنفية بالباء الزائدة

شروط إعمال لا ولات عمل ليس

 

عمل كان

  

قال ابن مالك رحمه الله: (كان وأخواتها). تكلمنا عن المبتدأ وذكرنا أن باب الابتداء هو أول الأبواب التي يبحث فيها عن الجمل، وكل ما سبقه يبحث فيه عن المفردات. إذاً أول بحث في الجمل هو: باب الابتداء، والمبتدأ والخبر مرفوعان، ويدخل عليهما ثلاثة أصناف من العوامل: فمن هذه العوامل ما يغير الخبر دون المبتدأ، ومنها ما يغير المبتدأ دون الخبر، ومنها ما يغيرهما جميعاً. ويسمى هذا التغيير نسخاً، وهو معنى مطابق؛ لأن النسخ رفع الشيء، فمثلاً: كان وأخواتها إذا دخلت على المبتدأ والخبر نسخت الخبر من الرفع إلى النصب، فبدلاً من أن تقول: زيد قائم، تقول: كان زيد قائماً. وإن وأخواتها بالعكس، تنسخ لفظ المبتدأ دون الخبر، فإذا قلت: (زيد قائم)، ثم أدخلت إن على هذه الجملة قلت: (إن زيداً قائم) فتجد زيداً تغير من الرفع إلى النصب. وظن وأخواتها تنسخ الجزءين، فإذا قلت: زيد قائم، ثم قلت: ظننت زيداً قائماً وجدت أنها نسخت الجزءين وأن الجزءين أصبحا منصوبين بعد أن كانا مرفوعين. وبدأ المؤلف بكان وأخواتها، لأنها لا تنسخ إلا أحد الجزءين، وقدمها على إن وأخواتها؛ لأن إن وأخواتها حروف وكان وأخواتها أفعال، والأفعال أولى بالتقديم من الحروف؛ لأنها تدل على معنى في ذاتها، بينما الحروف تدل على معنىً في غيرها. وأيضاً كان وأخواتها، لا يتغير الجزء الأول من المبتدأ والخبر بخلاف إن وأخواتها، ومعلوم أن الذي يبقي على الجزء الأول المجاور له أولى بالتقديم من الذي يبقي على الجزء الثاني دون الجزء الأول. وأخر ظن وأخواتها؛ لأنها تغير الجزءين جميعاً. أما عمل كان وأخواتها فهو رفع المبتدأ ونصب الخبر، والمراد (بالأخوات) هنا النظائر التي تشبهها في العمل. قال: [ترفع كان المبتدأ اسماً والخبر تنصبه ككان سيداً عمر] ترفع كان المبتدأ مثاله: كان الله غفورًا رحيمًا [النساء:96]. وإن شئت مثلت بمثال المؤلف وإن كان فيه تقديم وتأخير فتقول: كان عمر سيداً، فعمر هنا مرفوع بكان، ولو قال قائل: لماذا لا نجعله مرفوعاً بالابتداء؟ قلنا: لا يمكن أن نقول ذلك، لأنه الآن ليس مبتدأً، فلا يصح أن نقول: إنه مرفوع بالابتداء وقبله عامل. لكن قولنا: عمر سيد، هذا ليس قبله عامل؛ فلهذا نقول: عمر مرفوع بالابتداء، وسيد: مرفوع بالخبر. وعلى هذا فيكون المبتدأ مرفوعاً بكان؛ فعمر في (كان عمر سيداً) اسم كان مرفوع بها، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره. وقوله: (والخبر تنصبه) يعني أن كان تنصب الخبر، وكونها تنصب الخبر واضح، لأن الخبر كان مرفوعاً فغيرته إلى النصب، ويسمى خبراً لها، فتقول: كان عمر سيداً، (سيداً) خبر كان منصوب بها وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره. واعلم أن (كان) الداخلة على المبتدأ والخبر في باب أسماء الله وصفاته لا تدل على الزمان، وإنما فيها تأكيد اتصاف الله بهذا الوصف، فقوله تعالى: وكان الله غفورًا رحيمًا [النساء:96]، كان: فعل ماض لكن لا تدل على زمن مضى؛ لأنك لو قلت: إنها تدل على زمن مضى لكانت المغفرة والرحمة الآن غير موجودة، ولكنها تدل على أن هذا الشيء كائن لا محالة، فيكون فيها توكيد اتصاف الله سبحانه وتعالى بخبرها. لكن لو قلت: كان زيد قائماً؛ فلا نقول: إن كان مسلوبة الزمان لأن من الممكن أنه كان قائماً وهو الآن قاعد. وقوله: (كان سيداً عمر) يحتاج المؤلف إلى تقديم الخبر من أجل روي البيت، والترتيب الأصلي أن يقال: كان عمر سيداً، و(عمر ) هنا ابن الخطاب رضي الله عنه، و(سيداً) من السادات وليس هو السيد المطلق؛ لأن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وسيد هذه الأمة بعده أبو بكر رضي الله عنه، وسيد الأمة بعد أبي بكر عمر ، وسيدها بعد عمر عثمان ، وسيدها بعد عثمان علي بن أبي طالب ، وسيدها بعد علي الحسن بن علي بن أبي طالب ؛ لأنه رضي الله عنه أحق بالخلافة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين). الشاهد أن عمر سيد من السادات ونعم السيد عمر رضي الله عنه فإن الله تعالى فتح على يديه فتوحات كثيرةً عظيمة، وانتشر في عهده العدل، وصلحت الأمة حتى كان عهده مضرب المثل في العدل والاطمئنان والحزم وعدم الغفلة، فلذلك استحق أن يكون سيداً رضي الله عنه. أفادنا المؤلف رحمه الله أن عمل كان هو رفع المبتدأ اسماً لها ونصب الخبر خبراً لها، وأفادنا أن الضمة التي كانت على المبتدأ بعد دخول كان ليست من أجل الابتداء ولكن من أجل دخول كان. قال: (ككان ظل) هذا تركيب عجيب غريب؛ قد يقول القائل: قد ذكر أن حروف الجر لا تدخل إلا على الأسماء، وهنا دخلت الكاف على (كان) وهي فعل، فكيف المخرج؟ نقول: لأنه أريد لفظها، ومتى أريد اللفظ جاز دخول حرف الجر سواء كان المدخول عليه فعلاً، أو جملة فعلية، أو جملة اسمية. وأما (ظل) فهي مبتدأ. (وككان) خبر مقدم، وظل وما عطف عليه مبتدأ مؤخر. وظل هنا بالظاء أخت الطاء وتسمى الظاء المشالة؛ لأنها شيلت بالألف، وظل بمعنى صار. وهناك ضل بالضاد من الضلال وليست من هذا الباب، فإذا قلت: ضل الرجل تائهاً، فالرجل: فاعل، وتائهاً: حال، ولا نقول: إنه من باب أخوات كان، ولا تدل على ما تدل عليه ظل؛ لأن ظل تدل على الصيرورة وعلى نوع من الاستمرار، ومثالها قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل:58]، أي: صار واستمر إلى حين ما مسوداً. و(بات) من البيتوتة؛ وهي النوم في الليل، هذا هو الأصل، وتطلق على مجرد البيتوتة فتقول: بات الرجل نائماً، وتقول: بات الرجل ساهراً، وكلاهما صحيح، وبات ترفع الاسم وتنصب الخبر. و(أضحى) من الضحى: وهو ارتفاع النهار، فإذا قلت: أضحى الرجل صائماً؛ فالمعنى صار صائماً، لكنك خصصته في زمن معين وهو الضحى. و(أمسى) مثلها أيضاً، فتقول: أمسى الرجل جائعاً، يعني: صار في المساء جائعاً. و(صار) من الصيرورة لا من الصير؛ لأن صار تأتي من الصير، وتأتي من الصيرورة يعني: الانقلاب من حال إلى حال، والمراد هنا الصيرورة، فتقول: صار الخزف إبريقاً، وصار الصديق عدواً، وصار العدو صديقاً، وصار الراكب راجلاً، وصار الراجل راكباً، وهلم جرا. وأما من الصير الذي بمعنى الضم فليست من هذا الباب، ومن ذلك قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260]، أي: ضمهن إليك. و(ليس) فعل يدل على النفي، وقد قال بعض النحويين: إنها ليست فعلاً بل هي حرف؛ لأنها تشبه الحرف في عدم التصرف؛ فتكون حرفاً. لكن الصواب أنها فعل ولا شك، والدليل قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [النساء:18]، فدخلت عليها تاء التأنيث، وهذا يدل على أنها فعل ماضٍ. (وزال) التي مضارعها يزال -لا التي مضارعها يزول، ولا التي مضارعها يزيل- تعمل عمل كان، ومن ذلك قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]، فيزالون: فعل ماض ناقص ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسمها هنا ضمير مبني على السكون في محل رفع، و(مختلفين) خبرها. أما زال التي مضارعها (يزول) فإنها لا تعمل عمل كان بل هي تامة، تقول: زالت الشمس، والمضارع: تزول الشمس. كذلك زال التي مضارعها (يزيل) فإنها ليست من أخوات كان، وهي بمعنى تميز، تقول: زال مالك عن ماله، يعني: ميزه. و(برح) أصل برح مأخوذة من البراح وهو السعة، لكنها تفيد الاستمرار إذا كانت من أخوات كان. و(فتئ) بمعنى عمل هذا الشيء وما أشبه ذلك، لكنها تكون للاستمرار. (انفك) يعني: تخلص من الشيء، لكنها إذا كانت من أخوات كان لا تكون بهذا المعنى كما سيأتي أيضاً؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ وهذي الأربعة لشبه نفي أو لنفي متبعه ] فقوله: (هذي) اسم الإشارة يعود إلى أقرب مذكور، وهي: زال، وبرح، وفتئ، وأنفك. فهذه الأربعة لا تكون من أخوات كان إلا إذا اقترنت بنفي، أو شبه نفي، وهو النهي، ولا فرق بين أن يكون النفي بما أو لا أو غير أو ما أشبه ذلك. فالمهم أن تكون مقترنة بما يفيد النفي أو شبهه. قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]، فهنا سبقت بحرف النفي لا. كذلك أيضاً قال تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا [يوسف:85]، فالنفي هنا محذوف، وأصلها تالله لا تفتأ تذكر يوسف؛ يعني لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضاً. لكن النفي يحذف من (تفتأ) إذا سبقها قسم، وكانت فعلاً مضارعاً، وأداة النفي لا، فإذا تمت الثلاثة فإنه يحذف النفي. وبعضهم نظم هذا فقال: ويحذف ناف مع شروط ثلاثة إذا كان لا قبل المضارع في القسم وهذه الشروط متحققة في الآية: فحرف النفي لا، وقبلها قسم، والفعل مضارع. وبرح: قال الله في قصة موسى والخضر: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، أي: لا أبرح سائراً، فالخبر محذوف. والرابع انفك، تقول: ما انفك البرد شديداً يعني: لم يزل البرد شديداً. قال المؤلف: (وهذي الأربعة لشبه نفي أو نفي متبعة) والسبب في تقديم المؤلف شبه النفي على النفي مع أن الأصل أن المشبه به أقوى من المشبه؛ قيل: لضرورة النظم وهذا هو الظاهر. وبعض المحشين يقول: قدم شبه النفي جبراً لنقصه؛ يعني أن شبه النفي أنقص من النفي فقدمه جبراً لنقصه. لكن النظم ربما يقول قائل: يمكن أن ينجبر البيت بغير هذا، فيقول مثلاً: وهذه الأربعة لنفي أو لشبه نفي متبعة. ويقال لهذه الأفعال الأربعة: أفعال الاستمرار؛ لأنها تدل عليه. ثم قال: [ومثل كان دام مسبوقاً بمـا كأعط ما دمت مصيباً درهماً] دام مثل كان، وهو


 

شرح ألفية ابن مالك [21]

 

كان وأخواتها نواسخ ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، ولأخبارها أحكام مختلفة من حيث التوسط والسبق ونحو ذلك، وبعض هذه النواسخ قد يأتي تاماً ويأتي ناقصاً، وقد تحذف كان مع اسمها أو وحدها، وهذه أمور مفصلة عند النحاة.

 

توسط خبر كان وأخواتها

  

 

ثم قال: (وفي جميعها توسط الخبر أجز) (في جميعها) جار ومجرور ومضاف متعلق بأجز. و(توسط) مفعول به وعامله أجز، وهو مضاف إلى الخبر. و(أجز) فعل أمر وفاعله مستتر وجوباً تقديره أنت. وقال: (وكل سبقه دام حظر) (كل) مبتدأ. و(سبق) مفعول مقدم لحظر، وهو مضاف إلى الضمير، والضمير هنا فاعل المصدر. و(دام) مفعول به للمصدر. و(حظر) خبر كل، والتقدير: كل حضر سبق الخبر دام والمعنى: أن كان وأخواتها وهي ثلاثة عشر، كلها يجوز فيها توسط الخبر، تقول: كان قائماً زيد، وظل شديداً المطر، وما فتئ قائماً خالد، وما دام قائماً فلان، وليس ناجحاً الكسول. إذاً جميع هذه الثلاثة عشر يجوز أن يتوسط خبرها. وهل يجوز أن يتقدم الخبر على الأداة؟

 

حكم تقدم خبر دام

  

 

يقول: (وكل سبقه دام حظر) أي: كل النحويين، (حظر) أي منع سبقه لدام، فهل المراد سبقه لدام بحيث يتوسط بينها وبين ما، أو بحيث يتقدم على ما؟ مثاله: ما قائماً دام زيد، فهذا فيه احتمال أنه لا يجوز بالإجماع، وقولنا: قائماً ما دام زيد، هذا لا يجوز بالإجماع. والإشكال الآن نقل الإجماع فيما إذا كان الخبر بين ما ودام. فمواضع الخبر في دام أربعة: قائماً ما دام زيد، ما قائماً دام زيد، ما دام قائماً زيد، ما دام زيد قائماً، اثنان جائزان بالاتفاق وهما: ما دام زيد قائماً، وما دام قائماً زيد. وواحد ممنوع بالاتفاق وهو تقدم الخبر على (ما دام) كلها، مثل: قائماً ما دام زيد. والرابع: أن يتوسط الخبر بين ما ودام وهذا يحتمل كلام ابن مالك أنه ممنوع بالإجماع كما هو ظاهر اللفظ، والأمر ليس كذلك، ففيه خلاف.

 

 

 

 

حكم تقدم خبر كان وأخواتها على ما النافية

  

 

وقوله: (وكل سبقه دام حظر) ظاهر كلامه أن ما عداها يجوز فيه تقدم الخبر على الأداة، ولكنه قال: (كذاك سبق خبر ما النافيه فجيء بها متلوةً لا تاليه) يعني: إذا جاءت ما النافية في واحدة من الأدوات، فإنه يمتنع أن يتقدم عليها الخبر سواء كانت الأداة مما يشترط فيها أن يسبقها نفي أو شبهه أو لا. فما النافية لا يتقدم عليها شيء، فلو قلت: ما كان زيد ظلوماً، ثم قلت: ظلوماً ما كان زيد، لا يجوز؛ لأنه لا يتقدم الخبر على ما النافية. أما إذا قلنا: ما ظلوماً كان زيد، فهو جائز، وكذلك ما كان زيد ظلوماً جائز أيضاً؛ ولهذا يقول: (كذاك سبق خبر ما النافية). (كذاك) خبر مقدم، أي كالذي سبق، و(ذا) اسم إشارة لما سبق، يعني مثل: ذاك الذي ذكرنا في ما سبق. و(سبق) مبتدأ مؤخر، وهو مضاف إلى (خبر)، وسبق مضاف إلى فاعله. و(ما) مفعول سبق، و(ما) مضاف، و(النافية) مضاف إليه، ويجوز أن تكون النافية صفة لما. والمعنى: يمتنع أن يسبق الخبر ما النافية سواء كانت الأداة مما يشترط فيها تقدم النفي وشبهه أو لا. ثم قال: (فجيء بها متلوة لا تالية). أي: جئ بما النافية متلوة لا تالية. فـ(جيء) فعل أمر، و(بها) جار مجرور متعلق بفعل الأمر. و(متلوة) حال من (ها)، في قوله (بها). و(لا) عاطفة. و(تالية) معطوفة على (متلوة). فهي منصوبة على الحال، أي: ائت بما النافية سابقة، وما بعدها تالٍ لها. والخلاصة: أن توسط الخبر بين الأداة والفعل جائز بالاتفاق. أما تقدم الخبر على الأداة فجائز في غير (دام)، أما فيها فإن ظاهر كلام ابن مالك أنه ممنوع، ولكن الصحيح أنه جائز وأن الممنوع تقدم الخبر على (ما) فقط سواء ما المصدرية الظرفية، أو ما النافية وسواء ما يشترط فيه تقدم النفي وشبهه أو لا. وإذا كان النفي بغير (ما) جاز أن يتقدم الخبر على الأداة وعلى حرف النفي مطلقاً، مثل: قائماً لم يزل زيد، وقاعداً لم يكن عمرو. وقوله: (فجئ بها متلوة لا تالية) هذا الشطر قد يقول قائل: إنه لا فائدة منه؛ لأنه إذا منع تقدم الخبر على ما النافية لزم أن تكون متلوة لا تالية، فيقال: بل له فائدتان أيضاً: الفائدة الأولى: الإشارة إلى أن ما النافية لها الصدارة في الكلام فإذا كانت لا تأتي إلا متلوة فلا يجوز أن يتقدم عليها غيرها مما هو في ضمن جملتها. والفائدة الثانية: تقرير الحكم السابق، ولا مانع أن الإنسان يأتي بجملة بعد حكم من الأحكام لتقرير ذلك الحكم وتثبيته.

 

 

 

 

كم تقدم خبر ليس عليها

  

 

ثم قال: [ومنع سبق خبر ليس اصطفي وذو تمام ما برفع يكتفي] (منع) مبتدأ، و(اصطفي) خبر المبتدأ، و(منع) مضاف، و(سبق) مضاف إليه، و(سبق) مضاف، و(خبر) مضاف إليه، فسبق مصدر مضاف إلى فاعله، و(ليس) مفعول به لسبق، والتقدير: اصطفي منع سبق سبق الخبر لليس. ففي هذا الشطر أشار ابن مالك رحمه الله إلى أن النحويين اختلفوا في جواز تقدم خبر ليس عليها، واختار هو المنع؛ لأن (اصطفي) بمعنى اختير، فهو يقول رحمه الله: اصطفي منع سبق خبر ليس عليها، وهو إشارة إلى أن المسألة فيها خلاف. والصحيح جواز تقدم خبر ليس عليها خلافا لابن مالك ؛ لأن في القرآن ما يشير إلى جواز ذلك وهو قوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ [هود:8] فإن (يوم) ظرف، وعامله (مصروفاً) والتقدير: ليس مصروفاً عنهم يوم يأتيهم، يعني: لا يصرف عنهم العذاب يوم يأتيهم، فـ(يوم يأتيهم) معمول لمصروفاً، ومصروفاً هو الخبر، وإذا جاز أن يتقدم معمول الخبر وهو فرع لعامله فتقدم عاملة من باب أولى، ولهذا كان القول الراجح جواز تقدم خبر ليس عليها. وعلى هذا فتقول: قائماً ليس زيد. وعلى رأي ابن مالك لا يجوز أن تقول: قائماً ليس زيد، بل قل: ليس قائما زيد، أو ليس زيد قائماً. والقائلون بالمنع قاسوا قياساً فاسداً، فقالوا: لأن (ليس) دالة على النفي؛ فيمتنع تقدم خبرها عليها، كما منعنا تقدم الخبر على ما النافية. فيقال: هذا قياس ليس بصحيح؛ لأن ليس نفيها من ذاتها، بمعنى: أنها فعل دال على النفي، و(ما) لا تدل على النفي إلا باقترانها بما بعدها فلا يصح القياس. ونعارض قياسهم فنقول: نقيسها على جواز تقدم الخبر إذا كانت الأداة ليست (ما) كما نجوز أن نقول: قائما لا يزال زيد. فليس قياسها على (ما) بأولى من قياسها على (لا). وعلى هذا فيكون هذا الدليل مدفوعاً، ودليل الجواز مثبتاً، وهو قوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ [هود:8]. وقد أجابوا عن الآية بما لا يغني، وهو أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها.

 

 

 

 

ما يجيء تاماً وناقصاً من كان وأخواتها وما يلازم النقص

  

 

يقول: (وذو تمام ما برفع يكتفي ) ذو: يجوز في إعرابها وجهان: الأول: أن تكون خبراً مقدماً لـ (ما). الثاني: أن تكون مبتدأ والخبر (ما)؛ لأن (ما) اسم موصول، و(برفع) جار ومجرور متعلق بـ (يكتفي)، أي: ذو التمام ما يكتفي بالرفع. فأفادنا المؤلف رحمه الله بأن هذه المواد تنقسم إلى قسمين: قسم تام، وقسم ناقص. فالتام هو الذي يكتفي بمرفوعه، ولا ينتظر المخاطب شيئاً، وعلامته أنه لا يراد به اتصاف شيء بشيء، مثال ذلك: كان زيد فمات، فلا ينتظر المخاطب شيئاً. ذا قلت له: كان فمات، وأنت لا تريد أن تصفه بصفة، بل تريد أن تخبر عن وجوده فقط وحينئذ لا نحتاج إلى الخبر. فالتام له علامتان: الأولى: أن المخاطب لا ينتظر شيئاً. الثانية: أنه لا يراد به اتصاف شيء بشيء. وله أمثله، منها قوله تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] فتمسون وتصبحون من أخوات كان، لكن هنا تامة، ومعنى قوله: حين تمسون، أي: حين تدخلون في المساء، وحين تصبحون: حين تدخلون في الصباح. فالمخاطب لا ينتظر شيئاً حين أقول: سبح الله إذا أمسيت، وسبح الله إذا أصبحت. لكن لو كان المعنى في غير القرآن: اسأل الله الشفاء حين تمسي مريضاً؛ فهنا تكون ناقصة؛ لأن المقصود أن يوصف شيء بشيء. وإذا قلنا: سرنا في الطريق وكان المطر، فهذه تامة؛ لأن المخاطب لا ينتظر شيئاً، وأنت لا تريد أن تصف المطر بشيء آخر سوى وجوده. لكن لو أردت أن تخبر عن المطر بأنه شديد، وتقول: كان المطر، فلا يتم الكلام، لأنك تريد أن تصف المطر بشيء، فتقول: كان المطر شديداً. ويقدر بعض النحويين كان التامة بـ(وجد)، وهو تقدير تقريبي وليس على سبيل التحديد. ووجه ذلك أن (وجد) فعل مبني للمجهول، ولا يمكن أن نفسر المعلوم بالمبني للمجهول، لكن هم يقولون ذلك على سبيل التقريب، وإذا كان على سبيل التقريب فلا بأس به، فيقولون: كان زيد فمات، أي: وجد زيد فمات. ومنه قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107] أي ما وجدت السموات والأرض لكن هذا على سبيل التقريب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما سواه ناقص والنقص في فتئ ليس زال دائماً قفي ] (النقص) مبتدأ و(قفي) يعني: اتبع وهو خبر المبتدأ، و(في فتئ) جار ومجرور، و(ليس) معطوف عليه بإسقاط حرف العطف لضرورة الشعر، و(زال) كذلك معطوف على فتئ بإسقاط حرف العطف لضرورة الشعر، و(دائماً) يعني أنها دائماً ناقصة فلا يمكن أن تكون تامة، وهي حال من فاعل قفي. والمعنى: اتبع دائماً النقص في هذه الثلاثة، فلا يمكن أن تأتي فتئ المسبوقة بنفي أو شبهه تامة، وكذلك ليس لا يمكن أن تأتي تامة، ومثلها زال. والمراد زال الذي مضارعها يزال والمسبوقة بنفي أوشبهه، فهذه دائماً تأتي ناقصة، لابد لها من الاسم والخبر، فإن لم تجد معها إلا اسماً؛ فإن الخبر لا بد أن يكون محذوفاً.

 

حكم مجيء معمول خبر كان بعدها

  

 

ثم قال: [ ولا يلي العامل معمول الخبر إلا إذا ظرفاً أتى أو حرف جر ] (لا يلي العامل) العاملَ بالنصب مفعول به والعامل فيه (يلي)، ومعمول بالرفع فاعل يلي. (إلا إذا ظرفاً أتى أو حرف جر) إلا هذه أداة استثناء، و(إذا) حرف شرط غير جازم، و(أتى) فعل ماضٍ، و(ظرفاً) حال من فاعل أتى مقدم على العامل، و(أو) حرف عطف، و(حرف) معطوف على ظرفاً، و(حرف) مضاف و(جر) مضاف إليه. والمعنى: أنه لا يلي معمول الخبر العامل إلا إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً، واكتفى المؤلف بقوله: (حرف جر) عن ذكر المجرور، لأن الحرف لا يمكن أن يستقل بنفسه بل لا بد من مصحوب له. فلا يلي العامل معمول الخبر إلا في هاتين الحالتين: إذا أتى ظرفاً، أو أتى حرف جر. مثال ذلك: تقول: كان طعامَك زيدٌ آكلاً، فالعامل كان، و(طعام) معمول للخبر الذي هو آكل، وهنا ولي العامل ،كان فالمؤلف يقول: إن هذا لا يجوز؛ لأن الطعام ليس ظرفاً، ولا جاراً ومجروراً. وإذا قلنا: كان عندك زيدٌ مقيماً، جاز؛ لأنه ظرف. وكذلك إذا قلنا: كان في المسجد زيدٌ معتكفاً، يجوز؛ لأنه جار ومجرور، وهم يتوسعون في الظروف والمجرورات ما لا يتوسعون في غيره. وقال الكوفيون: يجوز أن يلي العامل معمول الخبر، وإن لم يكن ظرفاً ولا جاراً ومجروراً. وعلى هذا الرأي يجوز كان طعامك زيدٌ آكلاً، ولا فرق في ظاهر كلام المؤلف بين أن يكون الخبر مقدماً على الاسم أو مؤخراً عنه؛ فإنه يمتنع أن يلي العامل معمول الخبر ولو كان الخبر مقدماً على الاسم، كما لو قلت: كان طعامك آكلاً زيدٌ، فهو ممنوع كما لو قلت: كان طعامك زيدٌ آكلاً. أما لو تقدم معمول الخبر على الأداة، فقد سبق أنه يجوز إلا إذا كان مقروناً بما النافية، أو ما المصدرية الظرفية. وهذا من الغرائب؛ أن نجوز: طعامك كان زيدٌ آكلاً، ولا نجوز: كان طعامَك زيد آكلاً، مع أن الثانية قد تكون أولى بالجواز لأنها أخف من الأولى. أمَّا: طعامُك كان زيد آكلاً، ففيها ثقل على اللسان، وعلى السمع. فالذي يجوز الصورة الأولى: طعامك كان زيد آكلاً، ينبغي له أن يجوز: كان طعامك زيد آكلاً. ولهذا نحن على القاعدة التي أصلناها في باب النحو أنه عند الاختلاف يرجع إلى الأسهل، فيجوز كان طعامك زيد آكلاً، وكان زيد طعامك آكلاً، وطعامك آكلاً كان زيد، وطعامك كان زيد آكلاً، وطعامك كان آكلاً زيد، فتجوز كل الصور؛ لأنه إذا جاز الشيء جاز ما كان نظيره، أو أولى منه، ولا فرق بين الظرف وبين الجار والمجرور. وفي قوله تعالى: وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] تقدم المعمول على الأداة، فأنفسهم مفعول ليظلمون التي هي الخبر وقدمت على الأداة. قال: [ ومضمر الشان اسماً انو وقع موهم ما استبان أنه امتنع ] (مضمر) مفعول مقدم لقوله: انو. و(اسماً) حال، يعني انوِ ضمير الشأن اسماً إن وقع موهم ما استبان أنه امتنع، يعني إن وقع في كلام العرب ما يوهم أنه ممنوع حسب القاعدة التي ذكرت، فقدر فيه ضمير الشأن. فأسس ابن مالك رحمه الله قاعدة وهي: أنه لا يجوز أن يلي العامل معمول الخبر إلا إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً، فإن ورد في كلام العرب ما يدل على أن معمول الخبر ولي العامل، فلا نقول: إن العرب خرجوا عن القاعدة فهم مخطئون، لكن نقدر ضمير الشأن، مثاله قول الشاعر: قنافذ هداجون حول بيوتهم بما كان إياهم عطية عودا والشاهد في قوله: (بما كان إياهم عطية عودا)، فإيا هنا مفعول لعود، ووليت العامل الذي هو كان وهي معمول الخبر وهو ممنوع، فنقدر ضمير الشأن اسماً لكان، ونقول: بالذي كان هو أي الشأن، و(إيا) مفعول عود مقدم، و(عطية) مبتدأ، و(عود) فعل ماضي، والفاعل مستتر، والجملة من الفعل والفاعل في محر رفع خبر عطية، والجملة من المبتدأ والخبر خبر كان. والأشاعرة يقولون في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] أي: وجاء أمر ربك، وهذا يعتبر تحريفاً للنص من أجل المذهب، فأدخلوا (أمر) من أجل مذهبهم، فيقولون: أن الذي يأتي هو أمر الله، وليس الله. وهؤلاء أدخلوا ضمير الشأن من أجل تصحيح مذهبهم ولذلك كان قول الكوفيين أسد وأصح؛ لأن الأصل عدم الحذف. والأمر بسيط فنقول: يجوز أن يلي معمول الخبر العامل ولا بأس بذلك. أما الظرف والجار والمجرور، فقالوا: يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها. إذاً عاد الأصل والفرع إلى مذهبهم. فالصواب أنه يجوز أن تقول: كان طعامك زيد آكلاً. والملاحظ أنه في هذا المثال لا يمكن تقدير ضمير الشأن؛ لأن (آكلاً) منصوبة ولا يصح أن تكون خبراً، وعلى هذا فلا تصح الجملة جملة خبرية خبر لضمير الشأن. وهذا البيت من قول الفرزدق يهجو رهط جرير ، وقنافذ جمع قنفذ و(هداجون) أي: يمشون مشية الشيخ الضعيف للسرقة، و(عطية) أبو جرير .

 

خصائص كان

  

 

 

 

زيادة كان

  

 

قال رحمه الله تعالى: [ وقد تزاد كان في حشو كما كان أصح علم من تقدما ويحذفونها ويبقون الخبر وبعد إن ولو كثيراً ذا اشتهر وبعد أن تعويض ما عنها ارتكب كمثل أما أنت برا فاقترب ومن مضارع لكان منجزم تحذف نون وهو حذف ما التزم ]. من خصائص كان ما ذكره هنا، قال: (وقد تزاد كان في حشو) تزاد (كان) فقط من بين أخواتها بلفظ الماضي، فلا تزاد اسم فاعل، ولا اسم مفعول، وإنما تزاد بلفظ الماضي كثيراً، وقد تزاد بلفظ المضارع قليلاً، ومنه قول أم عقيل : أنت تكون ماجدٌ نبيل إذا تهب شمأل بليل فلو لم تكن زائدة لقالت: ماجداً نبيلاً. (في حشو): حشو الشيء ما كان في باطنه، أي: بين أعلاه وأسفله كحشو الفراش. وهذا يعني أنها تزاد بين شيئين متلازمين: كالمبتدأ والخبر، والصفة والموصوف، والمضاف والمضاف إليه وما التعجبية وفعل التعجب، وما أشبه ذلك. وعلم من قوله: (قد تزاد) أن ذلك ليس كثيراً. وإعراب البيت كما يلي: قد: حرف تقليل، والقاعدة: أن (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع فهي للتقليل، ومنه قولهم: قد يجود البخيل. لكنها ترد أحياناً للتحقيق، مثل قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18]، فهنا لا شك أنها للتحقيق وليست للتقليل ولا للتردد. تزاد: فعل مضارع مبني للمجهول. (كان): نائب فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. في حشو: جار ومجرور متعلق بتزاد. والكاف: حرف جر. (ما كان أصح علم من تقدما) كل الجملة مجرورة بالكاف، وعلامة الجر كسرة مقدرة على آخرها منع من ظهورها الحكاية. والدليل على ذلك: أن هذه الجملة نائبة مناب المفرد، إذ إن معنى (كما كان أصح علم من تقدما): كهذا المثال. أما إعراب الجملة تفصيلاً: ما: تعجبية، وهي مبتدأ مبني على السكون في محل رفع. كان: فعل زائد، ولا نقول: إنها للماضي؛ لأنها مسلوبة المعنى والزمان. أصح: فعل تعجب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وفاعله مستتر وجوباً تقديره: هو، وهذا أحد المواضع التي تستتر فيها الضمير (هو) وجوباً، وإنما كان مستتراً وجوباً في فعل التعجب؛ لأنه جارٍ مجرى المثل، والأمثال لا تغير. وعلم: مفعول أصح منصوب بالفتحة الظاهرة، وعلم مضاف و(من) مضاف إليه مبني على السكون في محل جر. وتقدما: فعل ماض، والألف للإطلاق، وفاعله مستتر جوازاً تقديره: هو، يعود على مَنْ، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.

 

 

 

 

حذف كان واسمها

  

 

قال: (ويحذفونها ويبقون الخبر): هذه الخصيصة الثانية؛ أنها تحذف ويبقى خبرها، وهذا على قسمين: كثير وقليل، فالكثير قال فيه: (وبعد إن ولو كثيراً ذا اشتهر). فقوله: (ويحذفونها) الواو تعود على العرب؛ لأنهم هم الذين يصوغون الكلام، أما النحويون فإنهم بمنزلة الصيادلة ينظرون تراكيب الكلام، لكن لا يحكمون على العرب. (ويبقون الخبر) أي: خبرها. (وبعد إن) إن الشرطية (ولو) الشرطية، ذا اشتهر كثيراً. أما الشطر الأول فإعرابه واضح. إعراب الشطر الثاني: بعد: ظرف مكان منصوب على الظرفية، وعلامة نصبه فتح آخره، وهو متعلق باشتهر المتأخر، و(بعد) مضاف، و(إن) مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. ولو: معطوفة على إن. كثيراً: صفة لمصدر محذوف وعامله قوله: اشتهر، يعني: اشتهر اشتهاراً كثيراً. ذا: مبتدأ مبني على السكون في محل رفع؛ لأنه اسم إشارة. اشتهر: فعل ماض والجملة خبر المبتدأ. ومعنى البيت: أن العرب يحذفون كان واسمها ويبقون خبرها، وهذا بعد إن ولو كثيراً، ومنه قولهم: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أي: إن كانت أعمالهم خيراً فجزاؤهم خير، وإن كانت أعمالهم شراً فجزاؤهم شر. وفي الحديث: (التمس ولو خاتماً من حديد) أي: ولو كان الملتمس خاتماً. وعلم من قوله: (يحذفونها) أنهم لا يحذفون المضارع، ولكن هذا ليس بصحيح، والصحيح أنه يجوز حذفها ولو بلفظ المضارع، ومنه قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، ومنه قوله تعالى: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، وإن لم تكن هذه كالأولى؛ لجواز أن يكون خيراً مفعول به. أما الآية الأولى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، فالتقدير: يكن خيراً لكم، وهذه كان بلفظ المضارع حذفت مع اسمها وبقي خبرها، في أفصح كلام وهو كلام الله عز وجل.

 

 

 

 

حذف كان وتعويض (ما) عنها

  

 

يقول: [ وبعد أن تعويض ما عنها ارتكب كمثل أما أنت براً فاقترب ] كذلك أيضاً تحذف كان ويبقى اسمها وخبرها، ولكن يعوض عنها (ما) مع بقاء الاسم والخبر. والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبلها: أنهم في الأولى يحذفونها مع اسمها، أما هنا فيحذفونها وحدها ثم يعوضون عنها (ما) ويبقون الخبر. وإعراب البيت: بعد: ظرف مكان وهو مضاف، و(أن) مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. تعويض: مبتدأ، وهو مضاف و(ما) مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. (عنها) جار ومجرور متعلق بارتكب. ارتكب: الجملة خبر (تعويض). كمثل: الكاف حرف جر، و(مثل) اسم مجرور بالكاف، وهو مضاف و(أما أنت براً فاقترب) مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. أما إعراب (أما أنت براً فاقترب) فيقول النحويون: أصله اقترب لأن كنت براً، فقدموا العلة قبل المعلول. فإذا قلت: اقترب مني، أنا أود أن تكون صاحبي، لماذا؟ لأن كنت براً؛ فماذا صنعنا؟ قالوا: قدمنا العلة فصار لأن كنت براً اقترب، ولما كانت العلة كالشرط في ترتب جزائه عليه حسن أن يقترن الفاء بالفعل، فصار: لأن كنت براً فاقترب. ثم قالوا: حذفنا لام العلة، فصار التقدير: أن كنت براً فاقترب، ثم حذفنا كان، فلما حذفناها فصلنا الضمير؛ لأن الضمير المتصل لا يمكن أن يؤتى به وحده، فصار التقدير: أن أنت براً فاقترب، ثم أتينا بما فصارت: أن ما أنت براً فاقترب، ثم أدغمنا أن بما فصارت أماَّ أنت براً فاقترب. ومنه قول الشاعر: أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع فالشاهد: (أما أنت ذا نفر)، أي: لأن كنت ذا نفر فقومي لم تأكلهم الضبع، والضبع هو الحيوان المعروف، شبه السنة المجدبة به على طريق الاستعارة. ومعنى البيت: فخرت علي بأن كنت ذا نفر، فلا تفخر فإن قومي لم تأكلهم الضبع فهم كثير ولم تؤثر فيهم الأزمات. فقوله: (فإن قومي)، متعلقها محذوف، أي: (فخرت؛ لأن كنت ذا نفر) فحذف الشاعر فخرت، ثم حذفت اللام وكان فبقي اسمها المتصل وهو التاء فأصبح اسمها منفصلاً وهو (أنت) لأن عامله حذف فانفصل، وعوضنا عن كان بما الزائدة ثم أدغمنا النون الساكنة مع الميم فصارت أما أنت. أما قول ابن مالك : (أما أنت براً فاقترب) أصلها: اقترب لأن كنت براً، فقدمنا: لأن كنت براً، وحذفنا اللام، وحذفنا كان، وعوضنا عنها ما، وفصلنا الضمير المتصل، فالنتيجة بعد هذه العمليات: أما أنت براً. ولو قال قائل: لماذا لا نجعل أما شرطية في قوله: أما أنت براً فاقترب، بدليل ربط الجواب بالفاء، سواء كان في مثال ابن مالك أو في الشاهد؟ الظاهر لي أن السبب في أنهم لم يحملوها على ذلك؛ أنه لا يمكن حذف أن المصدرية، وذلك لأنه هذا التقدير تكون (أما) تفصيلية أو شرطية، فيجب أن نقول: أما أن كنت براً فاقترب، وكأن (أن) المصدرية لا تحذف، فلذلك عدلوا عن هذا، وإلا لو أمكن لكان هذا أسهل. وعلى كل حال إذا كان أحد ذهب إلى أنها شرطية، فهذا أحسن بلا شك، وأقرب من هذه العمليات الأربع. والمقابل: وأما أن لم تكن براً فلا تقترب، وتكون الفاء هنا واقعة في جواب الشرط. أما عند الذين يقولون: إنها معوضة عن كان، فيقولون: الفاء جاءت هنا؛ لأن العلة تشبه الشرط، فلما أشبهت العلة الشرط جاز أن يكون في جوابها الفاء، وهذه أيضاً علة تضعف التقدير الذي ذكروه.

 

 

 

 

حذف نون مضارع كان في حالة الجزم

  

 

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن مضارع لكان منجزم تحذف نون وهو حذف ما التزم ] (من مضارع) جار ومجرور متعلق بقوله: (تحذف)، وقوله: (لكان)، (اللام) حرف جر، و(كان) اسم مجرور باللام لقصد لفظه، والمعنى: ومن مضارع لهذا اللفظ، وقوله: (منجزم) صفة للمضارع لكنه لم يحرك بالكسر من أجل استقامة البيت، وأصلها: ومن مضارع لكان منجزمٍ، ولما كان قوله: (تحذف نون) يحتمل الوجوب، استدرك فقال: (وهو حذف ما التزم)، (هو) مبتدأ، و(حذف) خبره، و(ما) نافية، و(التزم) فعل ماض لما لم يسمى فاعله، أي: هذا الحذف لم يلتزم لكنه موجود. وقوله: (من مضارع لكان) خرج به كان التي بلفظ الماضي، وخرج به كن التي بلفظ الأمر، وبقي المضارع الذي أشار إليه ابن مالك . واشترط ابن مالك رحمه الله: أن يكون مجزوماً، فلا تحذف نون المرفوع ولو بلفظ المضارع. ويشترط أيضاً: ألا يليه ساكن، فإن وليه ساكن لم يحذف، بل لا بد أن يليه متحرك، مثال ذلك: قوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، قال زكريا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4]، وقالت مريم : وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20] فلما جاء القرآن بحذف النون وإبقائها علم أن حذفها ليس بواجب ولكنه جائز، وأنه لا يترجح الحذف على الإبقاء، ولا الإبقاء على الحذف. أما إذا لم تكن مجزومة فلا تحذف نونها، فلا يقال في قولك: يكون زيد قائماً، يك زيد قائماً. واشترطنا ألا يليها ساكن، فإن وليها ساكن لم تحذف، مثل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1] لو كان في غير القرآن وقال قائل: لم يك الذين كفروا، فإنه لا يجوز؛ لأنه يليها ساكن. وهذا الشرط فيه خلاف، فمنهم من أجازه وقال: يجوز أن تقول: لم يك الرجل قائماً. قوله: (منجزم) فلا يشترط أن يكون الجزم بلم، بل يكون بلم، وبلا، وبإن، فتقول مثلاً: إن يكن زيد قائماً حصل كذا وكذا، وتقول: إن يك زيد قائماً حصل كذا وكذا، فلا فرق بين لم وغيرها. كذلك أيضاً لا الناهية، لو قلت: لا تكن مهملاً، فيجوز: لا تك مهملاً، بحذف النون؛ لأنها مجزومة بلا. ولكن لو قال قائل: ما هي العلة في الحذف؟ نقول: العلة في ذلك هو التخفيف.


 

شرح ألفية ابن مالك [22]

 

ما ولا ولات حروف نفي كليس، وقد جعل لها بعض العرب عمل ليس في رفع المبتدأ ونصب الخبر، ولكنها تعمل هذا العمل بشروط.

 

فصل: في ما ولات وإن المشبهات بليس

  

 

 

 

شروط إعمال ما عمل ليس

  

 

قال: [ إعمال ليس أعملت ما دون إن مع بقا النفي وترتيب زكن ] إعمال: مصدر مبين للنوع، وعامله (أعملت) وهو مضاف إلى (ليس). أعملت: فعل ماض مبني للمجهول. ما: نائب فاعل لأعمل. وتقدير الكلام: أعملت ما إعمال ليس، والذي عمل هذا الإعمال هم العرب. و ابن مالك رحمه الله لم يصغ هذا الفعل صيغة المجمع عليه، فقال: (أعملت) يعني: أعملها ناس، فالذي أعملها الحجازيون دون التميميين، فالتميميون أهملوها؛ لأن الأصل عندهم أن الحروف لا تعمل إلا الحرف المختص؛ ولهذا فإن (هل) حرف استفهام لا يعمل؛ لأنها مشتركة بين الأسماء والأفعال. لكن (إلى) و(من) و(على) و(لم) و(إن الشرطية) تعمل؛ لأن (لم وإن) مختصة بالأفعال، و(إلى وعلى) مختصة بالأسماء، وهذه القاعدة أغلبية وليست مطردة في كل حال. فإذاً: الذين أعملوا (ما) إعمال (ليس) هم الحجازيون، وبلغتهم جاء القرآن، قال الله تبارك وتعالى: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]. وبنو تميم قبل توحيد القرآن على حرف واحد يقرءون: (ما هذا بشرٌ) أما بعد توحيده فيجب أن يقرأ بما وحده عليه الصحابة. وهنا بيت أديب يقول فيه: ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب فأجاب: ما قتل المحب حرام فهذا الحبيب ينتمي إلى قبيلة تميم؛ لأنه قال: ما قتل المحب حرامُ، ولو كان حجازياً لقال: ما قتل المحب حراماً. لكن يشترط لإعمال (ما) عمل ليس أن تكون غير مقترنة بإن؛ ولهذا قال ابن مالك : (دون إن). فإن اقترنت بإن لم تعمل، والمراد بإن هنا إن الزائدة، ومن ذلك قول الشاعر: بني غُدَانَةَ مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ وَلا صَرِيفٌ ولكِنْ أَنْتُمُ الخَزَفُ الخزف من الطين، والذهب معروف، والصريف الفضة، فيقول: أنتم ما لكم أصل، إذ معدنكم رديء لأنه من الخزف، ولا يريد أن يبين للناس أن أصل بني آدم من طين. وهنا لم تعمل ما؛ لأنها اقترنت بإن الزائدة. ولو قلت: ما زيد قائماً، صح. وإن قلت: ما إن زيد قائماً، فهذا خطأ؛ لأنها اقترنت بها إن الزائدة، وإذا اقترنت بها إن الزائدة بطل عملها. الشرط الثاني: قوله: (مع بقا النفي وترتيب زكن). (مع) ظرف مكان منصوب على الظرفية، وربما قيل فيه: معْ، لكنه قليل، كما قال ابن مالك : ومعَ معْ فيها قليل ونُقل فتح وكسر لسكون يتصل لكن هنا لا يجوز (معْ)؛ لأنه ينكسر البيت، فيقال: معَ بقا النفي، و(بقا) أصلها: بقاء، بالهمزة ولكن حذفت الهمزة لاستقامة ميزان النظم. وقوله: (وترتيب) يعني: ومع ترتيب زكن. هذان شرطان: الشرط الأول: أن يبقى النفي، فإن انتقض النفي فإنها لا تعمل، مثاله: ما زيد إلا قائم، فلا يجوز أن تقول: ما زيد إلا قائماً؛ لأن النفي انتقض. وقيل: تعمل وإن انتقض النفي. فتقول: ما زيد إلا قائماً، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن القرآن يدل على أنه إذا انتقض نفيها بطل عملها، قال الله تعالى: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:24] فرفع (بشر) لأنه انتقض النفي بإلا، وعلى هذا نعرب الآية فنقول: (ما) نافية ملغاة، و(هذا) مبتدأ، و(إلا) أداة حصر، و(بشر) خبر المبتدأ. وإذا قلت: ما ما زيد قائم، أو ما ما زيد قائماً، فلا بد من التفصيل: إذا كانت ما الأولى نافية والثانية نافية، فهنا يتعين الرفع؛ لأن النفي انتقض؛ لأن نفي النفي إثبات، فقولنا: ما ما زيد قائم، يعني: ليس الأمر انتفاء قيام زيد. وإن جعلنا (ما) الثانية توكيداً للأولى غير مستقلة عملت؛ لأن النفي باق بل أكد، كما لو قلت: ما زيد قائماً ما زيد قائماً، هنا كررها في الجملة كلها، فإذا كررت ما وحدها فهو توكيد. ولكن هل إذا عبرت ابتداء فقلت: ما ما زيد قائماً، هل هذا صحيح؟ نقول: لا. هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، وإذا كان الأصل في الكلام التأسيس صار النفي هنا منفياً فينتقض، لكن لو فرض أنه وجد في لغة العرب: (ما ما زيد قائماً) هكذا بالنصب، فنقول: أراد المتكلم أن ما الثانية توكيد. الشرط الثالث قوله: (وترتيب زكن). أي: وترتيب بين الاسم والخبر، يعني: ألا يتقدم خبرها على اسمها، بل ولا عليها أيضاً، لا بد أن يقع الاسم ثم الخبر، فلو قلت: ما قائماً زيد، فالحكم خطأ، يجب أن أقول: ما قائم زيد. وإذا قلت: ما عندك زيد، فهذا صحيح، لكن (ما) هنا ملغاة؛ لأن ابن مالك يقول: لا بد من الترتيب، فإذا قلت: ما عندك زيد، فقد قدمت الخبر فتقول: (زيد) مبتدأ مؤخر، ولا تقل: (زيد) اسم ما؛ لأن الترتيب اختلف.

 

 

 

 

حكم تقدم معمول خبر ما الحجازية

  

 

ثم قال: [وسبق حرف جر أو ظرف كما بي أنت معنياً أجاز العلما]. (سبق) مفعول مقدم، وعامله قوله: (أجاز). و(العلما) فاعل، والتقدير: وأجاز العلماء سبق حرف جر أو ظرف. ثم مثل المؤلف بمثال يحدد مراده، فقال: (كما بي أنت معنياً)، فالذي تقدم الآن هو معمول الخبر؛ لأن (ما) نافية، و(بي) جار ومجرور متعلق بمعنياً، والترتيب الأصلي لهذه الجملة: ما أنت معنياً بي، فقدم معمول الخبر على الاسم. و ابن مالك يقول: (أجاز العلما) وظاهر كلامه أن هذا إجماع، وليس كذلك، بل فيه خلاف. مثال الظرف: ما عندك زيد مقيماً، فعند ظرف متعلق بـ (مقيماً). فيجوز أن يتقدم معمول الخبر على الاسم، ولا يجوز أن يتقدم الخبر على الاسم، وهذا عجيب، إذ كيف يجوز أن يتقدم فرعه وهو لا يجوز، هذا خلاف الأصل. والواقع أنه إذا جاز تقدم الفرع جاز تقدم الأصل، لكن يقولون: إنه يغتفر في الظروف والمجرورات ما لا يغتفر في غيرها، وهذا منتقض أيضاً في قولنا: ما عندك زيد، حيث قالوا: لا يصح أن يكون (عند) في محل نصب. وعلم من قوله: (وسبق حرف جر أو ظرف) أنه لو سبق معمول الخبر، وليس بظرف ولا جار ومجرور فإنه لا يصلح، فلو قلت: ما طعامَك زيد آكلاً، فإنه لا يجوز، إلا إذا أهملتها فقلت: ما طعامَك زيد آكل. وقول ابن مالك : (أجاز العلما)، ظاهره الإجماع. ولكن المسألة فيها خلاف أيضاً، فمن العلماء من قال: يجوز أن تقول: ما طعامَك زيد آكلاً، واستدل بالقياس، فقال: إنه إذا جاز تقديم المعمول جاز تقديم العامل، وأنتم أيها النحويون استدللتم على جواز تقديم خبر (ليس) عليها بتقدم معمول الخبر عليها. فنقول هنا أيضاً: تقديم معمول الخبر يؤذن بجواز تقديم الخبر؛ لأنه معموله وفرعه؛ ولهذا كان الصحيح الجواز، وأنه لا فرق بين أن تقول: ما بي أنت معنياً، وأن تقول: ما طعامك زيد آكلاً، فكلاهما جائز. بقي أن يقال: هل يجوز أن يتقدم الخبر على ما، فأقول: قائماً ما زيد؟ فالجواب: لا، لأنه قد سبق أن ما النافية في كان وأخواتها لا يجوز تقدم الخبر عليها، هذا مع أن الفعل العامل أقوى من الحرف العامل، فكيف إذا كان العامل حرفاً؟! وبهذا يتبين أن المسألة لها صور: طعامَك ما زيد آكلاً، وما طعامَك زيد آكلاً، على قولين، وكلام ابن مالك يدل على المنع. وما زيد آكلاً طعامَك، صحيح قولاً واحداً. وما زيد طعامَك آكلاً، يجوز؛ لأنه لم يتقدم على الاسم، إنما تقدم على الخبر، أي: صار متوسطاً بين الاسم والخبر. وما آكلاً طعامك زيد، لا يصح. إذاً: قوله: (وترتيب زكن) معناه أنه لا يجوز أن تقول: ما طعامك آكلاً زيد، ولا ما آكلاً طعامك زيد؛ لأنه لا بد من الترتيب بين الاسم والخبر، وفيه الخلاف، وإذا كان فيه خلاف فالصحيح التسهيل: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً). ويرد هنا سؤال وهو: لماذا قال المؤلف: (إعمال ليس أعملت ما)، ولم يقل: إعمال كان، مع أن كان هي الأصل؟ والجواب أن نقول: إن هذه الحروف أشبهت ليس في النفي بخلاف كان؛ لأن كان للإثبات، فلهذا قال: المشبهات بليس، إشارة إلى أن هذه الحروف ألحقت بليس لمشاركتها إياها في النفي.

 

 

 

 

رفع المعطوف بلكن أو ببل على خبر ما المنصوب

  

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورفع معطوف بلكن أو ببل من بعد منصوب بما الزم حيث حل] ( رفع ) مفعول مقدم والعامل فيه (الزم)، و(رفع) مضاف و(معطوف) مضاف إليه. (بلكن أو ببل) متعلقان بالمعطوف. (من بعد منصوب) جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمعطوف. (بما) جار ومجرور متعلق بمنصوب. (الزم) فعل أمر، والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنت. (حيث) ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب. (حل) فعل ماضٍ، وفاعله مستتر، وحيث مضاف والجملة مضاف إليه. ومعنى البيت: الزم رفع معطوف بلكن أو ببل إذا جاءت بعد منصوب بما، مثاله: ما زيدٌ قائماً بل قاعدٌ، ولا يصلح أن تقول ( بل قاعداً )؛ لأن النفي انتقض، فإنك إذا قلت: (ما زيدٌ قائماً) فقد نفيت قيامه، فإذا قلت: (بل قاعد) أثبت قعوده، فانتقض النفي فوجب الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: بل هو قائم. وكذلك: ما زيدٌ قائماً لكن قاعد، ولا يجوز أن تقول: لكن قاعداً؛ لما ذكرنا. ونعرب (لكن قاعد) فنقول: (قاعد) خبر المبتدأ المحذوف والتقدير: لكن هو قاعد. فإن عطفت بغير لكن أو ببل، فإنه يبقى منصوباً، فتقول: ما زيدٌ قائماً ولا قاعداً؛ لأن النفي باق. ومثله: ما زيدٌ أكلاً ولا شارباً. وجميع حروف العطف كالواو فإذا عطفت بالواو أو غيرها من الحروف ماعدا (بل ولكن)، فإن المعطوف يكون منصوباً. وأما بلكن أو ببل فإن المعطوف يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف.

 

 

 

 

جر خبر ما وليس ولا وكان المنفية بالباء الزائدة

  

 

يقول: [ وبعد ما وليس جر البا الخبر وبعد لا ونفي كان قد يجر ] هذه مسألة ثانية تتعلق بالعطف يقول: (بعد ما وليس جر البا الخبر). بعد: ظرف، وهو مضاف إلى (ما). وليس: معطوف على (ما)، يعني: بعد ما وبعد ليس، والظرف متعلق بجر. (جر: فعل ماض. البا: فاعل حذفت منه الهمزة تخفيفاً، أو من أجل مراعاة الوزن. الخبر: مفعول به لجر. و(بعد لا) يعني: لا النافية، و(نفي كان) يعني: كان المنفية (قد يجر) أي: قد يجر الخبر بالباء. ومعنى البيت: أنه ورد جر الباء للخبر إذا كان خبراً لما أو خبراً لليس، وكذلك إذا كان خبراً لـلا، أو خبراً لكان المنفية فهذه أربع مواضع تدخل فيها الباء على الخبر وتجره لكن لفظاً لا محلاً. تقول: ما زيدٌ بقائم، فتجر الخبر بالباء، ولا ينصب الخبر لفظاً فلا تقول: بقائماً، لأن العامل -وهو الباء- عامل ظاهر، فيجب أن يعمل في مجروره ظاهراً، بخلاف الخبر فليس عامله ظاهراً، ولهذا نقول: إنه معرب بحسب هذا العامل الذي دخل عليه ظاهراً. إذاً: ما زيدٌ بقائم: (ما) نافية تعمل عمل ليس. و (زيد) اسمها. و(الباء) حرف جر زائد. و(قائم) خبر (ما) منصوب بها، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وفي قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر:37]: الهمزة للاستفهام التقريري. و(ليس) فعل ماضٍ ناقص يرفع الاسم وينصب الخبر، والاسم الكريم اسم ليس. و(الباء) حرف جر زائد. و(عزيز) خبر ليس منصوب بها، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. إذاً: تدخل الباء الزائدة على خبر (ما)، وعلى خبر (ليس) وتجره لفظاً؛ لكن إعرابه محلاً يكون خبراً لليس، أو خبراً لما. وقوله: (وبعد لا ونفي كان قد يجر) أي: كذلك قد يجر بعد (لا)، وبعد (نفي كان). فلا النافية أيضاً يجر خبرها بالباء الزائدة فتقول: لا أحد بمغن عن الإنسان شيئاً سوى الله. وقول المؤلف: هنا (بعد لا ونفي كان) الظاهر أن مراده (لا) النافية للجنس، وكذلك (لا) التي من أخوات ما الحجازية؛ لأنه أطلق (وبعد لا ونفي كان قد يجر). ومنه قول الشاعر: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب الشاهد قوله: لا ذو شفاعة بمغن فتيلا. أما بعد نفي كان، فيقول الشاعر: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل فالباء هنا حرف جر زائد دخلت على خبر كان المنفية؛ (لم أكن بأعجلهم). والفرق بين (لا) النافية للجنس، و(لا) النافية يظهر بالتمثيل؛ فإذا قلنا: لا رجلٌ قائماً، لنا أن نقول: بل رجلان؛ فهذه لا نافية للوحدة أو للاثنين فهي مقيدة. أما إذا قلنا: لا رجل قائم؛ فيعني أنه لا يوجد أحد من جنس الرجال.

 

 

 

 

شروط إعمال لا ولات عمل ليس

  

 

قال المؤلف: [ في النكرات أعملت كليس لا وقد تلي لات وإن ذا العملا ] (في النكرات) جار ومجرور متعلق بأعملت. (أعملت): فعل ماضي مبني للمجهول. (كليس): الكاف حرف جر، لكنها اسم في الواقع بمعنى (مثل)، والكاف يجوز أن نستعملها اسماً كما قال ابن مالك : [ شبه بكاف وبها التعليل قد يعني وزائدا لتوكيد ورد واستعمل اسماً  ... ] يعني: يكون اسماً مثل: (مثل). وعلى كل حال يكون التقدير هنا: أعملت لا مثل ليس. (لا) نائب فاعل، يعني: أن (لا) أعملت في النكرات كإعمال ليس، وإذا كانت (الكاف) بمعنى (مثل) صارت مفعولاً مطلقاً، أي: في محل نصب. وقد: للتقليل؛ لأنها دخلت على الفعل المضارع. (وتلي) فعل مضارع. (لات) فاعل. (وإن) معطوف على (لات). ( ذا ) اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب. (العملا) بدل من ( ذا ) أي: هذا العمل. في هذا البيت ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث أدوات، وهي: لا ، ولات، وإن. لكن لا بد فيها من شروط: اشترط في عمل (لا) أن تكون في النكرات، يعني: فلا تعمل في المعارف، ومنه قول الشاعر: تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا الشاهد قوله: (فلا شيء على الأرض باقياً) فـ(شيء) نكرة، و( باقياً ) نكرة، و(وزر) نكرة أيضاً، وكذلك (واقياً)، فهذا البيت جمع شاهدين: ففي الشطر الأول شاهد، وفي الشطر الثاني شاهد. وقوله: (في النكرات) يفهم منه أنها لا تعمل في غير النكرات، بل تهمل، فلو قلت: لا زيدٌ قائماً، لا يصح؛ لأنها لا تعمل إلا في النكرات. ومثله: لا الرجال قائمين، لا تصح. ولكن أورد على هذا الشرط قول الشاعر: وحلت سواد القلب لا أنا باغيا سواها ولا عن حبها متراخيا وجه الاعتراض: أنها عملت في معرفه؛ لأن (أنا) ضمير. أجابوا: بأن هذا شاذ. وأجاب آخرون: بأن هذا قليل. وعلى هذا فيكون إعمالها في النكرات أكثر من أعمالها في المعارف، ولكنها تعمل في المعارف على وجه قليل، ومنه أيضاً قول الشاعر: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا والمعنى: أن الإنسان الجواد إذا لم يكن جوده خالصاً من أن يؤذي الشخص من جاد عليه، فإنه لا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً؛ لأن ماله أنفذه، ولا يحمد؛ فيكون خسراناً حساً ومعنى. والشاهد: قوله: (فلا الحمد مكسوباً، ولا المال باقياً) حيث عملت لا في (الحمد، والمال) وهما معرفتان، لكنه قليل. قوله: (وقد تلي لات وإن ذا العملا). يعني: قد تأخذ (لات) و(إن) عمل ليس. فهاتان أداتان، و(لات) هي في الحقيقة (لا)؛ لكن زيد عليها تاء التأنيث. ولكن قد يقول قائل: تاء التأنيث تكون ساكنة فلماذا كانت هنا متحركة؟ نقول: لأنها اتصلت بحرف، وإذا اتصلت بحرف تكون مفتوحة، كما يقال: ثُمَّتَ في تأنيث (ثم). وعلة أخرى: أن ما قبلها ألف ساكنة؛ فلزم أن تحرك بالفتح. وعليه تقول في (لات): (لا) نافية، و(التاء) للتأنيث. و(إن) كذلك أيضاً تعمل عمل ليس، فترفع الاسم وتنصب الخبر، ومن ذلك قول الشاعر: إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا (المرء) اسمها و(ميتاً) خبرها. يقول: المرء لا يموت بانقضاء حياته، فالحياة ستنقضي إن عاجلاً أو آجلاً، ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا، فهذا هو الموت حقيقة؛ أن يبغي عليك باغٍ، ويخذلك قريب، والشاهد قوله: (إن المرء ميتا) أي: ما المرء ميتا بانقضاء حياته. لكن هل هنالك فرق بين ميَّتٍ وميْتُ؟ قالوا: إن ميتَّاً من ينتظر الموت ولم يمت بعد، وميْتاً من مات، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. واستدلوا للثاني بقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122]، وبقوله تعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11]. وهذا في الغالب، أعني أن الميت بالتشديد لمن ينتظر الموت، والميْت بالسكون لمن وقع به الموت. وإعراب الشاهد في البيت كما يلي: (إن) نافية تعمل عمل ليس ترفع الاسم وتنصب الخبر. (المرء) اسمها مرفوع بها وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. (ميتاً) خبرها منصوب بها وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره. قال: [وما للات في سوى حين عمل وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل] هذا الشرط يختص بلات، وهو أنها لا تعمل إلا في حين. وهل المراد بالحين الوقت أو لفظ (حين)؟ قيل: المراد لفظ (حين). وقيل: المراد الوقت، يعني ما دل على الحين، وهذا أصح. وإعراب هذا الشطر كما يلي: (ما) نافية. و(للات) جار ومجرور خبر مقدم. (في سوى) جار مجرور متعلق بعمل، و(سوى) مضاف، و(حين) مضاف إليه. و (عمل) مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع منها مراعاة حرف الروي، وأصلها (عملٌ). ولكن قد يقول قائل: بل علامة رفعة ضمة ظاهرة في آخره، لكنه سكن من أجل الوقف، كما تقول: قام زيدْ. والأول أظهر؛ لأن (عمل) لو حركت ووصلت بما بعدها فقلت: وما للات في سوى حين عملٌ وحذف ذي الرفع فشا والعكس قلْ لا يستقيم؛ إذاً: فسكونها هذا ليس من أجل الوقف ولكن من أجل مراعاة الروي، فتكون مرفوعة بضمة مقدرة على آخرها منع من ظهورها مراعاة الروي. وقال: (وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل). حذف مبتدأ، وهو مضاف إلى (ذي)، وذي مضافة إلى (الرفع). (فشا) فعل ماض، وفاعله مستتر جوازاً تقديره (هو)، والجملة خبر (حذف). والمعنى: كثر حذف ذي الرفع، و(العكس) وهو حذف ذي النصب (قل). إذاً: لات تتميز بأنها لا تعمل إلا في حين، ولا بد من حذف أحد معموليتها: إما الاسم وهو الأكثر، وإما الخبر وهو الأقل. مثال ذلك قوله تبارك تعالى: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ [ص:3]. ( لا ) نافية ترفع الاسم وتنصب الخبر، و(التاء) تاء التأنيث، واسمها محذوف، ولا نقول: مستتر؛ لأن (لا) حرف، والحرف لا يتحمل الضمير، والضمير اسم وهو أقوى من الحرف. والتقدير: ولات الحين حين مناص؛ يعني: ليس ذلك الوقت حين مفر. وقد قلنا: إن المراد بالحين الوقت وهو الأصح، واستشهد لذالك بقول الشاعر: ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم البغاة: جمع باغ. ولات ساعة مندم: أي ليست الساعة ساعة مندم. فنلاحظ الآن أن (لات) عملت في لفظ غير لفظ حين، لكنه يدل على الحين والوقت، فعليه يكون المراد بقوله: (في سوى حين عمل) الوقت. وقوله: (والبغي مرتع مبتغيه وخيم)، هذا الشطر يكتب بماء الذهب، ومعناه: أن مرتع طالب البغي وخيم؛ لأن المصارع تأتي دائماً على البغاة، فما أقرب مصرع الباغي! وقول المؤلف: (العكس قل ) العكس هو حذف الخبر وبقاء الاسم. فلو قال الشاعر: ندم البغاة ولات ساعة مندم لقلنا: (الساعة) الاسم والخبر محذوف


 

شرح ألفية ابن مالك [23]

 

كاد وأخواتها أفعال تعمل عمل كان وأخواتها، فترفع الاسم وتنصب الخبر، وهي تختلف من حيث اقتران خبرها بـ (أن)، وتختلف في المعنى الذي تدل عليه كل أداة منها، وتختلف من حيث التصرف.