الإصابة في تمييز الصحابة

الدواعي والعوامل التي توافرت في الصحابة حتى استظهروا القرآن والحديث النبوي الشريف وثبتوا فيهما
إن محاولة الطّعن في أصحاب سيّدنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هي محاولة للطّعن في القرآن الكريم والسّنّة النبويّة المشرفة فالطّاعن فيهم يريد زعزعة النّاس بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم مقصده في ذلك افتتان المسلمين عن دينهم فكثرت الأيدي الآثمة من النيل بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم فاستكثروا على الصّحابة- رضوان اللَّه عليهم- أن يكونوا قد حفظوا الحديث الشّريف، وهذا ما ستراه في الدّفاع عن إمام الحافظين سيدنا أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- ومع كل ذلك أبي اللَّه إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
وإليك ما كتب العلّامة الزّرقانيّ في «مناهل العرفان» فقال: ويزعم أن شبهات القوم كلها متشابهة، وطرق دفعها هي الأخرى متشابهة، فإن واجب الحيطة والحذر يقتضينا أن نقيم خطّا منيعا من خطوط الدّفاع عن الكتاب والسّنة، وأن نؤلف هذا الخطّ من جبهتين قويتين:
الجبهة الأولى: تطاول السّماء بتجلية الدواعي والعوامل التي توافرت في الصحابة حتى جعلت منهم كثرة غامرة يحفظون القرآن والحديث، وينقلونهما نقلا متواترا مستفيضا.
والجبهة الثانية: تفاخر الجوزاء بنظم الدّواعي والعوامل التي توافرت فيهم رضوان اللَّه عليهم، حتى جعلتهم يتثبّتون أبلغ تثبّت وأدقه في القرآن وجمع القرآن، وكل ما يتّصل بالقرآن، وفي الحديث الشّريف، وكل ما يتّصل بالحديث الشريف.
وإنّي أستمنح اللَّه فتوحا وتوفيقا في هذه المحاولة الجليلة، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [ (1) ] .

أوّلا: عوامل حفظ الصّحابة للكتاب والسّنّة
العامل الأوّل:
أنهم كانوا أميين لا يعرفون القراءة، ولا يحذقون الخطّ والكتابة اللَّهمّ إلّا نزر يسير لا
__________
[ (1) ] الأنفال: 42 وانظر مناهل العرفان 1/ 283 وما بعدها.

(1/27)


يصاغ منهم حكم على المجموع، وترجع هذه الأميّة السّائدة فيهم إلى غلبة البداوة عليهم وبعدهم عن أسباب الحضارة، وعدم اتّصالهم اتصالا وثيقا بالأمّتين المتحضّرتين آنذاك الفرس والروم.
ومعلوم أن الكتابة والقراءة وإمحاء الأميّة في أيّة أمّة رهين بخروجها من عهد السّذاجة والبساطة إلى عهد المدنية والحضارة.
ثم إن هذه الأميّة تجعل المرء منهم لا يعوّل إلا على حافظته وذاكرته فيما يهمّه حفظه وذكره، ومن هنا كان تعويل الصّحابة على حوافظهم يقدحونها في الإحاطة بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم لأن الحفظ هو السّبيل الوحيدة أو الشّبيهة بالوحيدة إلى إحاطتهم بها، ولو كانت الكتابة شائعة فيهم لاعتمدوا على النقش بين السّطور بدلا من الحفظ في الصّدور.
نعم، كان هناك كتّاب للوحي، وكان بعض الصّحابة يكتبون القرآن لأنفسهم، إلا أن هؤلاء وهؤلاء كانوا فئة قليلة، ولعلك لم تنس أن كتابة القرآن في عهد الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم كان الغرض منها زيادة التوثّق والاحتياط للقرآن الكريم بتقييده وتسجيله.
أما السّنة النّبوية
فقد نهى النّبي صلّى اللَّه عليه وسلم أصحابه عن كتابتها أوّل الأمر مخافة اللّبس بالقرآن، إذ قال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي فلا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوَّأ مقعدة من النّار» [ (1) ] .
نعم. خشي الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم أن يختلط القرآن بالسّنّة إذا هم كتبوا السّنّة كما كانوا يكتبون القرآن، أو أن تتوزّع جهودهم وهي لا تحتمل أن يكتبوا جميع السّنّة وجميع القرآن فقصرهم على الأهمّ أوّلا وهو القرآن، خصوصا إذا لاحظنا أن أدوات الكتابة كانت نادرة لديهم إلى حدّ بعيد، حتى كانوا يكتبون في اللخاف والسّعف والعظام كما علمت.
فرحمة بهم من ناحية، وأخذا لهم بتقديم الأهمّ على المهمّ من ناحية ثانية، وحفظا للقرآن أن يشتبه بالسّنّة إذا هم كتبوا السّنّة بجانب القرآن نظرا إلى عزّة الورق، وندرة أدوات الكتابة، رعاية لهذه الغايات الثّلاث نهى الرّسول عن كتابة السّنّة.
أما إذا أمن اللّبس، ولم يخش الاختلاط، وكان الأمر سهلا على الشّخص فلا عليه أن
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2298- 2299 كتاب الزهد والرقائق (53) باب التثبت في الحديث وحكم كتاب العلم (16) حديث رقم (72/ 3004) وأحمد في المسند 3/ 21، 39، 56. والدارميّ في السنن 1/ 119- والحاكم في المستدرك 1/ 127- وابن عدي في الكامل 3/ 926، 5/ 1771 وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 29168.

(1/28)


يكتب الحديث الشريف كما يكتب القرآن الكريم، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الإذن بكتابة السّنة آخر الأمر، والواردة في الإذن لبعض الأشخاص كعبد اللَّه بن عمرو- رضي اللَّه عنه-.
وأيّا ما تكن كتابة القرآن والسّنة النّبويّة، فإن التّعويل قبل كل شيء كان على الحفظ والاستظهار، ولا يزال التّعويل حتى الآن على التّلقّي من صدور الرّجال، ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم.
غير أنّ الرّجل الأميّ والأمّة الأميّة يكونان أسبق من غيرهما إلى الحفظ، للمعنى الّذي تقدّم.

العامل الثّاني:
أن الصّحابة كانوا أمّة يضرب بها المثل في الذّكاء وقوة الحافظة وصفاء الطّبع، وسيلان الذّهن وحدّة الخاطر، وفي التاريخ العربيّ شواهد على ذلك يطول بنا تفصيلها، حتى لقد كان الرّجل منهم يحفظ ما يسمعه لأوّل مرّة مهما طال وكثر، وربّما كان من لغة غير لغته ولسان سوى لسانه، وحسبك أن تعرف أنّ رءوسهم كانت دواوين شعرهم، وأنّ صدورهم كانت سجلّ أنسابهم، وأن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم وأيّامهم، كلّ أولئك كانت خصائص كامنة فيهم وفي سائر الأمّة العربيّة من قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى والمواهب، وزادهم من تلك المزايا والخصائص بما أفاد طبعهم من صقل، ونفوسهم من طهر، وعقولهم من سموّ، خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث وهو كتاب اللَّه، ولخير الهدي، وهو هدي محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.

العامل الثّالث:
بساطة هذه الأمّة العربية، واقتصارها في حياتها على ضروريات الحياة من غير ميل إلى التّرف، ولا إنفاق جهد أو وقت في الكماليات، فقد كان حسب الواحد منهم لقيمات يقمن صلبه، وكان يكفيه من معيشته ما يذكره شاعرهم في قوله: [الطويل]
وما العيش إلّا نومة وتبطّح ... وتمرٌ على رأس النّخيل وماء
وأنت تعلم أن هذه الحياة الهادئة الوادعة وتلك العيشة الراضية القاصدة توفر الوقت والمجهود، وترضي الإنسان بالموجود، ولا تشغل البال بالمفقود، ولهذا أثره العظيم في صفاء الفكرة، وقوّة الحافظة وسيلان الأذهان، خصوصا أذهان الصّحابة في اتجاهها إلى حفظ القرآن وحديث النّبي- عليه الصّلاة والسّلام وذلك على حد قول القائل: [من الطويل]

(1/29)


............. .... ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

العامل الرّابع:
حبّهم الصّادق للَّه ولرسوله ملك مشاعرهم، واحتل مكان العقيدة فيهم، وأنت تعرف من دراسة علم النّفس أنّ الحب إذا صدق وتمكّن حمل المحبّ على ترسّم آثار محبوبه، والتلذّذ بحديثه، والتّنادر بأخباره، ووعى كل ما يصدر عنه، ويبدو منه، ومن هنا كان حب الصّحابة للَّه ورسوله من أقوى العوامل على حفظهم كتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم على حد قول القائل: [البسيط] ل
ها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشّراب وتلهيها عن الزّاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السّير واعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
أما حب الصّحابة العميق للَّه تعالى فلا يحتاج إلى شرح وبيان، ولا إلى إقامة دليل عليه وبرهان فهم كما
قال فيهم النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم خير القرون قرني ثمّ الّذين يلونهم [ (1) ] ،
وهم الّذين بذلوا نفوسهم ونفائسهم رخيصة في سبيل رضاه، وهم الّذين باعوا الدّنيا بما فيها يبتغون فضلا من اللَّه، وهم الّذين حملوا هداية الإسلام إلى الشّرق والغرب، وأتوا بالعجب العجاب في نجاح الدعوة الإسلامية بالحضر والبدو، وكانوا أحرياء بمدح اللَّه لهم غير مرّة في القرآن وبثناء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم عليهم في أحاديث عظيمة الشّأن.
وأمّا مظاهر حبهم للرسول صلّى اللَّه عليه وسلم فما حكاه التاريخ الصادق عنهم من أنه ما كان أحد يحبّ أحدا مثل ما كان أصحاب محمّد يحبون محمّدا، دم الرّجل منهم رخيص في سبيل أن يفدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من شوكة يشاكها في أسفل قدمه، وماء وضوئه يبتدرونه في اليوم الشّديد البرد
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي في السنن 4/ 475- 476 كتاب الشهادات (36) باب (4) حديث رقم 2302، 2303 وقال أبو عيسى هذا حديث غريب من حديث الأعمش وأخرجه البخاري بلفظ خير الناس وكذلك مسلم وهو متفق عليه من رواية عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أخرجه البخاري في الصحيح 7/ 3 كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم (62) باب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم (1) حديث رقم 3651 واللفظ له وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 1963 كتاب فضائل الصحابة (44) باب فضل الصحابة (52) حديث رقم (212/ 2533) وأحمد في المسند 1/ 378، 434، 4423، 4/ 267 والبيهقي في السنن 10/ 122، 160- وابن أبي شيبة 12/ 176، 177، 178- وابن حبان في الموارد حديث رقم 2285 والطبراني في الكبير 2/ 320، 18/ 212، 234، 235 وأبو نعيم في الحلية 2/ 78، 4/ 125- وابن عدي في الكامل 7/ 2610 وذكره الهيثمي في الزوائد 10/ 22، 23- والهندي في كنز العمال حديث رقم 32449، 32451، 32452، 32453، 32491، 32495.

(1/30)


يتبركون به، وأب الواحد منهم وأبناؤه من ألدّ أعدائه ما داموا يعادون محمّدا وحديث محمّد موضع التّنافس من رجالهم ونسائهم، حتى إذا أعيا الواحد منهم طلابه، تناوب هو وزميل له الاختلاف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أن يقوم أحدهما بعمل الآخر عند ذهابه، ويقوم الآخر برواية ما سمعه وعرفه من الرّسول بعد إيابه.
وهذه وافدة النّساء تقول لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يا رسول اللَّه، غلبنا عليك الرّجال، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا ممّا علّمك اللَّه، إلى غير ذلك من شواهد ومظاهر، تدلّ على مبلغ هذا الحبّ السّامي الشّريف.
ويرحم اللَّه القائل: [الوافر]
أسرت قريش مسلما في غزوة ... فمضى بلا وجل إلى السّيّاف
سألوه: هل يرضيك أنّك سالم ... ولك النّبيّ فدى من الإتلاف
فأجاب كلّا لا سلمت من الرّدى ... ويصاب أنف محمّد برعاف
ولقد كان من مظاهر هذا الحبّ تسابقهم إلى كتاب اللَّه يأخذون عنه، ويحفظونه منه، ثم إلى سنّته الغرّاء يحيطون بأقوالها وأفعالها وأحوالها وتقريراتها، بل كانوا يتفنّنون في البحث عن هديه وخيره، والوقوف على صفته وشكله، كما تجد ذلك واضحا من سؤال الحسن والحسين عن حلية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما أجيبا به من تجلية تلك الصّور المحمّدية الرائعة، ورسمها بريشة المصور الماهر والصّناع القادر، على يد أبيهما عليّ بن أبي طالب، وخالهما هند بن أبي هالة رضي اللَّه عنهم أجمعين.

العامل الخامس:
بلاغة القرآن الكريم إلى حدّ فاق كلّ بيان، وأخرس كلّ لسان وأسكت كل معارض ومكابر، وهدم كلّ مجادل ومهاتر، حتى قام ولا يزال يقوم في فم الدنيا معجزة من اللَّه لحبيبه، وآية من الحقّ لتأييد رسوله، وبعد كلام اللَّه في إعجازه وبلاغته كلام محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في إشراقه وديباجته وبراعته وجزالة ألفاظه وسموّ معانيه وهدايته، فقد كان صلّى اللَّه عليه وسلم أفصح النّاس وأبلغ النّاس، وكان العرب إلى جانب ذلك مأخوذين بكل فصيح بليغ، متنافسين في حفظ أجود المنظوم والمنثور، فمن هنا هبّوا هبّة واحدة يحفظون القرآن ويفهمون القرآن، وكذلك السّنّة النّبويّة كانت عنايتهم بحفظها والعمل بها تلي عنايتهم بالقرآن الكريم يتناقلونها ويتبادرونها كما سمعت.
والكلام في أسرار بلاغة القرآن ووجوه إعجازه، وفي بلاغة كلام النّبوّة وامتيازه وفي

(1/31)


تنافس العرب في ميدان البيان كل ذلك مما لا يحتاج إلى شرح ولا تبيان، فهذا كتاب اللَّه ينطق علينا بالحقّ، ويتحدّى بإعجازه كافّة الخلق، وهذا سحر النّبوّة يفيض بالدّراري واللآلئ، ويزخر بالهدايات البالغة والحكم الغوالي، وهذا تاريخ الأدب العربيّ يسجّل لأولئك العرب تفوقهم في صناعة الكلام، وسبقهم في حلبة الفصاحة كافة الأنام، وامتيازهم في تذوق أسرار البلاغة خصوصا بلاغة القرآن.

العامل السّادس:
التّرغيب في الإقبال على الكتاب والسّنّة علما وعملا، وحفظا وفهما، وتعليما ونشرا، وكذلك التّرهيب من الإعراض عنهما والإهمال لهما.
ففي القرآن الكريم قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [ (1) ] .
فتأمّل كيف قدم تلاوة القرآن على إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة؟ ونقرأ قوله جلّ ذكره:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ (2) ] .
فانظر كيف حثّ بهذا الأسلوب البارع على تدبّر القرآن والتذكّر والاتّعاظ به.
ونقرأ قوله عزّ اسمه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ (3) ] .
فتدبّر كيف يكون وعيد من كتم القرآن وهدى القرآن؟
ثم نقرأ في السّنّة النّبوية
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة وذكرهم اللَّه فيمن عنده»
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] [فاطر: (30) ] .
[ (2) ] [سورة ص آية: (29) ] .
[ (3) ] [البقرة: 159] .
[ (4) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2074 كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (48) حديث رقم (38/ 2699) وأبو داود في السنن 1/ 460 كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن حديث رقم 1455 وابن ماجة في السنن 1/ 82 المقدمة باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (17) حديث رقم 225 وذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 8.

(1/32)


وفي «الصّحيحين» قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» [ (1) ] .
وفي السّنة قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «عرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أتاها رجل ثمّ نسيها» [ (2) ] .
أليس ذلك وأمثال ذلك وهو كثير يحفز الهمم ويحرّك العزائم إلى حفظ القرآن واستظهاره والمداومة على تلاوته مخافة الوقوع في وعيد نسيانه، وهو وعيد شديد؟
أمّا السّنّة النّبوية فقد جاء في شأنها عن اللَّه تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (3) ] ، وقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [ (4) ] ، وقوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [ (5) ] ، وقوله:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (6) ] .
وجاء ترغيبا في السّنّة النّبوية من الحديث الشّريف
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم «نضّر اللَّه امرأ سمع منّا حديثا فأدّاه كما سمعه، فربّ مبلّغ أوعى من سامع» [ (7) ] ،
وهو حديث متواتر.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 330 كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن حديث رقم 5027 وأبو داود في السنن 1/ 460 كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن حديث رقم 1452 والترمذي في السنن 5/ 159- 160 كتاب فضائل القرآن (46) باب ما جاء في تعليم القرآن (15) حديث رقم 2907، وقال هذا حديث حسن صحيح 2908 وابن ماجة في السنن 1/ 76- 77 المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (16) حديث رقم 211، 212، 213 وأحمد في المسند 1/ 58، 69- والدارميّ في السنن 2/ 437 وابن سعد 6/ 111- والخطيب في التاريخ 4/ 19، 109، 10/ 459- 11/ 35، وأبو نعيم في الحلية 4/ 194 وابن عدي في الكامل 2/ 610، 3/ 1234، 4/ 1568، 5/ 1938 وذكره المنذري في الترغيب 2/ 342 والهيثمي في الزوائد 7/ 169- والهندي في كنز العمال حديث رقم 2351، 2353.
[ (2) ] أخرجه أبو داود في السنن 1/ 179 كتاب الصلاة باب في كنس المسجد حديث رقم 461 والترمذي في السنن 5/ 163- 164 كتاب فضائل القرآن (46) باب (19) حديث رقم 2916 وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[ (3) ] [الحشر: 7] .
[ (4) ] [النساء: 80] .
[ (5) ] [الأحزاب: 21] .
[ (6) ] [النساء: 65] .
[ (7) ] أخرجه أبو داود في السنن 2/ 346 كتاب العلم باب فضل نشر العلم حديث رقم 3660 والترمذي في السنن 5/ 33 كتاب العلم (42) باب ما جاء من الحث على تبليغ السماع (7) حديث رقم 2656، 2657 وقال أبو عيسى: حديث حسن وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في السنن 1/ 85 المقدمة

(1/33)


وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب، فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه» [ (1) ] .
وجاء ترهيبا من الإعراض عن السّنّة
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «من رغب عن سنّتي فليس منّي» [ (2) ] .
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنّي، وهو متكئ على أريكته فيقول:
بيننا وبينكم كتاب اللَّه تعالى، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرّمناه، وإنّ ما حرّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما حرّمه اللَّه» [ (3) ] .
فأنت ترى في الآيات والأحاديث الشّريفة ما يحفز همّة المؤمن الضّعيف إلى الإقبال على روائع النّبوة يستهديها، وبدائع النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يستظهرها، فكيف أنت والصّحابة الّذين كانوا لا يضارعون طول باع ولا علوّ همّة في هذا الميدان؟

العامل السّابع:
منزلة الكتاب والسّنّة من الدّين، فالكتاب هو أصل التّشريع الأوّل والدّستور الجامع لخير الدّنيا والآخرة، والقانون المنظم لعلاقة الإنسان باللَّه، وعلاقته بالمجتمع الّذي يعيش فيه، ثمّ السّنّة هي الأصل الثّاني للتّشريع، وهي شارحة للقرآن الكريم، مفصّلة لمجمله، مقيّدة لمطلقه، مخصّصة لعامه، مبيّنة لمبهمه، مظهرة لأسراره كما قال سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [ (4) ]
__________
[ () ] باب من بلغ علما (18) حديث رقم 230- وأحمد في المسند 4/ 180، 82 والطبراني في الكبير 17/ 49، 158، 2/ 131، 4/ 172 والحاكم في المستدرك 1/ 86- وأبو نعيم في الحلية 7/ 331 والدارميّ في السنن 1/ 75- وابن عساكر 6/ 159 وذكره المنذري في الترغيب 1/ 108 والهندي في كنز العمال حديث رقم 29165، 29166.
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 63 كتاب العلم باب ليبلغ العلم حديث رقم 105 وابن ماجة في السنن 1/ 86 المقدمة باب من بلغ علما (18) حديث رقم 234، 235- وأحمد في المسند 5/ 37، 45 والبيهقي في السنن 5/ 166- والبيهقي في دلائل النبوة 1/ 23- وذكره الهيثمي في الزوائد 4/ 175.
[ (2) ] أخرجه البخاري في الصحيح 7/ 2 كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح حديث رقم 5063 وأحمد في المسند 2/ 158، 3/ 241، 259، 285، 5/ 409 والدارميّ في السنن 2/ 133- والبيهقي في السنن 7/ 77 وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم 197 وابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 95 والخطيب في التاريخ 3/ 330- وأبو نعيم في الحلية 3/ 228- وذكره المنذري في الترغيب 1/ 87 والسيوطي في الدر المنثور 2/ 17، 307.
[ (3) ] أخرجه أبو داود في السنن 2/ 610 كتاب السنة باب في لزوم السنة حديث رقم 4604 بلفظ مقارب وأحمد في المسند 4/ 131 عن المقدام بن معديكرب الكندي.
[ (4) ] النحل: 44.

(1/34)


ومن هنا يقول ابن كثير: «السّنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السّنّة» ، يريد بهذه الكلمة ما وضحه السّيوطيّ بقوله: والحاصل أن معنى احتياج القرآن إلى السّنّة أنها مبيّنة له ومفصّلة لمجملاته، لأن فيه لو جازته كنوزا يحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبرزها، وذلك هو المنزل عليه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو معنى كون السّنّة قاضية على الكتاب، وليس القرآن مبيّنا للسّنّة ولا قاضيا عليها، لأنها بيّنة بنفسها، إذ لم تصل إلى حدّ القرآن في الإعجاز والإيجاز، لأنها شرح له، وشأن الشّرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح» .
ولا ريب أنّ الصّحابة كانوا أعرف النّاس بمنزلة الكتاب والسّنّة، فلا غرو أن كانوا أحرص على حذقهما وحفظهما والعمل بهما.

العامل الثّامن:
ارتباط كثير من كلام اللَّه ورسوله بوقائع وحوادث وأسئلة من شأنها أن تثير الاهتمام، وتنبّه الأذهان، وتلفت الأنظار إلى قضاء اللَّه ورسوله فيها، وحديثهما عنهما وإجابتهما عليها، وبذلك يتمكّن الوحي الإلهي والكلام النّبويّ في النّفوس أفضل تمكن، وينتقش في الأذهان على مرّ الزّمان.
انظر إلى القرآن الكريم تجده يساير الحوادث والطّوارئ في تجددها ووقوعها، فتارة يجيب السّائلين على أسئلتهم بمثل قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (1) ] .
وتارة يفصّل في مشكلة قامت، ويقضي على فتنة طغت بمثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، إلى قوله: مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ (2) ] .
وهي ستّ عشرة آية نزلت في حادث من أروع الحوادث هو اتّهام أمّ المؤمنين سيدتنا الجليلة السيدة أم المؤمنين عائشة زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، الصّديقة بنت الصّديق، وفي هذه الآيات دروس اجتماعية قرئت، ولا تزال تقرأ على النّاس إلى يوم القيامة، ولا تزال تسجل براءة الحصان الطاهرة من فوق سبع سماوات، وتارة يلفت القرآن أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم الّتي وقعوا فيها، ويرشدهم إلى شاكلة الصّواب كقوله في سورة آل عمران. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلخ الآيات، التي نزلت في
__________
[ (1) ] الإسراء: 85.
[ (2) ] النور: 11- 26.

(1/35)


غزوة أحد والتي تدل المسلمين على خطئهم في هذا الموقف الرّهيب، وتحذرهم أن يقعوا حينا آخر في مثل هذا المأزق العصيب.
وعلى هذا النّمط نزلت سور في القرآن وآيات تفوق الحصر.
وإذا نظرت في السّنّة رأيت العجب، انظر إلى قصّة المخزومية التي سرقت،
وقول الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم لمن شفع فيها: «وايم اللَّه، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» [ (1) ] ثم تأمّل حادث تلك المرأة الجهنية الّتي أقرّت بزناها بين يدي رسول اللَّه وهي حبلى من الزّنا، كيف أمر رسول اللَّه فكفلها وليّها حتى وضعت حملها ثم أتى بها فرجمت ثم صلّى رسول الرّحمة عليها؟، ولمّا سئل صلّى اللَّه عليه وسلم كيف تصلي عليها وهي زانية؟ قال: «إنّها تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها للَّه عزّ وجلّ» [ (2) ] .
وتدبّر الحديث المعروف بحديث جبريل، وفيه يسأل جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والسّاعة وأشراطها على مرأى ومسمع من الصّحابة، وقد
قال لهم أخيرا: «هذا جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم» [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 287 كتاب الحدود باب كراهية الشفاعة ... حديث رقم 6788 ومسلم في الصحيح 3/ 1315 كتاب الحدود (29) باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (2) حديث رقم (8/ 1688، 9/ 1688) وأبو داود في السنن 2/ 537 كتاب الحدود باب في الحد يشفع حديث رقم 4373 والترمذي في السنن 4/ 29 كتاب الحدود (15) باب ما جاء من كراهية أن يشفع في الحدود (6) حديث رقم 1430 والنسائي في السنن 8/ 73- 74 كتاب قطع السارق (46) باب اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهري في المخزومية التي سرقت (6) حديث 4899 وابن ماجة في السنن 2/ 851 كتاب الحدود (20) باب الشفاعة في الحدود (6) حديث رقم 2547- والدارميّ في السنن 2/ 173- والبيهقي في السنن 8/ 253 والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 88- وذكره ابن كثير في التفسير 3/ 104.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الصحيح 3/ 1321- 1324 كتاب الحدود (29) باب من اعترف على نفسه بالزنا (5) حديث رقم (22/ 1695) ، (23/ 1695) ، (24/ 1696) وأبو داود في السنن 2/ 556 كتاب الحدود باب المرأة التي أمر النبي برجمها من جهينة حديث رقم 4440 والترمذي في السنن 4/ 33 كتاب الحدود (15) باب تربص الرجم بالحبلى حتى تضع (9) حديث رقم 1435 وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والنسائي في السنن 4/ 63 كتاب الجنائز باب الصلاة على المرجوم (64) حديث رقم 1957- وأحمد في المسند 4/ 440 والطبراني في الكبير 18/ 197- وابن حبان في صحيحه حديث رقم 1512 وذكره المنذري في الترغيب 4/ 100 والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 8/ 581.
[ (3) ] متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 114، كتاب الإيمان (2) باب سؤال جبريل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم (37)

(1/36)


والنّاظر في السّنّة يجدها في كثرتها الغامرة تدور على مثل تلك الوقائع والحوادث والأسئلة.
وقد قرر علماء النّفس أنّ ارتباط المعلومات بأمور مقارنة لها في الفكر، تجعلها أبقى على الزّمن وأثبت في النفس، فلا بدع أن يكون ما ذكرنا داعية من دواعي حفظ الصحابة لكتاب اللَّه وسنّة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم على حين أنهم هم المشاهدون لتلك الوقائع والحوادث المشافهون بخطاب الحقّ، المواجهون بخطاب الحق، المواجهون بكلام سيّد الخلق في هذه المناسبات الملائمة والأسباب القائمة التي تجعل نفوسهم مستشرفة لقضاء اللَّه فيها، متعطشة إلى حديث رسوله عنها، فينزل الكلام على القلوب، وهي متشوّقة كما ينزل الغيث على الأرض وهي متعطّشة تنهله بلهف، وتأخذه بشغف، وتمسكه وتحرص عليه بيقظة، وتعتز به وتعتد عن حقيقة، وتنتفع به وتنفع، بل تهتز به وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج.

العامل التّاسع:
اقتران القرآن دائما بالإعجاز، واقتران بعض الأحاديث النبويّة بأمور خارقة للعادة، تروع النّفس، وتشوق النّاظر وتهول السّامع وإنما اعتبرنا ذلك الإعجاز وخرق العادة من عوامل حفظ الصّحابة، لأنه الشّأن فيما يخرج على نواميس الكون وقوانينه العامّة أنه يتقرّر في حافظة من شاهده، وأنه يتركز في فؤاد كل من عاينه فردا كان أو أمّة، حتى لقد يتخذ مبدأ تؤرخ بحدوثه الأيّام والسّنون، وتقاس بوجوده الأعمار.
أمّا القرآن الكريم فإعجازه سار فيه سريان الماء في العود الأخضر، لا تكاد تخلو سورة ولا آية منه، وأعرف الناس بوجوه إعجازه وأعظمهم ذوقا لأسرار بلاغته هم أصحاب محمّد صلّى اللَّه عليه وسلم لأنّهم يصدرون في هذه المعرفة وهذا الذّوق عن فطرتهم العربية الصّافية وسليقتهم السّليمة السّامية، ومن هذا كان القرآن حياتهم الصّحيحة به يقومون ويقعدون وينامون ويستيقظون ويعيشون ويتعاملون، ويلتذّون ويتعبدون وهذا هو معنى كونه روحا في قول اللَّه سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [ (1) ] وليست هناك طائفة في التّاريخ تمثل فيها القرآن روحا كما تمثّل في هذه الطّبقة العليا الكريمة طبقة الصّحابة الذين وهبوه حياتهم فوهبهم الحياة، وطبعهم طبعة جديدة حتى
__________
[ () ] حديث رقم (50) - ومسلم في الصحيح 1/ 45 كتاب الإيمان (1) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1) حديث (7/ 10) .
[ (1) ] [الشورى: 52] .

(1/37)


صاروا أشبه بالملائكة، وهكذا سواهم اللَّه بكتابه خلقا آخر. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
وأما السّنّة النّبوية فقد اقترن بعضها بمعجزات خارقة وأمامك أحاديث المعجزات، وهي كثيرة فيها المعجب والمطرب غير أنّا نربأ بك أن تكون فيها كحاطب ليل على حين أن بين أيدينا في الصّحيح منها الجمّ الغفير والعدد الكثير، «ولا ينبئك مثل خبير» .
وهذا نموذج واحد،
عن أبي العبّاس سهل بن سعد السّاعديّ رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطينّ هذه الرّاية غدا رجلا يفتح اللَّه على يديه، يحبّ اللَّه ورسوله، ويحبّه اللَّه ورسوله» فبات النّاس يدوكون [ (1) ] ليلتهم أيّهم يعطاها، فلما أصبح النّاس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول اللَّه، هو يشتكي مرضا بعينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعينيه، ودعا له، فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الرّاية، فقال عليّ رضي اللَّه عنه يا رسول اللَّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللَّه تعالى فيه، واللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم [ (2) ] » [ (3) ] .
وهذه الوصيّة من رسول اللَّه لعليّ جديرة أن تقطع لسان من يقول: إنّ الإسلام انتشر بحدّ السّيف
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] يعني يخوضون.
[ (2) ] أخرجه البخاري في الصحيح 4/ 145 كتاب الجهاد والسير باب فضل من أسلم على يديه رجل حديث رقم 3009 ومسلم في الصحيح 4/ 1871 كتاب فضائل الصحابة (44) باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حديث رقم (32/ 2404) ، (33/ 2405) والترمذي في السنن 5/ 596 كتاب المناقب (50) باب 21 حديث رقم 3724- وابن ماجة في السنن 1/ 45 المقدمة باب فضائل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فضل علي بن أبي طالب حديث رقم 121- وأحمد في المسند 1/ 99، 185، 4/ 52 والبيهقي في السنن 6/ 362، 9/ 131- وابن سعد 2/ 1/ 82 والطبراني في الكبير 18/ 237، 238 وأبو نعيم في الحلية 4/ 356 وذكره الهيثمي في الزوائد 9/ 126، 127.
[ (3) ] أخرجه البخاري في الصحيح 4/ 123 كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حديث رقم 2942، 4/ 145 كتاب الجهاد والسير باب فضل من أسلم على يديه حديث رقم 3009، 5/ 88 كتاب المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب حديث رقم 3701 ومسلم في الصحيح 4/ 1872 كتاب فضائل الصحابة (44) باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (4) حديث رقم (34/ 2406) - وأحمد في المسند 5/ 333 والبيهقي في السنن 9/ 107 وذكره ابن عبد البر في التمهيد 2/ 218 والهيثمي في الزوائد 5/ 337.
[ (4) ] [الكهف: 5] .

(1/38)


العامل العاشر
حكمة اللَّه ورسوله في التّربية والتّعليم، وحسن سياستهما في الدّعوة والإرشاد مما جعل الكتاب والسّنة يتقرران في الأذهان، ويسهلان على الصّحابة في الحفظ والاستظهار.
أما القرآن الكريم فحسبك أن تعرف من حكمة اللَّه في التربية والتعليم أنه أنزله على الأمة الإسلامية باللغة الحبيبة إلى نفوسهم، وبالأسلوب الخلّاب والنّظم المعجز الآخذ بقلوبهم. وأنه تدرج بهم في نزوله، فلم ينزل جملة واحدة يرهقهم به ويعجزون عنه بل أنزله منجما في مدى عشرين أو بضع وعشرين سنة، ثم ربطه بالحوادث والأسباب الخاصة في كثير من آياته وسوره، ودعمه بالدليل والحجة، وخاطب به العقول والضّمائر، وناط به مصلحتهم وخيرهم وسعادتهم، وصدر في ذلك كلّه عن رحمة واسعة بهم يكادون يلمسونها باليد ويرونها بالعين ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ (1) ] . مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ (2) ] .
وأما السّنة النّبوية فلقد كان محمد صلّى اللَّه عليه وسلم هو المعلّم الأوّل في رعاية تلك الوسائل الموضحة، ذلك لأنه صلّى اللَّه عليه وسلم كان أفصح النّاس لسانا وأوضحهم بيانا، وأجودهم إلقاء، ينتقي عيون الكلام وهو الّذي أوتي جوامع الكلم، ولا يسرد الحديث سردا يزري برونقه أو يذهب بشيء منه، يل يتكلّم كلاما لو عدّه العادّ لأحصاه، وكان يعيد الكلمة ثلاثا أو أكثر من ثلاث عند الحاجة كيما تحفظ عنه كما
جاء عنه صلّى اللَّه عليه وسلم قوله: «هلك المتنطّعون» [ (3) ] قالها ثلاثا، وقال:
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر- ثلاثا- قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال: «الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، ألا وقول الزّور وشهادة الزّور- وكان متكئا فجلس- فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] [المائدة: 6] .
[ (2) ] [فصلت: 46] .
[ (3) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2055 كتاب العلم (47) باب هلك المتنطعون (4) حديث رقم (7/ 2670) والطبراني في الكبير 10/ 216- وذكره ابن حجر في فتح الباري 13/ 267- والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 4785- والزبيدي في الإتحاف 2/ 50.
[ (4) ] أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 5، 6 كتاب الأدب باب عقوق الوالدين- حديث رقم 5976، 5977، 3/ 339 كتاب الشهادات باب ما قيل في شهادة الزور حديث رقم 2654- ومسلم في الصحيح 1/ 91 كتاب الإيمان (1) باب بيان الكبائر وأكبرها (38) حديث رقم (143/ 87، 144/ 88) وأحمد في المسند 3/ 131، 5/ 36، 38- والبيهقي في السنن 10/ 121- والطبراني في الكبير 18/ 140-

(1/39)


وكان صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين [ (1) ]- ويقرن بين إصبعيه السّبّابة والوسطى- ويقول: أمّا بعد فإنّ خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة» ثم يقول: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ» [ (2) ] .
ومن وسائل إيضاحه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه كان يضرب لهم الأمثال الرّائعة الّتي تجلّي لهم المعاني.
ضرب لأصحابه المثل في ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطر إهمالهما
فقال: «مثل القائم في حدود اللَّه، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الّذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا، لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا» [ (3) ] .
__________
[ () ] والطبري في التفسير 5/ 28- وذكره المنذري في الترغيب 3/ 221 والهيثمي في الزوائد 1/ 106- وابن عبد البر في التمهيد 5/ 72 والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 515، 8/ 538.
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 7/ 93 كتاب الطلاق باب اللعان حديث رقم 5301، 8/ 190 كتاب الرقاق باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعثت ... حديث رقم 6504، 6505 ومسلم في الصحيح 4/ 2268 كتاب الفتن وأشراط الساعة (52) حديث رقم (133/ 2951) ، 134، 951، (135/ 2951) - والترمذي في السنن 4/ 429 كتاب الفتن (34) باب ما جاء في
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين يعني السبابة والوسطى
(39) حديث رقم 2213، 2214 والنسائي في السنن 3/ 189 كتاب صلاة العيدين (19) باب كيف الخطبة (22) حديث رقم 1578 وابن ماجة في السنن 1/ 45 المقدمة باب اجتناب البدع والجدل (7) حديث رقم 45- وأحمد في المسند 3/ 124، 30، 131، 193، 237، 275، 283، 319، 5/ 103، 8 والبيهقي في السنن 3/ 206، 213- وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم 1785- والطبراني في الكبير 2/ 227، 6/ 208، 243، 66 وابن عساكر 4/ 199، 5/ 433، 7/ 121 وابن سعد 1/ 2/ 98- والبخاري في التاريخ الكبير 3/ 355 والخطيب في التاريخ 6/ 281- وذكره المنذري في الترغيب 1/ 83 والهندي في كنز العمال حديث رقم 38348، 38349، 38350، 39571- والهيثمي في الزوائد 1/ 314، 315.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الصحيح 2/ 592 كتاب الجمعة (7) باب تخفيف الصلاة والخطبة (13) حديث رقم (43/ 867) والبيهقي في السنن 3/ 207- وذكره ابن حجر في فتح الباري 2/ 405- والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 141.
[ (3) ] أخرجه البخاري في الصحيح 3/ 278 كتاب الشركة باب هل يقرع ... حديث رقم 2493 وأحمد في المسند 4/ 269- والبيهقي في السنن 10/ 288 وذكره المنذري في الترغيب 3/ 225 وابن كثير في التفسير 3/ 579 والهندي في كنز العمال حديث رقم 5533.

(1/40)


ومن وسائل إيضاحه صلّى اللَّه عليه وسلم أسئلته التي كان يلقيها على أصحابه، ونأخذ مثالا واحدا من ذلك:
عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قالوا:
المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، فقال: «إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النّار» [ (1) ] .
وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يستعين بالرّسم في توضيح المعاني وتقريبها إلى الأذهان- رغم أنه كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم الهندسة ولا غيرها.
روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: «خط لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خطّا مربعا، وخطّ وسطه خطّا، وخطّ خطوطا إلى جنب الخطّ- أي الّذي في الوسط- وخط خطّا خارجا فقال: «أتدرون ما هذا» قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: «هذا الإنسان» يريد الخط الّذي في الوسط- وهذا الأجل محيط به- يريد الخط المربع وهذه الأعراض تنهش- يشير إلى الخطوط التي حوله- إن أخطأ، هذا نهشه هذا، وهذا الأمل- يعني الخطّ الخارج.
ومن سياسته الحكمية في التّربية والتّعليم أنه كان ينتهز فرصة الخطأ ليصحح لهم الفكرة في حينها.
من ذلك ما يقصّه علينا سيدنا: أنس- رضي اللَّه عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النَّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوه [ (2) ] ، وقالوا: أين نحن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر؟ قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي الليل أبدا وقال الآخر: وأنا أصوم الدّهر أبدا، وقال الآخر: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- إليهم فقال: «أنتم الّذين قلتم كذا وكذا!!! واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم للَّه، ولكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 1997 كتاب البر والصلة والآداب (45) باب تحريم الظلم (15) حديث رقم (59/ 2581) والترمذي في السنن 4/ 529- 530 كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (38) باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2) حديث رقم (2418) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والطبري في التفسير 28/ 99- وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 5127.
[ (2) ] أي عدوها قليلة.
[ (3) ] متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح 9/ 104، كتاب النكاح (67) باب الترغيب في النكاح (1)

(1/41)


وكان من وسائل إيضاحه صلّى اللَّه عليه وسلم تمثيله بالعمل
يصلّي ويقول: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»
[ (1) ]
ويحج ويقول: «خذوا عنّي مناسككم»
[ (2) ]
ويشير بإصبعيه السّبابة والوسطى ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» .

العامل الحادي عشر
التّرغيب والتَّرهيب اللّذان يفيض بهما بحر الكتاب والسّنّة، ولا ريب أن غريزة حب الإنسان لنفسه كدفعه إلى أن يحقق لها كلّ خير، وأن يحميها من كل شرّ، سواء ما كان فيهما من عاجل أو آجل، ومن هنا تحرص النّفوس الموفقة على وعي هداية القرآن وهدي الرّسول، وتعمل جاهدة على أن تحفظ منها ما وسعها الإمكان.
ولسنا بحاجة أن نلتمس شواهد التّرغيب والتّرهيب من الكتاب والسّنّة، فمددها فياض بأوفى ما عرف العلم من ضروب التّرغيب والتّرهيب، وفنون الوعد والوعيد، وأساليب التّبشير والإنذار، على وجوه مختلفة، واعتبارات متنوّعة في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق على سواء.
وهذا نموذج من ترغيبات القرآن وترهيباته على سبيل التذكرة، والذكرى تنفع المؤمنين.
يقول اللَّه تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
__________
[ () ] حديث رقم (5063) ، ومسلم في الصحيح 2/ 1020 كتاب النكاح (16) باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (1) حديث رقم (5/ 1401) ، وعند عبد الرزاق أن الرهط الثلاثة هم علي ابن أبي طالب وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون والرهط في اللغة من ثلاثة إلى عشرة والبيهقي في السنن 7/ 77- وذكره القرطبي في التفسير 6/ 261، 9/ 328- والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 145.
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 258 كتاب الأذان للمسافرين ... حديث رقم 631، 8/ 16 كتاب الأدب باب رحمة الناس والبهائم حديث رقم 6008 والدار الدّارقطنيّ في السنن 1/ 273، 346 والبيهقي في السنن 2/ 345- وذكره ابن عبد البر في التمهيد 5/ 117، 9/ 213- والقرطبي في التفسير 1/ 39، 171، 173، 9/ 112- وابن حجر في تلخيص الحبير 2/ 122- والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 683- والزبيدي في الإتحاف 3/ 71، 203، 396.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في السنن 5/ 125 وذكره ابن عبد البر في التمهيد 2/ 69، 91، 98، 4/ 333، 5/ 117، 7/ 272 وابن حجر في فتح الباري 1/ 217، 499 والزيلعي في نصب الراية 3/ 55 وابن كثير في البداية والنهاية 5/ 184، 215 والقرطبي في التفسير 1/ 39، 2/ 183، 410، 3/ 5، 5/ 85 والزبيدي في الإتحاف 4/ 437.

(1/42)


ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ. وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ (1) ] .
فانظر بعين البصيرة في هذه الأساليب، والقرآن مليء كلّه من هذه الأنوار على هذا الغرار.
ولا تحسبنّ السّنّة النّبوية إلّا بحرا متلاطم الأمواج في هذا الباب، وهاك نموذجا بل نماذج منها.
ها هو صلّى اللَّه عليه وسلم يبشر واصل رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر فيقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» [ (2) ] .
وها هو صلّى اللَّه عليه وسلم يتحدث بالوعد لمن جعل الآخرة همّه، وبالوعيد لمن جعل الدنيا همّه فيقول: «من كانت الآخرة همّه. جعل اللَّه غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدّنيا وهي راغمة، ومن كانت الدّنيا همّه جعل اللَّه الفقر بين عينيه، وفرّق اللَّه عليه شمله، ولم يأته من الدّنيا إلّا ما قدّر له» [ (3) ] .
__________
[ (1) ] السجدة: 10- 22.
[ (2) ] أخرجه البخاري في الصحيح 3/ 119 كتاب البيوع باب من أحب البسط ... حديث رقم 2067، 8/ 8 كتاب الأدب باب من بسط له.. حديث (5985) ومسلم في الصحيح 4/ 1982 كتاب البر والصلة والآداب (45) باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (6) حديث رقم (20/ 2557) ، (21/ 2557) - وذكره المنذري في الترغيب 3/ 335 والقرطبي في التفسير 9/ 330- والدولابي في الأسماء والكنى 1/ 108- والهندي في كنز العمال حديث رقم 6965.
[ (3) ] أخرجه الترمذي في السنن 4/ 554 كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (38) باب (30) حديث رقم 2465 وابن حبان في الموارد حديث رقم 72 وذكره المنذري في الترغيب 4/ 121 والزبيدي في الإتحاف 6/ 390، 10/ 8 والهندي في كنز العمال حديث رقم 8186.

(1/43)


وها هو صلّى اللَّه عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال فيقول: «ضمن اللَّه لمن خرج في سبيل اللَّه، لا يخرجه إلّا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والّذي نفس محمّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل اللَّه إلّا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون الدّم، وريحه ريح مسك، والّذي نفس محمّد بيده، لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل اللَّه عزّ وجلّ أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشقّ عليهم أن يتخلّوا عنّي، والّذي نفس محمّد بيده لوددت أن أغزو في سبيل اللَّه فأقتل ثمّ أغزو فأقتل» [ (1) ] .
أنت ترى في هذه الكلمات النّبوية قوة هائلة محولة تجعلها ماثلة في الأذهان كما تجعل النّفوس رخيصة هيّنة في سبيل الدّفاع عن الدين والأوطان، حتى لقد كان الرّجل يستمع إلى هذه المرغبات والمشوّقات وهو يأكل، فما يصبر حتى يتم طعامه، بل يرمي بما في يده، ويقوم فيجاهد متشوّقا إلى الموت، متلهفا على أن يستشهد في سبيل اللَّه.

العامل الثّاني عشر
اهتداء الصّحابة- رضوان اللَّه عليهم- بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم يحلّون ما فيهما من جلال، ويحرّمون ما فيهما من حرام، ويتبعون ما جاء فيهما من نصح ورشد. ويتعهدون ظواهرهم وبواطنهم بالتربية والآداب الإسلامية دستورهم القرآن، وإمامهم الرسول عليه الصلّاة والسلام.
وما من شك أن العلم بالعمل يقرّره في النّفس أبلغ تقرير وينقشه في صحيفة الفكر أثبت نقش، على نحو ما هو معروف في فن التّربية وعلم النّفس، من أن التّطبيق يؤيد المعارف والأمثلة تقيد القواعد، ولا تطبيق أبلغ من العمل، ولا مثال أمثل من الاتباع، خصوصا المعارف الدّينية، فإنّها تزكو بتنفيذها، وتزيد باتباعها.
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [ (2) ] أي هداية ونورا تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الرشد والغيّ كما جاء في بعض وجوه التفسير.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الصحيح 3/ 1495- 1496 كتاب الإمارة (33) باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللَّه (28) حديث رقم (103/ 1876) والنسائي في السنن 8/ 119- 120 كتاب الإيمان وشرائعه (47) باب الجهاد (24) حديث رقم 5030 وأحمد في المسند 2/ 399، 424- وابن أبي شيبة 5/ 287 والبيهقي في السنن 9/ 39- وذكره المنذري في الترغيب 2/ 269- والقرطبي في التفسير 5/ 277.
[ (2) ] [الأنفال: 29] .

(1/44)


وذلك أن المجاهدة تؤدي إلى المشاهدة، والعناية بطهارة القلب وتزكية النفس تفجر الحكمة في قلب العبد، قال الغزالي: أما الكتب والتّعليم فلا تفي بذلك- أي بالحكمة تتفجّر في القلب بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعدّ إنّما تتفتح بالمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة، والجلوس مع اللَّه عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة، والانقطاع إلى اللَّه عزّ وجلّ عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف فكم من متعلّم طال تعلّمه ولم يقدر على مجازاة مسموعه بكلمة وكم من مقتصر على المهم في التّعليم، ومتوفر على العمل ومراقبة القلب، فتح اللَّه عليه من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب، ولذلك
قال- صلّى اللَّه عليه وسلم-: «من عمل بما علم ورّثه اللَّه علم ما لم يكن يعلم» [ (1) ] .

العامل الثّالث عشر:
وجود الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم بينهم يحفظهم الكتاب والسّنة ويعلمهم ما لم يتعلموه، ويفقههم في أمور دينهم.
قال الشيخ الزّرقانيّ: «ولا ريب أن هذا عامل مهمّ ييسر لهم الحفظ ويهون عليهم الاستظهار ... » .

عوامل خاصّة بالقرآن الكريم:
وهذه العوامل- الخاصّة توافرت في حفظ الصّحابة للقرآن الكريم دون السّنّة النّبوية المطهرة.
أوّلها: تحدّي القرآن للعرب بل لكافّة الخلق.
قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [ (2) ] ، ولما عجزوا قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [ (3) ] ، ولما عجزوا قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (4) ] ، ولما عجزوا سجّل عليهم هزيمتهم وأعلن إعجاز القرآن فقال عز اسمه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (5) ] .
ثانيها: عنايته صلّى اللَّه عليه وسلم بكتابة القرآن فيما تيسر من أدوات الكتابة، إذ اتخذ كتّابا للوحي من
__________
[ (1) ] قال الحافظ العراقي في هذا الحديث: رواه أبو نعيم في «الحلية» لكن بسند ضعيف- الحلية 10/ 15.
[ (2) ] [الطور: 34] .
[ (3) ] [هود: 13] .
[ (4) ] [يونس: 38] .
[ (5) ] [الإسراء: 17] .

(1/45)


أصحابه، وأقر كل من يكتب القرآن لنفسه في الوقت الّذي نهى فيه عن كتابة السنة
ففي الحديث «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي شيئا غير القرآن فليمحه» [ (1) ] .
ثالثها: تشريع قراءة القرآن في الصّلاة، فرضا كانت أو نفلا، سرّا أو جهرا.. وتلك وسيلة فعّالة جعلت الصحابة يقرءونه ويسمعونه ويحفظونه.
رابعها: الترغيب في تلاوة القرآن في كل وقت، واقرأ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [ (2) ] .
ويقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «الّذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به مع السّفرة الكرام البررة والّذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ له أجران» [ (3) ] .
وغير هذا الكثير والكثير مما حفل به القرآن والسنة.
فهل يعقل أنّ أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم يتوافون لحظة بعد سماع ذلك عن قراءة القرآن؟!! خامسها: عناية الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم بتعليم القرآن وإذاعته ونشره إذ كان يقرؤه على النّاس على مكث كما أمره اللَّه.. وكان يرسل بعثات القرّاء إلى كل بلد يعلّمون أهلها كتاب اللَّه.. قال عبادة بن الصّامت: كان الرّجل إذا هاجر دفعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى رجل منا يعلّمه القرآن.
سادسها: القداسة التي امتاز بها كتاب اللَّه عن كل ما سواه.. تلك القداسة التي تلفت الأنظار إليه، وتخلع همم المؤمنين به عليه، فيحيطون به علما، ويخضعون لتعاليمه عملا..
قال الشّيخ الزّرقانيّ: «ونحن نتحدّى أمم العالم بهذه الدّواعي التي توافرت في الصّحابة حتى نقلوا الكتاب والسنة وتواتر عنهم ذلك خصوصا القرآن الكريم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
[الطويل] :
غمرهم اللَّه برحمته ورضوانه.. آمين.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2298- 2299 كتاب الزهد والرقائق (53) باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم (16) حديث رقم (72/ 3004) وأحمد في المسند 3/ 12، 21، 39، 56 والدارميّ في السنن 1/ 119- والحاكم في المستدرك 1/ 127 وابن عدي في الكامل 3/ 926، 5/ 1771 وذكره ابن حجر في فتح الباري 1/ 208، 9/ 12، 14 والهندي في كنز العمال حديث رقم 29168.
[ (2) ] [فاطر: 29] .
[ (3) ] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10/ 490.

(1/46)


ثانيا: عوامل تثبّت الصّحابة في الكتاب والسّنّة
بعد أن ألقينا الضّوء على عوامل حفظ الصّحابة للكتاب والسّنة نعرج على بيان عوامل تثبتهم- رضوان اللَّه عليهم- فيهما.
قال الشّيخ الزّرقانيّ: «إنّ النّاظر في تاريخ الصّحابة يروعه ما يعرفه عنه في تثبتهم أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم، لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية، ثم هو في الصّحابة بلغ القمّة من ناحية أخرى.
ولهذا التّثبّت النادر في دقته واستقصائه بواعث ودواع أو أسباب وعوامل إليك بيانها:

العامل الأوّل
أمر اللَّه تعالى في محكم كتابه بالتّثبّت والتّحرّي، وحذّر من الطّيش والتّسرّع فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [ (1) ] .
وكذلك نهى اللَّه عن اتباع ما لا دليل له فقال: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [ (2) ] .
وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظّن فقال جلّ شأنه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [ (3) ] وكان الصّحابة هم المخاطبين بهذه التعاليم والمشافهين بها فلا ريب أن تكون تلك الآداب الإسلامية من أهم العوامل فمن تثبيتهم وحذرهم خصوصا فيما يتصل بكتاب ربهم وسنّة نبيهم، وبعيد كل البعد أن يكونوا قد أهملوا هذا النصح السّامي وهم خير طبقة أخرجت للناس.

العامل الثّاني:
الترهيب الشديد، والتهديد والوعيد لمن يكذب على اللَّه أو يفتري على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم قال عز اسمه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [ (4) ] والآيات في هذا الشأن كثيرة.
ونقرأ في السّنة النبويّة
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوَّأ مقعده من النّار»
وهو حديث مشهور، بل متواتر، ورد أنه قد رواه اثنان وستون صحابيّا منهم العشرة المبشرون بالجنة، والسّنّة أيضا مليئة بأحاديث من هذا النوع.
__________
[ (1) ] [الحجرات: 6] .
[ (2) ] [الإسراء: 36] .
[ (3) ] [النجم: 28] .
[ (4) ] [الأنعام: 21] .

(1/47)


فهل يستبيح عاقل منصف أن يقول: إن الصّحابة الذين سمعوا هذه النّصائح وتلك الزّواجر يقدمون على كذب في القرآن والسّنّة أو يقصرون في التّثبّت والتّحرّي والاحتياط..؟!!

العامل الثّالث:
أمر الإسلام لهم بالصّدق ونهاهم عن الكذب إطلاقا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ (1) ] .
ففي هذا إشارة إلى أن الصدق من مقتضيات الإيمان، ويفهم منه أن الكذب سبيل الكفر والطغيان، وقد صرح اللَّه سبحانه بذلك في قوله: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ [ (2) ] .
ويقول النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: «عليكم بالصّدق فإنّه من البرّ وهما في الجنّة، وإيّاكم والكذب فإنّه من الفجور وهما في النّار» [ (3) ] .
وفي الكتاب والسّنّة أضعاف أضعاف ما ذكر في الموضوع فهل بعد ذلك ترضى هذه الطبقة- الصحابة- أن تركب رأسها وتنكص على أعقابها فتكذب على اللَّه ورسوله أو لا تتحرى الصدق في كتاب اللَّه وسنة رسوله!! ذلك شطط بعيد لا يجوز إلا على عقول المغفلين.

العامل الرّابع:
أن الصّحابة- رضوان اللَّه عليهم- كانوا مغرمين بالتّفقه والتعلّم مولعين بالبحث والتنقيب، مشغوفين بكلام اللَّه وكلام رسوله
روى البخاريّ ومسلم أن ابن مسعود قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن» [ (4) ] قلت: يا رسول اللَّه أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال:
__________
[ (1) ] [التوبة: 119] .
[ (2) ] النحل: 105.
[ (3) ] أخرجه ابن ماجة في السنن 2/ 1265 كتاب الدعاء (34) باب الدعاء بالعفو والعافية (5) حديث رقم 3848 وأحمد في المسند 1/ 3، 5- والحميدي في مسندة 7 وابن حبان في الموارد حديث رقم 106 والبخاري في الأدب المفرد 724- وابن عساكر 3/ 156.
[ (4) ] متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 250 كتاب التفسير (65) تفسير سورة النساء (4) باب فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد (9) حديث رقم 4582، وفي 9/ 93 كتاب فضائل القرآن (66) باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره (32) حديث رقم (5049) وفي 9/ 94 باب قول المقرئ للقارئ حسبك (33) حديث (5050) وأخرجه مسلم في الصحيح 1/ 551 كتاب الصلاة المسافرين (6) باب فضل استماع القرآن ... (40) حديث رقم (247/ 800) ، (248/ 800) والترمذي في السنن 5/ 222 كتاب

(1/48)


«إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قال: «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
وكذلك كان الصّحابة همّتهم أن يقرءوا القرآن ويستمعوه
روى الشّيخان عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم «إنّي لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنّهار» [ (1) ] .
أليس هذا الولوع بالكتاب والسّنة من دواعي تثبتهم فيهما كما هو من دواعي حفظهم لهما، لأن اشتهار الشّيء وذيوعه ولين الألسنة به يجعله من الوضوح والظّهور بحيث لا يشوبه لبس ولا يخالطه زيف، ولا يقبل فيه دخيل.

العامل الخامس:
يسر الوسائل لدى الصّحابة إلى أن يتثبتوا، وسهولة الوصول عليهم إلى أن يقفوا على جليّة الأمر، فيما استغلق عليهم معرفته من الكتاب والسّنة، وذلك لمعاصرتهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يتصلون به في حياته، فيشفي صدورهم من الرّيبة والشّك، ويريح قلوبهم بما يشع عليهم من أنوار العلم وحقائق اليقين.
أما بعد غروب شمس النّبوة، وانتقاله صلّى اللَّه عليه وسلم إلى جوار ربّه، فقد كان من السّهل عليهم أيضا أن يتّصلوا بمن سمعوا بآذانهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والسامعون يومئذ عدد كثير وجمّ غفير، يساكنونهم في بلدهم، ويجالسونهم في نواديهم فإن شك أحدهم في آية من كتاب اللَّه تعالى، أو خبر عن رسول اللَّه أمكنه التثبت من عشرات سواه دون عنت ولا عسر.

العامل السّادس:
الشّجاعة الفطرية للأصحاب، والصّراحة الطّبيعية لهم، حتى لقد كان الرّجل منهم يقف في وسط الجمهور يرد على أمير المؤمنين وهو يلقي خطاب عرشه ردّا قويّا صريحا
__________
[ () ] تفسير القرآن (48) باب (5) ومن سورة النساء حديث رقم 3025 وابن ماجة في السنن 2/ 1403 كتاب الزهد (37) باب الحزن والبكاء (19) حديث رقم 4194- وأحمد في المسند 1/ 380، 433 والبيهقي في السنن 10/ 231- والطبراني في الكبير 9/ 79 وابن أبي شيبة 10/ 563، 13/ 254، 14/ 10، 11 وابن سعد 2/ 2/ 104- وأبو نعيم في الحلية 7/ 203 وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 2826.
[ (1) ] أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 1944 كتاب فضائل الصحابة (44) باب فضائل الأشعريين رضي اللَّه عنهم (39) حديث رقم (166/ 2499) والبخاري في التاريخ الكبير 5/ 175 وذكره ابن حجر في فتح الباري 7/ 485 وابن كثير في البداية والنهاية 4/ 206 والهندي في كنز العمال حديث رقم 33974.

(1/49)


خشنا، بل كانت المرأة تقف في سترة المسجد الجامع فتقاطع خليفة المسلمين وهو يخطب، وتعارض رأيه برأيها، وتقرع حجته بحجتها فيما تعتقد أنه أخطأ فيه شاكلة الصّواب.
فهل يرضى العقل والمنطق أن تجرح هذه الأمة الصريحة القوية وتتهم بالكذب أو بالسكوت على الكذب في كلام اللَّه، وفي سنة رسول اللَّه؟! ثم ألا يحملهم هذا الخلق المشرق فيهم على كمال التّثبت ودقة التحرّي في كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه؟!

العامل السّابع:
تكافل الصّحابة تكافلا اجتماعيا فرضه الإسلام عليهم.
لقد كان كلّ واحد منهم يعتقد أنه عضو في جسم الجماعة، عليه أن يتعاون هو والمجموع في المحافظة على الملّة، ويعتقد أنه لبنة في بناء الجماعة، عليه أن يعمل على سلامتها من الدغل والزغل والافتراء والكذب خصوصا في أصل التّشريع الأول وهو القرآن وأصله الثّاني وهو سنة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.
واقرأ آيات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر التي تقرر ذاك التّكافل الاجتماعي الإسلامي بين آحاد الأمّة بما لا يدع مجالا لمفتر على اللَّه، ولا يترك حيلة لحاطب ليل في حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
يقول اللَّه تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى أن قال جلّ ذكره: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ (1) ] .
وهكذا قدّم اللَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان باللَّه، تنويها بجلالتهما، وحثّا على التمسّك بحبلهما، وإشارة إلى أن الإيمان باللَّه لا يصان ولا يكون إلا بهما.
وأما السّنة
فيقول صلّى اللَّه عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ أن يبعث اللَّه عليكم عقابا منه، ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] [آل عمران: 104- 110] .
[ (2) ] أخرجه الترمذي في السنن 4/ 406- 407 كتاب الفتن (34) باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (9) حديث رقم 2169 وقال أبو عيسى هذا حديث حسن وأحمد في المسند 5/ 389- والطبراني

(1/50)


فهل بعد هذا كلّه يعقل أن يعبث الصّحابة، أو يقرون من يعبث بكتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم.

العامل الثّامن:
تعويدهم الصّدق وترويضهم عليه عملا، كما أرشدوا إليه وأدبوا به فيما سمعوا علما، والتّربية غير التّعليم، والعلم غير العمل، ونجاح الفرد والأمّة مرهون بمقدار ما ينهلان من رحيق التّربية، وما يقطفان من ثمرات الرّياضة النفسية والقوانين الخلقية، أما العلم وحده فقد يكون سلاح شقاء، ونذير فناء، كما نرى ونسمع.
ولقد أدرك الإسلام هذه النّاحية الجليلة في بناء الأمم فأعارها كل اهتمام، وعني بالتّنفيذ والعمل أكثر مما عني بالعلم والكلام.
انظر إلى
قول الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم لمن يدرسون العلم في مسجد قباء «تعلّموا ما شئتم أن تعلّموا فلن يأجركم اللَّه حتّى تعملوا» .
ولقد مرّ بنا قبل ذلك الحديث عن الكذب، وهو أنواع، وشرع اللَّه عقوبة من أشنع العقوبات لمن اقترف نوعا منه وهو الخوض في الأعراض، تلك العقوبة هي حدّ القذف الّذي يقول الحقّ جلّ شأنه فيه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (1) ] .
أفبعد هذه التربية العالية يصح أن يقال: إن الصحابة يكذبون على اللَّه ورسوله، ولا يتثبتون، ألا إن هؤلاء من إفكهم ليهرفون بما لا يعرفون، ويسرفون في تجريح الفضلاء واتهام الأبرياء ولا يستحون، فويل لهم من يومهم الّذي يوعدون.

العامل التّاسع:
القدوة الصّالحة، والأسوة الحسنة، التي كانوا يجدونها في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ماثلة كاملة، جذابّة أخّاذة، ولا شكّ أن القدوة الصّالحة خير عامل من عوامل التّعليم والتربية والتّأديب والتّهذيب.
ولم يعرف التّاريخ ولن يعرف قدوة أسمى ولا أسوة أعلى ولا إمامة أسنى من محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في كافة معناه الكمال البشري، خصوصا خلقه الرّضي، وأدبه السّني، ولا سيما صدقه وأمانته وتحريه ودقته.
__________
[ () ] في الكبير 10/ 180 وذكره السيوطي من الدر المنثور 2/ 301، 341 والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 12.
[ (1) ] [النور: 40] .

(1/51)


وكانت هذه الفضائل المشرقة فيه، من بواعث إيمان المنصفين من أهل الجاهليّة به، ولقد اضطر أن يشهد له بها أعداؤه الألدّاء، كما آمن بها أتباعه الأوفياء.
ومما يذكر بالإعجاب والفخر لبني الإسلام
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم عرض الإسلام على بني عامر بن صعصعة، وذلك قبل الهجرة، وقبل أن تقوم للدين شوكة، فقال كبيرهم: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك اللَّه على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك، فأجابه صلّى اللَّه عليه وسلم بتلك الكلمة الحكيمة الخالدة: «الأمر للَّه يضعه حيث يشاء» [ (1) ]
فقال له كبيرهم: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك اللَّه كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك.
وهنا تتجلّى سياسة الإسلام، وأنها سياسة صريحة مكشوفة، رشيدة، شريفة لا تعرف الالتواء والكذب والتّضليل كما تتجلّى صراحة في نبيّ الإسلام وصدق نبي الإسلام، وشرف نبيّ الإسلام، عليه الصلاة والسلام.

العامل العاشر:
سموّ تربية الصّحابة على فضائل الإسلام كلّها، وكمال تأدبهم بآداب هذا الدين الحنيف وشدة خوفهم من اللَّه، وصفاء نفوسهم إلى حدّ لا يتفق والكذب، خصوصا الكذب على اللَّه تعالى، والتجنّي على أفضل الخليقة صلوات اللَّه وسلامه عليه.
وإذا استعرضنا تاريخ الصّحابة رضوان اللَّه عليهم نشاهد العجب من عظمة تأديب الإسلام لهم، وتربيته إيّاهم تربية سامية جعلتهم أشباه الملائكة يمشون على الأرض لا سيما ناحية الصّدق والأمانة، والتثبّت والتّحرّي والاحتياط، وذلك من كثرة ما قرر القرآن فيهم لهذه الفضائل.
ومن عناية الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلم بهم علما وعملا ومراقبة حتى أصبحوا بنعمة من اللَّه وفضل منطبعة قلوبهم على هذه الجلائل متشبّعة نفوسهم بمبادئ الشّرف والنبل تأبى عليهم كرامتهم أن يقاربوا الكذب أو يقارفوا التّهجم لا سيّما التّهجّم على مقام الكتاب العزيز وكلام صاحب الرسالة صلّى اللَّه عليه وسلم.
قالت عائشة رضي اللَّه عنها «ما كان خلق أشد على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الكذب، ولقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يطّلع على الرّجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه أحدث توبة للَّه عزّ وجلّ» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الدار الدّارقطنيّ في السنن 3/ 221 بلفظ الأمر إلى اللَّه- وذكره العجلوني في كشف الخفاء 1/ 224.
[ (2) ] مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ الزرقاني ص 283 والصفحات التي بعدها بتصرف.

(1/52)