الإصابة في تمييز الصحابة

ابن حجر
1- نسبه ومولده
هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعيّ المصري المولد والمنشأ والدّار والوفاة القاهري.
__________
[ (1) ] فتح المغيث للسّخاويّ 2/ 107 وما بعدها.

(1/90)


اختلفت المصادر في اسم جدّه الرابع، فتارة ذكر محمود، وتارة أحمد، والراجح أحمد كما في الترجمة التي كتبها هو لنفسه، كما أن السخاوي أثبت النسب المذكور وقال:
هذا هو المعتمد في نسبه، ثم إن السّخاوي أشار إلى الاختلاف في نسبه فقال «لا أذكر أدناه ... إلا ما قرأته بخط أصحابنا بل وبخط المقريزي، وكان عمدته بعد أحمد أحمديل فإنني لا أعلمه، ثم رأيته بخط صاحب الترجمة نفسه في أجزاء من نسخة من صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كما وجد نسبه بخط قريبة الزّين شعبان بإثبات أحمديل وإسقاط محمود. [ (1) ]
وينسب إليه القول: «إن نسبه يقرأ طردا وعكسا ولا يتهيأ إلا بتأخير محمود عن أحمد وبإسقاطه» .
فإن كان قال ذلك فهو على سبيل التندر لما هو معلوم بأن مفهوم النسب لا يعني سبعة أسماء أو ثمانية لكي يقال: إنه يقرأ طردا وعكسا.
وفي «الدرر الكامنة» ذكر عم والده، فقال: عثمان بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن محمود، وكذلك في كتابه «رفع الإصر» وفي أول كتابه «إنباء الغمر» بزيادة أحمد بعد محمود بحيث صار محمود بين أحمدين، لكنه خالف ذلك في كتابه «تبصير المنتبه بتحرير المشتبه» وكذلك في ترجمة والده في القسم الثاني من معجم شيوخه، فإنه قال: عليّ بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني.
كما ورد اسم أبيه عبد اللَّه في موضع واحد وهذا وهم وأوضح البقاعي وابن خليل أن الحافظ بن حجر ذكر طرفا من نسبه في استدعاء فقال: [الكامل]
من أحمد بن عليّ بن محمّد ... بن محمّد بن علي الكنانيّ المحتد
ولجدّ جدّ أبيه أحمد لقّبوا ... حجرا وقيل بل اسم والد أحمد
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسيّة قد بدي
__________
[ (1) ] استفدنا أكثر هذه الترجمة من الدراسة التي قدمها الدكتور شاكر محمود عبد المنعم عن الحافظ ابن حجر فلتنظر وجزاه اللَّه خيرا، وانظر «رفع الإصر عن قضاة مصر» (73) ، ومعجم المؤلفين 2/ 20، الرسالة المستطرفة (121) ، طبقات الحفاظ 547، حسن المحاضرة 1/ 363، ذيل تذكرة الحفاظ 326، شذرات الذهب 7/ 270، الضوء اللامع 2/ 36، ذيل طبقات الحفاظ 380، نظم العقيان (45) ، التاريخ المكلل 362، طبقات الحفاظ 547، مقدمة كتاب أبناء الغمر (7) ، معجم طبقات الحفاظ (55، 321) ، فهرس الفهارس 11/ 120، الجامع في الرجال 136، الكنى والألقاب 1/ 261، البدر الطالع 1/ 87، القلائد الجوهرية 331، مفتاح السعادة 1/ 209، المؤرخين في مصر 17، عقود الجوهر 188، كشف الظنون 7، 8، 12، ... ، إيضاح المكنون 1/ 13، الأعلام 1/ 179، هدية العارفين 1/ 128.

(1/91)


وكان يلقب «شهاب الدين» ويكنى «أبا الفضل» وكناه شيخه العراقي والعلاء بن المحلّى «أبا العباس» كما كني أبا جعفر، غير أن كنيته الأولى «أبو الفضل» - وهي التي كناه بها والده- هي التي ثبتت وصار معروفا بها.
نسبتاه:
1- الكناني- نقل السخاوي عن خط ابن حجر أنه كناني الأصل، نسبة إلى قبيلة «كنانة» .
وقال الحافظ ابن حجر عن والده: «رأيت بخطه أنه كناني النسب وكان أصلهم من عسقلان» .
2- العسقلاني: نسبة إلى «عسقلان» وهي مدينة بساحل الشام من فلسطين، والظاهر أن القبيلة التي ينتمي إليها الحافظ ابن حجر كانت قد استقرت في عسقلان، وما جاورها إلى أن نقلهم «صلاح الدين الأيّوبي» عند ما خربها ما بين (580- 583 هـ) على أثر الحروب الصّليبية.
وقال ابن حجر: [الكامل]
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسيّة قد بدي

اشتهاره بابن حجر:
لقد اشتهر ب «ابن حجر» واختلفت المصادر في اعتباره اسما أو لقبا، وإذا كان لقبا هل هو لقب أحد أجداده فطغى على العائلة كلها؟ أم أنه لقب لحرفة أو مهنة أو صناعة؟.
قال السخاوي: هو لقب لبعض آبائه، وفي موضع آخر قال: قيل: هو لقب لأحمد الأعلى في نسبه، وقيل: بل هو اسم لوالد أحمد المشار إليه. إن هذا الرأي يستند إلى الاستدعاء الّذي كتبه الحافظ ابن حجر بهيئة شعر السابق، وعلى الرغم من الغموض الّذي يكتنقه فهو الراجح.
وذهب بعضهم إلى القول بأنه نسبة إلى آل حجر وهم قوم يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس وفي شرح ابن سلطان القاري على «توضيح النّخبة» أن ابن حجر هو لقب وإن كان بصيغة الكنية [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ابن حجر دراسة ص 63 وما بعدها.

(1/92)


مولده:
كان مولده في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة على شاطئ النيل بمصر القديمة وقال:
شعبان عام ثلاثة من بعد سبع ... مائة وسبعين اتفاق المولد
وكان المنزل الّذي ولد فيه يقع بالقرب من دار النحاس ولبث فيه إلى أن تزوج بأم أولاده، فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته «المنكوتمرية» داخل باب القنطرة بالقرب من حارة بهاء الدين واستمر بها حتى مات.
وبينا نجده لا يشير إلى تاريخ يوم ولادته، نلاحظ اختلافا بين مترجميه في تحديدهم لتاريخ ذلك اليوم فذكره البقاعي والسيوطي في الثاني عشر من شعبان، وذكر ابن فهد وابن طولون: في الثالث عشر من شعبان كما ذكره ابن تغري بردي والسخاوي في الثاني والعشرين من شعبان على أن الشوكاني اعتبر مولده في الثاني من شعبان وهذا بعيد الاحتمال بسبب كونه متأخرا أخذ عن الّذين سبقوه وفي هذه الحالة لا يؤمن التحريف.
ويظهر مما فات أن يوم مولد ابن حجر ينحصر ما بين الثاني عشر والثاني والعشرين من شعبان سنة 773 هـ أي بين الثامن عشر من شباط والثامن والعشرين منه من سنة 1372 م.

نشأته وأسرته
نشأ الحافظ ابن حجر يتيما- كما عبر هو عن نفسه- إذ مات أبوه في رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك وهو طفل.
وقال: «تركني ولم أكمل أربع سنين وأنا الآن أعقله كالذي يتخيل الشيء ولا يتحققه، وأحفظ عنه أنه قال: كنية ولدي أحمد أبو الفضل» ولم يكن من يكفله، وكان والده قد أوصى قبل وفاته بولده اثنين من الّذين كانت بينه وبينهم مودّة ويبدو أن عليّا كان حفيّا بولده أحمد، فهو الّذي كناه واصطحبه عند ما حجّ وزار بيت المقدس وجاور، ويظن الحافظ ابن حجر أن أباه أحضره في مجاورته مجالس الحديث وسمع شيئا ما، غير أن المنية اخترمته ولم يسعد بولده الّذي صار له فيما بعد شأن عظيم.
وأصبح اليتيم في وصاية زكي الدين أبي بكر بن نور الدين علي الخروبيّ، وكان تاجرا كبيرا بمصر، وورث مالا كثيرا وأصبح رئيسا للتجار، كما أوصى به والده العلامة شمس

(1/93)


الدين بن القطان الّذي كان له بوالده اختصاص لكنه لم ينصح له في تحفيظه الكتب وإرشاده إلى المشايخ والاشتغال حتى أنه كان يرسل بعض أولاده إلى كبار الشيوخ.. ولا يعلمه بشيء من ذلك.
وقال عنه ابن حجر: وكان له اختصاص بأبي فأسند إليه وصيته فلم يحمد تصرفه.
وتشير المصادر إلى أن نشأة الحافظ ابن حجر كانت برغم ذلك- في غاية العفّة والصيانة والرئاسة، وأن الخرّوبي المذكور لم يأل جهدا في رعايته والعناية بتعليمه، فكان يستصحبه معه عند مجاورته في مكّة، وظل يرعاه إلى أن مات سنة 787 هـ وكان الحافظ ابن حجر قد راهق ولم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلّة.
ولم يدخل الكتّاب حتى أكمل خمس سنين فأكمل حفظ القرآن الكريم وله تسع سنين، ومن الذين قرأ عليهم في المكتب شمس الدين بن العلاف الّذي ولى حسبة مصر وقتا وغيره.
وأكمل حفظه للقرآن على صدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرزاق السفطي، وكان الاتجاه الثقافي السائد آنذاك يقتضي من الّذي يستظهر القرآن أن يصلّي بالناس إماما في صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان، غير أن هذه الفرصة لم تتهيأ لابن حجر الصّبي النّابه الّذي حفظ القرآن ولم يزل في التاسعة من عمره، وهذه في الحقيقة مسألة شرعية حيث لا تجزئ صلاة المؤتمين إن لم يكن إمامهم بالغا، ومع الاختلاف النسبي في تحديد سنّ البلوغ، فإن السنة الثانية عشرة من عمر الصبي كانت تتيح له على ما يظهر أن يصلي إماما بالمسلمين إن هو حفظ القرآن الكريم، فكان عليه أن يتنظر بلوغ هذه السنّ.
وفي أوّل سنة 783 اشتغل بالإعادة، وفي سنة 785 أكمل الحافظ ابن حجر اثنتي عشرة سنة من عمره، ومن حسن حظه أن يكون متواجدا حينئذ مع وصيه الزكي الخرّوبي في مكّة في تلك السنة فصلّى التراويح هناك.
ويمكن تصور بوادر نبوغه وشجاعته، فبقدر ما كانت مفخرة له كصبي يتقدّم إماما بالمسلمين في بيت اللَّه الحرام فإنّها كانت لحظة حاسمة وحرجة اجتازها بثبات وحسن أداء، فكانت الخيرة له في ذلك كما قال، وكان الحج يومئذ يوم الجمعة فحج وجاور في الحرم الشّريف ثم صلّى بعد ذلك بالقدس.
ويظهر من استقراء تراجم الّذين عاشوا في عصر الحافظ ابن حجر أن تقليدا ثقافيا كان يسود بين أوساط التلاميذ الذين يدخلون الكتّاب وذلك بإلزام التلاميذ بالتدرج في حفظ بعض مختصرات العلوم والكتب وسماع بعضها الآخر، وهي التي اتفق العلماء آنذاك اعتبارها

(1/94)


أساسا في بناء ثقافة طلاب العلم، وكان حفظها أو سماعها يتم بإشراف أساتذة كفاة بارزين في حقول اختصاصهم أو ما يقرب منها.
وإذا كانت ثقافة الحافظ ابن حجر تقليدية في أسلوبها فهي ليست كذلك في مكوّناتها، نظرا لقائمة الكتب المهمة التي كوّنت ثقافته بادئ ذي بدء.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم ظهرت مخايل الذكاء الفطري جليّة عليه ما لبث أن استكملها بالتتبع والتحصيل حتى صار حافظ عصره وشيخ الإسلام.
وحفظ بعد رجوعه مع الخرّوبي إلى مصر سنة 786 «عمدة الأحكام» للمقدسي، و «الحاوي الصّغير» للقزويني و «مختصر ابن الحاجب» الأصلي في الأصول، و «ملحة الإعراب» للهروي، و «منهج الأصول» للبيضاوي وألفيّة العراقي وألفيّة ابن مالك، والتنبيه في فروع الشافعيّة للشيرازي وتميز بين أقرانه بسرعة الحفظ فأشار مترجموه إلى أنه حفظ سورة مريم في يوم واحد، وكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير في ثلاث مرات يصححها ويقرؤها على نفسه ثم يقرؤها أخرى ثم يعرضها حفظا، وكانت له طريقته الخاصة في الحفظ، حدث عنها تلامذته فهو لم يكن يحفظ بالدرس، وإنما بالتأمّل، وصرف همته نحو ما يروم حفظه، وقد وصف السّخاوي هذه الطريقة بأنها طريقة الأذكياء.
وسمع صحيح البخاري سنة 785 على مسند الحجاز عفيف الدين عبد اللَّه النشاوري، وكأنه نسي تفاصيل سماعه منه، لكنه كان يتذكر أنه لم يسمع جميع الصحيح، وإنّما له فيه إجازة شاملة وقد بين ذلك ابن حجر بقوله: «والاعتماد في ذلك على الشيخ نجم الدين المرجاني فإنه أعلمني بعد دهر طويل بصورة الحال فاعتمدت عليه وثوقا به» .
وقرأ بحثا في عمدة الأحكام على الحافظ الجمال بين ظهيرة عالم الحجاز سنة 785 هـ، وكان عمره اثنتي عشرة سنة.
واجتهد في طلب العلم فاهتم بالأدب والتاريخ وهو ما يزال في المكتب فنظر في التواريخ وأيام الناس، واستقر في ذهنه شيء من أحوال الرواة، وكان ذلك بتوجيه رجل من أهل الخير سماه ابن حجر للسخاوي إلا أن السخاوي نسيه.
وسمع في فتوته من المسند نجم الدين أبي محمد عبد الرحيم بن رزين بن غالب صحيح البخاري بقراءة الجمال بن ظهيرة سنة ست وثمانين وسبعمائة بمصر، وفاته شيء يسير، كما سمع الصحيح أيضا من أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك الغزي وغيرهما.

(1/95)


وبلغ به الحرص على تحصيل العلم مبلغا جعله يستأجر أحيانا بعض الكتب، ويطلب إعارتها له، ويبرز في هذا المجال من بين شيوخه بدر الدين البشتكي الشّاعر المشهور الّذي أعاره جملة من الكتب منها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وغيره.
ويبدو من خلال الاستقراء أن فتورا حصل في نشاطه الثقافي استمر إلى أول سنة تسعين وسبعمائة، اشتغل في هذه المدة بالتجارة فنشأ في وسط نجاري لأن جده وأعمامه كانوا تجارا، وكان وصيه الخرّوبي رئيسا للتجار في مصر.
ولعل لموت الخرّوبي سنة 787 هـ أثرا في فتور ابن حجر واشتغاله بالتجارة حيث فقد من كان يحثه على الاشتغال بالعلم، وهو في مرحلة يحتاج فيها إلى ذلك، كما ترتب عليه أن يكفل نفسه وينهض بأعباء الحياة، وقد يتضح ذلك من قول السخاوي، ولو وجد من يعتني به في صغره لأدرك خلقا ممن أخذ عن أصحابهم» .
في سنة 790 هـ أكمل السّابعة عشرة من عمره، وحفظ فيها القرآن الكريم وكتبا من مختصرات العلوم، وقرأ القراءات تجويدا على الشهاب أحمد الخيوطي، وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ.
وقد لازم حينئذ أحد أوصيائه العلامة شمس الدين محمد بن القطان المصري، وحضر دروسه في الفقه والعربيّة والحساب وغيرها، وقرأ عليه شيئا من الحاوي الصغير فأجاز له ثم درس ما جرت العادة على دراسته من أصل وفرع ولغة ونحوها وطاف على شيوخ الدراية.
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها حتى لا يكاد يسمع شعرا إلا ويستحضر من أين أخذ ناظمه، وطارح الأدباء.
وقال الشعر الرّائق والنثر الفائق، ونظم المدائح النبويّة والمقاطيع.
وتمثل سنة 793 منعطفا ثقافيا في حياة ابن حجر، فمن هذه الثقافة العامة الواسعة، واجتهاده في الفنون التي بلغ فيها الغاية القصوى أحس بميل إلى التخصص فحبّب اللَّه إليه علم الحديث النبوي فأقبل عليه بكليته.
وأوضحت المصادر أن بداية طلبه الحديث كان في سنة 793 هـ وغير أنه لم يكثر إلا في سنة 796 هـ وكتب بخطه: «.... رفع الحجاب، وفتح الباب، وأقبل العزم المصمم على التحصيل، ووفق للهداية إلى سواء السّبيل» فكان أن تتلمذ على خيرة علماء عصره.
وكان شيخه في الحديث زين الدين العراقي الّذي لازمه عشر سنوات، وحمل عنه جملة نافعة من علم الحديث سندا ومتنا وعللا واصطلاحا، فقرأ عليه ألفيته وشرحها فنون

(1/96)


الحديث وانتهى منهما في رمضان سنة 798 هـ بمنزل شيخه المذكور بجزيرة الفيل على شاطئ النيل، كما قرأ عليه نكتة على ابن الصلاح في مجالس آخرها سنة 799 هـ، وبعض الكتب الكبار والأجزاء القصار، وحمل جملة مستكثرة من أماليه واستملى عليه بعضها وهو أول من أذن له بالتدريس في علوم الحديث عام 797 هـ.
وقرأ على مسندي القاهرة ومصر الكثير في مدة قصيرة فوقع له سماع متصل عال لبعض الأحاديث.
أسرته:
كانت أسرة الحافظ ابن حجر تجمع بين الاشتغال بالتجارة والاهتمام بالعلم، فكان عم والده فخر الدين عثمان بن محمد بن علي الّذي عرف بابن البزاز وب (ابن حجر) قد سكن ثغر الإسكندرية وانتهت إليه رئاسة الإفتاء هناك على مذهب الإمام الشّافعيّ وتفقه به جماعة منهم الدّمنهوري، وابن الكويك، وكان له ولدان هما ناصر الدين أحمد، وزين الدين محمد، وكانا من الفقهاء.
أما جده قطب الدين محمد بن محمد بن علي فلقد كان بارعا رئيسا تاجرا، حصل على إجازات من العلماء، وأنجب أولادا منهم كمال الدين، ومجد الدين، وتقيّ الدين وأصغرهم وليّ الدين ثم نور الدين علي، وهو والد ابن حجر، الّذي انصرف من بينهم لطلب العلم أما إخوته فكانوا تجّارا.
ويبدو من خلال سيرة نور الدين علي أنه مع اشتغاله بالتجارة عكف على الدرس وتحصيل العلوم فتفقه على مذهب الإمام الشافعيّ وحفظ الحاوي الصغير، وأخذ الفقه عن محمد بن عقيل وأجازه، وسمع من أبي الفتح بن سيد الناس وطبقته وله استدراك على الأذكار للنووي فيه مباحث حسنة، وعدّة دواوين شعر منها ديوان الحرم فيها مدائح نبوية، وكان معنيّا بالنّظم ذا حظّ جيّد في الأدب.
وقال ابن حجر عن أبيه: «لم يكن له بالحديث إلمام ونظمه كثير سائر» ، ووصفته المصادر بالعقل والدّيانة والأمانة ومكارم الأخلاق، وصحبة الصّالحين، ونوّهت بثناء ابن القطان وابن عقيل والوليّ العراقي عليه، وناب في القضاء، وأكثر من الحج والمجاورة، وصنف، وأجيز بالإفتاء والتدريس والقراءات السبع وتطارح مع ابن نباتة المصري والقيراطي، وتبادل معهما المدائح.
كان مولده في حدود سنة 820 هـ ووفاته في رجب سنة 777 هـ.

(1/97)


أما والدته فهي تجار ابنة الفخر أبي بكر بن شمس محمد بن إبراهيم الزفتاوي، أخت صلاح الدّين أحمد الزفتاوي الكارمي صاحب القاعة الكائنة بمصر تجاه المقياس.
وكانت له أخت، ترجم لها في «إنباء الغمر» و «المجمع المؤسس» وهي ست الركب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر، وكانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذّكاء، أثنى عليها وقال: «كانت أمي بعد أمي، أصبت بها في جمادى الآخرة من هذه السنة» أي سنة 798 هـ.
وذكر السّخاوي تحصيلها الثقافي وإجازاتها، وزواجها، وأولادها كما ذكر الحافظ ابن حجر شيوخها وإجازاتها من مكة ودمشق وبعلبكّ ومصر وقال: «وتعلّمت الخط وحفظت الكثير من القرآن، وأكثرت من مطالعة الكتب فمهرت في ذلك جدّا.. وكانت بي برة رفيقة محسنة، وقد رثاها أخوها الحافظ ابن حجر في قصيدة، وكان له أخ من أمّه اسمه عبد الرحمن بن الشهاب أحمد بن محمد البكري، ترجم له في إنبائه وقال: إنه مهر وحصّل مالا أصله من قبل أمه- وهي والدتي- فقدر اللَّه موته فورثه أبوه» .
تزوّج الحافظ ابن حجر عند ما بلغ عمره خمسا وعشرين سنة، وذلك في سنة 798 من أنس ابنة القاضي كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز ناظر الجيش، وتنتمي أنس إلى أسرة معروفة بالرئاسة والحشمة والعلم.
وكان ابن حجر حريصا على نشر الثقافة والعلم بين أهل بيته وأقاربه كحرصه على نشر العلم بين الناس، وسيتضح ذلك في دراسة جهوده في التدريس وعقده لمجالس الإملاء.
فأسمع زوجته من شيخه حافظ العصر عبد الرحيم العراقي الحديث المسلسل بالأوّلية، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلامة الشرف ابن الكويك، وأجاز لها باستدعاء عدد من الحفاظ فيهم أبو الخير بن الحافظ العلائي، وأبو هريرة عبد الرّحمن بن الحافظ الذهبي، ولم تكن الاستدعاءات بالإجازة لها لتقتصر على المصريين فقط بل من الشاميين والمكيين واليمنيين، وكان الحافظ ابن حجر في حالة الاستدعاء لها يدون أسماء من ولدن من بناتها اللاتي ولدن تباعا.
وحجت صحبة زوجها في سنة 815 هـ كما حجت وجاورت بعد ذلك وحدثت بحضور زوجها، وقرأ عليها الفضلاء، وكانت تحتفل بذلك وتكرم الحاضرين، وقد خرج لها السخاوي أربعين حديثا عن أربعين شيخا، وقرأها عليها بحضور زوجها، وكان الحافظ ابن حجر قد أسلف لها بالإعلام بذلك على سبيل المداعبة بقوله: قد صرت شيخة إلى غير ذلك، وكانت كثيرة الإمداد للعلامة إبراهيم بن خضر بن أحمد العثماني العلامة المتفنن الّذي

(1/98)


كان يقرأ لها صحيح البخاري في رجب وشعبان من كل سنة، وتحتفل يوم الختم بأنواع من الحلوى والفاكهة، ويهرع الكبار والصغار لحضور ذلك اليوم قبيل رمضان بين يدي زوجها الحافظ، ولما مات الحافظ ابن خضر قرأ لها سبطها يوسف بن شاهين، ولم تضبط لها هفوة ولا زلّة ... وكان زوجها يكن لها الاحترام الكبير كما كانت هي عظيمة الرعاية له. فولدت له عدة بنات: زين خاتون وفرحة، وعالية، ورابعة، وفاطمة، ولم تأت منه بذكر، وكانت كلّما حملت ذكرا ولد قبل أوانه ميتا.
وتمر السنوات ثقيلة متباطئة، وتتدافع في نفسه أمور متنافرة يحترم أم أولاده ويرعاها، غير أنه شاء اللَّه لها أن لا تلد إلا إناثا، أما الذكور فيموتون، بيد أنه أحب أن يكون له ولد، فاختار التسري، وكانت لزوجته جارية يقال إن اسمها خاص نزل، فأظهر غيظا بسبب تقصيرها، وأقسم بأن لا تقيم بمنزله فبادرت أنس لبيعها، فأرسل شمس الدين بن الضياء الحنبلي فاشتراها له بطريق الوكالة وتزوّجها في مكان بعيد عن منزله، فحملت بولده الوحيد بدر الدين بن المعالي محمد المولود في الثامن عشر من صفر سنة 815 هـ وكانت العقيقة في منزل أنس، ولم تشعر بذلك إلى قبل انفصال الولد عن الرضاع، فلما علمت أنس ذهبت هي وأمها إلى مكان وجود الولد وأمه وأحضرتها معها إلى منزلها وأخفت أمرهما.
ولما حضر الحافظ ابن حجر استجوبته زوجته أنس فما اعترف ولا أنكر بل ورى بما يفهم منه الإنكار، ثم قامت فأخرجت الولد وأمّه فأسقط في يده.
وعاتبته عتابا مرّا، فاعتذر بميله للأولاد الذكور، ودعت عليه أن لا يرزق ولدا عالما، فتألّم لذلك وخشي من دعائها، وقال لها: أحرقت قلبي أو شيئا من هذا القبيل، لأنها كانت مجابة الدّعاء.
وبعد وفاة الحافظ ابن حجر أرسل لها علم الدين البلقيني على يد ولده أبي البقاء يطلب الزواج منها، وقيل: إنها لم تكن تأبى ذلك لكن عصم اللَّه- كما قال السخاوي: ببركة شيخنا- فلم تتزوّجه.
كما تزوّج الحافظ ابن حجر أرملة الزين أبي بكر الأمشاطي بعد وفاته، وذلك عند مجاورة أم أولاده سنة 834 هـ ورزق منها في رجب سنة 835 ابنة سماها آمنة، لم تعش طويلا حيث ماتت في شوّال 836 هـ، وبموتها طلقت أمها لأنه علّق طلاقها عند سفره إلى آمد على موتها.
كما تزوج الحافظ ابن حجر من ليلى ابنة محمود بن طوغان الحلبية عند ما سافر مع

(1/99)


الأشرف سنة 836 هـ. إلى آمد، وكان زواجه منها في حلب، واستمرت معه إلى أن سافر من حلب ففارقها دون أن يعلمها بالطلاق، لكن أسرّه إلى بعض خواصه، والتمس منه ألا يعلمها بذلك، وكان يريد أن يختبر ولاءها، ولأنها قد لا تطيق أن تترك حلب وتسافر معه إلى مصر، ثم راسل بعض أصدقائه الحلبيين في تجهيزها إن اختارت ويعلمها بأن الّذي يحمله على الطلاق هو الرفق بها لئلا تختار الإقامة بحلب أو يحصل لها نصيبها فلا تتضرّر، وجاء في الكتاب الّذي قرأه السخاوي بخطه وصفه لها بأنها نعم المرأة عقلا وحسن خلق وخلق ويعدها بكل جميل وأنها إن قدمت ينزلها أحسن المنازل.. فامتثلت إشارته وتجهزت حتى قدمت عليه إلى مصر.. واستمرت معه حتى مات، وكان قد أسكنها في بيت خاص..
ويأتي إليها في يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، ولم يرزق منها أولادا، وكان شديد الميل إليها حتى قال فيها شعرا.
أما أولاده فهم خمس بنات وولد واحد، وهم: زين خاتون وفرحة، وعالية، ورابعة، وفاطمة، وبدر الدين محمد.
فكانت «زين خاتون» هي البكر، ومولدها في ربيع الآخر سنة 802، فاعتنى بها واستجاز لها في سنة ولادتها وما بعدها خلقا وأسمعها على شيوخه كالعراقي والهيثمي وأحضرها على ابن خطيب داريا، ثم تزوّجها الأمير شاهي العلائي الكركي الّذي صار داودارا عند المؤيد مدة، فولدت له عدة أولاد ماتوا كلهم في حياة أمهم، ولم يتأخّر من أولادها إلّا أبو المحاسن يوسف بن شاهين المعروف بسبط ابن حجر، وكانت قد تعلمت القراءة والكتابة وماتت- وهي حامل- بالطّاعون سنة 833 هـ.
وأما «فرحة» فكان مولدها في رجب سنة 804، واستجيز لها مع أمها، وتزوّجها شيخ الشيوخ محب الدين بن الأشقر الّذي ولي نظر الجيش وكتابة السّر، وكان أحد الأعيان في الديار المصرية فولدت له ولدا مات صغيرا في حياة أمه التي كانت وفاتها سنة 828 هـ بعد أن رجعت من الحج مع زوجها موعوكة.
وأما «عالية» فكان مولدها سنة 807 هـ واستجيز لها جماعة وماتت هي وأختها فاطمة في الطّاعون سنة 819 مع من مات من أفراد أسرة أبويهما.
وأما «رابعة» فكان مولدها سنة 811 وأسمعها والدها على المراغي بمكّة سنة 815 هـ وأجاز لها جمع من الشاميين والمصريين وتزوجها الشّهاب أحمد بن محمد بن مكنون، واستولدها بنتا سماها «عالية» ماتت في حياتيهما، ومات عنها زوجها سنة 830 هـ فتزوّجها المحب بن الأشقر حتى ماتت عنه في سنة 832 هـ، وعمل صداقها في أرجوزة.

(1/100)


أما ولده الوحيد بدر الدين أبو المعالي محمد فكان والده حريصا على تعليمه وتهذيبه، فحفظ القرآن وصلّى بالنّاس كما كانت العادة جارية في سنة 826، وأسمعه الحديث على الواسطي وجماعة وأجاز له باستدعاء والده منذ مولده سنة 815 هـ فما بعد عدد من كبار المسندين ذكرهم والده في معجم شيوخه.
وبلغ من حرصه واهتمامه به بعد أن صنف كتابه:
«بلوغ المرام من أدلة الأحكام» لأجله، لكنه لم يحفظ إلا اليسير منه وكتب عن والده كثيرا من مجالس الإملاء وسمع عليه شيئا كثيرا واشتغل بأمر القضاء والأوقاف مساعدا لوالده، حتى صارت له خيره بالمباشرة والحساب.. واشتدت محبة والده له.
وولي في حياة أبيه عدة وظائف أجلها مشيخة البيبرسية وتدريس الحديث بالحسنية ناب عنه فيهما والده، والإمامة بجامع طولون وغير ذلك.
وقد وصفه ابن تغري بردي بالجهل، وسوء السيرة، ولم يرض ذلك السخاوي فرد عليه مفيدا بأنه كان حسن الشكالة متكرّما على عياله قل أن يكون في معناه، لكن السخاوي أشار في موضوع آخر إلى محنة الحافظ ابن حجر بسبب ولده وما نسب إليه من التصرف في أموال الجامع الطولوني بالاشتراك مع آخرين، واحتجز رهن التحقيق، وكان والده في ضيق صدر زائد وألم شديد بسببه وتأوّه كثيرا وكل يوم يسمع من الأخبار ما لم يسمعه بالأمس، وكان يتوجه إليه في يوم الجمعة يوما أو أكثر إلى المكان الّذي يكون فيه فيرجع.. وهو مسرور لما يرى من ثبات ولده وقوة قلبه وشجاعته وانتظام كلامه ومهارته، إلى أن تبين أن ما أشيع عنه مجرد اتهام، ولذلك عمل الحافظ ابن حجر جزءا سماه «ردع المجرم عن سب المسلم» ويبدو أن القاضي ولي الدين السفطي كان له دور مهم في محنة الحافظ ابن حجر بسبب ما كان بينهما من المنافسة على القضاء فكانت هذه الحادثة سببا في زهد الحافظ ابن حجر في القضاء [ (1) ] .

ابن حجر المحدّث وخطيب الأزهر
تولى ابن حجر الخطابة في عدة مساجد من أكبر المساجد بالقاهرة مثل الجامع الأزهر وجامع عمرو وغيرهما من المساجد الكبرى بالقاهرة فقد كان متبحرا في العديد من العلوم، وكان يفد إليه طلاب العلم وأهل الفضل من سائر الأنحاء، وكان يتسم بالحلم والتواضع والصبر كثير الصيام والقيام.
__________
[ (1) ] ابن حجر دراسة ص 74 وما بعدها.

(1/101)


وكان مرجعا في الحديث النبوي، حتى لقب بلقب «أمير المؤمنين» في الحديث وهذا اللقب لا يظفر به إلا أكبر المحدثين الأفذاذ وقد حبب إلى ابن حجر الحديث وأقبل عليه بكليته وطلبه من سنة ثلاث وتسعين ولكنه لم يلزم الطلب إلا من سنة ست وتسعين فعكف على الزين العراقي وتخرج به وانتفع بملازمته، وتحول إلى القاهرة فسكنها قبيل القرن وارتحل إلى البلاد الشامية والمصرية والحجازية وأخذ عن الشيوخ والأقران وأذن له جل هؤلاء في الإفتاء والتدريس.
وتصدر لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة وقراءة وإقراء وتصنيفا وإفتاء وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب والفقه- على مائة وخمسين تصنيفا وقد عرف ابن حجر بالحفظ وكثرة الاطلاع والسماع وبرع في الحديث وتقدم في جميع فنونه وأثنى عليه شيوخه في هذا الشأن وقد سبق أنه ولي تدريس الفقه بالمدرسة الشيخونية وتدريس الحديث بالمدرسة الجمالية الجديدة ثم تدريس الشافعية بالمؤيدة الجديدة ومشيخة البيبرسية في دولة المؤيد وتدريس الفقه بالمدرسة الصلاحية المجاورة للإمام الشافعيّ، كما تولى الخطابة بالجامع الأزهر وبين التدريس والإفتاء ولي منصب القضاء، وكانت أول ولايته القضاء في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وعشرين وثمانمائة بعد أن امتنع أولا لأنه كان لا يؤثر على الاشتغال بالتأليف والتصنيف شيئا غير أن ابن حجر كما يقول السخاوي قد ندم على قبوله وظيفة القضاء ويقول ابن حجر إن من آفة التلبس بالقضاء أن بعضهم ارتحل إلى لقائي وأنه بلغه تلبسي بوظيفة القضاء فرجع، وعزل عن القضاء وأعيد إليه مرات وكان أخر ولايته القضاء إذ عزل نفسه في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
شيوخه:
بلغ عدد شيوخه بالسّماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بين بخطه نحو أربعمائة وخمسين نفسا، وإذا استثنينا الشيوخ الذين أجازوا عموما فقد ترجم في «المجمع المؤسس» لأكثر من ستمائة شيخ، وذكر بعضهم أن عدد شيوخه بلغ ستمائة نفس سوى من سمع منه من الأقران.
واجتمع له من الشّيوخ الذين يشار إليهم ويعول في حل المشكلات عليهم ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأن كل واحد منهم كان متبحرا ورأسا في فنه الّذي اشتهر به «فالبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع وابن الملقن في كثرة التصانيف والعراقي في معرفة علوم الحديث ومتعلقاته، والهيثمي في حفظ المتون، واستحضارها والمجد الشيرازي في حفظ اللغة واطلاعه عليها، والغماري في معرفة العربية ومتعلقاتها، وكذا المحب ابن هشام

(1/102)


كان حسن التصرف فيها لوفور ذكائه، وكان الغماري فائقا في حفظها، والإيناس في حسن تعليمه وجودة تفهيمه، والعز بن جماعة في تفننه في علوم كثيرة بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها، والتنوخي في معرفة القراءات وعلو سنده فيها [ (1) ] .
شيوخ القراءات:
1- إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن التنوخي الشيخ برهان الدين الشّامي (709 هـ- 800 هـ) بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ بالسماع وبالإجازة يجمعهم معجمه الّذي خرّجه له الحافظ ابن حجر ونزل أهل مصر بموته درجة، قرأ عليه الحافظ ابن حجر من أول القرآن (الفاتحة) إلى قوله (المفلحون) من سورة البقرة جامعا للقراءات السبع ثم قرأ عليه الشاطبية تامة بسماعه لها على القاضي بدر الدين بن جماعة كما قرأ عليه الخلاصة للألفية من العربية نظم ابن عبد اللَّه، فضلا عن قراءته عليه صحيح البخاري، وبعض المسانيد، والكتب والأجزاء، وخرج له المائة العشرية، ثم الأربعين التالية لها، وأذن له بالإقراء سنة 796 هـ.
2- محمد بن محمد بن محمد الدمشقيّ الجزري (751- 833) شيخ القراءات وأجاز له ولولده محمد وحثه على الرّحلة إلى دمشق، حدث بكتابه (الحصن الحصين) في البلاد اليمنية، ومهر الجزري في الفقه إلا أن فنّه القراءات.

شيوخ الحديث:
1- عبد اللَّه بن محمد بن محمد بن سليمان النيسابورىّ المعروف بالنشاوري (705- 790 هـ) وهو أول شيخ سمع عليه الحديث المسند فيما اتصل بعلمه، سمع عليه صحيح البخاري مع فوت بقراءة شمس الدين السلاوي سنة 785 هـ بالمسجد الحرام بسماعه على الرضي الطبري على أنه شك في إجازته منه، وترك التخريج والرّواية بتلك الإجازة وقال: «وفي المصرح به غني عن المظنون واللَّه المستعان» .
2- محمد بن عبد اللَّه بن ظهيرة المخزوميّ المكيّ جمال الدين (751- 817 هـ) وهو أول من بحث عليه في فقه الحديث وذلك في مجاورته مع الخرّوبي بمكّة سنة 785 وهو ابن اثنتي عشرة سنة، حيث قرأ عليه بحثا في عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي، ثم كان أول من سمع بقراءته الحديث بمصر سنة 786، وسمع عليه كتبا أخرى.
__________
[ (1) ] ابن حجر دراسة ص 145، 146.

(1/103)


3- عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي أبو الفضل زين الدين الحافظ الكبير (725- 806 هـ) وأول ما اجتمع به سنة 786 فقرأ عليه ثم فتر عزمه، كما وضح فيما فات، ثم لازمه عشر سنوات وتخرّج به وهو أوّل من أذن له بالتدريس في علوم الحديث في سنة 797 هـ، وحضر مجالس إملائه، وقرأ عليه كتابه «الأربعين العشارية» من جمعه واستملى عليه الحافظ ابن حجر في غياب ولده أبي زرعة، وحمل عنه جملة مستكثرة من أماليه، وأذن له في تدريس ألفيته من الحديث، وشرحها، والنكت على ابن الصلاح، وسائر كتب الحديث وعلومه، ولقبه بالحافظ وعظمه ونوّه بذكره.
وللحافظ ابن حجر مع شيخه مراجعات كثيرة.
4- علي بن أبي بكر بن سليمان أبو الحسن الهيثمي (735- 807) لازم العراقي أشد ملازمة وهو صهره، خرج زوائد مسند البزار ثم مسند أبي يعلى الموصلي، ثم الطبرانيات، وجمع الجميع في كتاب واحد محذوف الأسانيد، ورتب الثقات لابن حبان على حروف المعجم، وحلية الأولياء على الأبواب، اقتصر منها على الأحاديث المسندة، ومات وهو مسودة فكمل ابن حجر ربعه، وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضارا للمتون من شيخه العراقي حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك، لأن الحفظ المعرفة.
قال ابن حجر: كان يودني كثيرا وبلغه أنني تتبعت أوهامه في مجمع الزوائد فعاتبني فتركت ذلك» قرأ عليه قرينا لشيخه العراقي ومنفردا.

شيوخ الفقه
1- إبراهيم بن موسى بن أيوب برهان الدين الأنباسي الورع الزاهد (725- 802 هـ) سمع من الوادي آشي وأبي الفتح الميدومي ومسند عصره ابن أميلة وطبقتهم، قال عنه ابن حجر: «سمعت منه كثيرا وقرأت عليه الفقه» وقال «اجتمعت به قديما وكان صديق أبي ولازمته بعد التسعين وبحثت عليه في المنهاج وقرأت عليه قطعة كبيرة من أول الجامع للترمذي بسماعه على.. ابن أميلة» وله مصنفات، يألفه الصّالحون ويحبه الأكابر وفضله معروف.
2- عمر بن عليّ بن أحمد بن الملقن (723- 804 هـ) كان أكثر أهل عصره تصنيفا فشرح المنهاج عدة شروح، وخرّج أحاديث الرافعي في ست مجلّدات، وشرح صحيح البخاري في عشرين مجلدة انتقده ابن حجر عليه وعلى أشياء أخرى. قرأ عليه قطعة من شرحه الكبير على المنهاج.

(1/104)


3- عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني نزيل القاهرة أبو حفص، شيخ الإسلام علم الأعلام مفتي الأنام (724- 805 هـ) أقدمه أبوه القاهرة وله اثنتا عشرة سنة فبهرهم بذكائه وكثرة محفوظه وسرعة إدراكه وعرض عليه محافيظه ورجع، غير أنه لم يرزق ملكة في التصنيف، وقد لازمه الحافظ ابن حجر مدة، وقرأ عليه الكثير من الروضة، ومن كلامه على حواشيها، وسمع عليه بقراءة البرماوي مختصر المزني، وكتب له خطه بالإذن بالإعادة وهو أول من أذن له في التدريس والإفتاء، وتبعه غيره.
4- محمد بن علي بن عبد اللَّه القطان الفقيه (737- 813 هـ) مهر في فنون كثيرة، وتفقه عليه الحافظ ابن حجر، وقال عنه:
قرأت عليه وأجاز لي وذكر لي أنه قرأ الأصول على الشيخ نور الدين الإسنائي وكان ماهرا في القراءات والعربية والحساب ولازمه في الفقه، وقرأ عليه قسما كبيرا من الحاوي وغيره.
5- عليّ بن أحمد بن أبي الآدمي الشيخ نور الدين، قال ابن حجر: قرأت عليه في الفقه والعربيّة، وكان على طريقة مثلي من الدين والعبادة والخير والانجماع ولازمه كثيرا.

شيوخ العربيّة:
1- محمد بن محمد بن علي بن عبد الرزاق الغماري المصري المالكي (720- 802) وكان كثير الاستحضار للشواهد واللغة مع مشاركة في الأصول والفروع، ودرس القراءات في الشيخونية وهو خاتمة من كان يشار إليه في القراءات العربية، سمع عليه الحافظ ابن حجر القصيدة المعروفة بالبردة بسماعه لها على أبي حيان بسماعه من ناظمها، وأجاز له غير مرّة كما أجازه مروياته عن غيره، وكان عارفا بالعربيّة كثير الحفظ للشعر لا سيما الشواهد قوي المشاركة في فنون الأدب.
2- محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقيّ الأصل بدر الدين البشتكي الأديب الفاضل المشهور (748- 830 هـ) .
حفظ كتابا في فقه الحنفية ثم تحوّل شافعيّا، ثم نظر في كتب ابن حزم، واشتغل في فنون كثيرة، وعني الأدبيات فمهر فيها، لازمه ابن حجر بضع سنين، وانتفع بفوائده وكتبه وأدبياته وطارحه بأبيات وسمع منه الكثير من نظمه وأجاز له ولأولاده، وسبقت الإشارة إلى أنه كان يعيره بعض الكتب الأدبية، وقرأ عليه مجلسا واحدا من مقدمة لطيفة في علم العروض استفاد منه لمعرفة الفن بكماله، كما قرأ عليه البشتكي بعد ذلك في الحديث فهو شيخه، وتلميذه في آن واحد.

(1/105)


3- محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشّيرازي الشيخ العلّامة مجد الدين أبو الطاهر الفيروزآباذي (729- 817 هـ) نظر في اللغة فكانت جل قصده في التحصيل فمهر فيها إلى أن فاق أقرانه، اجتمع به في زبيد، وفي وادي الخصيب وناوله جل القاموس المحيط وأذن له مع المناولة بروايته عنه وقرأ عليه من حديثه عدة أجزاء، وسمع منه المسلسل بالأولية بسماعه عن السبكي، وكتب له تقريضا على بعض تخريجاته أبلغ فيه شيخه في أغلب العلوم.
هو محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي الأصل ثم المصري الشيخ عز الدين ابن المسند شرف الدين (759- 819) .
أتقن فنون المعقول إلى أن صار هو المشار إليه في الدّيار المصرية في هذا الفن..
ولم يكن يقرأ عليه كتاب من الكتب المشهورة إلا ويكتب عليه نكتا وتعقيبات واعتراضات بحسب ما يفتح له أخذ عنه في شرح منهاج الأصول، وجمع الجوامع، ومختصر ابن الحاجب وفي المطوّل لسعد الدين وأجاز له غير مرة ولأولاده، وقال البقاعي: وأجل من أخذ عنه المعقول والأدبيات علامة الدّنيا الشيخ عز الدين بن جماعة، ولازمه طويلا، وأخذ عنه علما جزيلا.
وقال السخاوي: إن ابن جماعة كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها» .
ولازمه الحافظ ابن حجر في غالب العلوم التي كان يقرؤها من سنة 790 هـ إلى أن مات سنة 819 هـ ولم يخلف بعده مثله كما قال في «إنباء الغمر» .

مصنّفاته:
قال الشّمس السّخاويّ تلميذ الحافظ ابن حجر:
«وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب والفقه، والأصلين وغير ذلك على مائة وخمسين تصنيفا رزق فيها من السّعد والقبول خصوصا «فتح الباري بشرح البخاري» الّذي لم يسبق نظيره أمرا عجبا» [ (1) ] .
بلغت مصنفاته أكثر من اثنين وثلاثين ومائة تصنيف، وها هي مرتبة على حروف المعجم.
1- الآيات النّيرات للخوارق المعجزات.
__________
[ (1) ] الضوء اللامع 2/ 38.

(1/106)


2- اتباع الأثر في رحلة ابن حجر.
3- إتحاف المهرة بأطراف العشرة.
4- الإتقان في فضائل القرآن.
5- الأجوبة المشرقة على الأسئلة المفرقة.
6- الإحكام لبيان ما في القرآن من إبهام.
7- أربعون حديثا متباينة الأسانيد بشرط السّماع.
8- أسباب النزول.
9- الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة.
10- الاستبصار على الطّاعن المعثار.
11- الاستدراك على الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
12- الاستدراك على الكاف الشّاف.
13- الإصابة في تمييز الصّحابة.
14- أطراف المختارة.
15- أطراف الصّحيحين.
16- أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي.
17- الإعجاب ببيان الأسباب.
18- الإعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام.
19- الإعلام بمن ولي مصر في الإسلام.
20- الإفصاح بتكميل النّكت على ابن الصلاح.
21- الأفنان في رواية القرآن.
22- إقامة الدّلائل على معرفة الأوائل.
23- الألقاب.
24- أمالي ابن حجر.
25- الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع.
26- الإنارة في الزّيارة.
27- إنباء الغمر بأنباء العمر.
28- الانتفاع بترتيب الدار الدّارقطنيّ.
29- انتقاض الاعتراض.
30- الأنوار بخصائص المختار.

(1/107)


31- الإيناس بمناقب العبّاس.
32- البداية والنهاية.
33- بذل الماعون بفضل الطّاعون.
34- البسط المبثوث في خبر البرغوث.
35- بلوغ المرام بأدلّة الأحكام.
36- بيان الفصل بما رجح فيه الإرسال على الوصل.
37- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه.
38- تبيين العجب بما ورد في فضل رجب.
39- تجريد التّفسير.
40- تحرير الميزان.
41- تحفة أهل التّحديث عن شيوخ الحديث.
42- تحفة الظّراف بأوهام الأطراف.
43- تخريج أحاديث الأذكار للنّووي.
44- تخريج أحاديث الأربعين للنّووي.
45- تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب.
46- تخريج الأربعين النّووية بالأسانيد العليّة.
47- التّعريج على التّدريج.
48- ترجمة النّووي.
49- تسديد القوس في مختصر مسند الفردوس.
50- التّشويق إلى وصل المهم من التّعليق.
51- تصحيح الرّوضة.
52- تعجيل المنفعة برواية رجال الأئمة الأربعة.
53- التّعريف الأوحد بأوهام من جمع رجال المسند.
54- تعريف أولي التّقدير بمراتب الموصوفين بالتّدليس.
55- تعريف الفئة بمن عاش مائة.
56- تعقّبات على الموضوعات.
57- تعليق التّعليق.
58- تقريب التّقريب.
59- تقريب التّهذيب.

(1/108)


60- تقريب المنهج بترتيب المدرج.
61- تقويم السّناد بمدرج الإسناد.
62- التّمييز في تخريج أحاديث الوجيز.
63- تهذيب التّهذيب.
64- تهذيب المدرج.
65- توالي التّأسيس بمعالي ابن إدريس.
66- توضيح المشتبه للأزدي في الأنساب.
67- التّوفيق بتعليق التّعليق.
68- الجواب الجليل عن حكم بلد الخليل.
69- الجواب الشّافي عن السّؤال الخافي.
70- الخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة والمؤخّرة.
71- الخصال الواردة بحسن الاتّصال.
72- الدّراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية.
73- الدّرر.
74- الدّرر الكامنة في أعيان المائة الثّامنة.
75- ديوان شعر.
76- ديوان منظور الدّرر.
77- ذيل الدّرر الكامنة.
78- ردّ المحرم عن المسلم.
79- الرّسالة العزية في الحساب.
80- رفع الإصر عن قضاة مصر.
81- الزّهر المطلول في بيان الحديث المعلول.
82- الزهر النّضر في أنباء الخضر.
83- السّبعة النّيرات في سبعة أسئلة عن السّيد الشريف في مباحث الموضوع.
84- سلوت ثبت كلوت: التقطها من ثبت أبي الفتح القاهريّ.
85- شرح الأربعين النّوويّة.
86- شرح سنن التّرمذي.
87- شرح مناسك المنهاج.
88- شرح منهاج النّووي.

(1/109)


89- شفاء الغلل في بيان العلل.
90- الشّمس المثيرة في معرفة الكبيرة.
91- طبقات الحفّاظ.
92- عرائس الأساس في مختصر الأساس، للزمخشريّ.
93- عشاريات الأشياخ.
94- عشرة أحاديث عشاريّة الإسناد.
95- عشرة العاشر.
96- فتح الباري بشرح البخاري.
97- فضائل شهر رجب.
98- فهرست مرويّاته.
99- فوائد الاحتفال في بيان أحوال الرّجال، لرجال البخاري.
100- الفوائد الجمّة فيمن يجدد الدّين لهذه الأمّة.
101- قذى العين من نظم غريب البين.
102- القصارى في الحديث.
103- القول المسدّد في الذّبّ عن المسند.
104- الكاف الشّاف في تحرير أحاديث الكشّاف.
105- كشف السّحر عن حكم الصّلاة بعد الوتر.
106- لذّة العيش بجمع طرق حديث «الأئمّة من قريش» .
107- لسان الميزان.
108- المجمع المؤسّس في المعجم المفهرس.
109- مختصر البداية والنّهاية لابن كثير.
110- مختصر تهذيب الكمال.
111- الرحمة الغيثيّة عن التّرجمة اللّيثية.
112- مزيد النّفع بما رجح فيه الوقف على الرفع.
113- المسلسل بالأوليّة بطرق علية.
114- المسند المعتلي بأطراف الحنبلي.
115- المشتبه.
116- المطالب العالية من رواية المسانيد الثّمانية.
117- المطالب العالية في زوائد الثّمانية.

(1/110)


118- المقترب في بيان المضطرب.
119- المقصد الأحمد فيمن كنيته أبو الفضل واسمه أحمد.
120- الممتع في منسك المتمتع.
121- المنحة فيما علق به الشّافعي القول على الصحة.
122- منسك الحج.
123- النبأ الأنبه في بناء الكعبة.
124- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر.
125- نزهة الألباب في الأنساب.
126- نزهة القلوب في معرفة المبدل عن المقلوب.
127- نزهة النّظر بتوضيح نخبة الفكر.
128- النكت الحديثية على كتاب ابن الصّلاح.
129- نهاية التقريب وتكميل التّهذيب بالتذهيب.
130- النيرات السّبعة، ديوان ابن حجر.
131- هداية الرّواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة.
132- هدي السّاري لمقدمة فتح الباري.

مرضه ووفاته
بدأ المرض بحافظ الدنيا ابن حجر طيب اللَّه مثواه في ذي الحجة سنة 852 هـ، وفي الحادي عشر منه حضر مجلس الإملاء كما أملى في يوم الثلاثاء الخامس عشر من الشهر المذكور مجلسا وهو متوعّك، ثم تغير مزاجه وأصبح ضعيف الحركة.
وخشي الأطباء أن يناولوه مسهلا لأجل سنه فأشير «بلبن الحليب» ، فتناوله فلانت الطبيعة قليلا وأدى ذلك إلى نشاط ... وصار مسرورا بذلك، ولكنه لم يشف من مرضه تماما ... ثم عاد إلى الكتمان وتزايد الألم بالمعدة وكان يقول هذا بقايا الغبن من سنة تسع وأربعين وتوابعها، ولم يستطع أن يؤدي صلاة عيد الأضحى الّذي صادف يوم الثّلاثاء، وهو الّذي لم يترك صلاة جمعة ولا جماعة، وصلى الجمعة التي تلي العيد، ثم توجه إلى زوجته الحلبية، وكأنه أحس بدنوّ أجله، فاعتذر عن انقطاعه عنها واسترضاها وكان ينشد:
ثاء الثّلاثين قد أوهت قوى بدني ... فكيف حالي وثاء الثّمانينا
[البسيط] وتردّد إليه الأطباء، وهرع النّاس من الأمراء والقضاة والمباشرين. لعيادته، وقبل

(1/111)


منتصف شهر ذي الحجة من سنة 852 هـ أشيع أن شيخ الإسلام قد توعك فأنشأ يقول:
(من المجتث)
أشكو إلى اللَّه ما بي ... وما حوته ضلوعي
قد طال السّقم جسمي ... بنزلة وطلوعي.
وكان مرضه قد دام أكثر من شهر، حيث أصيب بإسهال ورمي دم (ديسانتري) ، غير أن السّخاوي يقول: «ولا استبعد أنه أكرم بالشهادة فقد كان طاعون قد ظهر» .
ثم أسلم الروح إلى بارئها في أواخر شهر ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
واختلف مترجموه في تحديد تاريخ يوم وفاته، كما اختلفوا في تحديد يوم ولادته، على أنهم يتفقون جميعا تقريبا على أنها- وفاته- كانت في ليلة السّبت من ذي الحجة، والاختلاف ينحصر في تحديدهم لأي سبت منه، وهذا يرجع إلى أن الأرقام عرضة للتحريف أكثر من غيرها فجعلها بعضهم في الثامن والعشرين من ذي الحجة، وجعلها آخرون في التاسع عشر منه، على حين ذكرها فريق ثالث في ثامن عشر من ذي الحجة سنة 852 هـ.
وترك وصيته التي نقل السّخاوي نصها، مستقاة من سبطه يوسف بن شاهين، ومما ورد فيها أنه أوصى لطلبة الحديث النبوي والمواظبين على حضور مجالس الإملاء بجزء من تركته.
وفي أواخر أيامه عاده قاضي القضاة سعد الدين بن الديري الحنفي فسأله عن حاله، فأنشده أربعة أبيات من قصيدة لأبي القاسم الزّمخشريّ هي:
(من الكامل)
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عصري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ولت ... بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
وصلي عليه بمصلاة بكتمر المؤمن، حيث أمر السّلطان جقمق بأن يحضر إلى هناك ليصلي عليه، وتقدم في الصلاة عليه الخليفة بإذن من السلطان.
وحضر الشيوخ وأرباب الدولة وجمع غفير من الناس، وازدحموا في الصلاة عليه حتى حزر أحد الأذكياء من مشى في جنازته بأنهم نحو الخمسين ألف إنسان.

(1/112)


ومن شدة حب الناس، وإكرامهم له تصور البعض أن الخضر صلى عليه كما ذكر ذلك صاحب مفتاح السعادة، فقال: ومن جملة من صلّى عليه «الخضر عليه السلام رآه عصابة من الأولياء» .
وكان يوم موته عظيما على المسلمين وحتى على أهل الذمة، وشيعته القاهرة إلى مدفنه في القرافة الصغرى، وتزاحم الأمراء والأكابر على حمل نعشه، ومشى إلى تربته من لم يمش نصف مسافتها قطّ، فدفن تجاه تربة الديلميّ بتربة بني الخروبي بين مقام الشّافعي ومقام سيدي مسلم السّلمي، وكانت وصيته خلاف ذلك، وقد سنحت لي الفرصة بزيارة قبر الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه، فتبين لي أنه يقع في مسافة تقدر بحوالي 1500 م من مقام الإمام الشافعيّ.
وقيل: إن السماء أمطرت على نعشه مطرا خفيفا فعد ذلك من النوادر.

ذكر من رثاه:
وما أحقه بقول ابن دريد في قصيدة طويلة:
البسيط:
إنّ المنيّة لم تتلف بها رجلا ... بل أبلغت علما للدّين منصوبا
كان الزّمان به تصفو مشاربه ... والآن أصبح بالتّكدير مقطوبا
كلّا وأيّامه الغرّ الّتي جعلت ... للعلم نورا وللتّقوى محاريبا
وبقول غيره:
الكامل:
ذهب العليم بعيب كلّ محدّث ... وبكلّ مختلف من الإسناد
وبكلّ وهم في الحديث ومشكل ... يعنى به علماء كلّ بلاد
وبقول غيره.
الوافر:
بكيت على فراقك كلّ يوم ... وأمليت الحوار من الجفون
ولو كان البكاء بقدر شوقي ... لملّته العيون من العيون
وبقول غيره:
البسيط:
رزء ألمّ فقلب الدّهر في وهج ... وأغفل النّاس منسوب إلى الهوج

(1/113)


وللقلوب وجيب في مراكزها ... مهول فهو بتشقيق الصّدور حجي
وللعيون انهمال كالغمام بكا ... فكلّ فجّ به عال من اللّجج
يا واحد العصر يا من لا نظير له ... إذ كلّ شخص من الأمثال في لجج
يا شيخ الإسلام يا مولى لقد خضعت ... غلب الرّجال لما تبدي من الحجج
يا برّ حلم بحور العلم قد تركت ... لمّا سمعنا بداع، مقبل سمج
أصمّ أسماعنا لمّا تلا سحرا ... قد مات من تهزم الأهوال حين نجي
قاضي القضاة المفدّى من بني حجر ... من خلقه ليس في شيء من الحرج
فلو رضي الدّهر منّا فدية عظمت ... إذا وحقّك جدنا فيك بالمهج
ولو حميت بضرب السّيف ما وجدت ... لها المنايا إليك الدّهر من ولج
في حقّ عهدك ما زلنا ذوي شغف ... بعهد ودّ لكم بالرّوح ممتزج
حفّت سجاياك والألباب قد رجحت ... بها نهاك من الإحصاء بالثّبج
ألفت يا حلو، مرّ الصّبر ترشفه ... فأنت للصّبر صبّ بالغرام شجي
من للقيام بجنح اللّيل مجتهدا ... تبيت ترفعه آيات ذي الدّرج
تعلي النّحيب خضوعا والأسى قلقا ... كأنّه في الدّياجي بالحراب وجي
قد كان مصرك ليلا كالنّهار به ... شهاب فضلك يغنيه عن السّرج
واليوم بعدك مثل اللّيل في سدف ... يا لهف قلبي فما صبح بمنبلج
لكأنّ فقدك فقد النّاس كلّهم ... وفقد غيرك قد يلفى من الفرج
من للأحاديث يحييها ويحفظها ... فوقته ليس حمّال إليه يجي
قد كنت للسّنّة الغرّا شهاب علا ... حميت آفاقها عن مارد علج
من كان في علمه في الشّكّ مرتبكا ... فأنت في علمك الأشيا على ثلج
وأنت أذكى الورى قلبا ورائحة ... كأنّما كنت مسكا طيّب الأرج
لهفي عليك شهاب الدّين من رجل ... لمّا ترحّلت صار النّاس في مرج
قد كنت حافظهم في كلّ معضلة ... فبعدك اليوم لا تسأل عن الهمج
كانوا إذا أوهموا معنى وأخر سهم ... فتحت كلّ عم منهم ومرتتج [ (1) ]
لمّا ركبت على الحدباء ما أحد ... إلّا انحنى منه ظهر غير ذي عوج
روحي فداء لبال قد ظفرت بها ... لديك يا حبر بالآمال بالحجج
أروق سمعي بدرّ النّطق منك وما ... طرفي بممتنع من وحيك البهج
__________
[ (1) ] مرتتج: المرتتج: الّذي استغلق عليه الكلام.

(1/114)


كأنّه لم يكن يوما فيا أسفا ... ما كنت من بعد ما مرّت بمبتهج
كلّا لعمري وإنّي فالق كبدي ... حزني عليك وقلبي جدّ ملتعج
ولا أحبّ ديارا قد قبضت بها ... فنحوها بعد بعد منك لم أعج
نعم وأبغضت واللَّه الحياة بلا ... وجود أنسك فاعلم ذاك وابتهج
لهفي على مجلس الإملا وحاضره ... من كلّ حبر لسبل الخير منتهج
كم فيه من راس راس هزّ من عجب ... والجمع من شدّة الإصغاء لم يمج
كأنّنا لم نكن يوما لديك ولا ... بقولك العذب منّا قطّ سرّ نجي
فيا دوام افتكاري للسّرور بكم ... ويا بكائي طوال الدّهر والأبج [ (1) ]
لأملأنّ بسيط الأرض من أدب ... ركّبت فيك معانيه من البرج
جمعت قلبا بحبّ فيك ممتلئا ... إلى لسان بأنواع الرّثا لهج [ (2) ]
عليك منّي تحيّات أردّدها ... ما هيّج الورق قلبا فيك ذا وهج
وجاد مهدك في صوب الرّضا مزن ... يا بحر يحيي بقاع الأرض بالثّبج
ومنهم العلامة الشّهاب أبو الطّيّب أحمد بن محمد الحجازي فأنشدني لفظه لنفسه قوله:
الكامل:
كلّ البريّة للمنيّة صابره ... وقفولها شيئا فشيئا سائره
والنّفس إن رضيت بذا ربحت وإن ... لم ترض كانت عند ذلك خاسرة
وأنا الّذي راض بأحكام مضت ... عن ربّنا البرّ المهيمن صادره
لكن سئمت العيش من بعد الّذي ... قد خلّف الأفكار منّا حائرة
هو شيخ الإسلام المعظّم قدره ... من كان أوحد عصره والنّادره
قاضي القضاة العسقلانيّ الّذي ... لم ترفع الدّنيا خصيما ناظره
وشهاب دين اللَّه ذو الفضل الّذي ... أربى على عدد النّجوم مكاثره
لا تعجبوا لعلوّه فأبوه من ... قبل عليّ في الدّنا والآخرة
هو كيميا العلم وكم من طالب ... بالكسر جاء له فأضحى جابره
لا بدع أن عادت علوم الكيميا ... من بعد ذا الحجر المكرّم بائره
__________
[ (1) ] الأبج محركة الأبد: القاموس المحيط 1/ 100.
[ (2) ] الرّثا مقصورة ضرورة، والرثاء تعداد محاسن الميت.

(1/115)


لهفي على من أورثتني حسرة ... درس [ (1) ] الدّروس عليه إذ هي حاسره
لهفي على المدح استمالت للرّثا ... وقصور آياتي غدت متقاصره
لهفي عليه عالما، بوفاته ... درست دروس والمدارس بايره
لهفي على الإملاء عطّل بعده ... ومعاهد الأسماع إذ هي شاغرة
لهفي عليه حافظ العصر الّذي ... قد كان معدودا لكلّ مناظرة
لهفي على الفقه المهذّب والمحرر ... حاوي المقصود عند محاوره
لهفي على النّحو الّذي تسهيله ... مغني اللّبيب مساعد لمذاكره
لهفي على اللّغة الغريبة كم أرانا ... معربا بصحاحها المتظاهرة
لهفي على علم العروض تقطّعت ... أسبابه بفواصل متغايره
لهفي عليه خزانة العلم الّتي ... كانت بها كلّ الأفاضل ماهره
لهفي على شيخي الّذي سعدت به ... صحب وأوجه ناظريه ناضرة
لهفي على التّقصير منّي حيث كم ... أملا النّواحي بالنّواح مبادره
لهفي على عذري عن استيفاء ما ... تحوي وعجزي أن أعدّ مآثره
لهفي على لهفي وهل ذا مسعدي ... أو كان ينفعني شديد محاذره
لهفي على من كلّ عام للهنا ... تأتي الوفود إلى حماه مبادره [ (2) ]
والآن في ذا العام جاءوا للعزا ... فهيه وعادوا بالدّموع لهامره [ (3) ]
قد خلّف الدّنيا خرابا بعده ... لكنّما الأخرى لديه عامره
وبموته شقي الفؤاد وأعلم ... العين انثنت في حالتيها شاغرة
ولي المعاجر طابقت إذ للرّثا ... أنا ناظم وهي المدامع ناشره
فكأنّه في قبره سرّ غدا ... في الصّدر، والأفهام عنه قاصره
وكأنّه في اللّحد منه ذخيرة ... أعظم بها درر العلوم الفاخرة
وكأنّه في رمسه سيف ثوى ... في الغمد مخبوء ليوم الثّائره
وكأنّه كشف الغطاء له فإن ... قربت منيّته أفاض محاجره
وغدا بأبيات الرّثا متمثّلا ... وحبا بها بعض الصّحاب وسارره [ (4) ]
__________
[ (1) ] انقطاع الدروس.
[ (2) ] الهنا بمعنى التهنئة.
[ (3) ] والعزا بمعنى التعزية.
[ (4) ] من السرّ الّذي أسر به إليه.

(1/116)


ونعى بها من قبل ذلك نفسه ... أكرم بها يا صاح نفسا طاهره
ولصاحب الكشّاف يعزى نظمها ... والعدّ منها أربع متفاخره
وأنا الّذي ضمّنتها مرثيّتي ... جهرا وأوّلها بغير مناكره
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ... ولّت بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
هذا لعمري آخر الأبيات إذ ... هي أربع كملت تراها باهره
وأنا أعود إلى رثائي عودة ... تجلو لسامعها بغير منافره
قهرتني الأيّام فيه فليتني ... في مصر متّ وما رأيت القاهره
هجرتني الأحلام بعدك سيّدي ... واحرّ قلب قد رمي بالقاهرة
من شاء بعدك فليمت أنت الّذي ... كانت عليك النّفس قدما حاذره
وسهرت مذ صرخ النّعيّ بزجرة ... فإذا هم من مقلتي بالسّاهرة
ورزئت فيه فليت أنّي لم أكن ... أوليت أنّي قد سكنت مقابره
رزء، جميع النّاس فيه واحد ... طوبى لنفس عند ذلك صابره
يا نوم، عيني لا تلمّ بمقلتي ... فالنّوم لا يأوي لعين ساهره
يا دمع، واسقي تربه ولو أنّها ... بعلومه جرت البحار الزاخرة
يا حبر فارحل ليس قلبي فارغا ... سكنته أحزان غدت متكاثره
يا نار شوقي بالفراق تأجّجي ... يا أدمعي بالمزن كوني ساجره [ (1) ]
يا قبر، طب قد صرت بيت العلم أو ... عينا به إنسان قطب الدائرة
يا موت، إنّك قد نزلت بذي النّدى ... ومذ استضفت حباك نفسا خاطره
يا ربّ فارحمه وسقّ ضريحه ... بسحائب من فيض فضلك غامره
يا نفس صبرا فالتّأسّي كائن ... بوفاة أعظم شافع في الآخرة
المصطفى زين النّبيّين الّذي ... حاز العلا والمعجزات الباهره
صلّى عليه اللَّه ما صال الرّدى ... فينا وجرّد للبريّة باتره
وعلى عشيرته الكرام وآله ... وعلى صحابته النّجوم الزّاهره
ومنهم الشّهاب أحمد بن محمد بن علي المنصوري صاحب القصيدة الماضية
__________
[ (1) ] وإذا البحار سجّرت (فهي بالجيم وليست بالخاء) .

(1/117)


ذكرها في المدائح، فقال يوم وفاة صاحب الترجمة:
الرّجز
قد بكت السّحب على ... قاضي القضاة بالمطر
وانهدم الرّكن الّذي ... كان مشيدا من حجر
ومنهم الفاضل أبو هريرة عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن عثمان بن النقاش الأصم البسيط:
قفا نبك بالقاموس الغامض الزّجر ... والمرسلات بماء الغيث والمطر
مذكّرا لك بالأذكار ذا أسف ... على المعاهد والرّوضات والأثر
على ديار إذا صحّ الحديث ولي ... في الحسن معتقد والضعف للغير
على رباع خلا درس الحديث بها ... والرّبع عاف ومحتاج إلى الحجر
وقل لذي عذل في عبرة سمحت ... دعها سماويّة تجري على قدر
وقل لعيني الّتي بالدّمع قد نزحت ... يا عين، جودي ولا تبقي ولا تذري
وابكي بموج وما المقياس يحصره ... قاضي القضاة أمير المؤمنين في الأثر
قاضي القضاة أمير المؤمنين سمي ... بأحمد بين علي ذي الرّحلة الحجر
أكرم بها مدحة ما حازها أحد ... في عصرنا غير نزر قلّ في العصر
وع الكتابة واحفظها وسق سندا ... وخلّ عنك سواد الطّرس بالحبر
يا موت، ذكّرتني موت النّبيّ به ... الهاشمي المصطفى المبعوث من مضر
ذكّرتني العمرين [ (1) ] الصّاحبين أبا ... بكر الصّدّيق مع الفاروق [ (1) ] من عمر
يا خنس ها أدمعي مع دمعك ائتلفا ... ثمّ اختلفتا بكا في الصّخر والحجر
يا خنس، لو نظرت عيناك لمّته ... وما حوت من فخار العلم والخفر
يا خنس، لو سمعت أذناك منطقه ... من ثغر مبسمه المنظوم بالدّرر
يا خنس، إنّي عن عين له نظرت ... ليس العيان [ (2) ] كما قد قيل كالخبر
يا خنس، قد قلت في صخر مراثيه ... فحوّل الحزن بالإسناد للحجر
مصيبة عمّت الدّنيا بأجمعها ... رمي بها زحل بالقوس والوتر
بالبحر والنّهر والبحرين إذ جمعا ... أبكيه من عبرة تجري بلا ضجر
__________
[ (1) ] يقال العمرين يعني أبا بكر وعمر.
[ (2) ] العيان (بفتح العين) .

(1/118)


إن ذكّرتني بوقت صخرها غسقا ... أو نكّرتني بوقت الصّيف في السّحر
فكلّ أوقاتي الغرّا مسبّلة ... جاها وعلما وما يزرى من البدر
شبّهته جالسا في الدّرس في فئة ... هم النّجوم ووجه الشيخ بالقمر
وهم طباق وهم يهدى السّبيل بهم ... من حوله أنجم كالأنجم الزّهر
هم الرّجال ولكن شيخهم رجل ... رجاله سند في مسند الخبر
ساد الرّجال وكم قد ساد من رجل ... يسوقه بعد تحويل من السّطر
يملي الحديث ببيبرس حوى سندا ... عال إلى سيّد الكونين والبشر
تاللَّه لو سمعت حذّاق شرعتنا ... سوق الأسانيد في إملائه الجهر
ولو رأوا يده في فرع روضته ... أو فسّرت آية في محكم السّور
أو ما يوصّله في الدّين معتقدا ... أو رتّبت سندا من نخبة الفكر
أو أظهرت حكمة للشّافعيّ خفت ... يستخرج الكلّ من خرم من الإبر
أثنوا عليه ومن أضحى يخالفه ... بمنزل دحص كقشعم الحجر
أبكي عليه وقد شالوا جنازته ... ونقّطت مزنة من نسمة السّحر
أنقى من الثّلج إشراقا وريحتها ... أذكى من المسك والنّدا الذكي العطر
وبشّرت برضا الرّحمن خالقه ... والحور قد زيّنت بالحلي في السّرر
وعدته قائلا للقلب منه عسى ... وهل يفيد عسى مع سابق القدر
يا قلب، قد كنت تخشى الموت ذا حذر ... وليس ذو حذر ينجو من القدر
وأنت للعالم النّقّاش منتسب ... وكم معان خفت تأتيك في الصّور
خفت المنون وما قد كنت تحسبه ... قد جاء منتقشا كالنّقش في الحجر
إن غاب شخصك يا مولاي عن نظري ... وغيّبوا وجهك المحبوب في القبر
في أساريرك الحسناء مشرقة ... سبط من الحسنيين الخلق والبشر
يا من مراحمه للخلق واسعة ... عمّت نجيّا ومن في دينه الخطر
اجعل على متن هذا القبر سابغة ... من لؤلؤ رطب عذب ذكي عطر
والسّامعين ومن يعزى لمذهبهم ... تحدو على سنّة الهادي النّبي المضري
وقل لمن سمع الأبيات يسترها ... فاللَّه يستره في الورد والصّدر
قدّمتها سلعة مزجا وناظمها ... يعدّها خجلا من أعظم الكبر
وأذن بسحب صلاة منك ثمّ رضا ... على نبيّ الهدى والبشر والبشر
وآله وجميع الصّحب قاطبة ... بهم هدي أمم في البدو والحضر
ما غرّدت ورقه في الأيك آصرة ... بزورة المصطفى والبيت والحجر

(1/119)


موت الإمام شهاب الدّين قد جزعت ... له العلوم وما يروى من الأثر
وقال ربع علوم الشّرع مكتئبا ... به درست فما تلقون من أثر
[الكامل] :
إنّ الحياة ذميمة من بعد ما ... قبض الإمام العسقلانيّ الشّافعي
يا نفس، طيبي بالممات وحافظي ... أن تلحقي هذا الإمام وتابعي
[المجتث] :
بكت سماء وأرض ... عليك يا عسقلاني
لكنّنا نتسلّى ... إذ ما سوى اللَّه فاني
[الكامل] :
الجفن قد حاكى السّحاب وناظره ... فأعذر إذا فقد المتيّم ناظره
لو أنّ عاذله رأى ما قد رأى ... لغدا له بعد الملامة عاذره
يا عاذلي، دعني فلي حزن على ... طول المدى لم يلق يوما آخره
ذاب الفؤاد وقد تقطّع حسرة ... أسفا على قاضي القضاة النّادره
أعني شهاب الدّين ذا الفضل الّذي ... عن وصفه أفهام مثلي قاصره
العسقلانيّ [ (1) ] الّذي كانت إلى ... أبوابه تأتي الوفود مهاجره
يا عين، إنّي ناظم مرثيّة ... فيه فكوني للمدامع ناثره
للَّه أيّاما به ولياليا ... سلفت وكانت بالتّواصل زاهره
تاللَّه، لم يأت الزّمان بمثله ... أبدا ولم ير مثله من عاصره
شهدت له كلّ العقول بأنّه ... ما مثله هو درّة هي فاخره
دانت لفطنته العلوم فلم تزل ... أبدا إليه كلّ وقت سائره
يا أيّها الشعراء، هذا سوقكم ... كانت له تأتي التّجار مبادره
واليوم أغلق بابه فلأجل ذا ... أضحت تجارتكم لديكم بائره
كم من حديث قد رواه مسلسلا ... ومدبّجا وله معان ظاهره
وكذا غريبا مسندا ومصحّحا ... جملا وأخبارا غدت متواتره
إنّي لأعجز أن أعدّ فضائلا ... فيه وأعجز أن أعدّ مأثره
كم طالب أقلامه من بعده ... جفّت ولم تمسك يداه محابره
__________
[ (1) ] الرفع أولى ويكون خبر المبتدإ محذوف تقديره هو.

(1/120)


أسفا عليه نقول يا نفس اصبري ... فتقول: ما أنا عند هذا صابره
درست دروس العلم بعد وفاته ... ومعاهد الإملاء أضحت دائره
أسفي على قاضي القضاة مؤبّد ... زفرات قلبي كلّ وقت ثابره
أسفي على شيخ العلوم ومن غدت ... أفكار كلّ الخلق فيه حائرة
أسفي على من كان بين صحابه ... كالبدر في وسط النّجوم الزّاهره
ولقد نعى قبل المنية نفسه ... إذ كلّ نفس للمنيّة صائره
لا رأى أجل الحياة قد انقضى ... أضحى يشير إلى الصّحاب مبادره
ويقول أبياتا وليست نظمه ... لكن بلفظ منه أضحت فاخره
وزمخشريّ ناظم أبياتها ... هي أربع معدودة متواترة
كلّ الورى من بعده اشتغلوا بها ... فاسمع فأوّلها أقول مذاكرة
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ... ولّت بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أرحم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
ها آخر الأبيات قد أوردتها ... فيما نظمت تبرّكا ومكاثره
وأعود أذكر بعد ذلك حالتي ... وأبثّ أحزانا بقلبي حاضره
وأقول: مات أبو المكارم والنّدى ... ملقي الدّروس وذو العلوم الباهره
ما كان أحسن لفظه وحديثه ... ما كان قطّ يملّه من عاشره
ولو انّه يفدى لكنت له الفدى ... وأودّ لو أنّي سددت مقاصره
لهب بقلبي بعده لا ينطفي ... ودموع عيني لم تزل متقاطره
فاللَّه يسقي قبره ماء الحيا ... أبدا ويورده سحابا ماطره
ثمّ الصّلاة على النّبيّ وصحبه ... وعلى جميع التّابعين أوامره
يا درّة فقدت وكانت فاخره ... في بدء خير حوّلت للآخرة
من كلّ علم حاز أكبره فره ... عزّ الفخار تصل بحارا زاخره
شطن الرّجا كانت لطالب برّه ... من بعد أشجان بفضل ماخره
تعنو الرّؤوس إلى وجوه بديعه ... وإذا عصته أتت إليه ذاخره
وهو المكرّم والكريم بناته ... مع علمه لو أمّ كعبا فاخره
ليلى بعاذرها فشاغل قلبها ... ولمن سواه بذي الدّعاوي شاجره
تجري عليه مودّعا روحي ولن ... تشغل ولو صارت عظاما ناخره

(1/121)


قد كان أوّل شاغل قلبي هوى ... وبهونه فالصّبر عدّى آخره
[الطويل] :
شهاب المعالي بينما هو طالع ... فعاجلنا فيه القضا والقوارع
إلى اللَّه إنّا راجعون وحسبنا ... ونعم الوكيل اللَّه فيما نواقع
فقد أورث الآفاق حزنا وذلّة ... وأظلمت الأكوان ثمّ المطالع
وأطلق دمع العين تجري سحائبا ... وأجرى عيون السّحب فهي هوامع
وصيّر طرفي لا يملّ من البكا ... وأحرق قلبا بالجوانح هالع
وفرّق جمع الشّمل من بعد إلفه ... وألّف درّ الدمع في الخدّ لامع
فوجدي وصبري في الرّثاء بيانيا ... فوجدي موجود وصبري ضائع
فصبرا لما قد كان في سابق القضا ... فليس لمقدور المنيّة دافع
وطلّقت نومي والتّلذّذ والهنا ... وألزمت نفسي أنّني لا أراجع
وصاحب سهدي والتّأسّف والأسى ... فواصلتها لمّا جفتني المضاجع
وإنّي غريب لو أقمت بمنزلي ... وإنّي وحيد لا معين أراجع
فلهفي على شيخ الحديث وعصره ... فمجلسه للعلم والفضل جامع
فلهفي على تلك المجالس بعده ... لفقد أولي التّحقيق قفر بلاقع
فلهفي على جدّي وشيخي وقدوتي ... وشيخ شيوخ العصر إذ لا منازع
فأوقاته مقسومة في عبادة ... وفضل لمحتاج ببرّ يتابع
فقد كان ظنّي أن تكون معاوني ... على كلّ خير مثل ما قيل مانع
فعند إلهي قد جعلت وديعتي ... كريم لديه لا يخيب الودائع
فرحب الفضا قد ضاق من بعد بعده ... عليّ وفيه بحر فكري واسع
فيا موت، زر إنّ الحياة ذميمة ... فمن بعد هذا الحبر إني راجع
إمام الهدى والعلم والحلم والتّقى ... وحافظ هذا الوقت للحقّ خاضع
ففي النّظم حسّان وفي الجود حاتم ... وفي العلم ليث وهو في الثّبت نافع
عفيف السّجايا باسط اليد بالنّدا ... جزيل العطايا ناسك متواضع
بزهد له قد كان يحكي ابن آدم ... له ورع بالصّبر للنّفس قانع
فأيّامه صوم وفي اللّيل هاجد ... مقيل خشوع ساجد الرّأس راكع
فمنهاجه حاو لتنبيه غافل ... وبهجته زانت كما الرّوض نافع
وفتح لباريه حواه فوائدا ... يزيل التباسا فهو للشّكل رافع

(1/122)


وتقريبه الأسما لتهذيب طالب ... وفي الجرح والتّعديل كالسّيف ساطع
فإن رمت إتقان الحديث فجمعه ... فعن حافظ الإسلام تروى الشّرائع
[الطويل] :
كأن لم يمت من سواه ولم تقم ... على أحد إلّا عليه النّوائح
[البسيط] :
إنّي معزّيك لا أنّي على طمع ... من الخلود ولكن سنّة الدّين
فما المعزّي بباق بعد صاحبه ... ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
[الطويل] :
تعزّ بحسن الصّبر عند كلّ فائت ... ففي الصّبر مسلاة الهموم واللّوازم
وليس يذود النّفس عن شهواتها ... لعمرك إلّا كلّ ماضي العزائم
[الوافر] :
لعمرك ما الرّزيّة هدم دار ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكنّ الرّزيّة موت شخص ... يموت بموته علم كبير

منهج الحافظ ابن حجر في «الإصابة» [ (1) ]
يرى ابن حجر أن علم الحديث النبوي من أشرف العلوم الدينية، ومن أجلّ معارفه تمييز أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقد صنّف في علم معرفة الصحابة عدد كبير من العلماء، ولقد وقف ابن حجر على مصنفاتهم وانتقدها، ثم وجد في وسعه أن يطوّر التّصنيف في هذا الفرع من فروع المعرفة إلى مستوى أعلى، وقد وقعت له بالتتبع، كثير من الأسماء التي لم تكن في المصنفات السابقة على الرغم من أنها تقع في نطاق هذه المصنفات، وبذلك تسنّى له أن يصنّف كتابا كبيرا أكثر استيعابا من غيره لتمييز الصحابة من غيرهم.
ولقد بدأ تأليفه في سنة 809 هـ، واستمر العمل فيه إلى ثالث ذي الحجة سنة 847 هـ حيث انتهى من كتابته مع ما فيه من الهوامش، فاستغرق تأليفه ما يقرب من أربعين عاما.
وأوضح ابن حجر أنّ الكتابة فيه كانت بالتراخي، وكتبه في المسودات ثلاث مرات، بسبب ما كان يدور في ذهنه من النهوض بهذا اللون من التصنيف، وبسبب الترتيب الّذي
__________
[ (1) ] استفدنا هذا المبحث من الدكتور شاكر محمود عبد المنعم في كتابه ابن حجر العسقلاني ودراسة مصنفاته ومنهجه وموارده في كتاب الإصابة.

(1/123)


ابتكره. وحتى في المرّة الثالثة خرجت النسخة وكأنها مسودة أيضا لكثرة الهوامش والإلحاقات التي كان يضيفها تباعا، وعبر أربعين عاما تقريبا. فعمد دون كلل إلى إلحاق أسماء أخرى وإجراء التصحيح أو التنقيح، وهذا هو نهج العالم الأصيل الّذي يدرك بأن الكمال للَّه وحده، وأن الإنسان وما يعمل بعيد عن الكمال.
ولقد تجلّى ورعه في دينه بوضوح في نزعته العلمية الموضوعية، فكان مثال العالم الورع الّذي لا يبتسر الحديث عن شيء ولا يدعي، والقيد الضابط لذلك هو كونه واحدا من تلاميذ مدرسة الإسلام الخالدة.
ويحكي ابن حجر قصة تأليف الإصابة على مدى أربعين عاما بقوله: «وقد قيدت بالحمرة أولا، ثمّ بالصفرة ثم بصورة ما يخالطهما وكل ذلك قبل كتابة فصل المبهم من الرجال والنساء ونتساءل هل كمل الإصابة؟
على الرغم من المدة الزمنية الطويلة التي استغرقها تأليف كتاب الإصابة، ورغم عناية مصنفه به، ومتابعته له، فإنّه لم يكمل بشكله النهائي، لأنه خصّص بابا للمبهمات وقد قيد منها كثيرا. فلقد ورد في نهاية نسخة دار الكتب المصرية ذات الرقم 228 طلعت قول الناسخ « ... وقد بقي عليه المبهمات، وقيّد منها كثيرا، ولكن لم أظفر به إن شاء اللَّه تعالى» .
وجاء في آخر نسخة دار الكتب المصرية ذات الرقم (229 طلعت) أن آخر كتاب النساء من الإصابة هو آخر ما وجد بخط مصنّف الكتاب.
وقال السخاوي وهو يعدد المصنفين في الصحابة « ... وكتاب شيخنا المسمى بالإصابة. جامع لما تفرق منها مع تحقيق، ولكنّه لم يكمل.
ويبدو أن كثرة السؤال في تبييضه هي التي دفعت ابن حجر إلى نشره قبل أن يكمل باب المبهمات.
وهناك إحالات في الإصابة على المبهمات كقوله مثلا «يأتي في المبهمات ويأتي في الكنى» ، أو كقوله: «وسيأتي ذكر قصتها في المبهمات إن شاء اللَّه» كما وردت ترجمة أبي بجيلة وآخرين في القسم الرابع، وقال تقدموا في الأول وحقهم أن يذكروا في المبهمات، ولكن لا نجد باب المبهمات في المطبوع من الإصابة الّذي طبع أكثر من ست طبعات كما لم يشر أحد من الناشرين أو المحققين إليه، وقد سبقت الإشارة إلى أنه كتب منه كثيرا ولم يظفر به الناسخ.

(1/124)


وفي الإصابة بعض المواضع البيضاء التي قد يكون تعليلها أنّها من جملة الأشياء التي لم يدونها المؤلف، لأنها تتطلب المزيد من التحقيق.
ففي أثناء بعض تراجمه ذكر سهيل بن أبي جندل ثم قال: «ينظر مسند الحارث بن معاوية ويحرر من النسب وغيره» .
وقال في موضع آخر عند ترجمة أم سعيد والدة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال:
«يكتب من..... باب الكافور في كتاب الجنائز للبيهقي في السنن الكبير» وجاء في نهاية الترجمة فقال: «وروى ابن سعد ... » ولم يذكر الرواية. وجاء في نهاية ترجمة ما نصه «ينبغي أن يحوّل إلى القسم الرابع» .

ترتيب الإصابة على أربعة أقسام
ألحّ الكثيرون على ابن حجر في نشر كتابه «الإصابة» ، فاستخار اللَّه في ذلك ورتّبه على أربعة أقسام في كل حرف، وهذا يعني أنه قسّم التراجم المبدوءة في حرف الألف مثلا إلى أربعة أقسام، وكذلك الباء والتاء وهلمّ جرا حتّى آخر الحروف.

1- القسم الأوّل:
يقسم القسم الأول بأنه خاص بتراجم الذين وردت صحبتهم بطريق الرواية عنهم أو عن غيرهم، ومهما كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة، وشملت تراجم هذا القسم أولئك الذين وقع ذكرهم بما يدل على الصحبة بأي طريق كان.
وكان قد رتّب هذا القسم بادئ ذي بدء على ثلاثة أقسام، ثمّ بدا له أن يجعله قسما واحدا، على أنّه ميّز في كل ترجمة ما إذا كانت الطريق التي وردت بها صحبة الصحابي صحيحة أو حسنة أو ضعيفة، ولذلك فالقراءة في كتاب الإصابة تستوجب يقظة وتركيزا وإمعانا والقارئ مطالب بذلك إن شاء الوصول إلى الدقة والصواب.

2- القسم الثّاني:
وخصّص القسم الثاني لتراجم من ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لبعض الصحابة من النساء والرجال وقد مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهم دون سن التمييز وبين أن ذكر هؤلاء الصحابة إنما هو على سبيل الإلحاق لغلبة الظنّ على أنه- صلّى اللَّه عليه وسلم رآهم، وهذه الفكرة إنما تستند إلى أنّ الصحابة- رضي اللَّه عنهم- كانوا حريصين على إحضار أولادهم عنده عند ولادتهم ليحنكهم ويسميهم تبركا به، والأخبار بذلك شهيرة، واستند ابن حجر في

(1/125)


تثبيت هذه الفكرة على أحاديث صحيحة وردت في صحيح مسلم وفي مستدرك الحاكم، وكتاب الصحابة لابن شاهين.
وأعطى المبرر الّذي دعاه إلى إفرادهم عن أهل القسم الأول بقوله: «لكن أحاديث هؤلاء عنه- أي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث.

3، القسم الثّالث:
والقسم الثالث خاصّ بتراجم أولئك الذين ذكروا في الكتب من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا. وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق أهل العلم بالحديث على الرغم من أن بعضهم قد ذكر في كتب معرفة الصحابة، لكن مصنفيها أفصحوا بأنهم لم يذكروهم إلّا بمقاربتهم لتلك الطبقة، ولم يجزموا بأنهم من أهلها. ومن هؤلاء المصنّفين أبي حفص بن شاهين (ت 385 هـ) وأبي عمر بن عبد البر (ت 463 هـ) .
وأحاديث هؤلاء عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرسلة بالاتفاق بين أهل العلم بالحديث.

4- القسم الرّابع:
وهو خاص بتراجم أولئك الذين ذكروا في الكتب على سبيل الوهم والغلط وبيان ذلك بالأدلة وبأسلوب أهل الحديث وطرائقهم.
ولم يذكر فيه إلّا ما كان الوهم فيه بيّنا، وأمّا مع وجود احتمال عدم الوهم فلم يلجأ إلى ذكره، إلّا إذا كان ذلك الاحتمال يغلب على ظنّه بطلانه قال ابن حجر: «وهذا القسم الرابع لا أعلم من سبقني إليه، ولا من حام طائر فكره عليه، وهو الضالة المطلوبة في هذا الباب الزاهر، وزبدة ما يمخضه من هذا الفن اللبيب الماهر.
والحق أنّ ابن حجر لم يسبق في إفراد تراجم الذين ذكروا على سبيل الوهم، إلّا أن الذين سبقوه أشاروا إلى بعض هؤلاء من خلال ترجمتهم في الصحابة، لكنه لم يسبق أيضا في بيان سبب الوهم أو الذهول مع تحقيق فريد. ولقد حدّد تلميذه البقاعي ذلك بقوله:
«.... بما لم يسبق إلى غالبة» .
وهذا نهج جديد أدخله ابن حجر على التصنيف في علم معرفة الصحابة تمخّض عن نتائج خطيرة.

ميزات القسم الرّابع في كتاب «الإصابة»
يتمثل في هذا القسم جانب الأصالة والإبداع، كما تتجلّى فيه قابلية ابن حجر النقدية وقراءاته الواسعة.

(1/126)


وفيه صحّح أوهاما، وحلّ معضلات فكرية، قد تكون صغيرة ولكنها مهمة، تواردت على ألسنة الحفاظ، وصفحات كتب المصنفين.
أما أنواع الأخطاء التي صححها فهي كثيرة يمكن حصرها بالآتي:
1- الكشف عن التّحريف والتّصحيف في الأسماء أشار إلى التحريف أو التصحيف الّذي اعترى الأسماء، ولا يسع الباحث هنا إلّا إعطاء نماذج منها فقط في ترجمة سديد مولى أبي بكر (الترجمة/ 3740) قال: «هكذا وقع في «التجريد» وإنما هو بالمعجمة. فترجم لها ابن حجر في حرف الشين المعجمة. وأن اسمه عامر بن مالك بن صفوان، فورد عند السابقين (عن صفوان) أو أن لفظة (ابن) تصحفت واوا فصار الواحد اثنين. كما أشار إلى التصحيف السمعي، والخط السمعي معا.
2- سقوط اسم من السند، أو سقوط أداة الكنية، أو حرف جر أو زيادة اسم في النسب، وفي كل هذه الحالات تظهر أسماء تؤدي إلى الوهم.
3- توهم الرّواة صحبة الرجل، لأنه أرسل حديثا، وعدم التمييز بين المسند والمرسل.
4- تعدد الأسماء أو الكنى، وعدم التمييز بينها، فيذكر الرجل المترجم مرة بالكنية، ومرة بالاسم أو اللقب، فتتكرر ترجمة الصحابي على أنه اثنين وهو في الحقيقة واحد وكذلك المغايرة بين اسمين أو كنيتين، أو الجهل بوجود لقبين للمترجم مثل عامر بن مالك الكعبي هو القشيري.
أو أن ينسب الراويّ إلى جدّه أو اعتماد المنصفين السابقين ل «ابن حجر» على نسخ محرفة فنشأ الخطأ عن تغيير في الاسم، فيتغير «محمية» إلى «محمد» أو اسم رجل ذكروه في النساء أو خطأ نشأ عن زيادة اسم وتغيير آخر.
5- منهم من مات قبل المبعث، وذكر في الكتب على أنه صحابي مثل «سيف بن ذي يزن» .
6- الأخطاء الناجمة عن سقط وقلب، كما في ترجمة «عمرو السعدي» الّذي ذكره المصنفون السابقون،
وأوردوا من طريق إسماعيل بن عبد اللَّه بن أبي المهاجر عن عطية بن عمرو السعدي عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «لا تسأل الناس شيئا وسل اللَّه مسئول ومنطي»
وهذا هو عطية بن عمرو السّعديّ عن أبيه.
7- تشابه الأسماء أدّى إلى الوهم أحيانا.

(1/127)


8- أخطاء نشأت عند عدم تأمل أو سوء فهم أو أن حقه أن يذكر في «المبهمات» فذكر في المصنفات السابقة في الأسماء كما في حديث من طريق يزيد بن نمران قال: «رأيت بتبوك رجلا مقعدا» فأورده جعفر المستغفري في الأسماء باسم «المقعد» فرد عليه ابن حجر هذا وهم، وإنّما هي صفة، ومحله أن يذكر في «المبهمات» أو هو اسم جنس فيظن أنه اسم رجل، وليس كذلك كما في ترجمة «هديل» .
9- اختلاف الأسماء من قبل بعض الكذابين مثل معمّر، وعبد النور الجني، وأبو الحسن الراعي، ومكلبة الخوارزمي، وغيرهم.
10- وأشار ابن حجر في القسم الرابع إلى أخطاء تدل على انتباه شديد، ويلاحظ ذلك في ترجمة آبي اللحم الغفاريّ الّذي توهم الترمذي وأبو عمر بجعل «آبي اللحم» كنية، وهي ليست كنية، لكنها صارت كالكنية، وقيل: إنما قيل له ذلك، لأنه كان لا يأكل اللحم ثم قال بعد أن ذكر الذين ترجموه أو ذكروه: «وكل ذلك خطأ وجعله في حرف الهمزة على تقدير أن يكون خطأ آخر وإنما حقه أن يكون في اللام، لأن الألف والباء إن كانت أداة الكنية فالاعتبار في ترتيب الحروف بما بعدها وقد مشى على ذلك «الدولابي» و «ابن السكن» و «ابن مندة» فذكروه في حرف اللام من الكنى، وأنكر ذلك أبو نعيم على ابن مندة فأصاب.
وهكذا جاء القسم الرابع من كل حرف في كتاب «الإصابة» نهجا جديدا فأوضح اللبس وأزال الغموض الّذي رافق الكثيرين من المصنفين، وارتفع بمستوى الكتابة في علم معرفة الصحابة إلى درجة عالية، ويمكن اعتباره مرحلة أعلى متطورة في هذا اللون من التصنيف.
وقال الأستاذ الدكتور شاكر محمود عبد المنعم:
وفي هذه المرحلة من البحث يبرز السؤال الآتي: إلى أي مدى استوعب كتاب «الإصابة» تراجم الصحابة؟
لقد ذكر ابن حجر في مقدمته الوجيزة ل «الإصابة» عددا من المصنفين في هذا الباب، وانتقد قسما منهم، فذكر ابن عبد البر وكتابه الّذي سماه «الاستيعاب» لظنه أنه استوعب ما في كتب السابقين، ومع ذلك ففاته شيء كثير، وذكر الذيول عليه، ثم ذكر كتاب «أسد الغابة» ل «ابن الأثير» وانتقده إلى أن قال: «ثم جرد الأسماء التي في كتابه مع زيادات عليها الحافظ أبو عبد اللَّه الذهبيّ، وعلم لمن ذكر غلطا، ولمن لا تصح صحبته، ولم يستوعب ذلك ولا قارب» .
وقد وقع ل «ابن حجر» كثير من الأسماء ليست في كتاب «الذهبي» ولا أصله، فجمع كتابا كبيرا في ذلك ميز فيه الصحابة من غيرهم وكما مر آنفا إلا أنه قال: «ومع ذلك فلم يحصل

(1/128)


لنا من ذلك جميعا الوقوف على العشر من أسماء الصحابة بالنسبة إلى ما جاء عن أبي زرعة الرازيّ قال: توفّي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعا أو رؤية» .
علما بأن أبا زرعة أجاب بذلك عن سؤال من سأله عن الرواة خاصة فكيف بغيرهم؟
ومع هذا فجميع من في «الاستيعاب» يعني ممن ذكر فيه باسم أو كنية أو وهما ثلاثة آلاف وخمسمائة واستدرك عليه ابن فتحون على شرطه قريبا من هذا العدد.
وقرأ ابن حجر بخط «الذهبي» من ظهر كتابه «التجريد» لعل الجميع ثمانية آلاف إن لم يزيدوا لم ينقصوا، ثم رأى بخطه أن جميع من في «أسد الغابة» سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسون نفسا.
على أن قول أبي زرعة وجد له تأييدا في رواية عن كعب بن مالك في قصة «تبوك» الواردة في الصحيحين وهي قوله: «والناس كثير لا يحصيهم ديوان» .
وثبت عن الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه قال: من قدم عليّا على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفا، مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو عنهم راض فقال النّوويّ:
وذلك بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باثني عشر عاما بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الرّدة والفتوح الكثير ممن لم تضبط أسماؤهم، ثم مات في خلافة عمر في «الفتوح» وفي الطاعون العام وعمواس وغير ذلك من لا يحصى كثرة وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب، وأكثرهم حضروا حجة الوداع واللَّه أعلم.
على أن عدد تراجم الإصابة يزيد على 12304 بما في ذلك المكرر بسبب الاختلاف بالاسم أو الكنية أو اللقب وكذلك يشمل هذا العدد أولئك الذين ذكروا في الصحابة على سبيل الوهم.
مما تقدّم يتضح بأن ليس بمقدور أحد أن يستوعب تراجم الصحابة ولا خمس عددهم للأسباب المشار إليها آنفا.
وتجدر الإشارة إلى أن ما شهده حقل معرفة الصحابة من ظهور الاستدراكات والتذييل وبيان الأوهام على المصنفات فيه يعطي دليلا على شعور المهتمين بهذا اللون من التصنيف بأن هناك حيزا لا بد أن يملأ ولكن بعد أن نشر الحافظ ابن حجر كتاب «الإصابة» في نهاية النصف الأول من القرن التاسع الهجريّ لم تشر المصادر إلى كتاب ألف عن معرفة الصحابة، كما لم يظهر تذييل ولا استدراك على الإصابة، وهذا قد يفسر الجهد الضخم

(1/129)


المبذول فيه، والاستقصاء الفريد الّذي قام به ابن حجر وقال السيوطي عند ما ذكر «الإصابة» :
«كتاب حافل، وقد اختصرته وللَّه الحمد» . وسماه حاجي خليفة: «عين الإصابة» .
وقيل وقبل أن يشرع بأبواب الكتاب التي تضم باب الأسماء وباب الكنى، وباب النساء، وباب كنى النساء ذكر ثلاثة فصول مهمة تمس الحاجة إليها بمثل تصنيفه وتقع الفصول الثلاثة في ثماني صفحات، خصص الفصل الأول منها لتعريف الصّحابي، وبيّن أصح ما وقف عليه من ذلك وهو أن الصحابي: «من لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام» .
وشرح هذا التعريف بصفحتين ونصف شرحا وافيا جاء فيه على جميع الملابسات المحتملة من حيث لقيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أو الرّواية عنه أو عدمها، ومن لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك؟ والإيمان به من الجن والإنس وماذا بشأن الملائكة؟ أو الّذي لقيه مؤمنا ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام كما ناقش الاحتمالات الأخرى إلى أن قال: «وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما ووراء ذلك أقوال أخرى شاذّة» . كما أشار إلى تعريفات أخرى.
ثم بين ما جاء عن الأئمة من الأقوال المجملة في الصفة التي يعرف بها كون الرّجل صحابيّا، وإن لم يرد التنصيص على ذلك، وهي ثلاثة آثار:
1- أنهم كانوا في الفتوح لا يؤمّرون إلا الصحابة وقد استدل ابن حجر بهذا الرأي في أكثر من أربعين موضعا على أنه قال في موضع: «كانوا لا يؤمّرون في زمن الفتح إلا من كان صحابيّا، لكن إنما فعلوا ذلك في فتوح «العراق» فلذلك أذكر أمثال هذا في هذا القسم «وهو الثالث» .
2- لم يبق بمكة ولا الطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد مع النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم حجة الوداع واستدل ابن حجر بهذا الرّأي في أكثر من ستة وثلاثين موضعا، وقال في موضع:
«وقد ذكرنا غير مرّة أن من كان في عصر أبي بكر وعمر رجلا وهو من قريش فهو على شرط الصّحبة، لأنه لم يبق بعد «حجة الوداع» منهم أحد على الشرك وشهدوا «حجّة الوداع» مع النبي جميعا» .
وقال في موضع آخر: «ولم يبق بمكّة بعد الفتح قرشي كافرا كما مر، بل شهدوا «حجة الوداع» كلهم مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كما صرح به ابن عبد البرّ» .
وقال في موضع آخر: «وقد ذكرنا غير مرّة أنه لم يبق من قريش وثقيف ممن كان بمكة والطائف في «حجة الوداع» أحد إلّا أسلم وشهدها» .

(1/130)


وفي موضع آخر قال: «لم يبق بالحرمين ولا الطائف أحد في «حجّة الوداع» إلا أسلم وشهدها» .
وقال أيضا: «وقد تقدّم لم يبق ب «مكة» قرشي في سنة عشر إلا شهد «حجّة الوداع» كما قال: «وقد قدّمنا غير مرّة أن من أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وبقي بعده، وكان قرشيا أو حليفا لهم فقد شهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حجة الوداع» .
3- لم يبق من الأوس والخزرج في آخر عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلا من دخل الإسلام، وما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأحد منهم يظهر الكفر.
واستدل ابن حجر بهذا الرأي فيما يتعلق بتراجم الأنصار خاصة في القسم الثالث من كتاب «الإصابة» .
أما الفصل الثّاني فقد جعل عنوانه: «في الطريق إلى معرفة كون الشخص صحابيّا» .
وذلك بأشياء منها:
- أن يثبت بطريق التواتر أنه صحابي بالاستفاضة والشهرة، ثم بأن يروي عن آحاد من الصحابة أن فلانا له صحبة مثلا، وكذلك عن آحاد التابعين بناء على قبول التزكية من واحد وهو الراجح، ثم بأن يقول هو إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة: أنا صحابي.
وحدد معنى العدالة والمعاصرة، وبين رأي الآمدي وأبي الحسن القطان، وابن عبد البر في هذين الشرطين وضرب الأمثلة لذلك.
وختم هذا الفصل بما أطلق عليه:
«ضابط يستفاد من معرفته صحبة جمع كثير يكتفي فيهم بوصف يتضمن أنهم صحابة وهو مأخوذ من ثلاثة آثار» .
وقد ذكرنا أنّهم كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصحابة وكان لا يولد مولود للصحابة إلا جاءوا به إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فيحنكه ويسميه، ولم يبق بمكة والطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد حجة الوداع.
أما الفصل الثّالث فقد خصصه ل «بيان حال الصّحابة من العدالة» .
وقد اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وأحال إلى الفصل الّذي كتبه الخطيب البغدادي في «الكفاية» في علم الرواية عن ثبوت عدالة الصحابة- رضوان اللَّه عليهم- بتعديل اللَّه لهم في القرآن، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم بآيات كثيرة يطول شرحها، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع

(1/131)


ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل اللَّه له إلى تعديل أحد من الخلق.
على أنه لو لم يرد من اللَّه ورسوله فيهم شيء عن عدالتهم لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين القطع على تعديلهم، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم.
هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله ولا ينتقص منهم إلا زنديق، لأن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وتجريحهم أو الانتقاص منهم يستهدف إبطال الكتاب والسنّة.
وذكر بعض الآيات والأحاديث في تفضيلهم، ومن الأخبار الدالّة على تعظيمهم عند الخلفاء الراشدين وغيرهم.
وختم الفصل بفائدة بين فيها أن أكثر الصحابة فتوى مطلقا سبعة فذكرهم، ثم أورد قولا لابن حزم يتعلق بإمكان جمع مجلد ضخم من فتيا كل واحد منهم جزء صغير وأن في الصحابة مائة وعشرين نفسا مقلّون في الفتيا يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير بعد البحث وهؤلاء من فقهاء الصحابة.
ونبه إلى أنه جعل على كل اسم أورده زائدا على ما في تجريد الذّهبيّ، وأصله الحرف «ز» .
وبعد تحليل مقدمة «الإصابة» أورد الحديث عن السمات الرئيسية في منهجه.

الدّقّة في التّرتيب على حروف المعجم
قسم ابن حجر «الإصابة» على أربعة أقسام في كل حرف من حروف المعجم، فحرف الألف مثلا أربعة أقسام وكذلك الباء والتاء وهلم جرا إلى الياء آخر الحروف.
وتظهر الأقسام الأربعة في أسماء وكنى الرجال وأسماء وكنى النساء مرتبة على حروف المعجم أيضا.
وفي داخل القسم الواحد من كل حرف يظهر الترتيب الهجائي مراعيا الحرف الأول والثاني والثالث والرابع في اسم المترجم، واسم أبيه واسم جده، ولم يشذ عن ذلك إلا في حالات نادرة جدا.

(1/132)


وعند ما ذكر الأسماء المبدوءة ب «ذو» مثلا رتبهم على حروف المعجم بعد لفظ «ذو» .
وانتقد ابن حجر بعض من صنف في «الصحابة» لذكرهم جماعة من النساء في الكنى من غير أن يرد أن تلك الكنية موضوعة على تلك المرأة بل إذا ورد في خبر عنها أو عن غيرها أن لها ابنا اسمه «فلان» فيذكرونها بلفظ «أم فلان» .
قال ابن حجر: ومن حق ما هذا سبيله أن يقال: والدة فلان، ولا يقال «أم فلان» إلا إذا ورد أنها كنيت به، وقد كنى ابن حجر أسماءهن تبعا للمصنفين السابقين له، لكنه نبه على ذلك في كل ترجمة، ومن وضح أن لها اسما نبّه عليه أيضا، ومن ورد أن لها كنية تختص بها أعاد ترجمتها في القسم الرابع، وهذا واحد من الأسباب التي أفضت إلى التكرار في التراجم.

الضّبط بالحروف والتّعريف بالمواضع
ضبط ابن حجر الأسماء والألفاظ بالقلم في الغالب وكأنه أحس بضرورة تقييد بعضها بالحروف وخاصة أن كثيرا من الأسماء جاهلية أو غريبة تصعب قراءتها ولا يؤمن التحريف أو التصحيف فيها، على أنه لم يضبط جميع ما يحتاج إلى الضبط، ولعل ذلك يرجع إلى حرصه على الاختصار من جهة وتصنيفه كتابا في المشتبه الّذي سماه «تبصير المنتبه بتحرير المشتبه» والّذي انتهى من تحريره في سنة 816 هـ، وقد يشير إلى أن اللفظ المعين قد ضبطه الأمير ابن ماكولا أو غيره.
ومع ذلك فإنه قيد بالحروف بعض الأعلام والألفاظ وهي إما أن تكون أسماء في سلسلة نسب المترجم أو أسماء أو ألفاظا تمر أثناء حديثه عرضا، وقد تكون أسماء لمواضع.
وفي مواضع قليلة عرف بالأعلام البلدانية والمواضع التي يرد ذكرها في أثناء التراجم، وقد يفسر بعض الألفاظ من الناحية اللغوية أو البلاغية.

التّكرار في تراجم الإصابة
أسفرت طبيعة المنهج الّذي التزم به ابن حجر في «الإصابة» عن ظاهرتين برزتا في كتاب «الإصابة» .
الأولى: التكرار في بعض التراجم.
والثّانية: خلو بعض الأقسام في بعض الحروف من التراجم أما بالنسبة لتكرار التراجم

(1/133)


فذلك لأسباب عدة، منها أن ابن حجر التزم أن يذكر في القسم الأول كل من وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره، سواء أكانت الطريق صحيحة أم حسنة أم ضعيفة أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة وبأي طريق كان، فهو يورد لذلك الترجمة في القسم الأول على هذا الأساس، ولكنه يناقش خلال ذلك الطرق وتثبت منها ويكتشف الذين ذكروا في الصحابة على سبيل الوهم، فهو يعيد ترجمة المذكور في الصحابة وهما في القسم الرابع في الغالب، ولكن إذا أدى فحصه للروايات إلى أن صحبة المترجم محتمله فإنه لا يكرر الترجمة ويكتفي بمناقشته للجوانب الضعيفة فيها.
وممّا أدى إلى التكرار أن لبعضهم اسمين أو ثلاثة أسماء قد تكون حقيقية، وقد يكون التصحيف أو التحريف أو الوهم قد وجد سبيله إلى واحد منها فصيره اثنين أو ثلاثة. فترى ابن حجر يترجمه في موضعين أو ثلاثة تبعا لتصحيفه في الحرف الّذي يبدأ به اسمه، لكنه يوضح ذلك ويحيل إلى ما أورده سابقا أو سيأتي به لاحقا مما يتعلق بالمترجم، وهنا لا بد من التوضيح أن ضبط أسماء الصحابة وأنسابهم يتطلب يقظة وحذرا أكثر من غيرهم، لأن أسماءهم لم تدوّن إلا في فترة متأخرة ناهيك بأن بعض أسمائهم أو أسماء آبائهم جاهلية وقد تكون غير مألوفة بالنسبة للمتأخرين، وهذا مما يجعل مسألة اللبس أو الوهم فيهم محتملة، وهذا ما لاحظته في دراسة «الإصابة» .
وقد يكون بعض من صنف من السابقين لابن حجر قد أفرد ترجمتين لاثنين بناء على اختلاف اسميهما وهما في الحقيقة واحد.
وفعل مثل ذلك بالنسبة للمشهورين بكناهم فترجمهم في الأسماء وفي الكنى، وأحال إلى مواضع ورود تراجمهم في الكتاب رجالا كانوا أم نساء.
وقد يترجم لصحابي مثل حذيفة بن اليمان- رضي اللَّه عنه- ولكن ورد أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خاطبه باسم «خاطب» فإنه يكرر ترجمته تحت الاسمين.
وكذلك إذا ورد أن للمترجم رؤية والمشهور أنه من المخضرمين فإنه يكرر ترجمته مثل قيس بن أبي حازم الأحمسي الّذي ترجم له في القسم الثاني فيمن له رؤية وفي القسم الثالث مع المخضرمين، أو من لهم إدراك.
وقد تتكرر الترجمة حرفيّا، وقد يختلف فيها اللفظ ومخارج الحديث، وقد تقتصر الترجمة على ذكر الاسم كاملا أو الاسم والكنية فقط- كما في الترجمتين 2562، 2722- وهو في كل ذلك ينبه إلى ما تقدم أو إلى ما سيأتي لاحقا.

(1/134)


ورغم ذلك فإنه لم يكرر القصص أو الحوادث التي أوردها خلال ترجمة ما مكتفيا بالإحالة إليها وتحديد موضع ذكره لها من كتابه، بل لم يكرر النسب بطوله عند ما يترجم للإخوة والأخوات أو الآباء والأبناء.
أما الظاهرة الثانية التي ظهرت في منهج الحافظ ابن حجر في كتاب «الإصابة» فهي خلوّ بعض الأقسام في بعض الحروف من التراجم.
(والأمثلة على ذلك كثيرة منها مثلا: القسم الثّاني من حرف الذال، لم يذكر فيه أحد من الرجال والقسم الثاني من حرف الظاء لم يذكر فيه أحد من الرجال) أو اقتصار عدد التراجم على ترجمة واحدة أو ترجمتين- كما في القسم الثاني من حرف الشين المعجمة- ويلاحظ أن خلو بعض الأقسام في بعض الحروف من تراجم النساء وكناهن بدرجة أكبر.
فمثلا جاءت جميع الأقسام في حرف الذّال المعجمة من تراجم النساء خالية عدا ترجمة واحدة في القسم الأوّل، على حين وردت الإشارة إلى أن هذا الحرف في «الاستيعاب» خال من النساء.

الحوالات في «الإصابة»
لقد حرص ابن حجر على الاحالة إلى ما سبق ذكره وإلى ما سوف يأتي لاحقا في «الإصابة» ولا يفتأ ينبه القارئ على ذلك.
فقد يذكر طرفا من خبر أو قصّة احتاج إليه في موضع ثم يحيل إلى الموضع الّذي وردت فيه كاملة.
وعند ما يترجم ل «إبراهيم» مثلا في القسم الأول، ويوجد غيره بنفس الاسم، لكنه يقع منهجيا ضمن تراجم القسم الثاني فإنه يذكره ويشير إلى أن ترجمته تأتي في القسم الثاني وكذا فعل بالنسبة للذين يترجم لهم ضمن القسم الواحد إلا أنه رتبهم منهجيّا في الكنى- كما فعل في ترجمة إبراهيم أبو رافع مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكر ترجمة رباح بن قصير اللخمي في القسم الأول ثم أورده في القسم الثالث وقال:
«تقدم في القسم الأول وهو من هذا القسم على الصحيح أما عن إحالته إلى التراجم التي سبقت أو التي ستأتي فهي كثيرة مما يشعر بالدّقة والاحتياط، وممّا يقوي هذا الرأي أنه يحدد الموضع الّذي يحيل إليه كأن يقول: تقدّم في أكثم» من القسم الثالث أو يأتي في عديد أو عفيف، أو قوله عن النجاشي ملك الحبشة: «اسمه أصحمة تقدم في حرف الألف» ، أو عن قرظة بن عبد القرشي قال: «ينظر في ترجمة ابنته فاختة زوج معاوية في كتاب النساء» أو

(1/135)


يأتي في حرف النون في ترجمة والده بعد أن ذكر اسمه أو كقوله «ووقع ذكر الشريد من بني سليم في شعر هوذة الآتي ذكره في حرف الهاء» .
وفي ترجمة سويبق بن حاجب بن الحارث قال: «وهو سبيع الّذي تقدّم ذكره ولم ينبه عليه» .
وفي تراجم الإخوة والأخوات والآباء والأبناء ذكر النسب في موضع واحد وأحال عليه.
وإذا سبق في التراجم اسم بشكل عرضي فإنه يحيل إلى ترجمته ويبين موضعها، وكذلك الحديث أو الرواية المتشابهة، كما استعمل في الإحالة عبارات مثل: «سيأتي في القسم الثالث» ، أو سأوضح ... ذلك في العبادلة» أو «قد مضى القول فيه في القسم الأوّل» .
وأحال إلى بعض مصنفاته مثل شرح البخاري «فتح الباري» وكتاب «الأوائل» و «تعليق التعليق» و «لسان الميزان» و «أسباب النزول» و «تهذيب التهذيب» وكتاب «المعمرين» و «العشرة العشارية» و «الأربعين المتباينة» وكتاب «معرفة المدرج والبناء الجليل بحكم بلد الخليل» و «مبهمات القرآن» وبعض الأجزاء المفردة.
وجميع هذه الإحالات توضح حرصه على الاختصار، لأنه يذكر طرفا من الحديث أو القصة أو الخبر ثم يشير إلى أنه قد استوفاه في مصنف آخر.

اعتماد الحافظ ابن حجر على مؤلّفات من سبقه في كتابه «الإصابة»
وقف ابن حجر في نهاية تطور طويل لعلم معرفة الصحابة وقد سبقه عدد كبير من المصنفين في هذا الباب، وأشار هو في مقدمة كتابه، «الإصابة» إلى سبعة وعشرين منهم، ثم قال: «وفي أعصار هؤلاء خلائق يتعسر حصرهم» وكان ذلك إلى أوائل القرن السابع الهجريّ ثم ظهرت مصنفات أخرى كثيرة، فاستفاد ابن حجر من المصنفات السابقة له في هذا الباب، سواء أكانت خاصة بالصحابة أم تحدثت عنهم بشكل عرضي في المصنفات الخاصة بالعلوم والآداب المختلفة، على أنه اقتبس من موارد تزيد على ستين مصنفا منفردا عن الصحابة وأغلبها تملك حق روايتها بالسماع وبالإجازة الخاصة كما يبين ذلك في كتابه «المعجم المفهرس» و «المعجم المؤسس» .

(1/136)


وقد بذل جهدا عظيما في استقصاء أسماء الصحابة من المصنفات وتخريج تراجمهم بصرف النظر عن كون المصنفات موثقة أو ضعيفة، وفي أي فرع كانت من فروعه المعرفة وذلك بسبب التقسيم الّذي ابتكره، وتخصيصه القسم الرابع من كل حرف لتراجم الذين ذكروا على سبيل الوهم في الصحابة، فجمع مادة كتابه من المصنفات والأجزاء الحديثية والنسخ، وحواشي الكتب والتعليقات، وكل ما يخطر على البال.
على أنه انتقد المصادر التي اعتمد عليها، وبين جوانب الضعف والقوّة فيها كما نقد الأسانيد والروايات فهو يورد الرواية الضعيفة أحيانا ليستدل بها على عنصر من عناصر الترجمة كوفاة صاحبها مثلا فيقول: «وهذه الرواية وإن كان فيها خطأ في التسمية لكن يستفاد منها أن صاحب القصة عاش إلى أن سمع منه القاسم واللَّه أعلم» .
وذكر حديثا ثم قال: «وفي سنده الواقدي وهو واه» أو كقوله: «رواه الواقديّ وهو كذّاب» .
وعند ما يقتبس من ابن سعد صاحب «الطبقات» يقول: «روى ابن سعد بسند فيه الواقديّ» وقد كرر ذلك كثيرا خلال اقتباسه من كتاب «الطبقات» واقتبس من كتاب «الضعفاء» ومن نسخ وأجزاء اشتملت على أحاديث موضوعة، ولكن لغرض مناقشتها والتنبيه عليها.
ويبين وجه الوهم ومن الّذي وهم فيه؟ كما في ترجمة «ديلم الحميري» 2412 ثم سبب الوهم، فهو لا يكتفي بالإشارة إليه فقط، وللاستدلال على ذلك يمكن الرجوع إلى تراجم القسم الرابع من كل حرف ولقد بيّن أوهام عدد من العلماء الأفذاذ مثل محمد بن إسحاق المطلبي، ومحمد بن عمر الواقدي، وأبي حاتم محمد بن عمر بن إدريس الرازيّ، وعبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة، وعبد اللَّه بن محمد المروزي الملقب عبدان، وأبي القاسم عبد اللَّه بن محمد البغوي، وأبي القاسم الطبراني، وأبي أحمد الحاكم، وأبي عبد اللَّه الحاكم النيسابورىّ وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي العباس جعفر بن محمد المستغفري، وأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم بن عساكر، وأبي موسى المديني، وأبي الحسن بن الأثير، وأبي عبد اللَّه الذهبي وغيرهم كثير.
تلك نماذج قليلة لتوضيح بعض ما صحح ابن حجر من أوهام الذين سبقوه، وهم أفذاذ لهم مكانتهم المرموقة في أعصارهم، وفي هذا دلالة بيّنة على رسوخ قدمه وسعة أفق تفكيره.
فذكر ما قاله البغوي وابن شاهين وابن عبد البر وأبو موسى وابن الأثير وقال: «وقد تم

(1/137)


الوهم عليهم جميعا، وسببه أن الإسناد الّذي ساقه البغوي سقط منه والد أزهر واسم الصحابي.. إلخ» .
وفي موضع آخر أورد رأي جعفر المستغفري ثم قال: هكذا أورده أبو موسى وهو وهم ابتدأ به جعفر وتبعه أبو موسى، وراج على ابن الأثير مع تحققه بمعرفة النسب وقلّده الذهبي» ثم بين وجه ذلك الوهم.
وأشار إلى أنواع من الأخطاء منها ما يتعلق بالتحريف والتصحيف، وهذا ما يبرز بوضوح في تراجم القسم الرابع من كل حرف، ومنها ما يتعلق بقراءة الاسم كأن يكون أحد المصنفين قرأه بالجر وهو بالرفع، وبنى على قراءته المغلوطة حكما يستوجب التصحيح.
وقد بيّن تناقض الروايات وتدافعها، وميز الروايات الشاذّة التي تفرد بها شخص معين وذكره بالاسم، وأزال بعض الإشكال الوارد في الروايات.
ورد أحكاما لابن الفرضيّ على ابن وهب في رواية حديث الخليطين، وتحريم المسكر، ولابن الأثير على الشعبي في رواية أخبار المختار الثقفي، ولابن عبد البرّ في حديث زعم أنه مضطرب، وليس كما قال، لأن «شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه في الاختلاف وأما إذا تفاوتت فالحكم للراجح بلا خلاف» .
كما تعقب كثيرا من المصنفين، فمثلا في ترجمة سويد بن حنظلة قال قال أبو عمر: لا أعلم له غير هذا الحديث، فقال ابن حجر: «قلت:
أخرجه أبو داود وابن ماجة ولفظه: «المسلم أخو المسلم» [ (1) ] :
وقال ابن عبد البرّ، لا أعلم له نسبا، قال ابن حجر: «قلت: قد زعم ابن حبان أنه جعفي..» .
وفي ترجمة شطب المدود ذكر سؤاله للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ثم أورد رأي ابن السكن في أن الحديث المشار إليه لم يروه غير أبي نشيط فقال ابن حجر «وهو حصر مردود» .
ثم بين من أخرجه.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 3/ 257 كتاب المظالم باب لا يظلم المسلم. حديث رقم 2442، 9/ 40 كتاب الإكراه باب يمين الرجل لصاحبه.. حديث 6951 ومسلم في الصحيح 4/ 1986 كتاب البر والصلة والآداب (45) باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (10) حديث رقم (32/ 2564) - وأبو داود في السنن 2/ 244 كتاب الأيمان والنذور باب المعاريض من الأيمان حديث رقم 3256 وابن ماجة في السنن 1/ 685 كتاب الكفارات (11) باب من ورى في يمينه (14) حديث رقم 2119 وأحمد في 2/ 68، 91، 277، 311، 3/ 491، 5/ 24، 25 وأبو نعيم في الحلية 2/ 95- وذكره المنذري في الترغيب 3/ 237، 389.

(1/138)


وقال في موضع من الإصابة:
قال البغويّ وابن السكن: ليس للأسود غير هذين الحديثين لكنه قال: وقد وجدت له ثالثا أخرجه البزّار ... وله رابع، قال البخاري في تاريخه ...
ويسترسل أحيانا بذكر القصة أو الخبر ومن أخرجها من المصنفين، وقد تكون القصة واحدة لواحد اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من عشرة أوجه، فتراه يشير إلى هذه الأوجه، وقد يورد قصصا ثم يبين التغاير بينها فيظهر فيها الإشكال ثم يناقشها ويرجح ما استطاع.
وفي ترجمة عروة بن مسعود الثقفي أشار إلى ترجمة ابن عبد البر له وقوله بأنه شهد الحديبيّة وهو كذلك غير أن ابن حجر قال: «لكن في العرف إذا أطلق على الصحابي أنه شهد غزوة كذا يتبادر أن المراد أنه شهدها مسلما فلا يقال: شهد معاوية بدرا، لأنه لو أطلق ذلك ظن من لا خبرة له لكونه عرف أنه صحابي أنه شهدها مع المسلمين» .
وعند ما ذكر أبا بشر السّلمي وساق حديثا أشار إلى أن أبا موسى ذكر أنه- أي الحديث- مشهور عن أبي اليسر ثم قال: «قال: لكن مخرج الحديث مختلف وإذا تعددت المخارج كان قرينة على تعدد الرّاوي بخلاف ما إذا اتحدت ولا مانع أن يروى الحكم عن صحابيين وقرينة اختلاف السياقين أيضا ترشد إلى التعدد واللَّه أعلم.
وناقش الأحاديث سندا ومتنا وبين درجتها، وقد يحيل إلى أن بيان علة الحديث في مكانه غير الّذي ذكره فيه من كتابه ونقد طرق الأحاديث.
واستعمل عبارات للتوهية والتضعيف كقوله: واهي الحديث، أو ضعيف، أو هالك، واستل أحيانا بعض الضعفاء من السند مشيرا إليهم بالضعف، وبين الاختلال أو الاضطراب في بعض الأسانيد ككل.
وناقش صحبة الصحابي كما في مناقشته لصحبة مروان بن الحكم، وقد يناقش الصحبة مناقشة طويلة ثم يقول: «فما أدري أله صحبة أم لا» .
وفي ترجمة رحضة الغفاريّ أبدى بعض التحفظ في إثبات صحبته وقال: «لا أعرف لأبي عمر مستندا في إثبات صحبة رحضة، وابنه إيماء، وابنه خفاف وقد ثبت في صحيح البخاري، عن عمر ما يدلّ على أن لابن خفاف صحبة، فإن ثبت ذكر أبو عمر فهؤلاء أربعة في تسعة لهم صحبة، رحضة وابن إيماء وابن خفاف فهم نظير ابن أسامة بن زيد بن حارثة، وابن سلمة بن عمرو بن الأكوع ... » .

(1/139)


وقد يسوق حديثا في أثناء الترجمة ثم يقول: «ليس في سياق الحديث ما يدل على صحبته» كأن يكون الحديث مرسلا أو يعتمد على المصنفين السابقين بذكر حديثين في الترجمة الواحدة وليس في واحد منهما تصريح بسماعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ولا بوفادته.
ثم ناقش رأي بعض المتقدّمين عن إبراهيم بن سيد البشر صلّى اللَّه عليه وسلم «أنه لو عاش لكان نبيّا» فوصفه بأنه باطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم ثم قال:
«وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله فبالغ في إنكاره، وجوابه أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع ولا تظن بالصحابي أنه يهجم على مثل هذا بظنه واللَّه أعلم» .
وكثيرا ما استعمل عبارة واللَّه أعلم أو العلم عند اللَّه تعالى.
ودلت مناقشاته للأنساب على معرفة كبيرة بها، كما نقد أحيانا الشعر الّذي يورده فيبين من أين استقى الشاعر معانيه وأوضح بعد ألفاظه وبين أبلغها.
وإذا ما كان ابن حجر قد اعتمد على المصنفات السابقة وأثبت بالأدلة الذين ذكروا فيها على أنهم صحابة وليسوا كذلك فإنه أضاف قائمة جديدة من الصحابة أو أسمائهم وقعت له بالتتبع غابت عن أذهان الكثيرين، كأن يكون الاسم ورد في شعر أو في قصّة أو لم يذكروه في الصحابة وهو على شرطهم، أو لا رواية له لكونه شهد فتح مصر أو لا رواية له إنما استخرج من المغازي أو لم ير من ذكره في الصحابة إلا أنه وجد ما يدل على ذلك بقراءته في كتاب «الأمثال» للمفضل الضّبي، أو في تعليقة القاضي حسين بن محمد الشافعيّ شيخ المراوزة أو في تاريخ جمعه العباس بن محمد الأندلسي للمعتصم بن صمادح أو في ديوان حسان صنعة أبي سعيد السكري كما في الترجمة 2624 ز أو استنتج ما يدل على كون المترجم صحابيّا وأغفلوا ذكره في الصحابة.
واقتصر بعض المصنفين السابقين (ابن حجر) في الصحابة على ذكر بعض الصحابة أو الصحابيات مع بعضهم لعلاقة ما تربطهم على حين أفرد هو لهم تراجم مستقلّة.
تلك أمثلة توضيحية فقط، لكنه استعان في إثبات صحبة الصحابي بما يمكن أن نسميه قواعد هي في حقيقتها ثلاثة آثار أشار إليها في الفصل الثالث من مقدمته للإصابة، وقد تقدّم الحديث عنها. وهي:
1- كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصحابة، ومن تتبع الأخبار الواردة في «الردّة» والفتوح وجد من ذلك شيئا كثيرا، وهم من القسم الأول.

(1/140)


2- كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فدعا له، وهذا يؤخذ منه شيء كثير أيضا وهم من القسم الثّاني.
3- لم يبق بمكة والطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد حجة الوداع.. ويعرف الواحد منهم بوجود ما يقتضي أنه كان في ذلك الوقت موجودا، وأن الأنصار لم يكن منهم لما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحد إلا أسلم.
ولذلك فإنه استعان بهذه القواعد في تحديد صحبة الصحابي، وأشار إلى ذلك كثيرا في تضاعيف كتابه الإصابة، ونبه إلى صحابة لم يترجم لهم المصنفون السابقون له من قبل.
إن هذه الإضافات أو الاستدراكات تعطي للإصابة- مع غيرها- صفات الإبداع بلا شك.

(1/141)