الرياض النضرة في مناقب العشرة

الفصل الرابع: في إسلامه
ذكر بدء إسلامه: قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحبشة، وعن عمر بن الخطاب قال: خرجت أتعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة, فجعلت أعجب من تأليف القرآن قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 1 قال: قلت: كاهن, قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1 قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع. خرجه أحمد وطريق آخر عن أنس بن مالك قال: خرج عمر متقلدًا السيف فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر? فقال: أريد أن أقتل محمدًا قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا? فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر? إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين
__________
1 سورة الحاقة الآية: 41.

(2/275)


يقال له: خباب، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرءون طه، فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما? فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك? فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمي وجهها، قالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك أتشهد أن لا إله إلا الله وأتشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله؟ فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه, وكان عمر يقرأ الكتب فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ, فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ "طه" حتى أتى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1 فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر, فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الخميس: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" قال: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدار التي في صل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار قال: وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى حمزة وجل القوم من عمر قال حمزة: نعم فهذا عمر، وإن يرد الله بعمر خيرًا يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينًا, قال: والنبي -صلى الله عليه وسلم- داخل يوحى إليه، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه فقال: "أما أنت منتهٍ يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة? اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب". فقال عمر: أشهد أنك رسول الله فأسلم عمر وقال: اخرج يا رسول الله، خرجه في الصفوة.
"شرح" الهيمنة: الصوت الخفي, والوجل: الخوف, وحمائل
__________
1 سورة طه الآية: 14.

(2/276)


السيف: جمع حمالة بالكسر وهي علاقته، هذا قول الأصمعي، وقال الخليل: لا واحد لها من لفظها وإنما واحدها محمل بزنة مرحل، وهو السير الذي يتقلده المتقلد, والخزي: الذل والهوان, والنكال: ما نكل به، يقال: نكل الله به تنكيلًا, إذا نزل به ما يكون نكالًا وعبرة لغيره، ومنه: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} الآية.
طريق آخر, عن أسامة بن زيد عن أبيه عن جده قال: قال عمر: أتحبون أن أخبركم كيف كان إسلامي? قال: قلنا نعم! قال: كنت من أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينا أنا في يوم حار شديد الحر في الهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من قريش فقال: أين تريد في هذه الساعة يابن الخطاب? قال: قلت: أريد هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي, فقال لي: عجبًا لك يابن الخطاب, إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك! قال: قلت: وما ذاك? فقال: أختك قال: فرجعت مغضبًا وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ضم إلى زوج أختي رجلين من المسلمين يعينانه ويصيبان من فضل طعامه, فقرعت الباب فقيل: من هذا? فقلت: ابن الخطاب قال: وكانوا يقرءون كتابًا في أيديهم، فقاموا مبادرين واختبئوا مني وتركوا الصحيفة على حالها، فلما فتحت لي أختي قلت لها: يا عدوة نفسها أصبوت? وأرفع شيئًا في يدي فأضرب به رأسها وسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: ما كنت فاعلًا فافعله فقد صبوت، قال: فدخلت وأنا مغضب حتى جلست على السرير فنظرت فإذا صحيفة في وسط البيت، قال: فقلت لها: ما هذه الصحيفة؟ فأعطنيها، قالت: إنك لست من أهلها، إنك لا تغتسل من الجنابة ولا تطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيها، قال: فأخذتها ففتحتها فإذا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما قرأت: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ذعرت وألقيت الصحيفة من يدي ثم رجعت إلى نفسي فأخذتها, فإذا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ

(2/277)


الْحَكِيم} 1 قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت، ثم ترجع إلي نفسي قال: حتى بلغت: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 2 قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
قال: فخرج القوم مستبشرين فكبروا وقالوا: أبشر يابن الخطاب، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يوم الاثنين فقال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: أبي جهل بن هشام، وإما عمر بن الخطاب" وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك فأبشر، قال: فقلت: دلوني على مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأخبروني أنه في بيت في أسفل الصفا، قال: فخرجت حتى جئت الباب فقرعته فقالوا: من هذا? قال: قلت: ابن الخطاب قال: فما اجترأ أحد منهم أن يفتح لي، قد علموا شدتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "افتحوا له, فإن يرد الله به خيرًا يهده" قال: ففتحوا ثم أخذ رجلان بعضدي حتى أجلساني بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال: "خلوا عنه" ثم أخذ بمجمع قميصي فجذبني إليه وقال: "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهده". قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: فكبر المسلمون تكبيرة حتى سمعت من مكة، وكانوا قبل ذلك مستخفين، خرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال.
"شرح" صبا يصبو: إذا خرج عن دينه وقد تقدم ذكر ذلك, ذعرت أي: فزعت تقول: ذعرته أذعره ذعرًا أي: فزعته والاسم الذعر بالضم, جبذني: مقلوب جذبني وكلاهما بمعنى واحد.
طريق آخر: قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر فيما بلغنا أن أخته فاطمة أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم،
__________
1 سورة الحشرة الآية: 24.
2 سورة الحديد الآية: 7.

(2/278)


وكان نعيم بن النحام من قومه أسلم أيضًا وكان مستخفيًا منه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر بن الخطاب متوشحًا بسيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورهطًا من أصحابه، فذكر أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمه حمزة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ورجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا، وذكر معنى ما بعده من حديث أنس المتقدم وقال فيه: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحجزته أو بمجمع ردائه, ثم جبذه جبذة شديدة ثم قال: "ما جاء بك يابن الخطاب?" ثم ذكر معنى ما بعده إلى قوله: "فقال عمر" وقال عمر: جئت لأؤمن بالله ورسله وبما جاء من عند الله، قال: فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد اسلم، فتفرق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة, وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمتنعون وينتصفون من عدوهم.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر, وحدثني عبد الله بن نجيح المكي عن أصحابه عن إسلام عمر أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدًا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالخرورة عند دور آل عمر بن عمران المخزومي قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدًا، قال: فقلت: لو أني جئت فلانًا وكان بمكة يبيع الخمر, لعلي أجد عنده خمرًا فأشرب منها، قال: فخرجت فجئته فلم أجده قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعًا أو سبعين قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام،

(2/279)


فكان مصلاه بين الركنين، الركن الأسود والركن اليماني. قال: فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت من محمد الليلة حتى أسمع ما يقول فقلت: لئن دنوت لأسمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت من تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله, ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة قال: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائمًا في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج إلى دار ابن أبي حسين وكانت طريقه، حتى تجيز على المسعى ثم يسلك من دار العباس بن عبد المطلب ومن دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق حتى يدخل بيته.
وكان مسكنه -صلى الله عليه وسلم- في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية بن أبي سفيان, قال عمر: فتبعته حتى إذا دخل من دار العباس ودار ابن أزهر أدركته, فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفني فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني إنما اتبعته لأؤذيه فنهمني ثم قال: "ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة?" قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله, فحمد الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "قد هداك الله يا عمر" ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته.
ومن طريق أسامة بن زيد بعد قوله: "وكانوا قبل ذلك مستخفين" قال: ثم خرجت فكنت لا أشاء أن أرى رجلًا من المسلمين يضرب إلا رأيته، قال: ذهبت إلى خالي قال: فقرعت عليه الباب قال: فقال: من هذا? فقلت: ابن الخطاب قال: فخرج إلي فقلت له: أعلمت أني صبوت? قال: فعلت؟ قال: قلت: نعم، قال: لا تفعل، قال: قلت: بلى، قال: لا تفعل، قال: ثم دخل وأجاف الباب دوني قال: قلت: ما هذا شيء قال: فذهبت إلى رجل من أشراف قريش فقرعت عليه بابه

(2/280)


فقيل: من هذا? قلت: ابن الخطاب فخرج إلي فقلت: أشعرت أني صبوت? قال: أفعلت? قلت: نعم قال: لا تفعل, ثم دخل وأجاف الباب دوني، قلت: ما هذا شيء، قال: فقال لي رجل: أتحب أن يعلم إسلامك? قلت: نعم قال: فإذا كان الناس في الحجر جئت إلى ذلك الرجل فجلست إلى جنبه وأصغيت إليه، فقلت: أعلمت أني صبوت? قال: أوفعلت? قلت: نعم، قال: فرفع بأعلى صوته ثم قال: إن ابن الخطاب قد صبا, وثار الناس إلي فضربوني وضربتهم قال: فقال رجل: ما هذه الجماعة? قالوا: هذا ابن الخطاب قد صبا فقام على الحجر ثم أشار بكمه فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي، قال: فانكشف الناس عني، قال: فكنت لا أزال أرى إنسانًا يضرب ولا يضربني أحد، قال: فقلت: ألا يصيبني ما يصيب المسلمين? قال: فأمهلت حتى جلس الناس في الحجر فجئت إلى خالي وقلت: اسمع قال: ما أسمع? قلت: جوارك رد عليك، قال: لا تفعل يابن أختي، قال: فقلت: بل هو رد عليك، فقال: ما شئت فافعل؛ قال: فما زلت أضرب ويضربونني حتى أعز الله بنا الإسلام، خرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال.
وعن عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر أو بعض أهله قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أن أهل مكة أشد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، قال: فقلت: أبو جهل وكان عمر ابنًا لحنتمة بنت هاشم بن المغيرة، قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه قال: فخرج إلي أبو جهل فقال: مرحبًا وأهلًا يابن أختي ما جاء بك? قال: قلت: جئت أخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقت بما جاء به، قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
وعن ابن عمر قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أفشى للحديث? قال: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه

(2/281)


وأنا معه أتبع أثره, أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد علي كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد فنادى أندية قريش فقال: يا معشر قريش, إن ابن الخطاب قد صبا، فقال عمر: كذبت ولكني أسلمت وآمنت بالله وصدقت برسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم حتى فتر عمر، وجلس عمر فقاموا على رأسه فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم, فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم ... فبينما هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي فقال: ما بالكم إن ابن الخطاب قد صبا، قال: فمه, امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عدي يسلمون إليكم صاحبهم? قال: فكأنما كانوا ثوبًا انكشف عنه، فقلت له بعد بالمدينة: يا أبت, من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ? قال: يا بني, ذاك العاص بن وائل، خرجه أبو حاتم وابن إسحاق.
وخرج القلعي طرفًا من هذه القصة وقال: قال عمر: لا نعبد سرًّا بعد اليوم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وكان ذلك أول ما نزل من القرآن في تسمية الصحابة مؤمنين، وكان عمر عند ذلك ينصب رايته للحرب بمكة ويحاربهم على الحق، ويقول لأهل مكة: والله لو بلغت عدتنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا, أو لتركناها لكم.
"شرح" أندية: جمع نادٍ وندي وهو مجلس القوم ومتحدثهم فإن تفرقوا منه فليس بندي, وثاوروه أي: واثبوه، وأثار به الناس أي: وثبوا عليه، قاله الجوهري, ركدت الشمس على رءوسهم أي: قام قائم الظهيرة وكأنه سكن، ومنه ركدت السفينة: سكنت، وكذا الريح والماء, والحلة: إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين.
__________
1 سورة الأنفال آية: 64.

(2/282)


ذكر ظهور الإسلام وعزه بإسلامه, وامتناع المسلمين به:
تقدم في فصل اسمه حديث ابن عباس وفيه طرف من ذلك، وتقدم في الذكر من حديث ابن إسحاق وحديث القلعي طرف منه أيضًا.
وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لعمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام، فأصبح وكانت الدعوة يوم الأربعاء وأسلم عمر يوم الخميس، فكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل البيت تكبيرة سمعت من أعلى مكة، فقال عمر: يا رسول الله, علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنا قليل" فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيًّا, لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهم ينظرونه فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فوثب المشركون فوثب عمر على عتبة بن ربيعة فبرك عليه وجعل يضربه, وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلس فيها فأظهر الإيمان, ثم انصرف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ظاهر عليهم فقال: ما يحبسك بأبي أنت وأمي؟ فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا ظهرت فيه بالإيمان، غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنًا، ثم انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى دار الأرقم ومن معه, خرجه أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال، وقال: حديث غريب.
وقال ابن إسحاق: ولما قدم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من الحبشة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وردهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلًا ذا

(2/283)


شكيمة لا يرام ما وراء ظهره, امتنع به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبحمزة.
"شرح" أحجم الناس عنه: كفّوا، تقول: حجمته عن الشيء فأحجم أي: كففته فكف، وهو من النوادر، مثل: كببته فأكب, معلنًا: العلانية ضد السر تقول: علن الأمر يعلن علونًا وعلن بالكسر يعلن علنًا, وأعلنته: أظهرته، وفي هذا الحديث أنه دعا له يوم الأربعاء وتقدم في الذكر قبله أنه دعا له يوم الخميس ويوم الاثنين, وهو محمول على تكرار الدعاء في تلك الأيام من غير أن يكون بين الأحاديث تضاد, ولا تهافت.
وعن ابن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، خرجه البخاري وأبو حاتم. وعنه قال: كان إسلام عمر فتحًا وهجرته نصرًا وإمارته رحمة، لقد رأيتنا ولم نستطع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا، خرجه الحافظ السلفي. وعنه قال: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه، خرجه ابن إسحاق في سيرته، وعنه: ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر.
وعنه: لما أسلم عمر, ظهر الإسلام ودعا إلى الله علانية.
وعن علي قال: ما سمينا مؤمنين حتى أسلم عمر، خرجهن في الفضائل. وعن صهيب قال: لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقًا وطفنا وانتصفنا ممن غلظ علينا، خرجه في الصفوة.
وعن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا.
ذكر أن ذلك كله إنما كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدم في ذكر بدء إسلامه, وفي الذكر قبله طرف منه.
عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الدين بأحب الرجلين

(2/284)


إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام" فكان أحبهما إلى الله عمر، خرجه أحمد والترمذي وصححه أبو حاتم.
وعن علي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب" خرجه ابن السمان في الموافقة.
وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصةً" أخرجه أبو حاتم، ولا تضاد بينهما لجواز أن يكون تكرر الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- فخص عمر مرة, وأشرك معه غيره أخرى. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر" خرجه الفضائلي.
ذكر استبشار أهل السماء بإسلام عمر:
عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر, أتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد "لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر" خرجه أبو حاتم والدارقطني والخلعي والبغوي. وفي طريق غريب بعد قوله: "بإسلام عمر" قلت: وكيف لا يكون ذلك كذلك ولم تصعد إلى السماء للمسلمين صلاة ظاهرة ولا نسك ولا معروف إلا بعد إسلامه حيث قال: والله لا يعبد الله سرا بعد هذا اليوم.
ذكر أنه بإسلامه كان مكملًا عدة أربعين:
عن ابن عباس قال: أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة وثلاثون رجلًا، ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين رجلًا, فنزل جبريل -عليه السلام- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} 1. خرجه القلعي والواحدي, وقال أبو عمر: روي أنه أسلم بعد أربعين رجلًا, وإحدى عشرة امرأة.
__________
1 سورة الأنفال الآية: 64.

(2/285)