الرياض النضرة
في مناقب العشرة الفصل التاسع: في ذكر نبذة من فضائله -رضي
الله تعالى عنه-
قال أهل العلم بالسير: كان عمر بن الخطاب من المهاجرين
الأولين ممن صلى إلى القبلتين, وشهد بدرًا والحديبية وبيعة
الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ولما أسلم أعز الله به الإسلام وهاجر علانية كما تقدم،
وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنه راضٍ وبشره
بالجنة، وأخبره أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وأن
رضاه وغضبه عدل، وأن الشيطان يفر منه، وأن الله -عز وجل-
أعز به الدين واستبشر أهل السماء بإسلامه وسماه عبقريا
ومحدثا وسراج أهل الجنة، ودعاه صاحب رحى دارة العرب يعيش
حميدًا، ويموت شهيدًا، وأنه رجل لا يحب الباطل ولو كان
بعده نبي لكان عمر، وهو أول من كتب التاريخ للمسلمين من
الهجرة، وأول من حض
(2/313)
على جمع القرآن، وأول من جمع الناس على
قيام رمضان، وأول من عس في عمله، وحمل الدرة1 وأدب بها،
ووضع الخراج ومصّر الأمصار واستقضى القضاة، ودوّن الدواوين
وفرض الأعطية، وحج بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في
آخر حجة حجها، وأول من سمي بأمير المؤمنين للسبب المتقدم
في الخصائص، وفتح الله على يديه في سني خلافته دمشق ثم
الروم ثم القادسية حتى انتهى الفتح إلى حمص وجلولاء والرقة
والرها وحران ورأس العين والخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس
وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبيسان واليرموك والجابية
والأهواز وقيسارية ومصر وتستر ونهاوند والري وما يليها،
وأصفهان وبلد فارس وإصطخر وهمدان والنوبة والبربر والبرلس،
وحج بالناس عشر حجج متوالية، ثم صدر إلى المدينة فقتله أبو
لؤلؤة, فيروى على ما سيأتي في فصل مقتله.
ذكر جميع ذلك ابن قتيبة وأبو عمر وصاحب الصفوة، كل خرج
طائفة. قال بعضهم: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج، وكان
يخافه ملوك فارس والروم وغيرهم، ولما ولي بقي على حاله كما
كان قبل الولاية في لباسه وزيه، وأفعاله وتواضعه، يسير
مفردًا في حضره وسفره من غير حرس ولا حجاب, لم يغيره الأمر
ولم تبطره النعمة ولا استطال على مؤمن بلسانه، ولا حابى
أحدًا في الحق لمنزلته، لا يطمع الشريف في حيفه ولا ييأس
الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم، ونزل نفسه من
مال الله منزلة رجل من المسلمين وجعل فرضه كفرض رجل من
المهاجرين, خرجه القلعي.
وكان يقول: إنما أنا ومالكم كوالي مال اليتيم، إن استغنيت
استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فقيل له: ما ذلك
المعروف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا تقوم البهيمة
الأعرابية إلا بالقضم لا الخصم،
__________
1 العصا.
(2/314)
والقضم: الأكل بأطراف الأسنان، تقول: قضمت
الدابة شعيرها بالكسر تقضمه قضمًا، والخصم: الأكل بجميع
الفم, فكأنه أشار إلى الاكتفاء بالقليل الذي لا بد للحيوان
منه ولا يتعداه، قال ابن شهاب وغيره من أهل العلم: أول ما
ابتدأ به عمر من أمره حين جلس على المنبر أنه جلس حيث كان
أبو بكر يضع قدميه وهو أول درجة ووضع قدميه على الأرض،
فقالوا: لو جلست حيث كان أبو بكر يجلس، قال: حسبي أن يكون
مجلسي حيث كانت تكون قدما أبي بكر، قالوا: وهاب الناس عمر
هيبة عظيمة حتى ترك الناس المجالس بالأفنية قالوا: ننتظر
ما رأى عمر، وقالوا: بلغ من أبي بكر أن الصبيان كانوا إذا
رأوه يسعون إليه ويقولون: يا أبت فيمسح رءوسهم، وبلغ من
هيبة عمر أن الرجال تفرقوا من المجالس هيبة حتى ينتظروا ما
يكون من أمره، قالوا: فلما بلغ عمر أن الناس أهابوه فصيح
في الناس: "الصلاة جامعة" فحضروا ثم جلس من المنبر حيث كان
أبو بكر يضع قدميه، فلما اجتمعوا قام قائمًا فحمد الله
وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي -صلى الله عليه
وسلم- ثم قال: بلغني أن الناس قد هابوا شدتي وخافوا غلظتي
وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه,
فكيف إذا صارت الأمور إليه? ومن قال ذلك فقد صدق، قد كنت
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت عبده وخادمه، وكان
ممن لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة وقد سماه الله
بذلك, ووهب له اسمين من أسمائه: "رءوف رحيم" فكنت سيفًا
مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، حتى قبض رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وهو عني راضٍ, والحمد لله وأنا أسعد
بذلك، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر فكان ممن لا ينكرون
دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه
فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل
معه كذلك حتى قبض وهو عني راض, والحمد لله وأنا أسعد بذلك،
ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس, واعلموا أن هذه الشدة
قد أضعفت ولكنها
(2/315)
إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على
المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والفضل فأنا ألين لهم
من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه،
حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن
بالحق، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها،
لكم علي أن لا أخبأ شيئًا من خراجكم مما أفاء الله عليكم
إلا من وجهه, ولكم علي إذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه،
ولكم علي أن أرد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، ولكم
علي أن لا ألقيكم في المهالك، وإذا رغبتم في البعوث فأنا
أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله
لي ولكم.
قال سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: فوفى -والله-
عمر وزاد الشدة في مواضعها واللين في مواضعه، وكان أبا
العيال حتى إن كان ليمشي إلى المغيبات فيسلم على أبوابهن
ثم يقول: أليكن آذاكن أحد? أتردن أشتري لكُنّ شيئًا من
السوق، فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن معه
بجواريهن، فيدخل السوق وإن وراءه من جواري الناس وغلمانهم
ما لا يحصى فيشتري لهم حوائجهم، ومن كان ليس عندها منهن
شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض البعوث
يتبعهن هو بنفسه بكتب أزواجهن ويقول لهن: إن أزواجكن في
سبيل الله وأنتم في بلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إن كان عندكن من يقرأ وإلا فأدنين من الباب حتى أقرأ لكن،
ثم يقول: رسولنا يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن
ثم يدور عليهن بالقراطيس والدوي, فمن كتب منهن أخذ كتابها،
ومن لم تكتب قال: هذا قرطاس ودواة، ادني من الباب فأملي
علي فيمر على كذا وكذا بابًا فيكتب لأهله ثم يبعث بكتبهن،
وإذا كان في سفر نادى الناس في المنزل عند الرحيل: ارحلوا
أيها الناس، فيقول القائل: أيها الناس, هذا أمير المؤمنين
قد ناداكم فقوموا فاسقوا وارحلوا, ثم ينادي الثانية
الرحيل، فيقول الناس: اركبوا فقد نادى أمير المؤمنين
(2/316)
الثانية، فإذا استقلوا قاموا فرحل بعيره
وعليه غرارتان إحداهما فيها سويق والأخرى فيها تمر، وبين
يديه قربة فيها ماء وخلفه جفنة كلما نزل جعل في الجفنة من
السويق وصب عليه من الماء وبسط شناره، قال: والشنار مثل
النطع الصغير، من جاء يخاصم أو يستقي أو يطلب حاجة قال له:
كل من هذا السويق والتمر، ثم يرحل فيأتي المكان الذي رحل
الناس منه فإن وجد متاعًا ساقطًا أخذه وإن وجد أحدًا به
عرجة أو عرض لدابته أو بعيره تكارى له وساق به، فيتبع آثار
الناس كذلك، فما سقط من متاع أخذه وما أصابته عرجة تخلف
عليه, فإذا أصبح الناس في المساء من الغد لم يفقد أحد
متاعًا له سقط منه إلا قال: حتى يأتي أمير المؤمنين، فيطلع
عمر وإن جمله مثل المشجب مما عليه من المتاع، فيأتي هذا
فيقول: يا أمير المؤمنين أدواتي، فيقول: وهل يغفل الرجل
الحليم عن أدواته التي يشرب فيها, ويتوضأ للصلاة منها?
أوكل ساعة أبصر ما يسقط؟ أوكل ليلة أكلأ عيني من النوم؟ ثم
يرفع إليه أدواته ويقول: قوسي، وهذا رشاي، أو ما وقع منهم
فيعنفهم، ثم يدفع ذلك إليهم.
ولما بلغ الشام تلقوه ببرذون وثياب بيض، فكلموه أن يركب
البرذون ليراه العدو ليكون ذلك أهيب له عندهم، ويلبس
البياض ويطرح الفرو الذي عليه فأبى، ثم ألحوا عليه فركب
البرذون بفروه وثيابه، فهملج به البرذون وخطا له ناقته بعد
في يده، فنزل وركب راحلته وقال: لقد غير بي هذا حتى خفت أن
أنكر نفسي، ذكر ذلك كله أبو حذيفة إسحاق بن بشر في فتوح
الشام، وخرج ابن بشران خطبته إلى آخرها وجلوسه على المنبر
فقط.
ذكر كثرة فضائله وما له عند الله تعالى, وبكاء الإسلام على
موته:
عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: "جاءني
(2/317)
جبريل فقلت له: أخبرني عن فضائل عمر وماذا
له عند الله تعالى؟ قال لي: لو جلست معك قدر ما لبث نوح في
قومه لم أستطع أن أخبرك بفضائل عمر وما له عند الله -عز
وجل- ثم قال: يا محمد ليبكين الإسلام من بعد موتك على موت
عمر بن الخطاب" خرجه أبو سعد في شرف النبوة, وتمام في
فوائده.
وقد تقدم في باب الشيخين من حديث الحسن بن عرفة العبدي،
ولم يذكر بكاء الإسلام على موته، ثم قال: وإن عمر حسنة من
حسنات أبي بكر.
ذكر وصف جبريل إياه بأخوة النبي -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما
أنا جالس في مسجدي أتحدث مع جبريل إذ دخل عمر بن الخطاب
فقال جبريل: أليس هذا أخاك عمر بن الخطاب? فقلت: بلى يا
أخي" أخرجه في الفضائل، وقد تقدم مستوفيًا في فصل اسمه،
وسيأتي وصفه بذلك من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بيا
أخي.
ذكر ما أعد الله له من الكرامة بسبب عز الإسلام به:
عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينادي
مناد يوم القيامة: أين الفاروق؟ فيؤتى به فيقول الله:
مرحبًا بك يا أبا حفص، هذا كتابك إن شئت فاقرأه وإن شئت
فلا، فقد غفرت لك، ويقول الإسلام: يا رب هذا عمر, أعزني في
دار الدنيا فأعزه في عرصات القيامة، فعند ذلك يحمل على
ناقة من نور ثم يكسى حلتين لو نشرت إحداهما لغطت الخلائق،
ثم يسير في يديه سبعون ألف لواء، ثم ينادي مناد: يا أهل
الموقف, هذا عمر فاعرفوه" خرجه في الفضائل.
(2/318)
ذكر نعته في كتب أهل الكتاب:
عن كعب الأحبار أنه لقي عمر بالشام فقال له: إنه مكتوب في
هذه الكتب: إن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها
مفتوحة على يد رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين شديد على
الكافرين, سره مثل علانيته، قوله لا يخالف فعله، القريب
والبعيد سواء عنده في الحكم، أتباعه رهبان بالليل وأسد
بالنهار, متراحمون متواصلون.
قال عمر: أحق ما تقول? فقلت: إي1 والذي يسمع ما أقول،
فقال: الحمد لله الذي أعزنا وكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا
محمد, ورحمته التي وسعت كل شيء.
ذكر إثبات فضيلته بالمصاهرة:
تقدم في باب ما دون العشرة أن مصاهرته -صلى الله عليه
وسلم- موجبة لدخول الجنة مانعة من دخول النار، وعن عمر
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل نسب وصهر
منقطع إلا نسبي وصهري" خرجه تمام.
وقد تقدم في فضائل أبي بكر، وسيأتي كيفية تزويج النبي -صلى
الله عليه وسلم- ابنته في باب مناقبها من كتاب مناقب أمهات
المؤمنين.
ذكر الحث على محبته:
عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب
عمر، عمر قلبه بالإيمان" خرجه في فضائله.
ذكر سؤاله النبي -صلى الله عليه وسلم- والدعاء له:
عن عمر أنه استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في العمرة
فأذن له وقال: "يا أخي, لا تنسنا من دعائك" وفي لفظ: "يا
أخي أشركنا في دعائك" قال: ما
__________
1 نعم.
(2/319)
أحب أن يكون لي بها ما طلعت عليه الشمس
لقوله: "يا أخي" خرجه أحمد والحافظ السلفي وصاحب الصفوة،
وخرجه ابن حرب الطائي ولفظه: "أشركنا في صالح دعائك ولا
تنسنا".
ذكر إحالته -صلى الله عليه وسلم- من سأله في منامه الدعاء
عليه:
عن أنس بن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر, فجاء رجل
إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله
استسقِ لأمتك فإنهم قد هلكوا، قال: فأتاه رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في المنام وقال: "ائت عمر فمره أن يستسقي
للناس فإنهم سيسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس" فأتى الرجل
عمر فأخبره فبكى عمر وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه،
خرجه البغوي في الفضائل وأبو عمر.
ذكر أن الله يغضب لغضبه:
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "اتقوا غضب عمر؛ فإن الله يغضب لغضبه" خرجه الملاء
في سيرته وصاحب النزهة. وفي رواية: "لا تغضبوا عمر؛ فإن
الله يغضب إذا غضب" خرجهما أبو الحسين بن أحمد البناء
الفقيه.
ذكر أن غضبه عسر:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"أتاني جبريل فقال: أقرئ عمر من ربه السلام, وأعلمه أن
رضاه حكم وغضبه عسر" خرجه الحافظ أبو سعيد النقاش والملاء
وخرج المخلص معناه.
ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره له بالشهادة
ودعائه -صلى الله عليه وسلم- بها, وتمني عمر ذلك لنفسه:
تقدم في ذكر أحاديث "اثبت حرا" في باب ما دون العشرة و
"اثبت أحد"
(2/320)
و "اسكن ثبير" في باب الثلاثة وحديث ابن
عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "وصاحب رحى دارة العرب
يعيش حميدًا ويموت شهيدًا" قالوا: من هو? قال: "عمر بن
الخطاب". وتقدم أيضًا في باب الثلاثة من حديث الصوفي عن
يحيى بن معين، وخرج منه أبو بكر بن الضحاك بن مخلد قصة عمر
لا غير بلفظها، وحديث رخؤ بن بردة: "خليفة مستخلف, وشهيد
مستشهد" تقدم في خصائصه.
وعن ابن عمر قال: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر
ثوبًا أبيض فقال: "أجديد قميصك أم غسيل?" فقال: بل جديد,
فقال صلى الله عليه وسلم: "البس جديدًا وعش حميدًا ومت
شهيدًا".
قال عبد الرزاق: وزاد فيه الثوري عن إسماعيل بن أبي مخلد:
"ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والآخرة" خرجه أبو حاتم.
وعن كعب أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين إني أجدك في
التوراة كذا وأجدك تقتل شهيدًا، فقال: وأنى لي بالشهادة
وأنا في جزيرة العرب?
وعن عمر وقد قرأ يومًا على المنبر: {جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا} ثم قال: هل تدرون ما جنات عدن? قصر في
الجنة له خمسة آلاف باب, على كل باب عشرون ألفًا من الحور
العين, لا يدخله إلا نبي، وهنيئًا لصاحب القبر وأشار إلى
قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو صديق وأشار إلى أبي
بكر, أو شهيد وإني لعمر بالشهادة، ثم قال: إن الذي أخرجني
من حنتمة بنت هشام بن المغيرة أخت أبي جهل قادر أن يوقها.
قال ابن مسعود: فساقها الله على يدي شر خلقه، مجوسي عبد
مملوك للمغيرة بن شعبة، هكذا قيد في هذا الحديث هشام بن
المغيرة ثم أكد بأخت أبي جهل، وهو حجة لمن قال، إلا أن
الصحيح في ذلك أنها ابنة هشام بن المغيرة.
(2/321)
وقد تقدم ذكر ذلك في نسبه، ويكون أطلق
عليها أخت أبي جهل لأنها في درجة الأخت، وإنما هي ابنة
عمه.
ذكر علمه وفهمه:
تقدم في خصائصه حديث إشارته على أبي بكر بجمع القرآن مما
يدل على غزارة علمه وحسن نظره، وحديث ابن عمر في رؤيا
النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب اللبن وإعطاء فضله عمر
وتأويل ذلك بالعلم، وحديث ابن مسعود: "لو وضع عمر في كفة
وعلم أهل الأرض في كفة, لرجح علم عمر" وكلاهما دليل على
غزارة علمه، وعنه أنه قال لزيد بن وهب: اقرأ بما أقرأكه
عمر، إن عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله، خرجه
علي بن حرب الطائي.
وعن خالد الأسدي قال: صحبت عمر, فما رأيت أحدًا أفقه في
دين الله ولا أعلم بكتاب الله ولا أحسن مدارسة منه، وعنه
قال: إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهبت يوم ذهب عمر.
وعنه قال: كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله
وأتقانا لله، والله إن أهل بيت من المسلمين لم يدخل عليهم
حزن على عمر حين أصيب لأهل بيت سوء، خرجهن في فضائله.
وعن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر بن الخطاب: إنكم
لتقرءون آية في كتابكم لو علينا أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم
عيدًا، قال: وما هي? قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} قال عمر: فإني أعلم أي وقت
نزلت وأي موضع نزلت، نزلت عشية عرفة ونحن وقوف بها يوم
جمعة، أخرجاه.
وعنه قال: جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر
يسألونه الصلح, فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية،
فقالوا: هذه المجلية
(2/322)
قد عرفناها، فما المخزية? قال: تنزع منكم
الحلقة والكراع, ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما
أصبتم منا, وتدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار, وتتركون
أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله -صلى
الله عليه وسلم- والمهاجرين أمرًا يعذرونكم، فعرض أبو بكر
ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا
وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية
فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون
ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا
وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قتلت على أمر الله
أجورها على الله ليس لها ديات، فتبايع القوم على ما قال
عمر، خرجه الحميدي بهذا السياق عن البرقاني على شرط الصحيح
وهو للبخاري مختصر.
وعن أبي العالية قال: قال عمر: تعلموا القرآن خمس آيات خمس
آيات؛ فإن جبريل نزل به على محمد -صلى الله عليه وسلم- خمس
آيات خمس آيات، خرجه المخلص الذهبي.
وعن عاصم بن عمر عن عمر أنه قال: لا يحرص على الإمارة أحد
كل الحرص فيعدل فيها، خرجه أبو معاوية. وسئل محمد بن جرير
الطبري فقيل له: العباس بن عبد المطلب مع جلالته وقربه من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنزلته لم يدخله عمر مع
الستة في الشورى، فقال: إنه إنما جعلها في أهل السبق مع
البدريين، والعباس لم يكن مهاجرًا ولا سابقًا ولا بدريًّا،
وإن عمر لم يكن يفتات عليه في عمله.
وعن مجاهد: سئل عمر عن رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها
أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فقال: الذين
يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُولَئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} خرجه ابن ناصر السلامي
الحافظ.
(2/323)
ذكر تلطفه في استنباط الحكم:
تقدم في هذا طرف في الموافقة الخامسة من الخصائص، وعن أبي
قتادة قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا
رسول الله كيف تصوم? قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فلما رأى ذلك عمر بن الخطاب قال: رضينا بالله ربًّا،
وبالإسلام دينًا, وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا،
نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، قال: فجعل عمر يردد
ذلك حتى سكن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غضبه، ثم قال
عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله? قال: "لا صام
ولا أفطر" أي: لم يصم ولم يفطر, قال: يا رسول الله, كيف
بمن يصوم يومين ويفطر يومًا? قال: "أويطيق ذلك أحد?" قال:
فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذلك صوم داود"
قال: فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين? قال: "وددت أني
أطيق ذلك" ثم قال: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا
صيام الدهر كله، وصيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن
يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله، وصيام يوم عاشوراء
إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" خرجه مسلم
والترمذي والنسائي.
ذكر فراسته:
عن علي قال: كنا نقول: إن ملكًا ينطق على لسان عمر, خرجه
الملاء في سيرته.
وعن ابن عمر أنه كان إذا ذكر عمر قال: لله تلاد عمر، لقل
ما رأيته يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان, خرجه الجوهري. وعنه
قال: ما سمعت عمر يقول لشيء: إني لأظنه كذا إلا كان كما
يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ
ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم،
علي بالرجل فدعي له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو إنك على
دينك في الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت
(2/324)
كاليوم يستقبل به رجل مسلم، فقال: أعزم
عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال:
فما أعجب ما جاءتك به جنيتك? قال: بينما أنا يومًا في
السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها
وبأسها من بعد أساسها ولحوقها بالقلاص أحلاسها؟ قال عمر:
صدق, فبينما أنا نائم عند آلهتهم إذ أتى رجل بعجل فذبحه
فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا
جليح أمر نجيح فصيح يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم،
قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر
نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن
قيل: هذا نبي، خرجه البخاري.
وعن عبد الله بن مسلمة قال: دخلنا على عمر معشر وفد مذحج
وكنت من أقربهم منه مجلسًا، فجعل عمر ينظر إلى الأشتر
ويصوب فيه نظره، ثم قال: أمنكم هذا? فقلت: نعم قال: قاتله
الله وكفى الله أمته شره، والله إني لأحسب منه للمسلمين
يومًا عصيبًا، قال: فكان ذلك منه بعد عشرين سنة, خرجه
الملاء في سيرته.
وفي رواية عند غيره: أن عمر كان في المسجد ومعه ناس إذ مر
رجل فقيل له: أتعرف هذا? فقال: قد بلغني أن رجلًا أتاه
الله -عز وجل- بظهر الغيب بظهور النبي -صلى الله عليه
وسلم- اسمه سواد بن قارب، وإني لم أره وإن كان حيا فهو
هذا، وله في قومه شرف وموضع، فدعا الرجل فقال له عمر: أنت
سواد بن قارب الذي أتاه الله بظهر الغيب بظهور رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ولك في قومك شرف ومنزلة? فقال: نعم
يا أمير المؤمنين, قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟
فغضب الرجل غضبًا شديدًا وقال: يا أمير المؤمنين والله ما
استقبلني بها أحد منذ أسلمت، قال عمر: سبحان الله! ما كنا
عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني عما
كان يأتيك به ربك بظهور النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:
نعم يا أمير المؤمنين! بينما أنا ذات ليلة
(2/325)
بين النائم واليقظان إذ أتاني جني فضربني
برجله وقال: قم يا سواد بن قارب وافهم إن كنت تفهم, واعقل
إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله
وإلى عبادته, ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بغيتك إلى رأسها
ثم أتاني في ليلة ثانية وثالثة يقول لي مثل قوله الأول
وينشدني أبياتًا، فوقع في نفسي حب الإسلام ورغبت فيه، فلما
أصبحت شددت على راحلتي فركبتها وانطلقت متوجهًا إلى مكة
فأخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هاجر إلى
المدينة، فقدمت المدينة فسألت عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقيل لي: في المسجد، فعقلت ناقتي، فقال: "ادن" فلم
يزل يدنيني حتى قمت بين يديه، فقال: "هات" فقصصت هذه القصة
وأسلمت، ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتي
وأصحابه، حتى رئي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر
والتزمه وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا الحديث منك,
فأخبرني عن رئيك هل يأتيك اليوم? قال: أما منذ قرأت القرآن
فلم يأتني، ونعم العوض كتاب الله، خرجه في فضائله.
ذكر كراماته ومكاشفاته:
عن عمر بن الحارث قال: بينا عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك
الخطبة ونادى: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثًا، ثم أقبل
على خطبته، فقال ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: إنه لمجنون، ترك خطبته ونادى: يا سارية الجبل، فدخل
عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يبسط عليه فقال: يا أمير
المؤمنين, تجعل للناس عليك مقالًا، بينما أنت في خطبتك إذ
ناديت: يا سارية الجبل أي شيء هذا? فقال: والله ما ملكت
ذلك حين رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤتون منه من
بين أيديهم ومن خلفهم
(2/326)
فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل ليلحقوا
بالجبل، فلم تمض أيام حتى جاء رسول سارية بكتابه: إن القوم
لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصبح إلى أن
حضرت الجمعة، وذر حاجب الشمس فسمعنا صوت مناد ينادي الجبل
مرتين فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم
الله تعالى.
ويروى أن مصر لما فتحت, أتى أهلها عمرو بن العاص وقالوا
له: إن هذا النيل يحتاج في كل سنة إلى جارية بكر من أحسن
الجواري فنلقيها فيه وإلا فلا يجري, وتخرب البلاد وتقحط،
فبعث عمرو إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بالخبر, فبعث إلى
عمرو: "الإسلام يجب ما قبله" ثم بعث إليه بطاقة قال فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، إلى نيل مصر من عبد الله عمر بن
الخطاب, أما بعد فإن كنت تجري بنفسك فلا حاجة بنا إليك،
وإن كنت تجري بالله فاجر على اسم الله" وأمره أن يلقيها في
النيل فجرى في تلك الليلة ستة عشر ذراعًا، وزاد على كل سنة
ستة أذرع.
وفي رواية: فلما ألقي كتابه في النيل جرى ولم يعد يقف،
خرجهما الملاء في سيرته.
وعن خوات بن جبير قال: أصاب الناس قحط شديد على عهد عمر
فأمرهم بالخروج إلى الاستسقاء, فصلى بهم ركعتين وخالف بين
طرف ردائه، فجعل اليمين على اليسار واليسار على اليمين ثم
بسط يديه وقال: اللهم إنا نستغفرك ونستقبلك، فما برح حتى
مطروا، فبينما هم كذلك إذ قدم الأعراب فأتوا عمر فقالوا:
يا أمير المؤمنين, بينا نحن في بوادينا في يوم كذا في ساعة
كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا فيها صوتًا وهو يقول: أتاك
الغوث أبا حفص, أتاك الغوث أبا حفص.
وروي أنه عسّ ليلة من الليالي فأتى على امرأة وهي تقول
لابنتها: قومي اللبن، فقالت: لا تفعلي، فإن أمير المؤمنين
نهى عن ذلك، قالت: ومن
(2/327)
أين يدري هو? فقالت: فإن لم يعلم هو فإن رب
أمير المؤمنين يرى ذلك، فلما أصبح عمر قال لابنه عاصم:
اذهب إلى مكان كذا وكذا فإن هناك صبية, فإن لم تكن مشغولة
فتزوج بها لعل الله أن يرزقك منها نسمة مباركة، فتزوج عاصم
بتلك البنية فولدت له أم عاصم بنت عمر، فتزوجها عبد العزيز
بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه.
ولما دخل أبو مسلم الخولاني المدينة من اليمن وكان الأسود
بن قيس الذي ادعى النبوة باليمن عرض عليه أن يشهد أنه رسول
الله فأبى، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله? قال: نعم
قال: فأمر بتأجيج نار عظيمة وألقي فيها أبو مسلم فلم تضره،
فأمر بنفيه من بلاده فقدم المدينة، فلما دخل من باب المسجد
قال عمر: هذا صاحبكم الذي زعم الأسود الكذاب أنه يحرقه
فنجاه الله منها، ولم يكن القوم ولا عمر سمعوا قضيته ولا
رأوه، ثم قام إليه واعتنقه وقال: ألست عبد الله بن ثوب?
قال: بلى, فبكى عمر ثم قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى
أراني في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- شبهًا بإبراهيم
الخليل -عليه السلام، خرجهن في فضائله، وخرج معنى الأخير
بلفظ أوعب من هذا أبو حاتم.
وروي عن عمر أنه أبصر أعرابيًّا نازلًا من جبل فقال: هذا
رجل مصاب بولده قد نظم فيه شعرًا لو شاء لأسمعكم، ثم قال:
يا أعرابي من أين أقبلت? فقال: من أعلى هذا الجبل، قال:
وما صنعت فيه? قال: أودعته وديعة لي، قال: وما وديعتك?
قال: بني لي هلك قذفته فيه، قال: فأسمعنا مرثيتك فيه فقال:
وما يدريك يا أمير المؤمنين? والله ما تفوهت بذلك، وإنما
حدثت به نفسي، ثم أنشد:
يا غائبًا ما يئوب منه سفره ... عاجله موته على صغره
يا قرة العين كنت لي أنسا ... في طول ليلي نعم وفي قصره
(2/328)
ما تقع العين حينما وقعت ... في الحي مني
إلا على أثره
شربت كأسًا أبوك شاربه ... لا بد منه له على كبره
يشربها والأنام كلهم من كا ... ن في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له ... في حكمه كان ذا وفي قدره
قدر موتًا على العباد فما ... يقدر خلق يزيد في عمره
قال: فبكى عمر حتى بل لحيته, ثم قال: صدقت يا أعرابي.
وعن ابن عباس قال: تنفس عمر ذات يوم تنفسًا ظننت أن نفسه
خرجت فقلت: والله ما أخرج هذا منكإلا هم، قال: هم! والله
هم شديد، إن هذا الأمر لم أجد له موضعًا -يعني الخلافة-
فذكرت له علياوطلحة والزبير وعثمان وسعدًا وعبد الرحمن بن
عوف، فذكر في كل واحد منهم معارضًا، وكان مما ذكر في عثمان
أنه كلف بأقاربه، قال: لو استعملته استعمل بني أمية
أجمعين، وحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت
لفعل، والله لو فعل ذلك لسارت إليه العرب حتى تقتله، والله
لو فعلت لفعل، والله لو فعل لفعلوا، خرجه في فضائله.
وروي أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو
بالقادسية يقول له: وجه نضلة بن معاوية الأنصاري إلى حلوان
العراق ليغزو على ضواحيها, فبعث سعد نضلة في ثلاثمائة فارس
فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق, فأغار على ضواحيها وأصابوا
غنمًا وسبيًا، فأقبلوا يسوقونها حتى أرهقهم العصر وكادت
الشمس تغرب, فألجأ نضلة السبي والغنيمة إلى سفح الجبل، ثم
قام فأذن فقال: الله أكبر الله أكبر، فإذا مجيب من الجبل
يجيبه: كبرت كبيرًا يا نضلة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا
الله، قال: كلمة الإخلاص يا نضلة، ثم قال: أشهد أن محمدًا
رسول الله، قال: هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم وعلى رأس
أمته تقوم الساعة، فقال: حي على الصلاة، فقال: طوبى لمن
مشى إليها وواظب عليها، قال: حي على
(2/329)
الفلاح، قال: أفلح من أجاب, قال: الله أكبر
الله أكبر, لا إله إلا الله، قال: أخلصت الإخلاص كله يا
نضلة, حرم الله بها جسدك على النار.
فلما فرغ من أذانه قاموا فقالوا: من أنت يرحمك الله? ملك
أنت أم من الجن أم طائف من عباد الله قد أسمعتنا صوتك
فأرنا صورتك؟ فإن الوفد وفد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ووفد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: فانفلق
الجبل عن هامة كالرحى، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من
صوف، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالوا: وعليك
السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت يرحمك الله? قال: زريت
بن برثملا، وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم، أسكنني هذا
الجبل ودعا لي بطول البقاء إلىحين نزوله من السماء،
فأقرئوا عمر مني السلام وقولوا: يا عمر سدد وقارب فقد دنا
الأمر، وأخبروه بهذا الخصال التي أخبركم بها:
يا عمر: إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد فالهرب الهرب:
"إذا استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى
غير مناسبهم وانتموا إلى غير مواليهم, ولم يرحم صغيرهم
كبيرهم, وترك المعروف ولم يؤمر به وترك المنكر فلم ينه
عنه، ويتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدنانير والدراهم،
وكان المطر فيضًا والولد غيضًا، وطولوا المنارات، وفضّضوا
المصاحف، وزخرفوا المساجد، وأظهروا الرشا، وشيدوا البناء,
واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام، وبيع
الحكم، وأكل الربا، وصار الغنى عزًّا، وخرج الرجل من بيته
فقام إليه من هو خير منه فسلموا عليه، وركب النساء السروج"
ثم غاب عنهم فلم يروه، فكتب نضلة بذلك إلى سعد وكتب سعد
بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: سر أنت ومن معك من المهاجرين
والأنصار حتى تنزلوا بهذا الجبل، فإن لقيته فأقرئه مني
السلام، فخرج سعد في أربعة آلاف من المهاجرين والأنصار حتى
نزلوا ذلك الجبل، ومكث أربعين يومًا ينادي بالصلاة فلا
(2/330)
يجدون جوابًا ولا يسمعون خطابًا، خرجه في
فضائله.
وروي أن عمر بعث جندًا إلى مدائن كسرى وأمّر عليهم سعد بن
أبي وقاص وجعل قائد الجيش خالد بن الوليد، فلما بلغوا شط
الدجلة ولم يجدوا سفينة تقدم سعد وخالد فقالا: يا بحر إنك
تجري بأمر الله, فبحرمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعدل
عمر خليفة رسول الله إلا خليتنا والعبور، فعبر الجيش بخيله
وجماله إلى المدائن ولم تبتل حوافرها. وروي أنه قال يومًا
وقد انتبه من نومه وهو يمسح عينيه: من ترى الذي يكون من
ولد عمر يسير بسيرة عمر, يرددها مرارًا وأشار بذلك إلى عمر
بن عبد العزيز وهو ابن بنت ابنه عاصم.
وروي أنه قال لرجل من العرب: ما اسمك? قال: جمرة، قال: ابن
من? قال: ابن شهاب، قال: ممن? قال: من الحرقة، قال: أين
مسكنك؟ قال: الحرة، قال: فبأيها? قال: اللظى، قال عمر:
أدرك أهلك فقد احترقوا، فسارع الرجل فوجدهم كما قال عمر.
وعن علي -رضي الله عنه- أنه رأى في منامه كأنه صلى الصبح
خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- واستند رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إلى المحراب، فجاءت جارية بطبق رطب فوضع
بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ منها رطبة
وقال: "يا علي, تأخذ هذه الرطبة?" فقلت: نعم يا رسول الله،
فمد يده وجعله كذا في فمي، ثم أخذ أخرى وقال لي مثل ذلك
فقلت: نعم فجعلها في فمي، فانتبهت وفي قلبي شوق إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وحلاوة الرطب في فمي، فتوضأت
وذهبت إلى المسجد فصليت خلف عمر واستند إلى المحراب، فأردت
أن أتكلم بالرؤيا فمن قبل أن أتكلم جاءت امرأة ووقفت على
باب المسجد ومعها طبق رطب فوضع بين يدي عمر فأخذ رطبة,
وقال: تأكل من هذا يا علي? قلت: نعم، فجعلها في فمي, ثم
أخذ أخرى وقال لي مثل ذلك فقلت: نعم، ثم أخذ أخرى كذلك ثم
فرق على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
(2/331)
يمنة ويسرة وكنت أشتهي منه، فقال: يا أخي,
لو زادك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلتك لزدناك،
فعجبت وقلت: قد أطلعه الله على ما رأيت البارحة، فنظر
وقال: يا علي المؤمن ينظر بنور الله، قلت: صدقت يا أمير
المؤمنين هكذا رأيته، وكذا رأيت طعمه ولذته من يدك كما
وجدت طعمه ولذته من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ذكر رؤياه في الأذان:
عن عبد الله بن زيد قال: لما أجمع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أن يضرب بالناقوس وهو كارهموافقة النصارى, طاف
بي من الليل وأنا نائم رجل وعليه ثوبان أخضران وفي يده
ناقوس يحمله، قال: فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس?
قال: وما تصنع به? قال: قلت: أدعو به إلى الصلاة، قال:
أولا أدلك على خير من ذلك? فقلت: بلى؛ قال: تقول: الله
أكبر الله أكبر وسرد الأذان إلى آخره، ولم يرجع التشهد
فيه، قال: ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر الله
أكبر وسرد الإقامة إلى آخرها، قال: فلما أصبحت أتيت النبي
-صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما رأيت فقال صلى الله عليه
وسلم: "إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال
فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتًا منك" فقمت مع بلال
فجعلت ألقيه عليه فسمع ذلك عمر وهو في بيته، فخرج يجر
رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق, لقد رأيت مثل الذي رأيت،
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد". خرجه أحمد
وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن إسحاق.
ذكر حسن نظره, وإصابة رأيه:
تقدم في أحاديث الموافقات في خصائصه أعظم دليل على ذلك،
وتقدم في ذكر علمه أحاديث ممزوجة بعلم ورأي استند إليه؛
فلذلك ضمناه إياها.
وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال: حدثني أبي قال:
كنا
(2/332)
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة
غزاها فأصاب الناس مخمصة فاستأذن الناس رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في نحر بعض ظهورهم، فهم رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أن يأذن لهم, فقال عمر بن الخطاب: أرأيت
يا رسول الله إذا نحرنا ظهورنا ثم لقينا عدونا غدًا, ونحن
جياع رجال? قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما ترى
يا عمر؟ " قال: أرى أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم ثم تدعو
فيها بالبركة، فإن الله -عز وجل- سيطعمنا بدعوتك إن شاء
الله تعالى, قال: فكأنما كان على رسول الله غطاء فكشف،
قال: فدعا بثوب ثم أمر به فبسط، ثم دعا بالناس ببقايا
زادهم قال: فجاءوا بما كان عندهم قال: من الناس من جاء
بالحفنة من الطعام أو الحثية، ومنهم من جاء بمثل البيضة
قال: فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع على ذلك
الثوب، ثم دعا فيه بالبركة ثم تكلم بما شاء الله -عز وجل-
ثم نادى في الجيش ثم أمرهم فأكلوا وأطعموا وملئوا بنيتهم
ومزاودهم, ثم دعا بركوة فوضعت بين يديه ثم دعا بشيء من ماء
فصب فيها ثم مج فيها وتكلم بما شاء الله أن يتكلم به وأدخل
كفيه فيها، فأقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- تتفجر بينابيع الماء, ثم أمر الناس فشربوا
وملئوا قربهم وأدواتهم قال: ثم ضحك رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حتى بدت نواجذه ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا
يلقى الله بها أحد إلا دخل الجنة" متفق على صحته، وهذا
السياق لتمام في فوائده.
وعن ابن عباس أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه
أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن
الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال لي عمر: ادع لي
المهاجرين الأولين فدعوتهم, فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء
قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن
ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء،
فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم,
فاستشارهم فسلكوا سبيل
(2/333)
المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال:
ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من
مهاجرة الفتح, فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا:
نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر
في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة:
أفرارًا من قدر الله تعالى? فقال عمر: لو غيرك قالها يا
أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم نفر من قدر الله إلى
قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فتهبطت واديًا له عدوتان
إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها
بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء
عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن
عندي من هذا علمًا, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض
وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر
وانصرف، وفي رواية: فسار حتى أتى المدينة فقال: هذا المحل
وهذا المنزل إن شاء الله تعالى، أخرجاه.
"شرح" سرغ بسكون الراء وفتحها: قرية بوادي تبوك من طريق
الشام، وقيل: على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.
وعن أبي موسى قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعي
نفر من قومي فقال: "أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن
لا إله إلا الله صادقًا بها, دخل الجنة" فخرجنا من عند
النبي -صلى الله عليه وسلم- نبشر الناس, فاستقبلنا عمر بن
الخطاب فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: يا
رسول الله, إذن يتكل الناس، فسكت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم, خرجه أحمد.
وعن أبي هريرة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
فأعطاني نعليه وقال: "اذهب بنعلي هاتين, فمن لقيته من وراء
الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، فبشره
بالجنة" فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا
أبا هريرة? فقلت: هاتان نعلا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بعثني بها, منلقيته يشهد أن
(2/334)
لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشرته
بالجنة، فضرب بيده بين ثديي فخررت لاستي. فقال: ارجع يا
أبا هريرة, فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فأجهشت بالبكاء وركبني عمر فإذا هو على أثري فقلت: لقيت
عمر وأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين صدري ضربة خررت
لاستي وقال: ارجع, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"يا عمر, ما حملك على ما صنعت?" فقال: يا رسول الله أبعثت
أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا
بها قلبه بشرته بالجنة? قال: "نعم" قال: فلا تفعل فإني
أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملوا, فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "فخلهم" خرجه أحمد ومسلم. وإقراره
-صلى الله عليه وسلم- دليل على تصويب رأيه واجتهاده.
وعن أبي رمثة قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد
كان معه رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سلم, فقام الرجل الذي أدرك
معه التكبيرة الأولى يشفع، فوثب عمر إليه فأخذ بمنكبه فهزه
ثم قال: اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين
صلاتهم فصل، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- بصره وقال:
"أصاب الله بك يابن الخطاب" أخرجه أبو داود في باب الرجل
يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة.
ذكر قضائه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عمر, قال عثمان: ما يمنعك من القضاء وقد كان أبوك
يقضي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لست
أنا كأبي ولست أنت كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
أبي إذا أشكل القضاء سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا
أشكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل, ما أرجو
بالقضاء وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"من قضى بجهالة أو تكلف لقي الله كافرًا، ومن قضى فخاف
متعمدًا لقي الله كافرًا، ومن قضى بنية وفقه واجتهاد فذلك
لا له ولا عليه" قال عثمان: ما أحب أن تحدث قضاتنا فتفسدهم
علينا, خرجه أبو بكر الهاشمي.
(2/335)
ذكر وقوفه عند كتاب الله, واقتفائه آثار
النبوة وإيثاره لها, وكثرة اتباعه للسنة:
عن ابن عباس قال: استأذن الحر بن قيس بن حصن لعمه عيينة بن
حصن على عمر فأذن له، فلما دخل قال: يابن الخطاب والله ما
تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن
يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله -عز وجل-
قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين،
فوالله ما جاوزها عمر حتى قرأها عليه, وكان وقافًا عند
كتاب الله, خرجه البخاري. وعن عمر قال: سمعني النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأنا أقول: وأبي, فقال: "إن الله ينهاكم
أن تحلفوا بآبائكم" قال عمر: فأحلف بها ذاكرًا لا آثرًا,
أخرجاه.
وعن ابن عمر أنه قيل لعمر وقد أصيب: ألا تستخلف؟ فقال: إن
أستخلف, فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن
أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني رسول الله, صلى الله
عليه وسلم- فعرفت حين ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أنه غير مستخلف، أخرجاه، وخرجه أبو معاوية. وعنه قال: قبّل
عمر الحجر ثم قال: أما والله قد علمت أنك حجر, ولولا أني
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك،
أخرجاه, وقال النسائي: قبله ثلاثًا وقال البخاري: حجر لا
تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: ما لنا وللرمل؟
إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء
صنعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه.
وفي رواية ابن غفلة: أن عمر قبل الحجر وقال: رأيت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بك حفيًّا أي: معتنيًا، وجمعه:
أحفياء.
وعن يعلى بن أمية أنه طاف مع عمر فاستلم الأركان كلها,
فقال عمر: أما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قد طاف
بالبيت? قال: نعم, قال: رأيته يستلم
(2/336)
الحجر الأسود؟ قال: لا, قال: فما لك به
أسوة? قال: بلى. أخرجه الحسين القطان.
وعن ابن عمر قال: كان عمر يهلّ بإهلال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك,
إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك, لبيك وسعديك
والخير في يديك, والرغبى إليك والعمل. خرجه النسائي.
وعن شرحبيل بن السمط قال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين
فقلت له فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يفعل. خرجه مسلم.
وعن مصعب بن سعيد قال: قالت حفصة لعمر: يا أمير المؤمنين
لو لبست ثوبًا هو ألين من ثوبك, وأكلت طعامًا أطيب من
طعامك؛ فقد وسع الله من الرزق وأكثر من الخبز؟ فقال: إني
سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يلقى من شدة العيش? فما زال يذكرها حتى أبكاها،
فقال: أما والله لأشاركنهما في مثل عيشهما الشديد, لعلي
أدرك عيشهما الرخي. خرجه في الصفوة.
وفي رواية أنه قال: يا بنية, كيف رأيت عيش رسول الله -صلى
الله عليه وسلم? قالت: والله يقيم الشهر لا يوقد في بيته
سراج ولا يغلى له قدر، ولقد كانت له عباءة يجعلها غطاء
ووطاء، قال: فكيف كان عيش صاحبه? قالت: مثل ذلك، قال: فما
تقولين في ثلاثة أصحاب مضى اثنان على طريقة واحدة وخالفهما
الثالث, أفيلحق بهما? قالت: لا، قال: فأنا ثالث ثلاثة, ولا
أزال على طريقتهما حتى ألحق بهما.
وعن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر،
فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما
وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر
بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابًا غير ثيابه ثم
جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس
(2/337)
وقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر للعباس: وأنا أعزم
عليك لما1 صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففعل ذلك العباس، خرجه
أحمد.
وعن مسلم قال: قلت لعمر: إن في الظهر ناقة عمياء فقال عمر:
ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها، قلت: إنها عمياء قال:
يقطرونها بالإبل، قال: قلت: كيف تأكل من الأرض? قال: أمن
نعم الجزية أم من نعم الصدقة? قال: بل من نعم الجزية قال
عمر: أردتم والله أكلها، فأمر عمر فأتي بها فنحرت، قال:
وكان عنده صحاف تسع، فلا تكون فاكهة وطرفة إلا جعل منها في
تلك الصحاف، وبعث بها إلى أزواج النبي -صلى الله عليه
وسلم- وكان الذي يبعث به إلى حفصة من آخر ذلك، فإن كان فيه
نقصان كان في حق حفصة، فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك
الجزور وبعث به إلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم
أمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار،
فقال العباس: يا أمير المؤمنين, لو صنعت لنا كل يوم مثل
هذا لكان حسنًا، رب طاوية كشحًا لا تحتفل بها أنت ولا
صاحبك، ثم قال عمر: لا أعود لمثلها أبدًا, إنه مضى لي
صاحبان عملا عملًا وسلكا طريقًا, إني إن عملت بغير عملهما
سلك بي غير طريقهما. خرجه القلعي.
وعن ابن عمر قال: لبس عمر قميصًا جديدًا ثم دعا بالشفرة ثم
قال: مد يا بني كم القميص, والزق يدك بأطراف أصابعي ثم
اقطع، قال: فقطعت ما قال, فصار كم القميص بعضه على بعض
فقلت: يا أبت لو سويته بالمقص? فقال: يا بني دعه, فهكذا
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل، قال: فما زال
عليه حتى تقطع، وربما كانت الخيوط تنشر على قدميه منه.
خرجه الملاء في سيرته.
__________
1 إلا.
(2/338)
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: جلست مع
شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر
فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته،
قلت: إن صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرءان أقتدي بهما،
وفي لفظ: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته
بين المسلمين فقلت: ما أنت بفاعل قال: لم? قلت: لم يفعله
صاحباك قال: هما المرءان يقتدى بهما. أخرجاه وأخرجه ابن
ماجه ولفظه: قال عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين
فقراء المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم? قلت: لأن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى مكانه وأبا بكر وهما
أحوج إلى المال فلم يخرجاه، فقام هو فخرج.
وعن ابن عمر أن عمر بينما هو قائم يخطب يوم الجمعة إذ دخل
رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين
الأولين, فنادى عمر: أية ساعة هذه? فقال: إني شغلت اليوم
فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين, فلم أزد على أن
توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل. أخرجه البخاري.
وعن السائب بن زيد أن عمر بن الخطاب قال لابن السعدي: ما
مالك? قال: فرسان وعبدان وبغلان أغزو بهن ومزرعة آكل منها،
فأعطاه عمر ألف دينار فقال: خذ هذه فاستنفقها، فقال ابن
السعدي: إنه لا حاجة لي إليها وستجد يا أمير المؤمنين من
هو أحوج إليها مني، فقال عمر: بلى فخذها فإن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- دعاني إلى مثل ما دعوتك إليه فقلت له
مثل الذي قلت فقال: "يا عمر، ما جاءك الله به من رزق غير
متشوفة إليه نفسك ولا سائلة فاقبله فاستنفقه, فإن استغنيت
عنه فتصدق به, وما لم يأتك فدعه" خرجه ابن السباق الحافظ
السلفي، ومعناه في الصحيح، وعن أسلم أن عمر فضل أسامة بن
زيد على ابنه عبد الله بن عمر فلم يزل الناس بعبد الله حتى
كلم أباه في ذلك فقال: تفضل علي من ليس أفضل مني وفرضت له
(2/339)
في ألفين وفرضت لي في ألف وخمسمائة, ولم
يسبقني إلى شيء? فقال عمر: فعلت ذلك؛ لأن زيدًا كان أحب
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمر, وكان أسامة
أحب إلى رسول الله من عبد الله. أخرجه القلعي.
وعن ابن عباس قال: لما فتح الله المدائن على أصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في أيام عمر أمرهم بالأنطاع
فبسطت في المسجد، وأمر بالأموال فأفرغت عليها، ثم اجتمع
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأول من بدر إليه
الحسن بن علي فقال: يا أمير المؤمنين أعطني حقي مما أفاء
الله على المسلمين، فقال: بالرحب والكرامة, وأمر له بألف
درهم ثم انصرف، فبدر إليه الحسين بن علي فقال: يا أمير
المؤمنين أعطني حقي مما أفاء الله على المسلمين فقال:
بالرحب والكرامة وأمر له بألف درهم، فبدر إليه ابنه عبد
الله بن عمر فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني حقي مما أفاء
الله على المسلمين فقال له: بالرحب والكرامة وأمر له
بخمسمائة درهم, فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل مشتد, أضرب
بالسيف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن
والحسين طفلان يدرجان في سكك المدينة، تعطيهم ألفًا
وتعطيني خمسمائة? قال: نعم, اذهب فأتني بأب كأبيهما وأم
كأمهما وجد كجدهما وجدة كجدتهما وعم كعمهما وخال كخالهما
فإنك لا تأتيني به، أما أبوهما فعلي المرتضى وأما أمهما
ففاطمة الزهراء وجدهما محمد المصطفى وجدتهما خديجة الكبرى،
وعمهما جعفر بن أبي طالب وخالهما إبراهيم ابن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وخالتاهما رقية وأم كلثوم ابنتا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن السمان في الموافقة
ومما يلتحق بهذا الذكر:
ذكر صلته أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفته
حقهم:
عن الزهري قال: كان عمر إذا أتاه مال العراق أو خمس
العراق، لم يدع رجلًا من بني هاشم عزبًا إلا زوجه، ولا
رجلًا ليس له خادم إلا أخدمه. خرجه ابن البختري الرزاز.
(2/340)
وعن محمد بن علي قال: قدمت على عمر حلل من
اليمن، فقسمها ما بين المهاجرين والأنصار ولم يكن فيها شيء
يصلح على الحسن والحسين، فكتب إلى صاحب اليمن أن يعمل لهما
على قدرهما, ففعل وبعث بهما إلى عمر فلبساها، فقال عمر:
لقد كنت أراها عليهم, فما يهنيني حتى رأيت عليهما مثلها.
وعن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- قال: أتيت
على عمر بن الخطاب وهو على المنبر فصعدت إليه فقلت له:
انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك، فقال عمر: ليس
لأبي منبر وأخذني فأجلسني معه، فجعلت أقلب حصًا بيدي، فلما
نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي: من علمك? فقلت: والله ما
علمني أحد، فقال: يا بني لو جعلت تغشانا, فأتيته يومًا وهو
خال بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه،
فلقيني بعد قال: لم أرك، فقلت: يا أمير المؤمنين إني جئت
وأنت خال بمعاوية وابن عمر في الباب فرجع ابن عمر فرجعت
معه، قال: أنت أحق بالإذن من ابن عمر، إن ما أنبت ما في
رءوسنا الله -عز وجل- ثم أنتم، خرجه ابن السمان والجوهري.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما دون عمر الدواوين قال:
بمن نبدأ? قلنا: ابدأ بنفسك يا أمير المؤمنين، فبدأ ببني
هاشم وفرض للحسن والحسين خمسمائة خمسمائة.
وفي رواية: قلنا: ابدأ بنفسك فإنك الإمام، فقال: بل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- الإمام, فابدءوا برهطه الأقرب
فالأقرب. وفي رواية: لما دون عمر الديوان وكله لأبي زيد بن
ثابت فقال له: أبدأ بمن يا أمير المؤمنين? فقال: برهط
النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بالأقرب فالأقرب منهم.
وعن عبيد بن حنين قال: جاء الحسن والحسين يستأذنان على عمر
وجاء عبد الله بن عمر فلم يؤذن لعبد الله فرجع، قال: فقال
الحسن أو
(2/341)
أو الحسين: إذا لم يؤذن لعبد الله لا يؤذن
لنا، فبلغ عمر فأرسل إليه فقال: يابن أخي ما أدراك? قال:
قلت: إذا لم يأذن لعبد الله بن عمر لم يؤذن لي، قال: يابن
أخي, فهل أنبت الشعر على الرأس غيركم. خرجهما ابن السمان
في الموافقة.
ذكر محافظته على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم:
تقدم في الموافقات من خصائصه طرف من ذلك.
وعن ابن أبي نجيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن
الذي يحافظ على أزواجي بعدي فهو الصادق البار" فقال عمر:
من يحج مع أمهات المؤمنين? فقال عبد الرحمن: أنا, فكان يحج
بهن وينزلهن الشعب الذي ليس فيه منفذ, ويجعل على هوادجهن
الطيالسة.
وعن أبي وائل أن رجلًا كتب إلى أم سلمة يخرج عليها في حق
له, فأمر عمر بن الخطاب فجلده ثلاثين جلدة، خرجه سفيان بن
عيينة.
وعن المنذر بن سعد أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-
استأذنّ عمر في الحج فأبى أن يأذن لهن حتى أكثرن عليه
فقال: سآذن لكن بعد العام وليس هذا من رأيي، فقالت زينب
بنت جحش: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام
حجة الوداع: "إنما هو هذه الحجة ثم الحصر" فخرجهن غيرها
فأرسل معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وأمرهما أن
يسير أحدهما بين أيديهن والآخر خلفهن ولا يسايرهن أحد، ثم
أمرهما إذا طفن بالبيت لا يطوف معهن أحد إلا النساء، فلما
هلك عمر غلبن من بعده، أخرجه سعيد في سننه.
وقد ورد أنه كان يحج بالناس كل عام, فيحتمل أن يكون أمر
عثمان وعبد الرحمن بتولي أمرهن لشغله هو بأمر العامة, فخاف
من التقصير في حقهن، ويدل هذا على ما رواه البخاري عن
إبراهيم عن أبيه أن عمر
(2/342)
أذن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في
آخر حجة حجها يعني في الحج, وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد
الرحمن بن عوف قال البرقاني: إبراهيم هذا هو إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف.
قال الحميدي: وفيه نظر، ولم يذكر ابن مسعود في الأطراف.
ذكر غضبه لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغمه لغمه
على انبساطه وتألمه لتألمه وبكائه لرقة حاله:
تقدم في الخصائص في الموافقة الخامسة وغيرها طرف من ذلك عن
عمر قال: كنا معشر قريش نغلب نساءنا, فلما قدمنا المدينة
وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم
فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن
تراجعني, فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم
حتى الليل، فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وتهجره إحداكن اليوم حتى الليل? قالت:
نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن، أفتأمن إحداكن أن يغضب
الله لغضب رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت, لا
تراجعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تسأليه شيئًا
واسأليني ما بدا لك، ولا تغرنك جارتك إن كانت هي أوسم منك
وأحب إلى رسول الله -يريد عائشة- قال: ثم قيل: طلق رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه فقلت: قد خابت حفصة إذًا
وخسرت، كنت أظنه يوشك أن يكون، فدخلت على حفصة وهي تبكي
فقلت: أطلقكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالت: لا
أدري، هو ذا معتزل في المشربة، فأتيت غلامًا أسود فقلت:
استأذن لعمر, فدخل ثم خرج قال: قد ذكرتك، فقمت فانطلقت حتى
أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس فجلست قليلًا ثم غلبني ما
أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: قد
ذكرتك، فصمت فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل
فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على النبي
(2/343)
-صلى الله عليه وسلم- فإذا هو متكئ على
رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله
نساءك? فرفع رأسه إلي وقال: "لا" فقلت: الله أكبر, لو
رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما
قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم, فطفق نساؤنا
يتعلمن من نسائهم فعتبت على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني,
فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك، وإن نساء
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه وتهجره إحداهن
اليوم حتى الليل, فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منهن وخسرت،
أفتأمن إحداهن أن يغضب الله لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت,
فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله,
فدخلت على حفصة وقلت لها: لا تغرنك جارتك إن كانت هي أوسم
منك وأحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتبسم أخرى،
فقلت: أستأنس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم"
فجلست فرفعت رأسي في البيت, فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد
البصر إلا أهبا ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن
يوسع على أمتك, فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون
الله، فاستوى جالسًا وقال: "أفي شاك أنت يابن الخطاب?
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" أخرجاه.
وفي روية: أن عمر قال عند الاستئذان في إحدى المراتب: يا
رباح استأذن, فإني أظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يظن أني جئت من أجل حفصة، والله إن أمرني أن أضرب عنقها
لأضربن عنقها، قال: فرفعت صوتي وإنه أذن لي عند ذلك، وفيها
أنه رأى الغضب في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم
يزل يحدثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر فضحك، وكان من
أحسن الناس ثغرًا.
وعن أبي حميد الساعدي قال: استلف رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- تمرًا لونًا من رجل, فلما جاءه يتقاضاه قال له النبي
-صلى الله عليه وسلم: "ليس عندنا اليوم, وإن شئت أخرت عنا
حتى يأتينا شيء فنقضيك" فقال الرجل: وا غدراه! فتذمر عمر
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعه يا عمر, فإن
لصاحب الحق مقالًا".
(2/344)
خرجه الطبراني. تذمر أي: توعد, وتذامر
القوم: إذا حث بعضهم بعضًا على القتال.
ذكر أدبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم:
تقدم في باب الشيخين طرف منه.
وعن ابن عمر أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر
على بكر صعب لعمر، وكان يتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم-
فيقول أبوه: يا عبد الله, لا يتقدم النبي -صلى الله عليه
وسلم- أحد. خرجه البخاري.
وعن أنس قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبرز فلم
يجد أحدًا يتبعه، فهرع عمر فاتبعه بمطهرة فدخل النبي -صلى
الله عليه وسلم- في شربة فتنحى عمر خلفه حتى رفع رأسه
فقال: "أحسنت, قد أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدًا فتنحيت
عني، إن جبريل -عليه السلام- أتاني فقال: من صلى عليك من
أمتك واحدة صلى الله عليه بها عشرًا, ورفع له بها عشر
درجات" خرجه الطبراني. الشربة -بالتحريك: حويض يتخذ حول
النخلة لتروى منه. وخرجه الأنصاري أيضًا.
ذكر محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الله بن هشام قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه
وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول
الله, لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, حتى أكون أحب إليك من
نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من
نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر".
أخرجاه.
ذكر قوة إيمانه, وثباته عليه حيًّا وميتًا:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ذكر فتاني القبور فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا
رسول الله? فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم
(2/345)
كهيئتكم اليوم" فقال عمر: بفيه الحجر. خرجه
أحمد.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وضع الرجل في
قبره أتاه منكر ونكير، وهما ملكان فظان غليظان أسودان
أزرقان, ألوانهما كالليل الدامس, أصواتهما كالرعد القاصف,
عيونهما كالشهب الثواقب, أسنانهما كالرماح يسحبان بشعورهما
على الأرض, بيد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع الثقلان الجن
والإنس لم يقدروا على حملها, يسألان الرجل عن ربه وعن نبيه
وعن دينه" فقال عمر بن الخطاب: أيأتيانني وأنا ثابت كما
أنا? قال: "نعم" قال: فسأكفيكهما يا رسول الله، فقال صلى
الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق نبيًّا, لقد أخبرني
جبريل أنهما يأتيانك فتقول أنت: الله ربي فمن ربكما? ومحمد
نبيي فمن نبيكما? والإسلام ديني فما دينكما? فيقولان: وا
عجباه!! ما ندري نحن أرسلنا إليك, أم أنت أرسلت إلينا?"
خرجه عبد الواحد بن محمد بن علي المقدسي في كتابه التبصير,
وخرج الحافظ أبو عبد الله القاسم الثقفي عن جابر من أوله
إلى ذكر السؤال وقال: فقال عمر: يا رسول الله أية حال أنا
يومئذ? قال: "على حالك" قال: إذن أكفيكهما، ولم يذكر ما
بعده. وخرج سعيد بن منصور معناه، ولفظه: حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم أنا محمد بن علوان بن علقمة قال: حدثني أصحابنا
قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "كيف بك
إذا جاءك منكر ونكير يسألانك؟ صوتهما مثل الرعد القاصم
وأبصارهما مثل البرق الخاطف, يطئان في أشعارهما ويبحثان
بأنيابهما" فقال: يا رسول الله, أنبعث على ما متنا عليه?
قال: "نعم, إن شاء الله تعالى" قال: إذن أكفيكهما.
ذكر اعتقاد الصحابة قوة إيمانه:
عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
يحدثنا عن الدجال أنه يسلط على نفس يقتلها ثم يحييها
فيقول: ألست بربك? فيقول: ما كنت قط أكذب منك الساعة، قال:
فما كنا نراه إلا عمر بن الخطاب حتى
(2/346)
مات أو قتل، خرجه أبو حفص عمر بن شاهين في
السداسيات.
ذكر شدته في دين الله, وغلظته على من عصى الله:
وقد تقدم في فصل إسلامه, ثم في فصل خصائصه طرف جيد من ذلك.
عن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته, فإذا هو
يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فكدت أساوره في الصلاة، فتربصت حتى سلم فلببته
بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها? قال:
أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كذبت، فإن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأنيها على غير ما قرأت،
فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقلت: يا رسول الله، سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على أحرف
لم تقرئنيها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرسله،
اقرأ يا هشام" فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ثم قال صلى
الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقرأني
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هكذا أنزلت, إن هذا
القرآن أنزل على سبعة أحرف, فاقرءوا ما تيسر منه". أخرجاه.
"شرح" أساوره: أواثبه، ويقال: إن لغضبه لسورة, وإن لسوار
أي: وثاب, والتلبيب تقدم في إسلام عمر.
وعن ابن عمر أن غلامًا قُتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه
أهل صنعاء لقتلتهم. وعن منيرة بن حكيم أن أربعة قتلوا
صبيًّا فقال عمر مثاله. أخرجه البخاري.
وعن العباس بن عبد المطلب أنه لما كان يوم فتح مكة ونزل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران قال: وا صباح
قريش! والله لئن دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة
عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر
الدهر، قال:
(2/347)
فجلست على بغلة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- البيضاء, فخرجت عليها حتى جئت لأراك فقلت: لعلي أجد
بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة فيأتي مكة فيخبرهم
بمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوا إليه
فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة قال: والله إني لأسير
عليها, وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان بن حرب
وبديل بن ورقاء يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليل
نيرانا قط ولا عسكرًا، قال: فيقول بديل: هذه والله خزاعة
حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن
تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا
حنظلة! فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما
لك, فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس وا صباح قريش والله،
قال: فما هذه الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن
ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأستأمنه لك، قال: فركب
خلفي ورجع صاحبه، قال: فجئت به فكلما مررت بنار من
المسلمين قالوا: من هذا? فإذا رأوا بغلة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأنا عليها قالوا: عم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال:
من هذا وقام إلي، رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو
سفيان عدو الله، الحمد الله الذي أمكن منك بغير عقد ولا
عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن
البغلة فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل
عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله
منه بغير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول
الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل،
فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلًا يا عمر، والله لو كان من
رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا, ولكنك قد عرفت أنه من
رجال بني عبد مناف، فقال: مهلًا يا عباس, فوالله لإسلامك
يوم أسلمت
(2/348)
كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم،
وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من إسلام الخطاب قال: فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا
أصبحت فأتني به" فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح
غدوت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عرض عليه الإسلام فتلكأ، فقال
له العباس: ويحك, أسلم قبل أن يضرب عنقك، قال: فشهد شهادة
الحق وأسلم. خرجه ابن إسحاق.
"شرح" حمشتها الحرب -بالمهملة- أي: ساقتها بغضب، ومنه حديث
أبي دجانة: "رأيت إنسانًا يحمش الناس" أي: يسوقهم بغضب،
قال المديني: وأحمشته: أغضبته، قال الجوهري: قال بعضهم:
يقال: حمش النسر اشتد وأحمشته أنا، وأحمشت النار: ألهبتها.
وعن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة
فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا
للأنصار وقال المهاجر: يا للمهاجرين فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم: "ما بال دعوتي الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول
الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال:
"دعوها؛ فإنها منتنة" فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد
فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "دعه,
يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" أخرجه مسلم.
وعن عروة بن الزبير قال: تذاكر صفوان وعمير أصحاب القليب
ومصابهم، فقال صفوان: والله إن1 في العيش خير بعدهم، قال
عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس عندي له
قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى
أقتله، فإن لي في
__________
1 إن: نافية بمعنى ما.
(2/349)
قتلهم علة، ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها
صفوان فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي
أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال له عمير:
فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم أمر عمير بسيفه فشحذ
له وسم، ثم انطلق به حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن
الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون في يوم بدر، ويذكرون ما
أكرمهم الله تعالى به، إذ نظر إلى عمير بن وهب حين أناخ
على باب المسجد متوشحًا السيف فقال: هذا الكلب عدو الله
عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا
للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء
متوشحًا سيفه، قال: "فأدخله علي" قال: فأقبل عمر حتى أخذ
بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه
من الأنصار: ادخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فاجلسوا عنده واحذروا عليه ذلك الخبيث فإنه غير مأمون، ثم
دخل به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه،
قال: "أرسله يا عمر, ادن يا عمير" فدنا ثم قال: أنعموا
صباحًا -وكانت تحية أهل الجاهلية- فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا
عمير, بالسلام 1 تحية أهل الجنة" قال: أما والله إن كنت يا
محمد بهذا الحديث عهد، قال: "فما جاء بك يا عمير؟ " قال:
جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: "فما
بال السيف في عنقك?" قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت
عنا شيئًا? قال: "اصدقني, ما الذي جئت له?" قال: ما جئت
إلا لذلك، قال: "بلى, قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر,
فذكرتم أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال
عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا،
__________
1 لعل المسلم بذلك يحرص على تحية الإسلام -السلام- عند
تحيته لأخيه المسلم، ويعدل عن مثل: نهارك سعيد، أو مساء
الخير.
(2/350)
فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني
له، والله1 حائل بينك وبين ذلك" قال عمير: أشهد أنك رسول
الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به من خبر
السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا
وصفوان، فوالله إني لأعلم أن ما أتاك به إلا الله، فالحمد
لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم تشهد بشهادة
الحق.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه,
وأقرئوه القرآن, وأطلقوا له أسيره" ثم قال: يا رسول الله,
إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان
على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى
الله -عز وجل- وإلى الإسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم
في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فلحق بمكة وكان صفوان يسأل عنه
الركبان فلما أخبره بإسلامه حلف أن لا يكلمه ولا ينفعه
أبدًا. خرجه ابن إسحاق وقال: فأقام عمير بمكة يدعو إلى
الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدًا, فأسلم على يديه ناس
كثير.
وعن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- نمشي إذ مر بصبيان يلعبون فيهم ابن الصياد فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم: "تربت يداك، أتشهد أني رسول
الله؟ " فقال هو: أتشهد أني رسول الله? قال: فقال عمر: يا
رسول الله دعني فلأضربن عنقه، قال: فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم: "إن يكن الذي يخاف فلن تستطيعه" خرجه أحمد
وخرجه أيضًا مسلم بزيادة ولفظه: قال: كنا مع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فمررنا بصبيان فيهم ابن الصياد، ففر
الصبيان وجلس ابن الصياد، فكأن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كره ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "تربت
يداك، أتشهد أني رسول الله؟ " فقال: لا, بل أتشهد أنت أني
رسول الله? فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى
أقتله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن يكن الذي
يرى, فلن تستطيع قتله".
__________
1 حقًّا, فالله تعالى قد قال له -صلى الله عليه وسلم:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .
(2/351)
وعن ابن عباس قال: كتب حاطب بن أبي بلتعة
إلى أهل مكة، فأطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على
ذلك, فبعث عليا والزبير في أثر الكتاب فأدركا امرأة على
بعير فاستخرجاه من قرونها فأتيا به رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فأرسل إلى حاطب فقال: "يا حاطب أنت كتبت هذا
الكتاب؟ " قال: نعم يا رسول الله قال: "فما حملك على ذلك?"
فقال: يا رسول الله أما والله إني لناصح لله ولرسوله,
ولكني كنت غريبًا في أهل مكة وكان أهلي بين ظهرانيهم وخشيت
عليهم, فكتبت كتابًا لا يضر الله ورسوله شيئًا، وعسى أن
يكون منفعة لأهلي، قال عمر: فاخترطت سيفي ثم قلت: أمكني من
حاطب فإنه قد كفر, فأضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: "يابن الخطاب ما يدريك, لعل الله قد اطلع على
هذه العصابة من أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم, فقد غفرت
لكم". خرجه مسلم.
وفي لفظ فقال: ما فعلت ذلك ارتدادًا عن ديني ولا رضا
بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن هذا صدقكم" فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب، الحديث،
إلى قوله: "فقد غفرت لكم" وزاد: فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ} . أخرجاه1، وابن حبان واللفظ له.
وعن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا, إذ أتاه ذو الخويصرة -وهو
رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "ويلك!! من يعدل إذا لم أعدل? قد خبت
وخسرت إن لم أعدل" فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه
أضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن
له أصحابًا, يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم,
يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الإسلام كما
يمرق السهم من الرمية، فيهم رجل أسود إحدى
__________
1 البخاري ومسلم, كما سبق بيان ذلك مرارًا.
(2/352)
عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر,
يخرجون على خير فرقة من الناس".
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأشهد أن عليا قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل
فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- الذي نعته. أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث شيبة بن
عثمان إلى أمه: أن أرسلي لي بالمفاتيح -يعني مفاتيح
الكعبة- فأبت ثم أرسل فأبت ثم أرسل فأبت وقالت: قتلت
رجالنا وتذهب بمكرمتنا? فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب
عنقه -أو قال: أقتله- قال: "لا" قال: فذهب الغلام -يعني
شيبة- فقال لأمه: إن عمر أراد قتلي, فأرسلت بالمفاتيح، ثم
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قذف بالمفاتيح بعدما
قبضها إلى الغلام وقال: "اذهب بها إلى أمك". خرجه ابن
مخلد.
وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يوم بدر:
"إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا
كرهًا لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدًا من بني
هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله،
ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فلا يقتله, فإنه إنما أخرج مستكرهًا" قال: فقال أبو
حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا, ونترك
العباس? والله لئن لقيته لألجمنه السيف، ويقال: لألجمنه،
قال: فبلغت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لعمر: "يا
أبا حفص" قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بأبي حفص, أيضرب وجه عم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بالسيف؟ قال عمر: يا رسول الله دعني
فلأضربن عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة
يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال
منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة
شهيدًا. خرجه ابن إسحاق, وقال: إنما
(2/353)
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل
أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو بمكة, وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء
يكرهه.
وعن عمرو بن العاص قال: بينا أنا في منزلي بمصر إذ قيل:
هذا عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة يستأذنان عليك، فقلت:
يدخلان, فدخلا وهما منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله,
فإنا أصبنا البارحة شرابًا وسكرنا.
قال: فزجرتهما وطردتهما فقال عبد الرحمن: إن لم تفعله خبرت
والدي إذا قدمت عليه، قال: فعلمت أني إن لم أقم عليهما
الحد غضب علي عمر وعزلني، قال: فأخرجتهما إلى صحن الدار
فضربتهما الحد، ودخل عبد الرحمن بن عمر ناحية إلى بيت في
الدار فحلق رأسه وكانوا يحلقون من الحدود، ووالله ما كتبت
لعمر بحرف مما كان حتى إذا كتابه جاءني فيه: "بسم الله
الرحمن الرحيم" من عند عبد الله عمر إلى العاص بن العاصي
عجبت لك يابن العاص وجراءتك علي وخلافك عهدي, فما أراني
إلا عازلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك
وقد عرفت أن هذا يخالفني، وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك
تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين, ولكن قلت: هو ولد أمير
المؤمنين وعرفت أنه لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق،
فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف
سوء ما صنع، فبعث به كما قال أبوه وكتب إلى عمر يعتذر إليه
إني ضربته في صحن داري، والله الذي لا يحلف بأعظم منه إني
لأقيم الحدود في صحن داري على المسلم والذمي، وبعث بالكتاب
مع عبد الله بن عمر, فقدم بعبد الرحمن على أبيه فدخل وعليه
عباءة ولا يستطيع المشي من سوء مركبه فقال: يا عبد الرحمن
فعلت وفعلت!! فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير
المؤمنين قد أقيم عليه الحد؛ فلم يلتفت إليه، فجعل عبد
الرحمن يصيح ويقول: إني مريض وأنت
(2/354)
قاتلي, قال: فضربه الحد ثانية وحبسه, فمرض
ثم مات.
وعن مجاهد قال: تذاكرنا الناس في مجلس ابن عباس, فأخذوا في
فضل أبي بكر ثم في فضل عمر, فلما سمع ابن عباس ذكر عمر بكى
بكاءً شديدًا حتى أغمي عليه فقال: رحم الله رجلًا قرأ
القرآن وعمل بما فيه, وأقام حدود الله كما أمر، لا تأخذه
في الله لومة لائم، لقد رأيت عمر وقد أقام الحد على ولده
فقتله فيه، فقيل له: يابن عم رسول الله حدثنا كيف أقام عمر
الحد على ولده?
فقال: كنت ذات يوم في المسجد وعمر جالس والناس حوله, إذ
أقبلت جارية فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال
عمر: وعليك السلام ورحمة الله, ألك حاجة? فقالت: نعم خذ
ولدك هذا مني، فقال عمر: إني لا أعرفك, فبكت الجارية
وقالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولد
ولدك، فقال: أي أولادي? قالت: أبو شحمة، فقال: أبحلال أم
بحرام? فقالت: من قبلي1 بحلال ومن جهته بحرام، قال عمر:
وكيف ذاك? اتق الله ولا تقولي إلا حقا، قالت: يا أمير
المؤمنين كنت مارة في بعض الأيام إذ مررت بحائط لبني
النجار, إذ أتى ولدك أبو شحمة يتمايل سكرًا، وكان شرب عند
نسيكة اليهودي، قالت: ثم راودني عن نفسي وجرني إلى الحائط,
ونال مني ما ينال الرجل من المرأة وقد أغمي علي، فكتمت
أمري عن أهلي وجيراني حتى أحسست بالولادة, فخرجت إلى موضع
كذا وكذا ووضعت هذا الغلام وهممت بقتله ثم ندمت على ذلك،
فاحكم بحكم الله بيني وبينه، فأمر عمر مناديًا فأقبل الناس
يهرعون إلى المسجد, ثم قام عمر فقال: لا تتفرقوا حتى
آتيكم، ثم خرج ثم قال: يابن عباس أسرع معي، فلم يزل حتى
أتى منزله فقرع الباب وقال: ههنا ولدي أبو شحمة? فقيل له:
إنه على الطعام
__________
1 من جهتي.
(2/355)
فدخل عليه وقال: كل يا بني, فيوشك أن يكون
آخر زادك.
قال ابن عباس: فلقد رأيت الغلام وقد تغير لونه وارتعد
وسقطت اللقمة من يده، فقال له عمر: يا بني من أنا؟ قال:
أنت أبي وأمير المؤمنين، قال: فلي حق طاعة أم لا? قال: لك
طاعتان مفترضتان؛ لأنك والدي وأمير المؤمنين، قال عمر: بحق
نبيك وبحق أبيك هل كنت ضيفًا لنسيكة اليهودي, فشربت الخمر
عنده فسكرت? قال: لقد كان ذلك، وقد ثبت أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: "رأس مال المؤمن التوبة" قال: يا بني,
أنشدك الله هل دخلت حائط بني النجار فرأيت امرأة فواقعتها?
فسكت وبكى، قال عمر: يا بني اصدق فإن الله يحب الصادقين
قال: قد كان ذلك وأنا تائب نادم، فلما سمع منه عمر قبض على
يده ولببه وجره إلى المسجد فقال: يا أبت لا تفضحني وخذ
السيف واقطعني إربًا إربًا، قال: أما سمعت قوله تعالى:
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} 1 ثم خرجه وأخرجه إلى بين يدي الصحابة
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وقال:
صدقت المرأة وأقر أبو شحمة بما قالت، وكان له مملوك يقال
له: أفلح، فقال: يا أفلح, خذ ابني هذا إليك واضربه مائة
سوط ولا تقصر في ضربه، فقال: لا أفعل وبكى، فقال: يا غلام
إن طاعتي طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فافعل ما آمرك
به، قال: فنزع ثيابه وضج الناس بالبكاء والنحيب وجعل
الغلام يشير إلى أبيه: يا أبت ارحمني، فقال له عمر وهو
يبكي: ربك يرحمك، وإنما أفعل هذا كي يرحمك ويرحمني، ثم
قال: يا أفلح اضرب, فضربه وهو يستغيث وعمر يقول: اضربه حتى
بلغ سبعين فقال: يا أبت اسقني شربة من ماء، فقال: يا بني
إن كان ربك يطهرك فيسقيك محمد -صلى الله عليه وسلم- شربة
لا تظمأ بعدها أبدًا، يا غلام اضربه, فضربه حتى بلغ ثمانين
فقال: يا أبت السلام عليك، فقال: وعليك
__________
1 سورة النور الآية: 2.
(2/356)
السلام إن رأيت محمدًا فأقرئه مني السلام
وقل له: خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، يا غلام اضربه
فلما بلغ تسعين انقطع كلامه وضعف, فرأيت أصحاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا عمر انظر كم بقي فأخره إلى
وقت آخر، فقال: كما لم تؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة، وجاء
الصريخ إلى مه فجاءت باكية صارخة وقالت: يا عمر أحج بكل
سوط حجة ماشية وأتصدق بكذا وكذا درهما، فقال: إن الحج
والصدقة لا ينوب1 عن الحد، يا غلام تمم الحد فضربه, فلما
كان آخر سوط سقط الغلام ميتًا فصام وقال: يا بني محص الله
عنك الخطايا، ثم جعل رأسه في حجره وجعل يبكي ويقول: يا بني
من قتله الحق، يا بني من مات عن انقضاء الحد، يا بني من لم
يرحمه أبوه وأقاربه، فنظر الناس إليه فإذا هو قد فارق
الدنيا، فلم ير يوم أعظم منه، وضج الناس بالبكاء والنحيب،
فلما كان بعد أربعين يومًا أقبل علينا حذيفة بن اليمان
صبيحة يوم الجمعة فقال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في المنام وإذ الفتى معه وعليه حلتان خضراوان فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أقرئ عمر مني السلام وقل
له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود" وقال
الغلام: يا حذيفة, أقرئ أبي السلام وقل له: طهرك الله كما
طهرتني والسلام. أخرجه شيرويه الديلمي في كتابه المنتقى.
وخرجه غيره مختصرًا بتغيير اللفظ وقال فيه: لعمر ابن يقال
له: أبو شحمة فأتاه يومًا فقال له: إني زنيت فأقم علي
الحد، قال: زنيت? قال: نعم، حتى كرر عليه ذلك أربعًا، قال:
وما عرفت التحريم? قال: بلى، قال: معاشر المسلمين خذوه،
فقال أبو شحمة: معاشر المسلمين, من فعل فعلي في جاهلية أو
إسلام فلا يحدني, فقام علي بن أبي طالب وقال لولده الحسن
فأخذ بيمينه وقال لولده الحسين فأخذ بيساره, ثم ضربه ستة
__________
1 لا ينوب شيء منهما من الحج والصدقة.
(2/357)
عشر سوطًا فأغمي عليه ثم قال: إذا وافيت
ربك فقل: ضربني الحد من ليس لك في جبينه حد، ثم قام عمر
حتى أقام عليه تمام المائة السوط، فمات من ذلك فقال: أنا
أوثر عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فقيل: يا أمير المؤمنين
ندفنه من غير غسل ولا كفن كمن قتل في سبيل الله? قال: بل
نغسله ونكفنه وندفنه في مقابر المسلمين؛ فإنه لم يمت
قتيلًا في سبيل الله وإنما مات1.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة وكان من أكبر بني عدي, وكان
أبوه شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: استعمل
عمر قدامة بن مظعون على البحرين, وكان شهد بدرًا مع النبي
-صلى الله عليه وسلم- وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: قدم الجارود من البحرين فقال:
يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرًا، وإني
إذا رأيت حدا من حدود الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال له
عمر: من يشهد على ما تقول? فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا
هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة? فقال: لم أره حين
شرب، وقد رأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطعت أبا2
هريرة في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين
يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم
الجارود عمر فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: أشهيد
أنت أم خصم? فقال الجارود: أنا شهيد، فقال: قد كنت أديت
شهادتك، فسكت الجارود ثم قال: لتعلمن أني أنشدك الله، فقال
عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك، فقال الجارود:
أما والله ما ذاك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأوعده
عمر.
فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في
شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى
هند ينشدها
__________
1 بالحد؛ للتطهر من الذنب.
2 يا أبا هريرة.
(2/358)
بالله فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة
فقال عمر: يا قدامة إني جالدك, فقال قدامة والله لو شربت
كما يقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر، قال: ولم يا
قدامة? قال: إن الله -عز وجل- قال: {لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ
فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا
وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1 فقال
عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم
الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة?
قالوا: لا نرى أن تجلده وهو مريض, فسكت عمر عن جلده أيامًا
ثم أصبح يومًا وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ماذا ترون
في جلد قدامة? فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فقال
عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى
الله وهو في عنقي، إني والله لأجلدنه، ائتوني بسوط، فجاءه
مولاه أسلم بسوط دقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال
لأسلم: قد أخذتك بدقرارة أهلك، ائتوني بسوط غير هذا، فجاءه
أسلم بسوط تام، فأمر عمر بقدامة فجلد فغاضب قدامة عمر
وهجره، فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا من حجهم ونزل عمر
بالسقيا ونام بها, فلما استيقظ قال: عجلوا علي بقدامة،
انطلقوا فأتوني به، فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت
فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قدامة أبى أن
يأتيه، فأمر عمر بقدامة فجر إليه جرًّا حتى كلمه عمر
واستغفر له، فكان أول صلحهما، خرج البخاري منه إلى قوله:
وهو خال ابن عمر وحفصة، وتمامه خرجه الحميدي.
"شرح" دقرارة أهلك أي: مخالفتهم, قال ابن الأعرابي:
الدقرارة: الحديث المفتعل، والدقرارة: المخالفة.
وعن عمر بن أبي سلمى عن أبيه قال: قال عمر: لو أن أحدكم
أومأ
__________
1 سورة المائدة الآية: 93.
(2/359)
إلى السماء بإصبعه لشرك يعني بالأمان، فنزل
إليه على ذلك فقتله لقتلته، خرجه المخلص.
وعن عائشة قالت: اعتمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ليلة بالعتمة، فناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما من الناس أحد ينتظر
الصلاة غيركم؟ " قالت: ولم يكن يصلي يومئذ إلا بالمدينة,
خرجه النسائي.
وعن عمران بن حصين أن امرأة زنت, فأمر بها النبي -صلى الله
عليه وسلم- فرجمت، ثم أمر بها فصلى عليها، فقال عمر: يا
رسول الله أتصلي عليها وقد زنت?! فقال صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفسي بيده, لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل
المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جاءت 1 بنفسها لله
-عز وجل" أخرجه مسلم.
وعن السائب بن يزيد قال: كنت نائمًا بالمسجد فحصبني رجل
فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتين بهذين الرجلين،
فجئته بهما فقال: ممن أنتما ومن أنتما? قالا: من أهل
الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما, ترفعان
أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، خرجه
البخاري.
وعن أبي النضر أن رجلًا قام إلى عمر وهو على المنبر فقال:
يا أمير المؤمنين ظلمني عاملك وضربني، فقال عمر: والله
لأقيدنك منه إذًا، فقال عمرو بن العاص: أوتقيد من عاملك يا
أمير المؤمنين? قال: نعم والله لأقيدن منه، أقاد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من نفسه، وأقاد أبو بكر من نفسه أفلا
أقيد? فقال عمرو بن العاص: أوغير ذلك يا أمير المؤمنين?
قال: وما هو? قال: أو يرضيه، قال: أو يرضيه، خرجه الحافظ
الثقفي في الأربعين.
وعن أبي سعيد قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار, إذ جاء
أبو
__________
1 في رواية: جادت.
(2/360)
موسى كأنه معذور فقال: استأذنت على عمر
ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك? فقلت: استأذنت
ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا
استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له, فليرجع" فقال: والله
لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم؟ قال أبي: فوالله لا يقوم معك إلا أصغر القوم،
فكنت أصغرهم فقمت معه، فأخبرت عمر أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال ذلك، خرجه مسلم.
وفي رواية: أن عمر قال له: إن كان هذا, فشيء من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وإلا لأجعلنك عظة، وفيها أنه حين أتى
الأنصار جعلوا يضحكون فقال لهم: يأتيكم أخوكم قد أقرع
وتضحكون! فقال: انطلق وأنا شريكك في العقوبة فأتاه, خرجه
مسلم.
وعن المغيرة بن شعبة قال: سئل عمر عن إملاص المرأة وهي
التي تضرب بطنها فتلقي جنينًا قال: أيكم سمع من رسول الله
فيها شيئًا? فقلت: أنا، فقال: ما هو? قلت: سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: "فيه غرة عبد أو أمة" فقال: لا
تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت، فخرجت فجئت بمحمد بن مسلمة
فشهد معي أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"فيه غرة عبد أو أمة" خرجه أبو معاوية بهذا السياق،
وأخرجا1 معناه.
وعن صهيب أن عمر قال لصهيب: أي رجل2 لولا خصال ثلاث قال:
وما هي? قال: اكتنيت وليس لك ولد وانتميت إلى العرب وأنت
من الروم وفيك سرف في الطعام، قال: أما قولك: اكتنيت وليس
لك ولد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كناني أبا
يحيى، وأما قولك: انتميت إلى العرب وأنت من الروم, فإني
رجل من النمر بن قاسط سبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا
__________
1 البخاري ومسلم.
2 أي: أنت عظيم في رجولتك.
(2/361)
غلام قد عرفت نسبي، وأما قولك: فيك سرف في
الطعام فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"خياركم من أطعم الطعام" خرجه أبو عبد الله بن ماجه
القزويني، وخرج النسائي معناه، وخرجه الحافظ الدمشقي في
الأربعين البلدانية.
وعن ... 1 أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فرفع
كتابه, فأعجب عمر ولم يعلم أنه نصراني، فقال لأبي موسى:
أين كاتبك هذا حتى يقرأ الكتاب على الناس? فقال أبو موسى:
يا أمير المؤمنين إنه لا يدخل المسجد قال: لم? أجنب هو?
قال: لا ولكنه نصراني، فانتهره عمر وقال: لا تدنوهم وقد
أقصاهم الله، ولا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم
وقد خونهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإنهم
يستحلون الرشا.
وعن ... 2 أن عمر قال لأبي موسى: ائتني برجل ينظر في
حسابنا، فأتاه بنصراني فقال: لو كنت تقدمت إليك لفعلت
وفعلت، سألتك رجلًا أشركه في أمانتي فأتيتني بمن يخالف
دينه ديني.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر إذا نهى الناس
عن أمر دعا أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنما
ينظر الناس إليكم نظر الطير اللحم، فإن وقعتم وقع الناس
وإن هبتم هاب الناس، وإنه والله لا يقع أحد منكم في شيء
نهيت الناس عنه إلا أضعف له العقوبة لمكانه مني، أخرجه
عقيل بن خالد.
وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن عمر قسم مروطا بين نساء
أهل المدينة فبقي منها مرط جيد، فقال بعض من عنده: يا أمير
المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
التي عندك -يريد أم كلثوم بنت علي؟ فقال: أم
__________
1 هكذا بالأصل.
2 هكذا بالأصل.
(2/362)
سليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وكانت تزفن لنا القرب يوم أحد، خرجه
البخاري، تزفن بالفاء: تحمل.
وعن عمر أنه أرسل إلى كعب فقال: يا كعب كيف تجد نعتي? قال:
أجد نعتك قرن حديد، قال: وما قرن حديد? قال: لا تأخذك في
الله لومة لائم، خرجه الضحاك.
وعنه أنه كان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد
الخصمان بين يدي على من مال عن الحق من قريب أو بعيد, فلا
تمهلني طرفة عين، خرجه ابن خيرون.
وروي أنه أقام خصمين بين يديه ثم عادا ثم أقامهما ثم عادا
فقضى بينهما، فقيل له في ذلك فقال: إني وجدت لأحدهما ما لم
أجد للآخر، فعادا وقد ذهب بعض ذلك فقضيت بينهما.
ذكر تعبده:
عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يحب الصلاة في كبد الليل
-يعني وسط الليل, خرجه في الصفوة، وقد تقدم كيف يوتر في
باب الشيخين.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: صليت خلف عمر الفجر, فقرأ سورة
الحج وسورة يوسف قراءة بطيئة، خرجه أبو معاوية.
وعن عمرو بن ميمون قال: كان عمر ربما قرأ بسورة يوسف
والسجدة ونحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، خرجه
البخاري.
وعن ابن عمر قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم، خرجه في
الصفوة، وفيه دلالة لمن قال: سرده أفضل من صوم يوم, وفطر
يوم.
(2/363)
وعنه أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في
الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله
عليه وسلم: "أوف بنذرك" أخرجاه وزاد البخاري: فاعتكف ليلة،
وفيه حجة لمن قال: يصح1 دون صوم، وإنه يلزم الكافر
بالتزامه، وإن لم يصح حال كفره.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لأصحابه: "من أصبح صائمًا اليوم?" قال عمر: أنا، قال: "من
تصدق اليوم؟ " قال عمر: أنا، قال: "فمن عاد مريضًا?" قال
عمر: أنا، قال: "فمن تبع جنازة؟ " قال عمر: أنا، قال: قال:
"وجبت لك" يعني الجنة, خرجه البغوي في الفضائل، وأبو عبد
الله بن حبان وقد تقدم محمد في خصائص أبي بكر مثل ذلك من
حديث مسلم عن أبي هريرة, فإن صحت هذه الرواية كان ذلك في
يوم آخر من غير أن يكون بينهما تضاد ولا تهافت.
وعن جعفر الصادق قال: كان أكثر كلام عمر: الله أكبر، خرجه
الخجندي.
وعن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول
الله, أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه,
فما تأمرني? فقال: "إن شئت حبست أصلها, وتصدقت بها" فتصدق
بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي
القربى والرقاب والضيف وابن السبيل, لا جناح على من وليها
أن يأكل منها بالمعروف, ويطعم غير ممول وفي لفظ: غير
متماثل مالًا، أخرجاه.
وفي بعض الطرق أنه وصى بها إلى حفصة ثم إلى الأكابر من آل
عمر, وفي بعضها أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن
المائة التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط هو أعجب إلي منها
وقد أردت أن أتصدق بها، فقال صلى الله عليه وسلم: "احبس
أصلها وسبل ثمرتها" وفي بعضها قلت: يا رسول الله إن لي
مالًا بثمغ
__________
1 أي: الاعتكاف.
(2/364)
أكره أن يباع بعدي قال: "فاحبسه وسبل
ثمرته". خرج هذه الطرق وقد تقدم ذكر صدقته بسطر ماله,
وصدقة أبي بكر بجميع ماله في باب الشيخين. ثمغ: مال لعمر
معروف بالمدينة، وهو غير الذي تصدق به بخيبر.
ذكر زهده:
وقد تقدم طرف منه في خصائصه، وفي النشر في أول الفصل.
وعن طلحة: ما كان عمر بأولنا إسلامًا ولا بأقدمنا هجرة,
ولكنه كان أزهدنا في الدنيا وأرغبنا في الآخرة.
وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي عمر
العطاء فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله من هو أفقر إليه
مني، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله
أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل
فخذه, وما لا فلا تتبعه نفسك" قال سالم: فمن أجل ذلك كان
ابن عمر لا يسال أحدًا شيئًا, ولا يرد شيئًا أعطيه. خرجه
مسلم.
وعن ابن أبي مليكة قال: بينا عمر قد وضع بين يديه طعام إذ
جاء الغلام فقال: هذا عتبة بن فرقد بالباب، قال: وما أقدم
عتبة ائذن له، فلما دخل رأى بين يدي عمر طعامه خبزًا
وزيتًا فقال: اقرب يا عتبة فأصب من هذا، قال: فذهب يأكل
فإذا هو بطعام جشب لا يستطيع أن يسيغه, فقال: يا أمير
المؤمنين, هل لك في طعام يقال له: الحواري? قال: ويلك,
أويسع ذلك المسلمين? قال: لا والله، قال: يا عتبة, أفأردت
أن آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها. أخرجه
الفضائلي.
"شرح" الجشب والمجشوب: الغليظ.
وعنه أنه دخل عليه وهو يكدم كعكًا شاميًّا ويتفوق لبنًا
حازرًا فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت أن يصنع لك طعام
ألين من هذا? فقال: يابن
(2/365)
فرقد أترى أحدًا من العرب أقدر على ذلك
مني? فقلت: ما أجد أقدر على ذلك منك يا أمير المؤمنين،
فقال عمر: سمعت الله عير أقوامًا فقال: {أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} 1. خرجه الواحدي.
"شرح" الكدم: العض والتفوق: الشرب شيئًا فشيئًا من فوقت
الفصيل: إذا سقيته فواقًا فواقًا، والفواق: قدر ما بين
الحلبتين، والحازر -بالحاء المهملة: اللبن الحامض قاله
الجوهري.
وعن عمر أنه كان يقول: لو شئت لدعوت بصلاء وصناب وصلائق
كراكر وأسنمة وأفلاذ كثيرة من لطائف اللذات، ثم قال: ولكني
لا أدعو بها, ولا أقصد قصدها لئلا أكون من المتنعمين.
"شرح" الصلاء بالكسر والمد: الشوي، والصناب: الخردل
المعمول بالزيت وهو صناع يؤتدم به، والصلائق: الرقاق
واحدتها صليقة، وقيل: هي الحملان المشوية من صلقت الشاة:
إذا شويتها، ويروى بالسين المهملة وهو كل ما سلق من البقول
وغيرها، والكراكر: جمع كركرة وهي الثفنة التي في زور
البعير, وهي إحدى الثفنات الخمس، والأفلاذ: جمع فلذة وهي
القطعة, وكأنه أراد قطعًا من أنواع شتى.
وعنه أنه كان يقول: والله ما يمنعنا أن نأمر بصغار المعزى
فتسمط لنا, ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا, ونأمر بالزبيب
فينبذ لنا فنأكل هذا ونشرب هذا, إلا أنا نستبقي طيباتنا؛
لأنا سمعنا الله تعالى يقول يذكر أقوامًا: {أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} .
وعنه أنه اشتهى سمكًا طريًّا وأخذ يرقى راحلة, فسار ليلتين
مقبلًا وليلتين مدبرًا واشترى مكتلًا فجاء به، وقام يرقى
إلى الراحلة يغسلها من العرق فنظرها عمر فقال: عذبت بهيمة
من البهائم في شهوة عمر! والله
(2/366)
لا يذوق عمر ذلك.
وروي أنه كان يداوم على أكل التمر ولا يداوم على كل اللحم,
ويقول: إياكم واللحم, فإن له ضراوة كضراوة الخمر، أي: إن
له عادة نزاعة إليه كعادة الخمر، يقال منه: ضري بالكسر به
ضرا وضراوة وضراة, إذا اعتاده.
وعن جعفر بن أبي العاص قال: أكلت مع عمر بن الخطاب الخبز
والزيت, والخبز واللبن, والخبز والخل, والخبز والقديد،
وأقل ذلك اللحم الغريض، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه
كله طعام، فأتي بخبز غليظ فجعل يأكل ويقول: لتأكلوا،
فجعلنا نعتذر فقال: ما لكم لا تألون? فقلنا: لا نأكله
والله يا أمير المؤمنين، نرجع إلى طعام هو ألين من طعامك.
وعن حفصة قالت: دخل عليّ عمر فقدمت إليه مرقة باردة وصببت
عليها زيتًا فقال: إدامان في إناء واحد، لا أذوقه أبدًا
حتى ألقى الله, خرجه في فضائله.
وعن ابن عمر قال: دخل أمير المؤمنين عمر ونحن على مائدة
فأوسعت له عن صدر المجلس فقال: باسم الله، ثم ضرب بيده في
لقمة فلقمها, ثم ثنى بأخرى ثم قال: إني لأجد طعم دسم غير
دسم اللحم، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين, إني خرجت إلى
السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليًا, فاشتريت بدرهم
من المهزول وجعلت عليه بدرهم سمنًا فقال عمر: ما اجتمعنا
عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أكل أحدهما وتصدق
بالآخر، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين, ولن يجتمعا عندي
أبدًا إلا فعلت ذلك.
وعن قتادة قال: كان عمر بن الخطاب يلبس وهو أمير المؤمنين
جبة من صوف مرقعة بعضها من أدم, ويطوف في الأسواق وعلى
عاتقه الدرة
(2/367)
يؤدب الناس بها، ويهم بالنكث والنوى فيلقطه
ويلقيه في منازل الناس لينتفعوا به. أخرجه الفضائلي.
"شرح" النكث: الغزل المنقوض من الأخبية, والأكسية ليغزل
ثانية.
وعن أنس قال: لقد رأيت بين كتفي عمر أربع رقع في قميص له.
خرجه الفضائلي وصاحب الصفوة وقال: ثلاث رقاع.
وعن الحسن قال: خطب عمر الناس وهو خليفة, وعليه إزار فيه
اثنتا عشرة رقعة. خرجه في الصفوة.
وعن عامر بن ربيعة قال: خرج عمر حاجًّا من المدينة إلى مكة
إلى أن رجع, فما ضرب فسطاطًا ولا خباء إلا كان يلقي الكساء
والنطع على الشجرة, ويستظل تحتها.
وعن عمر أنه كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش ولكنا
نستبقي طيباتنا لآخرتنا، وكان رضي الله عنه يأكل خبز
الشعير ويأتدم بالزيت, ويلبس المرقوع ويخدم نفسه. خرجه
الملاء.
وعن الأحنف بن قيس قال: أخرجنا عمر في سرية إلى العراق
ففتح الله علينا العراق وبلد فارس, وأصبنا فيها من بياض
فارس وخراسان فحملناه معنا واكتسينا منه، فلما قدمنا على
عمر أعرض عنا بوجهه وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك علينا،
فشكونا إلى عبد الله بن عمر فقال: إن عمر زهد في الدنيا,
وقد رأى عليكم لباسًا لم يلبسه رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ولا الخليفة من بعده، فأتينا منازلنا فنزعنا ما كان
علينا, وأتيناه في البزة التي يعهدها منا، فقام فسلم علينا
رجلًا رجلًا واعتنق رجلًا رجلًا حتى كأنه لم يرنا، فقدمنا
إليه الغنائم فقسمها بيننا بالسوية، فعرض في الغنائم شيء
من أنواع الخبيص من أصفر وأحمر فذاقه عمر فوجده طيب الطعم
طيب
(2/368)
الريح فأقبل علينا بوجهه وقال: يا معشر
المهاجرين والأنصار, ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه
على هذا الطعام، ثم أمر به فحمل إلى أولاد من قتل من
المسلمين بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
المهاجرين والأنصار، ثم إن عمر انصرف ولم يأخذ لنفسه
شيئًا. البزة -بالكسر: الهيئة.
وعن ... 1 أنه لما فتح العراق وحملت إلى عمر خزائن كسرى
قال له صاحب بيت المال: ألا ندخله بيت المال? قال: لا
والله! ولا يأوي تحت سقف حتى أقسمه، فبسط الأنطاع في
المسجد وكشفوا عن الأموال فرأى منظرًا عظيمًا من الذهب
والجوهر فقال: إن الذي أدى هذا لأمين، قالوا: أنت أمين
الله, وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا زغت زاغوا،
فقسمه ولم يأخذ منه لنفسه شيئًا. خرجه في فضائله.
وروي أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمعوا في
المسجد زهاء خمسين رجلًا من المهاجرين فقالوا: ما ترون إلى
زهد هذا الرجل وإلى حليته وقد فتح الله على يديه ديار كسرى
وقيصر وطرفي الشرق والغرب، ووفود العرب والعجم يأتون فيرون
عليه هذه الجبة قد رقعها اثنتي عشرة رقعة فلو سألتموه
معاشر أصحاب محمد أن يغير هذه الجبة بثوب لين فيهاب منظره،
ويغدق عليه بحفنة من الطعام ويراح عليه بحفنة يأكلها من
حضره من المهاجرين والأنصار؟ فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا
القول إلا علي بن أبي طالب فإنه صهره، فكلموه فقال: لست
بفاعل ذلك ولكن عليكم بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-
فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه، فقال الأحنف بن قيس:
فسألوا عائشة وحفصة وكانتا مجتمعتين فقالت عائشة: أسأله
ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبين لك، فدخلتا عليه
فقربهما وأدناهما، فقالت عائشة: أتأذن لي أن أكلمك? قال:
تكلمي يا أم المؤمنين فقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قد مضى إلى جنة ربه ورضوانه لم يرد
__________
1 هكذا بالأصل.
(2/369)
الدنيا ولم ترده، وكذلك مضى أبو بكر على
أثره، وقد فتح الله عليك كنوز كسرى وقيصر وديارهما وحمل
إليك أموالهما وذلك طرفا المشرق والمغرب، ونرجو من الله
تعالى المزيد ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون إليك
وعليك هذه الجبة قد رقعتها اثنتي عشرة رقعة فلو غيرتها
بثوب لين يهاب فيه منظرك, ويغدى عليك بحفنة من طعام ويراح
عليك بأخرى تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار, فبكى
عمر عند ذلك بكاءً شديدًا ثم قال: سألتك بالله هل تعلمين
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبع من خبز بر عشرة
أيام أو خمسة أو ثلاثة أو جمع بين عشاء وغداء حتى ألحق
بالله? قالت: لا، قال: أنشدك بالله هل تعلمين أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قرب إليه على مائدة في ارتفاع شبر من
الأرض، كان يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة
فترفع؟ قالت: اللهم نعم، ثم قال لهما: أنتما زوجتا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وأمهات المؤمنين ولكما على
المؤمنين حق وعليّ خاصة، ولكن أتيتماني ترغبانني في
الدنيا، وإني لأعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبس
جبة من صوف فربما حكجسمه من خشونتها، أتعلمان ذلك? قالتا:
نعم، قال: فهل تعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كان يرقد على عباءة على طاق واحد وكان مسح في بيتك يا
عائشة يكون بالنهار بساطًا وبالليل فراشًا, ينام عليه ويرى
أثر الحصير في جنبه؟ ألا يا حفصة أنت حدثتني أنك تثنيت
المسح له ليلة فوجدها لينة فرقد عليه فلم يستيقظ إلا بأذان
بلال فقال لك: يا حفصة, ماذا صنعت ثنيت المهاد حتى ذهب بي
النوم إلى الصباح، ما لي وما للدنيا وما للدنيا وما لي،
شغلتموني بلين الفراش؟ يا حفصة: أما تعلمين أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر, ولم يزل جائعًا ساهرًا راكعًا ساجدًا باكيًا متضرعًا
آناء الليل والنهار إلى أن قبضه الله تعالى إلى رحمته
ورضوانه? لا أكل عمر طيبًا ولا لبس لينًا أسوة بصاحبيه,
ولا جمع بين أدمين إلا الماء والزيت, ولا أكل لحمًا إلا في
كل شهر، فخرجنا من عنده فأخبرنا أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فلم يزل
(2/370)
كذلك حتى لحق بالله -عز وجل.
ذكر خوفه:
عن أبي موسى قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
أشياء كرهها, فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: "سلوني عما
شئتم" فقال رجل: من أبي? فقال: "أبوك حذافة" فقال آخر: من
أبي يا رسول الله? فقال: "أبوك مولى شيبة" فلما رأى عمر ما
في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغضب قال: يا رسول
الله, إنا نتوب إلى الله -عز وجل. أخرجاه.
وعن أنس قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبريل -عليه السلام- حتى صعد
المنبر فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا منه، قال: "سلوني,
فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أنبأتكم" فقال رجل: يا رسول
الله من أبي? قال: "أبوك حذافة" فقام إليه آخر فقال: يا
رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار? فقال: "في النار"
فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله أعلينا الحج كل عام?
فقال: "لو قلت نعم لوجب ولو وجب لم تقوموا بها، ولو لم
تقوموا بها عذبتم" قال: فقال عمر بن الخطاب: رضينا بالله
ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم-
نبيًّا، لا تفضحنا بسرائرنا واعف عنا عفا الله عنك، قال:
فسري عنه، ثم التفت إلى الحائط فقال: "لم أر كاليوم في
الخير والشر, أريت الجنة والنار وراء هذا الحائط". خرجه
بتمام هذا السياق الحافظ الدمشقي في الموافقات، وفي المتفق
عليه طائفة منه، وخرج ابن ماجه من قصة الحج إلى آخره.
وعن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن
صومه فغضب، فقال عمر: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا
وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا. خرجه مسلم.
وعن أبي بردة عامر بن أبي موسى قال: قال لي عبد الله بن
أبي عمر:
(2/371)
هل تدري ما قال أبي لأبيك? قال: قلت: لا،
قال: فإن أبي قال لأبيك أبي موسى: هل يسرك أن إسلامنا مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهجرتنا معه وشهادتنا معه
وعلمنا كله معه برد علينا وأن كل عمل عملناه بعده نجونا
منه كفافًا رأسًا برأس؟ فقال أبوك لأبي: لا والله, جاهدنا
بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلينا وصمنا وعملنا
خيرًا كثيرًا, وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك،
قال أبي: ولكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا،
وأن كل شيء عملنا بعده نجونا منه كفانا رأسًا برأس، فقلت:
إن أباك والله كان خيرًا من أبي. خرجه البخاري.
"شرح" برد لنا أي: ثبت واستقر.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبس
يومًا قباء من ديباج أهدي له ثم نزعه, فأرسل به إلى عمر
وقال: "نهاني عنه جبريل -عليه السلام" فجاءه عمر يبكي
فقال: يا رسول الله كرهت أمرًا وأعطيتنيه فما لي؟ فقال:
"إني لم أعطكه تلبسه وإنما أعطيتكه تبيعه" فباعه بألف
درهم. خرجه مسلم.
قال ابن إسحاق: لما وقع الصلح يوم الحديبية وطال الكلام
بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين سهيل بن عمرو, وثب
عمر بن الخطاب فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله -صلى الله
عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين? قال: بلى،
قال: أوليسوا بالمشركين? قال: بلى، قال: فلم نعطى الدنية
في ديننا? فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه, فأنا أشهد أنه
رسول الله، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
يا رسول الله ألست رسول الله? قال: "بلى" قال: أولسنا
بالمسلمين? قال: "بلى" قال: أوليسوا بالمشركين? قال: "بلى"
قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا? قال: "أنا عبد الله
ورسوله, لن أخالف أمره ولن يضيعني" قال: فكان يقول عمر:
فما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة
كلامي الذي تكلمت به, حتى رجوت أن
(2/372)
يكون خيرًا.
وعن يحيى بن أبي كثير عن عمر أنه قال: لو نادى مناد من
السماء: يا أيها الناس لا يدخل النار إلا رجل واحد، لخفت
أن أكون أنا ذلك الرجل. خرجه الملاء، وزاد غيره: لو نادى
مناد: إنكم داخلون النار إلا رجلًا واحدا, لرجوت أن أكون
أنا.
وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض
فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم
تلدني، ليتني لم أك شيئًا, ليتني كنت نسيا منسيا.
وعن مجاهد قال: كان عمر يقول: لو مات جدي بطف الفرات,
لخشيت أن يطالب الله به عمر.
"شرح" الطف: اسم موضع بناحية الكوفة، فلعله المراد وأضيف
إلى الفرات لكونه قريبًا منه, من قولهم: طف الصاع لما قرب
من ملئه.
وعن عبد الله بن عيسى قال: كان في وجه عمر خطان أسودان من
البكاء. خرجهن في الصفوة.
وعن الحسن قال: كان عمر يبكي في ورده حتى يخر على وجهه,
ويبقى في بيته أيامًا يعاد. خرجه الملاء.
وعن ابن الزبير قال: ما حدث عمر النبي -صلى الله عليه
وسلم- بعد قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ}
فيسمع كلامه حتى يستفهم مما يخفض صوته, فأنزل الله فيه:
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ} الآية. خرجه الواحدي، وقد تقدم في باب الشيخين.
وعن أم سلمة قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا
أمه, قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش كلهم
مالًا، فقالت:
(2/373)
يا بني تصدق، فإني سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: "إن من أصحابي من لا يراني بعد أن
أفارقه" فخرج عبد الرحمن فلقي عمر فأخبره ذلك, فجاء عمر
فدخل عليها فقال: بالله منهم أنا? قالت: لا؛ ولن أقول لأحد
بعدك.
وفي رواية: فبلغ ذلك عمر فأتاها يشتد ويسرع فقال: أنشدك
بالله، أنا منهم? قالت: لا, ولن أبرئ بعدك أحدًا أبدًا،
خرجه أبو عمر.
وعن أبي جعفر قال: بينما عمر يمشي في طريق من طرق المدينة
إذ لقيه علي ومعه الحسن والحسين -رضي الله عنهم- فسلم عليه
علي وأخذ بيده, فاكتنفهما الحسن والحسين عن يمينهما
وشمالهما قال: فعرض لعمر من البكاء ما كان يعرض له فقال
له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ومن أحق مني
بالبكاء يا علي؟ وقد وليت أمر هذه الأمة أحكم فيها ولا
أدري أمسيء أنا أم محسن، فقال له علي: والله إنك لتعدل في
كذا وتعدل في كذا قال: فما منعه ذلك من البكاء, ثم تكلم
الحسن بما شاء الله فذكر من ولايته وعدله فلم يمنعه ذلك,
فتكلم الحسين بمثل كلام الحسن فانقطع بكاؤه عند انقطاع
كلام الحسين, فقال: أتشهدان بذلك يابني أخي؟ فسكتا، فنظر
إلى أبيهما فقال علي: اشهدا وأنا معكما شهيد، خرجه ابن
السمان في الموافقة.
وعن عبيد بن عمير قال: بينما عمر بن الخطاب يمر في الطريق,
فإذا هو برجل يكلم امرأة فعلاه بالدرة فقال: يا أمير
المؤمنين إنما هي امرأتي, فقام عمر فانطلق فلقي عبد الرحمن
بن عوف فذكر ذلك له, فقال له: يا أمير المؤمنين, إنما أنت
مؤدب وليس عليك شيء, وإن شئت حدثتك بحديث سمعته من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا لا يرفعن
أحد من هذه الأمة كتابه قبل أبي بكر وعمر" خرجه ابن
الغطريف, وخرج الملاء منه إلى قوله: إنما هي امرأتي ولم
يذكر ما بعده وقال: فقال له: فلم تقف مع زوجتك في الطريق
تعرضان
(2/374)
المسلمين إلى غيبتكما? فقال: يا أمير
المؤمنين الآن قد دخلنا المدينة ونحن نتشاور أين ننزل؟
فرفع إليه الدرة وقال: اقتص مني يا عبد الله فقال: هي لك
يا أمير المؤمنين، فقال: خذ واقتص فقال بعد ثلاث: هي لله,
قال الله لك فيها.
وعن عمر وقد كلمه عبد الرحمن بإشارة عثمان وطلحة والزبير
وسعد في هيبته وشدته, وأن ذلك ربما يمنع طالب الحاجة من
حاجته فقال: والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين,
واشتددت حتى خشيت الله في الشدة, فأين المخرج؟ وقام يجر
رداءه وهو يبكي، خرجه في فضائله.
وروي عنه أنه قرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} 1 حتى بلغ:
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} 2 فخر مغشيًّا عليه وبقي
أيامًا يعاد.
وروي عنه أنه خرج يومًا ومعه عبد الرحمن بن مسعود, فإذا هو
بضوء نار فاتبع الضوء حتى دخل دارًا, فإذا شيخ جالس وبين
يديه شراب وقينة تغنيه فلم يشعر حتى هجم عمر فقال: ما رأيت
كالليلة أقبح من شيخ ينتظر أجله! فرفع الشيخ رأسه وقال: بل
ما صنعت يا أمير المؤمنين أقبح؛ إنك تجسست وقد نهى الله
تعالى عن التجسس, وإنك دخلت بغير إذن وقد نهى الله تعالى
عن ذلك فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه ويقول: ثكلت
عمر أمه إن لم يغفر له ربه، قال: وهجر الشيخ مجالس عمر
حينًا ثم إنه جاءه شبيه المستحي فقال له: ادن مني فدنا منه
فقال له: والذي بعث محمدًا بالحق ما أخبرت أحدًا من الناس
بالذي رأيت منك ولا ابن مسعود وكان معي، فقال الشيخ: وأنا
والذي بعث محمدًا بالحق ما عدت إليه إلى أن جلست هذا
المجلس, خرجهما في فضائله.
وعن عمر أنه أرسل إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة
__________
1 سورة التكوير الآية: 1.
2 سورة التكوير الآية: 10.
(2/375)
درهم فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك
المال ألا تأخذ منه ثم ترده؟ فقال عمر: إني أتخوف أن
يصيبني قدري فتقول أنت وأصحابك: اتركوها لأمير المؤمنين
حتى تؤخذ من ميزاني يوم القيامة, ولكن أستلفها منك لما
أعلم من شحك, فإذا مت جئت فاستوفيتها من ميراثي, خرجه
القلعي.
وعن جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحمًا ملقى
في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: اشتهيت لحمًا فاشتريته
فقال عمر: أوكلما اشتهيت اشتريت يا جابر؟ ما تخاف الآية يا
جابر: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا} خرجه الواحدي مسندًا.
ذكر محاسبته نفسه:
عن أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب وخرجت معه حتى دخل
حائطًا فسمعته وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ, والله لتتقين الله بني الخطاب
أو ليعذبنك, خرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس, وروى
أنه كان يقول: ما صنعت اليوم؟ صنعت كذا صنعت كذا, ثم يضرب
ظهره بالدرة, خرجه في فضائله.
ذكر ورعه:
عن المسور بن مخرمة قال: كنا نلتزم عمر نتعلم منه الورع.
وعن سلمة بن سعيد قال: أتي عمر بمال فقام إليه عبد الرحمن
بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست هذا المال في بيت
المال لنائبة تكون، أو أمر يحدث فقال: فقال كلمة ما عرض
بها الشيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها أعصي الله
العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال تعالى: {وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وتكون فتنة على من بعدي, خرجه
الفضائلي. وعن ابن عمر أن عمر فرض للمهاجرين الأولين أربعة
آلاف أربعة آلاف, وفرض لابن عمر ثلاثة
(2/376)
وخمسمائة فقيل له: هو من المهاجرين فلِمَ
تنقصه عن أربعة آلاف؟ قال: إن من هاجر به أبوه ليس هو كمن
هاجر بنفسه، خرجه البخاري.
وعنه1 قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت
قدمت بها قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلًا سمانًا فقال: لمن
هذه؟ فقيل: لعبد الله بن عمر, فجعل يقول: يا عبد الله بخ
بخ, ابن أمير المؤمنين قال: فجئته أسعى فقلت: ما لك يا
أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل? فقلت: إبلًا أنضاء
اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال:
فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين اسقوا إبل ابن أمير
المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغد على رأس مالك واجعل
باقيه في بيت مال المسلمين، خرجه الفضائلي.
"شرح" بخ بخ قد تكررت، قال أبو بكر: معناه تعظيم الأمر
وتفخيمه, وسكنت الخاء فيه كما سكنت في هل وبل، ويقال:
بالخفض والتنوين تشبيهًا بالأصوات كصه، ويقال: بخ بخ
بتشديد الخاء في الأولى.
وقال ابن السكيت: بخ بخ وبه به بمعنى واحد, أنضاء: جمع نضو
وهو البعير المهزول والناقة نضوة, وقد أنضتها الأسفار فهي
منضاة.
وعن قتادة قال: قدم بريد ملك الروم على عمر، فاستقرضت
امرأة عمر دينارًا فاشترت به عطرًا وجعلته في قوارير،
وبعثت به مع البريد إلى امرأة ملك الروم، فلما أتاها
فرغتهن وملأتهن جواهر وقالت: اذهب به إلى امرأة عمر، فلما
أتاها فرغتهن على البساط فدخل عمر فقال: ما هذا? فأخبرته,
فأخذ عمر الجوهر فباعه ودفع إلى امرأته دينارًا وجعل ما
بقي من ذلك في بيت مال المسلمين، خرجه الفضائلي.
"شرح" البريد: الرسول. وعن الأحنف بن قيس قال: سمعت عمر
يقول: لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتان حلة للشتاء وحلة
للصيف
__________
1 وعن ابن عمر.
(2/377)
وما أحج به وأعتمر عليه من الظهور وقوت
أهلي كرجل من قريش, ليس بأغناهم ولا بأفقرهم, ثم أنا برجل
من المسلمين، خرجه أيضًا الفضائلي وخرجه القلعي وزاد بعد
وأنا رجل من المسلمين: يصيبني ما أصابهم.
عن البراء بن معرور أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان
قد اشتكى شكوى فنعت له العسل وفي بيت المال عكة فقال: إن
أنتم أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فإنها علي حرام, فأذنوا
له، خرجه الرازي والفضائلي.
وعن عاصم بن عمر عن عمر أنه قال: لا أجده يحل لي أن آكل من
مالكم هذا إلا كما كنت آكل من صلب مالي الخبز والزيت,
والخبز والسمن قال: فكان ربما أتي بالحفنة قد صنعت بزيت
وما يليه بسمن، فيعتذر إلى القوم فيقول: إني رجل عربي ولست
أستمرئ هذا الزيت. وعنه أن عمر لما زوجه أنفق عليه من مال
الله شهرًا ثم قال: يا يرفأ اضرب عنه، ثم دعاني فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أي بني، قد نحلتك من مالي
بالعالية، فانطلق إليه فأجدده ثم بعه ثم استنفق وأنفق على
أهلك، خرجهما أبو معاوية الضرير.
وعن أبي سنان الدؤلي أنه دخل على عمر بن الخطاب وعنده نفر
من المهاجرين الأولين, فأرسل إلى سفط أتى به من قلعة من
العراق فكان فيه خاتم, فأخذه بعض بنيه فأدخله في فمه
فانتزعه عمر منه ثم بكى عمر، فقال له من عنده: لم تبكي وقد
فتح الله لك وأظهرك على عدوك وأقر عينك? فقال عمر: إني
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تفتح
الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى
يوم القيامة" فأنا أشفق من ذلك، خرجه أحمد. وروي أن عمر
أتي بمسك فأمر أن يقسم بين المسلمين، ثم سد أنفه فقيل له
في ذلك، فقال: وهل ينتفع إلا بريحه? ودخل يوما على زوجته
فوجد معها ريح المسك، فقال: ما هذا? قالت: إني بعت في مسك
في بيت مال المسلمين وزنت بيدي، فلما وزنت مسحت
(2/378)
إصبعي في قناعي، فقال: ناوليني قناعك,
فأخذه فصب عليه الماء فلم يزل يدلكه في التراب ويصب عليه
الماء حتى ذهب ريحه، خرجهما الملاء في سيرته.
وعن عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان
عنده, فأردت أن أشتريه فظننت أنه يبيعه برخص فسألت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشتره ولا تعد في
صدقتك ولو أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في هبته كالعائد في
قيئه" أخرجاه وهذا الحكم من باب الورع, وإلا فالجواب متفق
عليه.
وعن أنس قال: قرأ عمر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 1 قال: فما
الأب? ثم قال: ما كلفنا وما أمرنا بهذا، خرجه البخاري. عنه
قال: كنا مع عمر وعليه قميص وفي ظهره أربع رقع، فسئل عن
هذه الآية {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال:
مه! قد نهينا عن التكلف، ثم قال: يا عمر, إن هذا لمن
التكلف وما عليك ألا تدري ما الأب, خرجه البغوي والمخلص
الذهبي.
وعن سعيد بن المسيب قال: سئل عمر عن قوله تعالى:
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} 2 قال: هي الرياح ولولا أني
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته, قيل:
{فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} 3 قال: السحاب ولولا أني سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته. قيل:
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} 4 قال: السفن ولولا أني سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قتله. قيل:
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} 5 قال: هي الملائكة ولولا أني
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته, خرجه
في فضائله.
ذكر تواضعه:
وقد تقدم في أول الفصل في النثر منه طرف صالح من ذلك.
__________
1 الأب: المرعى المتهيئ للرعي.
"2, 3, 4, 5" سورة الذاريات الآيات 1, 2، 3، 4.
(2/379)
وروي عنه أنه كان إذا قيل له: اتق الله,
فرح وشكر قائله. وكان يقول: رحم الله امرأ أهدى إلينا
عيوبنا, خرجه في فضائله.
وعن طارق بن شهاب قال: قدم عمر بن الخطاب الشام فلقيه
الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة وهو آخذ برأس راحلته يخوض
الماء قد خلع خفيه, وجعلهما تحت إبطه قالوا له: يا أمير
المؤمنين, الآن تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على هذه
الحال؟! قال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام, فلا نلتمس
العز من غيره, خرجه الملاء وصاحب الفضائل.
وعن عبد الله بن عمر أن عمر حمل قربة على عاتقه فقال له
أصحابه: يا أمير المؤمنين, ما حملك على هذا? قال: إن نفسي
أعيتني فأردت أن أذلها, خرجه الفضائلي أيضًا.
وعن زيد بن ثابت قال: رأيت على عمر مرقعة فيها سبع عشرة
رقعة, فانصرفت إلى بيتي باكيًا ثم عدت في طريقي فإذا عمر
وعلى عاتقه قربة ماء وهو يتخلل الناس، فقلت: يا أمير
المؤمنين! فقال لي: لا تتكلم وأقول لك، فسرت معه حتى صبها
في بيت عجوز وعدنا إلى منزله فقلت له في ذلك فقال: إنه
حضرني بعد مضيك رسول الروم ورسول الفرس فقالوا: لله درك يا
عمر! قد اجتمع الناس على علمك وفضلك وعدلك، فلما خرجوا من
عندي تداخلني ما يتداخل البشر فقمت ففعلت بنفسي ما فعلت.
وعن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: نادى عمر بالصلاة
جامعة, فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على محمد -صلى الله عليه
وسلم- ثم قال: أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من
بني مخزوم فيقبض لي من التمر والزبيب, فأظل يومي وأي يوم
ثم نزل. قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين, ما زدت
على أن قميت نفسك -يعني عبت- قال: ويحك يابن عوف! إني خلوت
بنفسي
(2/380)
فحدثتني قالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا
أفضل منك? فأردت أن أعرفها نفسها. خرجه الفضائلي أيضًا.
وروي عنه أنه قال في انصرافه من حجته التي لم يحج بعدها:
الحمد لله ولا إله إلا الله, يعطي من يشاء ما يشاء، لقد
كنت بهذا الوادي -يعني- ضجنان أرعى إبلًا للخطاب, وكان فظا
غليظا يتعبني إذا عملت, ويضربني إذا قصرت, قد أصبحت وأمسيت
وليس دون الله أحد أخشاه.
"شرح" ضجنان: بناحية مكة.
وروي أنه قال يومًا على المنبر: يا معاشر المسلمين, ماذا
تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا -وميل رأسه- فقام إليه
رجل فسل سيفه وقال: أجل! كنا نقول بالسيف كذا -وأشار إلى
قطعه- فقال: إياي تعني بقولك? قال: نعم إياك أعني بقولي،
فنهره عمر ثلاثًا وهو ينهر عمر، فقال عمر: رحمك الله!
الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني، خرجه
الملاء في سيرته.
وعن عمر قال: تأيمت حفصة من خنيس بن حذيفة السهمي وكان ممن
شهد بدرًا، فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة،
فقال: أنظر ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي
هذا, فلقيت أبا بكر فعرضت عليه فصمت، ثم ذكر تزويجها من
النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيأتي في مناقب حفصة من كتاب1
مناقب أمهات المؤمنين.
وعن محمد بن الزبير عن شيخ التقت ترقوتاه من الكبر يخبره
أن عمر استفتى في مسألة فقال: اتبعوني حتى انتهى إلى علي
بن أبي طالب فقال: مرحبًا يا أمير المؤمنين, فذكر له
المسألة, فقال: ألا أرسلت لي? فقال: أنا
__________
1 كتاب خاص للمؤلف في هذا الموضوع.
(2/381)
أحق بإتيانك، خرجه ابن البختري في حديث
طويل سنذكره في فضائل علي.
وروي أن عمر جاءه برد من اليمن وكان من جيد ما حمل إليه،
فلم يدر لمن يعطيه من الصحابة، إن أعطاه واحدًا غضب الآخر
ورأى أن قد فضله عليه، فقال عند ذلك: دلوني على فتى من
قريش نشأ نشأة حسنة، فسموا له المسور بن مخرمة؛ فدفع
الرداء إليه، فنظر إليه سعد فقال له: ما هذا الرداء? قال:
كسانيه أمير المؤمنين فجاء معه إلى عمر فقال له: تكسوني
هذا الرداء وتكسو ابن أخي مسورا أفضل منه? فقال له: يا أبا
إسحاق إني كرهت أن أعطيه رجلًا كبيرًا فتغضب أصحابه
فأعطيته من نشأ نشأة حسنة، لا تتوهم أني أفضله عليكم، قال
سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالرداء الذي أعطيتني رأسك، فخضع
له عمر رأسه وقال له: يا أبا إسحاق, وليرفق الشيخ بالشيخ.
وعن أسيد بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه
أمداد أهل اليمن يسألهم: أفيكم أويس بن عامر? حتى أتى على
أويس فقال: أنت أويس بن عامر? قال: نعم!! قال: من مراد ثم
من قرن؟ قال: نعم!! قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع
درهم؟ قال: نعم! قال: ألك والدة? قال: نعم, قال: سمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر
مع أمداد أهل اليمن, من مراد ثم من قرن, كان به برص فبرئ
منه إلا موضع درهم، له والدة هو لها بر، لو أقسم على الله
لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل لي" فاستغفر له فقال
له عمر: أين تريد? قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى
عاملها? قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان
من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن
أويس فقال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، ثم قال له: فإن
استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويسًا فقال: استغفر لي،
فقال: أنت أحدث عهد بسفر
(2/382)
صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت
أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر? قال: نعم
فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه. خرجه مسلم.
"شرح" الغبرات: البقايا, الواحد: غابر, ثم يجمع على غبراء
ثم غبرات جمع الجمع.
ذكر شفقته على رعيته وتفقد أحوالهم وإنصافه لهم ونصحه
إياهم:
عن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة
آلاف فقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. خرجه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: قدمت من البحرين فسألني عمر عن الناس
فأخبرته، ثم قال: ماذا جئت به? فقلت: خمسمائة ألف، قال:
ويحك!! هل تدري ما تقول? قلت: نعم مائه ألف، ومائة ألف،
ومائة ألف، ومائة ألف ومائة ألف، فقال: إنك ناعس، ارجع إلى
أهلك فنم، فلما أصبحت طلبني فأتيته فقال: ماذا جئت به?
قلت: جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك!! هل تدري ما تقول? قلت:
نعم مائة ألف وعددتها خمس مرات، فقال: أطيب? قلت: لا أعلم
إلا ذاك، قال: فدون الديوان وفرض للمهاجرين خمسة آلاف
وأربعة آلاف, ولأمهات المؤمنين اثني عشر ألفًا.
وعن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض
للرجل من طيئ في ألفين ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض
عني، ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني، قال: فاستقبلته
فأعرض عني، قال: قلت: يا أمير المؤمنين, أتعرفني? قال:
فضحك ثم قال: والله إني لأعرفك, آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ
أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ووجوه أصحابه صدقة طيئ،
(2/383)
حيث جئت بها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ثم أخذ يعتذر له, ثم قال: إنما فرضت لأقوام أجحفت
بهم الفاقة وهم سادات عشائرهم لما ينوب من الحتوف، قال
عدي: فلا أبالي إذًا. خرجه البخاري بتمامه، وهو لمسلم
مختصر.
وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي
عمر بن الخطاب بعسفان -وكان قد استعمله على مكة- فقال: من
استعملت على أهل الوادي? قال: ابن أبزي? قال: ومن ابن
أبزي? فقال: مولى من موالينا، فقال: استعملت عليهم مولى?
فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن
نبيكم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به
آخرين". خرجه مسلم.
وعن ليث بن أبي سليمان قال: بلغني أن عمر بن الخطاب عوتب
في جهده نهارًا في أمور الناس, وفي إجهاده ليلًا في أمور
آخرته فقال لهم: إن أنا نمت نهاري ضاعت الرعية، وإن نمت
ليلي ضيعت نفسي، فكيف بالنوم معهما?! خرجه نظام الملك في
أماليه.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر إلى السوق
فلحقته امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك
صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا ولا لهم ضرع ولا زرع
وخشيت عليهم الضيعة، وأنا ابنة خفاف بن أيمن الغفاري، وقد
شهد أبي الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقف
معها ولم يمض وقال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير
ظهير كان مربوطًا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما
طعامًا وجعل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها خطامه فقال:
اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال الرجل:
يا أمير المؤمنين أكثرت لها، فقال: ثكلتك أمك!! والله إني
لأرى أبا هذه وأخاه وقد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه, ثم
أصبحنا نستفيء سهامهما. خرجه البخاري.
"شرح" ظهير أي: قوي وناقة ظهير، وأصله من الظهير: المعين.
(2/384)
ومنه: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ
ظَهِيرٌ} .
وعنه أن عمر بن الخطاب طاف ليلة فإذا بامرأة في جوف دار
لها حولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار قد ملأتها ماء,
فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله!! لأي شيء بكاء هؤلاء
الصبيان? فقالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذه القدر التي
على النار? قالت: قد جعلت فيها ماء أعللهم بها حتى يناموا
وأوهمهم أن فيها شيئًا، فجلس عمر يبكي، ثم جاء إلى دار
الصدقة وأخذ غرارة وجعل فيها شيئًا من دقيق وسمن وشحم وتمر
وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال: أي أسلم، احمل علي،
قلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، قال: لا أم لك يا
أسلم، أنا أحمله لأني المسئول عنه في الآخرة، قال: فحمله
على عاتقه حتى أتى به منزل المرأة وأخذ القدر وجعل فيها
دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده وينفخ تحت
القدر -وكانت لحيته عظيمة فرأيت الدخان يخرج من خلال
لحيته- حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا
ثم خرج. خرجه الفضائلي.
وعنه أن عمر كان يصوم الدهر وكان زمان الرمادة إذا أمسى
أتي بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحر يومًا من الأيام جزورًا
فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها، فأتي به فإذا قدر من سنام
ومن كبد، فقال: أي هذا? فقالوا: يا أمير المؤمنين من
الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بخ بخ!! بئس الوالي أنا!!
أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات
لنا غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت فجعل يكسر بيده ويثرد
ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتى
تأتي بها أهل بيت بتمغ, فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام
أحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم. خرجه صاحب الصفوة.
"شرح" الرمادة: الهلاك، يشير -والله أعلم- إلى زمن القحط.
(2/385)
والقدر: القطع جمع قدرة، وهي القطعة من
اللحم إذا كانت مجتمعة, وتمغ اسم مال لعمر، وقد تقدم بخ بخ
تقدم شرحه أيضًا في ذكر الورع. وروي أنه عام الرمادة لما
اشتد الجوع بالناس وكان لا يوافقه الشعير والزيت ولا التمر
وإنما يوافقه السمن، فحلف لا يأتدم بالسمن حتى يفتح على
المسلمين عامه هذا، فصار إذا أكل خبز الشعير والتمر بغير
أدم يقرقر بطنه في المجلس فيضع يده عليه ويقول: إن شئت
قرقر, وإن شئت لا تقرقر، ما لك عندي أدم حتى يفتح الله على
المسلمين.
وروي أن زوجته اشترت له سمنًا فقال: ما هذا? قالت: من مالي
ليس من نفقتك، قال: ما أنا بذائقه حتى يجيء الناس. خرجهما
في فضائله.
وعن أبي هريرة قال: خرج عمر عام الرمادة فرأى نحوًا من
عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم? قالوا: الجهد،
قال: وأخرجوا لنا جلد ميتة مشويا كانوا يأكلونه ورمة
العظام يسحقونها ويسفونها، قال: فرأيت عمر طرح رداءه ثم
نزل يطبخ لهم ويطعم حتى شبعوا، ثم أرسل أسلم إلى المدينة
فجاءه بأبعرة, فحملهم عليها ثم كساهم, ثم لم يزل يختلف
إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
وعن1 ... أن عمر خرج حاجا في نفر من أصحابه حتى بلغ
الأبواء, إذا هو بشيخ على قارعة الطريق فقال الشيخ: يا
أيها الركب قفوا, فوقفوا له، وقال عمر: قل يا شيخ قال:
أفيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالوا: لا وقد توفي!
قال: أوقد توفي? قالوا" نعم, فبكى حتى ظننا أن نفسه ستخرج
من جنبيه، ثم قال: من ولي الأمة بعده؟ قالوا: أبو بكر،
قال: نجيب بني تيم؟ قالوا: نعم، قال: أفيكم هو? قالوا: لا
وقد توفي. قال: توفي! قالوا: نعم, فبكى حتى سمعنا لبكائه
نشيجًا، وقال: من ولي الأمة
__________
1 وعن أبي هريرة.
(2/386)
بعده? قالوا: عمر بن الخطاب، قال: فأين
كانوا من أبيض بني أمية -يريد عثمان بن عفان- فإنه كان
ألين جانبًا وأقرب؟! ثم قال: إن كانت صداقة أبي بكر لعمر
لمسلمة إلى خير، أفيكم هو? قالوا: هو الذي منذ اليوم
يكلمك، قال: أغثني, فإني لم أجد مغيثًا، قال: ومن أنت بلغك
الغوث? قال: أنا أبو عقيل أحد بني مليك، لقيت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فدعاني إلى الإسلام فآمنت به وصدقت
بما جاء به، فسقاني شربة سويق شرب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أولها وشربت آخرها، فما برحت أجد شبعها إذا جعت
وريها إذا عطشت وبردها إذا سخنت, ثم يممت في رأس الأبيض
أنا وقطعة غنم، أصلي في يومي وليلتي خمس صلوات وأصوم شهرًا
هو رمضان, وأذبح شاة بعشر ذي الحجة أنسك بها حتى إذا أتت
علينا السنة فما أبقت لنا منها غير شاة واحدة ننتفع بدرها,
فأكلها الذئب البارحة الأولى فأدركنا زكاتها وأكلناها
وبلغناك فأغث أغاثك الله، قال عمر: بلغك الغوث بلغك الغوث،
أدركني على الماء، قال الراوي: فنزلنا المنزل وأصبنا من
فضل أزوادنا, فكأني أنظر إلى عمر متقنعًا على قارعة
الطريق، آخذًا بزمام ناقته لم يطعم طعامًا ينتظر الشيخ
ويرمقه، فلما رحل الناس دعا عمر صاحب الماء فوصف له الشيخ
وقال: إذا أتى عليك فأنفق عليه وعلى عياله حتى أعود عليك
إن شاء الله تعالى, قال: فقضينا حجنا وانصرفنا، فلما نزلنا
المنزل دعا عمر صاحب الماء فقال: هل أحسنت إلى الشيخ? قال:
نعم يا أمير المؤمنين، أتاني وهو موعدك فمرض عندي ثلاثًا
ومات فدفنته وهذا قبره، فكأني أنظر إلى عمر وقد وثب
مباعدًا ما بين خطاه حتى وقف على القبر فصلى عليه ثم
اعتنقه وبكى، ثم قال: كره الله له صلتكم واختار له ما
عنده، ثم أمر بأهله فحملوا فلم يزل ينفق عليهم حتى قبض رضي
الله عنه.
وروي عنه أنه كان إذا جاءه وفد من الأقطار استخبرهم عن
أحوال الناس فيقولون: أما البلد الفلاني فإنهم يرهبون أمير
المؤمنين ويخافون
(2/387)
سطوته ويحذرون عقوبته، وأما البلد الفلاني
فإنهم قد جمعوا من الأموال ما لا تحمله السفن وهم موجهون
بها إليك، وأما البلد الفلاني فقد وجدنا بها عابدًا في
زاوية من زوايا المسجد ساجدًا يقول في سجوده: "اللهم اغفر
لأمير المؤمنين عمر زلته, وارفع درجته" فيقول عمر: أما من
خافني فلو أريد بعمر خير لما أخيف منه، وأما الأموال فلبيت
مال المسلمين ليس لعمر ولا لآل عمر فيها شيء، وأما الدعاء
الذي سمعتم بظهر الغيب فإن ما أرجو أن يعيد الله من بركات
الصالحين ودعواتهم علي فيغفر لي.
وعن عروة بن رويم قال: بينما عمر بن الخطاب يتصفح الناس
يسألهم عن أمراء أجنادهم إذ مر بأهل حمص فقال: كيف أنتم
وكيف أميركم? قالوا: خير أمير يا أمير المؤمنين, إلا أنه
قد بنى علية يكون فيها, فكتب كتابًا وأرسل بريدًا وأمره
إذا جئت باب عليته فاجمع حطبًا وأحرق باب عليته، فلما قدم
جمع حطبًا وأحرق باب العلية، فدخل عليه الناس وذكروا أن
ههنا رجلًا يحرق باب عليتك فقال: دعوه فإنه رسول أمير
المؤمنين، ثم دخل عليه فناوله الكتاب فلم يضع الكتاب من
يده حتى ركب، فلما رآه عمر قال: احبسوه عني في الشمس ثلاثة
أيام، فحبس عنه ثلاثة حتى إذا كان بعد ثلاثة قال: يابن قرط
ألحقني إلى الحرة -وفيها إبل الصدقة وغنمها- حتى إذا جاء
الحرة ألقى عليه ثمرة وقال: انزع ثيابك واتزر بهذه ثم
ناوله الدلو فقال: اسق هذه الإبل فلم يفرغ حتى لغب، فقال:
يابن قرط متى كان عهدك بهذا? قال: مليا يا أمير المؤمنين،
قال: فلهذا بنيت العلية وأشرفت بها على المسلمين والأرملة
واليتيم، ارجع إلى عملك ولا تعد. لغب أي: تعب، ومنه:
{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} مليا أي: زمانًا وحينًا.
وعن إبراهيم أن عمر كان إذا بلغه عن عامله أنه لا يعود
المريض ولا يدخل عليه الضعيف نزعه. خرجهما سعيد بن منصور
في سننه.
(2/388)
وعن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار
فنزلوا المصلى فقال عمر لعبد الرحمن: هل لك أن تحرسهم
الليلة من السرق? فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله
لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقي الله
وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى
أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه, فلما كان من آخر
الليل سمع بكاءه فأتى إلى أمه وقال: ويحك! إني لأراك أم
سوء، ما لي لا أرى ابنك لا يقر منذ الليلة? قالت: يا عهد
الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه على الفطام فيأبى،
قال: ولم? قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطم، قال: فكم له?
قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: لا تعجليه، فصلى الفجر وما
يستبين الناس ثم غلبه البكاء، فلما سلم قال: يا بؤسا لعمر،
كم قتل من أولاد المسلمين؟! ثم أمر مناديًا ينادي أن لا
تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في
الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في
الإسلام. خرجه صاحب الصفوة.
"شرح" أبرمتني: أضجرتني, أربعه: أحبسه وأمرنه, البؤسى:
خلاف النعي.
وروي أن عمر جاءته برود من اليمن ففرقها على الناس بردًا
بردًا, ثم صعد المنبر يخطب وعليه حلة منها فقال: اسمعوا
رحمكم الله! فقام إليه رجل من القوم فقال: والله لا نسمع،
والله لا نسمع، فقال: ولم يا عبد الله؟! قال: لأنك يا عمر
تفضلت علينا بالدنيا، فرقت علينا بردًا بردًا وخرجت تخطب
في حلة منها، فقال: أين عبد الله بن عمر? فقال: ها أنا يا
أمير المؤمنين، فقال: لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ?
قال: لي، فقال للرجل: عجلت علي يا عبد الله، إني كنت غسلت
ثوبي الخلق فاستعرت ثوب عبد الله، قال: قل الآن: نسمع
ونطيع. خرجه الملاء في سيرته.
(2/389)
وعن أنس بن مالك: بينما أمير المؤمنين عمر
يعسّ ذات ليلة إذ مر بأعرابي جالس بفناء خيمة فجلس إليه
يحدثه ويسأله ويقول له: ما أقدمك هذه البلاد? فبينما هو
كذلك إذ سمع أنينًا من الخيمة فقال: من هذا الذي أسمع
أنينه? فقال: أمر ليس من شأنك، امرأة تمخض، فرجع عمر إلى
منزله وقال: يا أم كلثوم شدي عليك ثيابك واتبعيني، قال: ثم
انطلق حتى انتهى إلى الرجل فقال له: هل لك أن تأذن لهذه
المرأة أن تدخل عليها فتؤنسها، فأذن لها فدخلت فلم يلبث أن
قالت: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع قولها
أمير المؤمنين وثب من حينه فجلس بين يديه وجعل يعتذر إليه
فقال: لا عليك!! إذا أصبحت فأتنا فلما أصبح أتاه ففرض
لابنه في الذرية وأعطاه. وعن ... أن عمر لما رجع من الشام
إلى المدينة انفرد عن الناس ليعرف أخبارهم فمر بعجوز في
خبائها فقصدها فقالت: يا هذا ما فعل عمر؟ قال: هو ذا قد
أقبل من الشام، قالت: لا جزاه الله عني خيرًا، قال: ويحك!
ولم? قالت: لأنه والله ما نالني من عطائه منذ ولي إلى
يومنا هذا دينار ولا درهم، فقال: ويحك ما يدري عمر حالك,
وأنت في هذا الموضع? فقالت: سبحان الله ما ظننت أن أحدًا
يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! قال: فأقبل
عمر وهو يبكي ويقول: وا عمراه! وا خصوماه! كل واحد أفقه
منك يا عمر، ثم قال لها: بكم تبيعيني ظلامتك منه فإني
أرحمه من النار؟ قالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله، قال لها
عمر: ليس بهزء، فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة
وعشرين دينارًا، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب
وابن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين, فوضعت
المرأة يدها على رأسها وقالت: وا سوءتاه!! شتمت أمير
المؤمنين في وجهه، فقال لها عمر: لا عليك يرحمك الله، قال:
ثم طلب عمر قطعة جلد يكتب فيه فلم يجد, فقطع قطعة من فروة
كان لبسها وكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ
(2/390)
ولي إلى يومنا بخمسة وعشرين دينارًا، فما
تدعي عند وقوفي في المحشر بين يدي الله -عز وجل- فعمر منه
بريء، شهد على ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ثم
دفع الكتاب إلى علي وقال: إذا أنا تقدمتك, فاجعلها في
كفني.
وعن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب خرج في سواد الليل فرآه
طلحة, فذهب عمر فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر فلما أصبح
طلحة ذهب إلى ذلك البيت, فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها:
ما بال هذا الرجل يأتيك? قالت: إنه معاهدي منذ كذا وكذا
بما يصلحني, ويخرج عني الأذى فقال طلحة: ثكلتك أمك! أعثرات
عمر تتبع? خرجه صاحب الصفوة والفضائلي.
وعن ... 1 أن عمر كان يخرج ظاهر المدينة ويتفقد أحوال
الناس, فصلى الظهر تحت شجرة بعيدة من المدينة ثم وضع رأسه
يستريح تحتها ساعة, فمر به رجل2 كافر ووقف على رأسه وقال:
أحسنت يا عمر عدلت فنمت، فلما استيقظ قبل رجليه وأسلم،
فبكى عمر وقال: يا رب, هلك عمر إن لم ترحمه.
وعن ابن عمر أن عمر رأى رجلًا يحتش في الحرم فقال: أما
علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذا? قال:
لا، وشكا إليه الحاجة فرثى له وأمر له بشيء، خرجه المخلص
الذهبي.
وعن عبد الله بن جعفر قال: رأيت عمر بن الخطاب وإنه ليدعو
بالإناء فيه الماء فيعطيه معيقيبًا -وكان رجلًا قد أسرع
فيه ذلك الوجع- فيشرب منه ثم يتناوله عمر من يده, فيتيمم
بفمه موضع فمه حتى يشرب منه، فعرف أنه إنما يصنع ذلك
فرارًا من أن يدخل نفسه في شيء من
__________
1 وعن الأوزاعي.
2 هو رسول كسرى ملك الفرس.
(2/391)
العدوى، قال: وكان يطلب له الطب من كل من
يسمع له بطب حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن فقال: هل
عندكما من طب لهذا الرجل الصالح, فإن هذا الوجع قد أسرع
فيه? قالا: ما شيء يذهبه، فإنا لا نقدر عله، ولكنا نداويه
بدواء يقفه فلا يزيد، قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا
يزيد، قالا: هذا ينبت في أرضك هذا الحنظل، قال: نعم، قالا:
فاجمع لنا منه، قال: فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان،
قال: فعمد إلى كل حنظلة فقطعاها باثنين ثم أضجعا معيقيبًا
فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه, ثم جعلا يدلكان بطون
قدميه بالحنظل حتى إذا محقت أخذا أخرى حتى رأينا معيقيبًا
ينتخمه، أخضر مرا، ثم أرسلاه فقالا لعمر: لا يزيد وجعه هذا
أبدًا، وقال: فوالله ما زال معيقيب منها متماسكًا ما يزيد
وجعه حتى مات. خرجه أبو مسعود أحمد بن الفرات الضبي.
وعن ابن عمر قال: كتب عمر بن الخطاب فيمن غاب من الرجال من
أهل المدينة عن نسائهم أن يردوهم: فليرجعوا إليهن أو
يطلقوهن أو ليبعثوا إليهن بالنفقة، فمن طلق بعث نفقة ما
ترك. خرجه الأبهري.
وروي أنه كان يطوف ليلة في المدينة, فسمع امرأة تقول:
ألا طال هذا الليل وازورَّ جانبه ... وليس إلى جنبي خليل
ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير
جوانبه
مخافة ربي والحياء يردني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ولكنني أخشى رقيبًا موكلا ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
فسأل عمر نساء: كم تصبر المرأة عن الرجل? فقلن: شهرين، وفي
الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفد الصبر، فكتب إلى أمراء
الأجناد: أن لا تحبسوا رجلًا عن امرأته أكثر من أربعة
أشهر.
وعن الشعبي قال: سمع عمر امرأة تقول:
(2/392)
دعتني النفس بعد خروج عمرو ... إلى اللذات
تطلع اطلاعا
فقلت لها: عجلت فلن تطاعي ... ولو طالت إقامته رباعا
أحاذر أن أطيعك سب نفسي ... ومخزاة تجللني قناعا
فقال لها عمر: ما الذي يمنعك من ذلك? قالت: الحياء وإكرام
زوجي، قال عمر: إن في الحياة لهنات ذات ألوان؛ من استحى
استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقى. خرجه ابن أبي
الدنيا.
وعن ... 1 أن رجلًا من الموالي خطب إلى رجل من قريش أخته
وأعطاها مالًا جزيلًا, فأبى القرشي من تزويجها، فقال له
عمر: ما منعك أن تزوجه فإن له صلاحًا وقد أحسن عطية أختك?
فقال القرشي: يا أمير المؤمنين إن لنا حسبًا وإنه ليس لها
بكفء، فقال عمر: لقد جاءك بحسب الدنيا والآخرة؛ أما حسب
الدنيا فالمال، وأما حسب الآخرة فالتقوى, زوج الرجل إن
كانت المرأة راضية، فراجعها أخوها فرضيت فزوجها منه.
ذكر محافظته على مال المسلمين ومباشرة ذلك بنفسه, ووصف
عثمان وعلي -رضي الله عنهما- إياه بالقوة والأمانة -رضي
الله عنه:
تقدم في صدر هذا الفصل في النثر طرف جيد، ثم في ذكر زهده
وذكر ورعه طرف صالح منه، وكذلك تقدم في غضون الأحاديث كثير
مما يتضمن معناه. وعن أبي بكر العبسي قال: دخلت مع عمر
وعثمان وعلي مكان الصدقة فجلس عثمان في الظل يكتب، وقام
علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر, وعمر قائم في الشمس
في يوم شديد الحر، عليه بردتان سوداوان مؤتزر بواحدة وقد
وضع الأخرى على رأسه، وهو يتفقد إبل الصدقة يكتب ألوانها
وأسنانها، فقال علي لعثمان: أما سمعت قول ابنة
__________
1 وعن الشعبي.
(2/393)
شعيب في كتاب الله -عز وجل- {يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الْأَمِينُ} وأشار إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين، خرجه
المخلص وابن السمان في الموافقة.
وعن محمد بن علي بن الحسين عن مولى لعثمان بن عفان قال:
بينما أنا مع عثمان في مال له في العالية في يوم صائف إذ
رأى رجلًا يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال
عثمان: ما على هذا? فنظرت فقلت: أرى رجلًا معممًا بردائه
يسوق بكرين ثم دنا الرجل فقال: انظر فنظرت فإذا هو عمر بن
الخطاب فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان فأخرج رأسه من
الباب فإذا لفح السموم فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه قال: ما
أخرجك هذه الساعة? فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا وقد
مضى بإبل الصدقة, فأردت أن ألحقهما بالحمى وخشيت أن يضيعا
فيسألني الله عنهما فقال عثمان: يا أمير المؤمنين هلم
الماء والظل ونكفيك قال: عد إلى ظلك، فقلت: عندنا من
يكفيك، فقال: عد إلى ظلك ومضى، فقال عثمان: من أحب أن ينظر
إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا, خرجه الشافعي في مسنده.
ذكر كتبه لعماله, وما كان يوصيهم ويأمرهم به:
عن أسلم أن عمر استعمل مولى له على الصدقة يدعى هنيئًا
فقال: يا هنيء, ضم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم
فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم
ابن عفان وابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع
ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني
ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين أفتاركه أنا? لا أبا لك!!
فالماء والمأكل أيسر من الذهب والفضة، وايم الله!! إنهم
ليرون أنا قد ظلمناهم وإنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها
في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام, والله لولا أن
المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على
(2/394)
الناس من بلادهم شيئًا. خرجه البخاري.
"شرح" الصريمة: تصغير الصرمة وهي القطعة من الإبل, وقوله
الصريمة: تصغير الصرمة وهي القطعة من الإبل. وقوله: "لا
أبا لك" قال الجوهري: هو مدح وكذا لا أم لك، وربما قالوا:
لا أبا لك لأن اللام كالمقحمة، ومعناه: لا كافي لك يشبهك.
قال في النهاية: وقد تذكر في بعض الذم لقولهم: لا أم لك.
وعن خزيمة بن ثابت قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب
عليه كتابًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار ثم
يقول له: إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على
أعراضهم ولا على أستارهم, ولكن استعملتك لتقيم فيهم الصلاة
وتقسم فيهم وتحكم بالعدل، ثم يشترط عليه أنه لا يأكل ولا
يلبس رفيعًا ولا يركب برذونًا ولا يغلق بابه دون حاجات
الناس. خرجه الفضائلي، وكان يأمر أصحابه بالتقشف فيقول
لهم: "اخشوشنوا, واخشوشبوا".
وعن سفيان بن عيينة أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر وهو
على الكوفة يستأذنه في بناء منزل يسكنه, فكتب إليه: ابنِ
ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث. خرجه الفضائلي أيضًا.
وعن عروة بن رويم اللخمي قال: كتب ابن الخطاب إلى أبي
عبيدة بن الجراح كتابًا يقرؤه على الناس بالجابية.
أما بعد: فإنه لا يقيم أمرا في الناس إلا خصيف القعدة بعيد
الغرة، ولا يطلع الناس منه على عورة، ولا يحنق في الحق على
حرة، ولا يخاف في الله لومة لائم، والسلام عليك.
وفي رواية: ولا يحابي في الحق على قرابة مكان, ولا يحنق في
الحق على حرة.
(2/395)
"شرح" خصيف القعدة أي: مستحكمها، واستخصف
الشيء: استحكم, الخصيف: الرجل المحكم العقل وكنى بذلك عمر
عن الاشتداد في دين الله وقوة الإيمان، والغرة: الاعتماد.
وكتب إليه أيضًا: أما بعد, فإني كتبت إليك كتابًا لم آلك
ونفسي فيه خيرًا: الزم خمس خلال يسلم لك دينك وتحظ بأفضل
حظك: إذا حضرك الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان
القاطعة, ثم أدن الضعيف حتى ينبسط لسانه ويجري قلبه,
وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى
أهله، وإنما الذي أبطل حقه من لم يرفع به رأسًا، واحرص على
الصلح ما لم يتبين لك القضاء، والسلام عليك. خرجه
السمرقندي.
وعن زيد الأيامي قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن
جبل إلى عمر بن الخطاب: أما بعد, فإنا عهدناك وشأن نفسك لك
مهم، فأصبحت اليوم وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها،
يجلس بين يديك الشريف والوضيع والصديق والعدو، ولكل حصته
من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر؟ وإنا نحذرك ما
حذرت الأمم قبلك، ونحذرك يومًا تعنو فيه الوجوه وتوجل فيه
القلوب وتنقطع فيه الحجج لغرة ملك قاهر، هم له داخرون
وينتظرون قضاءه ويخشون عقابه، وإنه كان يذكر لنا أنه سيأتي
الناس زمان يكون إخوان العلانية فيه أعداء السريرة.
وإنا نعوذ بالله -عز وجل- أن ينزل كتابنا منك سوى المنزل
الذي نزل من قلوبنا، وإنما كتبنا به إليك والسلام. فكتب
إليهما عمر: أما بعد, فإنه أتاني كتابكما, فكتبتما إلي
أنكما عهدتماني وشأن نفسي إلي مهم وما يدريكما، وكتبتما
إلي أني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي
الشريف والوضيع والعدو والصديق ولكل حصته من العدل، وإنه
لا حول ولا قوة عند عمر إلا بالله -عز وجل- وكتبتما
تحذرانني ما حذرت الأمم من قبل، وإنما هو اختلاف الليل
والنهار وآجال
(2/396)
الناس يبنيان كل جديد ويقربان كل بعيد
ويأتيان بكل موعود، حتى تصير الناس أعمالهم إلى الجنة أو
إلى النار، فيجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع
الحساب، وكتبتما أنه كان يذكر لكما أنه سيأتي على الناس
زمان يكون فيه إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم أولئك،
وليس هذا زمان ذاك، إنما ذلك إذا ظهرت الرغبة والرهبة فكان
رغبة الناس بعضهم إلى بعض في إصلاح دنياهم, وكتبتما إلي
تعيذانني بالله أن ينزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل
من قلوبكما، وإنما كتبتما إلي نصيحة، وإني قد صدقتكما
فتعاهداني منكما بكتاب، فإنه لا غناء عنكما. خرجه في كتاب
التحفة.
"سرح" تعنو فيه الوجوه: تخضع.
وعن أبي عوانة قال: كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى
عبد الله بن عمر: أما بعد, فإنه من اتقى الله وقاه, ومن
توكل عليه كفاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده، ولتكن
التقوى عماد عملك وجلاء قلبك، فإنه لا عمل لمن لا نية له,
ولا مال لمن لا رفق له, ولا جديد لمن لا خلق له. خرجه
الصولي.
وعن ... 1 أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد, فإن
القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك بحجة,
وأنفذ الحق إذا وضح؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له،
آسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من
عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك، البينة على من ادعى واليمين
على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل
حرامًا أو حرم حلالًا، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت
فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم
ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم
__________
1 وعن أبي عوانة.
(2/397)
فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب
والسنة، واعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك
فاعمد إلى أحبها إلى الله -عز وجل- وأشبهها بالحق فيما
ترى، واجعل لمن ادعى بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة
أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه، فإن ذلك أجلى للعمى
وأبلغ في العذر, المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا
في حد ومجربًا في شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو وراثة،
إن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم البينات, وإياك
والغلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن
الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر، فإنه من
يصلح نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفيه
الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله
منه غير ذلك يشينه الله، فما ظنك بثواب الله -عز وجل-
وعاجل رزقه وخزائن رحمته?!!. والسلام عليك. خرجه
الدارقطني.
"شرح" أدلى يقال: أدلى دلوه: أرسلها، ودلاها: أخرجها,
والظنين بالظاء: المتهم وبالضاد: البخل والأول المقصود,
الغلق: ضيق الصدر ورجل غلق: سيئ الخلق وأغلق الأمر إذا لم
ينفسح, وغلق الرهن إذا لم يجد مخلصًا, والشين: العيب.
وروي أنه كتب له أيضًا:
أما بعد، فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وأشقاهم من
شقيت به رعيته، وإياك أن تزيغ فتزيغ عمالك فيكون مثلك عند
الله مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض ورعت تبتغي بذلك
السمن، وإنما حتفها في سمنها، والسلام.
"شرح" تزيغ: تميل, حتفها: هلاكها, وكان يكتب إلى أهل
الأمصار: علموا أولادكم العوم والفروسية.
وعن كرام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر: أن أدبوا الخيل
ولا ترفعن
(2/398)
بين ظهرانيكم الصليب, ولا تجاورنكم
الخنازير. خرجه ابن عرفة العبدي.
وعن جعفر بن رومان أن عمر كتب إلى بعض عماله فكان في آخر
كتابه: أن حاسب نفسك في الرخاء قبل حسابك في الشدة، فإنه
من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد مرجعه إلى
الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغفته أهواؤه عاد أمره
إلى الندامة والحسرة، فتذكر ما توعظ به لكيما تنتهي عما
تنهى عنه, وتكون عند التذكرة والوعظ من أولي النهى، خرجه
في محاسبة النفس لابن أبي الدنيا.
وعن أبي عثمان عبد الرحمن النهدي قال: كتب إلينا عمر, ونحن
بآذربيجان مع عتبة بن فرقد: يا عتبة, إنه ليس من كدك ولا
من كد أبيك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في
رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبوس الحرير، قال:
"إلا هكذا" ورفع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بأصبعيه السبابة والوسطى وضمهما. أخرجاه.
ذكر أنه كان أعز الناس على أبي بكر:
عن عائشة قالت: قال أبو بكر ذات يوم: ما على الأرض أحد أحب
إلي من عمر، ثم قال: كيف قلت? قالت: قلت: ما على الأرض أحد
أحب إلي من عمر، قال: أعز علي والولد ألوط.
"شرح" ألوط: ألصق بالقلب.
فصل: فيما رواه علي في فضل عمر, وروي عنه
قد تقدمت أكثر أحاديث هذا الفصل فيها، حديث دعائه -صلى
الله عليه وسلم- أن يعز الله به الإسلام، وحديث تسميته
الفاروق، وحديث أنه من أهل الجنة، وحديث أنه سراج أهل
الجنة.
وتقدم في الخصائص حديث هجرته علانية وحديث انطلاقه إلى
اليهود
(2/399)
في الموافقات، وحديث مروره على المساجد في
رمضان ودعائه لعمر، وقد تقدم في الفضائل حديث أن السكينة
تنطلق على لسانه، وحديث أن شيطانه يخافه أن يجره إلى
معصية، وحديث أن في القرآن لكلامًا من كلامه، وهذه في
الخصائص، وحديث وصفه له بالقوي الأمين، وحديث شهادته
والحسن والحسين بالعدل والإحسان في ذكر خوفه، وتقدم في باب
الشيخين أحاديث التخيير وحديث سيدي كهول أهل الجنة،
وأحاديث في الحث على حبهما والتحذير من سبهما -رضي الله
عنهما.
وسيأتي في فصل وفاته ثناؤه عليه عند ذلك، وقد تقدم أيضًا
في باب الشيخين، وتقدم أيضًا في باب الأربعة أحاديث عنه في
فضلهم وفي خلافتهم, وفي باب الثلاثة كذلك أيضًا. وعن علي
-رضي الله عنه- أنه كان يقول: إذا ذكر الصالحون فحيهلا
بعمر.
"شرح" حي: كلمة على حالها معناها: هلم وهلا: حث, فجعلا
كلمة واحدة معناها, إذا ذكروا فهات وعجل بعمر.
وعن الشعبي أن عليا قال لأهل نجران: إن عمر كان رشيد
الأمر، ولن أغير شيئًا صنعه.
وعنه أن عليا لما دخل الكوفة قال: ما كنت لأحل عقدة شدها
عمر.
وعن الحسن بن علي قال: لا أعلم عليا خالف عمر, ولا غير
شيئًا مما صنع حين قدم الكوفة.
وعن زيد أن عليا كان يشبه بعمر في السيرة.
وعن أبي إسحاق -عمن حدثه- أنه كان جليسًا لعلي، فاستبكى
بكاءً شديدًا فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين? قال:
ذكرت خليلي عمر وهذا البرد علي كسانيه. وعن أبي السفر قال:
رئي على علي برد كان يلبسه فقيل له: إنك تكثر من لبس هذا
البر? فقال له: كسانيه خليلي
(2/400)
وصفيي عمر بن الخطاب. خرجهن ابن السمان في
الموافقة، وخرج الأخير أبو القاسم الحريري وزاد: إن عمر
ناصح الله فنصحه الله, ثم بكى.
وعن علي أنه كان يقول: لا يبلغني أن أحدًا فضلني على عمر
إلا ضربته حد المفتري. خرجه سعدان بن نصر، وقد تقدم بطرق
كثيرة في أبي بكر وعمر في بابهما.
(2/401)
|