الرياض النضرة
في مناقب العشرة الفصل الحادي عشر:
في ذكر مقتله وما يتعلق به ذكر سؤاله الله أن يتوفاه
فاستجاب له على النحو الذي سأل
...
الفصل الحادي عشر: في ذكر مقتله وما يتعلق به, وذكر سؤاله
الله أن يتوفاه فاستجاب له على النحو الذي سأل:
عن سعيد بن المسيب أن عمر لما نفر من منى أناخ بالأبطح, ثم
كوم كومة بالبطحاء فألقى عليها طرف ردائه, ثم استلقى ورفع
يديه إلى السماء ثم قال: "اللهم كبرت سني وضعفت قوتي
وانتشرت رعيتي, فاقبضني إليك غير مضيع, ولا مفرط" فلما
انقضت ذو الحجة حتى طعن، خرجه ابن الضحاك والفضائلي.
وعن حفص وأسلم مولاه قالا: قال عمر: اللهم ارزقني شهادة في
(2/405)
سبيلك, واجعل موتي في بلد رسولك، وفي رواية
عن حفصة قالت: أنى يكون هذا? فقال: يأتيني به الله إذا
شاء، خرجه البخاري وأبو زرعة في كتاب العلل.
ذكر كيفية قتله, وبيان أنه كان في الصلاة:
وأنه استخلف في بقيتها عبد الرحمن بن عوف وبيان من قتله،
وكم قتل معه وجرح، وسقيه ماء عرف بهقدر جراحته, وثناء
الناس عليه، وتوصية ابنه عبد الله في دينه، وسؤاله عائشة
أن يدفن في حجرتها مع صاحبيه، وإجابتها إلى ذلك، وبكاء
حفصة عليه، وتوصيته الخليفة من بعده.
عن عمر بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد
الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال:
استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر قال: وربما قرأ
بسورة يوسف والنحل ونحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع
الناس، قال: فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو
أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر
على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه, حتى طعن ثلاثة عشر
رجلًا مات منهم تسعة، وفي رواية: سبعة، فلما رأى ذلك رجل
من المسلمين طرح عليه ثوبًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر
نفسه، وتناول عمر بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما من
كان يلي عمر فقد رأى الذي رأيت. وأما من في نواحي المسجد
فإنهم لا يدرون ما الأمر!! غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم
يقولون: سبحان الله! سبحان الله!! فصلى بهم عبد الرحمن
صلاة خفيفة, فلما انصرفوا قال: يابن عباس انظر من قتلني?
فجال ساعة فقال: غلام المغيرة بن شعبة، قال: الصنع? قال:
نعم! قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا ثم قال: الحمد
لله الذي لم يجعل
(2/406)
منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، فقد كنت أنت
وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم
رقيقًا فقال: إن شئت فعلت -أي: قتلنا- قال: بعدما تكلموا
بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فحمل إلى بيته فانطلقنا
معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا
بأس وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من
جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت,
فدخلنا عليه فجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال:
أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله -عز وجل- لك من صحبة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقدم في الإسلام ما قد
علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كان
كفافًا لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض
فقال: ردوا علي الغلام، قال: يابن أخي ارفع يديك فإنه أنقى
لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من
الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إن
وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن
كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم
وقال: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرئ عليك عمر
السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين
أميرًا وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فمضى
فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرئ
عمر عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت
أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل:
هذا عبد الله بن عمر قد جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه
فقال: ما لديك? قال: الذي تحبه يا أمير المؤمنين أذنت قال:
الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا أنا
قبضت فاحملوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت
أم المؤمنين حفصة -والنساء يسترنها- فلما رأيناها قمنا
فولجت عليه فبكت عنده
(2/407)
ساعة، فاستأذن الرجال فولجت داخلًا لهم
فسمعنا بكاءها من الداخل، ثم قال -يعني عمر: أوصي الخليفة
من بعدي بتقوى الله -عز وجل- وأوصيه بالأنصار خيرًا -الذين
تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم- أن يقبل من محسنهم ويعفو
عن مسيئهم, وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم رداء الإسلام
وجباة المال وغيظ العدو، وألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا،
وأوصيه بالأعراب خيرًا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام, أن
يؤخذ منهم من حواشي أموالهم ويرد في فقرائهم, وأوصيه بذمة
الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفي لهم بعهدهم،
وأن يقاتل من وراءهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم. قال: فلما
قبض خرجنا فانطلقنا نمشي, فسلم عبد الله بن عمر وقال:
يستأذن عمر بن الخطاب!! قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع
صاحبيه. أخرجه البخاري وأبو حاتم.
وفي رواية من حديث غزوة بن الزبير أن عمر أرسل إلى عائشة:
ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ قالت: إي والله!! قال: وكان
الرجل من الصحابة إذا أرسل إليها قالت: لا والله, لا
أوثرهم أبدًا. أخرجه البخاري.
وعن عمرو بن ميمون قال: كان أبو لؤلؤة أزرق نصرانيًّا،
خرجه أبو عمر وقيل: كان مجوسيًّا، ذكره القلعي وغيره.
ذكر سبب قتله, وبيان أنه لم يستخلف:
وإنما قدموا عبد الرحمن مع أن القتل كان في الصلاة، وتكرر
الناس أفواجًا أفواجًا للثناء عليه في تمنيه الخروج
كفافًا، وتسلم له صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومراجعة ابن عباس له في ذلك، وثنائه عليه واسترواحه
بحديثه، وجعله الخلافة شورى بين ستة، واستخلافه شهيبًا على
الصلاة. عن أبي رافع قال: كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن
شعبة وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة كل يوم يستغله أربعة
دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر فقال: يا أمير المؤمنين, إن
المغيرة قد أثقل علي غلتي فكلمه يخفف عني, فقال له
(2/408)
عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، فغضب العبد
وقال: وسع الناس كلهم عدله غيري، فأضمر على قتله فاصطنع
خنجرًا له رأسان وسمه، ثم أتى به الهرمزان فقال: كيف ترى
هذا? قال: أرى أنك لا تضرب بهذا أحدًا إلا قتلته قال:
وتحين أبو لؤلؤة عمر فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء
عمر، وكان إذا أقيمت الصلاة يقول: أقيموا صفوفكم فقال كما
كان يقول، فلما كبر وجأه أبو لؤلؤة في كتفه ووجأه في
خاصرته فسقط عمر وطعن بخنجره ثلاثة عشر رجلًا، هلك منهم
سبعة وحمل عمر فذهب به إلى منزله وماج الناس حتى كادت
الشمس تطلع، فنادى الناس عبد الرحمن بن عوف: يا أيها الناس
الصلاة الصلاة ففزعوا إلى الصلاة, فتقدم عبد الرحمن بن عوف
فصلى بهم بأقصر سورتين في القرآن، فلما قضى صلاته توجهوا
إلى عمر فدعا عمر بشراب لينظر ما قدر جرحه، فأتي بنبيذ
فشربه فخرج من جوفه فلم يدر أنبيذ هو أم دم, فدعا بلبن
فشربه فخرج من جرحه فقالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين
قال: إن يكن القتل ثابتًا فقد قتلت، فجعل الناس يثنون عليه
ويقولون: جزاك الله خيرًا يا أمير المؤمنين كنت ... ثم
ينصرفون، ويجيء آخرون فيثنون عليه فقال: أما والله على ما
تقولون وددت أني خرجت منها كفافًا لا علي ولا لي، وإن صحبة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلمت لي، فتكلم عبد الله
بن عباس -وكان عند رأسه وكان خليطه كأنه من أهله وكان ابن
عباس يقرئه القرآن- فقال: لا والله لا تخرج منها كفافًا,
فقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصحبته وهو عنك
راضٍ بخير ما صحبه صاحب وكنت له وكنت له وكنت له حتى قبض
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راض، ثم صحبت
خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت تنفذ أمره وكنت
له وكنت له ثم وليتها يا أمير أنت, فوليتها بخير ما وليها
والٍ، كنت تفعل وكنت تفعل، فكان عمر يستريح إلى حديث ابن
عباس فقال له عمر: يابن عباس كرر علي حديثك فكرر عليه،
فقال عمر: وأما والله, علام تقول؟! لو أن لي طلاع الأرض
ذهبًا لافتديت به اليوم
(2/409)
من هول المطلع، قد جعلتها شورى في ستة:
عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير وعبد الرحمن بن عوف
وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم- وجعل عبد الله بن عمر
معهم مشيرًا وليس منهم، وأجلهم ثلاثًا وأمر صهيبًا أن يصلي
بالناس -رحمة الله عليهم. خرجه أبو حاتم.
وروي أن عمر كان لا يأذن لمشرك قد احتلم أن يدخل المدينة,
حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يستأذنه في
غلام صنع يقال: لديه أعمال كثيرة, حداد ونقاش ونجار ومنافع
للناس، فأذن له عمر، فأرسل به المغيرة وضرب عليه المغيرة
مائة درهم في كل شهر، فجاء الغلام إلى عمر واشتكى، فقال
له: ما تحسن من الأعمال? فذكرها له، فقال له عمر: فما
خراجك يكثر، ثم ذكر معنى ما تقدم.
وعن ابن عباس أنه دخل على عمر حين طعن فقال: أبشر يا أمير
المؤمنين, أسلمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين
كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين
خذله الناس، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك
راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، وقتلت شهيدًا، فقال: أعد
فأعاد، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها
من بيضاء وصفراء لافتديت به من هول المطلع. خرجه أبو حاتم.
ذكر أن قتله كان قبل الدخول في الصلاة:
وتقدم الناس عبد الرحمن، وتبرئهم من المواطأة على قتله،
ودعائه الطبيب، وأمر الطبيب عمر بالوصية حين سقاه وخرج
المشروب من جرحه، وذكر أهل الشورى، وتخصيص علي بالإشارة
إليه والاعتذار من توليته حين قيل له: ما يمنعك أن توليه؟
عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر يوم طعن وما منعني أن أكون
في الصف المقدم إلا هيبته وكان رجلًا مهيبًا، وكنت في الصف
الذي
(2/410)
يليه، فأقبل عمر فعرض له أبو لؤلؤة -غلام
المغيرة- فناجى عمر قبل أن يسوي الصفوف، ثم طعنه ثلاث
طعنات، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب!! إنه قتلني، وماج
الناس فأسرعوا إليه، فجرح ثلاثة عشر رجلًا، فانكفى عليه
رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر فماج الناس بعضهم في بعض
حتى قال قائل: الصلاة عباد الله طلعت الشمس، فقدموا عبد
الرحمن بن عوف فصلى بنا بأقصر سورتين في القرآن {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ} واحتمل عمر ودخل الناس عليه، فقال: يا عبد
الله اخرج فناد في الناس: عن ملأ منكم هذا? فخرج ابن عباس
فقال: أيها الناس إن أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم?
فقالوا: معاذ الله!! والله ما علمنا وما أطلعناه، وقال:
ادعوا إلي الطبيب، فدعوا الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك?
قال: النبيذ, فسقي نبيذًا فخرج من بعض طعانه، فقال الناس:
هذا دم هذا صديد، فقال: اسقوني لبنًا فخرج من الطعنة، فقال
له الطبيب: لا أرى أن تمشي فما كنت فاعلًا فافعل، ثم ذكر
تمام الخبر في الشورى، وتقديم صهيب في الصلاة، وشهادة ابن
عمر وقال: إن ولوها الأجلح يسلك بهم الطريق المستقيم -يعني
عليا- فقال له ابن عمر: فما منعك أن تقدم عليا؟ قال: أكره
أن أحملها حيا وميتا. خرجه النسائي.
وفي رواية: لله درهم, إن ولوها الأصيلع كيف يحملهم على
الحق وإن كان السيف على عنقه؟ قال محمد بن كعب: فقلت:
أتعلم ذلك منه ولا توليه? فقال: إن أتركهم فقد تركهم من هو
خير مني. خرجه القلعي.
ذكر خبر ثانٍ يصرح بأن قتله كان قبل الصلاة, وتوعد أبي
لؤلؤة له بالقتل:
عن عبد الله بن الزبير قال: غدوت مع عمر بن الخطاب إلى
السوق وهو يتكئ على يدي، فلقيه أبو لؤلؤة -غلام المغيرة-
فقال له: ألا تكلم
(2/411)
مولاي يضع عني من خراجي? قال: كم خراجك?
قال: دينار، قال: ما أرى أن أفعل، إنك لعامل وما هذا
بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحى? قال: بلى, فلما
ولى عمر قال أبو لؤلؤة: لأعملن لك رحى يتحدث بها ما بين
المشرق والمغرب، قال: فوقع في نفسي قوله، قال: فلما كان في
النداء لصلاة الصبح وخرج عمر إلى الناس يؤذنهم بالصلاة قال
ابن الزبير: وأنا في مصلاي وقد اضطجع له عدو الله أبو
لؤلؤة فضربه بالسكين طعنات إحداهن من تحت سرته وهي التي
قتلته، فصاح عمر: أين عبد الرحمن بن عوف? فقال: ها هو ذا,
فصلى بالناس وقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
1 و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 2, واحتملوا عمر
فأدخلوه منزله، فقال لابنه عبد الله: اخرج فانظر من قتلني،
قال: فخرج عبد الله بن عمرفقال: من قتل أمير المؤمنين?
قالوا: أبو لؤلؤة -غلام المغيرة بن شعبة- فرجع فأخبر عمر
فقال: الحمد الله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني بلا
إله إلا الله، ثم قال: انظروا إلى عبد الرحمن بن عوف، ثم
ذكر الحديث في الشورى. خرجه الواقدي وأبو عمر.
أما تقدمة الناس عبد الرحمن على ما تضمنه الحديث الأول
وتقدمة عمر قيل: الجمع بينهما بأن يكون أمره أولًا ثم قدمه
الناس، وأما اختلاف الروايتين في وقت القتل فليس فيه إلا
الترجيح, وروايات القتل في الصلاة أصلح فترجح, والله أعلم.
ذكر تألمه للرعية لما أصيب -رضي الله عنه:
عن المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يتألم، فقال له
ابن عباس: يا أمير المؤمنين, لقد صحبت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت
أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم
__________
1 سورة الإخلاص الآية: 1.
2 سورة الكافرون الآية: 1.
(2/412)
فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبتهم فأحسنت
صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون, قال: أما ما
ذكرت من صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضاه فإنما
ذلك من فضل الله تعالى منَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي
فإنما هو من أجلك ومن أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع
الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أرده. خرجه
البخاري.
ذكر تزكيته أهل الشورى لما طعن عليهم:
وعن ابن عمر قال: لما طعن عمر وأمر بالشورى, دخلت عليه
حفصة ابنته فقالت: يا أبت إن الناس يزعمون أن هؤلاء الستة
ليسوا رضًا، فقال: أسندوني، فلما أسندوه قال: فما عسى أن
يقولوا في علي بن أبي طالب? سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: "يا علي, يدك في يدي تدخل -يعني يوم القيامة-
حيث أدخل" ما عسى أن يقولوا في عثمان? سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: "يوم يموت عثمان يصلي عليه ملائكة
السماء" قلت: يا رسول الله عثمان خاصة أم الناس عامة? قال:
"عثمان خاصة" ما عسى أن يقولوا في طلحة بن عبيد الله? سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ليلة, وقد سقط رحله:
"من يسوي رحلي وهو في الجنة؟ " فبدر طلحة بن عبيد الله
فسواه حتى ركب, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة,
هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة حتى
أنجيك منها" ما عسى أن يقولوا في الزبير? رأيت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وقد نام فجلس الزبير يذب عن وجهه حتى
استيقظ فقال له: "يا أبا عبد الله لم تزل?" فقال: لم أزل
بأبي أنت وأمي! قال: "هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا
معك يوم القيامة حتى أذب عن وجهك شر جهنم" ما عسى أن
يقولوا في سعد? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم
بدر, وقد أوتر قوسه أربع عشرة مرة فيدفعها له ويقول: "ارم
فداك أبي وأمي" ما عسى أن يقولوا في عبد الرحمن بن عوف?
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منزل فاطمة والحسن
والحسين يبكيان جوعًا ويتضوران, فقال صلى الله عليه وسلم:
"من يصلنا بشيء?" فطلع عبد الرحمن
(2/413)
بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة، فقال
صلى الله عليه وسلم: "كفاك الله أمر دنياك، وأما أمر آخرتك
فأنا لها ضامن". خرجه الحافظ أبو الحسن بن بشران، والحافظ
أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال.
ذكر سؤالهم منه الاستخلاف عليهم, واعتذاره منهم فيه:
عن ابن عمر قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه فقالوا:
جزاك الله خيرًا فقال: راغب وراهب، فقالوا: استخلف علينا،
قال: أتحمل أمركم حيا وميتا? وددت أن حظي منكم الكفاف لا
علي ولا لي، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا
بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني رسول الله
صلى الله عليه وسلم- قال عبد الله: فعرفت حين ذكر رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه غير مستخلف. أخرجاه وأبو
معاوية.
وعن ابن عمر أنه قال لعمر: إن الناس يتحدثون أنك غير
مستخلف، ولو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاء وترك
رعيته رأيت أن قد فرط، ورعية الناس أشد من رعية الإبل
والغنم، ماذا تقول لله -عز وجل- إذا لقيته ولم تستخلف على
عباده? قال: فأصابه كآبة ثم نكس رأسه طويلًا ثم رفع رأسه
وقال: إن الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعل فقد سن لي؛
إن لم أستخلف فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم
يستخلف، وإن استخلفت فقد استخلف أبو بكر، قال عبد الله:
فعرفت أنه غير مستخلف. خرجه ابن السمان في الموافقة.
وعنه قال: لما طعن عمر قلت: يا أمير المؤمنين لو اجتهدت
بنفسك وأمرت عليهم رجلًا؟ قال: أقعدوني، قال عبد الله:
فتمنيت لو أن بيني وبينه عرض المدينة فرقًا منه حين قال:
أقعدوني، ثم قال: والذي نفسي بيده لأردنها إلى الذي دفعها
إليَّ أول مرة. خرجه أبو زرعة في كتاب العلل.
(2/414)
ذكر إخباره -رضي الله عنه- عن موته بسبب
رؤيا رآها, واعتذاره عن الاستخلاف أيضًا:
وإخباره أيضًا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي
وهو راض عن الستة أهل الشورى وذم الطاعنين عليهم وإشهاده
الله تعالى على أمر الأمصار وعلى ما ولاهم عليه، ووصيته
بالمهاجرين والأنصار وثنائه عليهم وبالعرب وأهل الذمة.
عن معدان بن أبي طلحة أن عمر خطب يوم الجمعة وذكر النبي
-صلى الله عليه وسلم- وذكر أبا بكر, ثم قال: إني رأيت كأن
ديكًا نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا لحضور أجلي، وإن
أقوامًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه
ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة
شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو عنهم راضٍ، وإني قد علمت أقوامًا يطعنون في هذا
الأمر، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك
فأولئك أعداء الله الضلال, ثم قال: اللهم إني أشهد على
أمراء الأنصار، فإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا وليعلموا
الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا بينهم فيئهم, ويدفعوا إلى
ما أشكل عليهم من أمرهم قال: فما كان إلا الجمعة الأخرى
حتى طعن قال: فأذن للمهاجرين من أصحاب النبي -صلى الله
عليه وسلم- وأذن للأنصار، ثم أذن لأهل المدينة، ثم أذن
لأهل الشام، ثم أذن لأهل العراق، فكنا آخر من دخل عليه.
قال: فإذا هو قد عصب جرحه ببرد أسود والدم يسيل عليه قال:
فقلنا: أوصنا! ولم يسأله الوصية أحد غيرنا! قال: أوصيكم
بكتاب الله, فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه، وأوصيكم
بالمهاجرين، فإن الناس يكثرون ويقلون، وأوصيكم بالأنصار،
فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وأوصيكم بالأعراف فإنهم
أصلكم ومادتكم.
وفي رواية: فإنهم إخوتكم وعدو عدوكم، وأوصيكم بأهل الذمة،
(2/415)
فإنهم ذمة نبيكم ورزق عيالكم، قوموا عني.
أخرجاه, وفي رواية: ديكًا أحمر.
ذكر رؤيا أبي موسى الأشعري في موت عمر قبل وقوعه:
عن أبي موسى قال: رأيت في المنام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على جبل وإلى جنبه أبو بكر وهو يومئ إلى عمر أن
تعال!! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! مات والله أمير
المؤمنين، فقيل له: ألا تكتب بهذا إلى عمر? قال: ما كنت
لأنعي إليه نفسه.
ذكر من أخبر عمر بموته قبل وقوعه, وأمرهم إياه بالاحتراز
على نفسه:
عن كعب الأحبار أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين اعهد بأنك
ميت إلى ثلاثة أيام. فلما قضى ثلاثة أيام طعنه أبو لؤلؤة,
فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال
كعب وما بي حذر الموت، ولكن حذر الذنب.
وروي أن عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: احترس أو أخرج
العجم من المدينة؛ فإني لا آمن أن يطعنك رجل منهم في هذا
الموضع, ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.
وعن جبير بن مطعم قال: إنا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة
إذ سمعت رجلًا يقول: يا خليفة الله، فقال أعرابي من لهب
خلفي: ما هذا الصوت? قطع الله لهجتك، والله لا يقف أمير
المؤمنين بعد هذا العام أبدًا فسببته وأدبته، فلما رمينا
الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه، ففتحت عرقًا من رأسه
فسال الدم، فقال رجل: أشعر أمير المؤمنين? أما والله لا
يقف بعد هذا العام ههنا أبدًا, فالتفت فإذا هو
(2/416)
ذلك اللهبي، فوالله ما حج عمر بعدها. خرجه
ابن الضحاك.
ذكر وصاياه:
تقدم منها وصيته ابنه بدينه، وتوصيته الخليفة من بعده في
الذكر الأول من هذا الفصل، ووصيته بالمهاجرين والأنصار
وغيرهم تقدم قبل هذا بذكرين.
وعن عمر أنه نظر إلى علي وقال: اتق الله إن وليت شيئًا من
أمور الناس، فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين, ثم نظر
إلى عثمان فقال: اتق الله إن وليت شيئًا من أمور المسلمين
فلا تحملن بني أمية -أو قال: بني أبي معيط- على رقاب
المسلمين، ثم نظر إلى سعد والزبير فقال: وأنتما, فاتقيا
الله إن وليتما شيئًا من أمور المسلمين.
وفي رواية: أنه قال لعبد الرحمن: إن كنت على شيء من أمور
الناس, فلا تحملن أقاربك على رقاب الناس.
وعن ابن عمر أن عمر قال له: إذا أنا مت فأغمضني واقصد في
كفني؛ فإنه إن كان لي عند الله خير أبدلني خيرًا منه، وإن
كنت على غير ذلك سلبني، واقصد في حفرتي فإنه إن كان لي عند
الله خير وسع لي فيها مد بصري وإن كنت على غير ذلك ضيق علي
حتى تختلف أعضائي، ولا تخرج معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس
فيّ فإن الله هو أعلم بي، وأسرعوا في المشي، فإن كان لي
عند الله خير تقدمونني إليه، وإلا فشر تضعونه عن رقابكم.
وعن حفصة أم المؤمنين أنها دخلت عليه وهي تبكي تقول: يا
صاحب رسول الله!! يا صهر رسول الله!! فقال عمر لابنه:
أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره فقال1:
إني أقسم عليك
__________
1 موجهًا الخطاب إلى ابنته -رضي الله عنها.
(2/417)
بما لي عليك من الحق أن لا تندبيني بعد
مجلسك هذا، فأما عينيك1 فلن أملكها، إنه ليس من ميت يندب
بما ليس فيه إلا والملائكة تمقته.
ذكر تاريخ موته, ومدة مكثه بعد الجراحة, ومن صلى عليه, وما
سمع منه حين احتضر:
قال أهل العلم بالتاريخ: توفي لأربع بقين من ذي الحجة سنة
ثلاث وعشرين، وقيل: طعن لذلك ومات في آخر الحجة, واتفق
هؤلاء على أنه أقام بعدما طعن ثلاثًا ثم مات, وصلى عليه
صهيب ودفن في حجرة عائشة، ذكره ابن قتيبة والسلفي وغيرهما.
وعن عروة بن الزبير قال: لما قتل عمر استبق علي وعثمان
للصلاة عليه فقال لهما صهيب: إليكما عني, فقد وليت من
أمركما أكثر من الصلاة على عمر وأنا أصلي بكم المكتوبة،
فصلى عليه صهيب. خرجه الخجندي وروي أنه كان يقول حين
احتضر, ورأسه في حجر عبد الله بن عمر: ظلوم لنفسي, غير أني
مسلم أصلي صلاتي كلها وأصوم. خرجه القلعي.
وروي أن ملك الموت لما دخل عليه, سمعه عمر يقول لملك آخر:
هذا بيت أمير المؤمنين ما فيه شيء كأنه القبر, فقال عمر:
يا ملك الموت من تكون أنت خلفه هكذا يكون بيته.
ذكر مدة عمره, ومدة ولايته:
قال ابن إسحاق: كانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وخمس
ليالٍ، وكان يحج بالناس كل عام غير سنتين متواليتين.
واختلف في سنه يوم مات, فقيل: ثلاث وستون سنة كسن النبي
-صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه- روي ذلك عن
معاوية والشعبي، وقيل: خمس
__________
1 فأما دموع عينيك.
(2/418)
وخمسون، وروي ذلك عن سالم بن عبد الله بن
عمر, وقال الزهري: أربع وخمسون، ذكر جميع ذلك أبو عمر
والحافظ السلفي وغيرهما.
وعن أبي عمر سمعت عمر يقول قبل موته بسنتين أو ثلاث: أنا
ابن سبع أو ثمان وخمسين، وإنما أتاني الشيب من قبل أخوالي
بني المغيرة. خرجه الخجندي.
ذكر إظلام الأرض لموت عمر:
عن الحسن بن أبي جعفر قال: لما قتل عمر أظلمت الأرض، فجعل
الصبي يقول: يا أماه! أقامت القيامة? فتقول: لا يا بني!
ولكن قتل عمر بن الخطاب.
ذكر من ندب عمر, ومن أثنى عليه بعد موته:
تقدم ثناء ابن عباس في الذكر الثاني من هذا الفصل، وتقدم
ثناء علي عليه وقد وضع على سريره في باب الشيخين في ذكر
قوله -صلى الله عليه وسلم: "كثيرًا كنت أنا وأبو بكر وعمر"
من حديث البخاري عن ابن عباس وعن جعفر بن محمد عن أبيه
قال: لما غسل عمر وكفن وحمل على سريره وقف عليه علي فقال:
والله ما على الأرض رجل أحب إليَّ أن ألقى الله بصحيفته من
هذا المسجى بالثوب. خرجه في الصفوة، وابن السمان في
الموافقة وزاد: ثم بكى, حتى اخضلت لحيته بالدموع.
"شرح" اخضلت: ابتلت، يقال: اخضلَّ الشيء اخضلالًا واخضوضل
اخضيضالا أي: ابتل، وأخضلته فهو مخضل.
وعن عبد الرحمن أن عليا دخل على عمر وهو مسجى بثوبه فقال:
ما أحب أن ألقى الله بصحيفة أحب إلي من أن ألقاه بصحيفة
هذا المسجى بينكم، رحمك الله يابن الخطاب, إن كنت بآيات
الله لعالما, وإن كان الله في صدرك لعظيما, وإن كنت لتخشى
الله ولا تخشى الناس في الله،
(2/419)
جوادًا بالحق بخيلًا بالباطل، خميصًا من
الدنيا بطينًا من الآخرة.
وعن أوقر بن حكيم قال: لما مات عمر قلت: والله لآتين عليا
ولأسمعن منه، قال: فجئت فوجدت في مجلسه ناسًا يرقبونه قال:
فوالله ما لبثنا أن خرج علينا معتلا, فسلم ثم نكس رأسه ثم
رفعه فقال: لله در باكية عمر، وا عمراه! قوّم الأود وأيّد
العمل، وا عمراه! مات نقي الثوب، قليل العيب، وا عمراه!
ذهب بالسنة واتقى الفتنة، أصاب والله ابن الخطاب خيرها
ونجا من شرها، ولقد نظر له صاحبه فصار على الطريقة ما
استقامت، ثم مال فقال: ورحل الركب فتشعبتهم الطرق، لا
يهتدي الضال ولا يستيقن المهتدي. خرجهما ابن السمان في
الموافقة.
"شرح" الأود: الاعوجاج, وأيد: قوى.
وعن سعيد بن زيد أنه بكى فقيل له: ما يبكيك? قال: أبكي على
الإسلام، إن موت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا ترتتق إلى يوم
القيامة.
وروي أنه استأذن ودخل عليه ورثاه بأبيات لغيره.
وعن عبد الله بن عمر قال: كان عمر حصنًا حصينًا للإسلام،
فالناس يدخلون فيه ولا يخرجون، فأصبح الحصن قد انهدم
والناس يخرجون منه ولا يدخلون.
وقال أبو طلحة: ما من بيت حاضر ولا بادٍ إلا وقد دخل عليه
من موت عمر نقص.
وعن عبد الله بن سلام أنه وقف على جنازة عمر ثم قال: نعم
المرء للإسلام! كنت يا عمر جوادًا بالحق بخيلًا بالباطل,
ترضى حين الرضا وتغضب حين الغضب، عفيف الطرف، لم تكن
مداحًا ولا مغتابًا.
وعن حذيفة بن اليمان قال: كان الإسلام في زمان عمر كالرجل
المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما توفي صار كالرجل المدبر
لا يزداد إلا بعدًا.
(2/420)
وعن عبد الرحمن بن غنم أنه قال يوم مات
عمر: اليوم أصبح الإسلام موليًا.
وعن ابن مسعود أنه قال: والله لو أعلم أن كلبًا يحب عمر
لأحببته, ولوددت أني كنت خادمًا لعمر حتى أموت، ولو وجد
فقده كل شيء حتى العضاه، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن سلطانه
كان رحمة. وعنه وقد سأله عبيد الله بن عمر وهو في حلقته في
المسجد الحرام: يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم?
قال: هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة،
وحلف ثلاثة أيمان على ذلك.
وقد تقدم في فصل إسلام عمر أحاديث عنه في الثناء عليه، وفي
فصل خصائصه أحاديث في عمله، وحديث مصارعته الجني.
وعن معاوية أنه قال لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر فقال: كان
عالمًا في نفسه، عادلًا في رعيته، قليل الكبر، قبولًا
للعذر، سهل الحجاب, مفتوح الباب، يتحرى الصواب، بعيدًا من
الإساءة، رفيقًا بالضعيف، غير صخَّاب، كثير الصمت، بعيدًا
من العيب. وقد تقدم ثناء عائشة عليه في ذكر فضائل أبي بكر
في خطبة طويلة.
وعنها أنها كانت تقول: كان عمر والله أحوذيا نسيج وحده، قد
أعد للأمور أقرانها. خرجه الإسماعيلي والطبراني في
معجمهما، قال الرياشي: نسيج وحده: هو الرجل البارع الذي لا
يسبقه أحد، والأحوذي: السابق الخفيف من كل شيء. وعنها: إذا
ذكر عمر في المجلس حسن الحديث، فزينوا مجالسكم بالصلاة على
النبي -صلى الله عليه وسلم- وبذكر عمر.
ذكر إيثار أبي عبيدة الموت قبل موت عمر:
عن أبي عبيدة أنه قال: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن
(2/421)
يكون لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب، وأني
أبقى بعد عمر, قال قائل: ولم? قال: سترون ما أقول إن
بقيتم، إن ولي بعده وال فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم
يطعه الناس، وإن ضعف عنه قتلوه.
ذكر محو الزبير نفسه من الديوان لموت عمر:
عن هشام بن عروة قال: لما قتل عمر محا الزبير نفسه من
الديوان.
ذكر رثاء الجن لعمر:
عن عائشة قالت: ناحت الجن على عمر قبل أن يموت بثلاث,
فقالت:
أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيرًا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم
الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ما قدمت بالأمس
يسبق
قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها ... بواثق من أكمامها لم تفتق
خرجه أبو عمر.
وعن المطلب بن زياد قال: رثت الجن عمر, فكان فيما قالوا:
ستبكيك نساء الجن ... تبكين منتحبات
وتخمشن وجوها ... كالدنانير النقيات
ويلبس ثياب السود ... بعد القصبيات
وعن معروف الموصلي قال: لما أصيب عمر سمع صوت:
ليبكِ على الإسلامِ من كان باكيًا ... فقد أوشكوا هلكى وما
قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملها من كان يؤمن
بالوعد
(2/422)
خرجه الملاء في سيرته.
ذكر من رأى عمر في منامه بعد موته:
عن عبد الله بن عبد الله بن العباس قال: كان العباس خليلًا
لعمر, فلما أصيب جعل يدعو الله أن يريه عمر في المنام قال:
فرآه بعد حول وهو يمسح العرق عن وجهه فقال: ما فعلت? فقال:
هذا أوان فرغت، لولا أني لقيت رءوفًا رحيمًا. خرجه في
الصفوة.
وعن عمرو بن العاص قال: ما كان شيء أحب إلي أن أعلمه من
أمر عمر, فرأيت في المنام قصرًا فقلت: لمن هذا? قالوا: هو
لعمر بن الخطاب، فخرج من القصر عليه ملحفة كأنه قد اغتسل،
فقلت: كيف صنعت? قال: متى فارقتكم؟ قلت: من اثنتي عشرة
سنة، قال: إنما انقلبت الآن من الحساب.
(2/423)
|