الرياض النضرة
في مناقب العشرة الفصل العاشر: في
خلافته وما يتعلق بها, ذكر ما تضمن
الدلالة على خلافته بعد عمر
وقد تقدمت أحاديث هذا الذكر في نظيره من باب الأربعة
والثلاثة من تصريح وتلويح، وتقدم الكلام على ما تضمنته
الأحاديث من مشكل، وبيان وجه الدلالة على المطلوب، وتقدم
في فصل الشهادة له بالجنة في ذكر وصفنا الحورية طرف منه
أيضا.
وعن الأسود بن هلال عن رجل من قومه قال: كنا نقول في خلافة
عمر بن الخطاب: لا يموت عثمان حتى يستخلف1, قلنا: من أين
تعلم ذلك? قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"رأيت الليلة في المنام كأن ثلاثة من أصحابي ودقوا"
الحديث, وتقدم أيضا في باب الثلاثة، وفيه بحث دقيق فلينظر
ثمة.
وروي أن أبا بكر لما أملى على عثمان وصيته عند موته، فلما
بلغ إلى ذكر الخليفة أغمي عليه، فكتب عثمان عمر، فلما أفاق
قال: من
__________
1 حتى يصير خليفة.
(3/51)
كتبت? قال: عمر, قال: لو كتبت نفسك لكنت
لها أهلًا. خرجه في الصفوة.
وعن يزيد بن أسلم عن أبيه قال: كتب عثمان بن عفان عهد
الخليفة من بعد أبي بكر, فأمره أن لا يسمي أحدا، وترك اسم
رجل، فأغمي على أبي بكر إغماءة, فأخذ عثمان العهد وكتب فيه
اسم عمر. قال: فأفاق أبو بكر فقال: أرنا العهد فإذا اسم
عمر, قال: من كتب هذا? قال عثمان: أنا! قال: رحمك الله
وجزاك خيرا، فوالله لو كتبت نفسك لكنت لذلك أهلًا. أخرجه
ابن عرفة العبدي.
وعن حذيفة قال: قيل لعمر, وهو بالموقف: من الخليفة بعدك?
قال: عثمان بن عفان. خرجه خيثمة بن سليمان، وهذا خبر عن
كشف واطلاع لا عن عهد.
وعن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر فكان الحادي يحدو: إن
الأمير بعده عثمان, وحججت مع عثمان فكان الحادي يحدو: إن
الأمير بعده علي. خرجه البغوي في معجمه، وخرجه خيثمة وقال:
حججت مع عمر حجتين, فسمعت الحادي إلى آخره.
ذكر بيعته:
بويع بالخلافة يوم السبت عاشر المحرم سنة أربع وعشرين بعد
دفن عمر بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه. ذكره ابن قتيبة
وأبو عمر وغيره، واتخذ رضي الله عنه حاجبًا هو حمران مولاه
وكاتبًا هو مروان بن الحكم, ذكره الخجندي وغيره وخاتما1
نقشه: آمنت بالله مخلصا، وقيل: آمنت بالذي خلق فسوى، وقيل:
لتصبرن أو لتذمن, ذكره الخجندي أيضا, وكان في يده خاتم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطبع به إلى أن وقع منه في
بئر أريس. وقد
__________
1 أي: واتخذ خاتمًا.
(3/52)
تقدم ذكره في فصل خلافة أبي بكر ثم عمر.
قال ابن قتيبة: وافتتح أيام خلافته الإسكندرية، ثم سابور،
ثم أفريقية، ثم قبرص، ثم سواحل الروم وإصطخر الأخيرة وفارس
الأولى، ثم خوز وفارس الأخيرة، ثم طبرستان ودار أبجرد
وكرمان وسجستان، ثم الأساورة في البحر، ثم أفريقية من حصون
قبرص، ثم ساحل الأردن، ثم مرو, ثم حضر عثمان في ذي الحجة
سنة خمس وثلاثين.
ذكر حديث الشورى:
عن عمرو بن ميمون أنهم قالوا لعمر بن الخطاب لما طعنه أبو
لؤلؤة: أوصِ يا أمير المؤمنين استخلف, قال: ما أرى أحدا
أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ, فسمى عليا وطلحة وعثمان
والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص -رضي الله
عنهم- قال: ويشهد عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء
-كهيئة التعزية له- فإن أصاب الأمر سعد فهو ذاك، وإلا
فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله1 من عجز ولا خيانة.
فلما توفي وفرغ من دفنه ورجعوا اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد
الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد
جعلت أمري إلى علي، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد
الرحمن، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان, فخلا هؤلاء
الثلاثة علي وعثمان وعبد الرحمن فقال عبد الرحمن للآخرين:
أيكما يتبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه والله عليه والإسلام
لينظرن أفضلهم في نفسه وليحرصن على إصلاح الأمة? قال:
فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه
إلي, والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟
__________
1 أي: عن ولاية الكوفة حين شكاه أهلها إلى سيدنا عمر -رضي
الله عنه- وما كان الشاكون محقين في شكواهم، ومن أهل
الكوفة رجل يقال له: أبو سعدة من بني عبس قام في مسجدهم
وقال: إن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا
يعدل في القضية، فدعا عليه سعد فاستجيب له، وخبر هذا مروي
في الصحيحين.
(3/53)
قال: نعم! فأخذ بيد علي فقال: إن لك القدم
والإسلام والقرابة ما قد علمت، الله عليك، لئن أمرتك
لتعدلن ولئن أمرت إليك لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بعثمان فقال
له مثل ذلك, فلما أخذ الميثاق قال لعثمان: ارفع يدك
فبايعه، ثم بايعه علي, ثم ولج أهل الدار فبايعوه. خرجه
البخاري وأبو حاتم.
وفي رواية ذكرها ابن الجوزي في كتاب منهاج أهل الإصابة في
محبة الصحابة, أن عبد الرحمن لما قال لعلي وعثمان:
أفتجعلونه إلي? قالا: نعم قال لعلي: أبايعك على سيرة أبي
بكر وعمر? فقال علي: واجتهاد رأي, فخاف أن يترخص من المباح
ما لا يحتمله من ألف ذلك التشدد من سيرة الشيخين. فقال
لعثمان: أبايعك على سيرة أبي بكر وعمر? فقال: نعم فبايعه،
فسار سيرة أبي بكر وعمر مدة, ثم ترخص في مباحات فلم
يحتملوها حتى أنكروا عليه.
وعن المسور بن مخرمة أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا
فتشاوروا فقال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم في هذا
الأمر, ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد
الرحمن. فلما ولوه أمرهم انثال الناس على عبد الرحمن
ومالوا إليه حتى ما رأى أحدا من الناس يتبع أحدا من أولئك،
ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه ويناجونه تلك الليالي,
إذ كان الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان.
قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب
حتى استيقظت, فقال: ألا أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه
الثلاث بكثير نوم، فادع إلى الزبير وسعد، فدعوتهما له
فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى
ابهار الليل، ثم قال: ادع لي عثمان فدعاه فناجاه حتى فرق
بينهما المؤذن للصبح، فلما صلى الناس الصبح اجتمع أولئك
الرهط عند المنبر, فأرسل عبد الرحمن إلى من كان خارجا من
(3/54)
المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء
الأجناد وكانوا قد وافوا تلك الحجة مع عمر, فلما اجتمعوا
تشهد عبد الرحمن فقال: أما بعد يا علي, فإني نظرت في أمر
الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، أفلا تجعل على نفسك سبيلا؟
وأخذ بيد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله
والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس
والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. أخرجاه.
"شرح" الرهط: ما دون العشرة ليس فيهم امرأة, ومنه: {كَانَ
فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وانثال الناس عليه
وتناثلوا: إذا انصبوا, وهجع من الليل وهجعة منه أي: نومة
خفيفة من أوله، وابهار الليل وابتهر: انتصف ويقال: ذهب
معظمه وأكثره، فابهار علينا الليل: طال، والإشارة بقوله
توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض إلى ما
تضمنه الحديث المتقدم في باب ما دون العشرة.
وعن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: لما قدم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤني قط
فاعرفوا له ذلك. يا أيها الناس, إني راضٍ عن عمر وعلي
وعثمان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن مالك
وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين فاعرفوا لهم ذلك"
خرجه الخلعي، والحافظ الدمشقي في معجمه؛ فلذلك خصهم عمر
بالذكر ولم يتعدهم إلى غيرهم لمكان تخصيصه -صلى الله عليه
وسلم- إياهم بالذكر مع تعميمه حكم الرضا في المهاجرين
الأولين، وكان هذا القول بعد حجة الوداع قريب الوفاة على
ما تضمنه الحديث واعتماد عمر عليه يؤيد ذلك، ولو بعد عنها
كان الأصل بقاءه، ولكن قربه أنسب لترتب الاعتماد عليه
وأبعد من تغير حكم الرضا، وإن جاز فهو مرجوح. وقد يتبادر
إلى الأفهام أن المراد بالذين توفي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ بقية العشرة، ولو كان المراد
(3/55)
أولئك لدخل سعيد بن زيد, فإنه كان حاضرًا
لأنه كان من أمراء الأجناد، وقد تقدم في الحديث آنفا أنهم
حضروا في ذلك العام، وتوفي عمر في آخر ذي الحجة قبل أن
يتفرقوا، ويدل على ذلك وجه التنصيص أعني: دخول سعيد بن زيد
ممن حضر في ذلك العام حديث السقيفة عن ابن عباس وفيه: أن
عمر خطب في يوم جمعة مرجعه من حجة الوداع وذكر حديث
السقيفة, وذكر ابن عباس أنه عجل الرواح ذلك اليوم فوجد
سعيد بن زيد جالسًا إلى ركن المنبر فدل على ما قلناه آنفا،
على أن العشرة -رضي الله عنهم- وغيرهم من المهاجرين ممن
توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، لكن
لم يرد فيهم تنصيص على الرضا عنهم على التعيين كما ورد في
هؤلاء، وللتخصيص بالذكر والتنصيص راجحية؛ فلذلك اعتمدها
عمر -رضي الله عنه- وهذا في الاعتذار عن ذكر غيرهم من سعيد
وغيره -رضي الله عنهم- أولى من جواب محمد بن جرير الطبري
لما قيل له: العباس بن عبد المطلب مع جلالته وقربه من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ومنزلته لم يدخله عمر في الستة
في الشورى, فقال: إنه إنما جعلها في أهل السبق من
البدريين، والعباس لم يكن مهاجرًا ولا سابقًا ولا بدريًّا،
وهذا يعترض عليه بعثمان وطلحة فإنهما لم يحضرا بدرا, ولئن
قال: ثبت لهما أجر بدريين وسهمهما فعدا من البدريين، قلنا:
يشكل بسعيد بن زيد فإنه أسبق السابقين إسلاما وهجرة، وكان
ممن لم يحضر بدرا إلا أنه أعطي سهم بدري وأجره فلينسحب
عليه حكمهما، فعلم والحالة هذه أن لا موجب للتنصيص عليهم
وتخصيصهم بالذكر دون غيرهم إلا ما تضمنه الحديث المذكور
مما اعتمده عمر, والله أعلم.
ذكر اختيار كل واحد من أهل الشورى عثمان -رضي الله عنهم:
عن أسامة بن زيد عن رجل منهم أنه كان -يعني عبد الرحمن بن
عوف- كلما دعا رجلا منهم -يعني من أهل الشورى- تلك الليلة
ذكر مناقبه وقال: إنك لها أهل، فإن أخطأتك فمن? يقول: إن
أخطأتني فعثمان. خرجه أبو الخير القزويني الحاكمي.
(3/56)
|