الروض الأنف ت السلامي

ذكر الإسراء والمعراج
قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال ثم أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس من إيلياء ، وقد فشا الإسلام بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.
__________
شرح ما في حديث الإسراء من المشكل:
اتفقت الرواة على تسميته إسراء ولم يسمه أحد منهم سرى، وإن كان أهل

(3/251)


قال ابن إسحاق: كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه - صلى الله عليه وسلم - عن عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به - صلى الله عليه وسلم - وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين فأسري به كيف شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
ـــــــ
اللغة قد قالوا: سرى وأسرى بمعنى واحد فدل على أن أهل اللغة لم يحققوا العبارة وذلك أن القراء لم يختلفوا في التلاوة من قوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الاسراء:1] ولم يقل سرى، وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] ولم يقل يسري، فدل على أن السرى من سريت إذا سرت ليلا، وهي مؤنثة تقول طالت سراك الليلة والإسراء متعد في المعنى، ولكن حذف مفعوله كثيرا حتى ظن أهل اللغة أنهما بمعنى واحد لما رأوهما غير متعديين إلى مفعول في اللفظ وإنما أسرى بعبده أي جعل البراق يسري، كما تقول أمضيته، أي جعلته يمضي، لكن كثر حذف المفعول لقوة الدلالة عليه أو للاستغناء عن ذكره إذ المقصود بالخبر ذكر محمد لا ذكر الدابة التي سارت به وجاز في قصة لوط عليه السلام. أن يقال له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود:81] أي فاسر بهم وأن يقرأ فأسر بأهلك بالقطع أي فأسر بهم ما يتحملون عليه من دابة أو نحوها، ولم يتصور ذلك في السرى بالنبي صلى الله عليه وسلم,

(3/252)


راوية عبد الله ابن مسعود عن مسراه صلى الله عليه وسلم:
فكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني عنه - يقول أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم. ثم أتي بثلاثة آنية إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فسمعت قائلا يقول حين عرضت علي إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر غوى، وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته. قال فأخذت إناء اللبن فشربت منه فقال لي جبريل عليه السلام: هديت وهديت أمتك يا محمد"
حديث الحسن عن مسراه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أنا نائم
ـــــــ
إذ لا يجوز أن يقال سرى بعبده بوجه من الوجوه فلذلك لم تأت التلاوة إلا بوجه واحد في هذه القصة فتدبره. وكذلك تسامح النحويون أيضا في الباء والهمزة وجعلوهما بمعنى واحد في حكم التعدية ولو كان ما قالوه أصلا لجاز في: أمرضته أن تقول مرضت به وفي أسقمته: أن تقول سقمت به وفي أعميته أن تقول عميت به قياسا علي أذهبته وأذهبت به ويأبى الله ذلك والعالمون فإنما الباء تعطي مع التعدية طرفا من المشاركة في الفعل ولا تعطيه الهمزة فإذا قلت: أقعدته، فمعناه جعلته يقعد ولكنك شاركته في القعود فجذبته بيدك إلى الأرض أو نحو ذلك فلا بد من طرف من المشاركة إذا قعدت به ودخلت به وذهبت به بخلاف أدخلته وأذهبته.
فإن قلت: فقد قال الله سبحانه {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] و"ذهب بسمعهم وأبصارهم" ويتعالى - سبحانه - عن أن يوصف بالذهاب أويضاف إليه

(3/253)


في الحجر، إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست، فأخذ بعضدي، فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض، بين البغل - والحمار - في فخذيه جناحان يحفر بهما رجليه يضع يده في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته"
حديث قتادة عن مسراه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق، وحدثت عن قتادة أنه قال حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم على الله منه. قال فاستحيا حتى ارفض عرقا، ثم قر حتى ركبته"
عود إلى حديث الحسن عن مسراه صلى الله عليه وسلم وسبب تسمية أبي بكر: الصديق:
قال الحسن في حديثه فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى جبريل عليه السلام معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء <190> فأمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم ثم أتي بإناءين في أحدهما: خمر وفي الآخر لبن. قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال
__________
طرف منه وإنما معناه أذهب نورهم وسمعهم. قلنا: في الجواب عن هذا: أن النور والسمع والبصر كان بيده سبحانه وقد قال بيده الخير وهذا من الخير الذي بيده وإذا كان بيده فجائز أن يقال ذهب به على المعنى الذي يقتضيه قوله سبحانه بيده الخير كائنا ما كان ذلك المعنى، فعليه ينبني ذلك المعنى الآخر الذي في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مجازا كان أو حقيقة ألا ترى أنه لما ذكر الرجس كيف قال: { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]. ولم يقل يذهب به وكذلك قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال 11] تعليقا لعباده حسن الأدب معه حتى لا يضاف إلى

(3/254)


فقال له جبريل هديت للفطرة وهديت أمتك يا محمد وحرمت عليكم الخمر ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، فلما أصبح غدا على قريش، فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة . قال فقال لهم أبو بكر إنكم تكذبون عليه فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس فقال أبو بكر والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله. أحدثت هؤلاء القوم أنك أتيت المقدس هذه الليلة ؟ قال "نعم"، قال يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته - قال الحسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فرفع لي حتى نظرت إليه" - فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت، أشهد أنك رسول الله كلما وصف له منه شيئا، قال صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى انتهى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر "وأنت يا أبا بكر
ـــــــ
القدوس سبحانه - لفظا ومعنى شيء من الأرجاس وإن كانت خلقا له وملكا فلا يقال هي بيده على الخصوص تحسينا للعبارة وتنزيها له وفي مثل النور والسمع والبصر يحسن أن يقال هي بيده فحسن على هذا أن يقال: ذهب به وأما أسرى بعبده فإن دخول الباء فيه ليس من هذا القبيل فإنه فعل يتعدى إلى مفعول وذلك المفعول المسرى هو الذي سرى بالعبد فشاركه بالسرى، كما قدمنا في قعدت به أنه يعطى المشاركة في الفعل أو في طرف منه فتأمله.

(3/255)


الصديق" فيومئذ سماه الصديق
قال الحسن وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء 60].
فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما دخل فيه من حديث قتادة
حديث عائشة عن مسراه صلى الله عليه وسلم:
<191> قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله أسرى بروحه
ـــــــ
أكان الإسراء يقظة أم مناما:
فصل : وتقدم بين يدي الكلام في هذا الباب هل كان الإسراء في يقظة بجسده أو كان في نومه بروحه كما قال سبحانه {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر 43] وقد ذكر ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنها كانت رؤيا حق، وأن عائشة قالت لم تفقد بدنه وإنما عرج بروحه تلك الليلة ويحتج قائل هذا القول بقوله سبحانه {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء 60]. ولم يقل الرؤية وإنما يسمى رؤيا ما كان في النوم في عرف اللغة ويحتجون أيضا بحديث البخاري عن أنس بن مالك قال ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم أيهم هو ؟ فقال أوسطهم هو هذا، وهو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكان تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل. الحديث بطوله وقال في آخره واستيقظ وهو في المسجد الحرام، وهذا نص لا إشكال فيه أنها كانت رؤيا صادقة وقال أصحاب القول الثاني: قد تكون الرؤيا بمعنى الرؤية في

(3/256)


حديث معاوية عن مسراه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كانت رؤيا من الله تعالى صادقة
جواز أن يكون الإسراء رؤيا:
فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء 60].
ـــــــ
اليقظة وأنشدوا للراعي يصف صائدا:
وكبر للرؤيا، وهش فؤاده ... وبشر قلبا كان جما بلابله
قالوا: وفي الآية بيان أنها كانت في اليقظة لأنه قال {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء 60]. ولو كانت رؤيا نوم ما افتتن بها الناس حتى ارتد كثير ممن أسلم، وقال <192> الكفار: يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس، ورجع إلى مكة ليلته والعير تطرد إليها شهرا مقبلة وشهرا مدبرة ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد أحد منهم هذا، فمعلوم أن النائم قد يرى نفسه في السماء وفي المشرق والمغرب فلا يستبعد منه ذلك واحتج هؤلاء أيضا بشربه الماء من الإناء الذي كان مغطى عند القوم ووجدوه حين أصبح لا ماء فيه وبإرشاده للذين ند بعيرهم حين أنفرهم حس الدابة وهو البراق حتى دلهم عليه فأخبر أهل مكة بأمارة ذلك حتى ذلك الغرارتين السوداء والبرقاء كما في هذا الكتاب وفي رواية يونس أنه وعد قريشا بقدوم العير التي أرشدهم إلى البعير وشرب إناءهم وأنهم سيقدمون ويخبرون بذلك فقالوا: يا محمد متى يقدمون ؟ فقال "يوم الأربعاء"، فلما كان ذلك

(3/257)


ولقول الله <192> تعالى في الخبر عن إبراهيم عليه السلام إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات 102]. ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظا ونياما.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول "تنام عيناي وقلبي يقظان" والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله على أي حاليه كان نائما، أو يقظان كل ذلك حق وصدق
ـــــــ
اليوم ولم يقدموا، حتى كربت الشمس أن تغرب فدعا الله فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف قال ولم يحبس الشمس إلا له ذلك اليوم وليوشع بن نون وهذا كله لا يكون إلا يقظة وذهبت طائفة ثالثة منهم شيخنا القاضي أبو بكر [بن العربي] رحمه الله إلى تصديق المقالتين وتصحيح الحديثين وأن الإسراء كان مرتين إحداهما: كان في نومه وتوطئة له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذلك الإسراء سهله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم فجاءه في اليقظة على توطئة وتقدمة رفقا من الله بعبده وتسهيلا عليه ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكى هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا: كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة في يقظته ببدنه - صلى الله عليه وسلم -
قال المؤلف وهذا القول هو الذي يصح، وبه تتفق معاني الأخبار ألا ترى أنه قال في حديث أنس الذي قدمنا ذكره أتاه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه ومعلوم أن الإسراء كان بعد النبوة وحين فرضت الصلاة كما قدمنا في الجزء قبل هذا، وقيل

(3/258)


.............................................
ـــــــ
كان قبل الهجرة بعام ولذلك قال في الحديث فارتد كثير ممن كان قد أسلم، ورواة الحديثين حفاظ فلا يستقيم الجمع بين الروايتين إلا أن يكون الإسراء مرتين وكذلك ذكر في حديث أنس أنه لقي إبراهيم في السماء السادسة وموسى في السابعة وفي أكثر الروايات الصحيحة أنه رأى إبراهيم عند البيت المعمور في السماء السابعة ولقي موسى في السادسة وفي رواية ابن إسحاق أتي بثلاثة آنية أحدها ماء فقال قائل إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته وفي إحدى روايات البخاري في الجامع الصحيح أنه أتي بإناء فيه عسل ولم يذكر الماء والرواة أثبات ولا سبيل إلى تكذيب بعضهم ولا توهينهم فدل على صحة القول بأنه كان مرتين وعاد الاختلاف إلى أنه كان كله حقا، ولكن في حالتين ووقتين مع ما يشهد له من ظاهر القرآن فإن الله سبحانه يقول {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ثم قال {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 8 - 11] فهذا نحو ما وقع في حديث أنس من قوله فيما يراه قلبه وعينه نائمة والفؤاد هو القلب ثم قال {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] ولم يقل ما قد رأى، فدل على أن ثم رؤية أخرى بعد هذه ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] أي في نزلة نزلها جبريل إليه مرة فرآه في صورته التي هو عليها {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 14-16] قال يغشاها فراش من ذهب وفي رواية ينتثر منها الياقوت وثمرها مثل قلال هجر ثم قال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم:17] ولم يقل الفؤاد كما قال في التي قبل هذه فدل على أنها رؤية عين وبصر في النزلة الأخرى، ثم قال {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]

(3/259)


..........................................
ـــــــ
وإذا كانت رؤية عين فهي من الآيات الكبرى، ومن أعظم البراهين والعبر، وصارت الرؤيا الأولى بالإضافة إلى الأخرى ليست من الكبر لأن ما يراه العبد في منامه دون ما يراه في يقظته لا محالة وكذلك قال في أكثر الأحاديث إنه رأى عند سدرة المنتهى نهرين ظاهرين ونهرين باطنين وأخبره جبريل أن الظاهرين النيل والفرات، وذكر في حديث أنس أنه رأى هذين النهرين في السماء الدنيا، وقال له الملك هما النيل والفرات، أصلهما وعنصرهما، فيحتمل أن يكون رأى في حال اليقظة منبعهما، ورأى في المرة الأولى النهرين دون أن يرى أصلهما والله أعلم. فقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون 18] أنهما النيل والفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل، فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه سيرفعهما، ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان فلا يبقى على الأرض خير، وذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون 18] وفي حديث مسند ذكره النحاس في المعاني بأتم من هذا فاختصره ووقع في كتاب المعلم للمازري قول رابع في الجمع بين الأقوال قال كان الإسراء بجسده في اليقظة إلى بيت المقدس، فكانت رؤيا عين ثم أسري بروحه إلى فوق سبع سموات ولذلك شنع الكفار قوله وأتيت بيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا قوله فيما سوى ذلك.
شماس البراق:
فصل : ومما يسأل عنه في هذا الحديث شماس البراق حين ركبه النبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/260)


............................................
ـــــــ
فقال له جبريل أما تستحيي يا براق فما ركبك عبد لله قبل محمد هو أكرم عليه منه فقد قيل في نفرته ما قاله ابن بطال في شرح الجامع الصحيح قال كان ذلك لبعد عهد البراق بالأنبياء وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام وروى غيره في ذلك سببا آخر قال في روايته في حديث الإسراء قال جبريل لمحمد عليه السلام حين شمس به البراق لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما مسها إلا أنه مر بها، فقال تبا لمن يعبدك من دون الله وما مسها إلا لذلك وذكر هذه الرواية أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى، فالله أعلم وقد جاء ذكر الصفراء في مسند البزار، وأنها كانت صنما بعضه من ذهب فكسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وفي الحديث الذي خرجه الترمذي من طريق بريدة الأسلمي أنه - عليه السلام - حين انتهى إلى بيت المقدس، قال جبريل بإصبعه إلى الصخرة فخرقها فشد بها البراق وصلى، وأن حذيفة أنكر هذه الرواية وقال لم يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة وفي هذا من الفقه على رواية بريدة التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحة التوكل، وأن الإيمان بالقدر كما - روي عن وهب بن منبه - لا يمنع الحازم من توقي المهالك. قال وهب: وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة وهذا نحو من قوله صلى الله عليه وسلم "قيدها وتوكل" فإيمانه صلى الله عليه وسلم بأنه قد سخر له كإيمانه بقدر الله وعلمه بأنه سبق في علم الكتاب ما سبق ومع ذلك كان يتزود في

(3/261)


....................................
ـــــــ
أسفاره ويعد السلاح في حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد. وربطه للبراق في حلقة الباب من هذا الفن وهو حديث صحيح وقد رواه غير بريدة ووقع في حديث الحارث بن أبي أسامة من طريق أنس ومن طريق أبي سعيد وغيرهما أعني ربطه للبراق في الحلقة التي كانت تربطه فيها الأنبياء غير أن الحديث يرويه داود بن المحبر وهو ضعيف.
معنى قول الملائكة من معك:
معنى قول الملائكة من معك ومما يسأل عنه قول الملائكة في كل سماء لجبريل من معك، فيقول محمد فيقولون أوقد بعث إليه فيقول نعم هكذا لفظ الحديث في الصحاح، ومعنى سؤالهم عن البعث إليه فيما قال بعض أهل العلم أي قد بعث إليه إلى السماء كما قد وجدوا في العلم أنه سيعرج به ولو أرادوا بعثه إلى الخلق لقالوا: أوقد بعث ولم يقولوا إليه مع أنه يبعد أن يخفى عن الملائكة بعثه إلى الخلق فلا يعلمون به إلى ليلة الإسراء. وفي الحديث الذي تقدم في هذا الكتاب بيان أيضا حين ذكر تسبيح ملائكة السماء السابعة ثم تسبيح ملائكة كل سماء ثم يسأل بعضهم بعضا: مم سبحتم حتى ينتهي السؤال إلى ملائكة السماء السابعة فيقولون قضى ربنا في خلفه كذا، ثم ينتهي الخبر إلى سماء الدنيا - الحديث بطوله وفي هذا ما يدل على أن الملائكة قد علمت بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نبئ وإنما قالت أوقد بعث إليه أي قد بعث إليه بالبراق كما تقدم على أن في حديث أنس أن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أوقد بعث كما وقع في السيرة وليس في أول الحديث إليه هذا إنما جاء في حديث الرؤيا التي رآها بقلبه كما قدمنا، وأن ذلك قبل أن يوحى إليه كما جاء في الحديث بعينه وفي هذا قوة لما تقدم من أن الإسراء كان رؤيا، ثم كان رؤية ولذلك لم نجد في رواية من الروايات أن الملائكة قالوا: أوقد بعث إليه إلا في ذلك الحديث فالله أعلم.

(3/262)


.........................................
ـــــــ
باب الحفظة:
وذكر باب الحفظة وأن عليه ملكا يقال له إسماعيل وقد جاء ذكره في مسند الحارث وفيه أن تحت يده سبعون ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك هكذا لفظ الحديث في رواية الحارث وفي رواية ابن إسحاق: اثنا عشر ألف ملك هكذا لفظ الحديث وفي مسند الحارث أيضا.
وذكر سدرة المنتهى، فقال لو غطيت بورقة من ورقها هذه الأمة لغطتهم وفي صفتها من رواية الجميع فإذا ثمرها كقلال هجر، وفي حديث القلتين من كتاب الطهارة من رواية ابن جريج: إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم يحمل الخبث قالوا: والقلتان منها تسعان خمسمائة رطل قال الترمذي: وذلك نحو من خمس قرب وفي تفسير ابن سلام قال عن بعض السلف إنها سميت سدرة المنتهى، لأن روح المؤمن ينتهي به إليها، فتصلي عليه هنالك الملائكة المقربون. قال ذلك في تفسير عليين.
آدم في سماء الدنيا والأسودة التي رآها:
فصل وفيه أنه رأى آدم في سماء الدنيا، وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة وأن جبريل أعلمه أن الأسودة التي عن يمينه هم أصحاب اليمين وفي رواية ابن إسحاق: تعرض عليه أرواح ذريته فإذا نظر إلى الذين عن يمينه ضحك وقد سئل عن هذا، فقيل كيف رأى عن يمينه أرواح أصحاب اليمين ولم يكن إذ ذاك من

(3/263)


وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبراهيم وموسى وعيسى:
قال ابن إسحاق: وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة فقال "أما إبراهيم فلم
ـــــــ
أصحاب اليمين إلا نفر قليل ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد، وظاهر الحديث يقضي أنهم كانوا جماعة. فالجواب أن يقال إن كان الإسراء رؤيا بقلبه فتأويلها أن ذلك سيكون وإن كانت رؤيا عين كما قال ابن عباس وغيره بمعناه أن ذلك أرواح المؤمنين رآها هنالك لأن الله تعالى يتوفى الخلق في منامهم كما قال في التنزيل {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر 43] فصعد بالأرواح إلى هنالك فرآها ثم أعيدت إلى أجسادها. وجواب آخر وهو أن أصحاب اليمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة المدثر في قوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [39: 45]. قال ابن عباس: هم الأطفال الذين ماتوا صغارا، ولذلك سألوا المجرمين {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]لأنهم ماتوا قبل أن يعلموا بكفر الكافرين وقد ثبت في الصحيح أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم عليه السلام وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل حين رآهم في الروضة مع إبراهيم: "من هؤلاء يا جبريل" ؟ فقال أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا، فقال له "وأولاد الكافرين" قال وأولاد الكافرين" خرجه البخاري في الحديث الطويل من كتاب الجنائز وخرجه في موضع آخر فقال فيه أولاد الناس فهو في الحديث الأول نص، وفي الثاني عموم وقد روي في أطفال الكافرين أنهم خدم لأهل الجنة فعلى هذا لا يبعد أن يكون الذي رآه عن يمين آدم من نسم ذريته أرواح هؤلاء وفي هذا ما يدفع تشعيب هذا السؤال والاعتراض منه.
من حكم الماء:
فصل : وفيه شربه من إناء القوم وهو مغطى، والماء وإن كان لا يملك والناس شركاء فيه وفي النار والكلأ كما جاء في الحديث لكن المستقى إذا أحرزه في

(3/264)


أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أفتى كأنه من رجال شنوءة وأما عيسى ابن مريم، فرجل
ـــــــ
وعائه فقد ملكه فكيف استباح النبي صلى الله عليه وسلم شربه وهو ملك لغيره وأملاك الكفار لم تكن أبيحت يومئذ ولا دماؤهم. فالجواب أن العرب في الجاهلية كان في عرف العادة عندهم إباحة الرسل لابن السبيل فضلا عن الماء وكانوا يعهدون بذلك إلى رعائهم ويشترطونه عليهم عند عقد إجارتهم ألا يمنعوا الرسل وهو اللبن من أحد مر بهم وللحكم في العرف في الشريعة أصول تشهد له وقد ترجم البخاري عليه في كتاب البيوع وخرج حديث هند بنت عتبة، وفيه: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"
عن دخول بيت المقدس وصفة الأنبياء
فصل: وذكر فيه أنه دخل بيت المقدس، ووجد فيه نفرا من الأنبياء فصلى بهم وفي حديث الترمذي الذي قدمناه عن حذيفة أنه أنكر أن يكون صلى بهم وقال ما زال من ظهر البراق حتى رأى الجنة والنار وما وعده الله تعالى، ثم عاد إلى الأرض وزيادة العدل مقبولة ورواية من أثبت مقدمة على رواية من نفى، وذكر فيه صفة الأنبياء وقال في عيسى: كأن رأسه يقطر ماء وليس به ماء وكأنه خرج من ديماس والديماس الحمام وأصله دماس ويجمع على دماميس وقد قيل في جمعه دياميس ومثله قيراط ودينار وديباج الأصل فيها كلها: التضعيف ثم قلب الحرف المدغم ياء فلما جمعوا وصغروا، ردوه إلى أصله فقالوا: قراريط ودنانير [وقريريط ودنينير]، غير أنهم لم يقولوا: دنانير ولا قياريط، كما قالوا: دياميس وقالوا: دبابيج ودبابيج وأصل الدمس التغطية ومنه ليل دامس وفي

(3/265)


أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس به ماء أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي"
ـــــــ
هذه الصفة من صفات عيسى عليه السلام إشارة إلى الري والخصب الذي يكون في أيامه إذ أهبط إلى الأرض والله أعلم.
وذكر في صفة موسى أنه آدم طوال ولوصفه إياه بالأدمة أصل في كتاب الله تعالى، قاله الطبري عند تفسير قوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22] قال في خروج يده بيضاء آية في أن خرجت بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده وذلك دليل بين على الأدمة التي هي خلاف البياض.
وذكر إبراهيم فقال: "لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه" يعني: نفسه وفي آخر هذا الكلام إشكال من أجل أن أشبه منصوب في الموضعين ولكن إذا فهمت معناه عرفت إعرابه ومعناه لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم به منه ثم كرر أشبه توكيدا فصارت لغوا كالمقحم وصاحبكم معطوف على الضمير الذي في أشبه الأول الذي هو نعت لرجل وحسن العطف عليه وإن لم يؤكد بهو كما حسن في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] من أجل الفصل بلا النافية ولو أسقط من الكلام أشبه الثاني، لكان حسنا جدا، ولو أخر صاحبكم فقال ولا أشبه به صاحبكم منه لجاز ويكون فاعلا بأشبه الثانية ويكون من باب قولهم ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد وهي مسألة عذراء لم تفترعها أيدي النحاة بعد ولم يشف منها متقدم منهم ولا متأخر من رأينا كلامه فيها وقد أملينا في غير هذا الكتاب فيها تحقيقا شافيا.

(3/266)


وضف علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن هشام وكانت صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما - ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم وكان أبيض مشربا، أدعج العينين أهدب الأشفار
__________
صفة النبي صلى الله عليه وسلم
فصل وذكر في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نعته به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال لم يكن بالطويل الممغط الغين المعجمة وفي غير هذه الرواية بالعين المهملة وذكر الأوصاف إلى آخرها وقد شرحها أبو عبيد، فقال عن الأصمعي، والكسائي وأبي عمرو وغير واحد قوله ليس بالطويل الممعط أي ليس بالبائن الطويل ولا القصير المتردد يعني: الذي تردد خلقه بعضه على بعض وهو مجتمع ليس بسبط الخلق يقول فليس هو كذلك ولكن ربعة بين الرجلين وهكذا صفته - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث آخر ضرب اللحم بين الرجلين.
وقوله ليس بالمطهم قال الأصمعي: هو التام كل شيء منه على حدته فهو بارع الجمال وقال غير الأصمعي المكلثم المدور الوجه يقول ليس كذلك ولكنه مسنون وقوله: مشرب يعني الذي أشرب حمرة والأدعج العين الشديد سواد العين قال الأصمعي: الدعجة هي السواد والجليل المشاش: العظيم العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين وقوله الكتد هو الكاهل وما يليه من جسده وقوله شثن الكفين والقدمين يعني: أنهما إلى الغلظ. وقوله ليس بالسبط ولا الجعد القطط فالقطط الشديد الجعودة مثل شعور الحبشة، ووقع في غريب الحديث لأبي عبيد التام كل شيء منه على حدته. يقول: ليس كذلك ولكنه بارع الجمال,

(3/267)


جليل المشاش والكتد دقيق المسربة أجرد شثن الكفين والقدمين إذا مشى تقلع، كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم
حديث أم هانئ عن مسراه صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن إسحاق وكان - فيما بلغني - عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها - واسمها: هند - في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول ما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" ، ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه كأنه قبطية مطوية فقلت له يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال: "والله لأحدثنهموه" . قالت فقلت لجارية لي حبشية ويحك اتبعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تسمعي ما يقول الناس وما يقولون له. فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد ؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قال: " آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام. ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ، ثنية
__________
فهذه الكلمة أعني: ليس كذلك مخلة بالشرح وقد وجدته في رواية أخرى عن أبي عبيد بإسقاط يقول كذلك ولكن على نص ذكرناه آنفا. عنه عن الأصمعي والذي في غريب الحديث من تلك الزيادة وهم وقع في الكتاب والله أعلم. <201>

(3/268)


التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء" . قالت فابتدر القوم الثنية، فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا: صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكره وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه.
قصة المعراج:
حديث الخدري عن المعراج:
قال ابن إسحاق :وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما فرغت مما كان في بيت القدس، أتى بالمعراج ، ولم أر شيئا قط أحسن منه وهو اللذ يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر فأصعدني صاحبي فيه , حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له باب الحفظة عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعبل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك" – قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدث بهذا الحديث {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: من الآية31] فلما دخل بي قال:
ـــــــ
وأما ما رواه الترمذي عن الأصمعي في شرح المطهر قال: هو الباذن: الكثير اللحم ذكره عن أبي جعفر، وذكر عنه في الممغط نحو ما قدمناه، قال وسمعت أعرابيا يقول تمغط في نشابة أي : مدها وفي كتاب العين مغطت الشيء إذا مددته وقال في باب العين معطت الشيء إذا مددته كما قال في الغين المعجمة ، فعلى هذا يقال فيه ممغط وممغط ، ووزنه منفعل واندغمت النون

(3/269)


من هذا يا جبريل ؟ قال هذا محمد قال أو قد بعت ؟ قال نعم. قال فدعا لي بخير: وقاله .
عدم ضحك خازن النار للرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا ،فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعوا به حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك إلي ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم ؟ قال:فقال لي جبريل أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعد لضحك إليك ولكنه لا يضحك، هذا مالك خازن النار" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت لجبريل، وهو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال بلى يا ما مالك أر محمدا النار. قال فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت ،حتى ظننت لتأخذن ما أرى قال: فقلت لجبريل يا جبريل مره فليردها إلى مكانها قال: فأمره فقال لها: أخبي ، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه فما شبهت رجوعا إلى وقوع الظل حتى دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها .
ـــــــ
في الميم كما اندغمت في محوته فامحى لما أمن التباسه بالمضاعف ، ولم يدغموا النون في الميم في شاه زنماء ولا في غنم لئلا يلتبس بالمضاعف لو قالوا أزماء وغما، وقد ذكرنا قبل ما وهم فيه الترمذي من تفسير زر الحجلة حيث قال: يقال إنه بيض له، حيث تكلمنا على خاتم النبوة وصفته , واختلاف الرواية فيه والحمد لله.

(3/270)


عود إلى حديث الخدري عن المعراج .
و قال أبو سعيد الخدري في حديثه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها، إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ويقول روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ويعبس بوجهه ويقول روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قال قلت: من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أبوك آدم، تعرض عليه أرواح ذريته فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها: وقال روح طيبة خرجت من جسد طيب. وإذا مرت به روح الكافر منهم أفف منها، وكرهها، وساء ذلك وقال روح خبيثة خرجت من جسد خبيث".
ـــــــ
رؤية النبي ربه عز وجل:
فصل وقد تكلم العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء فروى مسروق عن عائشة أنها أنكرت أن يكون رآه وقالت من زعم أن محمدا رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية واحتجت بقوله سبحانه {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام 103] وفي مصنف الترمذي عن ابن عباس وكعب الأحبار أنه رآه قال كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قلت : "يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال: "رأيت نورا" ، وفي حديث آخر من كتاب مسلم أنه قال "نورا أنى أراه" وليس في هذا الحديث بيان شاف أنه رآه وحكي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال رآه بعيني رأسه وفي تفسير النقاش عن ابن حنبل أنه سئل هل رأى محمد ربه فقال رآه رآه رآه حتى انقطع صوته وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وذكر إنكار عائشة أنه رآه فقال الزهري: ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عباس، وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنه كان إذ ذكر إنكار عائشة أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه يشتد ذلك عليه وقول أبي هريرة في هذه المسألة كقول ابن عباس أنه رآه ؟ روى يونس عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال سأل مروان أبا هريرة هل رأى محمد ربه ؟ قال نعم وفي رواية يونس أن ابن

(3/271)


صفة أكلة أموال اليتامى:
قال: " ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما".
ـــــــ
عمر أرسل إلى ابن عباس يسأله هل رأى محمد ربه ؟ فقال نعم رآه فقال ابن عمر وكيف رآه فقال ابن عباس كلاما كرهت أن أورده بلفظه لما يوهم من التشبيه ولو صح لكان له تأويل والله أعلم والتحصيل من هذه الأقوال - والله أعلم - أنه رآه لا على أكمل ما تكون الرؤية على نحو ما يراه في حظيرة القدس عند الكرامة العظمى والنعيم الأكبر ولكن دون ذلك وإلى هذا يومي قوله: "رأيت نورا" و "نورا أنى أراه" في الرؤية الأخرى والله أعلم.
وأما الدنو والتدلي فهما خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض المفسرين وقيل إن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام تدلى إلى محمد حتى دنا منه وهذا قول طائفة أيضا، وفي الجامع الصحيح في إحدى الروايات منه فتدلى الجبار وهذا مع صحة نقله لا يكاد أحد من المفسرين يذكره لاستحالة ظاهره أو للغفلة عن موضعه ولا استحالة فيه لأن حديث الإسراء إن كان رؤيا رآها بقلبه وعينه نائمة - كما في حديث أنس فلا إشكال فيما يراه في نومه عليه السلام فقد رآه في أحسن صورة ووضع كفه بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه رواه الترمذي من طريق معاذ في حديث طويل ولما كانت هذه رؤيا لم ينكرها أحد من أهل العلم ولا استبشعها، وقد بينا آنفا أن

(3/272)


صفة أكلة الربا:
قال: " ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك. قال قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة الربا ".
صفة الزناة:
قال: "ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب. قال قلت: من هؤلاء يا
ـــــــ
حديث الإسراء كان رؤيا ثم كان يقظة فإن كان قوله فتدلى الجبار في المرة التي كان فيها غير نائم وكان الإسراء بجسده فيقال فيه من التأويل ما يقال في قوله "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" فليس بأبعد منه في باب التأويل فلا نكارة فيه كان في نوم أو يقظة وقد أشرنا إلى تمام هذا المعنى في شرح ما تضمنه لفظ القوسين من قوله قاب قوسين في جزء أمليناه في شرح سبحان الله وبحمده تضمن لطائف من معنى التقديس والتسبيح فلينظر هناك وأملينا أيضا في معنى رؤية الرب سبحانه في المنام وفي عرصات القيامة مسألة لقناع الحقيقة في ذلك كاشفة فمن أراد فهم الرؤية والرؤيا فلينظرها هنالك ويقوي ما ذكرناه من معنى إضافة التدلي إلى الرب سبحانه كما في حديث البخاري ما رواه ابن سنجر مسندا إلى شريح بن عبيد، قال لما صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء فأوحى إلى عبده ما أوحى، فلما أحس جبريل بدنو الرب خر ساجدا، فلم يزل يسبح سبحان رب الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى قضى الله إلى عبده ما قضى، قال ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الذي خلق عليه منظوما أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت فخيل إلي أن ما بين عينيه قد سد الأفقين وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صور مختلفة وكنت أكثر ما أراه على صورة دحية بن خليفة الكلبي وكان أحيانا لا يراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال.

(3/273)


جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن .
صفة النساء اللاتي يدخلن على الأزاج ما ليس منهم:
قال "ثم رأيت نساء معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبريل" ؟ قال هؤلاء اللات أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم" .
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عمرو، عن القاسم بن محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فأكل حرائبهم واطلع على عوراتهم" .
عود إلى حديث الخدري عن المعراج:
ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري قال: "ثم أصعدني إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، قال ثم أصعدني إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر قال قلت: من هذا
ـــــــ
لقاؤه للنبيين:
فصل: ومما سئل عنه من حديث الإسراء وتكلم فيه لقاؤه لآدم في السماء الدنيا، ولإبراهيم في السماء السابعة وغيرهما من الأنبياء الذين لقيهم في غير هاتين السماءين والحكمة في اختصاص كل واحد منهم بالسماء التي رآه فيها، وسؤال آخر في اختصاص هؤلاء الأنبياء باللقاء دون غيرهم وإن كان رأى الأنبياء كلهم فما الحكمة في اختصاص هؤلاء الأنبياء بالذكر ؟ وقد تكلم أبو الحسن بن بطال في شرح البخاري على هذا السؤال فلم يصنع شيئا، ومغزى كلامه الذي أشار إليه أن الأنبياء لما علموا بقدومه عليهم ابتدروا إلى لقائه ابتدار أهل الغائب للغائب القادم فمنهم من أسرع ومنهم من أبطأ. إلى هذا المعنى أشار فلم يزد عليه والذي أقول في هذا: إن مأخذ فهمه من علم التعبير فإنه من علم النبوءة وأهل التعبير يقولون من رأى نبيا

(3/274)


يا جبريل ؟ قال هذا أخوك يوسف بن يعقوب. قال ثم أصعدني إلى السماء الرابعة فإذا فيها رجل فسألته: من هو ؟ قال هذا إدريس - قال يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم – {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} - قال ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه قال قلت: من هذا يا جبريل ؟
ـــــــ
بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث. وحديث الإسراء كان بمكة وهي حرم الله وأمنه وقطانها جيران الله لأن فيها بيته فأول ما رأى عليه من الأنبياء آدم الذي كان في أمن الله وجواره فأخرجه عدوه إبليس منها، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته فكربه ذلك وغمه. وأشبهت قصته في هذا قصة آدم مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها كما قال الله تعالى، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى وهما الممتحنان باليهود أما عيسى فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله وأما يحيى فقتلوه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله تعالى كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة عيسى ويحيى، لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم، أمهما: حنة وأما لقاؤه ليوسف في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف، وذلك بأن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92] الآية وكذلك نبينا - عليه السلام - أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل

(3/275)


قال هذا المحبب في قومه هارون بن عمران، قال ثم أصعدني إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى كأنه من رجال شنوءة فقلت له من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أخوك موسى بن عمران. ثم أصعدني إلى السماء السابعة
ـــــــ
فمنهم من أطلق ومنهم من قبل فداءه ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم أقول ما قال أخي يوسف {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} ثم لقاؤه لإدريس في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكانا عليا، وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة وهي علو شأنه - عليه السلام - حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم، حين جاءه كتاب للنبي - عليه السلام - ورأى ما رأى من خوف هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك عمان ، ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه فهذا مقام علي، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس - عليه السلام - ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون المحبب في قومه يؤذن بحب قريش، وجميع العرب له بعد بغضهم فيه ولقاؤه في السماء السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك من أرض الشام، وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتي به أسيرا، وافتتح مكة ، ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم - عليه السلام - لحكمتين إحداهما: أنه رآه عند البيت المعمور مسندا ظهره إليه والبيت المعمور حيال مكة ، وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجه إلى البيت الحرام ، وحج

(3/276)


فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة. لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه قال قلت: من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أبوك إبراهيم. قال ثم دخل بي
ـــــــ
معه نحو من سبعين ألفا من المسلمين ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوبة فقد انتظم في هذا الكلام الجواب عن السؤالين المتقدمين أحدهما: السؤال عن تخصيص هؤلاء بالذكر والآخر السؤال عن تخصيصهم بهذه الأماكن من السماء الدنيا إلى السابعة وكان الحزم ترك التكلف لتأويل ما لم يرد فيه نص عن السلف ولكن عارض هذا الغرض ما يجب من التفكير في حكمة الله والتدبر لآيات الله وقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] وقد روي أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة ما لم يكن النظر والتفكير مجردا من ملاحظة الكتاب والسنة ومقتضى كلام العرب، فعند ذلك يكون القول في الكتاب والسنة بغير علم عصمنا الله - تعالى - من ذلك وجعلنا من الممتثلين لأمره حيث يقول {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] و {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ولولا إسراع الناس إلى إنكار ما جهلوه وغلظ الطباع عن فهم كثير من الحكمة لأبدينا من سر هذا السؤال وكشفنا عن الحكمة في هؤلاء الأنبياء المسلمين في هذه المراتب أكثر مما كشفنا.
البيت المعمور:
فصل: وذكر البيت المعمور، وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك روى ابن سنجر عن علي - رحمه الله - قال البيت المعمور بيت في السماء السابعة يقال له

(3/277)


الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها: لمن أنت ؟ وقد أعجبتني حين رأيتها، فقالت لزيد بن حارثة فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة" .
ـــــــ
الضراح واسم السماء السابعة عريبا روى أبو بكر الخطيب بإسناد صحيح إلى وهب بن منبه قال من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له نور يملأ ما بين عريباء وجريباء وجريبا، وهي الأرض السابعة وذكر عن عبد الله بن أبي الهذيل قال البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف دحية عند كل دحية سبعون ألف ملك رواه عنه أبو التياح [يزيد الضبعي] قال أبو سلمة قلت ما الدحية ؟ قال الرئيس وروى ابن سنجر أيضا من طريق أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال مكة ، وفي السماء السابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة يخلق الله من كل قطرة ملكا ويؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ويصلوا فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا، [و] يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله [فيه] إلى أن تقوم الساعة.
فرض الصلاة:
فصل: وأما فرض الصلاة عليه هنالك ففيه التنبيه على فضلها، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة ولذلك كانت الطهارة من شأنها، ومن شرائط

(3/278)


<207> قال ابن إسحاق: ومن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني: أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين
ـــــــ
أدائها، والتنبيه على أنها مناجاة الرب وأن الرب تعالى مقبل بوجهه على المصلي يناجيه يقول حمدني عبدي، أثنى علي عبدي إلى آخر السورة وهذا مشاكل لفرضها عليه في السماء السابعة حيث سمع كلام الرب وناجاه ولم يعرج به حتى طهر ظاهره وباطنه بماء زمزم كما يتطهر المصلي للصلاة وأخرج عن الدنيا بجسمه كما يخرج المصلي عن الدنيا بقلبه ويحرم عليه كل شيء إلا مناجاة ربه وتوجهه إلى قبلته في ذلك الحين وهو بيت المقدس، ورفع إلى السماء كما يرفع المصلي يديه إلى جهة السماء إشارة إلى القبلة العليا فهي البيت المعمور، وإلى جهة عرش من يناجيه ويصلي له سبحانه.
فرض الصلوات خمسين:
فصل : وأما فرض الصلوات خمسين ثم حط منها عشرا بعد عشر إلى خمس صلوات. وقد روي أيضا أنها حطت خمسا بعد خمس وقد يمكن الجمع بين الروايتين لدخول الخمس في العشر فقد تكلم في هذا النقص من الفريضة أهو نسخ أم لا ؟ على قولين فقال قوم هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين أحدهما البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها، لأن ذلك عنده من البداء والبداء محال على الله سبحانه.الثاني: أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين قال وإنما ادعى النسخ في هذه الصلوات الموضوعة عن محمد وأمته القاشاني، ليصحح بذلك

(3/279)


يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل ؟ فيقول محمد فيقولون أو قد بعث ؟ فيقول نعم فيقولون حياه الله من أخ وصاحب حتى انتهى به إلى السماء السابعة
ـــــــ
مذهبه في أن البيان لا يتأخر ثم قال أبو جعفر إنما هي شفاعة شفعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته ولا يسمى مثل هذا نسخا. قال المؤلف أما مذهبه في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها، وأن ذلك بداء فليس بصحيح لأن حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه وهذا محال في حق من يعلم الأشياء بعلم قديم وليس النسخ من هذا في شيء إنما النسخ تبديل حكم بحكم والكل في سابق علمه ومقتضى حكمته كنسخه المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك وأيضا بأن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الأمر إليه ثلاث عبادات الفعل الذي أمر به والعزم على الامتثال عند سماع الأمر واعتقاد الوجوب إن كان واجبا فإن نسخ الحكم قبل الفعل فقد حصلت فائدتان العزم واعتقاد الوجوب. وعلم الله ذلك منه فصح امتحانه له واختباره إياه وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيته وإنما الذي لا يجوز نسخ الأمر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به والذي ذكر النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها، فليس هو حقيقة النسخ لأن العبادة المأمور بها قد مضت وإنما جاء الخطاب بالنهي عن عملها لا عنها، وقولنا في الخمس والأربعين صلاة الموضوعة عن محمد وأمته أحد وجهين إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة ونسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ فقد كان في كل مرة عازما على تبليغ ما أمر به وقول أبي جعفر إنما كان شافعا ومراجعا ينفي النسخ فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم فشفاعته عليه السلام لأمته كانت سببا للنسخ لا مبطلة لحقيقته ولكن المنسوخ ما

(3/280)


ثم انتهى به إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة في كل يوم
__________
ذكرنا من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات الخمس في خاصته وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل بلوغه إلى المأمور كما قدمنا، وهذا كله أحد الوجهين في الحديث.
والوجه الثاني أن يكون هذا خبرا لا تعبدا، وإذا كان خبرا لم يدخله النسخ ومعنى الخبر أنه عليه السلام أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة ومعناه أنها خمسون في اللوح المحفوظ وكذلك قال في آخر الحديث هي خمس وهي خمسون والحسنة بعشر أمثالها فتأوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها خمسون بالفعل فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثواب لا بالعمل. فإن قيل فما معنى نقضها عشرا بعد عشر ؟ قلنا: ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها، وقد جاء في الحديث أنه يكتب له منها ما حضر قلبه فيها، وأن العبد يصلي الصلاة فيكتب له نصفها ربعها حتى انتهى إلى عشرها، ووقف فهي خمس في حق من كتب له عشرها، وعشر في حق من كتب له أكثر من ذلك وخمسون في حق من كملت صلاته وأداها بما يلزمه من تمام خشوعها وكمال سجودها وركوعها.
أوصاف من الملائكة:
فصل: وذكر أنه عليه السلام لم يلقه ملك من الملائكة إلا ضاحكا مستبشرا إلا مالكا خازن جهنم وذلك أنه لم يضحك لأحد قبله ولا هو ضاحك لأحد ومصداق هذا في كتاب الله تعالى، قال الله سبحانه {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] وهم موكلون بغضب الله تعالى فالغضب لا يزايلهم أبدا، وفي هذا الحديث معارضة للحديث الذي في صفة ميكائيل أنه ما ضحك منذ خلق الله جهنم وكذلك يعارضه ما خرج الدارقطني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسم في الصلاة فلما انصرف سئل عن ذلك فقال "رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم على جناحيه الغبار فضحك إلي فتبسمت إليه" وإذا صح الحديثان فوجه الجمع بينهما: أن يكون لم يضحك منذ

(3/281)


مشورة موسى على الرسول عليهما السلام في شان تخفيف الصلاة:
قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأقبلت راجعا، فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة ؟ فقلت خمسين صلاة كل يوم فقال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف
ـــــــ
خلق الله النار إلى هذه المدة التي ضحك فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون الحديث عاما يراد به الخصوص أو يكون الحديث الأول حدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا الحديث الأخير ثم حدث بعد بما حدث به من ضحكه إليه والله أعلم ولم ير مالكا على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة ولو رآه على تلك الصورة ما استطاع أن ينظر إليه.
أكلة الربا في رؤيا المعراج:
وذكر أكلة الربا وأنهم بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة وهي العطاش والهيام شدة العطش وكان قياس هذا الوصف ألا يقال فيه مهيومة كما لا يقال معطوشة إنما يقال هائم وهيمان وقد يقال هيوم ويجمع على هيم ووزنه فعل بالضم لكن كسر من أجل الياء كما قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] ولكن جاء في الحديث مهيومة كأنه شيء فعل بها كالمحمومة والمجنونة وكالمنهوم وهو الذي لا يشبع وكان قياس الياء أن تعتل فيقال مهيمة كما يقال مبيعة في معنى مبيوعة ولكن صحت الياء لأنها في معنى الهيومة كما صحت الواو في عور لأنه في معنى أعور كما صحت في اجتوروا لأنه في معنى: تجاوروا، وإنما رآهم منتفخة بطونهم لأن العقوبة مشاكلة للذنب فآكل الربا يربو بطنه كما أراد أن يربو ماله بأكل ما حرم عليه فمحقت البركة من ماله وجعلت نفخا في بطنه حتى يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وإنما جعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيا لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابا يوم القيامة كما قال سبحانه {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. فخصوا بسبيلهم ليعلم أن الذين هم أشد الناس عذابا يطئونهم فضلا عن غيرهم من الكفار

(3/282)


عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني، وعن أمتي، فوضع عني
ـــــــ
وهم لا يستطيعون القيام ومعنى كونهم في طريق جهنم بحيث يمر بالكفار عليهم أن الله سبحانه قد أوقف أمرهم بين أن ينتهوا، فيكون خيرا لهم وبين أن يعودوا ويصروا، فيدخلهم النار وهذه صفة من هو في طريق النار قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة 275]. إلى آخر الآية وفي بعض المسندات أنه رأى بطونهم كالبيوت يعني: أكلة الربا، وفيها حيات ترى خارج البطون. فإن قيل هذه الأحوال التي وصفها عن أكلة الربا إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة قال فرعون في الآخرة قد أدخلوا أشد العذاب وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيا في البرزخ وإن كانت هذه الحال التي رآهم عليها في البرزخ فأي بطون لهم وقد صاروا عظاما ورفاتا، ومزقوا كل ممزق فالجواب أنه إنما رآهم في البرزخ لأنه حديث عما رأى، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت وفيها تصحيح لمن قال الأرواح أجساد لطيفة قابلة للنعيم والعذاب فيخلق الله في تلك الأرواح من الآلام ما يجده من انتفخ بطنه حتى وطئ بالأقدام ولا يستطيع من قيام وليس في هذا الحديث دليل على أنهم أشد عذابا من آل فرعون، ولكن فيه دليل على أنهم يطؤهم آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لم يأكلوا الربا ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ثم ينادي منادي الله {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وكذلك ما رأى من النساء المعلقات بثديهن يجوز أن يكون رأى أرواحهن وقد خلق فيها من الآلام ما يجده من هذه حاله ويحتمل أيضا أن يكون مثلت له حالهن في الآخرة وذكر الذين يدعون ما أحل الله من نسائهم ويأتون ما حرم عليهم وهذا نص على تحريم إتيان النساء في أعجازهن وقد قام الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة والإجماع وقد ذكرنا المواضع التي يقوم منها التحريم على هذه المسألة من كتاب الله ومن حديث رسول

(3/283)


عشرا. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي، فوضع عني عشرا. ثم انصرفت، فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك فرجعت
ـــــــ
الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرنا ما جاء في ذلك عن ابن عباس من قوله هو الكفر وقول ابن عمر هو اللوطية الصغرى أما الإجماع فإن المرأة ترد بداء الفرج ولو جاز وطؤها في المسلك الآخر ما أجمعوا على ردها بداء الفرج وقد مهدنا الأدلة على هذه المسألة مفردة في غير هذا الإملاء بما فيه شفاء والحمد لله. الولد لغير رشدة وقوله فأكل حرائبهم الحريبة المال وهو من الحرب وهو السلب يريد أن الولد إذا كان لغير رشدة نسب إلى الذي ولد على فراشه فيأكل من ماله صغيرا، وينظر إلى بناته من غير أمه وإلى أخواته ولسن بعمات له وإلى أمه وليست بجدة له وهذا فساد كبير وإنما قدم ذكر الأكل من حريبته وماله قبل الاطلاع على عوراته وإن كان الاطلاع على العورات أشنع لأن نفقته عليه أول من حال صغره ثم قد يبلغ حد الاطلاع على عوراته أو لا يبلغ وأيضا فإن الأم أرضعته بلبانها، ولم تدفعه إلى مرضعة كان الزوج أبا له من الرضاعة وكان حكمه حكم الابن من الرضاعة وفي ذلك نقصان من الشناعة فإن بلغ الصبي، وتابت الأم، وأعلمته أنه لغير رشدة ليستعف عن ميراثهم ويكف عن الاطلاع على عوراتهم أو علم ذلك بقرينة حال وجب عليه ذلك وإن كان شر الثلاثة كما جاء في الحديث في ابن الزنا، وقد تؤول حديث شر الثلاثة على وجوه هذا أقربها إلى الصواب لقوله عليه السلام أكل حرائبهم واطلع على عوراتهم ومن فعل هذا عن عمد وقصد فهو شر الناس وإن لم يعلم فأكله واطلاعه شر عمل وأبواه حين زنيا فارقا ذلك العمل الخبيث لحينهما والابن في عمل خبيث من منشئه إلى وفاته فعمله شر عمل.
حكم الحاكم لا يحل الحرام:
وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن حكم الحاكم لا يحل حراما، وذلك أن

(3/284)


فسألته فوضع عني عشرا، ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال فارجع فاسأل حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني، إلا خمس صلوات في كل يوم
ـــــــ
الولد في حكم الشريعة للفراش إلا أن ينفى باللعان فإذا حكم الحاكم بهذا، وعلم الولد عند بلوغه خلاف ما حكم به الحاكم لم يحل له بهذا الحكم ما حرم الله عليه من أكل الحرائب والاطلاع على العورات وفي هذا رد لمذهب أبي حنيفة من قوله إن حكم الحاكم قد يحل ما يعلم أنه حرام مثل أن يشهد شاهدان على رجل أنه طلق وهما يعلمان أنه لم يطلق فيقبل القاضي شهادتهما فيطلق المرأة على الرجل فإذا بانت منه كان لأحد الشاهدين أن ينكحها مع علمه بأنه قد شهد زورا، لم يقل أبو حنيفة بهذا القول في الأموال لقول النبي عليه السلام "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" ففي هذا الحديث مع الذي تقدم رد لمذهبه ولا حجة له في أن يقول ذلك مخصوص بالأموال من وجهين أحدهما: أن القياس أصل من أصوله وقياس المسألتين واحد الثاني: أنه قال من حق أخيه ولم يقل من مال أخيه وهذا لفظ يعم الحقوق كلها.
قال المؤلف: وعندي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما بنى هذه المسألة على أصله في طلاق المكره فإنه عنده لازم فإذا أكره الرجل على الطلاق وقلنا يلزم الطلاق له فقد حرمت المرأة عليه وإذا حرمت عليه جاز أن ينكحها من شاء فالإثم إنما تعلق في هذا المذهب بالشهادة دون النكاح وقد خالفه فقهاء الحجاز في طلاق المكره وقولهم يعضده الأثر وقول أبي حنيفة يعضده النظر والخوض في هذه المسألة يصدنا عما نحن بسبيله.

(3/285)


وليلة.ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك فقلت: قد راجعت ربي وسألته، حتى استحييت منه فما أنا بفاعل"
ـــــــ
مكان إدريس:
فصل : وذكره لإدريس في السماء الرابعة مع قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57]، مع أنه قد رأى موسى وإبراهيم في مكان أعلى من مكان إدريس فذلك والله أعلم لما ذكر عن كعب الأحبار أن إدريس خص من جميع الأنبياء أن رفع قبل وفاته إلى السماء الرابعة ورفعه ملك كان صديقا له وهو الملك الموكل بالشمس فيما ذكر وكان إدريس سأله أن يريه الجنة فأذن له الله في ذلك فلما كان في السماء الرابعة رآه هنالك ملك الموت فعجب وقال أمرت أن أقبض روح أدريس الساعة في السماء الرابعة فقبضه هنالك فرفعه حيا إلى ذلك المكان العلي خاص له دون الأنبياء.
قول الأنبياء في كل سماء:
فصل: وذكر من قول الأنبياء له في كل سماء مرحبا بالأخ الصالح وقول آدم لإبراهيم بالابن الصالح وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب حجة لمن قال إن إدريس ليس بجد لنوح ولا هو من آباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال مرحبا بالأخ الصالح ولم يقل بالابن الصالح.
خرافة طلب موسى أن يكون من أمة أحمد:
وأما اعتناء موسى - عليه السلام - بهذه الأمة وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها، ويسأل التخفيف عنها، فلقوله - والله أعلم - حين قضي إليه الأمر بجانب الغربي,

(3/286)


" فمن أداهن منكم إيمانا بهن واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة.
__________
ورأى صفات أمة محمد عليه السلام في الألواح وجعل يقول إني أجد في الألواح أمة صفتهم كذا، اللهم اجعلهم أمتي، فيقال له تلك أمة أحمد وهو حديث مشهور فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتني بالقوم من هو معهم لقوله اللهم اجعلني منهم والله أعلم.
بعض ما رأى:
ومما جاء في حديث الإسراء مما لم يذكره ابن إسحاق في مسند الحارث بن أبي أسامة أنه - عليه السلام - ناداه مناد وهو على ظهر البراق يا محمد فلم يعرج عليه ثم ناداه آخر يا محمد يا محمد ثلاثا، فلم يعرج عليه ثم لقيته امرأة عليها من كل زينة ناشرة يديها، تقول يا محمد يا محمد حتى تغشته فلم يعرج عليها، ثم سأل جبريل عما رأى، فأخبره فقال أما المنادي الأول فداعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك، وأما الآخر فداعي النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة التي كان عليها من كل زينة فإنها الدنيا لو أجبتها لآثرت الدنيا على الآخرة.

(3/287)


تم بحمد الله الجزء الثالث
ويليه الجزء الرابع وأوله عن المستهزئين وملكان

(3/288)