الروض
الأنف ت السلامي
خبر الأذان:
التفكير في اتخاذ بوق أو ناقوس:
قال <355> ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار، استحكم
أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض
الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار هم
الذين تبوءوا الدار والإيمان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها، بغير دعوة فهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق يهود الذين
يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين
للصلاة
ـــــــ
بدء الأذان:
ذكر حديث عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، هكذا ذكره وأكثر النساب
يقولون زيد بن عبد ربه وثعلبة أخو زيد ذكر حديثه عندما شاور رسول الله
صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأذان فقال بعضهم ناقوس كناقوس النصارى،
وقال بعضهم بوق كبوق اليهود، وفي غير السيرة أنهم ذكروا الشبور وهو
البوق. قال الأصمعي
(4/182)
رؤيا عبد الله
بن زيد في الأذان:
فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو
بلحارث بن الخزرج، النداء فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له
يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران
يحمل ناقوسا في يده فقلت له يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس ؟ قال وما
تصنع به ؟ قال قلت: ندعو به إلى
ـــــــ
للمفضل وقد نازعه في معنى بيت من الشعر فرفع المفضل صوته فقال الأصمعي
لو نفخت في الشبور ما نفعك، تكلم كلام النمل وأصب وذكروا أيضا القنع
وهو القرن وقال بعضهم هو تصحيف إنما هو القبع والقنع أولى بالصواب لأنه
من أقنع صوته إذا رفعه وقال بعضهم بل نوقد نارا، ونرفعها، فإذا رآها
الناس أقبلوا إلى الصلاة وقال بعضهم بل نبعث رجلا ينادي بالصلاة فبينما
هم في ذلك أري عبد الله بن زيد الرويا التي ذكر ابن إسحاق، فلما أخبر
بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يلقيها على بلال، قال
يا رسول الله أنا رأيتها، وأنا كنت أحبها لنفسي، فقال "ليؤذن بلال" ،
ولتقم أنت ففي هذا من الفقه جواز أن يؤذن الرجل ويقيم غيره وهو معارض
لحديث زياد بن عبد الله الصدئي حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم
"من أذن فهو أحق أن يقيم" ، في حديث طويل إلا أنه يدور على عبد الرحمن
بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف والأول أصح منه. قال أبو داود:
وتزعم الأنصار أن عبد الله بن زيد حين رأى النداء كان مريضا، ولولا ذلك
لأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان وقد تكلمت العلماء في
الحكمة التي خصت الأذان بأن رآه رجل من المسلمين في نومه ولم يكن عن
وحي من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية وفي قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - له "إنها لرؤيا حق" ، ثم بنى حكم الأذان
(4/183)
الصلاة قال
أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ قال قلت: وما هو ؟ قال تقول الله أكبر الله
أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله
إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على
الصلاة حي على
ـــــــ
عليها، وهل كان ذلك عن وحي من الله له أم لا ؟ وليس في الحديث دليل على
أن قوله ذلك كان عن وحي وتكلموا: لم لم يؤذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ وهل أذن قط مرة من عمره دهره أم لا ؟.
فأما الحكمة في تخصيص الأذان برؤى رجل من المسلمين ولم يكن عن وحي فلأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء وأسمعه مشاهدة فوق
سبع سموات وهذا أقوى من الوحي فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة ،
وأرادوا إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي <357> حتى رأى عبد الله
الرؤيا، فوافقت ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك قال "إنها
لرؤيا حق إن شاء الله" ، وعلم حينئذ أن مراد الحق بما رآه في السماء أن
يكون سنة في الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصاري مع أن
السكينة تنطق على لسان عمر واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على
لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين لما فيه من التنويه من
الله لعبده والرفع لذكره فلأن يكون ذلك على غير لسانه أنوه به وأفخم
لشأنه وهذا معنى بين فإن الله سبحانه يقول {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}
[الشرح 4] فمن رفع ذكره أن أشاد به على لسان غيره. فإن قيل ومن روى أنه
أري النداء من فوق سبع سموات قلنا: هو في مسند أبي بكر أحمد بن عمرو بن
عبد الخالق البزار.
حدثنا أبو بكر محمد بن طاهر الإشبيلي سماعا وإجازة عن أبي علي الغساني
عن أبي عمر النمري بإسناده إلى البزار، قال البزار: نا محمد بن عثمان
بن مخلد نا أبي
(4/184)
الصلاة حي على
الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
تعليم بلال الأذان:
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها لرؤيا حق إن
شاء الله، فقم مع بلال
ـــــــ
عن زياد بن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن
أبي طالب - رضي الله عنه - قال لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان
أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بدابة يقال لها البراق فذهب يركبها،
فاستصعبت فقال لها جبريل: اسكني فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من
محمد - صلى الله عليه وسلم - قال فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي
الرحمن - تبارك وتعالى - قال فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا جبريل من هذا" ؟ فقال والذي بعثك
بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل
ساعتي هذه فقال " الملك الله أكبر الله أكبر "، قال فقيل له من وراء
الحجاب صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا
الله، قال فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي أنا الله لا إله إلا أنا،
قال فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله. قال فقيل من وراء الحجاب صدق
عبدي أنا أرسلت محمدا، قال الملك حي على الصلاة حي على الفلاح ثم قال
الملك الله أكبر الله أكبر، قال فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أكبر
أنا أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا
لا إله إلا أنا، قال ثم أخذ الملك بيد محمد - صلى الله عليه وسلم -
فقدمه فأم أهل السماء فيهم آدم ونوح قال أبو جعفر محمد بن علي: يومئذ
أكمل الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الشرف على أهل السموات والأرض.
قال المؤلف وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من
(4/185)
فألقها عليه
فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك" . فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن
الخطاب، وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر
رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد على ذلك" .
ـــــــ
أحاديث الإسراء فبمجموعها يحصل أن معاني الصلاة كلها وأكثرها، قد جمعها
ذلك الحديث أعني الإسراء لأن الله - سبحانه - رفع الصلاة التي هي
مناجاة عن أن تفرض في الأرض لكن بالحضرة المقدسة المطهرة وعند الكعبة
العليا، وهي البيت المعمور، وقد ذكرنا طرفا من هذا الغرض ونبذا من هذا
المقصد في شرح حديث الإسراء وينضاف إليها في هذا الحديث ذكر الأذان
الذي تضمنه حديث البزار مع ما روي أيضا أنه مر وهو على البراق بملائكة
قيام وملائكة ركوع وملائكة سجود وملائكة جلوس والكل يصلون لله فجمعت له
هذه الأحوال في صلاته وحين مثل بالمقام الأعلى، ودنا فتدلى ألهم أن
يقول التحيات لله إلى قوله الصلوات لله فقالت الملائكة السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقال السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين فقالت الملائكة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول
الله فجمع ذلك له في تشهده.
وانظر بقلبك كيف شرع له عليه السلام ولأمته أن يقولوا تسع مرات في
اليوم والليلة في تسع جلسات في الصلوات الخمس بعد ذكر التحيات السلام
علينا، وعلى عباد الله الصالحين فيحيون ويحيون تحية من عند الله مباركة
طيبة، ومن قوله السلام علينا كما قيل لهم فسلموا على أنفسكم تحية من
عند الله ومن ثم قال الطيبات المباركات كما في رواية ابن عباس في
التشهد انظر إلى هذا كله كيف حيا وحيي تسع مرات حيته ملائكة كل سماء
وحياهم ثم ملائكة الكرسي ثم ملائكة العرش فهذه تسع فجعل التشهد في
الصلوات على عدد تلك المرات التي سلم فيها وسلم عليه وكلها تحيات لله
أي من عند الله مباركة طيبة، هذا إلى نكت ذكرناها في شرح سبحان الله
وبحمده فإذا جمعت بعض ما ذكرناه إلى
(4/186)
رؤيا عمر في
الأذان وسبق الوحي به:
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد
بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه
ـــــــ
بعض عرفت جملة من أسرار الصلاة وفوائدها الجلية دون الخفية وأما بقية
أسرارها وما تضمنته أحاديث الإسراء من أنوارها، وما في الأذان من لطائف
المعاني والحكم في افتتاحه بالتكبير وختمه بالتكبير مع التكرار وقول لا
إله إلا الله في آخره وأشهد أن لا إله إلا الله في أوله وما تحت هذا
كله من الحكم الإلهية التي تملأ الصدور هيبة وتنور القلوب بنور المحبة
وكذلك ما تضمنته الصلاة في شفعها ووترها والتكبير في أركانها، ورفع
اليدين في افتتاحها، وتخصيص البقعة المكرمة بالتوجه إليها، مع فوائد
الوضوء من الأحداث لها، فإن في ذلك كله من فوائد الحكمة ولطائف المعرفة
ما يزيد في ثلج الصدور ويكحل عين البصيرة بالضياء والنور ونعوذ بالله
أن ننزع في ذلك بمنزع فلسفي أو مقالة بدعي أو رأي مجرد من دليل شرعي
ولكن بتلويحات من الشريعة وإشارات من الكتاب والسنة يعضد بعضها بعضا،
وينادي بعضها بتصديق بعض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82]. لكن أضربنا في هذا
الكتاب عن بث هذه الأسرار فإن ذلك يخرج عن الغرض المقصود ويشغل عما
صمدنا إليه في أول الكتاب ووعدنا به الناظر فيه من شرح لغات وأنساب
وآداب والله المستعان.
وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد وكيفيتها برواية ابن إسحاق وغيره ولم
تعرف كيفية رؤيا عمر حين أري النداء وقد قال قد رأيت مثل الذي رأى، لكن
في مسند الحارث بيان لها. روى الحارث [بن أبي أسامة] في مسنده أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أول من أذن بالصلاة جبريل أذن بها
في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالا إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فأخبره بها، فقال عليه السلام لبلال "سبقك بها عمر "
،
(4/187)
قال ابن هشام:
وذكر ابن جريج، قال قال لي عطاء سمعت عبيد بن عمير الليثي يقول ائتمر
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة فبينما عمر
بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر بن الخطاب في
المنام لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة. فذهب عمر إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم
الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين أخبره بذلك قد سبقك بذلك الوحي.
ما كان يقوله بلال قبل الأذان:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن
امرأة من بني النجار قالت كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال
يؤذن عليه للفجر كل غداة فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا
رآه تمطى،
ـــــــ
وذكر باقي الحديث. وظاهر هذا الحديث أن عمر سمع ذلك في اليقظة وكذلك
رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان رآها، وهو بين النائم واليقظان قال ولو
شئت لقلت: كنت يقظانا.
فصل : وأما قول السائل هل أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه قط،
فقد روى الترمذي من طريق يدور على عمر بن الرماح يرفعه إلى أبي هريرة
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على
رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم فنزع بعض الناس بهذا الحديث
إلى أنه أذن بنفسه وأسنده الدارقطني بإسناد الترمذي إلا أنه لم يذكر
عمر بن الرماح، ووافقه فيما بعده من إسناد ومتن لكنه قال فيه فقام
المؤذن فأذن ولم يقل أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتصل
يقضي على المجمل المحتمل والله أعلم.
(4/188)
ثم قال اللهم
إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا على دينك. قالت والله ما علمته
كان يتركها ليلة واحدة.
أبوقيس بن أبي أنس:
قال ابن إسحاق: فلما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره وأظهر
الله بها دينه وسره بما جمع إليه من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته
قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس، أخو بني عدي بن النجار.
نسبه :
قال ابن هشام: أبو قيس صرمة بن أبي أنس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عامر
بن غنم بن عدي بن النجار
إسلامه وشيء من شعره:
قال ابن إسحاق: وكان رجلا قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح وفارق
الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية،
ثم
ـــــــ
حديث صرمة بن أبي أنس
واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي بن
النجار الأنصاري وهو الذي أنزل الله فيه وفي عمر رضي الله عنهما:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
[البقرة: 187] إلى قوله: {وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] فهذه في عمر
ثم قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] إلى آخر الآية فهذه في
صرمة بن أبي أنس وذلك أن إتيان النساء ليلا في رمضان كان محرما عليهم
في أول الإسلام بعد النوم وكذلك الأكل والشرب كان محرما عليهم بعد
النوم فأما عمر فأراد امرأته ذات ليلة فقالت له إني قد نمت، فقال كذبت
ثم وقع عليها، وأما
(4/189)
أمسك عنها،
ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا تدخله عليه فيه طامث ولا جنب وقال أعبد
رب إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة ، فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا لله عز وجل
في جاهليته يقول أشعارا في ذلك حسانا - وهو الذي يقول:
يقول أبو قيس وأصبح غاديا: ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
فأوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدونهم ... وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
ـــــــ
صرمة فإنه عمل في حائطه وهو صائم فجاء الليل وقد جهده الكلال فغلبته
عينه قبل أن يفطر فجاءته امرأته بطعام كانت قد صنعته له فوجدته قد نام
فقالت له الخيبة لك حرم عليك الطعام والشراب فبات صائما، وأصبح إلى
حائطه يعمل فيه فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طليح قد جهده
العطش مع ما به من الجوع والنصب فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فأخبره بقصته فرق عليه السلام ودمعت عيناه فأنزل الله تعالى الرخصة
وجاء بالفرج بدأ بقصة عمر لفضله فقال: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}
[البقرة: من الآية187] ثم بصرمة فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة:
من الآية187] قال بعض أشياخ الصوفية هذه العناية من الله أخطأ عمر
خطيئة فرحمت الأمة بسببها.
من شرح شعره:
وذكر من شعر صرمة:
فأوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول
برفع البر على الابتداء وأول خبر له وقد يحتمل في الظاهر أن يكون ظرفا
في
(4/190)
وإن تاب غرم
فادح فارفقوهم ... وما حملوكم في الملمات فاحملوا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا ... وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا
قال ابن هشام: ويروى:
وإن ناب أمر فادح فارفدوهم
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة أيضا
ـــــــ
موضع الخبر، ولكن لا يجوز ذلك في هذه الظروف المبنية على الضم أن تكون
خبر المبتدإ لا تقول الصلاة قبل إلا أن تقول قبل كذا، ولا الخروج بعد
إلا أن تقول بعد كذا، وذلك لسر دقيق قد حوم عليهما ابن جني فلم يصب
المفصل والذي منع من ذلك أن هذه الغايات إنما تعمل فيها الأفعال
الملفوظ بها لأنها غايات لأفعال متقدمة فإذا لم تأت بفعل يعمل فيها، لم
تكن غاية لشيء مذكور وصار العامل فيها معنويا، وهو الاستقرار وهي مضافة
في المعنى إلى شيء والشيء المضاف إليه معنوي، لا لفظي، فلا يدل العامل
المعنوي على معنوي آخر إنما يدل عليه الظاهر اللفظي، فتأمله فالضمة في
أول على هذا حركة إعراب لا حركة بناء ولو قال ابدأ بالبر أول لكانت
حركة بناء لكن من رواه والبر بالله أول بخفض الراء من البر فأول حينئذ
ظرف مبني على الضم يعمل فيه أوصيكم.
وفيه:
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا
الإمعار الفقر.
ومن شعره:
(4/191)
سبحوا الله شرق
كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا ... ليس ما قال ربنا بضلال
وله الطير تستريد وتأوي ... في وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها ... في حقاف وفي ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت ... كل دين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيد لربهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس وكان ناعم بال
سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
ـــــــ
سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
الشرق: طلوع الشمس وهو من أسمائها أيضا، وكذلك الشرق بفتح الراء وكل
هلال بالنصب على الظرف أي وقت كل هلال ولو قلت في مثل هذا: وكل قمر على
الظرف لم يجز لأن الهلال قد أجري مجرى المصادر في قولهم الليلة الهلال
فلذلك صح أن يكون ظرفا لأن المصادر قد تكون ظروفا لمعان وأسرار ليس هذا
موضعا لذكرها، ولو خفضت وكل هلال عطفا على صباح لم يجز لأن الشرق لا
يضاف إلى الهلال كما يضاف إلى الصباح.
وفيه:
وله شمس النصارى
يعني دين الشمامسة وهم الرهبان لأنهم يشمسون أنفسهم يريدون تعذيب
النفوس بذلك في زعمهم:
وفيه:
(4/192)
يا بني الأرحام
لا تقطعوها ... وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والي
ـــــــ
يا بني الأرحام لا تقطعوها
بنصب الأرحام وهو أجود من الرفع في هذا الموضع للنهي. وقوله
وصلوها قصيرة من طوال
وقد أملينا فيها في غير هذا الكتاب ما نعيده هاهنا بحول الله وأملينا
أيضا في معنى الرحم واشتقاق الأم لإضافة الرحم إليها، ووضعها فيه عند
خلق آدم وحواء، وكون الأم أعظم حظا في البر من الأب مع أنها في الميراث
دونه أسرارا بديعة ومعاني لطيفة أودعناها كتاب الفرائض وشرح آيات
الوصية فلتنظر هنالك.
وأما قوله قصيرة من طوال فيحتمل تأويلين أحدهما: أن يريد صلوا قصرها من
طولكم أي كونوا أنتم طوالا بالصلة والبر إن قصرت هي وفي الحديث أنه قال
لأزواجه "أسرعكن لحوقا بي: أطولكن يدا فاجتمعن يتطاولن فطالتهن سودة
فماتت زينب أولهن" أراد الطول بالصدقة والبر فكانت تلك صفة زينب بنت
جحش.
والتأويل الآخر أن يريد مدحا لقومه بأن أرحامهم قصيرة النسب ولكنها من
قوم طوال كما قال:
أحب من النسوان كل طويلة ... لها نسب في الصالحين قصير
وقال الطائي:
(4/193)
يا بني التخوم
لا تخزلوها ... إن خزل التخوم ذو عقال
يا بني الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن مرها لنفاد الخلـ ... ـق ما كان من جديد وبالي
واجمعوا أمركم على البر والتقـ ... ـوى وترك الخنا وأخذ الحلال
وقال أبو قيس صرمة أيضا، يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من
الإسلام وما خصهم الله به من نزول رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله باديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
ـــــــ
أنتم بنو النسب القصير وطولكم ... باد على الكبراء والأشراف
والنسب القصير أن يقول أنا ابن فلان فيعرف وتلك صفة الأشراف ومن ليس
بشريف لا يعرف حتى يأتي بنسبة طويلة يبلغ بها رأس القبيلة. وقد قال
رؤبة قال لي النسابة من أنت انتسب فقلت: رؤبة بن العجاج، فقال قصرت
وعرفت. وقوله
إن خزل التخوم ذو عقال
التخوم جمع: تخومة ومن قال تخم في الواحد قال في الجمع تخوم بضم التاء
وأراد بها الأرف [أو الأرث] وهي الحدود وقال أبو حنيفة التخوم والتخوم
حدود البلاد والقرى، ولم يذكر في حدود الأحقال الأرف. والعقال. ما
(4/194)
فأصبح لا يخشى
من الناس واحدا ... قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من حل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
ـــــــ
يمنع الرجل من المشي ويعقلها يريد أن الظلم يخلف صاحبه ويعقله عن
السباق ويحبسه في مضايق الاحتقاق.
وذكر قصيدته اليائية وقال فيها: فطأ معرضا. البيت قال ابن هشام: هو
لأفنون التغلبي واسمه صريم بن معشر [بن ذهل بن تيم بن عمرو بن عمرو بن
مالك بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب].
قال المؤلف وسمي أفنونا في قول ابن دريد لبيت قاله فيه
أو نحو هذا اللفظ. والأفنون الغصن الناعم والأفنون أيضا العجوز الفانية
وأفنون هو الذي يقول:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذي بهم ولقمان وذي جدن
لما وقوا بأخيهم من مهولة ... أخا السكون ولا جاروا عن السنن
أنى جزوا عامرا سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن
(4/195)
فطأ معرضا إن
الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي لنفسك باقيا
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تحفل النخل المعيمة ربها ... إذا أصبحت ربا وأصبح ثاويا
قال ابن هشام: البيت الذي أوله:
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة
والبيت الذي يليه:
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي
لأفنون التغلبي وهو صريم بن معشر في أبيات له
ـــــــ
وقول ابن هشام في البيتين فطأ معرضا والذي بعده أنهما لأفنون التغلبي
مذكور عند أهل الأخبار ولها سبب ذكروا أن أفنونا خرج في ركب فمروا
بربوة تعرف بالإلهة وكان الكاهن قبل ذلك قد حدثه أنه يموت بها، فمر بها
في ذلك الركب فلما أشرفوا عليها وأعلم باسمها، كره المرور بها، وأبوا
أصحابه إلا أن يمروا بها، وقالوا له لا تنزل عندها، ولكن نجوزها سعيا،
فلما دنا منها بركت به ناقته على حية فنزل لينظر فنهشته الحية فمات
فقبره هنالك وقيل في حديثه إنه مر بها ليلا، فلم يعرف بها حتى ربض
البعير الذي كان عليه وعلم أنه عند الإلهة فجزع فقيل له لا بأس عليك،
فقال فلم ربض البعير فأرسلها مثلا. ذكره يعقوب وعندما أحس بالموت قال
هذين البيتين اللذين ذكر ابن إسحاق وبعدهما:
كفى حزنا أن يرحل الركب غدوة ... وأترك في جنب الإلهة ثاويا
(4/196)
|