الروض الأنف ت السلامي

غزوة ذات الرقاع في سنة أربع
الأهبة لها:
<401> قال ابن إسحاق:
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجدا محاربا وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام.
لم سميت بذات الرقاع؟
قال ابن إسحاق:
ـــــــ
غزوة ذات الرقاع
<401> وسميت ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم في قول ابن هشام، قال ويقال ذات الرقاع شجر بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع، وذكر غيره أنها أرض فيها بقع سود وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة فسميت ذات الرقاع لذلك

(6/175)


حتى نزل نخلا، وهي غزوة ذات الرقاع.
قال ابن هشام:
وإنما قيل لها: غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم ويقال ذات الرقاع : شجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع.
قال ابن إسحاق:
فلقي بها جمعا عظيما من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس.
صلاة الخوف
<402> قال ابن هشام:
حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنوري - وكان يكنى: أبا عبيدة - قال حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف قال
ـــــــ
وكانوا قد نزلوا فيها في تلك الغزاة وأصح من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري من طريق أبي موسى الأشعري، قال "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق" فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا، فحدث أبو موسى بهذا، ثم كره ذلك فقال ما كنت أصنع بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه .
صلاة الخوف
فصل: <402> وذكر صلاة الخوف وأوردها من طرق ثلاث وهي مروية بصور

(6/176)


"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم سلم وطائفة مقبلون على العدو. قال فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين ثم سلم"
قال ابن هشام: وحدثنا عبد الوارث، قال حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال:
"صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفين فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الصف الأول فلما رفعوا سجد الذين يلونهم بأنفسهم ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الآخر حتى قاموا مقامهم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعا ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد الذين يلونه معه فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون بأنفسهم فركع النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهما بأنفسهم سجدتين
ـــــــ
مختلفة أكثر مما ذكر. سمعت شيخنا أبا بكر - رحمه الله - يقول فيها ست عشرة رواية وقد خرج المصنفون أصحها، وخرج أبو داود منها جملة ثم اختلف الفقهاء في الترجيح فقال طائفة يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن وقالت طائفة يجتهد في طلب الآخر منها، فإنه الناسخ لما قبله وقالت طائفة يؤخذ بأصحها نقلا، وأعلاها رواة وقالت طائفة - وهو مذهب شيخنا: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف فإذا اشتد الخوف أخذ بأيسرها مؤنة فإذا تفاقم الخوف صلوا بغير إمام لقبلة أو لغير قبلة وقد روى ابن سلام عن طائفة من السلف أن صلاة الخوف قد تئول إلى أن تكون أربع تكبيرات وذلك عند معمعة القتال وسيأتي بقية القول في صلاة الخوف في خبر بني قريظة إن شاء الله ومما تخالف به صلاة الخوف حكم غيرها أنه لا سهو فيها على إمام ولا على مأموم رواه الدارقطني بسند ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا سهو في صلاة الخوف".

(6/177)


<403> قال ابن هشام: حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنوري قال حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال يقوم الإمام وتقوم معه طائفة، وطائفة مما يلي عدوهم فيركع بهم الإمام ويسجد بهم ثم يتأخرون فيكونون مما يلي العدو يتقدم الآخرون فيركع بهم الإمام ركعة ويسجد بهم ثم تصلي كل طائفة بأنفسهم ركعة فكانت لهم مع الإمام ركعة ركعة وصلوا بأنفسهم ركعة ركعة
غورث وما هم به من قتل الرسول:
قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن عن جابر بن عبد الله: أن رجلا من بني محارب، يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال أفتك به. قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال يا محمد أنظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم - وكان محلى بفضة فيما قال ابن هشام - قال فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله ثم قال يا محمد أما تخافني؟ قال " لا، ولا أخاف منك؟ " قال أما تخافني وفي يدي السيف قال " لا، يمنعني الله منك ". ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه " . قال فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان:
أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما هم به فالله أعلم أي ذلك كان.
جابر وقصته هو وجمله مع الرسول
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله، قال:
ـــــــ
رفع المنصوب
فصل: <403> وذكر حديث جابر حين أبطأ به جمله فنخسه النبي - صلى الله عليه وسلم – نخسات،

(6/178)


"خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف فلما قفل <404> رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما لك يا جابر؟ " قال قلت: يا رسول الله أبطأني جملي هذا ; قال " أنخه " ; قال فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة " ; قال ففعلت. قال فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال " اركب "، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة.
ـــــــ
فخرج <404> يواهق ناقته مواهقة. المواهقة كالمسابقة والمجاراة وأنشد سيبويه لأوس بن حجر
تواهق رجلاها يداها ورأسه ... لها قتب خلف الحقيبة رادف
رفع يداها ورجلاها رفع الفاعل لأن المواهقة لا تكون إلا من اثنين فكل واحد منهما فاعل في المعنى كما ذكروا في قول الراجز
قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
[وذات قرنين ضمورا ضرزما]
هكذا تأوله سيبويه، ولعل هذا الشاعر كان من لغته أن يجعل التثنية بالألف في الرفع والنصب والخفض كما قال:
تزود منا بين أذناه طعنة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
وكما قال الآخر:

(6/179)


قال وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ " قال قلت: يا رسول الله بل أهبه لك ; قال "لا، ولكن بعنيه"، قال قلت: فسمنيه يا <405> رسول الله؟ قال " قد أخذته بدرهم "؟ قال قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله قال " فبدرهمين "، قال قلت: لا. قال فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمنه حتى
ـــــــ
قد بلغا في المجد غايتاها
وهي لغة بني الحارث بن كعب، قاله أبو عبيد. وقال النحاس في الكتاب المقنع هي أيضا لغة لخثعم وطيئ وأبطن من كنانة، والبيت أعني: تواهق رجلاها يداها، هو لأوس بن حجر الأسدي وليس ممن هذه لغته فالبيت إذا على ما قاله سيبويه.
مساومة جابر في جمله وما فيه من الفقه
وذكر مساومة النبي صلى الله عليه وسلم لجابر في الجمل حتى اشتراه منه بأوقية وأنه أعطاه أولا درهما، فقال لا إذا تغبنني يا رسول الله فإن كان أعطاه الدرهم مازحا، فقد كان يمزح <405> ولا يقول إلا حقا، فإذا كان حقا، ففيه من الفقه إباحة المكايسة الشديدة في البيع وأن يعطي في السلعة ما لا يشبه أن يكون ثمنا لها بنص الحديث وفي دليله أن من اشترى سلعة بما لا يشبه أن يكون لها ثمنا، وهو عاقل بصير ولم يكن في البيع تدليس عليه فهو بيع ماض لا رجوع فيه وروي من وجه صحيح أنه كان يقول له كلما زاد له درهما قد أخذته بكذا والله يغفر لك، فكأنه عليه السلام أراد بإعطائه إياه درهما درهما أن يكثر استغفاره له وفي جمل جابر هذا

(6/180)


بلغ الأوقية. قال فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال " نعم "؟ قلت: فهو لك، قال <406> " قد أخذته ". قال ثم قال " يا جابر هل تزوجت بعد؟ " قال قلت: نعم يا رسول الله قال " أثيبا أم بكرا؟ " قال قلت: لا، بل ثيبا ; قال " أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك " قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن وتقوم عليهن؟ قال " أصبت إن شاء الله أما
ـــــــ
أمور من الفقه سوى ما ذكرنا، وذلك أن طائفة من الفقهاء احتجوا به في جواز بيع وشرط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط له ظهره إلى المدينة، وقالت طائفة لا يجوز بيع وشرط وإن وقع فالشرط باطل والبيع باطل واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جد أبيه عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شرط وبيع وعن بيع وسلف.
شعيب لا يروي عن أبيه وإنما عن جده:
وقد روى أبو داود هذا الحديث فقال عن عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن أبيه محمد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عبد الله بن عمرو.
وهذه رواية مستغربة عند أهل الحديث جدا، لأن المعروف عندهم أن شعيبا إنما يروي عن جده عبد الله لا عن أبيه محمد لأن أباه محمدا مات قبل جده عبد الله فقف على هذه التنبيهة في هذا الحديث فقل من تنبه إليها، وقالوا: حجة في حديث جابر لما فيه من الاضطراب فقد روي أنه قال أفقرني ظهره إلى المدينة، وروي أنه قال استثنيت ظهره إلى المدينة، وروي أنه قال شرط لي ظهره وقال البخاري: الاشتراط أكثر وأصح، وكذلك اضطربوا في الثمن

(6/181)


إنا لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك وسمعت بنا، فنفضت نمارقها " قال قلت: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق قال " إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا " قال فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا، قال " فحدثت المرأة الحديث "، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فدونك، فسمع
ـــــــ
فقالوا: بعته منه بأوقية وقال بعضهم بأربع أواقي وقال بعضهم بخمس أواقي وقال بعضهم بخمسة دنانير وقال بعضهم بأربعة دنانير وقال بعضهم هو في معنى الأوقية وكل هذه الروايات قد ذكرها البخاري، وقال مسلم في بعض رواياته دينارين ودرهمين وقالت طائفة بإبطال الشرط وجواز البيع واحتجوا بحديث بريرة حين <406> باعها أهلها من عائشة واشترطوا الولاء فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم البيع وأبطل الشرط واستعمل مالك هذه الأحاديث أجمع فقال بإبطال البيع والشرط على صورة وبجوازهما على صورة أخرى، وبإبطال الشرط وجواز البيع على صورة أيضا، وذلك بين في المسائل لمن تدبرها، وأبين ما توجد محكمة الأصول مستثمرة الجنا والفصول في كتاب المقدمات لابن رشد فلينظرها هنالك من أرادها.
الحكمة من مساومة النبي لجابر
فصل
ومن لطيف العلم في حديث جابر بعد أن تعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعل شيئا عبثا بل كانت أفعاله مقرونة بالحكمة ومؤيدة بالعصمة فاشتراؤه الجمل من جابر ثم أعطاه الثمن وزاده عليه زيادة ثم رد الجمل عليه وقد كان

(6/182)


وطاعة. قال فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم جلست في المسجد قريبا منه قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال ما هذا؟ <407> قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر قال فأين جابر؟ قال فدعيت له قال فقال يا ابن أخي خذ برأس جملك، فهو لك، ودعا
ـــــــ
يمكن أن يعطيه ذلك العطاء دون مساومة في الجمل ولا اشتراء ولا شرط ولا توصيل فالحكمة في ذلك بديعة جدا، فلتنظر بعين الاعتبار وذلك أنه سأله هل تزوجت، ثم قال له هلا بكرا، فذكر له مقتل أبيه وما خلف من البنات وقد كان عليه السلام قد أخبر جابرا "بأن الله قد أحيا أباه ورد عليه روحه وقال ما تشتهي فأزيدك" فأكد عليه السلام هذا الخبر بمثل ما يشبهه فاشترى منه الجمل وهو مطيته كما اشترى الله تعالى من أبيه ومن الشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة ونفس الإنسان مطيته كما قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إن نفسي <407> مطيتي، ثم زادهم زيادة فقال {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ثم رد عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران:169] الآية
فأشار عليه السلام باشترائه الجمل من جابر وإعطائه الثمن وزيادته على الثمن ثم رد الجمل المشترى عليه أشار بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله تعالى بأبيه فتشاكل الفعل مع الخبر، كما تراه وحاش لأفعاله أن تخلو من حكمة بل هي كلها ناظرة إلى القرآن ومنتزعة منه صلى الله عليه وسلم.
سياقه الحديث عن عمرو بن عبيد:
فصل: وحدث عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر وذكر حديث غورث وقد ذكره البخاري فقال فيه غورث بن الحارث وقد ذكره الخطابي، فقال فيه أنه لما هم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - رمي بالزلخة فندر السيف من يده وسقط

(6/183)


بلالا، فقال له اذهب بجابر فأعطه أوقية قال فذهبت معه فأعطاني أوقية
ـــــــ
إلى الأرض الزلخة وجع يأخذ في الصلب وأما روايته الحديث عن عمرو بن عبيد فأعجب شيء سياقته إياه عن عمرو بن عبيد، وقد رواه الأثبات عن جابر وعمرو بن عبيد متفق على وهن حديثه وترك الرواية عنه لما اشتهر من بدعته وسوء نحلته فإنه حجة القدرية فيما يسندون إلى الحسن - رضي الله عنه - من القول بالقدر وقد برأه الله منه وكان عند الله وجيها، وأما عمرو بن عبيد بن دأب، فقد كان عظيما في زمانه عالي الرتبة في الورع حتى افتتن به وبمقالته أمة فصاروا قدرية، وقد نبز بمذهبه قوم من أهل الحديث فلم يسقط حديثهم لأنهم لم يجادلوا على مذهبهم ولا طعنوا في مخالفيهم من أهل السنة كما فعل عمرو بن عبيد.
فممن نبز بالقدر ابن أبي ذئب وقتادة وداود بن الحصين وعبد الحميد بن جعفر وطائفة سواهم من الأثبات في علم الحديث وعمرو بن عبيد يكنى أبا عثمان وأبوه عبيد بن دأب كان صاحب شرطة فيما ذكروا وسمع يوما ناسا في ابنه هذا خير الناس ابن شر الناس فالتفت إليهم وقال وما يعجبكم من هذا؟ هو كإبراهيم وأنا كآزر وكان أبو جعفر المنصور، يقول بعد موت عمرو بن عبيد: ما بقي أحد يستحيا منه بعد عمرو، وكان يقول:
كلكم خاتل صيد ... كلكم يمشي رويد ... غير عمرو بن عبيد
وقد نبز ابن إسحاق بالقدر أيضا، وروايته عن عمرو بن عبيد تؤيد قول من عزاه إليه والله أعلم.

(6/184)


وزادني شيئا يسيرا. قال <408> فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا، يعني يوم الحرة.
ـــــــ
وقعة الحرة وموقف الصحابة منها
فصل <408> وذكر قول جابر فوالله ما زال ينمي عندنا، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب فيما أصيب منا يوم الحرة يعني: وقعة الحرة التي كانت بالمدينة أيام يزيد بن معاوية على يدي مسلم بن عقبة المري الذي يسميه أهل المدينة مسرف بن عقبة وكان سببها أن أهل المدينة خلعوا يزيد بن معاوية وأخرجوا مروان بن الحكم وبني أمية وأمروا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الذي غسلت أباه الملائكة يوم أحد، ولم يوافق على هذا الخلع أحد من أكابر الصحابة الذين كانوا فيهم. روى البخاري أن عبد الله بن عمر لما أرجف أهل المدينة بيزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كانت الفيصل بيني وبينه ثم لزم بيته ولزم أبو سعيد الخدري بيته فدخل عليه في تلك الأيام التي انتهبت المدينة فيها، فقيل له من أنت أيها الشيخ؟ فقال أنا أبو سعيد الخدري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له قد سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك، ولزمت بيتك، ولكن هات المال فقال قد أخذه الذين دخلوا قبلكم علي وما عندي شيء فقالوا: كذبت ونتفوا لحيته وأخذوا ما وجدوا حتى صوف الفرش وحتى أخذوا زوجين من حمام كان صبيانه يلعبون بهما وأما جابر بن عبد الله الذي كنا بمساق حديثه فخرج في ذلك اليوم يطوف في أزقة المدينة والبيوت تنتهب وهو أعمى، وهو يعثر في القتلى، ويقول تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6/185)


ابن ياسر وابن بشر وقيامهما على حراسة جيش الرسول وما أصيبا به
<409> قال ابن إسحاق: وحدثني عمي صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:
"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل ، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال من رجل يكلؤنا ليلتنا "هذه )؟ " قال فانتدب رجل من المهاجرين ورجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله قال " فكونا بفم الشعب . قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر فيما قال ابن هشام.
ـــــــ
فقال له قائل ومن أخاف رسول الله؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أخاف المدينة، فقد أخاف ما بين جنبي" فحملوا عليه ليقتلوه فأجاره منهم مروان وأدخله بيته وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان فقد ذكروا أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من أهل الشام، وهي ترضع صبيها، وقد أخذ ما كان عندها، فقال لها: هات الذهب وإلا قتلتك، وقتلت صبيك، فقالت ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما خنت الله في شيء بايعت رسوله عليه فانتفض الصبي من حجرها، وثديها في فيه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض والمرأة تقول يا بني لو كان عندي شيء نفديك به لفديتك، فما خرج من البيت حتى اسود نصف وجهه وصار مثلة في الناس.
<409> قال المؤلف وأحسب أن هذه المرأة جدة الصبي لا أما له إذ يبعد في العادة أن تبايع النبي عليه السلام وتكون يوم الحرة في سن من ترضع.

(6/186)


قال ابن إسحاق:
فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري أي الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال بل اكفني أوله قال فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، قال وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم. قال فرمى بسهم فوضعه فيه قال فنزعه ووضعه فثبت قائما، قال ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه. قال فنزعه فوضعه وثبت قائما، ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه قال فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد ثم أهب صاحبه فقال اجلس فقد أثبت قال فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب قال ولما رأى المهاجري ما <410> بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها،
ـــــــ
والحرة التي يعرف بها هذا اليوم يقال لها: حرة زهرة وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بها، وقال "ليقتلن بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي"، ويذكر عن عبد الله بن سلام، أنه قال لقد وجدت صفتها في كتاب يهود بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل وأنه يقتل فيها قوم صالحون يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم وذكر الحديث. وعرفت حرة زهرة بقرية كانت لبني زهرة قوم من اليهود، وكانت كبيرة في الزمان الأول ويقال كان فيها ثلاثمائة صائغ ذكر هذا الزبير في فضائل المدينة له وكانت هذه الوقعة سنة ثلاث وستين وقد كان يزيد بن معاوية قد أعذر إليهم فيما ذكروا، وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطي الناس واجتهد في استمالتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من الخلاف ولكن أبى الله إلا ما أراد والله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134-141]

(6/187)


فلما تابع علي الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها
قال ابن هشام: ويقال أنفذها.
رجوع الرسول
قال ابن إسحاق:
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا.
ـــــــ
معنى الربيئة
فصل: <410> وذكر حديث الأنصاري والمهاجري وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، وأن رجلا من العدو رمى الأنصاري بسهم وهو يصلي لما علم أنه ربيئة القوم. الربيئة هو الطليعة يقال ربأ على القوم يربأ فهو رباء وربيئة قال الشاعر [الهذلي] :
رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
فرباء فعال من ربا إذا نظر من مكان مرتفع وشماء يريد هضبة شماء وإنما قالوا: ربيئة بهاء التأنيث وطليعة لأنهما في معنى العين والعين مؤنثة تقول

(6/188)