الروض
الأنف ت الوكيل (شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ)
الرّضَعَاءُ وَالْمَرَاضِعُ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرّضَعَاءَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: إنّمَا هُوَ الْمَرَاضِعُ. قَالَ: وَفِي كِتَابِ
اللهِ سُبْحَانَهُ: (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [مِنْ قَبْلُ] )
الْقَصَصَ: 12 وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنّ
الْمَرَاضِعَ جَمْعُ: مُرْضِعٍ، وَالرّضَعَاءُ: جَمْعُ رَضِيعٍ، وَلَكِنْ
لِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مَخْرَجٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: حَذْفُ
الْمُضَافِ كَأَنّهُ قَالَ: ذَوَاتَ الرّضَعَاءِ، وَالثّانِي: أَنْ يَكُونَ
أَرَادَ بِالرّضَعَاءِ: الْأَطْفَالَ عَلَى حَقِيقَةِ اللّفْظِ؛ لِأَنّهُمْ
إذَا وَجَدُوا لَهُ مُرْضِعَةً تُرْضِعُهُ، فَقَدْ وَجَدُوا لَهُ رَضِيعًا،
يَرْضَعُ مَعَهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْتَمَسُوا لَهُ رَضِيعًا،
عِلْمًا بِأَنّ الرّضِيعَ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ.
مُرْضِعَاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ:
وَأَرْضَعَتْهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- ثُوَيْبَةُ «2» قبل حليمة. أرضعته
__________
(1) فى رواية: جدامة بضم الجيم أو خدامة أو جذامة وانظر ص 54. الخشنى.
(2) توفيت سنة سبع. قال ابن منده: اختلف فى إسلامها، وقال أبو نعيم: لا
أعلم أحدا ذكره، ص 137 ج 1 المواهب، وحديث حليمة بهذا السند رواه الحاكم
وابن حبان وابن راهويه وأبو ليلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم. وفى شرح-
(2/163)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعَمّهُ حَمْزَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِفُ ذَلِكَ لِثُوَيْبَةَ،
وَيَصِلُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا افْتَتَحَ مَكّةَ سَأَلَ عَنْهَا
وَعَنْ ابْنِهَا مَسْرُوحٍ، فَأُخْبِرَ أَنّهُمَا مَاتَا، وَسَأَلَ عَنْ
قَرَابَتِهَا، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَيّا. وَثُوَيْبَةُ كَانَتْ
جَارِيَةً لِأَبِي لَهَبٍ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيّةَ حَدِيثِهَا- إنْ شَاءَ
اللهُ- عِنْدَ وَفَاةِ أَبِي لَهَبٍ.
يُغَذّيهِ أَوْ يُغَدّيهِ:
وَذَكَرَ قَوْلَ حَلِيمَةَ: وَلَيْسَ فِي شَارِفِنَا مَا يغدّيه. وَقَالَ
ابْنُ هِشَامٍ:
مَا يُغَذّيهِ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ، وَهُوَ أَتَمّ فِي الْمَعْنَى
مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَدَاءِ دُونَ الْعَشَاءِ «1» ،
وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الشّيْخِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدَ بَعْضِ
النّاسِ رِوَايَةٌ
__________
- المواهب أن النسوة اللاتى خرجت معهن حليمة كن عشرا. والسنة الشهباء: ذات
القحط والجدب، والأرض الشهباء: البيضاء التى لا خضرة فيها لقلة المطر.
والأتان: الأنثى من الحمير، ولا يقال أتانة، والقمراء: التى فى لونها بياض،
والصبى الذى كان مع حليمة هو: عبد الله بن الحارث. والشارف: الناقة المسنة،
ويقال للذكر والأنثى. وما تبض بقطرة معناها: لا ترشح ولا تسيل، ومن رواها
بالصاد فمعناها: ما يبرق عليها أثر لبن، من البصيص، وهو البريق واللمعان. ص
55 الخشنى
(1) يقول أبو ذر الخشنى: «ومن رواه ما يغذيه فمعناه: ما يقنعه ولا يمنعه من
البكاء. يقال: أغذيت الرجل عن الشىء: إذا منعته منه. وقال ابن هشام: يغذيه.
هذا من لفظ الغذاء، ومن رواه: يعذيه بالعين المهملة فمعناه: ما يشبعه بعض
الشبع مأخوذ من النبات العذى، وهو الذى يشرب فى الصيف والشتاء بغرفة من
الأرض دون أن يسقى» أو الذى لا يسقيه إلا المطر. وتكون هذه هى الرواية
الرابعة للكلمة
(2/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرُ هَاتَيْنِ وَهِيَ يُعْذِبُهُ بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ
مَنْقُوطَةٍ وَبَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِوَاحِدَةِ، وَمَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ: مَا
يُقْنِعُهُ حَتّى يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَنْقَطِعَ عَنْ الرّضَاعِ، يُقَالُ
مِنْهُ: عَذَبْته وَأَعْذَبْته: إذَا قَطَعْته عَنْ الشّرْبِ وَنَحْوِهِ،
وَالْعَذُوبُ: الرّافِعُ رَأْسَهُ عَنْ الْمَاءِ، وَجَمْعُهُ: عُذُوبٌ
بِالضّمّ، وَلَا يُعْرَفُ فَعُولٌ جُمِعَ عَلَى فُعُولٍ غَيْرُهُ: قَالَهُ
أَبُو عُبَيْدٍ «1» وَاَلّذِي فِي الْأَصْلِ أَصَحّ فِي الْمَعْنَى
وَالنّقْلِ.
مِنْ شرح حديث الرضاعة:
وذكر قولها: حتى أذ ممت بِالرّكْبِ. تُرِيدُ: أَنّهَا حَبَسَتْهُمْ،
وَكَأَنّهُ مِنْ الْمَاءِ الدّائِمِ، وَهُوَ الْوَاقِفُ، وَيُرْوَى: حَتّى
أَذَمّتْ. أَيْ: أَذَمّتْ الْأَتَانُ، أَيْ: جَاءَتْ بِمَا تُذَمّ
عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِئْرٌ ذَمّةٌ، أَيْ: قَلِيلَةُ
الْمَاءِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ عِنْدَ أَبِي الْوَلِيدِ، وَلَا فِي أَصْلِ
الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَهَا قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ، وَلَمْ
يَذْكُرْ رِوَايَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ تَفْسِيرَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ:
أَذَمّ بِالرّكْبِ: إذَا أَبْطَأَ، حَتّى حَبَسَتْهُمْ: مِنْ الْبِئْرِ
الذّمّة، وهى القليلة الماء «2» .
__________
(1) فى اللسان جمعه: عذب بضم العين والذال، وقد خطأ الأزهرى أبا عبيدة لأن
فعولا- بفتح الفاء وضم العين- لا يكسر على فعول بضم الفاء
(2) عند أبى ذر الخشنى: أذمت: تأخرت بالركب، أى تأخر الركب بسببها والضمير
الذى فى أذمت يرجع إلى الأتان، وفى رواية: أدمت بالركب أى: أطلت عليهم
المسافة لتمهلهم عليها، مأخوذ من الشىء الدائم ص 55. وصاحب حليمة المذكور
فى القصة هو زوجها: الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدى، وكنيته أبو ذؤيب،
وفى رواية أخرى لحديث الرضاع جاء بعد قول حليمة: فذهبت إليه ما يلى: «فإذا
به مدرج فى ثوب صوف أبيض من اللبن يفوح منه المسك، وتحته
(2/165)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَلِيمَةَ: فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقْبَلَ
عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ،
وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ.
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يُقْبِلُ إلّا عَلَى ثَدْيِهَا الْوَاحِدِ،
وَكَانَتْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ الثّدْيَ الْآخَرَ، فَيَأْبَاهُ كَأَنّهُ قَدْ
أُشْعِرَ- عَلَيْهِ السّلَامُ- أَنّ مَعَهُ شَرِيكًا فِي لِبَانِهَا،
وَكَانَ مَفْطُورًا عَلَى الْعَدْلِ، مَجْبُولًا عَلَى الْمُشَارَكَةِ
وَالْفَضْلِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ:
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَالْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ لَمْ يَكُنْ
مَحْمُودًا عِنْدَ أَكْثَرِ نِسَاءِ الْعَرَبِ، حَتّى جَرَى الْمَثَلُ:
تَجُوعُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا «1» ، وَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِنّ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ كَانَتْ حَلِيمَةُ وَسِيطَةً فِي بَنِي
سَعْدٍ، كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِهَا، بِدَلِيلِ اخْتِيَارِ اللهِ-
تَعَالَى- إيّاهَا لِرَضَاعِ نَبِيّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَمَا اخْتَارَ لَهُ أَشْرَفَ الْبُطُونِ والأصلاب. والرّضاع كالنسب؛ لأنه
يغيّر
__________
- حرير أخضر راقد على قفاه يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله»
المواهب اللدنية في باب رضاعه ص 143 ج 1، هذا ورضاعه من ثويبة قد ورد فى
سياق حديث عن أم سلمة، وقد رواه أحمد والبخارى ومسلم والنسائى وابن ماجة
والبيهقى «منتخب السنة» ص 60 ح 1
(1) روايته: تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها، أى: لا تكون ظئرا، وإن آذاها
الجوع. ويروى: ولا تأكل ثدييها. وأول من قال ذلك: الحارث بن سليل الأسدى.
فى قصة طويلة روتها كتب الأمثال، يضرب فى صيانة الرجل نفسه عن خسيس مكاسب
الأموال «مجمع الأمثال للميدانى»
(2/166)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطّبَاعَ. فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-
تَرْفَعُهُ: «لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى؛ فَإِنّ اللّبَنَ يُورِثُ»
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَلِيمَةُ وَنِسَاءُ قَوْمِهَا طَلَبْنَ
الرّضَعَاءَ اضْطِرَارًا لِلْأَزْمَةِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ، وَالسّنَةِ
الشّهْبَاءِ الّتِي اقْتَحَمَتْهُمْ.
لِمَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْفَعُ أَوْلَادَهَا إلَى الْمَرَاضِعِ؟
وَأَمّا دَفْعُ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ
أَوْلَادَهُمْ إلَى الْمَرَاضِعِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوُجُوهِ.
أَحَدُهَا: تَفْرِيغُ النّسَاءِ إلَى الْأَزْوَاجِ، كَمَا قَالَ عَمّارُ
بْنُ يَاسِرٍ لِأُمّ سَلَمَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَكَانَ أَخَاهَا
مِنْ الرّضَاعَةِ، حِينَ انْتَزَعَ مِنْ حِجْرِهَا زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي
سَلَمَةَ، فَقَالَ: «دَعِي هَذِهِ الْمَقْبُوحَةَ الْمَشْقُوحَةَ «1»
الّتِي آذَيْت بِهَا رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَيْضًا لِيَنْشَأَ الطّفْلُ فِي
الْأَعْرَابِ، فَيَكُونَ أَفْصَحَ لِلِسَانِهِ، وَأَجْلَدَ لِجِسْمِهِ،
وَأَجْدَرَ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْهَيْئَةَ الْمَعَدّيّةَ «2» كَمَا قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَمَعْدَدُوا وَتَمَعْزَزُوا «3»
وَاخْشَوْشِنُوا [رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ] . وَقَدْ قَالَ- عَلَيْهِ
السّلَامُ- لِأَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ لَهُ: مَا
رَأَيْت أَفْصَحَ مِنْك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي،
وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدٍ؟! فَهَذَا وَنَحْوُهُ
كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى دَفْعِ
__________
(1) المشقوحة: المكسورة أو المبعدة، من الشقح، وهو الكسر أو البعد ومشقوحة
اتباع لمقبوحة.
(2) نسبة إلى قوم معد، وكانوا أهل غلظ وقشف. أى: تصلبوا، وتشبهوا بمعد.
(3) وتمعززوا: تعزز لحمه: اشتد وصلب، وتمعز البعير: اشتد عدوه.
(2/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّضَعَاءِ إلَى الْمَرَاضِعِ الْأَعْرَابِيّاتِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ يَقُولُ: أَضَرّ بِنَا حُبّ
الْوَلِيدِ؛ لِأَنّ الْوَلِيدَ كَانَ لَحّانًا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ
فَصِيحًا؛ لِأَنّ الْوَلِيدَ أَقَامَ مَعَ أُمّهِ، وَسُلَيْمَانُ
وَغَيْرُهُ مِنْ إخْوَتِهِ سَكَنُوا الْبَادِيَةَ، فَتَعَرّبُوا، ثُمّ
أُدّبُوا فَتَأَدّبُوا، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ أَعْرَابٌ، وَمِنْهُمْ
حَضَرٌ، فَالْأَعْرَابُ مِنْهُمْ: بَنُو الْأَدْرَمِ وبنو محارب، وأحسب بنى
عامر ابن لُؤَيّ كَذَلِكَ؛ لِأَنّهُمْ مِنْ أَهْلِ الظّوَاهِرِ، وَلَيْسُوا
مِنْ أَهْلِ الْبِطَاحِ «1» .
شَقّ الصّدْرِ:
وَذَكَرَ قَوْلَ أَخِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ: نَزَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ
أَبْيَضَانِ، فَشَقّا عَنْ بَطْنِهِ، وَهُمَا يَسُوطَانِهِ، يُقَالُ: سُطْت
اللّبَنَ أَوْ الدّمَ، أَوْ غَيْرَهُمَا، أَسُوطُهُ:
إذَا ضَرَبْت بَعْضَهُ بِبَعْضِ. وَالْمِسْوَطُ: عُودٌ يُضْرَبُ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ
كُرْكِيّانِ «2» ، فَشَقّ أَحَدُهُمَا بِمِنْقَارِهِ جَوْفَهُ، وَمَجّ
الْآخَرُ بِمِنْقَارِهِ فِيهِ ثَلْجًا، أَوْ بَرَدًا، أَوْ نَحْوَ هَذَا،
وَهِيَ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ ذَكَرَهَا يُونُسُ عَنْهُ، وَاخْتَصَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ حَدِيثَ نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَطْوَلُ مِنْ
هَذَا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدّنْيَا وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ إلَى أبى
ذرّ- رضى الله
__________
(1) سبق الحديث عن قريش البطاح وقريش الظواهر.
(2) الكركى: طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب. ومج
الماء: لفظه.
(2/168)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ- قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ عَلِمْت أَنّك نَبِيّ،
وَبِمَ عَلِمْت حَتّى اسْتَيْقَنْت؟ قَالَ: يَا أَبَا ذَرّ أَتَانِي
مَلَكَانِ، وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ،
وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ: قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلِ،
فَوَزَنَنِي بِرَجُلِ، فَرَجَحْته، ثُمّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةِ،
فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ، ثُمّ قَالَ:
زِنْهُ بِمِائَةِ، فَوَزَنَنِي، فَرَجَحْتهمْ، ثُمّ قَالَ: زِنْهُ
بِأَلْفِ، فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ، حَتّى جَعَلُوا يَتَثَاقَلُونَ عَلَيّ
مِنْ كِفّةِ الْمِيزَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقّ بَطْنَهُ،
فَشَقّ بَطْنِي، فأخرج قلبى، فأخرج منه مَغْمَزَ الشّيْطَانِ وَعَلَقَ
الدّمِ، فَطَرَحَهُمَا، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اغْسِلْ
بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمُلَاءِ، ثُمّ
قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خُطّ بطنه، فحاط بَطْنِي، وَجَعَلَ
الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيّ كَمَا هُوَ الْآنَ، وَوَلّيَا عَنّي، فَكَأَنّي
أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِمَا
أُبْهِمَ فِي الْأَوّلِ، لِأَنّهُ قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ
الشّيْطَانِ، وَعَلَقَ الدّمِ، فَبَيّنَ أَنّ الّذِي اُلْتُمِسَ فِيهِ هُوَ
الّذِي يَغْمِزُهُ الشّيْطَانُ مِنْ كُلّ مَوْلُودٍ إلا عيسى بن مَرْيَمَ
وَأُمّهُ «1» - عَلَيْهِمَا السّلَامُ- لِقَوْلِ أُمّهَا حُنّةَ: «وَأَنِّي
__________
(1) يشير إلى ما رواه البخارى ومسلم والترمذى: «مامن مولود يولد إلا نخسه
الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، قال أبو هريرة:
اقرؤا إن شئتم: (وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ
الرّجِيمِ) ، قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون،
وقال النووى: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى فى هذه
الخصوصية. وسيأتى أن صدره شق أيضا ليلة الإسراء فى حديث من طريق شريك فى
الصحيحين، ودعوى أنه لا منافاة، لاحتمال وقوع ذلك مرتين دعوى بلا بينة، وفى
أحاديث خاتم النبوة
(2/169)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» آلَ
عِمْرَانَ: 36. فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لِذَلِكَ، وَلِأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ
مِنْ مَنِيّ الرّجَالِ فَأُعِيذُهُ مِنْ مَغْمَزٍ، وَإِنّمَا خُلِقَ مِنْ
نَفْخَةِ رُوحِ الْقُدُسِ، وَلَا يَدُلّ هَذَا عَلَى فَضْلِ عِيسَى
عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى مُحَمّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِأَنّ مُحَمّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نُزِعَ مِنْهُ
ذَلِكَ الْمَغْمَزُ، وَمُلِئَ قَلْبُهُ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، بَعْدَ أَنْ
غَسَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِالثّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَإِنّمَا كَانَ ذَلِكَ
الْمَغْمَزُ فِيهِ لِمَوْضِعِ الشّهْوَةِ الْمُحَرّكَةِ لِلْمَنِيّ،
وَالشّهَوَاتُ يَحْضُرُهَا الشّيَاطِينُ، لَا سِيمَا شَهْوَةُ مَنْ لَيْسَ
بِمُؤْمِنِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ رَاجِعًا إلَى الْأَبِ، لَا إلَى
الِابْنِ الْمُطَهّرِ- صلى الله وسلم عليه.
وَفِي الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ،
وَذَلِكَ أَنّ خَاتَمَ النّبُوّةِ لَمْ يُدْرَ هل خلق به، أم وضع فيه بعد
ما وُلِدَ، أَوْ حِينَ نُبّئَ، فَبَيّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَتَى
وُضِعَ، وَكَيْفَ وُضِعَ، وَمَنْ وَضَعَهُ، زَادَنَا اللهُ عِلْمًا،
وَأَوْزَعَنَا شُكْرَ مَا عَلّمَ، وَفِيهِ الْبَيَانُ لِمَا سَأَلَ عَنْهُ
أَبُو ذَرّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ: كَيْفَ عَلِمْت أنك «1»
__________
- مغايرة لما ورد من وصف الخاتم هنا، كما أن فى ألفاظ بعض أحاديث الشق ما
يوحى بأنه أحداث منام، لا أحداث واقع، أما الإسراء فيقظة بنص القرآن وسيأتى
(1) كل حديث يزعم فيه أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يعرف أنه نبى هو
حديث كذب، لا يعتد به، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف حتى ليلة
الوحى أنه نبى. هذا وعن خاتم النبوة ورد فى حديث- رواه الشيخان والترمذى عن
السائب بن يزيد: «فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة» الزر: البيضة
وعن جابر فى مسلم: «رأيت خاتما فى ظهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأنه
بيضة حمام» وفى مسلم والترمذى: «كان خاتم رسول الله «ص» الذى بين كتفيه غدة
حمراء مثل بيضة الحمامة» وعن عبد الله بن سرجس: «نظرت إلى خاتم النبوة بين-
(2/170)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَبِيّ، فَأَعْلَمَهُ بِكَيْفِيّةِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنّ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ، وَهْمًا مِنْ بَعْضِ النّقَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَيْنَمَا
أَنَا بِبَطْحَاءِ مَكّةَ، وَهَذِهِ الْقِصّةُ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ إلّا
وَهُوَ فِي بَنِي سَعْدٍ مَعَ حَلِيمَةَ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ
وَغَيْرُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي
ذَرّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يذكر فيه بطحاء مكة.
__________
- كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان، كأمثال الثاليل» مسلم
وأحمد. والناغض: أعلى الكتف، أو ما يظهر من عظمه عند التحرك. جمعا: أى
كصورة الكف بعد جمع الأصابع وضمها. الخيلان: جمع خال وهى الغدة الصغيرة.
الثاليل: جمع: ثؤلول حبيبات تعلو الجسد، وفى مسلم أيضا عن جابر بن سمرة أنه
كبيضة الحمامة. وعند الحاكم والترمذى وأبى يعلى والطبرانى من حديث عمرو بن
أحطب أن الخاتم شعر مجتمع عند كتفه، وعند البخارى فى تاريخه والبيهقى أنه:
لحمة ناتئة، وفى جامع الترمذى ودلائل البيهقى: كالتفاحة، وعند ابن حبان.
وفى تاريخ ابن عساكر والحاكم: كالبندقة. وعند الترمذى: كبضعة ناشزة من
اللحم. وعند الطبرانى: كان كأنه ركبة عنز على طرف كتفه الأيسر، وعند ابن
حبان: كان مثل البندقة من اللحم.. والحجلة تنطق بفتح الحاء والجيم، وضم
الحاء أو كسرها وإسكان الجيم، وضم الحاء وفتح الجيم. وجزم الترمذى بأن
المراد بالحجلة: الطير المعروف، وهو فى حجم الحمام، أحمر المنقار والرجلين
طيب اللحم، وفسره النووى بأنها واحدة الحجال. وهى بيت كالقبة. لها أزرار
كبار وعرا، أو كما فسره الأزهرى فى التهذيب: بيت كالقبة يستر بالثياب،
ويجعل له باب من جنسه، فيه زر وعروة تشد إذا علقت وقال القرطبى: اتفقت
الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفيه
الأيسر، قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد. وفى الفتح: باب
خاتم النبوة: أى صفته، وهو الذى كان بين كتفى النبى، وكان من علاماته التى
كان أهل الكتاب يعرفونه بها، وسيأتى عنه بيان آخر
(2/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثُ السّكِينَةِ:
وَذُكِرَ فِيهِ أَنّهُ قَالَ: وَأُوتِيت بِالسّكِينَةِ كَأَنّهَا
رَهْرَهَةٌ، فَوُضِعَتْ فِي صَدْرِي. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ لِعُرْوَةِ
سَمَاعًا مِنْ أَبِي ذَرّ. وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرّ،
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا ذَرّ، وُزِنْت
بِأَرْبَعِينَ، أَنْتَ فِيهِمْ فَرَجَحْتهمْ» وَالرّهْرَهَةُ: بَصِيصُ
الْبَشَرَةِ، فَهَذَا بَيَانُ وَضْعِ الْخَاتَمِ مَتَى وُضِعَ.
مَسْأَلَةُ شَقّ الصّدْرِ مَرّةً أُخْرَى:
وَأَمّا مَتَى وَجَبَتْ لَهُ النّبُوّةُ، فَرُوِيَ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنّهُ
قَالَ لَهُ: مَتَى وَجَبَتْ لَك النّبُوّةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ:
وَآدَمُ بَيْنَ الرّوحِ وَالْجَسَدِ، وَيُرْوَى: وَآدَمُ مجندل فى طينته
«1» .
__________
(1) وهكذا كل إنسان فى قدر؛ فإن الله كتب عنده مقادير الكائنات جميعها،
وإلا فالنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف حتى ليلة الوحى الأولى أنه
نبى أو أن النبوة ستأتيه. وإلا ما رجع فى ارتجافه الشديد إلى خديجة رضى
الله عنها يحدثها أنه خائف على نفسه. وفى رواية للحديث: وإنى لمكتوب عند
الله من النبيين. وحديث العرباض بن سارية قال: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: إنى عبد الله، وخاتم النبيين،
وإن آدم لمنجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك: إنى دعوة أبى إبراهيم وبشارة
عيسى، ورؤيا أمى التى رأت، وكذلك أمهات النبيين، وإن أُمّ رَسُولِ اللهِ-
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام»
أحمد وابن حبان والحاكم. وفى حديث أبى أمامة عند أحمد نحوه، ونصه عن لقمة
بن عامر سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبى الله-
(2/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا الْخَبَرُ يُرْوَى عَنْهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- عَلَى وَجْهَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ شُقّ عَنْ قَلْبِهِ، وَهُوَ مَعَ رَابّتِهِ
وَمُرْضِعَتِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ، وَأَنّهُ جِيءَ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ،
فِيهِ ثَلْجٌ فَغُسِلَ بِهِ قَلْبُهُ، وَالثّانِي فِيهِ: أَنّهُ غُسِلَ
بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ عرج به
إلى السماء بعد ما بُعِثَ بِأَعْوَامِ، وَفِيهِ أَنّهُ أُتِيَ بِطَسْتِ
مِنْ ذهب ممتلىء حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ. وَذَكَرَ
بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنّهُ تَعَارَضَ فِي
الرّوَايَتَيْنِ، وَجَعَلَ يَأْخُذُ فِي تَرْجِيحِ الرّوَاةِ وَتَغْلِيطِ
بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ هَذَا التّقْدِيسُ
وَهَذَا التّطْهِيرُ مَرّتَيْنِ.
الْأُولَى: فِي حَالِ الطّفُولِيّةِ لِيُنَقّى قَلْبُهُ مِنْ مَغْمَزِ
الشّيْطَانِ، وَلِيُطَهّرَ وَيُقَدّسَ مِنْ كُلّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، حَتّى لَا
يَتَلَبّسَ بِشَيْءِ مِمّا يُعَابُ عَلَى الرّجَالِ، وَحَتّى لَا يَكُونَ
فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ إلّا التّوْحِيدُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَوَلّيَا عَنّي،
يَعْنِي: الْمَلَكَيْنِ، وَكَأَنّي أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً.
وَالثّانِيَةُ: فِي حَالِ الاكتهال، وبعد ما نبّىء، وعند ما أَرَادَ اللهُ
أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ الّتِي لَا يَصْعَدُ
إلَيْهَا إلّا مُقَدّسٌ، وَعُرِجَ به هنالك
__________
ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبى إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمى أنه خرج
منها نور أضاء منه قصور الشام» تفرد به أحمد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب
الستة. وقد روى قصة شق الصدر فى الطفولة أبو نعيم فى الدلائل عن طريق عمر
ابن صبح مطولة جدا، وعمر متروك كذاب متهم بالوضع.
(2/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِتُفْرَضَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ، وَلِيُصَلّيَ بِمَلَائِكَةِ السّمَوَاتِ،
وَمِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ: الطّهُورُ، فَقُدّسَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،
وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ.
وَفِي الْمَرّةِ الْأُولَى بِالثّلْجِ لِمَا يُشْعِرُ الثّلْجُ مِنْ ثَلْجِ
الْيَقِينِ وَبَرْدِهِ عَلَى الْفُؤَادِ، وَكَذَلِكَ هُنَاكَ حَصَلَ لَهُ
الْيَقِينُ بِالْأَمْرِ الّذِي يُرَادُ بِهِ وَبِوَحْدَانِيّةِ رَبّهِ.
وَأَمّا فِي الثانية، فقد كان موقنا منبّأ، فَإِنّمَا طُهّرَ لِمَعْنَى
آخَرَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ الْقُدُسِ
وَالصّلَاةِ فِيهَا، وَلِقَاءِ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ، فَغَسَلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ بِمَاءِ زَمْزَمَ الّتِي هِيَ هَزْمَةُ رُوحِ الْقُدُسِ،
وَهَمْزَةُ عَقِبِهِ «1» لأبيه إسماعيل عليه السلام- وجئ بِطَسْتِ
مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ، وَقَدْ كَانَ
مُؤْمِنًا، وَلَكِنّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ الْفَتْحَ: 4 وَقَالَ: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً
الْمُدّثّرَ: 31. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ
وَالْحِكْمَةُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْإِيمَانُ عَرَضٌ،
وَالْأَعْرَاضُ لَا يُوصَفُ بِهَا إلّا مَحَلّهَا الّذِي تَقُومُ بِهِ،
وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِانْتِقَالُ، لِأَنّ الِانْتِقَالَ مِنْ صِفَةِ
الْأَجْسَامِ، لَا مِنْ صِفَةِ الْأَعْرَاضِ؟ قُلْنَا:
إنّمَا عَبّرَ عَمّا كَانَ فِي الطّسْتِ بِالْحِكْمَةِ وَالْإِيمَانِ،
كَمَا عَبّرَ عَنْ اللّبَنِ الّذِي شَرِبَهُ، وَأَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ-
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالْعِلْمِ، فَكَانَ تَأْوِيلُ مَا أُفْرِغَ فِي
قَلْبِهِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، وَلَعَلّ الّذِي كَانَ فِي الطّسْتِ كَانَ
ثَلْجًا وَبَرَدًا- كَمَا ذكر فى
__________
(1) هزم البئر: حفرها، والهمزة: النقرة، هذا وسيأتى بيان أن الصلاة كانت
مفروضة قبل الإسراء بنص القرآن والأحاديث الصحيحة. هذا وقوله: كأنى أعاين
الأمر معاينة يؤكد أنه رؤيا منامية.
(2/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدِيثِ الْأَوّلِ- فَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ بما يؤول
إلَيْهِ، وَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى بِصُورَتِهِ الّتِي
رَآهَا، لِأَنّهُ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى كَانَ طِفْلًا، فَلَمّا رَأَى
الثّلْجَ فِي طَسْتِ الذّهَبِ اعْتَقَدَهُ ثَلْجًا، حَتّى عَرَفَ
تَأْوِيلَهُ بَعْدُ. وَفِي المرة الثانية كان نبيئا، فلما رأى طست الذهب
مملوآ ثَلْجًا عَلِمَ التّأْوِيلَ لِحِينِهِ وَاعْتَقَدَهُ فِي ذَلِكَ
الْمَقَامِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَكَانَ لَفْظُهُ فِي الْحَدِيثَيْنِ
عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ فِي الْمَقَامَيْنِ.
مُنَاسَبَةُ الذّهَبِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ:
وَكَانَ الذّهَبُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا مُنَاسِبًا لِلْمَعْنَى
الّذِي قُصِدَ بِهِ. فَإِنْ نَظَرْت إلَى لَفْظِ الذّهَبِ، فَمُطَابِقٌ
لِلْإِذْهَابِ، فَإِنّ اللهَ- عَزّ وَجَلّ- أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ
الرّجْسَ، وَيُطَهّرَهُ تَطْهِيرًا، وَإِنْ نَظَرْت إلَى مَعْنَى الذّهَبِ
وَأَوْصَافِهِ وَجَدْته أَنْقَى شَيْءٍ وَأَصْفَاهُ، يُقَالُ فِي
الْمَثَلِ: أَنْقَى مِنْ الذّهَبِ. وَقَالَتْ بَرِيرَةُ فِي عَائِشَةَ-
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ
عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ فِي صِلَةِ بْنِ أَشْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
إنّمَا قَلْبُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِي الْخَلِيلِ
بْنِ أَحْمَدَ: إنّهُ لَرَجُلٌ مِنْ ذَهَبٍ، يُرِيدُونَ: النّقَاءَ مِنْ
الْعُيُوبِ، فَقَدْ طَابَقَ طَسْتَ الذّهَبِ مَا أُرِيدَ بِالنّبِيّ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نَقَاءِ قَلْبِهِ. وَمِنْ
أَوْصَافِ الذّهَبِ أَيْضًا الْمُطَابِقَةِ لِهَذَا الْمَقَامِ ثِقَلُهُ
وَرُسُوبُهُ، فَإِنّهُ يُجْعَلُ فِي الزّيبَقِ الّذِي هُوَ أَثْقَلُ
الْأَشْيَاءِ، فَيَرْسُبُ، وَاَللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) الْمُزّمّلَ: 5. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ الْمُحِقّينَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِاتّبَاعِهِمْ الْحَقّ، وَحُقّ لِمِيزَانِ لَا
يُوضَعُ فِيهِ إلّا الحقّ
(2/175)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْ يَكُون ثَقِيلًا، وَقَالَ فِي أَهْلِ الْبَاطِلِ بِعَكْسِ هَذَا.
وَقَدْ رُوِيَ: أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَهُوَ عَلَى
نَاقَتِهِ، فَثَقُلَ عَلَيْهَا حَتّى سَاخَتْ قَوَائِمُهَا فِي الْأَرْضِ،
فَقَدْ تَطَابَقَتْ الصّفَةُ الْمَعْقُولَةُ وَالصّفَة الْمَحْسُوسَةُ.
وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ أَيْضًا أَنّهُ لَا تَأْكُلُهُ النّارُ،
وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ: لَا تَأْكُلُ النّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَلْبًا
وَعَاهُ، وَلَا بَدَنًا عَمِلَ بِهِ، قَالَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إهَابٍ، ثم رح فِي النّارِ
مَا احْتَرَقَ «1» » وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَوْصَافِ
الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ: أَنّ الْأَرْضَ لَا تُبْلِيهِ، وَأَنّ الثّرَى لَا
يَذْرِيهِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرّدّ،
وَلَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ، وَمِنْ أَوْصَافِهِ
أَيْضًا: نَفَاسَتُهُ وَعِزّتُهُ عِنْدَ النّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَقّ
وَالْقُرْآنُ عَزِيزٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)
فُصّلَتْ: 41. فَهَذَا إذَا نَظَرْت إلَى أَوْصَافِهِ وَلَفْظِهِ، وَإِذَا
نَظَرْت إلَى ذَاتِهِ وَظَاهِرِهِ، فَإِنّهُ زُخْرُفُ الدّنْيَا
وَزِينَتُهَا، وَقَدْ فُتِحَ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمّتِهِ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ،
وَتَصِيرُ إلى أيديهم ذهبها وفضنها، وَجَمِيعُ زُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا،
ثُمّ وُعِدُوا بِاتّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ قُصُورَ الذّهَبِ
وَالْفِضّةِ فِي الْجَنّةِ. قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«جَنّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ «2» »
وَفِي التّنْزِيلِ: (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) الزّخْرُفَ:
71 (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ
فِيها حَرِيرٌ) الحج: 23 وفاطر: 33
__________
(1) رواه الطبرانى. وفى الجامع للسيوطى أنه ضعيف.
(2) من حديث رواه الجماعة إلا أبا داود: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما
وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم
عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن» .
(2/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَانَ ذَلِكَ الذّهَبُ يُشْعِرُ بِالذّهَبِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ مَنْ
اتّبَعَ الْحَقّ، وَالْقُرْآنَ وَأَوْصَافُهُ تُشْعِرُ بِأَوْصَافِ
الْحَقّ، وَالْقُرْآنُ وَلَفْظُهُ يُشْعِرُ بِإِذْهَابِ الرّجْسِ، كَمَا
تَقَدّمَ، فَهَذِهِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ «1» لِمَنْ تَأَمّلَ، وَاعْتِبَارٌ
صَحِيحٌ لِمَنْ تَدَبّرَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
وَفِي ذِكْرِ الطّسْتِ وَحُرُوفِ اسْمِهِ حِكْمَةٌ تَنْظُرُ إلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:
(طس. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ «2» ) النّمل: 1 ومما يسئل
عَنْهُ: هَلْ خُصّ هُوَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَسْلِ
قَلْبِهِ فِي الطّسْتِ، أَمْ فُعِلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
قَبْلَهُ، فَفِي خَبَرِ التّابُوتِ وَالسّكِينَةِ، أَنّهُ كَانَ فِيهِ
الطّسْتُ الّتِي غُسِلَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
السّلَامُ. ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ «3» ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ مِنْ حَدِيثِ الطّسْتِ حَيْثُ جُعِلَ مَحَلّا لِلْإِيمَانِ
وَالْحِكْمَةِ جَوَازَ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالذّهَبِ، وَهُوَ فِقْهٌ
حَسَنٌ «4» ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هَذَا الذى
قدمناه، متى علم أنه نبىّ.
__________
(1) تأويلات مغربة، وإن كانت تشهد بذكاء، لكنها لا ترف بسكينة على القلب،
وشأن القرآن أعظم.
(2) وهذا أغرب، وأشد بعدا، وتقرأ طس هكذا: «طاسين» .
(3) يشير إلى قوله تعالى: «وقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت
فيه سكينة من ربكم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة)
البقرة: 248. وقد روى العوفى عن ابن عباس أن السكينة هى الرحمة. كما فسرها
عطاء تفسيرا طيبا، إذ قال لابن جريج لما سأله عنها: أما تعرفون من آيات
الله فتسكنون إليه. وروى ابن كثير ما ذكره السهيلى بصيغة تفيد تضعيفه إذ
جاء قبله بكلمة: وقيل. وخب فيها وهب بن منبه ووضع، فأتى بالعجب العجاب من
الأساطير. فقال: السكينة: رأس هرة ميتة
(4) رد ابن القيم هذا الرأى.
(2/177)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحِكْمَةُ فِي خَتْمِ النّبُوّةِ:
وَالْحِكْمَةُ فِي خَاتَمِ النبوة على جهة الاعتبار أنه لمّا ملىء قَلْبُهُ
حِكْمَةً وَيَقِينًا، خُتِمَ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى الْوِعَاءِ
الْمَمْلُوءِ مِسْكًا أَوْ دُرّا، وَأَمّا وَضْعُهُ عِنْدَ نُغْضِ «1»
كَتِفِهِ، فَلِأَنّهُ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشّيْطَانِ، وَذَلِكَ
الْمَوْضِعُ مِنْهُ يُوَسْوِسُ الشّيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ. رَوَى مَيْمُونُ
بْنُ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّ رَجُلًا سَأَلَ
رَبّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشّيْطَانِ مِنْهُ «2» ، فَأُرِيَ جَسَدًا
مُمَهّى «3» يُرَى دَاخِلُهُ مِنْ خَارِجِهِ، وَالشّيْطَانُ فِي صُورَةِ
ضِفْدَعٍ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ «4» حِذَاءَ قَلْبِهِ، لَهُ خُرْطُومٌ،
كَخُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ، وَقَدْ أَدْخَلَهُ إلَى قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ،
فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ تَعَالَى العبد خنس «5» .
__________
(1) هو أعلى منقطع غضروف الكتف.
(2) فى شرح المواهب: «موضع الشيطان من ابن آدم» . وفى النهاية: موقع
(3) ضبطها فى اللسان وفى معجم ابن فارس وفى النهاية هكذا، وضبطها الزرقانى
بضم الميم الأولى وسكون الثانية، وتخفيف الهاء اسم مفعول من: أمهاه، أى
مصفّى، وفى النهاية: أنه وأى ذلك مناما، قال: والمها: البلور، وكل شىء
صفىّ، فهو ممهى تشبيها به. زاد فى الفائق: ومقلوب من مموه، وهو مفعّل من
أصل الماء. أى مجعول ماء ص 154 ج 1.
(4) فى شرح المواهب: «وأرى الشيطان فى صورة ضفدع عند كتفه» .
(5) فى شرح المواهب: «وقد أدخله فى منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه»
والحديث مقطوع. ص 154 ج 1 شرح المواهب. وفى اللسان نقلا عن النهاية لابن
الأثير: «فرأى فيما يرى النائم جسد رجل ممهّى» . وحذاء: مقابل. وخنس: تأخر
وغاب. وانظر ص 439 وما بعدها فتح البارى ج 6.
(2/178)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رد حليمة للنبى «ص» :
فَصْلٌ: وَكَانَ رَدّ حَلِيمَةَ إيّاهُ إلَى أُمّهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ
سِنِينَ وَشَهْرٍ، فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ «1» ، ثُمّ لَمْ تَرَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ إلّا مَرّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بَعْدَ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ-
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- جَاءَتْهُ تَشْكُو إلَيْهِ السّنَةَ، وَأَنّ
قَوْمَهَا قَدْ أَسْنَتُوا «2» فَكَلّمَ لَهَا خَدِيجَةَ، فَأَعْطَتْهَا
عِشْرِينَ رَأْسًا مِنْ غَنَمِ وَبَكَرَاتٍ، وَالْمَرّةَ الثّانِيَةَ:
يَوْمُ حُنَيْنٍ «3» وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللهُ.
تَأْوِيلُ النّورِ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ النّورَ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ، حِينَ وَلَدَتْهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ، فَأَضَاءَتْ لَهَا قُصُورَ الشّامِ، وَذَلِكَ بِمَا
فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، حَتّى كَانَتْ الْخِلَافَةُ
فِيهَا مُدّةَ بَنِي أُمَيّةَ، وَاسْتَضَاءَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ
وَغَيْرُهَا بِنُورِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ
رَأَى خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِيَسِيرِ
نُورًا يَخْرُجُ مِنْ زَمْزَمَ، حَتّى ظَهَرَتْ لَهُ الْبُسْرُ «4» فِي
نَخِيلِ يثرب، فقصّها على أخيه عمرو،
__________
(1) يعنى ابن عبد البر. وفى الأصل: عمرو وهو خطأ. وفى المواهب نقلا عن ابن
عبد البر أنها ردته بعد خمس ويومين، وتفيد بعض الروايات أنها ردته فى السنة
الثالثة، أو الرابعة، أو السادسة، وجزم الحافظ العراقى وابن حجر أنها ردته
فى الرابعة ص 150 ج 1 المواهب.
(2) أسنتوا: أجدبوا.
(3) ذكره الأموى.
(4) البسر أوله: طلع ثم: خلال بالفتح، ثم بلح بفتحتين، ثم بسر، ثم: رطب ثم:
تمر.
(2/179)
عود إلى حديث ابن إسحاق:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيّ إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ، قِيلَ:
وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَأَنَا» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ:
«أَنَا أَعْرَبُكُمْ، أَنَا قُرَشِيّ، وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ
بْنِ بكر» . [حديث ضعيف] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ النّاسُ فِيمَا
يَتَحَدّثُونَ، وَاَللهُ أَعْلَمُ: أَنّ أُمّهُ السّعْدِيّةَ لَمّا
قَدِمَتْ بِهِ مَكّةَ أَضَلّهَا فِي النّاسِ، وَهِيَ مُقْبِلَةٌ بِهِ
نَحْوَ أَهْلِهِ، فَالْتَمَسَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَأَتَتْ عَبْدَ
الْمُطّلِبِ، فَقَالَتْ لَهُ: إنّي قَدْ قَدِمْت بِمُحَمّدٍ هَذِهِ
اللّيْلَةَ، فَلَمّا كُنْتُ بِأَعْلَى مَكّةَ أضلّنى، فو الله مَا أَدْرِي
أَيْنَ هُوَ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللهَ
أَنْ يَرُدّهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ
أَسَدٍ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ،
فَقَالَا لَهُ: هَذَا ابْنُك وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكّةَ، فَأَخَذَهُ
عَبْدُ الْمُطّلِبِ، فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وهو يطوف بالكعبة يعوّذه
ويدعوله، ثُمّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمّهِ آمِنَةَ.
قَالَ ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن مِمّا هَاجَ أُمّهُ
السّعْدِيّةَ عَلَى رَدّهِ إلَى أُمّهِ، مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمّهِ مِمّا
أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ، أَنّ نَفَرًا مِنْ الْحَبَشَةِ نَصَارَى رَأَوْهُ
مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ، فَنَظَرُوا إلَيْهِ،
وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلّبُوهُ، ثُمّ قَالُوا لَهَا: لَنَأْخُذَنّ هَذَا
الْغُلَامَ، فَلَنَذْهَبَنّ بِهِ إلَى مَلِكِنَا وَبَلَدِنَا؛ فَإِنّ هَذَا
غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ، فَزَعَمَ الّذِي
حَدّثَنِي أَنّهَا لم تكد تنفلت به منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ لَهُ: إنّهَا حَفِيرَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَإِنّ هَذَا النّورَ
مِنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ مُبَادَرَتِهِ إلى الإسلام.
(2/180)
|