الروض الأنف ت الوكيل

 [خبر الصحيفة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وَأَنّ النّجَاشِيّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ، عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا بيعوهم شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمّ عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ كَاتِبُ الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بن عكرمة بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فشلّ بعض أصابعه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، إلى قريش، فظاهرهم.

[موقف أبى لهب مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَنّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِين فَارَقَ قَوْمَهُ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ عُتْبَةَ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/282)


هَلْ نَصَرْتِ اللّاتَ وَالْعُزّى، وَفَارَقْتِ مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، فَجَزَاك اللهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا، يَزْعُمُ أَنّهَا كَائِنَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَاذَا وَضَعَ فِي يَدَيّ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمّ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ وَيَقُولُ: تبّالكما، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
قال ابْنُ هِشَامٍ: تَبّتْ: خَسِرَتْ. وَالتّبَابُ: الْخُسْرَانُ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ خُدْرَةَ الْخَارِجِيّ: أَحَدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ:
يَا طَيّبُ إنّا فِي مَعْشَرٍ ذَهَبَتْ ... مَسْعَاتُهُمْ فِي التّبَارِ وَالتّبَبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[شِعْرُ أَبِي طالب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ، وَصَنَعُوا فِيهِ الّذِي صَنَعُوا، قَالَ أَبُو طَالِب:
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا ... لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ بَنِي كَعْبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا ... نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً ... وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ بِالْحُبّ
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
أَفِيقُوا أَفِيقُوا، قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى ... وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة، وتقطعوا ... أو اصرنا بَعْدَ الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/283)


وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا، وَرُبّمَا ... أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا- وَرَبّ الْبَيْتِ- نُسْلِمُ أَحْمَدًا ... لِعَزّاءِ مَنْ عَضّ الزّمَانُ وَلَا كَرْبِ
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا، وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ ... وَأَيْدٍ أُتِرّتْ بِالْقَسَاسِيّةِ الشّهْبِ
بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ، يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أَزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ وَبِالضّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ، حَتّى تَمَلّنَا ... وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النّكْبِ
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرّعْبِ
فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتّى جَهَدُوا لَا يَصِلُ إلَيْهِمْ شَيْءٌ، إلّا سِرّا مُسْتَخْفِيًا بِهِ مَنْ أَرَادَ صلتهم من قريش.
[من جهالة أبى جهل]
وقد مكان أبو جهل بن هشام- فيما يذكرون- لقى حَكِيمِ بْنِ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَمَعَهُ فِي الشّعْبِ، فَتَعَلّقَ بِهِ، وَقَالَ:
أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ!؟ وَاَللهِ لَا تَبْرَحُ أَنْت وَطَعَامُك، حَتّى أفضحك بمكة. فجاءه أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أسد [بن عبد العزى] ، فقال: مالك وَلَهُ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ، فقال أَبُو الْبَخْتَرِيّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ [فِيهِ] ، أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟! خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ، حَتّى نَالَ أحدهما من صاحبه، فأخذ أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ، ووطئه وطأ شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/284)


ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرّا وجهارا، مناديا بِأَمْرِ اللهِ لَا يَتّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النّاس.

[مَا لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من قومه]
فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللهُ مِنْهَا، وَقَامَ عَمّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ دُونَهُ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنْ الْبَطْشِ بِهِ، يَهْمِزُونَهُ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ القرآن ينزل فى قريش بأحدائهم، وَفِيمَنْ نُصِبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لنا.
[أبو لهب وامرأته]
وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامّةِ مَنْ ذُكِرَ اللهُ مِنْ الْكُفّارِ، فَكَانَ مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: عَمّهُ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وامرأته أُمّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، حَمّالَةَ الْحَطَبِ، وَإِنّمَا سَمّاهَا اللهُ تَعَالَى حَمّالَةَ الْحَطَبِ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- تَحْمِلُ الشّوْكَ، فَتَطْرَحَهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ يَمُرّ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .
قال ابن هشام: الجيد: العتق. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/285)


يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ جِيدِ أَسِيلٍ تُزَيّنُهُ الْأَطْوَاقُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: أَجْيَادٌ. وَالْمَسَدّ: شَجَرٌ يُدَقّ كَمَا يُدَقّ الْكَتّانُ، فَتُفْتَلُ مِنْهُ حِبَالٌ. قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ- واسمه: زياد بن عمرو ابن مُعَاوِيَةَ:
مَقْذُوفَةٍ بِدَخِيسِ النّحْضِ بَازِلُهَا ... لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ له، وواحدته: مسدة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أَنّ أُمّ جميل: حمّالة الحطب، حين سمعت ما نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، أَتَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي؟ وَاَللهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ، أَمَا وَاَللهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمّ قَالَتْ:
مُذَمّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك؟ فَقَالَ:
مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنّي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهَا: «ودينه قلينا» عن غهر ابن إسحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/286)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مُذَمّمًا، ثُمّ يَسُبّونَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مذمّما، وأنا محمد!

[إيذاء أمية بن خلف للرسول صلّى الله عليه وسلم]
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بن وهب بن جذافة بْنِ جُمَحٍ، كَانَ إذَا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْهُمَزَةُ: الّذِي يَشْتُمُ الرّجُلَ عَلَانِيَةً، وَيَكْسِرُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ، وَيَغْمِزُ بِهِ، قال حسّان بن ثابت:
هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتُ لِذُلّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجّجُ كَالشّوَاظِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: هَمَزَاتٌ. وَاللّمَزَةُ: الّذِي يَعِيبُ النّاسَ سِرّا وَيُؤْذِيهِمْ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
فِي ظِلّ عَصْرِي بَاطِلِي وَلَمْزِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ، وَجَمْعُهُ: لمزات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/287)


[إيذاء العاص للرسول صلّى الله عليه وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ، كَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَيْنًا بِمَكّةَ يَعْمَلُ السّيُوفَ، وَكَانَ قَدْ بَاعَ مِنْ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ، حَتّى كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا خَبّابُ أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ صَاحِبُكُمْ هَذَا الّذِي أَنْت عَلَى دِينِهِ أَنّ فِي الْجَنّةِ مَا ابْتَغَى أَهْلُهَا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضّةٍ، أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ خَدَمٍ؟! قَالَ خَبّابٌ: بَلَى. قَالَ:
فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَا خَبّابُ، حَتّى أَرْجِعَ إلَى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لَا تَكُونُ أَنْت وَصَاحِبُك يَا خَبّابُ آثَرَ عِنْدَ اللهِ مِنّي، وَلَا أَعْظَمَ حَظّا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً «هى وما قبلها من سورة مريم 77- 80» .

[إيذاء أبى جهل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم]
وَلَقِيَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- فَقَالَ لَهُ: وَاَللهِ يَا مُحَمّدُ، لَتَتْرُكَنّ سَبّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك الّذِي تَعْبُدُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الأنعام: 108، فذكر لي أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَفّ عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، وَجَعَلَ يدعوهم إلى الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/288)


[إيذاء النضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم]
وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ، كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسًا، فَدَعَا فِيهِ إلَى الله تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذّر قُرَيْشًا مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ، خَلَفَهُ فِي مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم الشديد، وَعَنْ أسفنديار، وَمُلُوكِ فَارِسَ، ثُمّ يَقُولُ:
وَاَللهِ مَا مُحَمّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنّي، وَمَا حَدِيثُهُ إلّا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ، اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبْتهَا. فَأَنْزَلَ الله فِيهِ: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان: 5، 6. وَنَزَلَ فِيهِ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ونزل فيه: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ الجاثية: 7، 8.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَفّاكُ: الْكَذّابُ. وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ الصافات: 151، 152.
وقال رؤبة:
لامرىء أَفّكَ قَوْلًا إفْكًا وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا- فِيمَا بَلَغَنِي-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/289)


مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، حَتّى جَلَسَ مَعَهُمْ فِي المجلس، وفى المجلس غير واحد من قُرَيْشٍ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَعَرَضَ لَهُ النّضْر بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلّمَهُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أفحمه، ثم تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ الأنبياء 98- 100.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَصَبُ جَهَنّمَ: كُلّ مَا أُوقِدَتْ بِهِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ: خُوَيْلِدِ بْنُ خَالِدٍ.
فَأَطْفِئْ، وَلَا تُوقِدْ، وَلَا تك مخصبا ... لنار العداة أن تطير شكانها
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَيُرْوَى: «وَلَا تَكُ مِحْضَأً» . قَالَ الشّاعِرُ:
حَضَأْتُ لَهُ نَارِي فَأَبْصَرَ ضَوْءَهَا ... وَمَا كَانَ لَوْلَا حَضْأَةِ النّارِ يهتدى
[ابن الزبعرى والأخنس وما قيل فيهما]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ ابن الزّبَعْرَى السّهْمِيّ حَتّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَعْرَى:
وَاَللهِ مَا قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَابْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمّدٌ أَنّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزّبَعْرَى. أَمَا وَاَللهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/290)


لَوْ وَجَدْته لَخَصَمْته، فَسَلُوا مُحَمّدًا: أَكُلّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ فِي جَهَنّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ، فَعَجِبَ الْوَلِيدُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنّهُ قَدْ احْتَجّ وَخَاصَمَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لرسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزّبَعْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُلّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ الشّيَاطِينَ، وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عليه فى ذلك:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ الأنبياء: 101، 102: أى عيسى بن مَرْيَمَ، وَعُزَيْرًا، وَمَنْ عُبِدُوا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ الّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، فَاِتّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.
وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، أَنّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنّهَا بَنَاتُ اللهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الأنبياء: 26: 27.. إلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الأنبياء: 29.
ونزّل فيما ذكر من أمر عيسى بن مَرْيَمَ أَنّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَعَجَبِ الْوَلِيدِ، وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجّتِهِ وَخُصُومَتِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ الزخرف: 57. أَيْ: يَصُدّونَ عَنْ أَمْرِك بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/291)


ثم ذكر عيسى بن مَرْيَمَ فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الأنبياء: 59: 61 أَيْ: مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السّاعَةِ، يَقُولُ:
فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثّقَفِيّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ، وَمِمّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ، فَكَانَ يُصِيبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرُدّ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ القلم: 10، 11 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: زَنِيمٍ، وَلَمْ يَقُلْ: زَنِيمٍ لِعَيْبِ فِي نَسَبِهِ؛ لِأَنّ اللهَ لَا يَعِيبُ أحدا بنسب، ولكنه حقّق بذلك نعته ليعرف. والزنيم: العديد للقوم، وقد قال الخطيم التّمِيمِيّ فِي الْجَاهِلِيّةِ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ زِيَادَةً ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع
[ما قيل فى الوليد بن المغيرة وأبى بن خلف وعقبة بن أبى معيط]
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَيُنَزّلُ عَلَى مُحَمّدٍ، وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ سَيّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحْنُ عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي: وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الزخرف: 30 ... إلى قوله تعالى:
مِمَّا يَجْمَعُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/292)


وَأُبَيّ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ، حَسّنَا مَا بَيْنَهُمَا. فَكَانَ عُقْبَةُ قَدْ جلس إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَمِعَ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِك أُبَيّا، فَأَتَى عقبة، فقال: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنّك جَالَسْت مُحَمّدًا، وَسَمِعْتَ مِنْهُ! ثم قال: وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلّمَك- وَاسْتَغْلَظَ مِنْ الْيَمِينِ- إنْ أَنْتَ جَلَسْتَ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعْتَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ تَأْتِهِ، فَتَتْفُلَ فِي وجهه. ففعل من ذَلِكَ عَدُوّ اللهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ اللهُ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الفرقان: 27- 29.
وَمَشَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَظْمٍ بَالٍ قَدْ ارْفَتّ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، أَنْتَ تَزْعُمُ أَنّ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمّ، ثُمّ فَتّهُ بيده، ثُمّ نَفَخَهُ فِي الرّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، يَبْعَثُهُ اللهُ وَإِيّاكَ بَعْدَ مَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمّ يُدْخِلُك اللهُ النّارَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يس 79، 80
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/293)


ما قيل فى حق الذين اعترضوا الرسول فى الطواف وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي- الْأَسْوَدُ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نعبد، كنّا قد أخذنا بحظّا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا تَعْبُدُ، كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ: يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون. أَيْ: إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ إلّا اللهَ، إلّا أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ، لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا، وَلِي دينى.
[ما قيل فى حق أبى جهل]
وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ- لَمّا ذَكَرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ شَجَرَةَ الزّقّومِ تَخْوِيفًا بِهَا لَهُمْ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزّقّومِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا مُحَمّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزّبْدِ، وَاَللهِ لَئِنْ استمكنّا منها لننزقمّها تَزَقّمًا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الجاثية: 44- 46. أى: ليس كما يقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/294)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُهْلُ: كُلّ شَيْءٍ أَذَبْته، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذلك فيما أخبرنى أبو عبيدة.
وبلغنا عن الحسن بن أبى الحسن أَنّهُ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ، وَأَنّهُ أَمَرَ يَوْمًا بِفِضّةٍ، فَأُذِيبَتْ، فَجُعِلَتْ تُلَوّنُ أَلْوَانًا، فَقَالَ: هَلْ بِالْبَابِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَدْخِلُوهُمْ، فَأُدْخِلُوا فَقَالَ: إنّ أدنى ما أنتم راؤن شَبَهًا بِالْمُهْلِ لَهَذَا، وَقَالَ الشّاعِرُ:
يَسْقِيهِ رَبّي حَمِيمَ الْمُهْلِ يَجْرَعُهُ ... يَشْوِي الْوُجُوهَ فَهُوَ فِي بطنه صهر
وقال عبد الله بن الزبير الأسدى:
فمن عاش منهم عاش عبدا وإن يمت ... ففى النار يسقى مهلها وصديدها
وهذا البيت فى قصيدة له.
ويقال: إن المهل: صديد الجسد.
بَلَغَنَا أَنّ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمّا حُضِرَ، أَمَرَ بِثَوْبَيْنِ لَبِيسَيْنِ يُغْسَلَانِ، فَيُكَفّنُ فِيهِمَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: قَدْ أَغْنَاك اللهُ يَا أَبَتِ عَنْهُمَا، فَاشْتَرِ كَفَنًا، فَقَالَ: إنّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتّى يَصِيرَ إلَى الْمُهْلِ. قَالَ الشّاعِرُ:
شَابَ بِالْمَاءِ مِنْهُ مُهْلًا كَرِيهًا ... ثم علّ المنون بَعْدَ النّهَالِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً الإسراء: 60
[قصة ابن أم مكتوم]
وَوَقَفَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُهُ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ، فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ، إذْ مَرّ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/295)


ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَشَقّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتّى أَضْجَرَهُ، وَذَلِكَ أَنّهُ شَغَلَهُ عَمّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ، وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِ، فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا، وَتَرَكَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ أَيْ: إنّمَا بَعَثْتُك بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَمْ أَخُصّ بِك أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ مِمّنْ ابْتَغَاهُ، وَلَا تَتَصَدّيَنّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ الله، ويقال: عمرو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثُ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ ذَكَرَ فِيهِ قول أبى لهب ليديه: تبّالكما، لَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ يَدَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَأَمّا قوله: وتبّ، فتفسيره مَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الشّعَرَاءُ: 214 خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حتى أَتَى الصّفَا، فَصَعِدَ

(3/296)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ، فَهَتَفَ: يَا صُبَاحَاه، فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ؟ قَالُوا: ما جرّ بنا عَلَيْك كَذِبًا قَالَ: فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّا لَك أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» ، وقد تبّ. هَكَذَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَهِيَ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- قِرَاءَةٌ مَأْخُوذَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تُعِينُ عَلَى التفسير «2» قال مجاهد: لو كنت
__________
(1) رواه الشيخان والترمذى.
(2) يجب أن نؤمن بأن هذا المصحف الذى نحن معه نتدبره، فيه كل كلام الله الذى نزله على محمد صلّى الله عليه وسلم دون نقص أو زيادة. وما يروى من مثل هذا. فإما أن تكون رواية ساقطة، وإما أن يكون من كلام ابن مسعود تعليقا منه على بعض آيات الكتاب المبين. كيف نحكم أن مثل «وقد تب» كانت فى المصحف ثم رفعت منه؟ أو كيف نحكم أن آية كذا كانت فيه، ثم حذفت؟. وأين نحن بهذا من قول الله: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون) الحجر: 9 كيف نضرب المتواتر المحفوظ بحفظ الله بروايات ساقطة واهية مهما كان شأن رواتها، وشأن الكتب التى وردت فيها؟ وما الفرق بيننا وبين من يزعمون أن مصحفنا هذا ناقص مبتور حذف منه أبو بكر وعمر ما حذفا؟! اقذفوا بكل قول يزعم هذا فى جحيم. بعض ما قيل عن الصحيفة: قيل: إنها كانت فى هلال المحرم سنة سبع من النبوة، ورد هذا فى ابن سعد وابن عبد البر: وجزم به الحافظ فى الفتح، وقيل: سنة ثمان وكان اجتماعهم بخيف بنى كنانة وهو المحصب واختلف فى اسم كاتب الصحيفة. وفى رواية أنهم تواثقوا على هذا حتى يسلموا رسول الله «ص» للنقل، وكانت مدة الشعب سنتين كما ذكر ابن سعد أو ثلاثا كما ذكر موسى بن عقبة وفى نسب قريش ص 254 أن الذى كتب الصحيفة عامر الشاعر لا منصور ابنه.

(3/297)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قرأت قراءة ابن مسعود قبل أن أسئل ابن عباس، ما احتجت أن أسئله عَنْ كَثِيرٍ مِمّا سَأَلْته، وَكَذَلِكَ زِيَادَةٌ قَدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فُسّرَتْ أَنّهُ خَبَرٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى، وَأَنّ الْكَلَامَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الدّعَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ التّوْبَةُ: 30، أَيْ: إنّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا، فَتَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، لَيْسَ مِنْ بَابِ: قَاتَلَهُمْ اللهُ، وَلَكِنّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ بِأَنّ قَدْ خَسِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَالْيَدَانِ: آلَةُ الْكَسْبِ، وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ مِمّا كَسَبَ فَقَوْلُهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، تَفْسِيرُهُ: قَوْلُهُ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَوَلَدُ الرّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ: خَسِرَتْ يَدَاهُ هَذَا الّذِي كَسَبْت، وَقَوْلُهُ: وَتَبّ، تَفْسِيرُهُ.
سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ أَيْ: قَدْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِدُخُولِهِ النّارَ، وَقَوْلُ أَبِي لَهَبٍ: تَبّا لَكُمَا، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا، يَعْنِي: يَدَيْهِ: سَبَبُ لِنُزُولِ تَبّتْ يَدَا كَمَا تَقَدّمَ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: تَبّا لَك يَا مُحَمّدُ، سَبَبٌ لِنُزُولِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
وَتَبَّ «1» فَالْكَلِمَتَانِ فِي التّنْزِيلِ مَبْنِيّتَانِ عَلَى السّبَبَيْنِ، والايتان بعدهما تفسير للتببين. تَبَابِ يَدَيْهِ، وَتَبَابُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَالتّبَبُ على وزن التّلف
__________
(1) وحدث عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه قال. أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا، فأسلم، قَالَ: رَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى الجاهلية فى سوق ذى المجاز، وهو يَقُولُ: (يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا: لَا إلَهَ إلا الله تفلحوا) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه. فقالوا: هذا عمه أبو لهب. تفرد به أحمد.

(3/298)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَالتّبَابُ كَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ:
تَبَبٌ وَتَبَابٌ.
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
فَصْلٌ: ذِكْرُ شِعْرِ أَبِي طَالِب:
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا
قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: ذَاتِ بَيْنَنَا، وَذَاتِ يَدِهِ، وَمَا كَانَ نَحْوُهُ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفِ مُؤَنّثٌ، كَأَنّهُ يُرِيدُ الْحَالَ الّتِي هِيَ ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ:
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الْأَنْفَالُ: 1 فَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: ذَاتِ يَدِهِ.
يُرِيدُ أَمْوَالَهُ، أَوْ مُكْتَسَبَاتِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: «أَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ «1» » ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَقِيته ذَاتَ يَوْمٍ، أَيْ: لقاءة أو مرّة ذات يوم، فلما حُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَبَقِيَتْ الصّفّةُ صَارَتْ كَالْحَالِ لَا تَتَمَكّنُ، وَلَا تُرْفَعُ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ، كَمَا تُرْفَعُ الظّرُوفُ الْمُتَمَكّنَةُ، وَإِنّمَا هُوَ كَقَوْلِك: سَيْرٌ عَلَيْهِ شَدِيدًا وَطَوِيلًا، وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ- وَاسْمُهُ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ [مَدَرك] : عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذَاتَ صَبَاحٍ، لَيْسَ هُوَ عِنْدِي. مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ جَعَلَهَا لُغَةً لِخَثْعَمٍ، وَلَكِنّهُ عَلَى مَعْنَى إقَامَةِ يَوْمٍ، وَكُلّ يَوْمٍ هُوَ ذُو صَبَاحٍ، كَمَا تَقُولُ: مَا كَلّمَنِي ذُو شَفَةٍ، أَيْ: مُتَكَلّمٌ، وَمَا مَرَرْت بِذِي نَفْسٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ
__________
(1) هو جزء من حديث رواه الشيخان: «خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش أحناه على ولد فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يده» .

(3/299)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَابِ: ذَاتِ مَرّةً الّذِي لَا يَتَمَكّنُ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ وَجَدْت فِي حَدِيثِ قَيْلَةَ بِنْتِ محرمة، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَنّ أُخْتَهَا قَالَتْ لِبَعْلِهَا: إنّ أُخْتِي تُرِيدُ الْمَسِيرَ مَعَ زَوْجِهَا حُرَيْثِ بْنِ حَسّانَ ذَا صَبَاحٍ بَيْنَ سَمْعِ الْأَرْضِ وَبَصَرِهَا، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ: ذَاتِ مَرّةٍ، وَذَاتِ يَوْمٍ، غَيْرَ أَنّهُ وَرَدَ مُذَكّرًا؛ لِأَنّهُ تَشْتَغِلُ تَاءُ التّأْنِيثِ مَعَ الصّادِ، وَتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، فَحَذَفُوهَا، فَقَالُوا:
لَقِيته ذَا صَبَاحٍ، وَهَذَا لَا يَتَمَكّنُ كَمَا لَا يَتَمَكّنُ: ذَاتُ يَوْمٍ وَذَاتُ حِينٍ، وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مَصْدَرٌ، وَلَا غَيْرُهُ. وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ: عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ قَدْ أَضَافَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُضِيفُ إلَيْهِ، ثُمّ يَنْصِبُهُ، أَوْ كَيْفَ يُضَارِعُ الْحَالَ مَعَ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَيْهِ؟ فَكَذَلِكَ خَفْضُهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ نَظَائِرِهِ، إلّا أَنْ يَكُونَ سِيبَوَيْهِ سَمِعَ خَثْعَمَ يَقُولُونَ: سِرْت فِي ذَاتِ يَوْمٍ، أَوْ سِيَر عَلَيْهِ ذَاتُ يَوْمٍ بِرَفْعِ التّاءِ، فَحِينَئِذٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لُغَةُ خَثْعَمَ، وَأَمّا الْبَيْتُ الّذِي تَقَدّمَ فَالشّاهِدُ لَهُ فِيهِ، وَمَا أَظُنّ خَثْعَمَ، وَلَا أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُجِيزُ التّمَكّنَ فِي نَحْوِ هَذَا، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ النّصْبِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
لَا الّتِي لِلتّبْرِئَةِ:
فَصْلٌ: وَفِيهِ: وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ بِالْحُبّ.
وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدّا لِأَنّ لَا فِي بَابِ التّبْرِئَةِ لَا تَنْصِبُ مِثْلَ هَذَا إلّا مُنَوّنًا تَقُولُ: لَا خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ فِي الدّارِ، وَلَا شَرّا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنّمَا تَنْصِبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِمَا بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يُوسُفُ: 92. لِأَنّ عَلَيْكُمْ لَيْسَ من صلة.

(3/300)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّثْرِيبِ، لِأَنّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَأَشْبَهَ مَا يُقَالُ فِي بَيْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ خَيْرًا مُخَفّفٌ، مِنْ خَيْرِ كَهَيْنِ وَمَيْت [مِنْ هَيّنٍ وَمَيّتٍ] وَفِي التّنْزِيلِ: خَيْراتٌ حِسانٌ الرّحْمَنُ: 70 هُوَ مخفف من خيّرات.
عود إلى سرح شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
وَقَوْلُهُ: مِمّنْ. مَنْ، مُتَعَلّقَةٌ بِمَحْذُوفِ، كَأَنّهُ قَالَ: لَا خَيْرَ أَخْيَرُ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ، وَخَيْرٌ وَأَخْيَرُ: لَفْظَانِ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ، فَحَسُنَ الْحَذْفُ اسْتِثْقَالًا لِتَكْرَارِ اللّفْظِ، كَمَا حَسُنَ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ البقرة: 177. والْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ الْبَقَرَةُ: 197 لِمَا فِي تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ مَرّتَيْنِ مِنْ الثّقَلِ عَلَى اللّسَانِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ يُونُسُ: 11 أَيْ: لَوْ عَجّلَهُ لَهُمْ إذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ، فَحَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ ثِقَلِ التّكْرَارِ، وَإِذَا حَذَفُوا حَرْفًا واحدا لهذه العلة كقولهم: بلّحرث «1» بنو فُلَانٍ، وَظَلِلْت وَأُحِشّتْ فَأَحْرَى أَنْ يَحْذِفُوا كَلِمَةَ مِنْ حُرُوفٍ، فَهَذَا أَصْلٌ مُطّرِدٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ التّنْوِينِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الْكَلِمَةِ؛ لِأَنّ خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ إنّمَا مَعْنَاهُ:
أَخْيَرُ مِنْ زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ: شَرّ مِنْ فُلَانٍ، إنّمَا أَصْلُهُ: أَشَرّ عَلَى وَزْنِ أفعل،
__________
(1) فى الأصل بياض بعد كلمة بلحرث، ولكن فى اللسان: «وقولهم: بلحرث لبنى الحرث بن كعب من شواذ الإدغام، لأن النون واللام قريبا المخرج، فلما لم يمكنهم الإدغام بسكون اللام حذفوا النون. كما قالوا: مست، وظلت «بفتح الميم والظاء وسكون السين واللام» كذلك يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها لام المعرفة، مثل بلعنبر، وبلهجيم، فأما إذا لم تظهر اللام، فلا يكون ذلك» حادة حرث.

(3/301)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، وَأَفْعَلُ لَا يَنْصَرِفُ، فَإِذَا انْحَذَفَتْ الْهَمْزَةُ انْصَرَفَ وَنُوّنَ، فَإِذَا تَوَهّمْتهَا غَيْرَ سَاقِطَةٍ الْتِفَاتًا إلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ، لَمْ يَبْعُدْ حَذْفُ التّنْوِينِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَا يُقَوّيهِ مِنْ ضَرُورَةِ الشّعْرِ.
وَقَوْلُهُ: بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ، يَعْنِي: السّيُوفَ، نَسَبَهَا إلَى قُسَاس، وَهُوَ مَعْدِنٌ حَدِيدٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الّذِي فِيهِ الْمَعْدِنُ: قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ فَأْسًا:
أَحْضِرْ مِنْ مَعْدِنِ ذِي قُسَاس ... كَأَنّهُ فِي الْحَيْدِ ذِي الْأَضْرَاسِ
يُرْمَى بِهِ فِي الْبَلَدِ الدّهَاسِ»
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُسَاسِيّة: لَا أَدْرِي إلَى أَيّ شَيْءٍ نُسِبَ، وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ الْمُبَرّدُ، وَقَوْلُهُ: ذِي قُسَاس كَمَا حَكَى، ذُو زَيْدٍ، أَيْ: صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ، وَفِي أَقْيَالِ حِمْيَرَ: ذُو كَلَاعٍ، وَذُو عَمْرٍو، أُضِيفَ الْمُسَمّى إلَى اسْمِهِ، كَمَا قَالُوا: زَيْدُ بَطّةَ، أَضَافُوهُ إلى لقبه «2»
__________
(1) فى معجم ابن فارس «قساس» بلد تنسب إليه السيوف القساسية» وفى المراصد: جبل لبنى نمير، وقيل لبنى أسد، وبالصاد جبل لهم أيضا فيه معدن حديد تنسب السيوف القساسية إليه، ويقال: إن قساس معدن الحديد بأرمينية» والدّهاس: المكان السهل.
(2) الأسماء المفردة تضاف إلى ألقابها، وحينئذ تكون الألقاب معارف، وتنعرف بها الأسماء، كما قيل: قيس قفة. وزيد بطة وسعيد كرز ويجوز بفتح تاء قفة وبطة وزاى كرز «مادة قطن فى اللسان، وانظر أيضا مادة بطط وكرز» وذو الكلاع الأكبر: يزيد بن النعمان. والأصغر: سميفع بن ناكور من نسل الأكبر.

(3/302)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذُكِرَ فِيهِ النّسُورِ الطّخْمَة، قِيلَ: هِيَ السّودُ الرؤس، قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: الطّخْمَة سَوَادٌ فِي مُقَدّمِ الْأَنْفِ.
وَقَوْلُهُ: كَرَاغِيَةِ السّقْبِ يُرِيدُ وَلَد النّاقَةِ الّتِي عُقْرُهَا قُدَار «1» ، فَرَغَا وَلَدُهَا، فَصَاحَ بِرُغَائِهِ كُلّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ، فَهَلَكَتْ ثَمُودُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَضَرَبَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ مَثَلًا فِي كُلّ هَلَكَةٍ. كَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ [بْنُ عَبْدَةَ] :
رَغَا فَوْقَهُمْ سَقْبُ السّمَاءِ فَدَاحِصٌ ... بِشِكّتِهِ لم يستلب وسليب
وقال آخر:
__________
(1) اسمه فى القاموس: قدار بن سالف، ويقال هو الذى عقر ناقة صالح، وهو أحيمر ثمود. وروى أحمد بسنده فى مسنده عن عبد الله بن زمعة قال: خَطَبَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الناقة، وذكر الذى عقرها، فقال: إذ انبعث أشقاها» انبعث لها رجل عارم عزيز منيع فى رهطه مثل أبى زمعة» ورواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن جرير. وبشؤم قدار ضرب المثل يقول الشاعر:
وكان أضر فيهم من سهيل ... إذا وافى وأشأم من قدار
ويقال: قدار بن قديرة باسم أمه، انظر الأمثال للميدانى، مثل رقم 2021- وسمط اللالى ص 845، وفى معلقة زهير عن الحرب:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد، ثم ترضع فتفطم
وأحمر عاد هو قدار. والسقب: ولد الناقة عامة، أو ساعة يولد، أو خاص بالذكر، وفى ابن هشام ورد نسب أبى البخترى: «ابن هشام بن الحارث بن أسد» فصوبته من نسب قريش «ابن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى»

(3/303)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَتْ سُلَيْمٌ وَعَامِرٌ ... عَلَى جَانِبِ الثّرْثَارِ رَاغِيَةَ الْبِكْرِ «1»
ذِكْرُ أُمّ جَمِيلٍ وَالْمَسَدِ وَعَذَابِهَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أُمّ جَمِيلٍ بِنْتَ حَرْبٍ عَمّةَ مُعَاوِيَةَ، وَذَكَرَ أَنّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الشّوْكَ، وَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهَا:
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قَالَ الْمُؤَلّفُ: فَلَمّا كَنّى عَنْ ذَلِكَ الشّوْكِ بِالْحَطَبِ، وَالْحَطَبُ لَا يَكُونُ إلّا فِي حَبْلٍ، مِنْ ثُمّ جَعَلَ الْحَبْلَ فِي عُنُقِهَا، لِيُقَابِلَ الْجَزَاءُ الْفِعْلَ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ مَسَدٍ، هُوَ مِنْ مَسَدْت الْحَبْلَ إذَا أَحَكَمْت فَتْلَهُ، إلّا أَنّهُ قَالَ:
مِنْ مَسَدٍ، وَلَمْ يَقُلْ: حَبْلُ مَسَدٍ وَلَا مَمْسُودٍ لِمَعْنَى لَطِيفٍ، ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ، قَالَ: الْمَسَدُ يُعَبّر بِهِ فِي الْعُرْفِ عَنْ حَبْلِ الدّلْوِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ يُصْنَعُ بِهَا فِي النّارِ مَا يُصْنَعُ بِالدّلْوِ، تُرْفَعُ بِالْمَسَدِ فِي عُنُقِهَا إلَى شَفِيرِ جَهَنّمَ، ثُمّ يُرْمَى بِهَا إلَى قَعْرِهَا هَكَذَا أَبَدًا، وَقَوْلُهُمْ: أَنّ الْمَسَدَ هُوَ حَبْلُ الدّلْوِ فِي الْعُرْفِ صَحِيحٌ فَإِنّا لَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا كَذَلِكَ، كَقَوْلِ [النّابِغَةِ] الذّبْيَانِي.
لَهُ صَرِيفٌ صريف القعو بالمسد «2»
__________
(1) الثرثار: هو فى برية نجد، واد عظيم بالجزيرة.
(2) البيت من شواهد سيبويه فى الكتاب. والشاهد فيه نصب «صريف» الأخرى على المصدر المشبه به، والعامل فيه فعل مضمر دل عليه قوله: «له صريف» ، فكأنه قال: بازلها يصرف صريفا مثل صريف القعو، ورفعه على البدل جائز. يوصف الناقة بالقوة والنشاط، فيقول: كأنما قذفت باللحم قذفا لتراكمه عليها. -

(3/304)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ يَسْتَقِي عَلَى إبِلِهِ:
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوّذْ مِنّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنًا فَإِنّي
مَا شِئْت مِنْ أَشْمَطَ مَقْسَئِنّ «1»
__________
- والنحض: اللحم، ودخيسه: ما تداخل منه وتراكب، والبازل: سن تخرج عند بزولها، وذلك العام التاسع من سنها، وعند ذلك تكمل قوتها. ويقال لها: بازل: والصريف: صوت أنيابها إذا حكت بعضها ببعض نشاطا أو إعباء، والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب، وجمعها قعى، فإذا كان من حديد، فهو خطاف ص 178 ح 1 الكتاب لسيبويه وبيت علقمة ص 172 أمالى.
(1) أنشده اللسان فى مادتى مسد، وقسن. وفى الأصل الحوض، مكسين والتصويب من اللسان، ومعجم ابن فارس الذى أنشد الأخيرتين فى مادة قسن والمقسئن الصلب من الرجال. ويكون كبير السن، والأشمط من خالط سواد شعره بياض. وبعد هذه:
تقمص كفاه بحبل الشن ... مثل قماص الأحرد المستن
يقول: تعوذ منى، فإنى أستقى بك كثيرا، فتنقطع إن تك لدنا، أى: ناعما متثنيا، فإنى مقسئن وهو الكهل الشديد الذى لم تنقص السنون منه شيئا. ويروى: إن تك شبا، أى: شابا. وتقمص: ترتفع كفاه بالحبل إذا جذبه، والأحرد: البعير الذى يرفع يديه فى سيره، ثم يخبط بهما الأرض، والمستن الذى يمشى على وجهه، وأراد بالشن: الدلو ص 89 تهذيب إصلاح المنطق لأبى زكريا يحى بن على بن الخطاب التبريزى المتوفى سنة 562 هـ ط أولى وفى اللسان أيضا: المقسين: الشيخ القديم وكذلك البعير، فإذا اشتقوا منها فعلا على مثل افعال بتشديد اللام همزوا فقالوا: اقسأن. وقيل المقسئن الذى قد انتهى فى سنه، فليس به ضعف كبر. ولا قوة شباب وقيل: هو الذى فى آخر شبابه وأول كبره، واقسأن الشىء اشتد

(3/305)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا رَبّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ، وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
غَيْرَ الْأُولَى شِدّوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ
أَيْ: اسْتَقَوْا، وَقَالَ آخَرُ، وَهُوَ يَسْتَقِي:
وَمَسَدٍ أُمِرّ مِنْ أَيَانِقِ ... لَيْسَ بِأَنْيَابِ وَلَا حَقَائِقِ «1»
يُرِيدُ: جَمْعَ أَيْنُقٍ، وَأَيْنُقٌ: جَمْعُ نَاقَةٍ مَقْلُوبٌ، وَأَصْلُهُ: أَنْوُقٌ، فَقُلِبَ، وَأُبْدِلَتْ الْوَاوُ يَاءً؛ لِأَنّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ يَاءً لِلْكِسْرَةِ، إذَا قَالُوا: نِيَاقٌ، وَقَلَبُوهُ فِرَارًا مِنْ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ لَوْ قَالُوا: أَنْوُقٌ عَلَى الْأَصْلِ، يُرِيدُ أَنّ الْمَسَدَ مِنْ جُلُودِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي الْمَدِينَةِ: قَدْ حَرّمْتهَا إلّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ «2» ، أَوْ مَسَدٍ مَحَالَةُ، وَالْمَحَالَةُ: البكرة. وفى حديث آخر:
__________
(1) قبلهما.
إن سرك الإرواء غير سابق ... فاعمل بغرب مثل غرب طارق
أو «فاعجل» ويروى: غير سائق. وأمر: فتل. والرجز لعمارة ابن طارق- أو عمار، أو لعقبة الهجيمى، والأنياب: جمع ناب، وهى الناقة الهرمة، والحقائق جمع: حقة وهى التى دخلت فى السنة الرابعة، يريد: هو جلد ثنية أو رباعية، أو سديس أو بازل.
(2) القتب: جميع أداة السانية أو الساقية «القتب: بفتح القاف والتاء أو بكسر القاف وسكون التاء» والعصفور: الخشب الذى يشد به رؤس الأقتاب.

(3/306)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّهُ حَرّمَهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ إلّا الْمِنْجَدَةَ أَوْ مَسَدَ، وَالْمِنْجَدَةُ: عَصَا الرّاعِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ: كُلّ مَسَدٍ رِشَاءٌ، وَأَنْشَدَ:
وَبَكْرَةً وَمِحْوَرًا صَرّارَا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارَا
وَالْأَبَقُ: الْقِنّبُ، وَالزّبْرُ: الْكَتّانُ، وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
أَنَزَعُهَا تَمَطّيًا وَمَثّا ... بِالْمَسَدِ الْمَثْلُوثِ أَوْ يَرْمِثَا
فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنّ الْمَسَدَ حَبْلُ الْبِئْرِ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ جَهَنّمَ- أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا- أَنّهَا كَطَيّ الْبِئْرِ لَهَا قَرْنَانِ، وَالْقَرْنَانِ مِنْ الْبِئْرِ: كَالدّعَامَتَيْنِ لِلْبَكَرَةِ، فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا كُلّهِ، مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ مِنْ صِفَةِ عَذَابِهَا أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَبِهَذَا تُنَاسِبُ الْكَلَامَ، وَكَثُرَتْ مَعَانِيهِ، وَتَنَزّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَشْوٌ أَوْ لَغْوٌ- تَعَالَى اللهُ مَنْزِلُهُ؛ فَإِنّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ.
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ: إنّهَا السّلْسِلَةُ الّتِي ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا لَا يَنْفِي مَا تَقَدّمَ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَرْبِقَ «1» فِي تِلْكَ السّلْسِلَةِ أُمّ جَمِيلٍ وَغَيْرَهَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُمّ الدّرْدَاءِ إنّ لِلّهِ سِلْسِلَةٌ تَغْلِي بِهَا مَرَاجِلُ جَهَنّمَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ النّارَ إلَى يَوْمِ القيامة، وقد نجاك الله مِنْ نِصْفِهَا بِالْإِيمَانِ بِاَللهِ، فَاجْتَهِدِي فِي النّجَاةِ من النصف الاخر بالحض على طعام المساكين، وكذلك قول مجاهد: إنها
__________
(1) يربقه: يجعل رأسه فى الربقة، وهى العروة فى حبل يشد به اليهم، وفى الأصل: يربق ولم أهتد إلى ضبط البيت السابق

(3/307)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كانت تمشى بالنمائم لا ينفى حملها للشوك «1» ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَائِغٌ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ لقريش حين اختلفوا:
وَنُبّئْتُكُمْ شَرْجَيْنِ «2» كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا زُمّلٌ مِنْ بَيْنِ مذك وحاطب
فالمذكى الذى يذكى؟؟؟ العداوة، والحاطب الذى ينم ويغرى كالمحتطب للنار، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَأَنّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتّاتٌ «3» » وَالْقَتّاتُ هُوَ الّذِي يَجْمَعُ الْقَتّ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ النّارُ مِنْ حَشِيشٍ وَحَطَبٍ صِغَارٍ.
عَنْ الْجِيدِ وَالْعُنُقِ:
وَقَوْلُهُ: فِي جِيدِهَا، وَلَمْ يَقُلْ: فِي عُنُقِهَا، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُذْكَرَ الْعُنُقَ إذَا ذُكِرَ الْغُلّ، أَوْ الصّفْعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا يس: 8 وَيُذْكَرُ الْجِيدُ إذَا ذُكِرَ الْحُلِيّ أَوْ الْحُسْنُ، فَإِنّمَا حَسُنَ هَهُنَا ذِكْرُ الْجِيدِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ؛ لِأَنّهَا امْرَأَةٌ، وَالنّسَاءُ تُحَلّي أَجِيَادَهُنّ، وَأُمّ جَمِيلٍ لَا حُلِيّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إلّا الْحَبْلُ الْمَجْعُولُ فِي عُنُقِهَا، فَلَمّا أفيم لَهَا ذَلِكَ مَقَامَ الْحُلِيّ ذُكِرَ الْجِيدَ مَعَهُ، فَتَأَمّلْهُ؛ فَإِنّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، أَلَا تَرَى إلَى قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد
__________
(1) فى الأصل: الشرك
(2) الشرج: الضرب، يقال: هما شرج واحد أى: ضرب واحد
(3) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى، والقتات هو النمام، وقيل هو الذى يتسمع على القوم، وهم لا يعلمون، ثم ينم.

(3/308)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ عُنُقٍ، وقول الآخر:
وَأَحْسَنُ مِنْ عُقَدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا
وَلَمْ يقل: عنقها، ولو قاله لَكَانَ غَثّا مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الْجِيدِ حَيْثُ قُلْنَا، وَيَنْظُرُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ آلُ عِمْرَانَ: 21 أَيْ لَا بُشْرَى لَهُمْ إلّا ذَلِكَ، وَقَوْلُ الشّاعِرِ [عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ] :
[وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْت لَهَا بِخَيْلِ] ... تَحِيّةُ بَيْنِهِمْ رب؟؟؟ وجيع
أي: لَا تَحِيّةَ لَهُمْ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ، أَيْ: لَيْسَ ثُمّ جِيدٌ يُحَلّى، إنّمَا هُوَ حَبْلُ الْمَسَدِ، وَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ: وَامْرَأَتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ:
وَزَوْجُهُ؛ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنّ التّزْوِيجَ حِلْيَةٌ شَرْعِيّةٌ، وَهُوَ مِنْ أَمْرِ الدّينِ يجردها من هذه الصفة، كما جرد مسها امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ، فَلَمْ يَقُلْ:
زَوْجَ نُوحٍ، وَقَدْ قَالَ لِآدَمَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْبَقَرَةُ: 35 وَقَالَ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) ، وَقَالَ: (وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ) ، إلّا أَنْ يَكُونَ مُسَاقَ الْكَلَامِ فِي ذِكْرِ الْوِلَادَةِ وَالْحَمْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْمَرْأَةِ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْطِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً مَرْيَمُ: 5، 8 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ الذّارِيَاتُ: 29 لِأَنّ الصّفَةَ الّتِي هِيَ الْأُنُوثَةُ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحَمْلِ وَالْوَضْعِ لَا من حيث كانت زَوْجًا.
غُلُوّ فِي الْوَصْفِ بِالْحُسْنِ فَصْلٌ: وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى الْجِيدِ قَوْلَ الْأَعْشَى:
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ ... جِيدِ أَسِيلٍ تَزْيِنُهُ الْأَطْوَاقُ
وَقَوْلُهُ: تَزْيِنُهُ أَيْ: تَزِيدُهُ حَسَنًا، وَهَذَا مِنْ الْقَصْدِ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ أَبَى

(3/309)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُوَلّدُونَ إلّا الْغُلُوّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنْ يَغْلِبُوهُ فَقَالَ فِي الْحَمَاسَةِ حُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ [الْأَسَدِيّ] :
مُبَلّلَةُ الْأَطْرَافِ زَانَتْ عُقُودُهَا ... بِأَحْسَنَ مِمّا زِينَتُهَا عُقُودُهَا
وَقَالَ خَالِدٌ الْقَسْرِيّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ تَكُنْ الْخِلَافَةُ زِينَتُهُ، فَأَنْتَ زِينَتُهَا، وَمَنْ تَكُنْ شَرّفْته، فَأَنْتَ شَرّفْتهَا، وَأَنْتَ كَمَا قَالَ [مَالِكُ ابْنُ أَسَمَاءَ] :
وَتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطّيبِ طِيبًا ... إنّ تَمَسّيهِ، أَيْنَ مِثْلُك أَيْنَا
وإذا الدّرّزان حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدّرّ حَسَنُ وَجْهِك زَيْنَا!
فَقَالَ عُمَرُ: إنّ صَاحِبَكُمْ أَعْطَى مَقُولًا، وَلَمْ يُعْطِ مَعْقُولًا، قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَإِنّمَا لَمْ يَحْسُنْ هَذَا مِنْ خَالِدٍ لَمّا قَصَدَ بِهِ التّمَلّقَ، وَإِلّا فَقَدْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ الصّدّيقِ، فَحَسُنَ لِمَا عَضّدَهُ مِنْ التّحْقِيقِ وَالتّحَرّي لِلْحَقّ، وَالْبَعْدِ عَنْ الْمَلَقِ وَالْخِلَابَةِ، وَذَلِكَ حِينَ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ عَهْدَهُ مَخْتُومًا، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا فِيهِ، فَلَمّا عَرَفَ مَا فِيهِ رَجَعَ إلَيْهِ حَزِينًا كَهَيْئَةِ الثّكلى: يقول: حملتى عِبْئًا أَلّا أَضْطَلِعُ بِهِ، وَأَوْرَدْتنِي مَوْرِدًا لَا أَدْرِي: كَيْفَ الصّدْرُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الصّدّيقُ: مَا آثَرْتُك بِهَا، وَلَكِنّي آثَرْتهَا بِك، وَمَا قَصَدْت مُسَاءَتَك، وَلَكِنْ رَجَوْت إدْخَالَ السّرُورِ عَلَى المؤمنين بك، ومن ههنا أَخَذَ الْحُطَيْئَة قَوْلُهُ:
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْإِثْرُ «1»
__________
(1) أنشده اللسان وقال: وكأن الإثر: جمع الإثرة، وهى الأثرة. وفى الأغانى فى أخبار الحطيئة: أن الحطيئة أنشد هذه القصيدة التى منها هذا البيت حين شفع فيه عمرو بن العاص، فأخرجه عمر من محبسه ومنها:
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

(3/310)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ سَبَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النّسِيبِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ الرّومِيّ، فَقَالَ:
وَأَحْسَنُ مِنْ عقد المليحة جيدها ... وأحسن من سر بالها الْمُتَجَرّدُ
وَمِمّا هُوَ دُونَ الْغُلُوّ، وَفَوْقَ التّقْصِيرِ قَوْلُ الرّضِيّ:
حَلْيُهُ جِيدُهُ، لَا مَا يُقَلّدُهُ ... وَكُحْلُهُ مَا بِعَيْنَيْهِ مِنْ الْكُحْلِ
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الثّعَالِبِيّ:
وَمَا الْحَلْيُ إلّا حِيلَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصّرَا
فَأَمّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفّرًا ... فَحَسْبُك لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوّرَا
وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ الْعَرَبِيّ يَقُولُ: حَجّ أبو الفضل الجوهرى الزاهد ذت مَرّةٍ، فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَرَأَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدّيبَاجِ تَمَثّلَ، وَقَالَ:
مَا عَلّقَ الْحُلِيّ عَلَى صَدْرِهَا ... إلّا لِمَا يُخْشَى مِنْ الْعَيْنِ
تَقُولُ وَالدّرّ عَلَى نَحْرِهَا ... مَنْ عَلّقَ الشّيْن عَلَى الزّيْنِ
وَبَيْتُ الْأَعْشَى الْمُتَقَدّمُ بَعْدَهُ:
__________
- وقبل البيت الذى رواه السهيلى:
أنت الإمام الذى من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البقر؟؟؟
وروايته فى الأغانى: «كانت بك الإثر؟؟؟» وهى أشق؟؟؟. وللبيت رواية أخرى
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ بها استاثروا إذ كانت الإبر

(3/311)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَشَتِيتٍ كَالْأُقْحُوَانِ جَلّاهُ ... الطّلّ فِيهِ عُذُوبَةٌ وَاتّسَاقُ
وَأَثِيثٍ جَثْلِ النّبَاتِ تَرْوِي ... هـ لَعُوبٌ غَرِيرَةٌ مفتاق
حرّة طفلة الأنامل كالدّم ... ية لَا عَانِسٌ وَلَا مِهْزَاقُ
الْفِهْرُ:
وَذَكَرَ قَوْلَ أُمّ جَمِيلٍ لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ وَجَدْت صَاحِبَك لَشَدَخْت رَأْسَهُ بِهَذَا الْفِهْرِ. الْمَعْرُوفُ فِي الْفِهْرِ: التأنيث، وتصغيره فهيرة، ووقع ههنا مذكرا «1» .
__________
(1) فى المعجم الوسيط أنه يذكر ويؤنث، وهو- كما فى القاموس- الحجر قدر ما يدق به الجوز، أو ما يملأ الكف، ويرى الخشنى فى شرح السيرة أنه يذكر ويؤنث، واسم امرأة أبى لهب: أروى. ويقول المصعب فى نسب قريش أن أبا لهب كان يكنى بأسماء بنيه كلهم وهم عتبة ومعتب وعتيبة، وكنى بأبى لهب لإشراق وجهه، وكل أولاده من أم جميل التى يقول فيها الأحوص الشاعر الأنصارى:
كل الحبال حبال الناس من شعر ... وحبلها وسط أهل النار من مسد
وقال ابن كثير: «وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده: فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه فى عذابه فى نار جهنم» . وعن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والثورى والسدى- واختاره ابن جرير- أنها كانت تمشى بالتميمة، وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة. فقالت: لأنفقتها فى عداوة محمد- يعنى، فأعقبها الله منها حبلا فى جيدها من مسد النار، وقيل: إنها كانت عوراء وقد روى حديث مجيئها إلى رسول الله وأبى بكر وعدم رؤيتها للنبى «ص» البزار بسنده عن ابن عباس، وروى قريبا منه ابن أبى حاتم بسنده عن أسماء. وقد تحقق ما أخبر به الله. فلم يؤمن أبو لهب وامرأته. وأبيات شعرها: «مذمما الخ» مروة فى كتب أخرى مختلفة الترتيب عما هنا وأخرج ابن أبى حاتم عن عثمان وابن عمر قالا: ما زلنا نسمع أن ويل لكل همزة نزلت فى أبى بن خلف، وأخرج عن السدى أنها نزلت فى الأخنس بن شريق، وأخرج ابن جرير عن-

(3/312)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَوْلَ قَوْلِهِمْ: مُذَمّمٌ وَحَدِيثُ خَبّابٍ:
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، يَشْتُمُونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا وَأَنَا مُحَمّدٌ؟!، وَأَدْخَلَ النّسَوِيّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطّلَاقِ فِي بَابِ: «مَنْ طَلّقَ بِكَلَامِ لَا يُشْبِهُ الطّلَاقَ، فَإِنّهُ غَيْرُ لَازِمٍ» وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ لِقَوْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللهُ عَنّي، فَجَعَلَ أَذَاهُمْ مَصْرُوفًا عَنْهُ، لِمَا سَبّوا مُذَمّمًا، وَمُذَمّمًا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: كُلِي وَاشْرَبِي، وَأَرَادَ بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَكَانَ مَصْرُوفًا عَنْهُ؛ لِأَنّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَبّارَةً عَنْ الطّلَاقِ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ خَبّابٍ «1» مَعَ العاصى بْنِ وَائِلٍ، وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَى: أَرَأَيْت، وَأَنّهُ لَا يجوز أن يليها الاستفهام، كما بلى: علمت ونحوها، وهى ههنا: عَامِلَةٌ فِي الّذِي كَفَرَ، وَقَدْ قَدّمْنَا مِنْ القول فيها ما يغنى عن إعادته ههنا، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ: اقْرَأْ، وَحَدِيثِ نُزُولِهَا
سَدّ الذّرَائِعِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ لَتَكُفّنّ عَنْ سَبّ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى «2» وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
__________
- رجل من أهل الرقة أنها نزلت فى جميل بن عامر الجمحى، وقد روى ابن المنذر عن ابن إسحاق أنها فى حق أمية كما فى السيرة.
(1) حديث خباب أخرجه الشيخان والترمذى وأحمد.
(2) نسب إلى على بن أبى طالب أنه روى عن ابن عباس أن الذى اقترف-

(3/313)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «الْأَنْعَامُ: 108» الْآيَةَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيّة فِي إثْبَاتِ الذّرَائِعِ وَمُرَاعَاتِهَا فِي الْبُيُوعِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ أَنّ سَبّ آلِهَتِهِمْ كَانَ مِنْ الدّينِ، فَلَمّا كَانَ سَبَبًا إلَى سَبّهِمْ الْبَارِيَ- سُبْحَانَهُ- نَهَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ مَا يَخَافُ مِنْهُ الذّرِيعَةَ إلَى الرّبَا، يَنْبَغِي الزّجْرُ عَنْهُ، وَمِنْ الذّرَائِعِ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ، وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ فَتَقَعُ الرّخْصَةُ وَالتّشْدِيدُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ الشّافِعِيّ الذّرِيعَةَ إلَى الْحَرَامِ أَصْلًا، وَلَا كَرِهَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ الّتِي تُتّقَى فِيهَا الذّرِيعَةُ إلَى الرّبَا، وَقَالَ: تُهْمَةُ الْمُسْلِمِ وَسُوءُ الظّنّ بِهِ حَرَامٌ، وَمِنْ حُجّتِهِمْ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ: إنّمَا الرّبَا عَلَى مَنْ قَصَدَ الرّبَا، وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: «إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئِ مَا نَوَى «1» » فِيهِ أَيْضًا مُتَعَلّقٌ لَهُمْ، وَقَالُوا: وَنَهْيُهُ تَعَالَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، لِئَلّا يُسَبّ اللهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ لِمُؤْمِنِ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْهِ، وَكَمَا تُتّقَى الذّرِيعَةُ
__________
- هذا إنما هم جماعة من المشركين لا أبو جهل وحده. وذكر عبد الرازق أن المسلمين هم الذين كانوا يسبون أصنام الكفار. فيسب الكفار الله عدوا. والاية تفيد ذلك
(1) زعم البعض أن هذا الحديث متواتر. وهذا خطأ إذ لم يروه عن النبى «ص» إلا عمر. ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمد ابن إبراهيم ولم يروه عنه الا يحيى بن سعيد الأنصارى، وعنه انتشر. فقيل رواه عنه أكثر من مائتى راو. وقيل: سبعمائة. من أعيانهم: مالك والثورى والأوزاعى والليث بن سعد وغيرهم. وقد روى هذا الحديث البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة وأحمد والدار قطنى وابن حبان والبيهقى، ولم يخرجه مالك فى الموطأ. ولكن ابن منده يزعم أن أكثر من صحابى رواه غير أنه اتفق على أنه لا يصح مسندا إلا من رواية عمر.

(3/314)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى تَحْلِيلِ مَا حَرّمَ اللهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتّقَى تَحْرِيمُ مَا أَحَلّ اللهُ، فَكِلَا الطّرَفَيْنِ ذَمِيمٌ، وَأَحَلّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا، وَالرّبَا مَعْلُومٌ، فَمَا لَيْسَ مِنْ الرّبَا فَهُوَ مِنْ الْبَيْعِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلطّائِفَتَيْنِ، وَالِاحْتِجَاجُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَتّسِعُ مِجَالُهُ وَيَصُدّنَا عَنْ مَقْصُودِنَا من الكتاب «1» .
__________
(1) فصل الإمام ابن تيمية القول تفصيلا فى هذه المسألة فى كتابه القيم «إقامة الدليل على إبطال التحليل» المطبوع مع مجموعة فتاويه فقال: «إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها، ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشىء، لكن صارت فى عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة؛ ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذى ظاهره أنه مباح، وهو وسيلة إلى فعل المحرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه. أو كان الشىء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب، فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها فى نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هى فى نفسها فيها منفعة، وهى مفضية إلى ضرر أكثر منه، فتحرم فان كان ذلك الفساد فعل محظور سميت: ذريعة، وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تقضى إلى المحرم غالبا، فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضى، وقد لا تفضى، لكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت إنما تفضى أحيانا، فان لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا، ثم هذه الذرائع منها ما يفضى إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مغضبة للتوسل بها الى المحارم، فهذا القسم الثانى يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن-

(3/315)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُسْتُم:
فَصْلٌ: حَدِيثُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَالَ فِي نَسَبَهُ: كَلَدَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ النّسّابِ يَقُولُ: عَلْقَمَةُ بْنُ كَلَدَةَ «1» ، وَكَذَلِكَ أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشيخ
__________
- الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة فى الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام ثلاثة: الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة، وبأكثر أخرى. الثانى: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان. فانه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذان لا يقصدهما مؤمن. الثالث: ما يحال به من المباحات فى الأصل كبيع النصاب فى أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة. والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فاذا قصد بالشىء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع. وللشريعة أسرار فى سد الفساد، وجسم مادة الشر لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفى هداها الذى لا يزال يسرى فيها حتى يقودها إلى الهلكة. فمن تحذلق على الشارع، واعتقد فى بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة. فاستباحه بهذا التأويل. فهو ظلوم لنفسه، جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر، لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقيه فى الدين، وعدم بصيرة أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر» ثم أتى الإمام بثلاثين شاهدا أو دليلا على هذا استغرقت ست صفحات. فانظرها فى كتابه ص 256 وما بعدها. ح 3 الفتاوى الكبرى لأبى العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى نشر دار الكتب الحديثة.
(1) ورد نسبه هكذا فى نسب قريش فى ص 255.

(3/316)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبِي بَحْرٍ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَحَدِيثُ النّضْرِ: أنه تعلم أخبار رستم واسبندياذ، وَكَانَ يَقُولُ: اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ، وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ: اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ، وَفِي الرواية الأخرى عن أبى الوليد: اكتتبها «1» كَمَا اكْتَتَبَهَا، وَرُسْتُم الشّيْد «2» بِالْفَارِسِيّةِ مَعْنَاهُ: ذُو الضّيَاءِ، وَالْيَاءُ فِي الشّيْد وَالْأَلِفُ سَوَاءٌ، وَمِنْهُ «أرفخشاذ» وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهُ، وَمِنْهُ «جَمّ شَاذّ» ، وَهُوَ مِنْ أَوّلِ مُلُوكِ «الْأَرْضِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الضّحّاكُ «بيوراسب» ، ثُمّ عَاشَ إلَى مُدّةِ «أفريذون وَأَبِيهِ جَمّ» ، وَبَيْنَ «أفريذون» وَبَيْنَ «جَمّ» تِسْعَة آبَاءٍ، وَقَالَ لَهُ حِينَ قَتَلَهُ: مَا قَتَلْتُك بِجَمّ، وَمَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءِ، وَلَكِنْ قَتَلْتُك بِثَوْرِ كَانَ فِي دَارِهِ، وَقَدْ تَقَدّمَ طرف من أخبار رستم واسبندياذ فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا.
حَدِيثُ ابْنِ الزّبَعْرَى وعزيز:
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الزّبَعْرَى، وَقَوْلُهُ: إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنّ النّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الْآيَةَ قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَلَوْ تَأَمّلَ ابْنُ الزّبَعْرَى وَغَيْرُهُ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ الْآيَةَ لَرَأَى اعْتِرَاضَهُ غير لازم من وجهين:
__________
(1) فى السيرة التى معى: رواية أبى الوليد.
(2) فى السيرة: الشديد. هذا ويذكر ابن جرير أن النبى «ص» قتل عقبة بن أبى معيط، وطعمة بن عدى والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وأن المقداد هو الذى أسر النضر، فلما أمر الرسول بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيرى، فقال رسول الله «ص» إنه كان يقول فى كتاب الله ما يقول. هذا والمحضا: ما تحرك به النار، واحتضأ النار: ألهبها وسعرها.

(3/317)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ خِطَابٌ مُتَوَجّهٌ عَلَى الْخُصُوصِ لِقُرَيْشِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ حَيْدَةً، وَإِنّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ والمحاجة في اللات وَالْعُزّى وَهُبَلَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالثّانِي: أَنّ لفظ التلاوة: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ، فَكَيْفَ يَلْزَمُ اعْتِرَاضُهُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ، وَمِنْ ثُمّ جَاءَتْ الْآيَةُ بِلَفْظِ: مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، وَإِنّمَا تَقَعُ مَا عَلَى مَا يَعْقِلُ، وَتُعْلَمُ بِقَرِينَةِ مِنْ التّعْظِيمِ وَالْإِبْهَامِ، وَلَعَلّنَا نَشْرَحُهَا وَنُبَيّنُهَا فِيمَا بَعْدُ إنّ قُدّرَ لَنَا ذَلِكَ، وَسَبَبُ عِبَادَةِ النّصَارَى للمسيح معروف، وأما عبادة اليهود عزيزا، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ: إنّهُ ابْنُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ، وَسَبَبُهُ فِيمَا ذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكَشّيّ، أَنّ التّوْرَاةَ لَمّا احْتَرَقَتْ أَيّامَ بُخْتَ نَصّرَ «1» ، وَذَهَبَ بِذَهَابِهَا دِينُ الْيَهُودِ، فَلَمّا ثَابَ إلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَجُدُوا لِفَقْدِهَا أَعْظَمَ الْكَرْبِ، فبينما عزيز يَبْكِي لِفَقْدِ التّوْرَاةِ، إذْ مَرّ بِامْرَأَةِ جَاثِمَةٍ عَلَى قَبْرٍ قَدْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا، فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا إيلْيَا أُمّ الْقُرَى أَبْكِي عَلَى وَلَدِي، وَأَنْتَ تَبْكِي عَلَى كِتَابِك، وَقَالَتْ لَهُ: إذَا كَانَ غَدًا، فَأْتِ هَذَا الْمَكَانَ، فَلَمّا أَنْ جَاءَ مِنْ الْغَدِ لِلسّاعَةِ الّتِي وَعَدَتْهُ، إذَا هُوَ بِإِنْسَانِ خَارِجٍ من الأرض فى يده كهيئة
__________
(1) ضبط كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة بخت نصر فتح الباء وضم التاء. والمعروف المشهور ما ضبطه به، يقول شهاب الدين أحمد الخفاجى فى شفاء الغليل عن بختنصر إنه بضم الباء، واسمه معرب مركب كحضر موت أو بعليك نص عليه سيبويه. وهو عند ابن السيد معرب بوخت بمعنى: ابن، ونصر: اسم صنم وجد عنده، وسمى به إذ لم يعرف له أب.

(3/318)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَارُورَةِ، فِيهَا نُورٌ، فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ فَاك، فَأَلْقَاهَا فِي جَوْفِهِ، فَكَتَبَ عُزَيْرٌ التّوْرَاةَ- كَمَا أنزلها الله، ثم قدر على التوراة بعد ما كَانَتْ دُفِنَتْ أَنْ ظَهَرَتْ، فَعُرِضَتْ التّوْرَاةُ، وَمَا كَانَ عُزَيْرٌ كَتَبَ، فَوَجَدُوهُ سَوَاءَ، فَمِنْهَا قَالُوا: إنّهُ وَلَدُ اللهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ «1» .
حَصَبُ جَهَنّمَ:
وَقَوْلُهُ حَصَبُ جَهَنّمَ، هُوَ مِنْ بَابِ الْقَبْضِ وَالنّفْضِ «2» وَالْحَصْبُ بِسُكُونِ الصّادِ كَالْقَبْضِ وَالنّفْضِ، وَمِنْهُ الْحَاصِبُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وَيُرْوَى: حَضَبُ جَهَنّمَ بِضَادِ مُعْجَمَةٍ فِي شَوَاذّ القراآت، وَهُوَ مِنْ حَضَبَتْ النّارُ «3» بِمَنْزِلَةِ حَضَأْتهَا، يُقَالُ: أرّثتها وأثقبتها وحششتها وأذكيتها وفسر ابن إسحق قَوْلَهُ: يَصُدّونِ، وَمَنْ قَرَأَ: يَصِدّونَ فَمَعْنَاهُ: يَعْجَبُونَ «4» .
__________
(1) لا شك فى أنها فرية يهودية. فعزرا الكاهن اليهودى الأكبر هو الذى عبث بالتوراة أيام الأسر، ودس فيها ما دس بعد أن أحرقت، وراح هو يمليها من حفظه وهواه. وذلك بشهادة كبار مؤرخى الغرب مثل «ول. ديورانت»
(2) يعنى أنه فعل «بفتح الفاء والعين» بمعنى مفعول، فالنفض بمعنى منفوض وحصب وقبض كذلك. يقول الأزهرى: «الحصب: الحطب الذى يلقى فى تنور أو فى وقرد. أما ما دام غير مستعمل للسجور، فلا يسمى حصبا»
(3) فى اللسان: الحضب: الحطب فى لغة اليمن، وقيل: هو كل ما ألقى فى النار من حطب وغيره، يهيجها به، وحضب النار يحضبها: رفعها. وقال الكسائى حضبت النار إذا خبت، فألقيت عليها الحطب، لتقد، والمحضب: المسعر، وهو عود تحرك به النار.
(4) قراءة المصحف بكسر الصاد أى يصيحون فرحا. وقرأ نافع وابن عامر والكسائى بضم الصاد وهو من الصدود أى عن الحق، وقيل: هما لغتان مثل يعكف ويعكف بكسر عين الفعل وضمها، وقد أخرج حديث ابن الزبعرى-

(3/319)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا نَزَلَ فِي الْأَخْنَسِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ- وَاسْمُهُ: أُبَيّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ، وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَتَانِ كَزَنَمَتَيْ الشّاةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ «1» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ قال: الزنيم الذى زنمتان من الشر يُعْرَفُ بِهَا، كَمَا تُعْرَفُ الشّاةُ بِزَنَمَتِهَا، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا مِثْلُ مَا قَالَ ابن إسحق أَنّ الزّنِيمَ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ ذلك بن الأزرق الحرورى «2» ، وقال: أما سمعت قول
__________
- ابن مردويه. وعند ابن أبى حاتم أنها نزلت لما قال المشركون: فالملائكة وعزيز وعيسى يعبدون، وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس فى سبب نزول: «ولما ضرب ابن مريم مثلا» أنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير. وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم: عليهما الصلاة والسلام. وما تقول فى محمد- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ. ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فان كنت صادقا كان آلهتهم كما يقولون قال: فأنزل الله عز وجل: «ولما ضرب ابن مريم مثلا» ، الاية. ورواه ابن أبى حاتم مع اختلاف يسير.
(1) رواه البخارى فى باب التفسير: «له زنمة مثل الشاة» وأخرجه الحاكم بطريق أخرى نحوه
(2) نسبة إلى حروراء موضع على ميلين من الكوفة. وكان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، منهم: عمران بن حطان وخلق كثير. وهذا النسب شاذ فان الاسم الذى آخره همزة بعد ألف للتأنيث، تقلب الهمزة فيه واوا، وشذ عن القاعدة عدة أسماء منها: صنعانى وبهرانى وروحانى، وجلولى وحرورى نسبة إلى صنعاء، وبهراء قبيلة من قضاعة، وروحاء موضع قرب المدينة وجلولاء وحروراء وهما موضعان بالعراق، وسيأتى

(3/320)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَسّانَ: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ «1» الْبَيْتَ، وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا الْبَيْتَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ وَنَسَبَهُ لِلْخَطِيمِ التّمِيمِيّ، وَالْأَعْرَف أَنّهُ لِحَسّانَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ «2» ، وَأَمّا الْعُتُلّ فَهُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ] الدّخَانُ: 47. وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: «أَنَا أُنَبّئُكُمْ بِأَهْلِ النّارِ:
كُلّ عُتُلّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمّاعٍ منّاع» «3» .
__________
(1) قال أبو عبيدة: الزنيم المعلق فى القوم ليس منهم، قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه. وقال حسان: وأنت زنيم ليط فى آل هاشم. قال: ويقال للتيس: زنيم له زنمتان ص 538 ح 8 فتح البارى. ومعنى حديث البخارى أن الرجل كان مشهورا بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها. وبقية بيت حسان: «كما نيط خلف الراكب القدح الفرد» وبقية بيت: «زنيم ليس يعرف» يغى الأم ذو حسب لئيم.
(2) روى ابن أبى حاتم بسنده عن ابن عباس فى قوله زنيم: قال: الدعى الفاحش اللئيم، ثم قال ابن عباس: «زنيم تداعاه الرجال» البيت. ويقول ابن كثير قولا جامعا، «والأقوال فى هذا- أى فى معنى زنيم- كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذى يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيا ولد زنا، فإنه فى الغالب يتسلط الشيطان عليه، ما لا يتسلط على غيره» والزنمة: شىء يكون للمعز فى آذانها كالقرط، وهى أيضا شىء يقطع من أذن العير ويترك معلقا.
(3) فى رواية أحمد عن وكيع: «ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع: «كل جواظ جعظرى مستكبر» أخرجاه فى الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان الثورى وشعبة، كلاهما عن سعيد ابن خالد به، ورواه أحمد بسند تفرد به عن عمرو بن العاص أن النبى «ص» قال عند ذكر أهل النار: «كل جعظرى جواظ مستكبر جماع مناع» ورواه بسند

(3/321)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ الّذِي أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ: قُلْ: يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلَى آخِرِهَا فَقَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أَيْ: فِي الْحَالِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَلِكَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ لَهُمْ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ رَبّك، وَتَعْبُدُ رَبّنَا، كَيْفَ نَفَى عَنْهُمْ مَا أَرَادُوا وَعَزَمُوا عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
آخر عن عبد الرحمن بن غنم: أن الرسول «ص» قال عن العتل الزنيم: «الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس رحيب الجوف» . الجعظرى بفتح الجيم وسكون العين وفتح الظاء وكسر الراء وتشديد الياء: الفظ الغليظ والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو: الضخم المختال والكثير الكلام والجلبة فى الشر. ويقول ابن كثير عما ذكر من سبب نزول: «ويوم بعض الظالم على يديه» : «وسواء أكان سبب نزولها فى عقبة أو غيره فإنها عامة فى كل ظالم، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه» وهو قول جميل، وقيل: إن العظيمين فيما جاء فى السيرة من سبب نزول: «لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القريتين عظيم» إنهما الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير الثقفى. وعن ابن عباس أنهم يعنون جبارا من جبابرة قريش. والقريتان هما: مكة والطائف. وجميل قول ابن كثير: «والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أى البلدتين كان» وجميل منه أيضا أن يقول عن سبب نزول: «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه» «هى عامة فى كل من أنكر البعث واللام والألف فى الإنسان للجنس يعم كل منكر للبعث» فقد اختلف فى شأن سبب نزولها فابن أبى حاتم ينسب القصة إلى العاصى بن وائل، وذكر ابن جرير من بين ما ذكر أنه عبد الله ابن أبى، غير أن هذا منكر؛ لأن ابن أبى مدنى والاية مكية

(3/322)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ عَلِمَ أَنّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، فَأَخْبَرَ بِمَا عَلِمَ. الثّانِي: أَنّهُمْ لَوْ عَبَدُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي قَالُوهُ مَا كَانَتْ عِبَادَةً، وَلَا يُسَمّى عَابِدًا لِلّهِ مَنْ عَبَدَهُ سَنَةً، وَعَبَدَ غَيْرَهُ أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أَعْبُدُ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيّةِ: إنّ مَا تَقَعُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، فَكَيْفَ عَبّرَ بِهَا عَنْ الْبَارِي تَعَالَى؟
فَالْجَوَابُ: أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنّ مَا قَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِقَرِينَةِ، فَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِهَا، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ: الْإِبْهَامُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التّعْظِيمِ وَالتّفْخِيمِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ «1» لِأَنّ مَنْ جَلّتْ عَظَمَتُهُ، حَتّى خَرَجَتْ عَنْ الْحَصْرِ، وَعَجَزَتْ الْأَفْهَامُ عَنْ كُنْهُ ذَاتِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: هُوَ مَا هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبّحَ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَمِنْهُ قوله: وَالسَّماءِ وَما بَناها «2» فَلَيْسَ كَوْنُهُ عَالِمًا مِمّا يُوجِبُ لَهُ مِنْ التّعْظِيمِ مَا يُوجِبُ لَهُ أَنّهُ بَنَى السّمَوَاتِ، ودحا الأرض، فكان المعنى: إنه
__________
(1) ما: اسم مبهم غاية الإبهام حتى إنها تقع على كل شىء، وتقع على ما ليس بشىء. فيجوز أن تقول: إن الله يعلم ما كان، وما لم يكن
(2) ويقول ابن القيم عن هذا: «لأن القسم تعظيم للمقسم به، واستحقاقه للتعظيم من حيث ما أظهر هذا الخلق العظيم الذى هو السماء. ومن حيث سواها وزينها بحكمته فاستحق التعظيم. وثبت قدرته، فلو قال: ومن بناها لم يكن فى اللفظ دليل على استحقاقه القسم من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورا على ذاته ونفسه، دون الإيماء إلى أفعاله الدالة على عظمته المبئة عن حكمته، المفصحة باستحقاقه للتعظيم من خليقته، وكذلك قولهم: سبحان ما يسبح الرعد بحمده، لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث يستحقه العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم، ولا تقل يعقل فى هذا الموضع» .

(3/323)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَيْئًا بَنَاهَا لَعَظِيمٌ، أَوْ مَا أَعْظَمَهُ مِنْ شَيْءٍ! فَلَفْظُ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُؤْذِنُ بِالتّعَجّبِ مِنْ عَظَمَتِهِ كَائِنًا مَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لِهَذَا، فَمَا أَعْظَمَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ آدَم: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «1» وَلَمْ يَقُلْ: لِمَنْ خَلَقْت، وَهُوَ يَعْقِلُ، لِأَنّ السّجُودَ لَمْ يَجِبْ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ، وَلَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لَا يَعْقِلُ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أُمِرُوا بِالسّجُودِ لَهُ، فَكَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، فَمِنْ هَاهُنَا حَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا مِنْ جِهَةِ التّعْظِيمِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ السّجُودِ لَهُ، فَكَائِنًا مَنْ كَانَ، وَأَمّا قوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فَوَاقِعَةٌ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنّهُمْ كَانُوا
__________
(1) ويقول ابن القيم عن استعمال ما فى الاية: «هذا كلام؟؟؟ فى معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه عن السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجود لمن يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه؛ إذ لا ينبغى التكبر لمخلوق على مثله، إنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول سبحانه: لم عصيتنى وتكبرت على ما لم تخلقه، وخلقته أنا. وشرفته، وأمرتك بالسجود له؟ فهذا موضع ما؛ لأن معناها أبلغ ولفظها أعم، وهو فى الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقطع، فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن خلقت، لكان استفهاما مجردا من توبيخ وتبكيت، ولتوهم أنه وجب السجود لله من حيث كان يعقل ولعلة موجودة فى ذاته وعينه، وليس المراد كذلك، وإنما المراد توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له؛ ولهذا عدل عن اسم آدم العلم مع كونه أخص، وأتى بالاسم الموصول الدال على جهة التشريف المقتضية لإسجاده له وهو كونه خلقه بيديه، وأنت لو وضعت مكان ما لفظة من لما رأيت هذا المعنى المذكور فى الصلة، وأن ما جىء بها وصلة إلى ذكر الصلة، فلا معنى إذن للتعيين بالذكر؛ إذ لو أريد التعيين لكان بالاسم العلم أولى وأخرى.

(3/324)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ اقْتَضَاهَا الْإِبْهَامُ، وَتَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ مَعَ أَنّ الْحِسّ مِنْهُمْ مَانِعٌ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودَهُ كَائِنًا مَا كَانَ، فَحَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، فَبِهَذِهِ الْقَرَائِنِ يَحْسُنُ وُقُوعُ مَا عَلَى أُولِي الْعِلْمِ «1» وَبَقِيَتْ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ يَتَعَيّنُ التّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، ثُمّ قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا، إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: مَا أَعْبُدُ، وَلَمْ يَقُلْ: مَا عَبَدْت، وَالنّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنّ مَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ- وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيّةً- تعطى معنى الشرط، فكأنه
__________
(1) يعبر ابن القيم عن «ما» فى قوله: «لا أعبد ما تعبدون، ما على بابها، لأنها رافعة على معبوده «ص» على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به، فقوله: «ولا أنتم عابدون ما أعبد» أى: لا أنتم تعبدون معبودى، ومعبوده هو «ص» كان عارفا به دونهم، وهم جاهلون به ... وقال بعضهم: إن ما هنا مصدرية لا موصولة. أى: لا تعبدون عبادتى، ويلزم من تنزيههم «لعلها تبرئته بدليل ما سيأتى» عن عبادته. تنزيههم «لعلها كالسابقة» عن المعبود، لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشىء؛ إذ المقصود براءته من معبوديهم وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى، فالمقصود: المعبود لا العبادة، ثم قال «وعندى وجه: وهو أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى بما الدالة على هذا المعنى، كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودى الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة من لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة، ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد تعريف محض، أو وصف مقتض لعبادته.. وهذا معنى قول محققى النحاة أن ما تأتى لصفات من يعلم ص 133 ح 1 بدائع الفوائد لابن القيم وما بعدها. وقد ذكر وجوها أخرى عظيمة أيضا

(3/325)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: مَهْمَا عَبَدْتُمْ شَيْئًا، فَإِنّي لَا أَعْبُدُهُ، وَالشّرْطُ يُحَوّلُ الْمُسْتَقْبِلَ إلَى لَفْظِ الْمَاضِي، تَقُولُ: إذَا قَامَ زَيْدٌ غَدًا فَعَلْت كَذَا، وَإِنْ خَرَجَ زَيْدٌ غَدًا خَرَجْت، فَمَا: فِيهَا رَائِحَةُ الشّرْطِ مِنْ أَجْلِ إبْهَامِهَا؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَلَا يَدْخُلُ الشّرْطُ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوّلِ السّورَةِ: مَا تَعْبُدُونَ؛ لِأَنّهُ حَالٌ لِأَنّ رَائِحَةَ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مَعَ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ رَائِحَةُ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِي قَوْلِهِ: عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ؛ لِأَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ عِبَادَةِ رَبّهِ؛ لِأَنّهُ مَعْصُومٌ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ تَقْدِيرُهُ بِمَهْمَا، كَمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِي حَقّهِمْ؛ لِأَنّهُمْ فِي قَبْضَةِ الشّيْطَانِ يَقُودُهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ؛ فَجَائِزٌ أَنْ يَعْبُدُوا الْيَوْمَ شَيْئًا، وَيَعْبُدُوا غَدًا غَيْرَهُ، وَلَكِنْ مَهْمَا عَبَدُوا شَيْئًا، فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَعْبُدُهُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ:
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، لِمَا عَلِمَ مِنْ عِصْمَةِ اللهِ لَهُ، وَلِمَا عَلِمَ اللهُ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الشّرْطِ فِي حَقّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الشّرْطُ فِي الْكَلَامِ بَقِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى لَفْظِهِ، كَمَا تَرَاهُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اضْطَرَبُوا فِي إعْرَابِهَا وَتَقْدِيرُهَا لَمّا كَانَتْ مَنْ بِمَعْنَى الّذِي، وَجَاءَ بَكَانِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفَهِمَهَا الزّجّاجُ، فَأَشَارَ إلَى أَنّ مَنْ فِيهَا طَرَفٌ مِنْ مَعْنَى الشّرْطِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ كَانَ بلفظ المعنى بَعْدَهُ، فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: مَنْ يَكُنْ صَبِيّا، فَكَيْفَ يُكَلّمُ؟! لَمّا أَشَارَتْ إلَى الصّبِيّ: أَنْ كَلّمُوهُ، وَلَوْ قَالُوا: كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ الْآنَ لَكَانَ الْإِنْكَارُ وَالتّعَجّبُ مَخْصُوصًا بِهِ، فَلَمّا قَالُوا: كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ، صَارَ الْكَلَامُ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِجَاجِ لِلْعُمُومِ الدّاخِلِ فِيهِ. إلَى هَذَا الْغَرَضِ أَشَارَ أَبُو إسْحَاقَ، وَهُوَ الّذِي أَرَادَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا لَفْظَهُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْعِبَارَاتِ،

(3/326)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْمَعَانِي الْمُتَلَقّاةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْإِشَارَاتِ «1» .
الزّقّومُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جَهْلٍ حِينَ ذَكَرَ شَجَرَةَ الزّقّومِ «2» يُقَالُ: إنّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ، وَأَنّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنّ أَهْلَ يَثْرِبَ: يَقُولُونَ تَزَقّمْتُ: إذَا أَكَلْت التّمْرَ بِالزّبْدِ، فَجَعَلَ بِجَهْلِهِ اسْمَ الزقوم من ذلك استهزاء، وقيل: إن لهذا الِاسْمَ أَصْلًا فِي لُغَةِ الْيَمَنِ، وَأَنّ الزّقّومَ عِنْدَهُمْ كُلّ مَا يُتَقَيّأُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ: أَنّ شَجَرَةً بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا: الزّقّومُ، لَا وَرَقَ لَهَا وَفُرُوعُهَا أَشْبَهُ شىء برؤس الْحَيّاتِ، فَهِيَ كَرِيهَةُ الْمَنْظَرِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سلام
__________
(1) أخذ ابن القيم ما قاله السهيلى وفصله بأسلوب أوضح فى بدائع الفوائد. ثم قال: «ان قيل: وكيف يكون فيها الشرط، وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة، فما أبعد الشرط منها، قلنا: لم نقل: إنها شرط نفسها، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين. وإبهامها فى المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته، فإذا قلت لرجل ما تخالفه فى كل ما يفعل: أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما فى كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام: مهما فعلت من شىء فإنى لا أفعله» . ثم قال: «فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التى من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم، بخلاف قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) لبعد ما فيها عن معنى الشرط تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواء. وأ ينتقل فى المعبودات تنقل الكافرين» ص 136 ج 1 بدائع الفوائد. وقد استوفى القول فى بدائع السورة العظيمة بأسلوب بديع رحمه الله
(2) يقول ابن كثير «لا شك فى دخوله- أى دخول أبى جهل- فى هذه الاية، ولكن ليست خاصة به»

(3/327)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَاوَرْدِيّ أَنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ فِي الْبَابِ السّادِسِ مِنْ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا، وَأَنّ أَهْلَ النّارِ يَنْحَدِرُونَ إلَيْهَا. قَالَ ابْنُ سَلّامٍ: وَهِيَ تَحْيَا بِاللهَبِ كَمَا تَحْيَا شَجَرَةُ الدّنْيَا بِالْمَطَرِ.
وقوله: الملعونة فى القرآن، أَيْ: الْمَلْعُونُ آكُلّهَا «1» ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهَا كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَلْعُونٌ أَيْ مَشْئُومٌ.
حَدِيثُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ، وَذَكَرَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ، وَأُمّ مَكْتُومٍ: اسْمُهَا:
عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ «2» .
وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي كَانَ شَغَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأنه الوليد ابن الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: كَانَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، وفى حديث الموطأ: عظيم من
__________
(1) ذكر البخارى وأحمد أنها شجرة الزقوم، وقد زعم أعداء بنى أمية أن المقصود بالشجرة هم بنو أمية، وأتوا بحديث قال عنه ابن كثير: وهو غريب ضعيف. وقد ذكر عنها فى القرآن ما هو قرين اللعنة: «إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم. طلعها كأنه رموس الشياطين» الصافات 64، 65 (إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فى البطون كغلى الحميم) الدخان: 43- 46. حسبنا أنها وصفت بأنها ملعونة لنؤمن بأنها ملعونة، هى ومن ستكون هى طعامه.
(2) فى نسب قريش عن أم مكتوم «تزوجها قيس بن زائدة بن الأصم ابن هدم بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ بن لؤى فولدت له عمرا، وهو الأعمى الذى ذكر الله تبارك وتعالى، فقال: «عبس وتولى أن جاءه الأعمى» . وفى الإصابة وجهرة ابن حزم أنه كان ابن خال خديجة. انظر ص 343 نسب قريش. وفى الجمهرة فى نسب أمه: عنكثه بن عائذ بن مخزوم وفى النسب: «عنكثة بن عامر» انظر ص 162 جمهرة ابن حزم

(3/328)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ «1» ، وَلَمْ يُسَمّهِ، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مِنْ الْفِقْهِ أَنْ لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَهَرَ فِي خِلْقَتِهِ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ، إلّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِازْدِرَاءَ، فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ بِهِ؛ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الْبَقَرَةُ: 67. وَفِي ذِكْرِهِ إيّاهُ بِالْعَمَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْإِشَارَةِ اللّطِيفَةِ التّنْبِيهُ عَلَى مَوْضِعِ الْعَتَبِ؛ لِأَنّهُ قَالَ:
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فَذَكَرَ الْمَجِيءَ مَعَ الْعَمَى، وَذَلِكَ ينبىء عَنْ تَجَشّمِ كُلْفَةٍ وَمَنْ تَجَشّمَ الْقَصْدَ إلَيْك عَلَى ضَعْفِهِ، فَحَقّك الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، لَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْتُوبًا عَلَى تَوَلّيهِ عَنْ الْأَعْمَى، فَغَيْرُهُ أَحَقّ بِالْعَتَبِ، مَعَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ آمَنَ بَعْدُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الْآيَةَ وَلَوْ كَانَ قَدْ صَحّ إيمَانُهُ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ أَعَرَضَ لَكَانَ الْعَتَبُ أَشَدّ، وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْبِرَ عَنْهُ، وَيُسَمّيهِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْعَمَى، دُونَ الِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لَوْ كَانَ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَإِنّمَا دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَدِنّنِي يَا مُحَمّدُ وَلَمْ يَقُلْ: اسْتَدِنّنِي «2» يَا رَسُولَ اللهِ، مَعَ أَنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْهَاءَ فِي لَعَلّهُ يَزّكّى عَائِدَةٌ عَلَى الْأَعْمَى، لَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنّهُ لَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ ذَكَرَ بَعْدُ، وَلَعَلّ
__________
(1) وعند أبى يعلى أن الرجل هو أبى بن خلف، وعنده فى رواية أخرى هو وابن جرير: رجل من عظماء المشركين، وكذا رواه الترمذى ومالك، وذكر ابن جرير وابن أبى حاتم أنهم: عتبة بن ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب
(2) فى ابن جرير والترمذى ومالك: أرشدنى كما ذكر ابن كثير، ولم يذكر

(3/329)