الروض
الأنف ت الوكيل [حَجّ أَبِي بَكْرٍ بالناس سنة تسع واختصاص
النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ بِتَأْدِيَةِ أَوّلِ بَرَاءَةٍ عَنْهُ وَذِكْرُ
بَرَاءَةَ وَالْقَصَصِ فِي تَفْسِيرِهَا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَقِيّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَوّالًا وَذَا الْقَعَدَةِ، ثُمّ
بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، لِيُقِيمَ
لِلْمُسْلِمِينَ حَجّهُمْ، وَالنّاسُ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ عَلَى
مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجّهِمْ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عنه ومن
معه من المسلمين.
وَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ، الّذِي كَانُوا
عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ: أَنْ لَا يُصَدّ عَنْ الْبَيْتِ
أَحَدٌ جَاءَهُ، وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشّهْرِ الْحِرَامِ. وَكَانَ
ذَلِكَ عَهْدًا عَامّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّاسِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ،
وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وَبَيْنَ قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ خَصَائِص، إلَى آجَالٍ مُسَمّاةٍ،
فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُ فِي
تَبُوكَ، وَفِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ، فَكَشَفَ اللهُ تَعَالَى
فِيهَا سَرَائِرَ أَقْوَامٍ كَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِغَيْرِ مَا
يُظْهِرُونَ، مِنْهُمْ مَنْ سَمّى لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمّ
لَنَا، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ أَيْ لِأَهْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/338)
العهد العام من أهل الشرك فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ:
أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحِجّةِ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ،
وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ،
وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ* إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَيْ العهد الخاصّ إلى الأجل المسمى
وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ: يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ
أَجَلًا فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَيْ مِنْ
هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَمَرْتُك بِقَتْلِهِمْ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
ثُمّ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ الّذِينَ كَانُوا هُمْ
وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامّ أَنْ لَا يُخِيفُوكُمْ وَلَا
يُخِيفُوهُمْ فِي الْحُرْمَةِ، وَلَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ عَهْدٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَهِيَ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ
كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، إلَى الْمُدّةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا
إلّا هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ؛ وَهِيَ الدّيلُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ
وَائِلٍ، الّذِينَ كَانُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/339)
دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ
وَعَهْدِهِمْ. فَأُمِرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ
مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدّتِهِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ: أَيْ
الْمُشْرِكُونَ الّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ إلَى مُدّةٍ مِنْ أَهْلِ
الشّرْكِ الْعَامّ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْإِلّ: الْحِلْفُ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ، أحد
بني أسيد بن عمرو بن تميم:
لَوْلَا بَنُو مَالِكٍ وَالْإِلّ مَرْقَبَةٌ ... وَمَالِكٌ فِيهِمْ
الْآلَاءُ وَالشّرَفُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمَعَهُ: آلَالَ، قَالَ
الشّاعِرُ:
فَلَا إلّ مِنْ الآلال بينى ... وبينكم فلا تألنّ حهدا
وَالذّمّةُ: الْعَهْدُ. قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ،
وهو أبو مسروق ابن الْأَجْدَعِ الْفَقِيهُ:
وَكَانَ عَلَيْنَا ذِمّةٌ أَنْ تُجَاوِزُوا ... مِنْ الْأَرْضِ مَعْرُوفًا
إلَيْنَا وَمُنْكَرًا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لَهُ وَجَمْعُهَا: ذِمَمٌ.
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ
فاسِقُونَ* اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ* لَا يَرْقُبُونَ فِي
مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أَيْ قَدْ
اعْتَدَوْا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/340)
عَلَيْكُمْ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
[اخْتِصَاصُ الرّسُولِ عَلِيّا بِتَأْدِيَةِ بَرَاءَةٌ عَنْهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ
حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ رِضْوَانُ اللهِ
عَلَيْهِ، أَنّهُ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ
الصّدّيقَ لِيُقِيمَ لِلنّاسِ الْحَجّ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ
بَعَثْت بِهَا إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَا يُؤَدّي عَنّي إلّا رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمّ دَعَا عَلِيّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال
لَهُ:
اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٍ، وَأَذّنْ فِي النّاسِ
يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى:
أَنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ
مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى
مُدّتِهِ، فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ
عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَضْبَاءَ، حَتّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ بِالطّرِيقِ، فَلَمّا رَآهُ
أَبُو بَكْرٍ بِالطّرِيقِ قَالَ: أَأَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ: بَلْ
مَأْمُورٌ، ثُمّ مَضَيَا. فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّاسِ الْحَجّ،
وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ
الْحَجّ، الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ، حَتّى إذَا كَانَ
يَوْمُ النّحْرِ، قَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِاَلّذِي أَمَرَهُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: أَيّهَا النّاسُ، إنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ، وَلَا
يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ،
وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ، وَأَجّلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/341)
النّاسَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ
أَذّنَ فِيهِمْ، لِيَرْجِعَ كُلّ قَوْمٍ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ
بِلَادِهِمْ؛ ثُمّ لَا عَهْدٌ لِمُشْرِكِ وَلَا ذِمّةٌ إلّا أَحَدٌ كَانَ
لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ إلَى
مُدّةٍ، فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ. فَلَمْ يَحُجّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ
مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
ثُمّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةٍ فِيمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ، وَأَهْلِ الْمُدّةِ إلَى
الْأَجَلِ الْمُسَمّى.
[مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِجِهَادِ أَهْلِ الشّرْكِ، مِمّنْ نَقَضَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ
الْخَاصّ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ، بَعْدَ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا إلّا أَنْ
يَعْدُوَ فِيهَا عَادٍ مِنْهُمْ، فَيُقْتَلُ بِعَدَائِهِ، فَقَالَ:
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ أى من بعد ذلك عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِما تَعْمَلُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/342)
[تفسير ابن
هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: وَلِيجَةً: دَخِيلٌ، وَجَمْعُهَا: وَلَائِجُ؛ وَهُوَ مِنْ
وَلَجَ يَلِجُ: أَيْ دَخَلَ يَدْخُلُ، وَفِي كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَلّ:
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ:
أَيْ يَدْخُلُ، يَقُولُ: لَمْ يَتّخِذُوا دَخِيلًا مِنْ دُونِهِ يُسِرّونَ
إلَيْهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ، نَحْوَ مَا يَصْنَعُ الْمُنَافِقُونَ،
يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلّذِينَ آمَنُوا وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ قَالَ الشّاعِرُ:
وَاعْلَمْ بِأَنّك قَدْ جُعِلْتَ وَلِيجَةً ... سَاقُوا إلَيْك الْحَتْفَ
غَيْرَ مَشُوبِ
[مَا نَزَلَ فِي الرّدّ عَلَى قُرَيْشٍ بِادّعَائِهِمْ عُمَارَةَ
الْبَيْتِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ: إنّا أَهْلُ
الْحَرَمِ، وَسُقَاةُ الْحَاجّ، وَعُمّارِ هَذَا الْبَيْتِ، فَلَا أَحَدَ
أَفْضَلُ مِنّا، فَقَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
: أَيْ إنّ عِمَارَتَكُمْ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللهِ أَيْ مَنْ عَمّرَهَا بِحَقّهَا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ
إِلَّا اللَّهَ: أَيْ فَأُولَئِكَ عُمّارُهَا فَعَسى أُولئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَعَسَى مِنْ اللهِ: حَقّ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.
[مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ]
ثُمّ الْقِصّةُ عَنْ عَدُوّهِمْ، حَتّى انْتَهَى إلَى ذِكْرِ حُنَيْنٍ،
وَمَا كَانَ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/343)
وَتُوَلّيهِمْ عَنْ عَدُوّهِمْ، وَمَا
أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ نَصْرِهِ بَعْدَ تَخَاذُلِهِمْ، ثُمّ قَالَ
تَعَالَى:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وَذَلِكَ أن الناس قالوا:
لتنقطعنّ عنّا الأسواق، فلتهكنّ التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من
المرافق، فَقَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ:
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ:
أَيْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ،
وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ: أَيْ فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمّا تَخَوّفْتُمْ
مِنْ قَطْعِ الْأَسْوَاقِ، فَعَوّضَهُمْ اللهُ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ
بِأَمْرِ الشّرْكِ، مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ،
مِنْ الْجِزْيَةِ.
[مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ]
ثُمّ ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ بِمَا فِيهِمْ مِنْ الشّرّ
وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ، حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ
كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ
بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
[مَا نَزَلَ فِي النّسِيءِ]
ثُمّ ذَكَرَ النّسِيءَ، وَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ أَحْدَثَتْ فِيهِ.
وَالنّسِيءُ مَا كَانَ يُحِلّ مِمّا حَرّمَ اللهُ تَعَالَى مِنْ الشّهُورِ،
وَيُحَرّمُ مِمّا أَحَلّ اللهُ مِنْهَا، فَقَالَ: إِنَّ عِدَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/344)
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ
شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، مِنْها
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ: أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا، وَلَا حَلَالهَا
حَرَامًا: أَيْ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشّرْكِ إِنَّمَا النَّسِيءُ الّذِي
كَانُوا يَصْنَعُونَ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمالِهِمْ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
[مَا نَزَلَ فِي تَبُوكَ]
ثُمّ ذَكَرَ تَبُوكَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ تَثَاقُلِ الْمُسْلِمِينَ
عَنْهَا، وَمَا أَعْظَمُوا مِنْ غَزْوِ الرّومِ، حِينَ دَعَاهُمْ رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى جهادهم، ونفاق من نافق من المنافقين، حين دعوا إلى
مادعوا إلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ، ثُمّ مَا نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ
إحْدَاثِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمّ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ إلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ
[مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ]
ثُمّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، يَذْكُرُ
أَهْلَ النّفَاقِ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً
لَاتَّبَعُوكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/345)
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ
اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ: أَيْ إنّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ ... إلَى قَوْلِهِ:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا
خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيب]
قال ابن هِشَامٍ: أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ: سَارُوا بَيْنَ أَضْعَافِكُمْ،
فَالْإِيضَاعُ:
ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ أَسْرَعَ مِنْ الْمَشْيِ؛ قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ
مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ:
يَصْطَادُك الْوَحَدَ الْمُدِلّ بِشَأْوِهِ ... بِشَرِيجٍ بَيْنَ الشّدّ
وَالْإِيضَاعِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[عَوْدٌ إلَى مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ مِنْ ذوى الشرف،
فيما بلغنى، منهم: عبد الله بن أبىّ بن سَلُولَ، وَالْجَدّ بْنُ قِيسٍ؛
وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ، فَثَبّطَهُمْ اللهُ لِعِلْمِهِ
بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ، فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ، وَكَانَ
فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبّةٍ لَهُمْ، وَطَاعَةٍ فِيمَا
يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ، لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى:
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ
ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ:
أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوك، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: أَيْ
لِيَخْذُلُوا عَنْك أَصْحَابَك وَيَرُدّوا عَلَيْك أَمْرَك حَتَّى جاءَ
الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/346)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا
تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَكَانَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ،
فِيمَا سُمّيَ لَنَا، الْجَدّ بْنُ قِيسٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، حِينَ
دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِهَادِ
الرّومِ. ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا
إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها
رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ: أَيْ إنّمَا
نِيّتُهُمْ وَرِضَاهُمْ وَسَخَطَهُمْ لِدُنْيَاهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الصّدَقَاتِ]
ثُمّ بَيّنَ الصّدَقَاتِ لِمَنْ هِيَ وَسَمّى أَهْلَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها،
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[مَا نَزَلَ فِيمَنْ آذَوْا الرّسُولَ]
ثُمّ ذَكَرَ غَشّهُمْ وَأَذَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
فَقَالَ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ
أُذُنٌ، قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَكَانَ الّذِي يَقُولُ
تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فِيمَا بَلَغَنِي، نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ
أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا
صَدّقَهُ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ: أى يسمع
الخير ويصدّق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/347)
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمّ قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ...
إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ
طائِفَةً، وكان الذى قال وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ، أَخُو بَنِي أُمَيّةَ
بْنِ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ الّذِي عُفِيَ
عَنْهُ، فِيمَا بَلَغَنِي: مُخَشّنَ بْنَ حُمَيّرٍ الْأَشْجَعِيّ، حَلِيفَ
بَنِي سَلِمَةَ، وَذَلِكَ أَنّهُ أَنْكَرَ مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ.
ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ صِفَتِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا
بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، وَما نَقَمُوا إِلَّا
أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... إلَى قَوْلِهِ:
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَكَانَ الّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ
الْجُلَاسَ بْنَ سُوَيْد بْنِ صَامِتٍ، فَرَفَعَهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ
فِي حِجْرِهِ، يُقَال لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، فَأَنْكَرَهَا وَحَلَفَ
بِاَللهِ مَا قَالَهَا، فَلَمّا نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ تَابَ وَنَزَعَ،
وَحَسُنَتْ حَالُهُ وَتَوْبَتُهُ، فِيمَا بَلَغَنِي.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ
الّذِي عَاهَدَ اللهَ مِنْهُمْ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ، وَمُعَتّبَ بْنَ
قُشَيْرٍ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
ثُمّ قَالَ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الصَّدَقاتِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/348)
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا
جُهْدَهُمْ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ وَكَانَ الْمُطّوّعُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصّدَقَاتِ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيّ أَخَا
بَنِي الْعَجْلَانِ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ رَغّبَ فِي الصّدَقَةِ، وَحَضّ عَلَيْهَا، فَقَامَ عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَتَصَدّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَامَ
عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ، فَتَصَدّقَ بمائة وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَزُوهُمَا
وَقَالُوا مَا هَذَا إلّا رِيَاءٌ، وَكَانَ الّذِي تَصَدّقَ بِجَهْدِهِ
أَبُو عُقَيْلٍ أَخُو بَنِي أُنَيْفٍ، أَتَى بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ،
فَأَفْرَغَهَا فِي الصّدَقَةِ، فَتَضَاحَكُوا بِهِ، وَقَالُوا: إنّ اللهَ
لَغَنِيّ عَنْ صَاعِ أَبِي عُقَيْلٍ.
ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِالسّيْرِ إلَى تَبُوكَ،
عَلَى شِدّةِ الْحَرّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا
لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ... إلَى قَوْلِهِ: وَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ.
[مَا نَزَلَ بِسَبَبِ صَلَاةِ النّبِيّ عَلَى ابْنِ أَبَيّ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ بن عقبة، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ يَقُولُ: لَمّا تُوُفّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبَيّ، دُعِيَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلصّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ
إلَيْهِ؛ فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلَاةَ تَحَوّلْتُ حَتّى
قُمْت فِي صَدْرِهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُصَلّي عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/349)
عدوّ الله عبد بن أبىّ بن سَلُولَ؟
الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا، وَالْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا؟ أُعَدّدُ
أَيّامَهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذ أَكْثَرْت
قَالَ:
يَا عُمَرُ أَخّرْ عَنّي، إنّي قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت، قَدْ قِيلَ لِي:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، فَلَوْ أَعْلَمُ
أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ، لَزِدْت. قَالَ ثُمّ صَلّى
عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَمَشَى مَعَهُ
حَتّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ، حَتّى فُرِغَ مِنْهُ. قَالَ: فَعَجِبْت لِي
وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاَللهُ وَرَسُولُهُ أعلم. فو الله مَا كَانَ إلّا يَسِيرًا حَتّى
نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ فَمَا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ حَتّى قَبَضَهُ اللهُ
تَعَالَى.
[مَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَأْذِنِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ، وكان ابن أبىّ من مِنْ أُولَئِكَ، فَنَعَى اللهُ
ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ منه، ثم قال تعالى: لكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،
وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ
الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ... إلَى آخِرِ الْقِصّةِ. وَكَانَ الْمُعَذّرُونَ، فِيمَا
بَلَغَنِي نَفَرًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ أَيْمَاءَ
بْنِ رَحْضَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(7/350)
ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ لِأَهْلِ
الْعُذْرِ، حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا
ما يُنْفِقُونَ وهم البكاؤن.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
وَالْخَوَالِفُ: النّسَاءُ. ثُمّ ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَاعْتِذَارَهُمْ، فَقَالَ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ.
[مَا نَزَلَ فِيمَنْ نَافَقَ مِنْ الْأَعْرَابِ]
ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ وَمَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ وَتَرَبّصُهُمْ
بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ،
فَقَالَ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ: أَيْ مِنْ
صَدَقَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوائِرَ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ أَهْلَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ،
فَقَالَ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ،
أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي السّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ]
ثُمّ ذَكَرَ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ، وَفَضْلَهُمْ، وَمَا وَعَدَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/351)
اللهُ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ إيّاهُمْ،
ثُمّ أَلْحَقَ بِهِمْ التّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، فَقَالَ:
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَمِمَّنْ
حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: أَيْ لَجّوا فِيهِ، وَأَبَوْا غيره
سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، والعذاب الذى أوعدها الله تعالى مرّتين، فيما
بلغنى: غَمّهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَمَا
يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ حِسْبَةٍ، ثُمّ
عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ إذَا صَارُوا إلَيْهَا، ثُمّ الْعَذَابُ
الْعَظِيمُ الّذِي يُرِدّونَ إلَيْهِ، عَذَابُ النّارِ وَالْخُلْدُ فِيهِ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا
يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ الثّلَاثَةُ الّذِينَ
خُلّفُوا، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمْرَهُمْ حَتّى أَتَتْ مِنْ اللهِ تَوْبَتُهُمْ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... إلَخْ.
الْقِصّةُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.
ثُمّ كَانَ قِصّةُ الْخَبَرِ عَنْ تَبُوكَ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَى آخِرِ
السّورَةِ.
وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ تُسْمَى فِي زَمَانِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَبَعْدَهُ الْمُبَعْثِرَةَ، لَمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرِ
الناس. وكانت تبوك آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
[شِعْرُ حَسّانَ الّذِي عَدّدَ فِيهِ الْمَغَازِيَ]
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَدّدُ أَيّامَ الْأَنْصَارِ مَعَ النّبِيّ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَيَذْكُرُ مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي
أَيّامِ غَزْوِهِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/352)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لَابْنِهِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ بن حسان:
أَلَسْتُ خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا ... وَمَعْشَرًا إنْ هُمْ عُمّوا
وَإِنْ حُصِلُوا
قَوْمٌ هُمْ شَهِدُوا بَدْرًا بِأَجْمَعِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ فَمَا
أَلَوْا وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أَحَدٌ ... مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُ فِي
إيمَانِهِمْ دَخَلُ
وَيَوْمَ صَبّحَهُمْ فِي الشّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرّ
النّارِ مُشْتَعِلُ
وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ ... عَلَى الْجِيَادِ فَمَا
خَامُوا وَمَا نَكَلُوا
وَذَا الْعَشِيرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ عَلَيْهَا
الْبَيْضُ وَالْأَسَلُ
وَيَوْمَ وَدّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا ... بِالْخَيْلِ حَتّى
نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ
وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوّهُمْ ... لِلّهِ وَاَللهُ يَجْزِيهِمْ
بِمَا عَمِلُوا
وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثُمّ كَانَ لَهُمْ ... مَعَ الرّسُولِ بِهَا
الْأَسْلَابُ وَالنّفَلُ
وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ ... فِيهَا يَعُلّهُمْ بِالْحَرْبِ
إذْ نَهِلُوا
وَغَزْوَةَ الْقَاعِ فَرّقْنَا الْعَدُوّ بِهِ ... كَمَا تُفَرّقُ دُونَ
الْمَشْرَبِ الرّسَلُ
وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ ... عَلَى الْجِلَادِ
فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا
وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيّتِهِ ... مُرَابِطِينَ فَمَا
طَاشُوا وَمَا عَجِلُوا
وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ ... يَمْشُونَ كُلّهُمْ
مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ
بِالْبِيضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِيَةً ... تَعْوَجّ فِي الضّرْبِ
أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ
وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللهِ مُحْتَسِبًا ... إلَى تَبُوكَ وَهُمْ
رَايَاتُهُ الْأُوَلُ
وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمْ ... حَتّى بَدَا لَهُمْ
الْإِقْبَالُ وَالْقَفَلُ
أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النّبِيّ وَهُمْ ... قَوْمِي أَصِيرُ
إلَيْهِمْ حين أتّصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/353)
مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ
عُهُودُهُمْ ... وَقَتْلُهُمْ فِي سبيل الله إذ قتلوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَجُزُ آخِرِهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
كُنّا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَ مُحَمّدٍ ... فَلَمّا أَتَى الْإِسْلَامُ
كَانَ لَنَا الْفَضْلُ
وَأَكْرَمَنَا اللهُ الّذِي لَيْسَ غَيْرَهُ ... إلَهٌ بِأَيّامٍ مَضَتْ
مَا لَهَا شَكْلُ
بِنَصْرِ الْإِلَهِ والرّسول ودينه ... وألبسناه اسما مضى ماله مِثْلُ
أُولَئِكَ قَوْمِي خَيْرُ قَوْمٍ بِأَسْرِهِمْ ... فَمَا عُدّ مِنْ خَيْرٍ
فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
يَرُبّونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفِ مَنْ مَضَى ... وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ
دُونَ مَعْرُوفِهِمْ قُفْلُ
إذَا اخْتُبِطُوا لَمْ يُفْحِشُوا فِي نَدِيّهِمْ ... وَلَيْسَ عَلَى
سُؤَالِهِمْ عِنْدَهُمْ بُخْلُ
وَإِنْ حَارَبُوا أَوْ سَالَمُوا لَمْ يُشَبّهُوا ... فَحَرْبُهُمْ حَتْفٌ
وَسِلْمُهُمْ سَهْلُ
وَجَارُهُمْ مُوفٍ بِعَلْيَاءَ بَيْتُهُ ... لَهُ مَا ثَوَى فِينَا
الْكَرَامَةُ وَالْبَذْلُ
وَحَامِلُهُمْ مُوفٍ بِكُلّ حَمَالَةٍ ... تَحَمّلَ لَا غُرْمٌ عَلَيْهَا
وَلَا خَذْلُ
وَقَائِلهُمْ بِالْحَقّ إنْ قَالَ قَائِلٌ ... وَحِلْمُهُمْ عَوْدٌ
وَحُكْمُهُمْ عَدْلُ
وَمِنّا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ حَيَاتَهُ ... ومن غسّلته من جنابته الرّسل
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَوْلُهُ «وَأَلْبَسْنَاهُ اسْمًا» عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
قَوْمِي أُولَئِكَ إنْ تَسْأَلِي ... كِرَامٌ إذَا الضّيْفُ يَوْمًا أَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/354)
عِظَامُ الْقُدُورِ لِأَيْسَارِهِمْ ...
يَكُبّونَ فِيهَا الْمُسِنّ السّنِمْ
يُؤَاسُونَ جَارَهُمْ فِي الْغِنَى ... وَيَحْمُونَ مَوْلَاهُمْ إنْ ظُلِمْ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيّهِمْ ... يُنَادُونَ عَضْبًا بِأَمْرِ غُشُمْ
مُلُوكًا عَلَى النّاسِ، لَمْ يُمْلَكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ
الْقَسَمْ
فَأَنْبَوْا بِعَادٍ وَأَشْيَاعِهَا ... ثَمُودَ وَبَعْضِ بَقَايَا إرَمْ
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا
النّعَمْ
نَوَاضِحَ قد علّمتها اليهو ... د (عل) إليك وقولا هلم
وفيما اشْتَهَوْا مِنْ عَصِيرِ الْقِطَا ... فِ وَالْعَيْشِ رَخْوًا عَلَى
غَيْرِ هَمْ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ بِأَثْقَالِنَا ... عَلَى كُلّ فَحْلٍ هِجَانٍ قَطِمْ
جَنَبْنَا بِهِنّ جِيَادَ الخيو ... لِ قَدْ جَلّلُوهَا جِلَالَ الْأَدَمْ
فَلَمّا أَنَاخُوا بِجَنْبَيْ صِرَارٍ ... وَشَدّوا السّرُوجَ بَلِيّ
الْحُزُمْ
فَمَا رَاعَهُمْ غَيْرُ مَعْجِ الْخُيُو ... لِ وَالزّحْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ
قَدْ دَهِمْ
فَطَارُوا سِرَاعًا وَقَدْ أُفْزِعُوا ... وَجِئْنَا إلَيْهِمْ كَأُسْدِ
الْأُجُمْ
عَلَى كُلّ سَلْهَبَةٍ فِي الصّيَا ... نِ لَا يَشْتَكِينَ نَحُولَ
السّأَمْ
وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارُ الْفُؤَادِ ... أَمِينِ الْفُصُوصِ كَمِثْلِ
الزّلَمْ
عَلَيْهَا فَوَارِسُ قَدْ عُوّدُوا ... قِرَاعَ الْكُمَاةِ وَضَرْبَ
الْبُهَمْ
مُلُوكٌ إذَا غَشَمُوا فِي الْبِلَا ... دِ لَا يَنْكُلُونَ وَلَكِنْ
قُدُمْ
فَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ وَالنّسَاءِ ... وَأَوْلَادُهُمْ فِيهِمْ
تُقْتَسَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/355)
وَرِثْنَا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَهُمْ ...
وَكُنّا مُلُوكًا بِهَا لَمْ نرم
فلمّا أتانا الرّسول الرّشي ... د بِالْحَقّ وَالنّورِ بَعْدَ الظّلْمْ
قُلْنَا صَدَقْتَ رَسُولَ الْمَلِيكِ ... هَلُمّ إلَيْنَا وَفِينَا أَقِمْ
فَنَشْهَدَ أَنّكَ عبد الإل ... هـ أُرْسِلَتْ نُورًا بِدِينٍ قِيَمْ
فَأَنَا وَأَوْلَادُنَا جُنّةٌ ... نَقِيكَ وَفِي مَالِنَا فَاحْتَكِمْ
فَنَحْنُ أُولَئِكَ إنْ كَذّبُوك ... فَنَادِ نِدَاءً وَلَا تَحْتَشِمْ
وَنَادِ بِمَا كنت أخفيته ... نداء جهارا ولا تكتتم
فصار الْغُوَاةُ بِأَسْيَافِهِمْ ... إلَيْهِ يَظُنّونَ أَنْ يُخْتَرَمْ
فَقُمْنَا إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا ... نُجَالِدُ عَنْهُ بُغَاةَ
الْأُمَمْ
بِكُلّ صَقِيلٍ لَهُ مَيْعَةٌ ... رَقِيقِ الذّبّابِ عَضُوضٍ خَذِمْ
إذَا مَا يُصَادِفُ صُمّ الْعِظَا ... مِ لَمْ ينب عنها ولم ينثلم
فَذَلِكَ مَا وَرّثَتْنَا الْقُرُو ... مُ مَجْدًا تَلِيدًا وَعِزّا أَشَمْ
إذَا مَرّ نَسْلٌ كَفَى نَسْلُهُ ... وَغَادَرَ نَسْلًا إذَا مَا انْفَصَمْ
فَمَا إنْ مِنْ النّاسِ إلّا لَنَا ... عَلَيْهِ وَإِنْ خَاسَ فَضْلُ
النّعَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ بَيْتَهُ:
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيّهِمْ ... يُنَادُونَ غُضْبًا بِأَمْرِ غُشُمْ
وَأَنْشَدَنِي:
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا
النّعَمْ
وَبَيْتُهُ: «وكلّ كميت مطار الفؤاد» عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/356)
ذِكْرُ سَنَةِ تِسْعٍ وَتَسْمِيَتِهَا
سَنَةَ الْوُفُودِ وَنُزُولِ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ،
وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ، وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إلَيْهِ
وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَأَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى سَنَةَ الْوُفُودِ.
انْقِيَادُ الْعَرَبِ وَإِسْلَامُهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَإِنّمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَبّصُ بِالْإِسْلَامِ أَمْرَ هَذَا الْحَيّ
مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا إمَامَ النّاسِ وَهَادِيَهُمْ وَأَهْلَ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَقَادَةَ الْعَرَبِ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ الّتِي نَصَبَتْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافِهِ فَلَمّا اُفْتُتِحَتْ مَكّةُ،
وَدَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ، وَدَوّخَهَا الْإِسْلَامُ وَعَرَفَتْ الْعَرَبُ
أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا عَدَاوَتِهِ فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ كَمَا قَالَ عَزّ
وَجَلّ أَفْوَاجًا، يَضْرِبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ يَقُولُ اللهُ
تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ
تَوَّاباً} [النَّصْر:1،3] أَيْ فَاحْمَدْ اللهَ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ
دِينِك، وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/357)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَزْوَةُ تَبُوكَ سُمّيَتْ بِعَيْنِ تَبُوكَ، وَهِيَ الْعَيْنُ الّتِي
أَمَرَ رَسُولُ الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النّاسَ أَلَا
يَمَسّوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، فَسَبَقَ إلَيْهَا رَجُلَانِ، وَهِيَ
تَبِضُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَا يُدْخِلَانِ فِيهَا سَهْمَيْنِ
لِيَكْثُرَ مَاؤُهَا، فَسَبّهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُمَا: مَا زُلْتُمَا تَبُوكَانِهَا مُنْذُ الْيَوْم
فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ، قَالَ:
وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْعَيْنُ تَبُوكَ «1» ، وَالْبَوْكُ كَالنّقْشِ
وَالْحَفْرِ فِي الشّيْءِ، وَيُقَالُ مِنْهُ: بَاكَ الْحِمَارُ الْأَتَانَ
يَبُوكُهَا إذَا نَزَا عَلَيْهَا.
وَوَقَعَ فِي السّيرَةِ: فَقَالَ: مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا؟ فَقِيلَ
لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: فِيمَا ذُكِرَ لِي، سَبَقَهُ إلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ
الطّائِيّ، وَوَدِيعَةُ بن ثابت، وزيد ابن لُصَيْتٍ.
وَذَكَرَ الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ، وَقَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهُ: يَا جَدّ هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَر،
يُقَالُ: إنّ الرّومَ قِيلَ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ، لأن عيصو ابن
إسْحَاقَ كَانَ بِهِ صُفْرَةٌ، وَهُوَ جَدّهُمْ، وَقِيلَ: إنّ الرّومَ بْنَ
عِيصُو هُوَ الْأَصْفَرُ، وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَأُمّهُ نَسْمَةُ بِنْتُ
إسْمَاعِيلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَنْ وَلَدَتْ مِنْ
الْأُمَمِ، وَلَيْسَ كُلّ الرّومِ مِنْ وَلَدِ بَنِي الْأَصْفَرِ، فإن
__________
(1) هو فى معجم البكرى. وقد روى مالك ومسلم هذا الحديث بغير هذا اللفظ راجع
فتح البارى ص 89 وما بعدها ج 1.
(7/358)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّومَ الْأُوَلَ هُمْ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ
بْنِ نُوحٍ، وَاَللهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَصِحّتِهَا.
وَذَكَرَ يُونُسَ بِإِثْرِ حَدِيثِ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنّ الْيَهُودَ أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنْ كُنْت
صَادِقًا أَنّك نَبِيّ فَالْحَقْ بِالشّامِ، فَإِنّ الشّامَ أَرْضُ
الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَصَدّقَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَالُوا فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ
إلّا الشّامَ، فَلَمّا بَلَغَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ آيَاتٍ
مِنْ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ بعد ما خُتِمَتْ السّورَةُ وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ- إلَى قَوْلِهِ: تَحْوِيلًا الْإِسْرَاءُ: 76، 77.
فَأَمَرَهُ بِالرّجُوعِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا مَحْيَاك،
وَفِيهَا مَمَاتُك، وَمِنْهَا تُبْعَثُ «1» ، ثُمّ قَالَ أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى قَوْلِهِ مَحْمُوداً الْإِسْرَاءُ. 78، 79
فَرَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ
جِبْرِيلُ، فَقَالَ: سَلْ
__________
(1) بقول ابن كثير فى تفسيره عن هذا الحديث المذكور الذى رواه البيهقى «وفى
هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح. فإن النبى صلى الله عليه وسلم
لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)
ولقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
الآية وغزاها ليقتص وينتقم بمن قتل أهل مؤتة من أصحابه. وقيل: إنها نزلت فى
كفار قريش حين هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم،
فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا،
وكذلك وقع.
(7/359)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَبّك، فَإِنّ لِكُلّ نَبِيّ مَسْأَلَةً، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السّلَامُ لَهُ نَاصِحًا، وَكَانَ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهُ مُطِيعًا، فَقَالَ: مَا تأمرنى أن أسأل؟ قال: (قل: رَبّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ
لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) وَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي
رَجْعَتِهِ مِنْ تَبُوكَ «1» .
إبْطَاءُ أَبِي ذَرّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ، وَإِبْطَاءَهُ. وَاسْمُهُ:
جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ، هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ
فِيهِ: بَرِيرُ بْنُ عِشْرِقَةَ، وَجُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَابْنُ
السّكَنِ «2» أَيْضًا.
وَقَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا ذَرّ،
وَفِي أَبِي خَيْثَمَةَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، لَفْظُهُ لَفْظُ
الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الدّعَاءُ، كَمَا تَقُولُ: أَسْلِمْ سَلّمَك اللهُ
إعْرَابُ كَلِمَةِ وَحْدَهُ:
وَقَوْلُهُ فِي أَبِي ذَرّ: رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ،
وَيَمُوتُ وحد «3» ،
__________
(1) عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة
فأنزل الله هذه الآية. رواه أحمد وقال الترمذى: حسن صحيح.
(2) فى الإصابة: ابن سكن، وقيل فى اسمه برير بالتصغير. ونسبه كما ورد فى
الإمتاع للمقريزى بعد جنادة: «ابن قيس بن عمرو بن خليل بن صعير بن حرام بن
غفار» وفى الإصابة «وقيل اسمه هو السكن بن جنادة بن قيس بن بياض» الخ كما
ورد فى الإمتاع.
(3) يقول ابن حجر فى الإصابة: عن سند قصة ابن إسحاق فهذا سند ضعيف.
(7/360)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: يَمُوتُ مُنْفَرِدًا، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْحَالُ
لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْفِعْلِ نَحْوَ كَلّمَنِي زَيْدٌ وَحْدَهُ،
أَيْ: مُنْفَرِدًا بِهَذَا الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ
غَيْرُهُ، أَيْ: كَلّمَنِي خُصُوصًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْت: كَلّمْته مِنْ
بَيْنِهِمْ وَحْدَهُ، كَانَ مَعْنَاهُ خُصُوصًا كَمَا قَرّرَهُ
سِيبَوَيْهِ، وَأَمّا الّذِي فِي الْحَدِيثِ، فَلَا يَتَقَدّرُ هَذَا
التّقْدِيرَ، لِأَنّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمُوتَ خُصُوصًا، وَإِنّمَا
مَعْنَاهُ: مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ، أَيْ: عَلَى حِدَتِهِ، كَمَا قَالَ
يُونُسُ، فَقَوْلُ يُونُسَ صَالِحٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَتَقْدِيرُ
سِيبَوَيْهِ لَهُ بِالْخُصُوصِ يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي
أَكْثَرِ الْمَوَاطِنِ، وَإِنّمَا لَمْ يَتَعَرّفْ وَحْدَهُ
بِالْإِضَافَةِ، لِأَنّ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى لَا غير، ولأنها كلمة تنبىء
عَنْ نَفْيٍ وَعَدَمٍ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ مُتَعَرّفًا مُتَعَيّنًا بِالْإِضَافَةِ، وَإِنّمَا لَمْ يُشْتَقّ
مِنْهُ فِعْلٌ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فِي الظّاهِرِ لِمَا قَدّمْنَاهُ
مِنْ أَنّهُ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمٍ وَنَفْيٍ، وَالْفِعْلُ يَدُلّ
عَلَى حدث وزمان، فكيف يشتق من شىء ليس بِحَدَثٍ إنّمَا هُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ انْتِفَاءِ الْحَدَثِ عَنْ كُلّ أَحَدٍ إلّا عَنْ زَيْدٍ، مَثَلًا
إذَا قُلْت:
جَاءَنِي زَيْدٌ وَحْدَهُ، أَيْ: لَمْ يَجِئْ غَيْرُهُ، وَإِنّمَا يُقَالُ:
انْعَدَمَ وَانْتَفَى بَعْدَ الْوُجُودِ لَا قَبْلَهُ، لِأَنّهُ أَمْرٌ
مُتَجَدّدٌ كَالْحَدَثِ، وقد أطنبنا فى هذا الغرض، وردناه بَيَانًا فِي
مَسْأَلَةِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ وَشَرْحِهَا.
أَجَأٌ وَسَلْمَى:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي طَرَحَتْهُ الريح بجبلى طىّء، وهما أجأ
وسلمى وَعَرّفَ أَجَأً بِأَجَأِ بْنِ عَبْدِ الْحَيّ كَانَ صُلِبَ فِي
ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَسَلْمَى صُلِبَتْ
(7/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْجَبَلِ الْآخَرِ، فَعُرِفَ بِهَا، وَهِيَ سَلْمَى بنت خام فِيمَا
ذُكِرَ وَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
أُكَيْدِرٌ وَالْكِتَابُ الّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كِتَابَهُ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ. وودومة بِضَمّ الدّالِ
هِيَ هَذِهِ، وَعُرِفَتْ بِدُومِيّ «2» بْنِ إسْمَاعِيلَ فِيمَا ذَكَرُوا،
وَهِيَ دُومَةُ الْجَنْدَلِ، وَدُومَةُ بِالضّمّ أُخْرَى، وَهِيَ عِنْدَ
الْحِيرَةِ، وَيُقَالُ لِمَا حَوْلَهَا النّجَفُ، وَأَمّا دَوْمَةُ
بِالْفَتْحِ فَأُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ الرّدّةِ «3» .
وَذَكَرَ أَنّهُ كَتَبَ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ كِتَابًا فِيهِ عَهْدٌ
وَأَمَانٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
أَنَا قَرَأْته، أَتَانِي بِهِ شَيْخٌ هُنَالِكَ فِي قَضِيمٍ، وَالْقَضِيمُ
الصّحِيفَةُ، وَإِذَا فِيهِ:
«بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ
لِأُكَيْدِرٍ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ
وَالْأَصْنَامَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيْفِ اللهِ فِي دُومَةِ
الْجَنْدَلِ وَأَكْنَافِهَا، إنّ لَنَا الضّاحِيَةَ مِنْ الضّحْلِ
وَالْبَوْرَ وَالْمَعَامِيَ، وَأَغْفَالَ الْأَرْضِ وَالْحَلْقَةَ
وَالسّلَاحَ وَالْحَافِرَ وَالْحِصْنَ وَلَكُمْ الضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ
وَالْمَعِينِ مِنْ الْمَعْمُورِ لَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ، وَلَا تُعَدّ
فَارِدَتُكُمْ وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ، تُقِيمُونَ الصلاة
لوقتها، وتؤنون الزّكاة بحقّها، عليكم بذلك عهد الله
__________
(1) أنظر معجم البكرى مادة أجأ وسلمى.
(2) ويطلق عليه أيضا: دومان.
(3) أنظر البكرى فى دومة. فهو يقول عن دومة بفتح الدال موضع بين الشام
والموصل، وهى من منازل جذيمة الأبرش. ودومة الكوفة بضم الدال هى النجف
بعينه.
(7/362)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمِيثَاقُ، وَلَكُمْ بِذَلِكَ الصّدْقُ وَالْوَفَاءُ. شَهِدَ اللهُ،
وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» الضّاحِيَةُ: أَطْرَافُ الْأَرْضِ،
وَالْمَعَامِي: مَجْهُولُهَا، وَأَغْفَالُ الْأَرْضِ: مَا لَا أَثَرَ
لَهُمْ فِيهِ مِنْ عِمَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَالضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ:
مَا دَاخَلَ بَلَدَهُمْ، وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ، أَيْ لَا
تُمْنَعُونَ مِنْ الرّعْيِ حَيْثُ شِئْتُمْ، وَلَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ،
أَيْ لَا تُحْشَرُ إلَى الْمُصَدّقِ «1» وَإِنّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ بَعْضَ
هَذِهِ الْأَرَضِينَ مَعَ الْحَلْقَةِ، وَهِيَ السّلَاحُ، وَلَمْ يفعل ذلك
مع أهل الطائف حين جاؤا تَائِبِينَ، لِأَنّ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ
وَأَخَذَ مَلِكَهُمْ أَسِيرًا، وَلَكِنّهُ أَبْقَى لَهُمْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ مَا تَضَمّنَهُ الْكِتَابُ، لِأَنّهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ،
حَتّى يَأْخُذَهُمْ عَنْوَةً كَمَا أَخَذَ خَيْبَر، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ لَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلّهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُ
الخيار فى رقابهم كما تقدم ولو جاؤا إلَيْهِ تَائِبِينَ أَيْضًا قَبْلَ
الْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، كَمَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَا أَخَذَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا.
الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ:
وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا كَانَ مِنْ
أَمْرِ هِرَقْلَ، فَإِنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ تَبُوكَ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، وَنَصّهُ
مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ مَشْهُورٌ، فَأَمَرَ هِرَقْلُ مُنَادِيًا
يُنَادِي: أَلَا إنّ هِرَقْلَ قَدْ آمَن بِمُحَمّد وَاتّبَعَهُ، فَدَخَلَتْ
الْأَجْنَادُ فِي سِلَاحِهَا، وأطافت بقصره تريد قتله،
__________
(1) لا تعدل سارحتكم فسرها صاحب النهاية بقوله: لا تصرف ما شيتكم عن
مرعاها. والغادرة: الزائدة على الفريضة، أى: لا تضم إلى غيرها، فتعد معها،
وتحسب.
(7/363)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ: إنّي أَرَدْت أَنْ أَخْتَبِرَ صَلَابَتَكُمْ فِي
دِينِكُمْ، فَقَدْ رَضِيت عَنْكُمْ فَرَضُوا عَنْهُ، ثُمّ كَتَبَ كِتَابًا،
وَأَرْسَلَهُ مَعَ دِحْيَةَ يَقُولُ فِيهِ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنّي مُسْلِمٌ، وَلَكِنّي مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِي،
وَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِهَدِيّةٍ، فَلَمّا قَرَأَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ، قَالَ: كَذَبَ عَدُوّ اللهِ لَيْسَ
بِمُسْلِمٍ، بَلْ هُوَ على نَصْرَانِيّتِهِ.
مَوْقِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ الْهَدَايَا:
وَقَبِلَ هَدِيّتَهُ، وَقَسّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَا
يَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ مُحَارِبٍ، وَإِنّمَا قَبِلَ هَذِهِ لِأَنّهَا
فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ قَسّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَتَتْهُ
فِي بَيْتِهِ كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً، كَمَا كَانَتْ هَدِيّةُ
الْمُقَوْقِسِ خَالِصَةً لَهُ، وَقَبِلَهَا مِنْ الْمُقَوْقِسِ؛ لِأَنّهُ
لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا لِلْإِسْلَامِ، بَلْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمَيْلَ
إلَى الدّخُولِ فِي الدّينِ.
وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ مُلَاعِبِ الْأَسِنّةِ، وَكَانَ
أَهْدَى إلَيْهِ فَرَسًا، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ:
إنّي قَدْ أَصَابَنِي وَجَعٌ أَحْسَبُهُ قَالَ: يُقَالُ لَهُ: الدّبَيْلَةُ
«1» ، فَابْعَثْ إلَيّ بِشَيْءٍ أَتَدَاوَى بِهِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعُكّةِ عَسَلٍ «2» ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ وَرَدّ عَلَيْهِ هَدِيّتَهُ، وَقَالَ:
إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ
يَنْسُبُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَامِرِ بن الطّفيل عدوّ الله، وإنما هو
__________
(1) الدبيلة: خراج ودمل كبير تظهر فى الجوف، فنقتل صاحبها غالبا.
(2) العكة من السمن أو العسل هى وعاء من جلود مستدير يختص بهما. وهو بالسمن
أخص.
(7/364)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَمّهُ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ زَبْدِ
«1» الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ هَدِيّتِهِمْ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ
إنّمَا كَرِهَ مُلَايَنَتَهُمْ وَمُدَاهَنَتَهُمْ، إذَا كَانُوا حَرْبًا،
لِأَنّ الزّبْدَ مُشْتَقّ مِنْ الزّبْدِ، كَمَا أَنّ الْمُدَاهَنَةَ
مُشْتَقّةٌ مِنْ الدّهْنِ، فَعَادَ الْمَعْنَى إلَى مَعْنَى اللّينِ
وَالْمُلَايَنَةِ، وَوُجُودِ الْجِدّ فِي حَرْبِهِمْ وَالْمُخَاشَنَةِ.
وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ عياض بن حمّاد الْمُجَاشِعِيّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ،
وَفِيهَا قَالَ: إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَهْدَى إلَى
أَبِي سُفْيَانَ عَجْوَةً وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا فَأَهْدَاهُ أَبُو
سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ الْأَدَمَ، وَذَلِك فِي زَمَنِ
الْهُدْنَةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ هِرَقْلَ وَضَعَ كِتَابُ رَسُولِ
اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ فِي قَصَبَةٍ
مِنْ ذَهَبٍ تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوراثونه كارا عَنْ كَابِرٍ فِي
أَرْفَعِ صِوَانٍ، وَأَعَزّ مَكَانٍ حَتّى كَانَ عِنْدَ «إذفونش» «2»
الّذِي تَغَلّبَ عَلَى طُلَيْطِلَةَ، وَمَا أَخَذَ أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ، ثُمّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ بِنْتِهِ الْمَعْرُوفِ
«بِالسّلِيطِينَ» حَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنّهُ حَدّثَهُ مَنْ
سَأَلَهُ رُؤْيَتَهُ مِنْ قُوّادِ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُعْرَفُ
بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: فَأَخْرَجَهُ إلَيّ
فَاسْتَعْبَرْته وَأَرَدْت تَقْبِيلَهُ، وَأَخْذَهُ بِيَدِي، فَمَنَعَنِي
مِنْ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُ وَضَنّا بِهِ عَلَيّ. وَيُقَالُ: هِرَقْلُ
وَهِرْقِلُ.
حَوْلَ قِصّةِ الْبَكّائِينَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ البكّائين، وذكر فيهم عتبة بن زيد، وفى رواية يونس
__________
(1) زبد: عطاه.
(2) يقصد: الفونس بن فرديناند الذى استولى على طليطلة سنة 1085 م.
(7/365)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّ عُلْبَةَ خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى مَا شَاءَ اللهُ، ثُمّ بَكَى،
وَقَالَ: «اللهُمّ إنّك قَدْ أَمَرْت بِالْجِهَادِ، وَرَغّبْت فِيهِ، ثُمّ
لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي، مَا أَتَقَوّى بِهِ مَعَ رَسُولِك وَلَمْ تَجْعَلْ
فِي يَدِ رَسُولِك مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنّي أَتَصَدّقُ عَلَى
كُلّ مُسْلِمٍ بِكُلّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ
أَوْ عِرْضٍ» ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ النّاسِ، وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ؟ لَمْ
يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمّ قَالَ أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ
فَلْيَقُمْ، وَلَا يَتَزَاهَدُ مَا صَنَعَ هَذِهِ اللّيْلَةَ، فَقَامَ
إلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
أبشر فو الذى نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبَ فِي الزّكَاةِ
الْمُتَقَبّلَةِ. وَأَمّا سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ
الْمُغَفّلِ، فَرَآهُمَا يَامِينُ بْنُ كَعْبٍ يَبْكِيَانِ، فَزَوّدَهُمَا،
وَحَمَلَهُمَا، فَلَحِقَا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَعْنَى كَلِمَةِ حَسّ:
فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ خَبَرًا عَنْ أَبِي رُهْمٍ: أَصَابَتْ رِجْلِي رِجْلَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ
«1» فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ: حَسّ. الْغَرْزُ لِلرّحْلِ
كَالرّكَابِ لِلسّرْجِ، وَحَسّ: كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ
وُجُودِ الْأَلَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ طَلْحَةَ لَمّا أُصِيبَتْ يَدُهُ
يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: حَسّ، فَقَالَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَوْ أَنّهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، يَعْنِي مَكَانَ حَسّ،
لَدَخَلَ الْجَنّةَ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ،
وَلَيْسَتْ حَسّ بِاسْمٍ وَلَا بِفِعْلٍ، إنّهَا لا موضع لها من
__________
(1) يخكى الكلام بمعناه لا بنصه.
(7/366)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِعْرَابِ، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ صَهْ، وَمَهْ، وَرُوَيْدٍ، لأن تلك
أسماء سمّى الفعل بهاء وَإِنّمَا حَسّ «1» صَوْتٌ كَالْأَنِينِ الّذِي
يُخْرِجُهُ الْمُتَأَلّمُ نحو آه، ونحو قول الغراب:
غاق، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي أُفّ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ
تَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَصْوَاتِ مَبْنِيّةً، كَأَنّهُ يحكى بها صوت
النّفخ، والثانى أن يكون معرفة مثل تبّا يراد بها الْوَسَخُ «2» .
وَقَوْلُهُ: السّودُ الثّطَاطُ «3» جَمْعُ: ثَطّ، وَهُوَ الّذِي لَا
لِحْيَةَ لَهُ. قَالَ الشّاعِرُ:
كَهَامَةِ الشّيْخِ الْيَمَانِيّ الثّطّ «4»
وَنَحْوٌ مِنْهُ: السّنَاطُ، وَمِنْ الْمُحَدّثِينَ مَنْ يَرْوِيهِ:
الشّطَاطُ، وَأَحْسَبُهُ تَصْحِيفًا.
وَقَوْلُهُ: شبكة شدخ «5» : موضع من بلاد غفار.
__________
(1) تقال بفتح الحاء وكسر السين وبدون تنوين، وتقول: ضرب فما قال حس ولابس
بالجر والتنوين، ومن العرب من يجر ولا ينون، ومنهم من يكسر حاء حس وباء بس.
(2) فيها عشرة أوجه أفّ له بفتح الفاء وتشديدها وبكسرها وبضمها كل هذا بدون
تنوين ثم بنصبها وكسرها وضمها مع التنوين، ثم أفى بإمالة الفاء المشددة إلى
الكسر، ثم أفى بوزن كبرى ثم أفة بتشديد الفاء، وأف بإسكان الفاء.
(3) فى السيرة: الحمر الطوال الثطاط أم السود فقال عنهم: الجعاد القصار
والثط أيضا: ثقيل البطن بطىء. أو القليل شعر الحاجبين.
(4) هو لأبى النجم الفضل بن قدامة بن عبيد الله العجلى، وفى اللسان: كهامة.
(5) فى الأصل: شرخ، والتصويب من معجم البكرى.
(7/367)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا.
وَذَكَرَ فِيهِمْ جَارِيَةَ بْنَ عَامِرٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِحِمَارِ
الدّارِ، وَهُوَ جَارِيَةُ ابن عَامِرِ بْنِ مُجَمّعِ بْنِ الْعَطّافِ.
وَذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَهُ مُجَمّعًا، وَكَانَ إذْ ذَاكَ غُلَامًا حَدَثًا
قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدّمُوهُ إمَامًا لَهُمْ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ
بِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فِي
أَيّامِهِ أَرَادَ عَزْلَهُ عَنْ الْإِمَامَةِ، وَقَالَ: أَلَيْسَ
بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضّرَارِ، فَأَقْسَمَ لَهُ مُجَمّعٌ أَنّهُ مَا عَلِمَ
شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا ظَنّ إلّا الْخَيْرَ، فَصَدّقَهُ عُمَرُ،
وَأَقَرّهُ، وَكَانَتْ مَسَاجِدُ الْمَدِينَةِ تِسْعَةً سِوَى مَسْجِدِ
رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلّهُمْ يُصَلّونَ
بِأَذَانِ بِلَالٍ، كَذَلِكَ قَالَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَشَجّ
فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، والدّارَقُطْنِيّ فِي
سُنَنِهِ، فَمِنْهَا مَسْجِدُ رَاتِجٍ «1» ، وَمَسْجِدُ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ، وَمَسْجِدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَمَسْجِدُ
جُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَمَسْجِدُ بَنِي سَلِمَةَ،
وَسَائِرُهَا مَذْكُورٌ فِي السّنَنِ، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي
الْمَسَاجِدِ الّتِي فِي الطّرِيقِ مَسْجِدًا بِذِي الْخِيفَةِ، كَذَا
وَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً، وَوَقَعَ
الْجِيفَةِ بِالْجِيمِ فِي كِتَابٍ قرئ على ابن أبى سراج، وابن الإفليلى
وأحمد ابن خالد.
__________
(1) فى معجم البكرى عن راتج: موضع تلقاء المدينة، كان ينزله بعض الأنصار،
وفى المراصد: أطم من اطام اليهود بالمدينة، وتسمى الناحية به.
(7/368)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ خُلّفُوا، وَنَهْيَ النّاسِ عَنْ
كَلَامِهِمْ، وَإِنّمَا اشْتَدّ غَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ
وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ مَا نَزَلَ حَتّى تَابَ اللهُ عَلَى
الثّلَاثَةِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ من فروض الكفاية، لامن فروض
الأعيان، لكنه فى حقّ الأنصار خاصّة كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ، وَعَلَيْهِ
بَايَعُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَاهُمْ
يَقُولُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ:
نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
ومن تَخَلّفَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ إنّمَا تَخَلّفَ، لِأَنّهُمْ خَرَجُوا
لِأَخْذِ عِيرٍ، وَلَمْ يَظُنّوا أَنْ سَيَكُونُ قِتَالٌ، فَكَذَلِكَ كَانَ
تَخَلّفُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
هَذِهِ الْغَزَاةِ كَبِيرَةً لِأَنّهَا كَالنّكْثِ لِبَيْعَتِهِمْ،
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطّالٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
وَلَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا غَيْرَ الّذِي قَالَ، وَأَمّا الثّلَاثَةُ
فَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ، وَاسْمُ أَبِي كَعْبٍ
عَمْرُو بْنُ الْقَيْنِ بن كعب ابن سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ ساردة ابن يَزِيدَ بْنِ
جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيّ السّلَمِيّ، يُكَنّى: أَبَا عَبْدِ
اللهِ، وَقِيلَ:
أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، [وَقِيلَ: أَبَا بَشِيرٍ] أُمّهُ: لَيْلَى بِنْتُ
زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَيْضًا، وَهِلَالُ بْنُ
أُمَيّةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،
وَيُقَالُ ابْنُ الرّبِيعِ الْعُمَرِيّ الأنصارى من بنى عمر بن عوف.
(7/369)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ كَعْبٍ: زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ، يُقَال: زَاحَ
وَانْزَاحَ:
إذَا ذهب، والمصدر زبوحا وَزَيَحَانًا، إحْدَاهُمَا عَنْ الْأَصْمَعِيّ،
وَالْأُخْرَى عَنْ الْكِسَائِيّ.
وَقَوْلُهُ: فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَنّئُنِي،
فَكَانَ كَعْبٌ يَرَاهَا لَهُ، فِيهِ: جَوَازُ السّرُورِ بِالْقِيَامِ إلَى
الرّجُلِ كَمَا سُرّ كَعْبٌ بِقِيَامِ طَلْحَةَ إلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ السّلَامُ فِي خَبَرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: قُومُوا إلَى
سَيّدِكُمْ، وَقَامَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْمٍ،
مِنْهُمْ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ، وَإِلَى عَدِيّ
بْنِ حَاتِمٍ، وَإِلَى زيد بن حارثة حين قدم عليه من مَكّةَ وَغَيْرِهِمْ،
وَلَيْسَ هَذَا بِمُعَارِضٍ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ قَالَ: «مَنْ سَرّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ
الرّجَالُ قِيَامًا فيتبوّأ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ» وَيُرْوَى:
يَسْتَجِمّ لَهُ الرّجَالُ «1» ؛ لِأَنّ هَذَا الْوَعِيدَ إنّمَا تَوَجّهَ
لِلْمُتَكَبّرِينَ، وَإِلَى مَنْ يَغْضَبُ، أَوْ يَسْخَطُ أَلّا يُقَامَ
لَهُ، وقد قال بعض السّلف: يقام إلى الولد بِرّا بِهِ، وَإِلَى الْوَلَدِ
سُرُورًا بِهِ، وَصَدَقَ هَذَا الْقَائِلُ، فَإِنّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا كَانَتْ تَقُومُ إلَى أَبِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرّا بِهِ، وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ
إلَيْهَا سُرُورًا بِهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَكَذَلِك كُلّ قِيَامٍ
أَثْمَرَهُ الْحُبّ فِي اللهِ، وَالسّرُورُ بِأَخِيك بِنِعْمَةِ اللهِ،
وَالْبِرّ بِمَنْ يُحِبّ بِرّهُ فِي اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإنه خارج
عن حديث الهى والله أعلم.
__________
(1) يجتمعون له فى القيام. والحديث كما قال السيوطى: رواه أحمد فى مسنده،
والترمذى وأبو داود.
(7/370)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسْلَامُ ثَقِيفٍ فِيهِ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ قُتِلَ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ
يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ، يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَذْكُورَ فِي
سُورَةِ يَاسِينَ، الّذِي قَالَ لِقَوْمِهِ (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)
فَقَتَلَهُ قَوْمُهُ، وَاسْمُهُ حَبِيبُ بْنُ مُرّي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يُرِيدَ صَاحِبَ إلْيَاسَ، وَهُوَ الْيَسَعُ، فَإِنّ إلْيَاسَ يُقَالُ فِي
اسْمِهِ: يَاسِينُ أَيْضًا، وَقَالَ الطّبَرِيّ: هُوَ إلْيَاسُ بْنُ
يَاسِينَ، وَفِيهِ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ الصّافّاتِ: 130 فَاَللهُ أَعْلَمُ: وَقَدْ بَيّنّا فِي
التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ مَعْنَى إلْيَاسَ وَإِلْيَاسِينَ وَآلِ
يَاسِينَ بَيَانًا شَافِيًا، وَأَوْضَحْنَا خَطَأَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ
إلْيَاسِينَ جَمْعٌ كَالْأَشْعَرِينَ، وَضَعْفَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنّ
يَاسِينَ هُوَ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيُنْظَرْ
هُنَالِكَ.
زَوْجُ عُرْوَةَ:
وَكَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، فَوَلَدَتْ
لَهُ أَبَا مُرّةَ بْنَ عُرْوَةَ، وَبِنْتُ أَبِي مُرّةَ هِيَ: لَيْلَى
امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَلَدَتْ
لِلْحُسَيْنِ عَلِيّا الْأَكْبَرَ قُتِلَ مَعَهُ بِالطّفّ «1» ، وَأَمّا
عَلِيّ الْأَصْغَرُ فَلَمْ يُقْتَلْ مَعَهُ، وَأُمّهُ:
أُمّ وَلَدٍ، وَاسْمُهَا سُلَافَةُ، وَهِيَ بِنْتُ كِسْرَى بْنِ
يَزْدَجِرْدَ، وَأُخْتُهَا الْغَزَالُ هِيَ أُمّ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام.
__________
(1) الطف: أرض من ضاحية الكوفة فى طرف البرية «المراصد» .
(7/371)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَوْلَ هَدْمِ اللّاتِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ إسلام ثقيف وهدم طَاغِيَتِهِمْ، وَهِيَ اللّاتُ، وَأَنّ
الْمُغِيرَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ هُمَا اللّذَانِ هَدَمَاهَا وَذَكَرَ
بَعْضَ مَنْ أَلّفَ فِي السّيَرِ أَنّ الْمُغِيرَةَ قَالَ لِأَبِي
سُفْيَانَ حِينَ هَدَمَهَا: أَلَا أُضْحِكُك مِنْ ثَقِيفٍ؟ فَقَالَ: بَلَى،
فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَضَرَبَ بِهِ اللّاتَ ضَرْبَةً، ثُمّ صَاحَ وَخَرّ
عَلَى وَجْهِهِ، فَارْتَجّتْ الطّائِفُ بِالصّيَاحِ سُرُورًا بِأَنّ
اللّاتَ قَدْ صَرَعَتْ الْمُغِيرَةَ، وَأَقْبَلُوا يَقُولُونَ:
كَيْفَ رَأَيْتهَا يَا مُغِيرَةُ دُونَكَهَا إنْ اسْتَطَعْت، أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنّهَا تُهْلِكُ مَنْ عَادَاهَا، وَيْحَكُمْ أَلَا تَرَوْنَ مَا
تَصْنَعُ؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ يَضْحَكُ مِنْهُمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا
خُبَثَاءُ وَاَللهِ مَا قَصَدْت إلّا الْهُزُأَ بِكُمْ، ثُمّ أَقْبَلَ
عَلَى هَدْمِهَا، حَتّى اسْتَأْصَلَهَا، وَأَقْبَلَتْ عَجَائِزُ ثَقِيفٍ
تَبْكِي حَوْلَهَا، وَتَقُولُ: أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ، إذْ كَرِهُوا
الْمِصَاعَ، أَيْ أَسْلَمَهَا اللّئَامُ حِينَ كرهوا القتال.
فقه حديث كتاب النبي لِثَقِيفٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كِتَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَقِيفٍ،
وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ، وَذَكَرَ فِيهِ
شَهَادَةَ عَلِيّ وَابْنَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، قَالَ:
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ شَهَادَةُ الصّبيان، وكتابة أسمائهم قبل البلوع،
وَإِنّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَدّوْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ،
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا شَهَادَةُ الِابْنِ مَعَ شَهَادَةِ أَبِيهِ
فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ: وَجّا، وَأَنّهُ حَرَامٌ عِضَاهُهُ وَشَجَرُهُ،
يَعْنِي حراما على
(7/372)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرِ أَهْلِهِ كَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ وَمَكّةَ. وَوَجّ هِيَ أَرْضُ
الطّائِفِ، وَهِيَ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ: إنّ آخِرَ وَطْأَةٍ
وَطِئَهَا الرّبّ بِوَج، وَمَعْنَاهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ: آخِرُ غَزْوَةٍ
وَوَقْعَةٍ كَانَتْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ بِوَجّ، لِأَنّهَا آخِرُ
غَزَوَاتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ
قِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا، مِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ،
وَنَحْنُ نَضْرِبُ عَنْ ذِكْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيهام التّشْبِيهِ،
وَاَللهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَجّ:
وَقَدْ قِيلَ فِي وَجّ هِيَ الطّائِفُ نَفْسُهَا، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ
لِوَادٍ بِهَا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ أُمَيّةَ بن الأسكر:
إذا يَبْكِي الْحَمَامُ بِبَطْنِ وَجّ ... عَلَى بَيْضَاتِهِ بَكَيَا
كِلَابَا «1»
وَقَالَ آخَرُ «2» .
أَتُهْدِي لِي الْوَعِيدَ بِبَطْنِ وَجّ ... كَأَنّي لَا أَرَاك وَلَا
تَرَانِي
وَقَدْ أَلْفَيْت فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ وَجًا بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ
وَالصّوَابُ تَشْدِيدُهَا كَمَا تَقَدّمَ وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أبى
الصّلت:
__________
(1) أول القصيدة:
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله إن رقب الكتابا
والبيت الذى فى الروض ثالث بيت فى القصيدة وروايته فى الأمالى:
إذا هتفت حمامة بطن واد ... على بيضاتها دعوا كلابا
وللشعر خبر طريف فى الأمالى ص 108 ذيل الأمالى ط. 2.
(2) نسبه البكرى فى معجمه للنابغة الذبيانى.
(7/373)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ وَجّا وَمَا يَلِي بَطْنَ وَجّ ... دَارُ قَوْمِي بِرَبْوَةٍ وَزُتُوقِ
«1»
وَسُمّيَتْ وَجّا فِيمَا ذَكَرُوا بِوَجّ بْنِ عَبْدِ الْحَيّ مِنْ
الْعَمَالِقَةِ «2» ، وَيُقَالُ:
وَجّ، وَأَجّ بِالْهَمْزَةِ، قَالَهُ يَعْقُوبُ فِي كِتَابِ الْإِبْدَالِ،
وَكِتَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الطّائِفِ
أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بِكَثِيرٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ
أَبُو عُبَيْدٍ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ.
إنْزَالُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ، فَذَكَرَ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ
لِلنّاسِ فِي حَجّهِمْ، وَتَلْبِيَتِهِمْ بِالشّرْكِ وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً
بِالْبَيْتِ، وَكَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَطُوفُوا كَمَا
وُلِدُوا بِغَيْرِ الثّيَابِ الّتِي أَذْنَبُوا فِيهَا، وَظَلَمُوا،
فَأَمْسَكَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْحَجّ فِي ذَلِكَ
الْعَامِ، وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِسُورَةِ
بَرَاءَةٌ لِيَنْبِذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
إلّا بَعْضَ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ إلَى أَجَلٍ خَاصّ،
ثُمّ أَرْدَفَ بِعَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ
لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ أُنْزِلَ فِيّ قُرْآنٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ
أَرَدْت أَنْ يُبَلّغَ عَنّي مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: فَأَمَرَنِي عَلِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ
__________
(1) فى الأصل: ربوة ورثوق، والتصويب من معجم البكرى وفيه أيضا: بريدة بدلا
من بربوة.
(2) فى معجم البكرى.
(7/374)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَطُوفَ فِي الْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى بِبَرَاءَةٌ، فَكُنْت أَصِيحُ حَتّى
صَحِلَ حَلْقِي، فَقِيلَ لَهُ: بِمَ كُنْت تُنَادِي؟ فَقَالَ: بِأَرْبَعٍ:
أَلّا يَدْخُلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ، وَأَلّا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا
الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَلّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ «1» ، وَمَنْ
كَانَ له عهد، فله أحل أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمّ لَا عَهْدَ لَهُ، وَكَانَ
الْمُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوا النّدَاءَ بِبَرَاءَةٌ يَقُولُونَ لِعَلِيّ:
سَتَرَوْنَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، بِأَنّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ ابْنِ عَمّك إلّا الطّعْنُ وَالضّرْبُ، ثُمّ إنّ النّاسَ فِي
ذَلِكَ الْمُدّةِ رَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ حَتّى دَخَلُوا فِيهِ طَوْعًا
وَكَرْهًا، وَحَجّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
العام القابل، وحجّ
__________
(1) أصل الحديث فى البخارى ومسلم وأبى داود والنسائى. أما الإرداف بعلى
وقول أبى بكر: يا رسول الله نزل فى شىء؟ قال: لا الحديث فقد رواه أحمد
والطبرى. ويقول الطحاوى فى مشكل الآثار: «هذا مشكل، لأن الأخبار فى هذه
القصة تدل على أنه (صلى الله عليه وسلم) كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه
عليا، فأمره أن يؤذن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف
الأمر عنه فى ذلك إلى على، ثم أجاب بما حاصله: إن أبا بكر كان الأمير على
الناس فى تلك الحجة، وكان على هو المأمور بالتأذين بذلك، وكان عليا لم يطق
التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى معين، فأرسل أبو بكر أبا هريرة. وغيره
ليساعدوه «ص 90 ج 3 المواهب، وقد روى الطبرى عن محمد بن كعب أنه أمر أن
يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها: ولو كره المشركون، وقيل: باربعين ولقد قيل:
كيف يؤمر بالتأذين ببراءة، ثم يؤذن بمثل ما ذكره؟ وقد أجيب بأنه أمر أن
يؤذن ببراءة، ومن جملة ما اشتملت عليه ألا يحج بعد هذا العام مشرك من قوله
سبحانه: (إنما المشركون نجس) . الآية ويحتمل أن يكون قد أمر بأن يؤذن
ببراءة وبما ذكر. وللرابعة التى أذن بها وهى قوله: ومن كان بينه وبين رسول
الله عهد فعهده إلى مدته وردت فى رواية لأحمد والترمذى. وزاد الطبرى من
حديث على: ومن لم يكن له عهد أربعة أشهر.
(7/375)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمون، وقد عاد الذين كُلّهُ وَاحِدًا لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمّا النّدَاءُ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ بِأَنّهَا أَيّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ، وَفِي بَعْضِ الرّوَايَاتِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ «1» ،
فَإِنّ الّذِي أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ
هُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَأَوْسُ بْنُ الْحَدَثَانِ، وَفِي الصّحِيحِ
أَنّ زَيْدَ بْنَ مِرْبَعٍ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا: عَبْدُ اللهِ بْنُ
مِرْبَعٍ كَانَ مِمّنْ أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ، وَرُوِيَ مِثْلُ
ذَلِكَ عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ الْغِفَارِيّ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ
حُذَيْفَةَ كَانَ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ
أَيْضًا، وَبِلَالٍ، ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ،
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ أَنّهُ أَرَادَ ذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ مِنْ ذَلِكَ
الْعَامِ، وَأَنّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جَعَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
أَوّلُهَا يَوْمُ النّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قِيلَ: أَرَادَ حِينَ الْحَجّ، أَيْ أَيّامَ
الْمَوْسِمِ كُلّهَا، لِأَنّ نِدَاءَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
بِبَرَاءَةٌ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ.
مَا نَزَلَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَقُولُونَ إنّ آخِرَهَا
نَزَلَ قَبْلَ أَوّلِهَا، فَإِنّ أَوّلَ مَا نَزَلَ منها:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا ثُمّ نَزَلَ أَوّلُهَا فِي نَبْذِ كُلّ عَهْدٍ
إلى صاحبه كما تقدم.
__________
(1) البعال: مباشرة الرجل زوجته وملاعبتها.
(7/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) فِيهِ أَقْوَالٌ، قِيلَ
مَعْنَاهُ: شُبّانًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ:
أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَقِيلَ أَصْحَابَ شُغْلٍ وَغَيْرَ ذِي شُغْلٍ،
وَقِيلَ: رُكْبَانًا وَرَجّالَةً.
عَنْ الْأَجْدَعِ بْنِ مَالِكٍ:
وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ لِلْأَجْدَعِ بْنِ
مَالِكٍ وَالِدِ مسروق ابن الْأَجْدَعِ، وَقَدْ غَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ اسْمَ الْأَجْدَعِ، وَقَالَ: الْأَجْدَعُ:
اسْمُ شَيْطَانٍ، فَسَمّاهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ وَيُكَنّى مَسْرُوقٌ أَبَا
عَائِشَةَ.
وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ: يَصْطَادُك الْوَحَدَ، أَيْ: يَصْطَادُ بِك،
وَأَرَادَ بِالْوَحَدِ: الثّوْرَ الْوَحْشِيّ.
وَقَوْلُهُ: بِشَرِيجٍ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ، يُقَالُ: هُمَا
شَرِيجَانِ، أَيْ: مُخْتَلِفَانِ، وَقَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ بِأَبْيَاتٍ
فِي شِعْرِ الْأَجْدَعِ:
أَسَأَلْتنِي بِرَكَائِبِي وَرِحَالِهَا ... وَنَسِيت قَتْلَى فَوَارِسِ
الْأَرْبَاعِ «1»
وَذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ [الْقَالِي] فِي الْأَمَالِي، فَقَالَ: وسألتنى
«2» بالواو،
__________
(1) كانت امرأته من بنى الحارث فأصاب وقتل من بنى الحصيرة أربعة فقالت له
امرأته: أين الإبل والغنيمة؟ فقال البيت المذكور. وروايته فى السمط:
أسألتنى بنجائب. وفى السمط من القصيدة سبعة أبيات. راجع ص 109، 146 السمط.
(2) أنظر ص 23 ج 1 ط 2. وقد نبه على هذا الخطأ البكرى فى كتابه «التنبيه
على أوهام أبى على فى أماليه» ص 35 فقال «إنما هو أسألتنى بالهمزة لا
بالواو، وهو أول الشعر. بركائب منون لا بركائبى، لأنها إنما سألته عن إبل
القوم
(7/377)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ خَطّئُوهُ، وَقَالُوا: إنّمَا هُوَ أَسَأَلْتنِي. وَفَوَارِسُ
الْأَرْبَاعِ قَدْ سَمّاهُمْ أَبُو عَلِيّ فِي الْأَمَالِي «1» ، وَذَكَرَ
لَهُمْ خَبَرًا.
إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صاغِرُونَ وَقِيلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أيضا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُؤَدّيَهَا الذّمّيّ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُرْسِلَهَا مَعَ
غَيْرِهِ.
الثّانِي: أَنْ يُؤَدّيَهَا قَائِمًا، وَاَلّذِي يَأْخُذُهَا قَاعِدًا.
الثّالِثُ: أَنّ مَعْنَاهُ: عَنْ قَهْرٍ وَإِذْلَالٍ.
الرّابِعُ: أَنّ مَعْنَاهُ عَنْ يَدٍ مِنْكُمْ، أَيْ: إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ
بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْ
الْقَتْلِ، كُلّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ
الْمُفَسّرِينَ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ
الْمَعَانِي، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ
الْكِتَابِ يُصَدّقُونَ بِالْآخِرَةِ، فَمَعْنَاهُ فيما ذكر ابن سلّام
__________
وركائبهم، لا عن ركائب نفسه، ثم ساق من القصيدة خمسة أبيات. وفوارس الأرباع
هم أبناء الحصين ذى الغصة بن يزيد بن شداد الذى رأس بنى الحارث مائة سنة.
والأرباع أرض قتلتهم بها همدان
(1) من ولد الحصين كثير بن شهاب بن حصين ولاه معاوية الرى ودستبا، ومحمد بن
زهير بن الحارث بن منصور بن قيس بن كثير» ص 25 تنبيه البكرى «حاشية» .
(7/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَقُولُونَ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ
وَيَقُولُونَ إنّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الّتِي تُبْعَثُ دُونَ الأجساد «1» .
من المعذربن:
وَذَكَرَ فِي الْمُعَذّرِينَ: خُفَافَ بْنَ إيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ،
وَيُقَالُ فِيهِ: رُحْضَةُ بِالضّمّ ابْنُ خَرِبَةَ «2» ، وَكَانَ لَهُ
وَلِأَبِيهِ إيمَاءَ، وَلِجَدّهِ رَحْضَةَ صُحْبَةٌ. مَاتَ خُفَافٌ فِي
خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَانَ إمَامًا
لِبَنِي غِفَارٍ.
وذكر أبا عُقَيْلٍ صَاحِبَ الصّاعِ «3» الّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ،
وَاسْمُهُ جَثْجَاثٌ «4» وَقَدْ قِيلَ فِي صَاحِبِ الصّاعِ أَنّهُ رفاعة بن
سهل «5» .
__________
(1) بل لها معنى أوسع من ذلك، ففهمهم للآخرة عندهم لا يعطيهم صفة الإيمان
بها، لأنهم يرون يسوع هو مالك يوم الدين، بل ويرون مع هذا فى أعماق جهنم،
ويرون القديسين لهم شفعاء، ويرون أن الجنة لهم وحدهم. الخ.
(2) قال فى الإصابة فى ترجمة رحضة والد إيماء وجد خفاف: بفتح أوله وثانيه
ثم ضاد معجمة ابن خزيمة الغفارى، وفى ترجمة خفاف قال: ابن رحضة بفتح الراء
المهملة ثم معجمة. وفى ترجمة إيماء قال: ابن رحضة بن خزمة (حربه) بن خفاف
بن حارثة. وقال الحافظ: لا أعرف لأبى عمر مستندا فى إثياب صحبة رحضة.
(3) عن أبى مسعود: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل،
متصدق بشىء كثير فقالوا: مرائى، وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغنى
عن صدقة هذا فنزلت (الذين يلمزون المطوعين) الآية رواه البخارى ومسلم.
(4) ضبط. حثحاث.
(5) فى بعض الروايات أن الذى تصدق بجهده وبصاع تمر هو أبو عقيل أخو-
(7/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَصِيدَةُ حَسّانَ الْمِيمِيّةُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كَلِمَةَ حَسّانَ الْمِيمِيّةَ «1» وَفِيهَا:
أَلَسْت خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا
وَحَسّانُ لَيْسَ مِنْ مَعَدّ، وَلَكِنْ أَرَادَ: أَلَسْت خَيْرَ النّاسِ،
فَأَقَامَ مَعَدّا لِكَثْرَتِهَا مَقَامَ النّاسِ.
وَفِيهَا:
وَنَادِ جِهَارًا وَلَا تَحْتَشِمْ «2»
وَفِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ الْحِشْمَةَ لَا تَكُونُ إلّا
بِمَعْنَى الْغَضَبِ وَأَنّهَا مِمّا يَضَعُهَا النّاسُ غَيْرَ
مَوْضِعِهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: لكل طاعم حشمة، فابدؤه
بِالْيَمِينِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: لَا يَرْفَعَنّ أَحَدُكُمْ
يَدَهُ عَنْ الطّعَامَ قَبْلَ أَكِيلِهِ، فَإِنّ ذَلِكَ مِمّا يَحْشِمُه،
وَأَنْشَدَ أَبُو الْفَرَجِ لِمُحَمّدِ بْنِ يَسِيرٍ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ
مِثْلُ حَسّانَ فِي الْحُجّةِ:
فِي انْقِبَاضٍ وَحِشْمَةٍ فَإِذَا ... جَالَسْت أَهْلَ الْوَفَاءِ
وَالْكَرَمِ
أَرْسَلْت نَفْسِي عَلَى سَجِيّتِهَا ... وَقُلْت ما شئت غير محتشم
__________
- بنى أنيف الإراشى حليف بنى عمرو بن عوف، ويقال عبد الرحمن بن عبد الله
ابن تعلية.
(1) هذا سهو من السهيلى، فهى فى قصيدته اللامية.
(2) هذا من قصيدته الميمية. وليست الشطرة هكذا وإنما هى:
«فناد نداء ولا تحتشم»
(7/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِيهَا قَوْلُهُ:
وَكَانُوا مُلُوكًا، وَلَمْ يَمْلِكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ
القَسَمْ «1»
فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ كَحِلّةِ
الْقَسَمِ، وخلافه لأبى عبيد، وقد قدمنا قوليهما فِيمَا تَقَدّمَ مِنْ
شَرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
إذَا عَصَفَتْ رِيحٌ فَلَيْسَ بِقَائِمٍ ... بِهَا وَتَدٌ إلّا تَحِلّةَ
مُقْسِمِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
قَلِيلًا كَتَحْلِيلِ الْأُلَى ثُمّ أَصْبَحَتْ
الْبَيْتَ.
وَقَوْلُهُ: وَعِزّا أَشَمْ، هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عِزّةٌ قَعْسَاءُ،
يُرِيدُ: شَمّاءُ، لِأَنّ الْأَقْعَسَ الّذِي يخرج صدره ويدخل ظهره، وقد
فسيره الْمُبَرّدُ غَيْرَ هَذَا التّفْسِيرِ، وَبَيْتُ حَسّانَ يَشْهَدُ
لِمَا قُلْنَاهُ، إنّمَا هُوَ الشّمَمُ الّذِي يُوصَفُ بِهِ ذُو الْعِزّةِ،
فَوُصِفَتْ الْعِزّةُ بِهِ مَجَازًا.
تَفْسِيرُ سُورَةِ النّصْرِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ سُورَةَ: إذَا جاء نصر الله. وتفسيره لها فى الظاهر خلاف
__________
(1) رواية البيت مختلفة عما فى السيرة.
(7/381)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ تَأْوِيلِهَا،
فَأَخْبَرَهُ أَنّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمَ فِيهَا نَبِيّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ
مِنْهَا إلّا مَا قُلْت. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى مَا
قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وَعُمَرُ؛ لِأَنّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ:
فَاشْكُرْ رَبّك، وَاحْمَدْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إنّمَا قَالَ:
فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّك وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنّهُ كَانَ تَوّابًا، فَهَذَا
أَمْرٌ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبّهِ
تَعَالَى وَالتّوْبَةِ إلَيْهِ، وَمَعْنَاهَا الرّجُوعُ عَمّا كَانَ
بِسَبِيلِهِ مِمّا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ إظْهَارِ الدّينِ، إذْ قَدْ فَرَغَ
مِنْ ذَلِكَ، وَتَمّ مُرَادُهُ فِيهِ، فَصَارَ جَوَابُ إذَا مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً مَحْذُوفًا. وَكَثِيرًا مَا
يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، وَالتّقْدِيرُ: إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، فَقَدْ انْقَضَى الْأَمْرُ، وَدَنَا الْأَجَلُ،
وَحَانَ اللّقَاءُ، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنّهُ
كَانَ تَوّابًا ووقع فى مسند البزّاز مُبَيّنًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ
فَقَالَ: فِيهِ:
فَقَدْ دَنَا أَجَلُك فَسَبّحْ، هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الّذِي فَهِمَهُ
ابْنُ عَبّاسٍ، وَهُوَ حَذْفُ جَوَابِ إذا، ولمّا يَتَنَبّهْ لِهَذِهِ
النّكْتَةِ حَسِبَ أَنّ جَوَابَ إذَا فى قوله سبحانه:
فسبّح، كَمَا تَقُولُ: إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَصُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
التّأْوِيلِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا قَبْلَهُ مَا فِي تَأْوِيلِ ابْنِ
عَبّاسٍ فَتَدَبّرْهُ، فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، وَحَسْبُك بِهِمَا فَهْمًا لِكِتَابِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،
فَالْفَاءُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَابِطَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ
الْمَحْذُوفِ، وَعَلَى مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشّرط
الذى فى إذا. |